نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الرابعة عشرة
الطفرة والداروينية الجديدة Neo-Darwinism
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُكمِل معكم في هذه الحلقة الحديث عن جريجور مندل Gregor Mendel وعن قوانينه التي هى عبارة عن تكثيف وصياغة علمية دقيقة للمُلاحَظات المُهِمة التي خلص إليها بعد ألوف التجارب التي أجراها في ثمان سنوات.
وقفنا في الحلقة السابقة عند موضوع الصفات السائدة والُمتنحية وعند موضوع الأليل Allele وكيف أن كل صفة يُساهِم فيها أليلان – Two Alleles، أي شكلان من العوامل الوراثية – قد يتماثلان وقد لا يتماثلان كما شرحنا، وطبعاً توضيح هذه المسألة الآن بصيغة عصرية تكون واضحة لكل واحد منا ستكون كالتالي:
أنتم تعلمون الفرق بين الخلايا البدنية أو الخلايا الجسمانية أو الجسدية – Somatic – وبين الخلايا الجنسية، فالخلايا الجنسية مثل الحيوان المنوي في الرجل والبوييضة عند المرأة، فهذه هى الخلية الجنسية، وهى تُسمى الجاميتات أو الجاميطات عند بعض العرب Gamets، فهذه الـ Gamets أو الجاميتات هى الأمشاج، والأمشاج إما بوييضة وإما حيوان منوي، فهذا مشيج وهذا مشيج، والفرق بينهما أن الخلية البدنية تحتوي على الجينوم Genome الكامل وعلى الخُطة الوراثية الكاملة لك، فكل واحد فينا في كل خلية – لك أن تتخيَّل هذا في مئات مليارات الخلايا – يُوجَد ستة وأربعون صبغياً، والصبغي هو الكروموسوم Chromosome، علماً بأن كلمة صبغي ترجمة دقيقة ومن أحسن التراجم لكلمة كروموسوم Chromosome، وكلمة Chromatin تعني صبغ، فهذه مادة صبغية لأنه شره للصبغ، ى اثنين منهم بمثابة أزواج – Pairs – طبعاً، وكل زوجين – علماً بأن المقصود بالزوجين ر ترجمة البَهضَم، وعلى كل حال يُوجَد في كل خلية في الخلايا البدنية أو الجسدية جينوم Genome كامل، والجينوم البشري الكامل هو ستة وأربعون كروموسوم Chromosome، وهى في الأصل طبعاً ثمانية وأربعون لكننا نقول أنه ستةٌ وأربعون كروموسوم Chromosome، والمشيج – الحيوان المنوي أو الحيمن والبوييضة – فيه النصف، ومن هنا قد يقول أحدكم لماذا في المناسل – في المبايض وفي الخصي عند الرجال – يحدث تنصيف واختزال ميوسيس Meiosis؟ فالآن يُقال لك الانقسام – العرب يقولون الميوزي – الميوسيس Meiosis، والميوسيس Meiosis هو هذا الانقسام المُنصِّف أو الانقسام المُختزِل أو الاختزالي، وطبيعي أن يكون كذلك، فلو لم يكن كذلك – ولك أن تتخيَّل هذا – والحيوان المنوي فيه ستة وأربعون كروموسوم Chromosome – ثلاثة وعشرون زوجاً -والأم تُساهِم بثلاث وعشرين زوج فكم صوف يُصبِح في الزيجوت Zygote؟ هذا مُستحيل، فهكذا سوف تتكرَّر العملية ولن يكون لدينا إنسان في نهاية المطاف، وإنما سوف يُصبِح لدينا كائن آخر مُشوَه، وهذا شيئ فظيع، لأن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بهذا الجينوم Genome، أي بستة وأربعين كروموسوم Chromosome فقط وليس باثنين وتسعين، ولذلك لابد من – وهذا الذي يحدث – أن يحدث انقسام، علماً بأننا لن نشرح لكم الانقسام الميوزي Meiosis، لكن هو عنده مرحلتين، حيث تنقسم الخلية لاثنين واثنين ثم أربعة، لكن في نهاية المطاف هذا الانقسام الميوسي Meiosis أو الميوزي – إن شئتم – يُنصِّف جينوم Genome الخلايا، فلا يكون ستة وأربعين كروموسوم Chromosome وإنما سوف يكون ثلاثة وعشرين.
الجينوم Genome الكامل عندنا من ثلاثة وعشرين زوجاً أو ستة وأربعون كروموسوماً Chromosome، وكل اثنين منهم بمثابة أزواج – Pairs – طبعاً، وكل زوجين – علماً بأن المقصود بالزوجين ليس أربعة، فالزوجان زوجان، وكلمة زوج تعني واحداً، والزوج الثاني هو الثاني، فالمرأة زوج لك وأنت زوجها، وأنتما زوجان، فزوجان لا تعني أربعة وإنما تعني اثنين فقط – من الكروموسومات Chromosomes – Two Pairs – مُتماثِلان، وأنت تستطيع أن ترى في الكتب المدرسية – TextBox – أنهما فعلاً مُتشابِهان، وهنا الصفة وهناك الصفة، وعلى كل حال هذا الانقسام الميوسي Meiosis طبعاً لا يتم ببساطة في ثلاثة وعشرين هنا وفي ثلاثة وعشرين هناك وينتهي كل شيئ، هذا غير صحيح، لكن هذا طبعاً لم يلتفت مندل Mendel إليه،وإنما التفت إليه الألماني فايزمان Weismann، وسأشرح هذا في وقته، لكنه بذكاء شديد قال “هنا يحدث إعادة توليف وإعادة تركيب Recombination” وفعلاً هذا ثابت الآن بنسبة مائة في المائة، فلو افترضنا أن عندنا هنا كروموسوم Chromosome وهنا كروموسوم Chromosome آخر، هذان لا ينفصلان وينتهي الأمر، ولكن قبل أن ينفصلا يتبادلا أجزاء مُتساوية، فهذا يعطيه جزء وهذا يأخذ منه جزء، وهذا شيئ عجيب، لكن هذا يعمل إعادة خلط أوShuffling – شيئ مثل Shuffling أوراق اللعب كما تعرفون – للصفات، فهذا هو أول Recombination يحدث، وهذا جميل جداً ومُهِم، وهذا يُعطينا وفرة في التغايرات وفي الصفات طبعاً، وهذا جميل ومُهِم جداً للتكاثر وللتطور، لوجود أنواع وتنويع أكثر وغنى أكثر، وعلى كل حال يحدث عندنا هذا الانقسام الميوسي Meiosis فيُصبِح هذا الحيوان المنوي في نصف الجينوم Genome، إذن عنده أليل Allele واحد والأليل Allele الثاني في حيوان آخر، والأم نفس الشيئ، فخلاياها البدنية تُنصِّف في المبايض، وفي كل الـEgg cell عندك نصف الجينوم Genome، فهذه البوييضة بالذات فيها أليل Allele من الصفة الفلانية، وهذا الأليل Allele مُمكِن يتفق مع أليل Allele الزوج ومُمكِن لا يتفق كما رأينا ودخلنا في قصة السائد والمُتنحي، وأعتقد أنني بهذه الطريقة وضحت معنى الأليل Allele ومعنى إعادة توليف هذه الأشياء، ولكن مُهِم أيضاً أن نُدرِك كيف تتم.
