إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله سبحانه وتعالى من قائلٍ في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ۩ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۩ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ۩ وَالَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ۩ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
هذه آياتٌ من سورة الطلاق القُصرى في مُقابِل سورة الطلاق الكُبرى وهى سورة البقرة وبقيت فضلةٌ من أحكام الطلاق في سورة الطلاق القُصرى، أما ما ذكر الله – تبارك وتعالى – في سورة الطلاق الكُبرى – أي البقرة – فهو كثيرٌ طيبٌ مُبارَك، تفصيلات فيها تدقيق أو نوع تدقيقٍ بادٍ لا يخفى على أحد، أما ما ورد في السُنة المُطهَّرة فهو أكثر من هذا أيضاً، وما أُثِرَ عن أصحاب رسول الله – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – كثيرٌ مُجدٍ كما يعلم أهل العلم طلّاباً ومُحقِّقين، فأن يُقال بعد ذلك “إن الأمة بقيت وظلت على مدى أربعة عشر قرناً لا تفهم الطلاق وتُطلِّق بطريقة خاطئة تُناقِض القرآن الكريم وتُخالِفه على طول الخط” قولٌ لا أدري بما يُمكِن أن يُوصَف به، ويتساءل أحد المُذيعين في برنامجه مع المُهندِس الذي كان لنا معه جولة وصولة في الجمعة السابقة وهو المُهندِس الفاضل عدنان الرفاعي الشامي – أي من بلاد الشام – فعلاً أفتونا في أمرنا فهل ظلت الأمة تُطلِّق خطأً على مدى أربعة عشر قرناً؟!
وأستطيع أن أتلَّمح جانباً يُمكِن أن يكون سناداً ودعماً للملاحدة المُشكِّكين في الدين من أسه وأصله وهو أن يُقال لو كان هذا الدين حقاً وكان هذا الشرع صدقاً فأين الرب وأين عنايته وأين فضله وأين اهتمامه بهؤلاء المُكلَّفين المساكين الذين تركهم لا يفهمون ولا يفقهون كيف يُطلِّقون أزواجهم إلى أن بعث الله المُهندِس عدنان الرفاعي فأتى ليُعلِّمهم الطلاق كما أراده الله لا كما فهمه أبو بكر وعمر والأئمة الأربعة والمذاهب التسعة وكل علماء الأمة وهم بالألوف بل بالملايين؟!
علماً بأنني لا أدري كيف تأتّى له هذا؟!
قدَّمنا في الأسبوع الماضي إنموذجاً لاجتهاد هذا الرجل الفاضل في النظريات – أي في الأصول، في العقائد – وسأُقدِّم وأكتفي – إن شاء الله – اليوم بإنموذجاً لاجتهاده في العمليات، أي في الفروع ولن أُسلِف، فهذه المسألة من مسائل الفروع وهى الطلاق أو مسائل الطلاق، لأن هذا الرجل أتى بشيئ عجيب فقال” المسلمون كانوا ولا يزالون – لم يستثن لا الصحابة ولا المذاهب ولا العلماء لا الكبار ولا الصغار – يُطلِّقون بطريقة خاطئة تُناقِض القرآن الكريم وتُشاكِسه وتُخالِف روحه، طريقة لم تقع على البيان المُبين ولم تفهم القرآن في طبقته العالية من البيان”، وهو الذي فهم، فهم لم يفقهوا بلاغة القرآن ويُدخِلون أيديهم في جيوبهم – على حد تعبيره – ويُخرِجون أشياء يرمونها في القرآن، يفترون على القرآن هكذا، هكذا هم علماء الأمة وفطاحلة الأمة على اختلاف مذاهبهم سُنةً وشيعة وخوارج ومُعتزِلة فكلهم اتفقوا على هيكل الأحكام المُتعلِّقة بالطلاق، كل الأمة بحمد الله تبارك وتعالى.