حدس مندل Mendel بهذا بشكل عام، وعرف هذا حين تحدث عن أليلين – Two Alleles – أو عاملين لكل صفة يُشارِك كلٌ من الأبوين بأحدهما، وهذا كان تبصراً عميقاً جداً وفي مُنتهى التوفيق.
نبدأ الآن بالقانون الأول، وأعتقد الآن أنكم فهمتموه وبالتالي يبقى فقط الآن أن تعرفوا إسم هذا القانون، وهو قانون الانعزال أو الانفصال Segregation، فهذا إسمه مبدأ الانفصال، وهو قانون مندل Mendel الأول – Mendel’s First Law – في الوراثة، وهم يُسمونه بمبدأ الانعزال Principle Of Segregation ، ولكن ما معنى الانعزال؟ شرحته لكم للتو، فلدينا جينوم Genome كامل في كل خلية في المناسل في الرجل والمرأة، ثم يتم هناك انقسام تنصيفي أو انقسام اختزالي – ميوسيس Meiosis – بعد ذلك، فيبقى لدينا أليل Allele واحد من اثنين، ولك أن تتخيَّل هذا، فيدي فيها أليلان – Two Alleles – لكل صفة، وفي الخلية التناسلية أليل Allele واحد، والمرأة عندها أيضاً أليل Allele واحد في البوييضة وليس أليلين Two Alleles، فهذا إسمه الانعزال وكيف يتم الانعزال.
القانون الثاني – وأيضاً شرحناه – إسمه قانون التوزيع الحر للألائل Alleles -أي للأليلات Alleles – أو لهذه العوامل التوريثية أو الوراثية، وطبعاً بعض الكتب الجامعية تقول لك التوزيع الحر للصفات، ولا مُشكِلة في هذا لأنه للصفات أيضاً، ولأن هذه الصفات الذي يتحكم فيها هو العوامل الوراثية، فكل صفة يتحكم فيها أليلان Two Alleles، فسواء سميته قانون التوزيع الحر للعوامل الوراثية – التوزيع الحر للجينات Genes أو التوزيع الحر للألائل Alleles – أو التوزيع الحر للصفات سوف يكون الشيئ نفسه ولكن الاختلاف فقط في الصيغة، أما المعنى فلا يختلف، وهذا إسمه التوزيع الحر أو المُستقِل للصفات أو ألاليلات أو الجينات – كما تشاء وكما تُحِب – Independent Assortment Of Traits, Of Alleles , Of Genes، لكن ما هو قانون التوزيع الحر؟ شرحناه الآن، حيث قال لك أي صفة من الصفات حين يتم انعزالها – علماً بأننا شرحنا كيف يتم الانعزال في المناسل، أي انعزال هذه الصفة، فكل صفة لها أليلان Two Alleles ينعزلان – فإن هذا الانعزال يتم بشكل حر ومُستقِل عن انعزال ألائل Alleles أي صفة أخرى، فكل صفة يتم انعزال ألائلها Alleles وحدها، ولذلك يتم التوريث أيضاً بشكل مُستقِل، وهذا الكلام صحيح إلى حدٍ ما، فهو ليس صحيحاً بشكل مُطلَق، حيث سيأتي عالم الوراثة الأمريكي الكبير توماس هانت مورغان Thomas Hunt Morgan بعد تقريباً أكثر من ثلث قرن من مندل Mendel ليُعيد بحث هذه المسائل ويكتشف مبدأً جديداً هو مبدأ الارتباط Linkage، ويحوذ ويحظى على جائزة نوبل Nobel بسبب اكتشافه مبدأ الارتباط، فما هى قصة مبدأ الارتباط وما هو تفصيله؟ طبعاً اكتشفه في شيئ أشبه بملحمة علمية صغيرة وهو يُجري تجاربه على ذُبابة الفاكهة Fruit Fly التي تُعرَف بالدروسوفيلا Drosophila، فالصفة السائدة في ذُبابة الفاكهة – دروسوفيلا Drosophila – أن أعينها تكون دائماً حُمراً، فهذه الذبابات حمر الأعين، لكنه لاحظ مرة وجود ذُبابة بيضاء العين, وهذه قصة طويلة من الأحسن ألا نخوض فيها، لكن هذه الذبابة على كل حال كانت ذكراً طبعاً، فدائماً الذكر يحدث معه هذا، لكن بعد ذلك سيكتشف وجود صفات مُعينة تكون محمولة على صبغي الجنس، فنحن عندنا صبغي (X) وصبغي(Y)، هذه هى الصبغيات الجنسية، وهناك صفات مُعينة تُحمَل على الصبغيات الجنسية تُسمى الصفات المُرتبِطة بالجنس ولها قصة طويلة، وبسببها اكتشف مبدأ الارتباط، فأحياناً لا يتم هذا الانعزال بشكل مُستقِل، وإنما يتم بشكل مُترافِق وليس بشكل مُتحرِر أو مُستقِل، وعلى كل حال هذا هو مبدأ الارتباط وهو لا يُعنينا كثيراً الآن، لكن توماس هانت مورغان Thomas Hunt Morgan ساهم مُساهَمة جليلة في علم الوراثة إلى حد أن هذا العلم أو القوانين بشكل عام صارت تُعرَف ليس بقوانين مندل Mendel وحده وإنما
بقوانين مندل مورغان Mendel Morgan للوراثة، وسوف يكون مورغان Morgan أستاذاً لعالم تطوري كبير سيُساهِم في تأسيس وبسط ومد النُسخة المُعدَّلة من نظرية داروين Darwin للتطور والتي ستُعرَف بالتركيبية التطورية المُعاصِرة وهو ثيودوسيوس دوبجانسكي Theodosius Dobzhansky الروسي الأصل ، علماً بأن بالإنجليزية يُسمونه دوبزانسكي لكن الروس يقولون دوبجانسكي، فهكذا يُلفَظ إسمه، وعلى كل حال هذا ما أردنا أن نقوله بالنسبة لمورغان Morgan، فهذا القانون صحيح إلى حدٍ ما، ومن ثم ينبغي ألا تعتقدوا أن هذا القانون يُعَد صحيحاً بالمُطلَق، فهذ غير صحيح لأن عليه استثناءات طبعاً تتعلَّق بمبدأ الارتباط وإن كانت لا تعنينا الآن.
القانون الثالث تتعرض له بعض الكتب وبعضها لا تجعله قانوناً برأسه، وأيضاً شرحته لكم وغدا مفهوماً، وهو يتعلَّق بالسيادة والتنحي، أي الصفات السائدة والصفات المُتنحية، وأهم شيئ أن نُدرِك – كما قلت لكم – أن المُتنحي لا يظهر إلا إذا اجتمع أليلان – Two Alleles – مُتنحيان، وذلك بخلاف السائد، فالسائد إن اجتمع أليلان Two Alleles سائدان أو سائد وُمتنحي فإن السائد يظهر دائماً، وتقريباً هذه أهم الأشياء التي يُمكِن أن تمس حاجتنا إليها في شرح مُساهَمات مندل Mendel، ولما فرغ من عمله – كما قلت – في عام ألف وثمانمائة وخمس وستين صاغه في ورقة وطبع منه نُسخاً وأرسل – كما ذكرت في الحلقة السابقة – أربعين نُسخة منها إلى نُبهاء ونبلاء العلماء في القارة وفي المملكة المُتحِدة، وكانت ردة الفعل هى السكوت والصمت، فلم يُثِر علمه أي عجاجة ولا أي دوامة للأسف الشديد ومات مكانه، فالعلماء لم يكونوا مُهيأين لتقبل نظرية كهذه – كما شرحت لكم – تقضي على نظريات عمرها جاوز الألفين وأربعمائة سنة تقريباً، فكيف يُمكِن هذا؟ ومِن مَن؟ رجل راهب غير معروف أصلاً، فإسمه ليس معروفاً وهو رجل ليس مشهوراً ضمن المُؤسَسات العلمية، ولذلك للأسف الشديد تم تجاهل هذا الرجل، لكنه كان على علم بل على يقين بقيمة ما قدم وبقيمة مُساهَماته، وكان يقول “سيأتي يومي وسرعان ما يكتشف العالم قيمة ما قدَّمت”، فهو كان يعرف أن الناس الآن غير مُؤهلين وسوف يأتيهم يوم ويعرفون قيمة ما قدَّم في هذا العلم المجيد، وفعلاً هذا الذي حصل.
استبصر مندل Mendel أيضاً أو بصر بالفرق بين النمط الجيني والنمط المظهري، فهو فهم هذا وتكلَّم عنه ليس بشكل كامل تماماً مثلما فعل فايزمان Weismann ولكن بشكل مبدأي حسن، فكيف هذا إذن؟ أدرك أن المظهر – أي الطراز المظهري والمظهر الذي نحسه ونراه ونلمسه – والشيئ الخارجي ليس بالضرورة ترجمة كاملة للخُطة الوراثية المُخبَأة المُستكِنة في أعماق خلايا الكائن، وهذا صحيح مائة في المائة، وأعتقد أنكم الآن عرفتم لماذا هو صحيح، فالكائن الذي يحمل – مثلاً – جين Gene القصر أو الفرد الذي يحمل جين Gene القصر مُتنحياً على أنه – أي هذا الفرد – طويل واضح أن طوله ضمن نمطه المظهري أو ما يُسمى بالـ Phenotype ليس ترجمة نهائية وأمينة وتامة للنمط الجيني، لأن عنده إمكانية أن يكون قصيراً، لكنه رُحِمَ بأن جين Gene القصر مُتنحي بإزاء جين Gene الطول السائد، وأجيال أخرى ستُنسَل من هذا الفرد وسيأتي منها القصير ربما في يوم من الأيام، فمن المُمكِن جداً أن يظهر القصير، لأنه ليس طويلاً نقياً وليس طويلاً أصيلاً وإنما هو طويل هجين، فهذا هو الفرق بين النمط المظهر والنمط الجيني، وفي علم الوراثة علمونا – وهكذا يُعلَّم – أن تُعبِّر عن نمط المظهري بما تراه، فتقول النمط المظهري هو نبات – مثلاً – طويل الساق، فهذا هو النمط المظهري، أو تقول النمط المظهري هو أزهاره بيضاء – مثلاً – أو قرمزية، فهذا النمط المظهري، ولكن ماذا عن النمط الجيني؟ إذا أردت أن تذكره ينبغي أن تقول أن النمط الجيني مثلاً (TT) أي ( T Capital And T Capital) و(Tt) أي (T Capital And t Small)، فهذا هو، أي الخُطة المُستكِنة، وعلى كل حال مندل Mendel أيضاً فهم هذا وأشار إليه، وهذا كان أيضاً شيئاً في غاية الأهمية.
الآن سنتحدث عن موقف الاتحاد السوفيتي وموقف الشيوعيين من النظرية المندلية Mendelism، وقد يسأل بعضكم ما علاقة الشيوعية بالنظرية المندلية Mendelism؟ لها علاقة من جانبين، الجانب الأول يتعلَّق بالشيوعيين الذين تبنوا بحماس وإيمان كبير نظرية التطور لداروين Darwin، فالشيوعيون يُحِبون هذه النظرية تماماً، والنازيون أيضاً في ألمانيا – هتلر Hitler – تبنوا نظرية التطور، وطبعاً أساءوا فهمها وأساءوا توظيفها وزعموا أن النظرية تُعلِّم أن البقاء للأقوى، وهذا الكلام غير صحيح بالمرة، وهو كلام سخيف طبعاً، فالذين قالوا أنها تقول البقاء للأقوى كذبوا على النظرية، لم يقل هذا ولو لمرة واحدة داروين Darwin أو هربرت سبنسر Herbert Spencer حتى نفسه صاحب المُصطلَح البقاء للأصلح، فالمُصطلَح يقول البقاء للأصلح وليس للأقوى أبداً، وإلا الطبيعة والعالم فيه كائنات في مُنتهى الضعف والخفة الآن، فهل الفراش قوي كثيراً ما شاء الله؟ الفراش يعيش الآن من مئات ملايين السنين في حين أن الديناصورات Dinosaurs انقرضت، فالفراش يبقى والديناصورDinosaur يموت وبالتالي مَن قال لك البقاء للأقوى؟ داروين Darwin لم يقل هذا، وإنما قال البقاء للأصلح، أي للـ Fittest، والـ Fittest ليس هو الأقوى – Strongest – أبداً، وكذلك نفس الشيئ يحدث مع الذين يُعارِضون النظرية، فهم يكذبون عليها كما كذب عليها النازيون ويقولون هى تقول البقاء للأقوى، لكن إذا كان البقاء للأقوى لماذا تبقى الأرانب وتهلك الديناصورات Dinosaurs؟ مَن قال لك هذا يا أخي؟ هل أنت تكذب وتُصدِق نفسك؟ فالواحد من هؤلاء يكذب كذباً كثيراً على النظرية ثم يُصدِّقه ويبدأ يُناقِش فيه، ويظن نفسه قضى على النظرية، وهذا كلام للأسف غير مسؤول!