هذا الرجل الفاضل الذي – كما قلنا – لا نُشكِّك في نيته ونُدرِك أن فيه فضلاً وفيه شيئٌ من الخير وحب الخير أرجو أن يسمع هذه الخُطب وأن يُدرِك أنه إنما أوتيَ من تقصيره – ولا أُحِب أن أصف بأكثر من أقول إنما أُوتيَ من تقصيره – فقصَّر في حق نفسه، وطبعاً انبنى على هذا أنه أجرم في حق الناس – في حق الأمة أجرم – لأنه ترك بعضهم في بلبال مُتحيِّرين، صاروا مُتحيِّرين كالمذيع المسكين هذا – علاء الأسواني – الذي تحيَّر وبدأ يُناشِد علماء الله ويدعو إلى مُؤتمَر للنظر في المسألة ومن هنا نادى قائلاً أفتونا في أمرنا فقد وقع الشك والريب في قلوبنا من أجل أقوال إنسان غير مُتخصِّص لا يعرف شيئاً طائلاً له أهمية في البلاغة ولا في النحو ولا في الصرف لا تداولياً ولا دلالياً كما يُقال، وأدعو هذا المُهندِس الفاضل بكل تواضع وأخوة – وهو سميي – أن يقرأ علم أصول الفقه على الأقل قراءة مُتأنية حاذقة ستسغرق منه سنين بلا شك لكي يحذقه على وجهه وسوف يُدرِك ما أدرك الإنجليز – ما أدرك البريطان – في مطلع هذه الألفية حين تقدَّم إليهم أستاذٌ فاضل من أصل ليبي وهو الدكتور الليبي محمد يونس برسالته للدكتوراة في موضوع الخطاب الإسلامي – علماً بأن Pragmatics تعني التداوليات، فهناك الدلاليات وهناك التداوليات ، Semantics and Pragmatics، والـ Semantics هو البحث في الألفاظ ودلالتها من حيث هى، أما التداولية أو ما سماه بالخطاب أو ما سُميَ بعلم الخطاب فهو البحث في الدلالات بحسب المُستعمِلين وأعرافهم ومُنطلَقاتهم ومقاصدهم – حيث أثبت هذا الرجل أن علماء أصول الفقه من الأحناف والحنابلة والشافعية والمالكية قد سبقوا التداولية الحديثة، سبقوا رؤوس العلماء الذين تكلَّموا في علم التداولية – Pragmatics – بمراحل وخطواتٍ فسيحة جداً، فاستحقت رسالته المكانة الأولى كرسالة دكتوراة في هذه الحقول أو في هذا الحقل من العلوم في تلكم السنة على مُستوى المملكة المُتحدة، كما أدعوه إلى أن يقرأ محمد يونس حتى يعلم ماذا قدَّم المسلمون والطريقة المتينة القوية المُعجِبة جداً التي وفَّق الله إليها علماء أصول الفقه عبر القرون في فهم النصوص والتعاطي مع النصوص ليعلم كيف يفهمون الكتاب والسُنة، وعلى كل حال لا أُحِب أن أُطوِّل لأن للأسف الشديد الوقت فعلاً أقصر من القصير، فالمُهندِس الرفاعي – حفظه الله – قال: قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۩- والآن سنرى كيف فسَّرها كل العلماء وكيف فسَّرها هو – ومن هنا العلماء فسَّروا ” فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩” أي في عدتهن، وهذا الكلام مُتناقِض ولا معنى له لأن العدة لا تكون إلا بعد أن نُوقِع الطلاق، فبعد أن نتلفَّظ بالطلاق تبدأ العدة ، فكيف لي أن أُطلِّقها في العدة؟!
ثم استتلى قائلاً ” أما أنا فأقول آخذاً بظاهر الآية – فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩ – أنه لابد من أن تمضي هذه العدة حسبما حدَّها القرآنُ في صنوف النساء المُختلِفات سواءٌ أكانت هذه العدة بالأقراء أم بالأشهر أم بوضع الحمل، ولا يجوز له أن يُراجِعها في العدة، فهذا مُحرَّم بنص كتاب الله – وطبعاً لا يُوجَد نص إطلاقاً، فهذا خلافاً لكل الأمة، لإجماع الامة، لإجماع المذاهب كلها – وتُمنَع المُعاشَرة الزوجية في العدة منعاً باتاً حتى يتأدَّب وحتى يقل الطلاق، وبعد أن تنقضي العدة مُباشَرةً بعد ذلك له أن يُراجِعها وله أن يُفارِقها”، ولما سُئل عن هذا أفاد بأن ذلك يتوقَّف على رضاها هى أيضاً فهذا ليس حقاً للرجال قائلاً ” إلا في حالة واحدة يكون هو أحق بها من نفسها وهى حالة إذا ما كانت حاملاً – قال هكذا بالحرف، بالنص والفص – حتى وإن انتهت العدة، أي الأقراء، الحيض أو الأطهار “، كأن للحامل عدتين، عدة بالأقراء وعدة بالحمل وهذا ما لم يقله أحد، فهذا شيئ عجيب وشيئ لا يخطر على بال بشر، وطبعاً على كل حال ستنتصب وتثور أمامه آلاف – ألوف – المسائل الفقهية لا يجد عنها جواباً، ومُستحيل أن يجد عنها جواباً طبعاً، وعلى كل حال أيضاً الموضوع يحتاج إلى مُحاضَرة مُطوَّلة.
المُهندِي الرفاعي قال”هذه الحامل إذا ظهر حملها فهو أحق بها لقوله – تبارك وتعالى – في البقرة وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ۩، فأنا أفهم أن ” أَحَقُّ ۩” أفعل التفضيل – أي إسم تفضيل هذا – فإذن تعارض حقان: حقه في ردها وحقها هى”، ولكن السؤال هو حقها في ماذا؟!
لم يقل في ردها – في رد نفسها – طبعاً لأنه الكلام سيُصبِح مُتناقِضاً، ولكنه قُدِّمَ حقه على حقها لمكان الحمل – تعبيري هذا وتعبير فصيح، أي لمكان أو لموقع الحمل – فلذلك له أن يردها وأن يُعاشِرها مُعاشَرة الأزواج، ولكن بعد أن تضع حملها – قال – لها الخيار فالأمر في يدها، علماً بأنه زوجها إلى الآن وعاشرها مُعاشَرة الأزواج، وحين وضعت الحمل – يعني أتى الولد – عظمت المُصيبة الآن، والمفروض أن يُرجِّح بقاء الحياة ولكنه قال “لأ، الأمر الآن بيدها” ولم يُفدنا على أي وجهٍ يكون لها الأمر وكيف يقع الانفصال، أهو طلاق؟!
هل تُطلِّق هى نفسها وإن كان زوجها لا يُريد هذا، أم هو فسخٌ، أم هو تفريقٌ بحكم القضاء؟!