إذن الشيوعيون عارضوا مندل Mendel للموقف من نظرية التطور، ولكن قد يقول أحدكم وهل كان مندل Mendel ضدها؟ الأمر لا يتعلَّق بحكاية ضدها فالمندلية – Mendelism – حسبما فهمناها إلى الآن من حقها ومن شأنها أن تكون مُضادة لنظرية التطور طبعاً، ولكن كيف هذا؟ وضحنا هذا في الحلقات، وينبغي أن تحدسوا أنتم به، فقد قلنا في حلقات سابقة أن داروين Darwin في البداية قال بالنظرية المزجية، وطبعاً مندل Mendel ضد النظرية المزجية،
وبعد ذلك تبنى نظرية الـ Pangenesis، وطبعاً نظرية مندل Mendel ضد الـ Pangenesis، واضطُرَ أيضاً داروين Darwin مع تبنيه الـ Pangenesis أن يتبنى مسألة توريث الصفات المُكتسَبة، لأنه لم يُقدِّم تفسيراً ولا مُقترَحاً مقبولاً يُبيّن كيفية نشأة التغايرات ومن أين تنشأ التغايرات، فهو يقول الانتخاب الطبيعي يشتغل على التغايرات لكن كيف تنشأ التغايرات؟ لم يعرف هذا، فهناك نُقطتان من أكبر النقاط التي وُجِهت النقود بسببهما إلى داروين Darwin ونظريته ومن أكبر نقاط الضعف في النظرية، فما هما إذن؟ نقطتان من أكبر النقاط – دعنا الآن من الانتخاب الطبيعي، فهذا قبل أن نصل إلى الانتخاب الطبيعي ونقاط الضعف فيه – الهامة، فالنقطة الأولى هى أنك تقول لي أن الانتخاب الطبيعي يشتغل على التغايرات في زمانية مُمتَدة طويلة، لكن كيف تنشأ هذه التغايرات؟ هذا أولاً علماً بأن لم يكن لدى داروين Darwin فكرة عن موضوع الطفرة Mutation، فهوجو دي فريش Hugo de Vries هو الذي سيأتي بهذا، لكن داروين Darwin لم يكن لديه فكرة ولا يعرف كيف تنشأ، وفي نهاية المطاف قال لك من المُمكِن أن تنشأ بتأثير البيئة الخارجية، أي أنه ارتد لاماركياً – نسبة إلى لامارك Lamarck – الآن، واعترف بهذا – كما نقلت لكم عنه – قائلاً “يبدو أنني لم أُقدِّر حق القدر الفكرة التي تقول إن البيئة يُمكِن أن تُؤثِّر على الكائن وتُؤثِّر بالتالي في أعضائه وعلى هذه الآثار التي يتم توريثها”، أف، فهو الآن لاماركي – نسبة إلى لامارك Lamarck – محض، وذلك كان في آخر حياته طبعاً، ولذلك الآن التطوريون الكبار المُتحمِسون مثل دوكنز Dawkins وأمثاله يأسفون لداروين Darwin ومُمتعِضون من الطبعات الأخيرة من أصل الأنواع ويُحِبون الطبعة الأولى، فيقول لك الواحد منهم “نحن نحترم الطبعة الأولى نحترمها، لكن الطبعات الأُخرى لا نُحِبها” لأن فيها تراجع أمام النقد وفيها سقطات لداروين Darwin وفيها تقريباً نوع تخلٍ سافر عن روح النظرية، أي عن الانتخاب الطبيعي، فأنت تقول لي باللاماركية Lamarckism في المرتين وبالتالي ما الذي بقيَ من الانتخاب الطبيعي إذن؟ ما الذي بقيَ من الأصالة في النظرية؟ على كل حال هم يتمسكون بالطبعة الأولى، فدائماً تجد دوكنز Dawkins يتبجح ويقول لك “أنا عندي الطبعة الأولى”، ولا أدري إن كانت الطبعة الأولى هى التي عنده أو الثانية، لكن على كل حال هم لا يُحِبون الطبعات الأخيرة، فهم يقولون عن الطبعات الأخيرة – مثل الخامسة والسادسة مثلاً، فهو طُبِعَ ست مرات في حياته – للكتاب “هذه لا ننصح بها كثيراً” لأن فيها تراجع طبعاً، ولذا دوكنز Dawkins يأسف جداً للطبعة الثانية مثلاً وما تلاها حين ختمها داروين Darwin بهذه النفخة التي نفخها الخالق -Creator – في هذه البذرة أو البذرتين الأوليين، فقال “هذه رشوة قدَّمها داروين Darwin للحساسية – من أجل الحساسية – الدينية”، لكن كيف تكون هذه رشوة؟ ولماذا؟ مَن ضربه على يده؟ لماذا لا تكون قناعة الرجل؟ أنت تُعلِّم ونحن نُعلِّم أن الرجل كان نزيهاً وكان صادقاً إلى حد بعيد ولا يُحِب الخصومة ولا يُورِّط نفسه فيما لا يُحِب، إذن لماذا لا تكون قناعة؟ لماذا تقول أنها رشوة؟ ولذلك هو يحذفها دائماً وكأنها غير موجودة، ويكتب في الهامش – حتى لا يُؤخَذ عليه أنه يُزوِّر الحقائق والوثائق العلمية – قائلاً “في الطبعة الثانية للأسف وما تلاها تم إقحام هذه العبارة القصيرة: By The Creator” أي بطريق الخالق أو عن طريق الخالق، والذي نفخ هو الله طبعاً، ثم قال “هذه رشوة قُدِمَت من أجل الحساسية الدينية”.
على كل حال نأتي الآن إلى الشيوعية مرة أخرى، فإذن الشيوعية تُعارِض المندلية Mendelism، لأن المندلية – Mendelism – سددت ضربات قاسمة للـ Pangenesis وللاماركية Lamarckism، فهكذا المندلية – Mendelism – كشفت عوار نظرية التطور بالصيغة الداروينية – نسبةً إلى داروين Darwin – أوبالصيغة التي قدَّمها داروين Darwin، وهناك مشاكل كثيرة، فما هو أصل التغايرات مثلاً؟ النظرية ساكتة ولا تُقدِّم إلا اقتراحاً لاماركياً – نسبةً إلى لامارك Lamarck – لها، ثم أن كيف يتم توريث هذه التغايرات؟ وهذه المسألة لا تقل أهمية عن تلك، لكنه قال لك “بالأسلوب اللاماركي – نسبةً إلى لامارك Lamarck – طبعاً” وهذا كلام فارغ، ومندل Mendel قال “هذا كلام غير صحيح”، فمندل Mendel أثبت أن الصفات المُكتسَبة لا يُمكِن توريثها، أي أنها لا تُورَّث، ولذلك هم كرهوا المندلية Mendelism.
طبعاً هناك مسألة ثانية أكثر أهمية من هذا وهى التنويع على مبدأ توريث الصفات المُكتسَبة، ومن صالح أو من هم الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي السابق وفي العالم الشيوعي كله وفي بلادن أوروبا الشرقية – مثلاً – وفي الصين أن يُقنِعوا أنفسهم والناس أن الصفات المُكتسَبة تُورَّث من أجل حرق المراحل وتقريب فرصة الظهور للمُجتمع اللاطبقي، أي مُجتمَع الشيوعية العالمية، إذن سنبدأ كل مرة نُعلِّم كل من يُولَد بدءاً من الحروف الأولى – أي من الـ A B C – مبادئ التفكير الاشتراكي والاشتراكية العلمية، فالعملية لن تنتهي، وافترض الشيوعيون – طبعاً للأسف بسذاجة سخيفة جداً، فإن كانت لائقة بالقرن التاسع عشر لا يُمكِن أن تكون لائقة بالقرن العشرين مُنذ بدايته حين أُعيد الاعتبار للمندلية Mendelism، فهذا لا يُمكِن، وطبعاً في القرن التاسع عشر قالت بها اللاماركية Lamarckism وقال بها حتى داروين Darwin، أي أن من المُمكِن توريث الشيئ المُكتسَب بدون أن يكون عندنا مُشكِلة، لكن مندل Mendel قال هذا غير صحيح، فهذا لا يُورَّث، وقد انتهينا منه وسددنا هذا الملف – أن التربية الاشتراكية تُورَّث، فهم كانوا يُحِبون أن يُفهِموا أنفسهم والآخرين أن هذه التربية الثورية أو التربية الطليعية أو التربية على الاشتراكية العلمية تُدمَغ في خلايا البشر، وبعد ذلك تأتي الذُريات حاملةً لها، أي – كما قلت لكم مرة – أن كل شيوعي كبير يلد وليداً شيوعياً صغيراً منه ويكبر في الشيوعية لأن هذه الفكرة مدموغة في جيناته، وهذا كلام فارغ!
جوزيف ستالين Joseph Staline – طبعاً هو الكاهن الأكبر للشيوعية الدموية – أعطى تفويضاً شبه مُطلَق لعالم نبات وعالم تطوري عنده نُسخة خاصة من التطور لم يسمع بها ولا أحد يعتني بها في العالم كله إلا في الاتحاد السوفيتي وهى نوع أيضاً من التوكأ على نظرية التطور مع تضمينات أيدولوجية غير معرفية وعلمية، وهذا العالم معروف وهو تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko، علماً بأن كلمة Lysenko يقولونها ليسنكو بالإنجليزية ويقولونها بالروسية ليسينكو، وكلمةTrofim يقولونها بالإنجليزية تروفيم وينطقونها بالروسية ترافيم، فتروفيم ليسينكو Trofim Lysenko كان عالماً مُتواضِعاً وكان عنده نظرية – كما قلت لكم – في التطور، وقيل أنه عالم في النبات، وأصبح مُديراً في عهد ستالين Stalin لأكاديمية لينين للعلوم الزراعية Lenin Academy Of Agricultural Sciences، وطبعاً ساهم مُساهَمة كبيرة في تدمير الزراعة في الاتحاد السوفيتي السابق، فهو دمرها بها، ونفس النظرية دمرت الزراعة في الصين تدميراً وجوعت الناس، وذلك لأنهم يتنكرون للعلم الحقيقي ويُدخِلون السياسة والأيدولوجية على خط العلم، فما علاقة العلم بالأيدولوجية؟ دعوا العلماء والعلم يمر كما هو من غير تدنيس بالأيدولوجية ومن غير توظيف من السياسة، وطبعاً هذا يتم أيضاً للأسف بصدد الأديان كمان والدين، وهذا أسوأ وأسوأ كمان، فالعلم على الأقل يستطيع أن يُدافِع عن نفسه، لكن الدين يتورط ويبدأ يُجاهِد مع السياسة في أن تُوظِّفه وأن تستخدمه، ويتورط المُتدينون كل يوم أكثر من الأول من خلال هذه الرمال المُتحرِكة وهذه اللعنات المُتصِلة للأسف، فكفى لهذا العبث، لكن هذا يحصل على كال حال.
تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko كان يستغل دائماً كل فرصة تسنح له في النيل من مندل Mendel، ويُسمي علمه بالمندلية Mendelism، ويصفها بأنها علمٌ برجوازي زائف – False أو Fake – طبعاً، لكن ما معنى أنه برجوازي؟ ولماذا يقول عنه أنه برجوازي؟ أنتم قبلتم باللاماركية Lamarckism، لكن الآن لا تسع في الاتحاد السوفيتي إسم لامارك Lamarck، هذا ممنوع وإلا يُقطَع رأسك، ولكن أنتم تقولون بتوريث الصفات المُكتسَبة، فكيف هذا إذن؟ قال أحدهم هذه هى المنشورية Mensherism، فنحن عندنا عالم قال بتوريث الصفات، ولكنه عالم شيوعي سرَّاق، فقد سرق نفس النظرية اللاماركية Lamarckism وقال بتوريث الصفات المُكتسَبة والاستعمال والإهمال، لكن لماذا؟ لأن لامارك Lamarck من خلال تاريخه ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، فهو رجل أرستقراطي إذن، ولعنة الله على الارستقراطية، ففي الاتحاد السوفيتي لا يقبلون حتى علماً يُؤيِدهم أو يُمكِن أن ينتفعوا به إذا كان الذي أتى بهذا العلم رجل برجوازي أو أرستقراطي، فهذا ممنوع، فممنوع أن يُنسَب إلى أي برجوازي أي فضيلة، وعلى كل حال هذه هى الأصولية الماركسية Marxism، وهو شيئ مُرعِب جداً
جداً، لكنه قال هذه إسمها المنشورية Mensherism ونحن لدينا عالم قال هذا، وهذا العالم سرَّاق طبعاً وسخيف، ولامارك Lamarck كان عالماً كبيراً جداً جداً بل كان علّامة، فلامارك Lamarck علّامة كبير في علم الحيوان، وعنده موسوعة ومُجلّدات ضخمة، فهو رجل هائل جداً وهو أكبر عالم حيوان في عصره في فرنسا، فهذا هو لامارك Lamarck، لكن هذا الـ Mensher وهذه المنشورية Mensherism أول مرة تسمعون بهما، ثم أنهم تخلوا عن المنشورية Mensherism هذه وقالوا بالليسينكية Lysenkoism – نسبة إلى ليسينكو Lysenko – وقالوا أنه هو المذهب الجديد، وهذا كلام فارغ وعبط، لكن هذا الرجل بتفويض من ستالين Stalin هيمن على الساحة وأسكت الأفواه الأخرى وادّعى أن المندلية – Mendelism – ليست علماً، إنما هى علم زائف Pseudoscience، فهى علم برجوازي ليس له أي قيمة، ولكن – كما قلنا – عند التطبيق تقع الخيبات والفشل، ومع ذلك نقول لا بأس، لتحيا الأيدولوجية، وتموت العلوم والمعارف، وهذا غير صحيح، لكن على كل حال سوف يموت ستالين Stalin في سنة 1953 بعد أن بقيَ في السلطة زُهاء ربع قرن، فلينين Lenin مات سنة 1924، وفي 1925 تسلم ستالين Stalin سُدة السلطة، وبقيَ فيها إلى سنة 1953، فأرعب الناس وقتل الملايين وشرد الملايين إلى سيبيريا، في