لا ندري، فهو لم يُفدنا، لم يبحث هذه المسائل لا في كتابه ولا في برنامجه مع علاء الأسواني، ونعود الآن إلى ما قاله في آية “فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩”، حيث قال “أول شيئ هو أن العلماء أخطأوا خطأً عظيماً ولم يُدرِكوا بلاغة القرآن حين فسَّروا قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء – بمعنى إذا أردتم أن تُطلِّقوا –
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩، فالله لم يقل إذا أردتم، ولكن العلماء وضعوا أيديهم في جيوبهم وأخرجوا كلمة أردتم ووضعوها في القرآن، فالله يقول طَلَّقْتُمُ ۩ وهم يقولون إذا أردتم أن تُطلِّقوا”، كأنه يُحِب أن يقول “هذا ما لم يقله الله، هذا كذب على القرآن، غلط على الله تبارك وتعالى” وإن لم يقل الرجل الفاضل هذا، ولكنه قال” هذاغير صحيح، فالله قال إِذَا طَلَّقْتُمُ ۩ أي أنه لابد من أن يقع الطلاق”، وإلى آخر ما قال، وهذا الكلام نحن الآن – حتى العوام – نعلم أنه غالط، وطبعاً هذا في الكلام فصيح كثيرٌ جداً جداً جداً، ولنبدأ بكتاب الله حتى لا نُهدِر الوقت، قال الله – تبارك وتعالى – فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩، فإذن قولوا لي على طريقة المُهندِس عدنان الرفاعي لابد أن تقرأ في الأول دون أن تستعيذ، فإذا انتهيت من القراءة قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الله قال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ۩ مثلما قال المُهندِس الرفاعي أن إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ ۩ تعني أنه لابد من أن تُطلِّق ولا تقل لي إذا أردت أن تُطلِّق، ولكن الصحيح هو إذا أردت أن تقرأ فاستعذ، فهذا الذي فهمه كل علماء الإسلام عبر العصور وكل علماء اللغة، فلو قرأ أي كتاب في النحو لفهم هذا ولفهم ما ختم به العلّامة ابن هشام – رحمة الله عليه – المصري كتابه العظيم مُغني اللبيب عن فنون الأعاريب في الباب الثامن في القاعدة الخامسة قائلاً “الفعل يُؤتى به لمعانٍ – أي فعل من الأفعال مثل طلَّق، يُطلِّق، طلِّق -، فالمعنى الأول هو حصول الفعل حقاً، والمعنى الثاني هو وشوك ومُشارَفة وقوع الفعل، أما المعنى الثالث فهو إرادة الفعل”، فالعرب تُعبِّر بالفعل ولا تُريد أنه وقع حقاً كما فهم عدنان الرفاعي، إنما تُريد إرادة المُريد الشائي أن يُوقِع الفعل، أن يتلبَّس بالفعل، فابن هشام ختم مُغني اللبيب بهذه القاعدة،وينبغي طبعاً على كل طالب علم أن يكون قرأ المغني وأن يستظهر أكثر ما فيه، ولكن للأسف الشديد هذا ما لم يُدرِكه المُهندِس الرفاعي، والأمثلة على الإرداة – إرادة الفعل – كثيرة مثل فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ – أي إذا أردت أن تقرأ القرآن – فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ۩، وقال تعالى إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ ۩ وإلى آخر آية المائدة، إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ۩ تعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كما قال تعالى أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ۩ أي أردنا إهلاكها، حتماً قولاً واحداً، علماً بأنه يُحِب هذه الكلمة ” قولاً واحداً” ولكنني أُنبِّهه على المنبر وأقول له “ابتعد عن هذه الكلمة، لأن هذه الكلمة لا يُغرَم بها طالب علم فضلاً عن أن يكون مُحقِّقاً في العلوم”، فعندما تقول لي “قولاً واحداً” سأُثبِت لك أن المسألة فيها عشرة أقوال، والقول الواحد الذي جعلته واحداً هو أوهى الأقوال وأضعفها في مُعظم ما تقول من أحوال، ولكن هنا نحن نقول أن معنى آية أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ۩ قولاً واحداً هو أردنا إهلاكها، لأن لا يُمكِن أن يكون المعنى جاءها بأسنا بعد أن أهلكناها، هذا مُستحيل، وإلا إذن كيف هلكت؟!
هى هلكت بالبأس، إذن لابد أن يكون معنى أَهْلَكْنَاهَا ۩ أردنا إهلاكها، ولذلك فَجَاءهَا بَأْسُنَا ۩.
قال تعالى لمحمد – صلوات ربي وسلامه على النبي الأحمد وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم ۩، فمتى يحكمم بينهم؟!
هل يحكم بينهم بعد أن يكون حكم؟!
إذن ما معنى وَإِنْ حَكَمْتَ؟!
إن أردت أن تحكم فَاحْكُم بَيْنَهُم ۩
علماً بأن النماذج على هذا كثيرة جداً، فالقرآن الله طافحٌ مملوء من هذه النماذج، ونحن نقول “سم الله وكُل بيمينك وكُل مما يليك”، فما معنى هذا؟!
هل معنى هذا بعد أن تفرغ من الأكل كُل بيمينك وسم الله؟!
هذا غير معقول، ولكن المعنى الصحيح هو إذا أردت أن تأكل فسم الله.