المُخيَمات والجولاخ المعروفة، وهذا شيئ فظيع وتاريخ دموي مُخيف، وعلى كل حال مات الرجل، وبعد أن مات وجاء نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev أصبح في الوضع بعض المُتنفَس، فخرج بعض العلماء الروس الذين يحترمون العلم وأرادوا أن يُعيدوا الاعتبار إلى المندلية Mendelism وقالوا كلاماً جيداً، فجاء عالم منهم إسمه جوزيف كيرينسكي Joseph Kerensky – هو عالم وراثة روسي شيوعي – وقال “المندلية – Mendelism – علم مُحترَم ،و كل مَن يتجاسر على إنكار المندلية – Mendelism – شأنه تماماً كشأن الذي يتجاسر على إنكار قانون الجاذبية”، أي انه علم وتستطيع أن تُجرِّبه بنفسك، فتستطيع أن تُوجِد حديقة عندك وتُحضِر بيتاً زجاجياً ومن ثم تبدأ في زراعة البازلاء وسوف ترى أن كلام مندل Mendel كان صحيحاً بنسبة مائة في المائة، فكيف تُنكِر هذا؟ لكن هم أنكروه طيلة تلك الفترة العبيطة، فجوزيف كيرينسكي Joseph Kerensky قال لهم “إنكار المندلية – Mendelism – مثل إنكار قانون الجاذبية”، وللأسف ونحن الآن في عصر خروتشوف Khrushchev أُخِذَ وزُجَ به في السجن ثمانية عشر شهراً، أي أنه قضى سنةً ونصف السنة في السجن لأنه قال هذه الكلمة فقط، أي لأنه قال لهم “إنكار المندلية – Mendelism – مثل إنكار قانون الجاذبية”، فوضعوه في السجن، وطبعاً لو كان هذا أيام ستالين Stalin كان سيُقتَل مُباشَرةً، فلا يُوجَد عنده إلا القتل المُباشَرةً بدون كلام، لكن هل ينمو العلم بالطريقة هذه وتنمو التقنيات وتتقدَّم الشعوب؟ هذا مُستحيل ولا يجوز، وأنا أرى بصراحة أن أمرين يحتاجان إلى حُرية مُطلَقة لكي ينموا، أولاً العلم ومعه طبعاً الفنون والآداب، ثانياً الدين، فأنا عندي يقين مُطلَق – والناس لا يتنبهون لهذا – طبعاً بأن الدين غير نامي، فالناس يعتقدون أنهم مُتدينون لأنهم يملأون المساجد والكنائس والكُنس Synagogues، وهذا كله ليس ديناً، هذا كلام فارغ وينطبق على الكل إلا ما رحم ربي، فهذا – والله – كلام فارغ، فما هذا الدين الذي ترى فيه منابر وخطب كلها كله كراهية وكلها سب وكفر ولعن وطعن في الأنساب وفي الأعراض؟ أي دين هذا؟ حتى أن بعض الناس بدأ الآن يفهم أن الوضع من غيره سوف يكون أفضل، وأن الحياة سوف تُصبِح أحلى وأجمل، فما هذا الدين؟ الدين يحتاج حُرية حقيقية لكي ينمو، لكن لا مكان للحُرية والسياسة تستعمله، ولا مكان للحُرية والسياسة تُحيله إلى كهانة وتخلق كُهّاناً، ويا ويلك من أن تقترب من هؤلاء الكُهّان، وطبعاً هم لا يقتلونك ولا يُحاكِمونك لأنك انتقدت هذا الكاهن المُصنَّع Fabricated، وإنما لأنك انتقدت الدين، ويُقال لك أنت تُريد أن تطعن في الدين، وهذا غير صحيح، فالدين يُريد حرية حقيقية، لأنه ينتمي إلى أعماق الإنسان، والإنسان مُؤسَّس على الحُرية، لهو ابن الحرية ولا ينمو إلا في ظل الحُرية، فلكي يفهم الدين والروح بشكل صحيح لابد أن تُعطيه حُرية حقيقية مُطلَقة، فدعه يأخذ طريقه إلى الله كيفما يشاء، وكذلك الحال مع العلم، فمن المفروض أن العلم يُحاوِل أن يتلمس الحقائق الثابتة، أي حقائق العالم حولنا،فكيف نخدع أنفسنا ونخدع حواسنا ونخدع الحقائق ونخدع الأرقام؟ هذا لا يصح،اتركوا العلماء بحُرية أيضاً مُطلَقة لكي يبحثوا ولكي يتكشفوا ويدرسوا، وعلى كل حال كل نشاط إبداعي يحتاج إلى حُرية، فلماذا أحصر نفسي في أمرين؟ سواء كان هذا في العلم أو الفكر أو الأدب أو الدين أو أي شيئ، لكن قد يقول لي أحدكم وهل الدين إبداع؟ وبدوري أقول أن الدين هو أعظم إبداع على الإطلاق، فماذا سأستفيد من الإبداع في فهم أسرار الكون والوجود – وهذا شئ مُفيد – حين أخسر روحي وأخسر نفسي وأعيش وأموت إنساناً مُحطَماً أو وغداً حقيراً؟ فأعظم إبداع أن أُعيد اكتشاف ذاتي، فمَن مِنا يزعم أنه يعرف نفسه معرفة حقيقية؟ الدين يُعينك على هذا، ولكن ليس الدين المُسيَس وليس النُسخة الزائفة من الدين وإنما الدين الحقيقي، وليس دين المُجتمَع الذي يحولك إلى فرد برقم، فتُصبِح مثل الرقم، فلا يُمكِن أن يُقال – مثلاً – لك “نحن الآن جماعة ووصل عددنا خمسة مليون، وأنت رقم خمسة مليون وواحد، وهذا شيئ جيد فائت لنا أيضاً بعشرة معك”، هذا كلام فارغ، ولذلك نحن لا نُريده، ولكم نُريد دين الفرد، ديني أنا ودينك أنت، أي النُسخة الخاصة لكل واحد من الدين، فهذه تُمكِنه أن يُعيد اكتشاف نفسه في ضوء الحُرية النافذ، وعلى كل حال هذا الرجل سُجِنَ – كما قلنا – ثمانية عشر شهراً لكن لم يستطع أحد أن يُثنيه عن مشواره وجهاده في الدفاع عن المندلية Mendelism، فهو ظل يُدافِع عنها بقوة، وطبعاً بعد ذلك سوف ينتهي الاتحاد السوفيتي ومن ثم الأمور تأخذ المجرى الذي كان ينبغي أن تأخذه من قبل سبعين أو ثمانين سنة، وبلا شك الآن تُدرَّس المندلية – Mendelism – كعلم مُحترَم في كل الكليات وفي كل الجامعات وحتى في المدارس تماماً على قدم سواء بكل قوانينها وتضميناتها العلمية طبعاً وليس الأيدولوجية، كما تُدرَّس في الغرب الأوروبي والأمريكي وغيره، فلا يصح في النهاية إلا الصحيح.