يا أخي هذه لغة عربية، وهى لغة بسيطة جداً جداً جداً، فلا يُمكِن أن يخطر على بالك أن الأمة كلها جهلت وأنك علمت، وهذا ليس في مسألة تاريخية، تحقيق واقعة تاريخية، تحقيق سن إنسان، متى عاش، متى مات، متى تزوج، فهذه المسائل – نعم – يُمكِن أن تبقى ألفين سنة والأمة لا تعرف فيها الأرجح لأنها مسائل غير عملية، أما في المسائل العملية الوضع مُختلِف، حالات الطلاق في الأمة يومياً بالألوف، والفقهاء والعلماء والقضاة والمُفسِّرون وعلماء الحديث والشرّاح بمئات الألوف، هل كل هؤلاء جهلوا ما علمته يا سيدنا، يا أخانا الفاضل؟!
يا أخي نسأل الله لنا ولك مزيد الهداية والتوفيق، ولكن الأمر ليس هكذا، ما هكذا تُورَد يا سعد الإبل، هذا تقصير في فهم المباديء، في فهم الـ A B C، لابد أن تفهم A B C العربية في الأول.
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم ۩ إي إذا أردت أن تحكم، فهنا كما قال ابن هشام “يُراد إرادة الفعل وليس الفعل”، وهكذا يُوجَد أمثلة كثيرة، “إذا عملت فأحسن عملك” أي إذا أردت أن تعمل، فمُستحيل إذا عملت وفرغت من العمل أقول لك ” أحسن عملك ” لأنك ستقول لي لقد عملت وانتهيت، ومن ثم الأمثلة على هذا كثيرة مثل قولنا “إذا عملت فأحسن، إذا درست فاجتهد، إذا تكلَّمت فأحسن القول” وإلى آخره، فمعنى هذا أي إذا أردت العمل، إذا أردت الدراسة، إذا أردت الكلام، فالمُراد هنا الإرادة وليس الفعل، وهذا كثيرٌ جداً هذا في كتاب الله وفي كلام العرب.
والنُقطة الثانية هى أن العرب أيضاً – كما قال ابن هشام – يُطلِقون الفعل ويُريدون مُشارَفته، وهذا ما يُسمى “مجاز المُشارَفة”، ومن أمثلة مجاز المُشارَفة “إذا بلغت مكة فاغتسل”، فمن السُنة للحاج والمُعتمِر إذا شارف مكة – إذا بلغ مشارفها – أن يغتسل، فمُستحيل أن يكون بلغها حقاً لأنه حين إذن ينقضى أجل أو وقت الغسل، ولكن المقصود بإذا بلغت مكة أي إذا شارفت مكة.
قال الشمَّاخ “وقِيلَ المُنادِي أَصْبَحَ القوم أَدْلِجي”، فما معنى قول الشمَّاخ هذا؟!
أي شارف القوم على الدخول في الصباح ولم يُصبِحوا حقيقةً، علماً بأن أدْلج ومنه الدلج هو سيرُ الليل كلهـ وقال بعضهم “الدلج وأدْلج ومنه أدْلج وأدْلج القوم وأدْلجوا هو السير في أول الليل ، أما إذا كان السير من آخر الليل فالدلج هو الإدلاج وليس الدْلج” أياً ما كان لا بأس في ذلك لكن الإدْلاج والإدّلاج لا يكون إلا بالليل، أليس كذلك ؟!
فإذا أصبح القوم أي دخلوا في الصباح انتهى الأمران معاً، لا إدلاج ولا إدّلاج، فإذن معنى قول الشاعر الشمَّاخ وهو حُجة طبعاً وشعره يُستشهَد به في العربية كما يعلم مَن يعلم – وقِيلَ المُنادِي أَصْبَحَ القوم أَدْلِجي – أي إذا شارف القوم على الدخول في الصباح ولم يُصبِحوا حقيقةً، كما تقول لابنك أو بُنيتك “جاء الامتحان فاجتهد يا بُني”
والامتحان بقيَ عليه أسبوع أو أسبوعان، ولكنك تُريد شارف الامتحان، كما تقول لأحدهم دخل رمضان أو أتى رمضان فاجتهد يا أخي واترك ما أنت عليه، أي شارف رمضان على الدخول.
قال تعالى أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ ۩، معنى أَتَىٰ ۩ هنا أي شارف، قريبٌ جداً جداً جداً، ولذلك قال فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ ۩ وهذا معروفٌ جداً، فهذا هو مجاز المُشارَفة، ولذلك معنى قول الحق – سبحانه وتعالى – إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء ۩ قولاً واحداً – وهو ما أجمعت عليه الأمة – إذا أردتم تطليق النساء وليس إذا طلقتم بالفعل – أي Actually -، وإنما إذا أردتم تطليق النساء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩، ولكن المُهندِس الفاضل عدنان الرفاعي قال “لا، إذا طلَّقتم حقاً” وجهل هذه القاعدة المعمول بها علماً بأن شواهدها أكثر من أن تُحصى وأشهر من أن تُذكَر، وقال “فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ۩ أي بعد أن تنقضي العدة، فإما أن تُمسكِوا وإما أن تُفارِقوا، ويحرم عليكم أن تُعاشِروهن مُعاشَرة الأزواج في فترة العدة خارقاً الإجماع مرةً أخرى”، ولكن هذا من أين؟!
قال “أنا أُفسِّر قوله – تبارك وتعالى – وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ۩ بمعنى أنهن يمتنعن بأمر الله وعن أمر الله – عز من آمرٍ – عن المُعاشَرة الجسمية”، ولكنني أقول له: إن صح لك هذا – وهو لا يصح لا لغةً ولا معنىً، لا باللفظ ولا بتوجيه اللفظ في سياقه – فبالله ربك قل لي كيف يصحُ لك مثله أو نظيره في قوله – عز من قائل – وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ ۩ ؟!
فهل المعنى هو أن يمتنعن عن المُعاشَرة الجسمية من الأموات – أي من زوجها الميت – ومن ثم ممنوع أن تُعاشِر زوجها الميت أربعة أشهر وعشرة، فهل يصح هذا ؟!
لم يبق إلا أن نُصادِق على قول جماهير الأمة سُنةً وشيعة وإباضية ومُعتزِلة وخوارج وغيرهم وهو أن يَتَرَبَّصْنَ ۩ تعني ينتظرن، إنها فترة العدة، يحد الله حداً للعدة، فلا تقل لي “معنى يَتَرَبَّصْنَ ۩ بمعنى يمتنعن عن المُعاشَرة الجنسية”، وإلا كيف تمتنع المُتوفى عنها عن مُعاشَرة زوجها المُتوفى؟!
وطبعاً لا تقولوا “المُتوفي” فالمُتوفي هو الله، وإنما قولوا “المُتوفى”، أبو الأسود الدؤلي كان يمشي مرةً في جنازة فأتاه أحد المُغفَّلين فقال له: يا أبا الأسود مَن المُتوفي؟!
قال “الله تبارك وتعالى”، فصُدِم الرجل، ولكن أبو الأسود علَّمه أن يطرح سؤالاً صحيحاً، ومن هنا لا تقل لي ” مَن المُتوفي؟! ” فالمُتوفي هو الله – اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ ۩ – وإنما قل “مَن المُتوفى؟!” فلا يسوغ هذا.
نعود أيضاً مرة أخرى إلى ما قاله المُهندِس الرفاعي في قول الله وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ۩ حيث علَّق قائلاً” هنا تعارض حقان لأنه قال أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ۩، فالحق الأول هو حقه في ردها، والحق الثاني هو حقها هى في نفسها، في ملك نفسها، أن تتحرَّرمن وثيقةِ وعهدِ وعقدِ الزوجية، لأن الله يقول أَحَقُّ فهذا أفعل تفضيل وهذا واضح تماماً”، ولكنني أقول له “أخطأت كرة أخرى يا
يا أيها المُهندِس الفاضل. وفَّقك الله”، لماذا؟!
لأن هناك باباً مشهوراً جداً جداً جداً في العربية في النحو وهو باب سلب التفضيل أو المُفاضَلة عن أفعل التفضيل، فهناك أفعل تفضيل مسلوب المُفاضَلة، عارِ عن المُفاضَلة وهو كثيرٌ جداً، قال الله – تبارك وتعالى – على لسان الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام وعلى آبائه أجمعين قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۩ فلو أخذت أنت هنا بأن أحب أفعل تفضيل على بابه وأنه للتفضيل فسيكون معنى هذا – والعياذ بالله – أن يوسف يُحِب الفاحشة ولكن السجن أحب إليه، فهذا محبوب وهذا أحب، ولكن لا يقول بهذا مَن ذاق من العربيةِ شيئاً، وإنما أَحَبُّ إِلَيَّ ۩ هنا – بمعنى أن السجن محبوبٌ إلىّ لا الفاحشة، فالفاحشة بغيضة مكروهة، ولذلكحين نقول “أكرمت القوم أصغرهم وأكبرهم” فالمعنى عند كل علماء العربية والنحو أي صغيرهم وكبيرهم، فلا يُوجَد حقيقة للمُفاضَلة هنا، وإلا مَن أصغر من مَن؟!
فليس هذا المقصود، وإنما المقصود بـ “أكرمت القوم أصغرهم وأكبرهم” أي صغيرهم وكبيرهم.
وأيضاً العرب تقول “العسل أحلى من الخل”، وهل الخل حلو؟!
الخل يضرب به المثل في المرارة والحموضة، إذن فما معنى قول العرب “العسل أحلى من الخل”؟!
قال الله – تبارك وتعالى – حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ۩، فهل معنى ذلك أن المُتقين وفي رأسهم محمد النبي الأحمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – مكانهم شرير ولكن الكفّار مكانهم أشر؟!
وهل يقول بهذا مُؤمِن؟!
ما معنى شَرٌّ ۩؟!
ولكن سيقول لي أحدهم “هذه شر وليست أشر”، لكن دائماً كلمة شرٌ وخيرٌ الأصل فيها – أصلها – أشرُ وأخير، ولكن لكثرة الدوران أي لكثرة الاستعمال والدوران على اللسان – وهذا فقه العربية – حذفوا الهمزة من كلايهما فقالوا شرٌ وخيرٌ، كقولهم فلانٌ شرٌ من فلان أي أشر من فلان .
في قوله – تبارك وتعالى – في القمر يُوجَد قراءةٌ تقول سَيَعْلَمُونَ غَدًا
مَنِ الْكَذَّابُ ۩ (الأشَر)، في قرائتنا نقول مَنِ الْكَذَّابُ ۩ (الأشِر) – أي بالكسر مثلما هى مرسومة في المُصحَف – ولكن هناك قراءة أُخرى وهى مَنِ الْكَذَّابُ ۩ (الأشَر).
“بلالٌ خيرٌ وابن الأخْيَر” أي ابن الخير، أبوه خير، علماً بأنه يجوز لك أن تقول الأخير، ففلان أخير من فلان وفلان أشر، فإن قلت هذا فأنت جارٍ على الأصل – هذا الأصل، الأصل أنها أخير وأشر – ولكن خيرٌ وشرٌ أخف على اللسان، فللتسهيل والخفة حذفوا الهمزة، إذن شَرٌّ مَّكَانًا ۩ أي أشر مَّكَانًا ۩، فلا يُمكِن أن نقول ” المُؤمِن مكانهم شر والرسول معهم – أستغفر الله العظيم، نعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – والكفّار مكانهم شر ولكنه أشر”، فهذا غير صحيح، وهذا اسمه المسلوب المُفاضَلة، فأفعل التفضيل هنا مسلوب المُفاضَلة، وكذلكم القول في قوله – تبارك وتعالى – وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ۩ فهذا مسلوب المُفاضَلة، فلم يتعارض هنا حقان على الصحيح الأرجح من أقوال السادة المُفسِّرين، وإنما المعنى هنا أن هذا الإسم يُراد به معنى اسم فاعل، أي بعولتهن حقيقون بردهن، فإذن أَحَقُّ ۩ هنا بمعنى حقيق، فليس المعنى على وجهه لأنه لم يتعارض حقان، ولكن إذا ذهبنا مع أخينا الفاضل المُهندِس الرفاعي وقلنا ” لا، بل تعارض حقان ” سنقول: فأين أنت من مقام قوله بِرَدِّهِنَّ ۩؟!
لأن المُتنازَع فيه هو الرد – فالذي وقع تنازع حقين فيه على فرض المُهندِس الرفاعي هو الرد – وهذا مفهوم في حق الرجل، فالرجل يُريد أن يرد زوجه إليه، ولكن هل هى ترد نفسها إلى نفسها؟!
هذا مُتناقِض وغير مُتصوَّر، ولذلك ما رجَّحه الفقهاء والمُفسِّرون – هو الصحيح – هو”بعولتهن حقيقون بردهن في ذلك “والإشارة بقوله فِي ذَلِكَ ۩ – أي ذا واللام للبُعد والكاف للخطاب – هى إلى مُدة الأقراء – يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ۩ – لأن الرجعة بإجماع الأمة على اختلاف مذاهبها وطوائفها إنما تكون في العدة، ولا تكون بعد العدة كما ذهب الأستاذ الفاضل عدنان الرفاعي، وإنما تكون في العدة لا بعدها، ومن هنا فِي ذَلِكَ ۩ تعني أي في مُدة التربص.
والآن سأُوضِّح أيضاً سلب المُفاضَلة وسلب التفضيل:
فحين يأتيك أحد ويقول لك ” فلان أخطأ في حقك وأجرم واحتقب كذا وكذا، فسألتك بالله اعف عنه وسامحه “، فأنت تقول” لبيك، أنا أولى بالمُسامَحة”، فأنت هنا أولى مِن مَن؟!
غير مذكور، فحتى مِن التفضيل غير مذكورة، ولكن المقصود هو أنني رجل خُلقي وشيمي المُسامَحة، فأنا حقيقٌ بهذا، أنا مُؤهَّل لهذا، ولا تُريد المُفاضَلة بمعنى أنني أولى من غيري لأنه لم يُخطيء إلا في حقك أنت، لم يُخطيء في حقك وفي حق رجل آخر فالآخر أبى إلا أن ينتقم وأنت تقول أما أنا فأنا أولى بالمُسامَحة من المُنتقِم، فهذا لم يحدث!
من الحُجج التي طوَّل المُهندِس الفاضل وأكَّد أهميتها جداً – وهى من أقوى ما أتى حتى أكون صادقاً والله يُحبِ الإنصاف، فإن في كل شيئٍ وفاءً وتطفيفاً – هى قوله – تبارك وتعالى – فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۩، حيث قال “مما يدل على أن ما يُسمى بفترة العدة – أي التربص – لابد أن تنقضي ويحرم فيها المُراجَعة كما ذهب كل طوائف الأمة أن الله لم يقل فإن بلغن أجلهن وإنما قال فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ۩
وطبعاً افتح مُزدوَجين لأُذكِّر مرة أخرى علمي بأن هذه الخُطبة إلى حدٍ ما تُوشِك ألا تكون خُطبة، فمكانها الحقيق بها أن تكون مُحاضَرة سبتية – يوم السبت – حقيقةً، فهى خُطبة علمية تتوسَّل النحو والقواعد والبلاغة والمُقارَنات وربما شيئ حتى من الآراء الفقهية، وهذا شيئ صعب في مقام جمعة ولكن أنا اضطُررت أنا أفعل هذا وأستمحيكم عذراً فقط لكي أُقيم إنموذجاً على مُناقَشة الأستاذ الفاضل في العمليات، في الفرعيات فقط، ولكي يكون في ذلكم مُستنَداً أو تكيئةً لمَن يُريد أن يُحاكِم هذه الاجتهادات وهذه الأقوال على سُنة علمائنا وفقهائنا وعلى هدي القواعد الثابتة المعمول بها المُقرَّرة والمُبرَّرة علمياً عبر أربعة عشر قرناً لكي يمتاز الخاثر من الزُباد وتأخذ الأشياء نصابها اللائق بها، فقط من أجل هذا.
قال المُهندِس الرفاعي “الله – تبارك وتعالى – لم يقل فإن بلغن أجلهن، فلو قال فإن بلغن أجلهن هذا سيكون شهادةً لرأي الجماهير، لرأي أمة محمد كلها في مُقابِل عدنان الرفاعي، سيكون شهادة لهم ولكن هم مغلوبون وظاهرٌ عليهم لصالح عدنان الرفاعي لأن الله قال فَإِذَا بَلَغْنَ ۩”، ومن المعلوم أن (إن) إنما يُؤتى بها مع المشكوك فيه ومع المُستحيل ومع غير المُتوقَع والمُستبعَد والمُرتاب فيه وسائر الافتراضات إلا أن يكون اليقين والمجزوم به، أما (إذا) فيُؤتى به مع المجزوم به والمُتيقن منه، فلا تقل “إن طلعت الشمس” إلا أن يكون اليوم يوم غيم فيصح لغةً أن تقول “إن طلعت الشمس” لأنها قد تطلع وقد لا تطلع مع الغيم – من وراء الغيم -، أما إن كان اليوم مُصحياً لم يسغ لك عربيةً قطُ – البتة – أن تقول “إن طلعت الشمس” وإنما تقول “إذا طلعت الشمس”لأنها تطلع وتطلع، فهذه سُنة وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۩، وقال أيضاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ۩، ولكنك تقول – مثلاً – “إن فهم فلان المسألة أعطيته كذا”، لأن فهمه واقع في حاق أو في حيز الشك، فقد يفهم وقد لا يفهم، فلا تقل “إذا فهم فلان المسألة” إلا إذا كنت مُتقيناً من أنه علّامة يفهم ويزيد ويمحو ويُثبِت ويعقد ويحل، فطبعاً هذا الشيئ بالنسبة إليه شيئٌ بسيط جداً ويسير وهين، وعلى ذكر هين، قال تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۩، هل أَهْوَنُ ۩ مسلوب المُفاضَلة أو غير مسلوب؟!
حتماً مسلوب المُفاضَلة، فلا يُمكِن لمُؤمِن يعتقد التوحيد أن يقول “الله – عز وجل – يتعاطى خلق أشياء وإحداث أشياء بعضها صعب عليه وبعضها سهل وبعضها أسهل وبعضها أصعب” وإلا يكفر، فكله على الله هين، ولكن قد يقول أحدهم لي “ولكن الله قال وَهُوَ أَهْوَنُ ۩”، أقول له ” هذامسلوب المُفاضَلة، عليك أن تعلَّم العربية، ابدأ من حيث انتهى الناس، لا تأتني وأنت لا تعرف شيئاً ثم تبدأ تنتقد وتُنقِّد على كتاب الله وسُنة رسوله وعلى الأمة وإجماعها وعلمائها”، ومثلما قال الله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۩ قال أيضاً رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ ۩ وهذا مسلوب المُفاضَلة أيضاً فلا يُوجَد فيه معنى المُفاضَلة، ولكن المقصود هنا معنى اسم الفاعل أي ربكم عالمٌ بكم، أما في أَهْوَنُ ۩ فالمقصود هو معنى الصفة المُشبَّهة، أي هيّنٌ، ولكن لماذا قال الله – تبارك وتعالى – فَإِذَا بَلَغْنَ ۩ ؟!
وللحق أنني لم أجد مُفسِّراً تعرض لهذه النُكتة على كثرة ما راجعت عشرات التفاسير كأنهم تحاموها لعدم ظهورها فالمعنى غير ظاهر، لماذا لم يقل الله “فإن بلغن” لأن فعلاً بعض هؤلاء الأزواج سيبلغن أجلهن وهن الأزواج اللائي لم يُرد أزواجهن المُطلِّقون لهن إرجاعهن في العدة، فهؤلاء حتماً سيلغن العدة، ولكن هناك أزواجٌ – يعني زوجات، نساء – لم يبلغن العدة لأن أزواجهن سيُراجِعونهن في العدة، فحق الآية أن يُقال فيها “فإن بلغن أجلهن”؟!
لأنه أمر مشكوك، فقد يبلغن وقد لا يبلغن، وهذا ما يحصل في الواقع، أليس كذلك؟!
فقال” ولكن الله يقول – وهذا من أذكى ما أتى به الرفاعي – فَإِذَا بَلَغْنَ ۩، فإذن قولاً واحداً لابد أن يبلغن كلهن”، ثم استتلى قائلاً “هذا يُؤيّد ما قلت، لا يُوجَد مُراجَعة أو رجعة في العدة، لابد أن تنقضي العدة، فالتطليق يكون بعد انقضاء العدة”.
لم أجد مَن تعانى البحث أو الكشف عن سر هذه المُخدَّرة – هذا المعنى المُخدَّر – هنا إلا الإمام البقاعي في نظم الدُرر ولكنه أتى بشيئ لا يُعوَّل عليه حيث قال “وأتى بكلمة التحقيق – يُريد إذا وليس إن – على تقدير الحياة، أي أنها لا تموت وتبقى حية وتبلغ أجلها”، وهذا فيه ما فيه، فالقول ضعيف جداً جداً جداً وليس فيه شيئ، لا يُفيد شيئاً، نوع من توجيه القضية منطقياً، فهذا نوع من توجيه القضايا، وهذا التوجيه هنا لا قيمة له إذا قُوبِل بمادة القضية، ولكن هذا تعقيد زائد في الخُطبة فسنعود لنقول:
وأما الذي فتح الله به إن كان حقاً – إن يكن حقاً فهو من الله وحده وله الفضل والامتنان لا إله إلا هو، وإن يكن خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله – هو أنني فهمت هذه المسألة وقد قضيت فيها بعض ليلة أمس وأنا أُفكِّر فيها فهى أرَّقتني جداً لأنني أُريد أن أعلم لماذا قال الله فَإِذَا بَلَغْنَ ۩ولم يقل فإن بلغن؟!
كيف نُجيب عن هذه الشُبهة فعلاً؟!
وانتهيت بفضل الله ومنّه – سبحانه وتعالى – إلى التالي:
كان حقيقاً بالمُهندِس الفاضل أن يتساءل أيضاً لماذا قال الله – تعالى – يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء ۩؟!
ولماذا قال أيضاً وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ۩ في الآية الحادية والثلاثين بعد المائتين والثانية والثلاثين بعد المائتين من سورة البقرة؟!
فلماذا لم يقل في كل أولائكم “إن طلقتم”؟!
لأنه ليس بالضرورة أن كل مُزوَّج – أي كل زوج – من المُؤمِنين – النبي فمَن دونه – أن يُطلِّق، حاشا لله وإلا كان ينبغي أن يُقال إذن “إن طلقتم النساء”، أليس كذلك؟!
انتبهوا فمن هنا كانت البداية بفضل الله – تبارك وتعالى – لأن أول الآية هو الذي أعطاني الجواب عن الآية الأخرى، فلماذا لم يقل الله “إن طلقتم” وقال “إِذَا طَلَّقْتُمُ ۩” ؟!
والجواب هو لأن هذا الخطاب لعموم الأمة، صحيح النبي هو الذي نُوديَ – يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ۩ – علماً بأن في البقرة المُنادى المُؤمِنون طبعاً وليس النبي، ولكن هنا خصَّه بالنداء وعمَّ الخطاب اعتباراً لترأسه وإظهاراً لحيثية تقدّمه من حيث كونه قدوةً لأمته، فهذا هو القول، ولكن المُراد على كل حال عموم الأمة، ولذلك قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ۩، ولم يقل “إذا طلقت”، فعمَّم الأمة بالخطاب مع أنه خصَّه بالنداء، ومن هنا قال إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ۩، اليوم ونحن مُخاطَبون بلغ عدد المُخاطَب زُهاء مليارين من البشر، فعلى كثرة الأمة بلا شك وإن كان مَن يُطلِّق قليلاً في كثرتها إلا أنه بالنظر إليه من حيث ذاته هو كثيرٌ بل وكثيرٌ جداً، ألوف من الناس يُطلِّقون، ألوف من الناس كل يوم وكل ساعة، أليس كذلك؟!
فهناك الكثيرون مِمَن يفعلون هذا، فحتماً يقع الطلاق في هذه الأمة، ولذلك ناسب أن يأتي بماذا؟!
بــ إِذَا ۩، لأنه حتماً واقع واقع، ليس من الكل آحاداً وإنما من البعض ولكنهم كثيرون بالنظر إليهم، فهذا كقوله – تبارك وتعالى – وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ۩، فليس بالضرورة أن يحضرها أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ۩ ولكن هذا يحصل كثيراً، ففي أكثر الأحوال أنهم يحضرون، فقال الله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ۩، وهناك أشياء كثيرة في كتاب الله تشهد لهذا المعنى، ولذلك قال إِذَا طَلَّقْتُمُ ۩.
وبعد ذلك لابد أن نتنبَّه إلى أن تطليق السلف، تطليق الصحابة ليس كتطليق المسلمين المُعاصِرين يستخفهم الحمق والخفة فتحملهم على التطليق لأدنى سبب ولأهون باعث ثم يندمون من قريب، فأكثرهم يُراجِع، بل ويُراجِع مُباشَرةً في يومه أو في غده قبل أن ينقضي حتى بعض العدة، أما الصحابة وهم رجال متينين كانوا يختلفون عنا كثيراً أبعد الاختلاف وأشده، فطلاقهم كالذي قال عنه ابن عباس “إنما الطلاق ما كان عن وتر”، وكما قال الله – تعالى – وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ۩، أي إذا أرادوا أن يُطلِّقوا خطَّطوا لذلك وعزموا ورسموا فهم يعرفون لماذا يُطلِّقون، ولذلك في مُعظم حالات التطليق ما الذي يحصل؟!
تبلغ المرأة أجلها، تنقضي عدتها دون أن يُراجِعها، لأنه ما طلَّق لكي يلعب وما طلَّق لكي يندم، ولكن الله أعطاه نُدحةً وفُسحةً زمنية ليُراجِع إن ندم، وهذا لا يحصل إلا في الأقل الأقل الأندر، ولذلك كان المُناسِب ألا يقول “فإن بلغن أجلهن” وإنما ناسب أن يقول ” فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ۩“.
أكتفي بهذا القدر وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(3/12/2010)
أضف تعليق