انتهينا من مندل Mendel إذن، نأتي الآن إلى أبي الطفرة، وهو الشخصية الهائلة الثانية – كما قلت – التي ستُؤثِر على مسار نظرية التطور ومصيرها، وهو عالم النبات الهولندي الشهير هوخو دي فريش Hugo de Vries، فالهولنديون يقولون هوخو دي فريش لأنهم يحبون الخاء والشين كثيراً، أكثر من الألمان بكثير، فحين تسمع الهولندية تسمع حرفي الخاء والشين كثيراً، والإنجليز يقولون هوجو دي فريس Hugo de Vries، ونطق دي فريس de Vries بالإنجليزية أجمل، لكن المُهِم هو أن عالم نبات الكبير هذا تسلم سُدة أو كرسي أستاذية علم النبات في جامعة أمستردام وهو مازال في الثلاثين من عمره، لكنه كان عالماً كبيراً ونابغة، فمن الصعب جداً أن تأخذ هذا المنصب في الثلاثين من عمرك في جامعة أمستردام، لكنه فعل هذا لأنه عالم كبير، وبدأ على عكس ما كان مُتوقَعاً، فكان مُفتتناً أو مفتوناً بنظرية التطور لداروين Darwin، لأنه أحبها جداً واقتنع بها، وشرع في إجراء تجاربه الخاصة لكي يُثبِت – ويزداد معرفةً أيضاً بآلية الانتخاب الطبيعي ح كيف تعمل هذه الآلية أو هذه الميكانيكية، أي كيف الانتخاب الطبيعي يعمل وكيف يشتغل، فهو كان يُؤمِن به ويُؤمِن بالنظرية إلى حد – كما قلت لكم – الافتتان، لكن جاءت النتائج على عكس ما قدَّر وعكس ما توقع هو وغيره تماماً، حيث جاءت النتائج مُخيِّبة لكي تكون ضربةً جديدة بعد المندلية – Mendelism – تُوجَه إلى نظرية التطور، فهذه ضربة قوية جداً في مبدأ هو روح آلية الانتخاب الطبيعي، وهو مبدأ التدرجية، فالانتخاب الطبيعي لا معنى له إلا مع التدرجية، إذن الانتخاب الطبيعي يحتاج إلى زمن طويل ويحتاج إلى مبدأ التدرجية Gradualism، لكن دي فريس de Vries قال “لا تُوجَد تدرجية في النتائج للأسف الشديد، وإنما تُوجَد طفرة Mutation، فقد تأتيك طفرة فُجائية ومن ثم يظهر لك نوعٌ جديد بضربة واحدة، ثم قال”وهذا عكس ما اعتقد داروين Darwin وعكس ما فهم وعلَّم، إذن النظرية غير
متينة، والانتخاب الطبيعي أسطورة، والطفرة هى الصحيح” وذلك من خلال التجارب التي أجراها على نبتة مُعينة إسمها زهرة الربيع الليلية The Evening Primrose، علماً بأن زهرة الربيع الليلية The Evening Primrose لها إسم علمي وهو Oenothera تقريباً، وعلى كل حال هى إسمها زهرة الربيع الليلية، والألمان تقريباً يُسمونها بالألمانية شموع الليل Nachtkerzen، وهى نبتة أشبه بالعشب، فهى نبتة عُشبية تُوجَد في الساحل الهولندي بكثرة وتملأ الساحل هناك طبعاً، ولكن ينطبق عليها نفس الشيئ، حيث أجرى عليها ألوف – أو عشرات ألوف في الحقيقة – التجارب، فدي فريس de Vries لاحظ هذا، ولاحظ تقريباً نفس ما انتهى إليه مندل Mendel، مثل كيف يتم توريث الصفات وأن النسبة – Ratio – ثلاثة إلى واحد، أي أنه أثبت نفس الشيئ بالتجارب طبعاً بنسبة مائة في المائةعلى أنها أكثر تعقيداً في جينومها من جينوم Genome البازلاء، لكن لاحظ – وهذا الأهم كما قلت لكم – أن هناك أنواعاً جديدة، فيُوجَد شكل أوراق مُختلِف ولون الزهرة يختلِف وطول الساق يختلِف، حيث ظهر شيئ جديد تماماً، لكن كيف هذا؟ هو فهم أن هذا خرج بطريقة فُجائية، لكن هل تستمر هذه النسيلة الجديدة أو هذه النبتة؟ تستمر وتبقى ثابتة بالتهجين، فهى ظهرت فجأة وسوف تستمر، وهذا مبدأ مُهِم في الطفرة، فمُهِم جداً أنها سوف تستمر، فهى ليست حالة شاذة تظهر ثم تختفي، وإنما تظهر وتبقى ثابتة، على كل حال هذا نوع جديد إذن لكن لم ينشأ في مائة ألف سنة ولا في مليون أو عشرة ملايين من السنين وإنما نشأ فجأة.
فهذه هى نظرية الطفرة، وهذا عكس داروين Darwin تماماً كما قلت لكم وكما أشارنا إليه، والآن نُلخِّص ما نود قوله، فهوجو دي فريس Hugo de Vries عنده بعض المبادئ التي انتهى إليها وهى مُهِمة جداً وتلتقي مع المندلية – Mendelism – وتُعزِز المبادئ الجديدة للعلم الجديد المجيد وهو علم الوراثة، فدي فريس de Vries فهم تحت مُصطلَح المُكوِنات الشاملة – نحن أخذنا نظرية التكوين الشامل لكن هذه إسمها المُكوِنات الشاملة، فالـ Genes هى العوامل نفسها، فهذه إسمها المُكوِنات الشاملة Pangenes – وجود شيئ في الخلايا يحمل المعلومات الوراثية، وهذا سماه مندل Mendel بالعوامل الوراثية، لكن هذا سما مُكوِنات شاملة Pangenes، وفعلاً بعد قليل هتُسمى فقط بالـ Genes، فسوف نحذف كلمة Pan وتبقى كلمة Genes، أي جمع جين Gene، وعلى كل حال هو قال “هذه الـ Pangenes هى التي تحمل المعلومات الوراثية وهى المسؤولة وليست البيئة – البيئة لا تُعطيك الصفات ولا تُؤثِّر عليك – عن صفات الكائن وعن التغيرات التي نلحظها وتطرأ عليه”، فهذه الأشياء هى الـ Pangenes، إذن لما نرى تغيرات واختلافات بين الأنواع فإن الأمر لا يُعزَى إلى البيئة كما قال، وإنما يُعزَى إلى الـ Pangenes، إذن هنا يُوجَد قطع مع اللاماركية Lamarckism – قطع وليس تقاطع – تماماً، فهو قال “هذا الأمر المسؤول عنه هو الـ Pangenes “، أي شيئ في الداخل وفي الخلايا وليس له علاقة بالخارج، وسوف نرى الآن ما هى أهم معالم نظرية الطفرة عند هوجو دي فريس Hugo de Vries، فماذا قال عن الطفرة إذن؟قال “بالطفرة يُمكِن أن تنشأ أنواع جديدة من الكائنات وأن يحدث أنتواع Speciation، ففجأة يظهر نوع جديد من غير مُقدِمات ومن غير زمن طويل”، وهذا مُهِم لأنه يحدث دون أن تمر الكائنات أو الكائن بالمسار الطويل المُمِل المُتعرِج للانتخاب الطبيعي – الانتخاب الطبيعي عنده مسار طويل – أبداً، فهو قال لا يُوَجَد أي داعٍ لهذا، وطبعاً من الواضح أنه نقد قوي جداً ومُؤلِم لنظرية داروين Darwin، فالانتخاب الطبيعي يتلقى ضربات على رأسه باستمرار، وهذا مُؤلِم جداً، وعلى كل حال هذا كان أولاً.
ثانياً قال “القدرة على التطفر – أي حدوث الطفرة – كامنة في أصل الكائن داخلياً”، أي أن البيئة ليست هى المسؤولة عن إحداثها، وإنما البيئة فقط تستحثها وتُشكِّل شرطاً لترجمة عمل هذه الطفرة الكامنة، فهذا يحدث في داخل الكائن، وعموماً هذا هو الصحيح، فلماذا إذن؟ طبعاً سنتحدَّث عنه نوعين من الطفرات بعد قليل، ففي عندنا الطفرة التلقائية Spontaneous Mutation، وهذه الطفرة التلقائية تُوجَد داخل الكائن وتحدث وحدها، أما البيئة فتتلقاها فقط ومن المُمِكن أن تستحثها، لكن عندنا طفرات أخرى مُحدَثة، والترجمة الأحسن لها ليست الطفرات المُحدَثة وإنما الطفرات المُستحَثة، وهى التي تتسبب عن عوامل خارجية، فلو لم توجد هذه العوامل الخارجية لما حدثت الطفرة، وهذه العوامل لاخارجية مثل الإشعاعات كأشعة راي – X-ray -وغيرها، أي الإشعاعات بشكل عام خاصة فوق البنفسجي وتحت الأحمر، وكل هذه الحديات تُؤثِّر طبعاً، والتعاطي الفُجائي مع حرارة مُرتفِعة جداً مُمكِن يعمل لنا طفرات مُحدَثة أو مُستحَثة، فتباً للسموم والمواد الكيمائية والفيروسات Viruses، وطبعاً الفيرس Virus الملعون عندما يدخل إلى الجسم يُحدِث لك برنامجاً جديداً ويقوم بتغييرات في برنامجك الوراثي طبعاً، فمن المُؤكَّد أن للفيروسات Viruses علاقة بالطفرات، ويُوجَد طبعاً أسباب أُخرى، لكن طبعاً أيام هوجو – هيجو دي فريس Hugo de Vries – لم يكن هذا كله معروفاً، فنحن مازلنا مع البداية أو مع النُسخة المُبسَّطة السهلة من نظرية الطفرة، لكن هو بتبصر ذكي قال لك “الطفرة تكون كامنة في الأصول، فالبيئة ليس لها علاقة بها” وهذا شيئ جيد جداً، كما أن الاختلافات الخارجية في الشكل وفي الصفات وإلى آخره ليس لها علاقة بالطفرة كما قال، فالطفرة موضوع آخر غير موضوع الاختلافات، وطبعاً مندل Mendel كان سبق ووضح هذا، فهذه الاختلافات تكون معزوة ومُسبَبة عن النمط الجيني، فقد نجد أباً له عيون – مثلاً – زرقاء وأماً لها عيون زرقاء أيضاً لكن الولد تكون عيون عسلية اللون، فهذا عادي ومُمكِن جداً لأن هذه صفة مُتنحية، فما المُشكِلة إذن؟ هذه ليس لها علاقة طبعاً، أي أن الاختلافات الظاهرية ليس لها علاقة بالطفرة، لكن أين يُمكِن أن يكون هناك علاقة بالطفرة؟ عندما تكون عيون الأب زرقاً ويكون أصيلاً، فإذا افترضنا – مثلاً – أن زرقة العيون سوف نعطيها مثلاً حرف الـ (B)، فتكون (BB) أي (Capital, Capital)، والأم كذلك نفس الشيئ، فتكون (BB) أي (Capital, Capital)، لأنها غير هجينة وإنما أصيلة، وبالتالي لابد أن تكون كل الذُرية من أصحاب العيون الزرقاء، لكن لو ظهر أحدهم بعين عسلية سوف تكون مُشكِلة، فما الذي حدث هنا؟ هنا لا يستطيع النمط الجيني أن يُفسِّر لك هذا، فهنا حدثت طفرة، أي أن هذه الإشكالية لا تُفسِرها إلا الطفرة علمياً ووراثياً، فهو أزرق أصيل ونقي ومُتماثِل اللاقحة وهى كذلك، ومن ثم لابد أن تأتي كل الأجيال بعيون زرقاء، فإذا ظهر لنا أحدهم بعين عسلية سوف تكون هذه طفرة، وقد يقول أحدهم أن السبب في هذا هو أن المرأة أخطأت مع رجل ما فأدخلت هذا الطفل صاحب العيون العسلية على النسل، ولكن نحن لا نتدَّخل في أعراض الناس، فهناك بعض الناس الأشرار الذين لا يستطيعون أن يُفكِّروا إلا في الشر فقط، فالواحد منهم يكون شخصاً سلبياً دائماً ومن هنا قد يقول لك أن السبب في هذا قد يكون بسبب غلط المرأة التي جاءت بهذا الطفل من الخارج، وإلا من أين أتى؟ وهذه مُصيبة، ولذلك مثل هذه الحالات طبعاً لما تحدث فيها طفرة مثل هذه وثابت أنه أصيل وأنها أصيلة ثم يأتينا طفل بعيون عسلية قد تصل حتى إلى المحاكم والقضاء طبعاً، فتحدث خلافات بين العائلات كبيرة، وهذا شيئ خطير، مع أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الجميل الذي تعرفونه جميعاً على ما أعتقد والمُخرَّج في الصحيحين في البخاري و مسلم نبَّهنا إلى هذا، ففي حديث أنس قال – رضوان الله عليه – جاء رجل من بني فزارة – أي رجل فزاري – وقال يا رسول الله “إن امرأتي – هو يرى الآن شكله، وقد تُشبِّهه امرأته لأنها قد تكون قريبته مثلاً أو ما إلى ذلك – أتتني بولد أسود”، وطبعاً هو يُريد أن ينتفي منه، فهو رافض أن يكون هذا ابنه، ويقول من أين جاءني هذا الولد، فهو ليس أسود اللون وكذلك امرأته ليست سوداء، فمن أين جاء هذا الولد الأسود؟ يقول أنس “ويُريد أن ينتفي منه”، إنه يرفض نسبه، فهو قال أن هذا ثقيل عليه، وانظر الآن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهو إنسان عظيم فعلاً، هذا يتكلم بإسم السماء، وهو مُصلِح عظيم أيضاً، ونبي عظيم ما شاء الله، ومُصلِح عظيم وعقل كبير ما شاء الله، فلم يقل له “الأمر مقطوع به يا إخي، اذهب واغسل عارك”، لم يقل النبي له هذا أبداً، ولكن ماذا قال له؟ انظر الآن إلى كلام المُعلِّم، قال له يا عبد الله، يا فلان هل لك من إبل؟ فقال له عندي إبل، فقال له ما ألوانها؟ فقال له حُمر، ونحن الآن بدأنا نفهم بعض المبادئ، فهم لم يقل أن إبله لونها كذا وكذا وكذا وإنما قال حُمر، فواضح أن إبله نقية، وقد تكون هذه الإبل عنده من أربعين سنة أو أكثر أو أقل، وأكيد أتت عدة أجيال وهى عنده، ودائماً تأتي حُمر فقط، وهذا يعني أنها نقية، فاللون الأحمر فيها نقي طبعاً لأنه لم يقل فيها وفيها، وإنما قال له حُمر، فكلها حُمر، والعرب حتى كانوا يحبون أن يحاوطوا على النسل خاصة لما يكون مُستجاد، فهذا نسل خاص ويبقى كما هو، و يعملون Breeding دائماً بينهم، وعلى كل حال قال له حُمر، فقال له هل فيها من أورق؟ والورق هو البياض المشوب بالسواد، فهو شيئ مثل الرمادي Gray، فيُوجَد بياض وعليه سواد، أي أنه يقول له نحن فهمنا أنها حٌمر – أي أنها بنية اللون طبعاً ولكن اللون البني قريب من الأحمر، فهذا هو معنى أنها حُمر – ولكن هل فيها من أورق ؟ فقال له لقد رأيت مرة شيئاً كهذا، فقال له من أين؟ أَنَّى هذا؟ أي من أين جاء وأنت تعرف أنها حُمر دائماً؟ فهذه الإبل كلها حُمر أباً عن جد وبالتاي من أين جاء هذا اللون؟ فقال لعله نزعه عرق، وهذا التعبير العرب يفهمون معناه، ولكن نحن اليوم نقول باللغة الوراثية إذا كانت فعلاً هذه الذُريات وهذه الأجيال تأتي دائماً حمراء وجاء واحد أورق فهذه تكون طفرة، لكن المُهِم هو أن الرجل عندما قال لعله نزعه عرق قال النبي له وهذا لعله نزعه عرق، ومنعه أن ينتفي منه، فهو قال له أنه لا يقدر على أن يرفض نسب ابنه، فهذا ابنه وسيبقى ابنه، فما أحرص رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – على الستر أولاً وعلى حفظ أعراض الناس وعلى تقليل حجم النزاع والمشاكل، وعلمنا – وهو مُعلِم الناس الخير – دائماً أن نقطع دابر الظنون، فأي ظن سيء نقدر على أن نقطع دابره وعلى أن نقطعه من قريب وينتهي كل شيئ، فلا ينبغي أن نُتابِع المسائل لنهاياتها وأن نضع كل الاحتمالات، فهذا ليس جيداً.
للأسف أدركني الوقت، إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق