إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه وتعالى مِن قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ۩ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ۩ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ۩ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ۩ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ۩ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ۩ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۩ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۩ كَلاَّ لا وَزَرَ ۩ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ۩ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۩ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ۩ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۩ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۩ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ۩ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ۩ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
ونبدأ من حيث انتهينا في الأسبوعِ الماضي، فما معنى أن تكون أكثر الأشياء لا معنى لها في حياتنا؟ هذا ما انتهينا إليه، ما معنى ألا يكون هناك معنى للمعنى؟ لا يكون هناك معنى للصداقة وللأخوة وللزوجية و للوفاء وللشرف وللأمانة وللعفة وللوطنية وللتدين وللتقوى وإلى آخر هذه الأشياء، وقد يُبادِر بعضكم إلى التساؤل التالي وهو هل حقاً فقدت هذه الألفاظ والمُصطلَحات الكريمة النبيلة معانيها في حياتنا إلا قليلاً؟ من مئات السنين ونحن ننشد مع الشاعر احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة، فما معنى الصداقة إذن إذا لم تكن مُحاطةً مكنوفةً بالأمان؟ أي صداقة غير آمنة، هل الزوجية آمنة؟ عشرات إن لم يكن مئات الأمثال والمقالات والحكايا والقصص تُحذِّر من النساء ومن الأزواج ومن الزوجات ومن خيانة المرأة ومن لؤم المرأة ومن مكر المرأة وتُنذِر بمثل مصير الزوج المغرور المغدور، فإذن ما معنى الزوجية؟ وطبعاً النساء لديهن أيضاً قاموسٌ كبيرٌ ضخمٌ يُذكِّر بمثالب الرجال وخيانة الرجال وطيران الرجال المُستمِر من أعشاشهم، أما فيما يتعلَّق بالحاكم والمحكوم فلا أمان ولا مودة ولا محبة بل تباغض وتلاعن، نلعنهم ويلعنوننا ونُبغِضهم ويُبغِضوننا كما قال عليه الصلاة وأفضل السلام، فلا أمان أيضاً، ومن هنا ما أشرت إليه في آخر الخُطبة السابقة عن الطبيعة اللمحية والطبيعة الظرفية والطبيعة الوقتية لهذه المعاني ولهذه العلاقات، فسرعان ما تنقضي الصداقة بسبب تافه وبسيط جداً، وسرعان ما تنحل عُرى الزوجية بسبب تافه أيضاً وبسيط فتُوقَع كلمات الطلاق تترا مُتتالية، فلماذا إذن؟لماذا علاقاتنا هكذا؟
أما إن أردنا أن نتحدَّث عن العفة والأمان والأقسام والأيمان فأوضاعنا معروفة، نحن نعرفها جيداً، فهى تملأ القلب طرحاً وكمداً وتُصيب المرء بالكُباد في الوقت الذي ترى فيه مَن يُبشِّر بالأمانة وهو لا يدري لها معنى لكنه يُبشِّر بالأمانة ويُنادي بالمحبة وهو لا يعرف للحُبِ معنى، وهو يُمكِن أن يكون مُجرِماً كبيرً قاسياً فظاً غليظاً، أما أن يكون من دُعاة المحبة فشيئٌ مُستغرَب ولكنه من المُبشِّرين بالمحبة، فهو يتحدَّث عن المحبة وعن الأمانة وعن الطُهر والحال أنه لا حظ له ولا نصيب من هذه المعاني النبيلة، في القديم قال أفلاطون Plato مَن ليس طاهراً لا يستطيع أن يفهم طاهراً، أي مَن ليس طاهراً في نفسه لا يستطيع أن يفهم ما هو منطق الطاهرين، ونحن في سنَن أفلاطون Plato نجري ونقول مَن ليس أميناً لا يستطيع أن يفهم منطقاً للأمانة، فهو يعرف التخوّن والخيانة والتغوّل والاستغلال، أي كما نقول بالعامية الطايح رايح، وهذا شيئ عجيب وغريب، فما معنى أننا نخاف من الحُرية؟ نحن أكثر الأمم ربما خوفاً من الحُرية وتوجساً من هذا المُصطلَح الذي يُعادِلُ في ذهنها وفي مداركها التفلت والتسيب والإباحية وصنوف وأنواع الشذوذ المُختلِفة، فهذا معنى الحُرية لدينا، معنى الحُرية هو خراب الديار وخراب الأخلاق والقيم وضياع الدين وتخرّق الذمم، هذه هى الحُرية، لماذا نخاف من الحُرية؟ لماذا نُخوِّف من الحُرية؟ وقبل أن أُجيب أُحِب أن أُصادِق وأن أُقرِّر أنه حُقَّ لنا وحُقَّ علينا أن نخاف من الحُرية، نعم نحن بطريقتنا وبطرائق نشأتنا وتنشّئنا وتربيتنا حقٌ علينا أن نخاف من الحُرية، ينبغي ألا نطمئن إليها، وهى حقاً تعني التفلت والتسيب وكل صنوف البذاءات والقذارات، وقد سألني رجل مُتعلِّم وعلى مُستوى عالٍ من العلم والثقافة قائلاً لماذا يا أخي حين تأتي نساؤنا أو بنتانا من بلدنا – البلاد الفلاني – إلى أوروبا – وقال أنا رأيت هذا مرات لا أحصوها فصُدِمت ولا أزال مصدوماً – فإنهن يُسارِعن – ليس كل النساء طبعاً، حاشا النساء العفيفات الطاهرات، فعلى الأقل بعضهن يُسارِعن – إلى نزع الحجاب الظاهر فقط، وإنما حتى حجاب الباطن، ويفعلن الأفاعيل ويحتقبن المُوبِقات – والعياذ بالله – وكأنهن ظمآوات، وطبعاً الحديث لا ينبغي أن يكون وفقاً على النساء، فهذا يشمل الشباب أيضاً، أي شبابنا ورجالنا، وأنا في الحقيقة لا أُحِب أن أصف نفسي بما وصف به الرجل نفسه، فلن أقول أنني مصدوم بل أنا أكثر من مصدوم.
قبل أيام جلست إلى رجل والرجل يتحدَّث عن الفاحشة، يستهل بها استهلاله بالحديث عن أكلٍ وشرب، فهذا شيئ عادي بالنسبة له، ويقول هذا أمامي وهو يعرف أنه على الأقل أمام رجل يُمثِّل الدين أو من أهل الدين، لكن الرجل بكل بساطة يقول ماذا بوسعي؟ أنا أفعل هذا، فهو يفعل هذا يومياً ويعيش في الحرام يومياً، وطبعاً كنت أكبر من مصدوم وأكثر من مُحبَط، فأقول غير فاهم ما الذي يحصل؟ لا نُحِب أن نندب ولا أن ننوح على أحوالنا، نحن نُريد أن نفهم، فقد جئنا وجئتُ لكي نفهم سويةً، وهذا له علاقة مُعتلِقة وثيقة بالخُطبة الماضية، وعلى كل حال نحن نخاف من الحُرية، وفقدت الأشياء دلالاتها ومعانيها لأننا مقهورون، فلم نختر حياتنا ولم نختر مساراتنا ولم نختر أخلاقنا وقيمنا وإنما فُرِضَت علينا، المرأة أو البنت إن نشأت في أسرة مُتدينة أو فيها رسوم الدين مُلزَمة أن تترسَّم رسوم الدين، فهى مُلزَمة بهذا لأن مُصيبة أن يُقال بنت فلان المُتدين أو الشيخ ليست مُحجَّبة، هذه مُصيبة ولذلك لابد أن تتحجَّب، في البيت صلت أو لم تصل هذا لا يعني أباها كثيراً، ولذا علينا أن ننتبه إلى النفاق الاجتماعي، فهذا ليس الدين وهذه ليست الأخلاق وليست الآداب، هذا النفاق المفضوح الضحل الذي دمَّر أخلاقنا ودمَّر شخصياتنا ودمَّر مسالكنا، فنحن نُريد أن تتحجب البنت زُخرفاً للناس لكي يُقال هذا ما تُريدونه أيها المُجتمَع، أيها الناس هذا هو، هذا ما تُريدنه وقد أعطيناكموه، هل تُريدون أن نُصلي؟ سنُصلي لأن مَن لا يُصلي يُجرَّم ويُفسَّق ويُنظَر إليه على أنه شيئٌ مُختلِف تماماً، إذن سنُصلي لكم لا لله، أما في البيوت فلن نفعل.
قرأت لعالم فاضل جليل – رحمة الله عليه وطيَّب الله ثراه – عن أنه زار خاله العالم العلّامة الشيخ الداعية صاحب التآليف بالعشرات وصاحب المجلات الإسلامية التي شرَّقت وغرَّبت في أسقاع المعمور الإسلامي، ويذكر هذا الرجل العالم الأديب الجليل – رحمة الله تعالى عليه – وهو يتحدَّث عن العلّامة خاله – أخِ أمه – قائلاً فُجِعت أول ليلة أو أول يوم بالحري، ثم في ثاني يوم وفي ثالث يوم وهكذا مراراً أن خالي الشيخ العلّامة الكذا كذا كذا كذا لا يُصلي الفجر لا هو ولا زوجه ولا أحد من أولاده، رغم أنه كتب موسوعات عن الإسلام، لكن نفس الشيئ يتكرَّر، علم ولحى ومظاهر دينية وجور في القضاء وظلم للناس وتغوّل لحقوقهم وكذب على الحقيقة وانتهازية ووصولية ومصلحية وحزبية وعصبية ومُخالَفة للضمير ومُخالَفة لما يعتقد، فهذا يحدث من بعض الناس، لكن لماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ كما تساءلنا نُريد أن نفهم، فليست العبرة بالزخارف ولا بالألقاب ولا حتى بالمسيرة الطويلة الهشة الفارغة، كمسيرة التدين الطويل، عشرون سنة في الإمامة والعلم والمشيخة، فلا معنى لهذا ولذا يجب أن ننتبه، فهذا شيئ عجيب.
قال أحد الصالحين:
سبيلي لسانٌ يُعرِب لفظه فيا ليتني من وقفة العرض أسلمُ.
فهو يقول سبيلي لسانٌ يُعرِب لفظه أي أنه لفظه مُعرِب مُبين، فهو يقول أنا رجل فصيح منطيق مُبين ومن فرسان البيان، ثم يقول:
وما تنفع الآداب إن لم يكن تُقىً وما ضر ذات تقوى لسانٌ مُعجَمُ.
والمقصود بالآداب آداب اللسان، أي الحذاقة والفصاحة والبلاغة والبيان، يُريد أن يقول أن في يوم القيامة يوم تُبلى السرائر ونُوقَف بين يدي رب العالمين لن ينجو امرؤٌ بفصاحة لسانه، فهو يقول أنا في الدنيا الآن فصيح ولكن يوم القيامة لن تُنجيني فصاحةُ لساني وقوة عارضتي وسرعة بديهتي، فلا يُوجَد مثل هذا الكلام عند الله، ولذا قال فيا ليتني من وقفة العرض أسلمُ، أي يوم أُعرَض على الله بماذا سأُجيب؟ قال:
إذا نصبوا للقولِ قالوا فأحسنوا ولكن حُسن القول خالفه الفعلُ.
فأقوالنا مُعرَبة وأفعالنا ملحونة بل مكسورة ومدخولة ومدغولة ومعيبة ورثة وبالية وزُخرف وزينة كاذبة، لأننا لم نختر وإنما أُريد لنا أن نكون هكذا فكُنا كما أراد الآباءُ والمُدرِّسون والأمهات والمُجتمَع كما أرادوا لنا، ولذلك نتحين الفرصة أن نتخفَّف من هذه الأبهاظ ومن هذه الأوهاق ومن هذه الأحمال والأثقال لنُلقيها عنا وحُقَّ لن، ولذلك نخاف من الحُرية، فنحن نعلم أننا قهريون وأننا طاعويون كما سميتنا، فهناك الطاعة والامتثال والإجماع، والامتثالية هى فضيلةُ الفضائل، ولذلك نعلم أنه إذا أُتيحَت فرصة لهذا الشاب اليافع أولهاته الفتاة بل حتى لهذا الرجل فإنه سيُحطِّمُ كل القيم ولن يلوي على شيئ، سيفعل كل ما اشتهى وكل ما مُنِع!
يتحدَّث فلاسفة الأخلاق النظريون عن درجات الضمير Conscience، وطبعاً كلمة الضمير هى ترجمة غير دقيقة لكلمة Conscience، فلا يُوجَد في المُعجَم العربي معنىً يُعادِل كلمة Conscience، وقد تعني الوجدان، فمن المُمكِن أن نقول الوجدان، ولكن الضمير هو ما يُضمِره الإنسان، أي سرك، لأن فعيل بمعنى مفعول، فهذا هو إذن، أما القوة التي تُمارِس على الإنسان الرقابة أو يُمارِس بها الرقابة على نفسه وهى ملكة في التمييز بين الخير والشر إن استقبلت فعلاً كان لها صوتٌ بالأمر والنهي – افعل ولا تفعل – فهى الضمير، وإن استدبرت فعلاً كان لها حالٌ من الرضا والسرور إن كان فاعلاً صالحاً أو من التأنيب واللوم والتوبة إن كان الفعلُ جانحاً، فهذا هو الضمير، ومن الصعب أن نُحمِّل كلمة الضمير هذا المعنى ولكن هكذا ترجمها العرب المُحدَثون، فهم قالوا الـ Conscience هو الضمير، فلا بأس إذن، وبعضهم قال الوجدان، وعلى كل حال هم يتحدَّثون عن درجات الضمير، وطبعاً ستقولون مبدأ هذا الحديث ومُقدِّمة هذه الحديث وهى مُنتهى الحديث السابق تعني أن كثيرين منا – ليس الجميع بحمد الله ولكن كثيرون على الأقل – لا ضمير لهم، نعم لا ضمير لهم، وقبل أيام حدَّثني أحدهم قائلاً اشترى مني شارٍ أعرفه بالشكل شيئاً وقال لي سأدفع إليك ولكن سأذهب هنا فقط أفك هذه النقود، ثم ذهب ولم يرجع، وكنت أعرف أنه لن يرجع، وهذا أمر عجيب جداً، فأين الاحترام للنفس؟ كيف ينام هذا الرجل؟ أنا أتساءل كيف ينام هذا؟ هل هو يُصلي؟ كيف يُصلي؟ ويُصلي لمَن؟ كيف يُقابِل رب العالمين؟ كيف ينظر في وجه زوجته أو أولاده؟ ألا يقول لنفسه أنت السرّاق أو أنت النصّاب أو أنت الدجّال الكبير أو أنت لا تستحق أن تكون زوجاً لبنت الناس العفيفة الشريفة طبعاً إن لم تكن لصة مثله وإن لم تتعلَّم من أخلاقه السيئة، فهو لا يستحق هذه العفيفة، ألم يقل لنفسه هل يُمكِن أن تكون أباً لهؤلاء؟ أنت تُدمِّرهم، وبلا شك سيتشرَّبون منك لأن المرء لا يُمكِن أن يُداوِم على الزُخرف.
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ.
لابد أن تُعلَم ولابد أن يتلمَّس أولاده وزوجه أنه نصّاب ودجّال وأكّال لحقوق الناس بالباطل، سيفهمون هذا يوماً وفي يومٍ قريب جداً، فلا أدري هل هذا بشر، هذا شيئ غريب يا أخي، وأنا لا أتحدَّث عن المسلم وإنما أتحدَّث عن الإنسان، طبعاً ومَن قصَّر به حاله أن يكون إنساناً سوياً يستحيل يستحيل يستحيل إلى انقطاع النفس أن يكون مسلماً سوياً، فالمسلم درجة راقية، المفروض أن المسلم درجة راقية جداً وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهو ليس فقط إنساناً سوياً مُحترَماً وإنما هو إنسان من نوع خاص، فهو يُؤدي الشهادة بزعمنا كما أدمنا القول على العالمين، لكن شهادة ماذا؟ شهادة اللصوصية والكذب والدجل في هذه الحياة، ما الذي يحصل؟ ولذلك هذا الزُخرفعُمره قصير ولذا يُفتضَح، فهو مفضوح حقاً، فنسأل الله حُسن الستر، ولكن الله لا يسترُ إلا على مَن أخطأ لمُاماً، لا على مَن أدمن الخطأ والخطيئة واستمرئها!
الدرجة الأولى من درجات الضمير أن يترك ما يُعاب وما يُحظّر وأن يأتي ما هو واجبٌ أو مفروض خشية الناس، أي من أجل الناس ورقابةً للناس، وهذا معروف، فهذه أسوأ الدرجات وهى التي يتميَّز بها كثيرٌ من أنواع الحيوان، فالقط يفعل هذا، القط أن رآك لا يأخذ السمك منك، ولكن إن غافلك يأخذ السمكة ويطير بها، فالحيوان يفعل هذا، لذا هذه الدرجة من درجات الضمير التي يتميَّز بها الحيوان إن صح أن تُسمى درجة من درجات الضمير، وخطر هؤلاء أنهم حين يُؤنِسون غفلةً من الآخرين عنهم يُقارِفون المُوبِقات، فهم لا يتحرَّجون ولا يتأثَّمون، هذا أمر عادي بالنسبة لهم، فيزني الواحد منهم ويسرق بل وربما يقتل حتى وقد يقتل مُستأجَراً، ويفتري على الأعراض ويتكلَّم ويترك العزامات والفرائض غير مُتأثِّم، بل ينام ملء جفنيه ويأكل ملء بطنه وكرشه ويفعل أي شيئ، فهذا أمر عادي بالنسبة له لأنه أشبه بالدابة، وروسو Rousseau كان يقول أيها الضمير، أيها الضمير، أيها الضمير الذي لولاك لم أجد ما يُميِّزني من البهائم العجماء، فهو يقول أنا أُعرِّف نفسي هكذا، فالإنسان كائن ذو ضمير، وهذا هو إذن، فالحيوانات لا يُوجَد عندها ضمير، هذا كلام فارغ، واتركوا كلام بعض الصحفيين مِمَن يقولون لك أن البسة عندها هذا، فهذا ليس ضميراً، هذه الدرجة الأدنى وهذه ليست حقيقة الضمير.
أو إذا صاروا إلى مُجتمَعٍ لا يعيب ما يُعاب في مُجتمَعهم فإنهم يندلِعون في المعاصي طبعاً، كأن يأتي أحدهم من الشرق العربي إلى أوروبا، فلا يُوجَد رقيب وهذا أمر حلال عندهم وما إلى ذلك، وبالتالي انتهى كل شيئ، فهو يفعل كل شيئ مُباشَرةً، فحين يأتون من بلادنا تجد أحدهم وهو ابن ستين بل وابن سبعين سنة – هذا شيئ لا يُصدَّق – يأتي إلى هنا ويبدأ ينظر كاللص، فلا يجد أحداً يراه ومن ثم يُمارِس العُهر، وفي بلده يُصلي في الصف الأول وربما بكى، فما هذا؟ ما هذه الشخصيات؟ هل آمن هؤلاء بالله قط؟ هل يعرفون معنى الإيمان أصلاً؟ هل يرقبون الله فيهم؟ هل يُؤمِنون أنه يرقبهم؟ قال الله أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩، وقال الله أيضاً يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، ألم يتل هذه الآيات؟ ألم يتسمَّع إليها يوماً؟ حتى وإن فعل فإنه لا يفقه منها شيئاً، إنسان – والعياذ بالله – مطموس عليه، هو كُتلة صماء من الشهوات والأهواء والنزوات، فعلاً أشبه بالدابة، هذه هى الدابة وهكذا تكون الدواب – دواب الأرض – فعلاً، وهؤلاء هم دواب البشر والعياذ بالله، وهذا شيئ مُقزِّز حقيقةً ومُقرِف.
الدرجة الثانية من درجات الضمير هى احترام القانون سواءٌ أكان قانوناً أخلاقياً أم وضعياً أم غير ذلك في السر والعلن، فهو يحترم القانون لا يُريد أن يخرقه ويقول إذا كان القانون يمنع فأنا سأمتنع، وإذا كان القانون يُتيح فأنا سأُبيح لنفسي ما أتاح لي القانون، ومُعظَم أخيار الناس هكذا، فمُعظَم الأخيار يفعلون ويقولون هذا، ومن هنا يُقال لك هذا الإنسان صالح – Good Man – أو هذا إنسان خيِّر، فمُعظَمهم هكذا على كل حال!
هناك الدرجة الثالثة الرفيعة العالية الشريفة المُنيفة وهى التي لا يستطيعها إلا آحاد البشر وأفراد الناس وأفذاذاهم، هم أولو العزمات التي لا تنثني وأشباه النبيين والمُرسَلين من كبار المُصلِحين والمُفكِّرين الصادقين والمُثقَّفين المُلتزِمين والمُتدينين المُتورِّعين وأصحاب مقامات العرفان، فهم الذين يصدرون عن قناعاتهم وما أداهم إليه اجتهادهم وما انثلجت به صدورهم خالف الناس أو وافقهم، أرضى الناس أم أسخطهم، وافق القانون أم شاقه وحاده، فهم يفعلون هذا ولا يخافون في اللهِ لومةَ لائم ويخشون الله – تبارك وتعالى – ولا يخشون أحداً سواه، وهذه قلة نادرة جداً، لكن هذه هى أعلى درجات الضمير، وأحياناً يُشنَقون ويُقتَلون ويُسجَنون ويُرمَون بالزندقة وبالكذب وبالمُخالَفة وبالشذوذ في الفكر والاجتهاد وإلى آخره ولكنهم أصحاب الضمير الحي، فلا يرقبون إلا الله – تبارك وتعالى – ومِن ثم ضمائرهم، وهم يصدرون عن قناعاتهم، فيقول الواحد منهم هذا ما انتهيت إليه رضيتم أم سخطتم، وهذا أعلى درجات الضمير وهو نادر، لكن بعض الناس يتلوَّن، فإن جلس في قومٍ أسمعهم ما يُحِبون، وإن جلس في آخرين أسمعهم ما يشتهون، وهذا لا يكون عند الله وجيهاً، فضميره مُخرَّق طبعاً، وإلا أين الضمير؟ لماذا يفعل هذا؟ كما تقول العامة احك ضميرك، أي احك وقل بضميرك ما تعتقده أنت، وادخل في نقاش وادخل في تعنيف لا بأس، ولكن قل هذا ضميري وهذا ما أعتقده، ترضون أو تسخطون هذا هو، فأنا رجلٌ جميع ولا أنفصم، وفعلاً الآن بدأت أؤمِن بصحة قول علماء النفس أن مِن الناس فعلاً مَن فُصِمَت شخصياتهم، فيجلس أحدهم هنا في المسجد ويبكي ثم يخرج يحتال على الناس، وهو بالنسبة له أمر عادي، وهو مُتمتِّع بشخصيته، فهو له شخصياتان، الشخصية التي يجلس بها في المسجد شخصية ترقب الإيمان وما إلى ذلك وتعيشه تهاويم وأحلاماً وساعة أو سُويعة في خمسين دقيقة بين يدي إخوانه فقط، وهناك شخصية أُخرى تفعل العكس، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، ومن خبرتي الشخصية البسيطة وجدت بعض الناس يفعل هذا، وأنتم ستقولون نحن وجدنا هذا تماماً، وطبعاً وجدتموه ألف مرة، فبعض الناس يقول قولاً ويُصدِّق أنه فعل وعاش بمُجرَّد أنه قال، وهذا شخص مُختَل، فهو يُحدِّثك عن العفة والشرف والأمانة وأداء الواجب ويبدأ يُلقي عليك مُحاضَرة ويشعر براحة ضمير عجيبة جداً جداً جداً أنه عفيف وشريف ومُؤدٍ لواجبه، ثم إذا انثنى أتى عكوس هذه الأشياء تماماً وأضدادها تماماً على طول الخط دون أن يتأثَّم، ويقول الله يخلف علىّ فأنا على الأقل أعطيت مُحاضَرة طويلة في الشرف والأمانة وتعبت وعرقت أيضاً وهذا مُمتاز، وقد يقول لك أحدهم أنا أفديك بروحي وأنا أُعطيك آخر قرش عندي يا أخي، فأنت أخي في الله وأنت صديقي، أعوذ بالله يا أخي أن أفعل غير هذا،والله لو احتجت وعلمت أنك طلبت غيري لأغضبن منك، ثم هو لا يُعيطك فلساً ولا يسأل عنك بل ويشعر أنه له يداً ومنّةً عليك، ويُعامِلك على أنه صاحب منّة لأنه قال لك أنه سيُعطيك، وهذا شيئ غريب، فما هذه الشخصيات المفصومة؟ يُوجَد اختلال رهيب يا إخواني، لكن هذا عكس الشخصيات الجميعة المُجتمِعة، حيث تُوجَد أفعال لا أقوال، فالواحد مهم يفعل المعروف ثم ينسى، أي يرميه في البحر كما يقولون، فلا يذكر أنه فعله أصلاً لأنه عمله لله – تبارك وتعالى – وينتظر ثوابه من عند الله بلا كلام وبلا منّ وبلا تذكير، فهو شخص جميع.
يُوجَد إذن نسبة لا بأس بها من الناس مُختَلة ومفصومة الشخصية، فاسأل نفسك هكذا بكل بساطة مع أن هذا صعب جداً – أعرف أنه صعب، بحسب علم النفس هذا صعب جداً جداً جداً وأكثر من صعب بل هو شبه مُستحيل لكن اسأل نفسك فقط – هل أنا من هؤلاء الناس الذين أبكي الآن وبعد ساعة أُقارِف المعاصي الكبار أو أُدمِن على الصغار؟ إذا كنت منهم فإذن أنت غير طبيعي، طبعاً غير طبيعي لأن هذا مُستحيل، فكيف تبكي الآن وبعد عشر دقائق تعمل معصية؟ أنت غير طبيعي وهذا أمر غير مُمكِن، فهذا القلب على الأقل لابد أن يكون عنده قوة احتفاظ ليومين أو لثلاثة أيام أو لثلاثة أسابيع أو لثلاثة أشهر مثلاً، وليس لثلاثين دقيقة، فما هذا هلقلب المُثقَّب المُخرَّق؟ كيف انتهى كل شيئ وارتكبت المعصية مُباشَرةً؟ ما قصتك؟
على كل حال هذه تربيتنا الفاسدة وتربيتنا الفاشلة، ولذلك نحن نخاف من الحُرية، نعم نخاف من الحُرية لأن الحُرية تعني ما قد ذكرته لكم تماماً، وهذا ما تُثبِته الوقائع والحالات للأسف الشديد، لكن هناك فئة – أسأل الله أن يجعلني وإياكم وإياكن منها، أي من هذه الفئة ومن مصاديقها – على العكس تماماً، فقد رُبّوا تربية حقيقية وترقّى وتهذَّب فيهم الضمير والوجدان، وقد يقول لي بعض الناس أنت تقول ضمير ووجدان فهل هذا لفظٌ ديني؟ هل هذا اللفظ له مدلول ديني؟ طبعاً يا أخي، فإذا أردت أن تبحث عن الضمير في كتاب الله وسُنة رسوله في تراث المسلمين سوف تجد هذا، وطبعاً في ميدان الاعتقاد كل ما يتعلَّق بسمع الله وببصر الله وبرقابة الله – تبارك وتعالى – وباطلاع الله على خلقه تُوجَد آيات كثيرة جداً جداً جداً، مثل إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى ۩، وهناك آية تقول وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ ۩، وهناك أيضاً آية أُخرى تقول وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، والله هو القائل يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، وهو القائل أيضاً أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ ۩، وقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ۩ وقال أيضاً وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ۩، علماً بأن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ۩ يُوجَد في سورة آل عمران، وقوله وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ۩ في سورة إبراهيم، فضلاً عن وجود آياتٌ كثيرة غير هذه مثل قوله يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، فهذا كله يُورِث المُراقَبة، وقال العارفون والعلماء – رضوان الله تعالى عنهم أجمعين – فيها “المُراقَبةُ علمُ القلب بقرب الرب”، أي علم قلبي هنا، فالواحد يعلم أن الله قريب وهذا ما يجب أن تعلمه، فهو أقرب إليك من نفسك وأقرب إليك من حبل وريدك وأقرب إليك من همك إذا هممت ومن خطورك إذا أخطرت قلبك شيئاً، فهو أقرب – لا إله إلا هو – إليك من ذلك كله، وهذا هو معنى قولهم “المُراقَبةُ علمُ القلب بقرب الرب”، لا إله إلا هو، هذه هى المُراقَبة، والآيات كلها تتحدَّث عن المُراقَبة، فهذا يُوجَد في هذه الآيات وأشكالها.
أين أنتم من حديث النيات؟ دائماً يتحدَّثون عن النية والإخلاص، قال رسول الله إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امْرِئٍ ما نوى، وقد يغزو غازٍ ويُجاهِد مُجاهِد والناس يسمونه مُجاهِداً وقد يقضى في ميدان المعركة الحمراء ويسمونه شهيداً – يعطونه تاج الشهادة – وهو عند الله لا غازٍ ولا شهيد ولا مُجاهِد، هو رجل أراد شيئاً مِن مال، والله يقول له يوم القيامة لك ما أردت، أنت أخذت ما أردت، فليس لك عندي من أجر لأنك ما طلبت وجهي، فهل أنتم تتحدَّثون عن الضمير؟ هذا الضمير، علماً بأنه لا يُوجَد تراث ديني يُمكِن أن ينمو في ظله الضمير الإنساني بوعي ويقظة وحساسية تامة كالتراث الإسلامي والله العظيم، ولكن ما بال أمة المسلمين بالذات هكذا للأسف؟!
في التبايعات – واسألوا أنفسكم واسألوا إخوانكم عن هذا، علماً بأن القصص بالألوف – يُقال ل لك إذا بِعت أو ابتعت شيئاً من نمساوي – مثلاً – نقول أنه كافر غير مسلم فإنك تجد أمانة غير عادية وأمانة غير طبيعية، قبل أسابيع أنا ابتعت وأخي شيئاً وفيها بعض الـ kratzt فقامت السيدة المسؤولة بتصوير هذا رغم أنه كلام فارغ وهو شيئ جمالي وبسيط جداً جداً جداً لكنها قالت هذا موجود وصوَّرته لكي تأتي على بيّنة، فهم يقولون لك كل شيئ، فإذا أخذت سيارة يقولون لك هذه عمرها كذا كذا كذا ومشيت كذا وكذا، فلا يلعب في العدّاد ولا يكذب، ونقول أنه نمساوي كافر غير مسلم، لكن المسلم ما شاء الله عليه، في المسجد يُصلي معك كل جُمعة ولكنه يكذب عليك ويحتال ويُدمِن الكذب لكي يأخذ مالك بالحرام، فما هذا؟ ثم يُصدِّق أنه مُتدين وأنه يُصلي ويرجو رحمة الله، ما هذا؟ أين الضمير يا أخي؟ أين احترام الشخص لنفسه كما قلنا؟ هذا غير موجود، والتراث الإسلامي ملآن به.
إذن يُوجَد حديث النية والإخلاص وحديث الصدق في التراث العرفاني السلوكي وحديث المُشارَطة قبل العمل والمُراقَبة إيان العمل والمُحاسَبة بعد العمل، فهل تُريدون هذه الأمور؟ هذه فلسفة – اقرأوا أبا حامد الغزالي في الإحياء – كاملة في تربية الضمير وتنشئته، وأنا قرأت ما كتب فلاسفة الغرب أو كثيراً منهم فهو لا يعدل ما لدينا في الدقة – والله العظيم – والتصنيف والقدرة حتى على أن يفعل جيداً في الإنسان، فتراثنا عجيب وفيه مُشارَطة قبل ومُراقَبة مع ومُحاسَبة بعد، لكن هكذا يتربّى الضمير،
وحكيت لكم ربما عشرات المرات – تستهويني هذه القصة أو الحكاية لأنني أجدها نادرة في حياتنا فأحزن كما تحزنون – قصة جرير بن عبد الله البجلي الذي بايع الرسول – هذه بيعة – على السمع والطاعة وبايعه على النصح لكل مسلم، علماً بأننا ذكرنا في الخُطبة السابقة، فهذه بيعة والنبي قال له أعطني صفقة يمينك، أي بيعتك، اصفُق بيدك أن تنصح لكل مسلم ولو على نفسك، فأراد أن يشتري يوماً فرسة فسأل صاحبها بكم تُريد؟ فقال بأربعمائة، فقال له هذه تسوى أكثر، فهل رأيتم مثل هذا؟ هل فعل هذا واحدٌ منا؟ إن شاء الله فعلها بعضنا على الأقل، فأنت قد تستعمل عاملاً عندك ولكنك بالضمير تقول له يا أخي الذي اتفقنا عليه وأنت راضٍ به أنا أرى أنه دون حقك، فحقك حتى أرتاح أكثر من عشرة، لذا خُذ اثني عشر، يجب أن تفعل هذا لأن هذا هو الإيمان وهذه هى التقوى، هذا ليس مُجرَّد كلام، فافعل هذا حتى ولو كلَّفك ألفين زيادة، هذه ليست مُشكِلة ولكنك سوف تحفظ إيمانك وتُنمّي إيمانك ورجوليتك وتقواك لله وصدقك مع الله واحترامك لنفسك، فهكذا قال له هذا الفرس يسوى أكثر حتى بلغ به الضعف وقال ثمانمائة، فالرجل استغرب ولم يكد يفهم، فهذا لم يحصل في التاريخ – في تاريخ العرب في الجاهلية – قبل ذلك، فما هذا؟ أنا أقول لك أنني أُريد أن أبيع فرسي بأربعمائة وأنت تقول لي أنه يسوى أكثر؟ ليست خمسمائة أو ستمائة وإنما تقول أن هذا الفرس يسوى ثمانمائة، فلماذا يا جرير تقول هذا؟ هل هذا الجرير مُخبَّل؟ ليس مُخبَّلاً وإنما هو صحابي جليل، فجريرٌ جليل طبعاً، هذا الجرير جليلٌ جداً ولذا قال لا، لكن بايعت الرسول – صلى الله عليه وسلم – على النصح لكل مسلم، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، فأين نحن يا أخي من هذا؟
في الحديث المُخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال صلى الله عليه وسلم ابتاع رجلٌ من رجلٍ عقاراً – والعقار هى الأرض وما يُلحَق بها، إذا وُجِدَت مرافق وتمديدات مياه وجنينة مثلاً أو أي شيئ فإن كل هذا يُسمى عقاراً في اللغة الفُصحى – فوجد فيها جرةً من ذهب، أي كنز – Schatz أو Treasure – فالجرة ليس فيها القليل من الذهب بل الكثير، وكان من المُمكِن أن يقول هذا الرجل الذي هو في اختبار الآن سوف أُعيده هذا الذهب بعد قليل لكنه لم يفعل هذا – هذا اختبار الضمير هنا واختبار الصدق والإيمان والنزاهة والشرف والأمانة – لأنه مُباشَرةً أخذها وعاد إلى صاحب الأرض وقال يا أخي أنا إنما ابتعت منك الأرض ولم ابتع هذا فخُذ ذهبك، والآخر كان عفيفاً فقال يا أخي أنا بعتك الأرض بما فيها وأنا لا أعلم بهذا الكنز فهو لك، فاختصما وما أحلى هذه الخصومة، كثَّر الله مثل هذه الخصومات في حياتنا، فهذه الخصومات معدومة لدينا، لكن خصومات النصب والدجل موجودة بكثرة، فهما اختصما ويا ما أُحيلا هذا الاختصام، يا ما أُحيلاه حقاً، فاختصما فاحتكما إلى حاكم – أي إلى قاضٍ، فالحاكم هو القاضي – وكان مُوفَّقاً مُسدَّداً فقال لهما ألكما ولدٌ؟ فقال أحدهما لي غُلام وقال الآخر لي جارية، فقال انكحا الغُلام الجارية وأنفقا على أنفسهما من هذا المال وتصدَّقا، وهذا رجل عجيب وحاكم رشيد، فهو قال أن هذا المال سوف يكون من نصيب الابن والابنة، وهما يُنفِقان منه وتصدَّقا أيضاً لوجه الله تبارك وتعالى، وهذا شيئ غريب ولكنه الضمير، فحتى لو كانت جرة ذهب لا يُمكِن أن يأخذهما أي أحد بدون وجه حق، ولذا قال أحدهما هذه لا تسوغ لي وذاك قال لم أكن أعلم بها وأنا بعتك الأرض بما فيها فلماذا أطمع؟
لدينا البخاري رضوان الله تعالى عليه، والإمام البخاري هو صاحب الصحيح ومع ذلك يُقال لك لماذا البخاري؟ البخاري إلى اليوم في خرتنك يُزار قبره، وإلى اليوم تأخذ شيئاً من ترابه فيفوح منه المسك، يضعون تراباً جديداً يُمسَّك وحده تلقائياً، فالبخاري – والله – آية من آيات الله، وقد تواعد مع رجل على أن يُعطيه بضاعة بمائة ألف، فأتاه في اليوم الثاني أو التالي رجلٌ يُعطيه أربعة أضعاف، فقال لا، لقد سبقت مني كلمة إلى أخي ولن أعود، أي أنه لن يرجع في وعده، وهذه هى الرجولة، تذهب ثلاثمائة ألف إلى الجحيم، فأنا لا أُريدها وإنما أُريد رجولتي، أنا إنسان مُحترَم ولا أعود في كلمتي، وهذه تربية عجيبة، وعلى كل حال مَن ييأس مِن نفسه – كما قلت لكم – ويقول أنا كبرت على مثل هذه الأشياء وخشَّبت عليه أن يتعلَّم، وهناك كثير من الناس الذين خشَّبوا لكنهم على الأقل لا يحرمون أولادهم من أن يُسمِعوا هذه الأشياء، فاقرأ وتعلَّم كثيراً وأسمِع أولادك – أبناءك وبناتك – هذه القصص والحكايا والأحاديث والآيات والأشعار، نمّ فيهم الضمير وعلِّمهم أن يكونوا شرفاء صادقين مُخلِصين لله تبارك وتعالى، واتركهم يختاروا سبيلهم بحُرية، فإياك والزُخرف.
أنا أقول لكم شيئاً عن نفسي من باب فقط التذكير، على أساس أنني شيخ وأخطب في الناس قلت لزوجي مائة مرة إياكِ أن تقولي لإحدى بناتي تحجَّبي، لكن كيف يا شيخ تقول هذا؟ قلت لها أنا لا أُريد حجاباً من أجل الناس، هكذا أنا لست كذلك، فأنا لا أُريد أن أكذب على نفسي وإنما أُريد من البنت أن تتحجَّب يوم تقتنع بالحجاب، فقالت فإن لم تقتنع؟ قلت لا بأس إلى أن تقتنع، فهذا دين، لماذا أُريد كذباً؟ فهى طبعاً ستضع الحجاب الكاذب ثم تخونه، وأنا هنا علَّمت وقلت مائة مرة أننا نخون ما لا نُؤمِن به، فكل شيئ لا نُؤمِن به نحن مُستعَدون أن نخونه، أليس كذلك؟ لكن لو وضعت الحجاب عن إيمان وخيار شخصي – هى اختارت ذلك عن قناعة – ستحترم هذا بشرف، أليس كذلك؟ هو هذا ولذلك انتبهوا وكونوا كذلك بكل بساطة، لا تُراقِبوا الناس، ووالله العظيم أنا لا يُمكِن أن أحكم على مسلم لأن ابنته غير مُحجَّبة، قد تكون غير مُحجَّبة وهى أعف من مائة مُحجَّبة، وهناك وقائع تُؤكِّد هذا، وأنا بعيني رأسي رأيت أشياء مُشينة جداً، والحمد لله قليلة – بإذن الله – طبعاً لأن مُعظَم المُحجَّبات عفائف وشريفات ولكن بعضهن لسن كذلك، مثلما هو الحال مع مُعظَم المُتدينين أيضاً، فالمُعظَم أعفاء شرفاء لكن بعضهم ليس كذلك، فهذا موجود وهذا موجود، ولكن القناعة أمر هام،فالدين لابد أن يكون خياراً، والإمام الشافعي كان يقول إذا بلغ المسلم الحُلم – الولد أو البنت – لابد أن يختار الإسلام، فقبل ذلك هو مسلم هو تبعاً لوالديه، أما الآن فلا ولذا لابد أن يختار الإسلام اختياراً واعياً وأن يقول نعم أنا أُريد أن أبقى مسلماً وأن أحتفظ بفطرة الإسلام، فأنا مُقتنِع بهذا الدين ومُقتنِع بهذه العقائد، وهكذا كان الشافعي، وأنا مع رأي إمامي حقيقةً، فهذا الرأي مطلوب ومطلوب تدعيمه، فلا ينبغي أن يتعلَّق الأمر بالتقليد، لكن نحن نُقلِّد في الدين أيضاً، فلأن أباه مسلم هو أصبح مسلماً، وهذا الكلام ليس له أي معنى عند الله، فلابد أن تختار دينك وحدك، قال الله كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، فلابد أن تكسب هذا هى، لا أن تُكسَب ولا أن تُحمَل عليه، ولذلك تربية القهر وتربية الإذلال والإخضاع هى التي جعلتنا نخاف من الحُرية، وهى التي جعلت الأشياء لا دلالة لها في حياتنا، فكلها زخارف، الصداقة زخارف والدين زخارف والزوجية زخارف والعلم زخارف والمشيخة زخارف والحجاب زخارف، زخارف – والعياذ بالله – فقط، هذا هو السبب إذن.
في الحديث أيضاً الذي أخرجه البخاري ومسلم – وهو حديثٌ جليل وعجيب – عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أراد أحدُ رجال بني إسرائيل أن يستلف من رجلٍ ألف دينار – هذا مبلغ كبير جداً جداً، بلغة اليوم هذا ربما يكون قريباً من مائة ألف يورو أو مليون، فألف دينار ذهبي كان شيئاً كبيراً جداً جداً جداً وثروة طائلة قديماً -، والرجل الآخر كان كريماً وطيباً وأراد أن يستوثق بنفسه ولحقه، قال فائنتي بالشهداء ليشهدوا، فقال كفى بالله شهيداً، أي لا يُوجَد شهداء، كفى بالله – وهذه كلمة عظيمة – شهيداً، فماذا يقول هذا الذي أشهد الله ثم كذب بعد ذلك؟ الله سيقول له تعال فأنت أشهدتني ثم كذبت، بماذا سيُجيب ربه؟ وماذا سيظن الله فاعلاً به؟ كيف تحلف بإسمي وتقول والله العظيم الذي لا إله إلا هو؟ الله سيقول له كذبت، فأنت حلفت وأنت كاذب وكذبت آثماً، فبماذا ستُجيب؟ فهِّمني لأنني أُريد أن أفهم، أين الإيمان؟ لا أدري كيف هذا، وعلى كل حال قال في الحديث الجليل كفى بالله شهيداً، فقال ائتني بالكفيل، قال كفى بالله كفيلاً، فقال صدقت، خُذ الألف الدينار، وأعطاه ألف دينار وضرب له أجلاً مُسمى، قال له في يوم كذا كذا كذا تُعيد إلىّ مالي، فاتفقا وركب المركب وقضى حاجته بالمال، ثم أنه تحصَّل على المال – بحمد الله تبارك وتعالى – بعد ذلك، وجعل يرقب المراكب، فلم ير مركباً تذهب به إلى الرجل، لم يجد أي مركب إلى تلك الناحية فعلاً، فاهتم الرجل جداً، لماذا؟ حلَّ الأجل، فغداً أو بعد غد سوف يأتي الأجل، وهو يُريد أن يلتزم الأجل، فهذا هو إذن، لكن انظروا كيف نتادين – ما شاء الله علينا – الآن، الواحد منا هو الذي ينُظِر نفسه ويقول لك يا أخي نظرة إلى ميسرة، فكيف هذا؟ هل أنت يا أخي مَن تُنظِر نفسك؟ أنا صاحب الدين وأنا الذي أنظرك إن أردت ولست أنت، وقد حدَّثني أحد إخواني قائلاً جاءني أحدهم واستقرضني وهو يحفظ كتاب الله – الذي استقرض هذا يحفظ كتاب الله ويُصلي في المحاريب في الناس – كله، واستقرضني مبلغاً طائلاً – ليس مائة أو مائتين يورو وإنما طلب مبلغاً يقرب من ألف يورو أو هو ألف يورو – على أجل أيضاً مُسمى، نفترض بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، ثم قال مُستتلياً مرت الثلاثة والأربعة والخمسة والسنة والسنتان ولم يُرجِع شيئاً، والعجيب أنه يلتقي بي وبكل بلادة وصفاقة دون أن يتحدَّث في الموضوع، وهذه فعلاً صفاقة، ولذا أنا قلت منا مَن ليس مُحترَماً، علماً بأنني حين قلت نحن لسنا مُحترَمين كنت لا أعني الكل طبعاً، وإنما أعني أن فينا كثيرون ليسوا مُحترَمين، فمثل هذا الشخص ليس مُحترَماً ولا يعرف معنى للاحترام أصلاً، لا يعرف معنى أن يحترم نفسه ويحترم الآخرين، وقال لي مُحدِّثي الصفاقة في أنني ألتقيه ويلتقيني عشرات المرات ويأتي يُعانِقني ويقول يا أخي ادع لنا، كيف حالك؟ ولا يتكلَّم في القضية، فما هذا؟ لا يقول أبداً أنا أعلم أن لك علىّ دين كذا كذا كذا فبارك الله فيك أنظرني لأنني مُعثِر وعندي ظروف خاصة وما إلى ذلك، وإلى اليوم – علماً بأن الأخ الذي أقرضه يجلس هنا أمامي – لم يفعل، فذهب المال طبعاً، هو فقط يُسلِّم عليه ويقول له يا أخي ادع لي، فكيف هذا؟ هل تلعبون بالدين؟ ما هذا؟ لا أفهم كيف يفعل هذا وهو يُصلي في المحاريب؟ فيجب أن ننتبه إذن لأن الذي يحصل في هذه الأمة هو شيئ غريب، والله العظيم شيئ غريب جداً، وعلى كل حال في الحديث الجليل يُريد الرجل أن يُعيد المال في نفس اليوم – لأنه أعطى كلمة رجل، فالرجل يُربَط من لسانه، وهذه كلمة أنا قلتها فلابد أن أفعل – لكنه لم يجد مركباً فأخذ خشبة فنشرها ونقَّرها – عمل فيها مثل حُفرة – ووضع فيها الألف الدينار وصحيفة منه إلى أخيه تُفيد بأن يا أخي أنا مُتأسِّف، فأنا أعتذر لأنني لم أستطع أن آتيك لأنني لم أجد مركباً وإلى آخره وشكر الله سعيكم، ثم زجَّجها وغطَّاها وقيَّرها ودفعها في الماء وخاطب ربه قائلاً اللهم إنك تعلم أن فلاناً قد أسلفني ألف دينار وقد حان الأجل وقد جاهدت نفسي أو جهدت نفسي أن أجد مركباً تُبلِّغني أخي فلم أجد، وقد استشهدتُك وأنت كفيلي فأد عني فإني قد استودعتكها، يا سلام عليه، هذا من بني إسرائيل، وهو أشرف من كثيرين اليوم من أمة محمد، هذا إسرائيلي – أي من بني إسرائيل – لكنه أشرف بكثير من ملايين الملايين، فهو دفعها في البحر ثقة بالله، انظروا إلى الإيمان واليقين لأن يعرف أن هناك رباً وإلهاً يتحكَّم في كل شيئ، وطبعاً هو لا يتحكَّم في الأمواج وفي الذرات وفي المياه فحسب بل في أشياء أقل من هذا، فهو يتحكَّم في ما لا يخطر على بال بشر، ولذا هو دفعها في الماء بثقة، فخرج الرجل الآخر في اليوم أو في الأجل المُحدَّد ينتظر أخاه في مركب، فلم ير مركباً تأتي من الجهة الأخرى، ولكنه رأى خشبة طافية فأخذها لأهله حطباً – علماً بأن هذا الحديث في الصحيحين في البخاري ومسلم، هذا ليس من الأقاصيص والحكايا وإنما هو حديث عن الرسول، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي حدَّث بهذا – فنشرها فإذا الألف الدينار والصحيفة، وانظروا الآن إلى التقوى والورع، فبعد مُدة تيسَّر مركب للرجل فأتى بألف دينار أُخرى لأنه لا يعلم هل أُوديَ عنه أو لم يُؤد عنه، وحقوق العباد لا تضيع – يا سلام – لذا أتى إلى أخيه وقال يا أخي سامحني فإني قد جهدت نفسي أن أجد مركباً فلم أجد وآلى أخره، وهذا يوم وجدت المركب وقد أتيتك بالألف الدينار فاجعلني في حِل، فقال يا أخي إلم تبعث إلىّ بشيئ؟ قال أقول لك لم أجد مركباً وتقول لي ألم تبعث إلىّ بشيئ؟ قال قد أدَّى الله عنك لأن بلغتني الخشبة وفيها الألف الدينار، أي أن هذا الرجل الآخر هو أمين أيضاً، فهو أمين لأنه لم يدس الألف دينار لكي يأخذ غيرها، لم يفعل هذا أبداً لأن هذه الناس تُريد الآخرة، هذه ناس تعيش في الدنيا ولكن بقلوب أهل الآخرة، أي بأبدان دنيوية وقلوب أُخروية عُلوية صمدانية، فاللهم اجعلنا منهم.
هذا هو الدين وهذا جمال الدين، هذا يُعين بعضه على بعض فيزيد وينمو، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أهمية الضمير، علماً بأنني لا أُحِب أن أخوض في مسائل فلسفية وأخلاقية ونظرية، مثل تعريف الضمير وبنية -Structure – الضمير وتكوين الضمير والكثير جداً جداً جداً من الأشياء التي مثل هذه، فهذه الأمور فيها اختلاف كبير جداً جداً جداً، بغض النظر أكان يُعزىتكوينه إلى عوامل بيولوجية أو نفسانية أو اجتماعية، فمرة يتحدَّثون عن فرويد Freud ومرة عن دوركايم Durkheim ومرة عن هربرت سبنسر Herbert Spencer، فهناك نظريات كثيرة ومُعقَّدة لا نحتاجها الآن ولكن نحن نُقِر بشيئٍ واحد وهو أن جذر الضمير وجرثومته وأصله هو شيئٌ إلهي في النفس الإنسانية، فلا يُمكِن للتحليل النفسي ولا لعلم النفس العادي ولا لعلم الاجتماع أو التطوّري أن يتجاوز هذا المُعطى، وقد وجد أن كل النقود – أي الانتقادات – التي وُجِّهَت إلى النظريات المُختلِفة في تكوين الضمير يُمكِن أن تُعزى إلى هذه النُقطة، قال تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، أما بالنسبة للمُجتمَع فالأمر مٌختلِف، هذا المُجتمَع يُعلِّمك أن هذا واجب وهذا حرام، والمُجتمَع الآخر يقول لك هذا حرام وهذا واجب، لكن لا هذا المُجتمَع ولا ذلك المُجتمَع يستطيع أو له صلوحية او إمكانية أو لياقة أن يخلق فيك ويُوجِد فيك فكرة الواجب، فليس هذا الشيئ الواجب، أي فكرة الواجب من حيث أتى ومن حيث هى، فكرة أن هناك الكثير من الأشياء الواجبة، فهذه مسألة إلهية، ولذلك العقليون وفي مُقدِّمهم إيمانويل كانط Immanuel Kant قالوا هذا، فكانط Kant كان يقول الأخلاق والوجدان أو الضمير مسألة مُعطاة قَبلياً – Vorher – وهى لا تُؤخَذ لا من تجربة ولا من تربية، فهى موجودة فينا من قبل، أي أنها إلهية، وهذا هو الصحيح، ولكن بعد ذلك تختلف المُجتمَعات في تشكيل وجدان الإنسان، فاليوم – مثلاً – لو افترضنا أن أتى إنسان وعامل زوجه بغِلظة وقساوة ووحشية فإن ضميره سوف يتحرَّك لأن هذا لا يجوز، لكن قبل مائتي سنة في مُجتمَع عربي كان هذا الشيئ يُعَد عادياً، فالمرأة كانت تُضرَب بالنعال أيضاً ولم يكن لها أي قيمة، فهذا شيئ عادي ولا يتحرَّك له الضمير، وقبل مائة سنة كان يُوجَد استعباد الناس، فكان بإمكانك أن تذهب إلى السوق وأن تشتري إنساناً عبداً لك، ويُهان هذا المسكين، وهو على الأقل يعيش حياة عبد، لكن هذا كان أمراً عادياً، فأنت تشتريه بل بالعكس تشعر بكامل الطمأنينة والرضا، لكن اليوم لو حصل هذا سوف تشعر بأنك ارتكبت جريمة عُظمى، فكيف تستعبد حُراً؟ هذا انتهى، والبشرية ترقَّت عن هذا المُستوى الآن، فلا تُوجَد عبودية لأن هذا الشيئ انتهى، فإذن الضمير يتطوَّر من حقبة إلى حقبة ومن عصر إلى عصر ومن مُجتمَع إلى مُجتمَع، بل يتطوَّر ضمير الشخص الواحد من مرحلة في حياته إلى مراحل أُخرى، وكثيراً ما كان يتطوَّر ضمير الشخص الواحد حيث يأتي عليه حينٌ من الدهر فيتأثَّم من أشياء مُعيَّنة ثم يتبلَّد بعد ذلك لأنه لم يحط ضميره بالتهذيب والترقية والتربية الدائمة ولم يأخذ بأسباب التذكير – قال الله وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ۩ وما نحن فيه شيئٌ من التذكير – بل ويعيش مع سفلة الناس ويتعاطى القبائح – والعياذ بالله – والقذورات، يتموَّت – بلغة الطب يتموَّت – ضميره قليلاً قليلاً قليلاً، وربما في النهاية يموت موتاً كاملاً – والعياذ بالله – فترى هذا الشخص نفسه بعد خمس سنين أو ثلاث سنين أو عشر سنين أو ثلاثين سنة يأتي الأشياء التي كان يُحذِّر الناس منها ويُجرِّمها ويُثرِّب على فاعلها، يأتيها بكل سماحة وبكل رضا نفس وطمأنينة، فهذا هو إذن في حالة الشخص الواحد، وهذا كله يعرض للضمير ولابد أن نعترف به، فما الحل إذن؟
الحل – ونختم بهذا – في التربية العقلية، فالضمير يتبع العقل، وهذا ما قاله بعض الفلاسفة مثل لالاند Lalande في القاموس الفلسفي وقبل لالاند Lalande بسعمائة سنة كان يُوجَد اللاهوتي الكاثوليكي الكبير جداً جداً توماس الأكويني Thomas Aquinas الذي قال الضمير هو بمعنى ما حُكم العقل، ولذلك الآن بعض المسلمين قد يقتل مسلماً ولا يتأثَّم بل بالعكس يرجو ثواب ذلك عند الله تبارك وتعالى، فلماذا إذن؟ لأنه أُفهِمَ أن قتل هذا النوع من المسلمين قُربة إلى الله، ولذا يفعل هذا وهو سعيد جداً ويقول الحمد لله فكاتب الحسنات الآن لا يجد الوقت ليكتب لي الحسنات بقتل هؤلاء المسلمين الكفّار الأوغاد، فهو يفعل هذا مُقتنِعاً أن قتلهم حلال وواجب شرعي حفاظاً على الدين وذباً عن حياض المسلمين، فإذا ما تربّى عقله وعرف الأحكام وأخذها من مآخذها وأدركها على وجهها ومن أهلها علم أن ما كان يأتيه – والعياذ بالله – هو جريمة من أبشع وأشنع الجرائم يأكله الندم والحسرة والخوف من عظمة الله على ما جنت يداه، أليس كذلك؟ ولذلك انتبهوا ولا يُعوِّل أحدكم على الضمير وحده ويقول لي أنا ضميري مرتاح، فليذهب ضميرك إلى حيث أراد، ما معنى أن تقول لي أنا ضميري مرتاح؟ اتبع الحُكم الشرعي، تعلَّم دينك حقاً وتعلَّم مبادئ السلوك حقاً وتثقَّف، ولذلك تقريباً وجدت مُعظَم الباحثين مُجمِعون على أن الإنسان كلما علا كعبه في العلم والأدب والثقافة وكان في الأصل مُتديناً كلما رهف ضميره ودق وأصبح حساساً وشفافاً وحكماً عدلاً، وكلما كان بدائياً همجياً – أي كالهمج البدائيين – كلما كان ضميره أكثر غِلظة وقساوة، فلا يكاد يستشعر المعاني النبيلة إلا فقط في دائرة نفسه وأهله الأدنين، أما الآخرون فكلهم مُباحٌ قتلهم واغتصابهم وسرقتهم وهتكهم وإلى آخره، لأنه همجي بربري، لكن المسلم لما يعلو يُصبِح ينظر نظرة إنسانية، فلابد أن يتعلَّم هذا إذن، ولذلك أُريد أن أُدلِّل لكم على هذا لأنه خطير جداً بالحديث الصحيح المُخرَّج في الصحيحين من رواية الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – وهو حديث الرجل الذي أمَّره النبي على سرية ثم غضب – علماً بأننا ذكرناه ربما في الخُطبة السابقة – الرجل عليهم وأمرهم أن يُوقِدوا ناراً وأن يدخلوا فيها، فتراجع هؤلاء الصحابة وقالوا كيف ندخل النار؟ نحن اتبعنا الرسول لكي ننجو منها ونفر منها، فكيف ندخلها الآن؟ فبين هم كذلك يختلفون ويتناقشون إذ طفئت النار فذُكِر ذلك إلى الرسول فقال – وانتبهوا الآن لأننا سنقرأ الحديث اليوم من زاوية جديدة – لو دخلوها ما خرجوا منها، وهنا يُوجَد سؤال خطير جداً جداً جداً جداً، لأن هؤلاء المساكين لو دخلوا هذه النار كانوا سيفعلون هذا ويدخلون هذه النار اللاهبة التي ستُذيبهم وتتركهم عظماً بلا لحم طاعةً لك لأنك أمرتهم بطاعة الأمير، فأنت أمرتهم بطاعة الأمير وبالتالي كيف يُقال لو دخلوها ما خرجوا منها؟ الآن انتبهوا لأن هذا أخطر ما في الحديث، فالنبي يقول هذا ليس عُذراً وسيدخلون جهنم بهذه الفعلة، لماذا؟ لأنه سوف يقول لك حتى طاعتي واتباعي لابد أن يكون محكوماً بقواعد عقلية وشرعية نقلية، وإلا أنت تستطيع أن تأتي بآية واحدة أو حديث واحد وتأخذه هكذا على ظاهره مُطلَقاً عاماً وتُخرِّب الدنيا بما فيها، وسوف تقول لي الله قال كذا وكذا، ومن ثم يجب أن ننتبه، فلابد أن يكون لك عقل وأن يكون لك قوة ترجيح ومُحاكَمة وأن تعرف أن ما مِن شيئ إلا تقريباً يدخله تقييد أو تخصيص من وجهٍ أو من وجوه، وإنما الطاعةُ في المعروف، فهذا ليس رب يقول لك ادخل النار، فلو الله قال لي ادخل النار سوف أدخلها مُباشَرةً، والله سيقول هذا لفئات من الناس يوم القيامة – أي ادخلوا النار – فإن دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً، وإن أبوا أُدخِلوها على الرغم منهم، سيحدث هذا لكن هذا رب العالمين، هذا لا مُعقِّب لحُكمه ولا راد لأمره، ولكن لا يُمكِن أن يُقبَل هذا من بشر مثلي ومثلك نسبي.
الخوارج ألم تكن لهم نوايا حسنة في طاعة الله؟ بلى، هم كانوا يُريدون طاعة الله، لكن بإرادتهم طاعة الله قتلوا الإمام عليّاً – ولكم أن تتخيَّلوا هذا – وكفَّروا كثيراً من الصحابة وقتلوا كثيراً من الصحابة وأبناء الصحابة وأزواج الصحابة، وكانوا يُصلون الليل والنهار وفي وجوههم مثل الأخاديد من البكاء – يا ما شاء الله – لكن النبي قال كلابُ جهنم، أي على جهنم من أقصر طريق، فالله ليس بحاجة لا إلى صلاتهم ولا إلى صومهم ولا إلى بكائهم الغبي الأحمق، ومن ثم لابد أن يُفهَم الدين بحذق وبإنسانية وبعقل وبوعي، فلا تقل لي أنا أفتاني – والله – فلان، كيف تقول أفتاك في هذا؟ أنت وهو في جهنم إذا تعلَّق الأمر بأعراض الناس ودماء الناس وأموال الناس، ولذلك أنا أُحذِّر مرة أُخرى أيضاً وأقول لا تكذب على العلماء وطلّاب العلم وتأخذ منهم ما تُريد على أنه قضاء وأنت إنما أخذته بإسم فُتية أو فتوى مُزوَّرة مغشوشة، لكن كيف يحدث هذا؟ يأتيك بعض الناس ويقول لك يا مولانا حصل بيني وبين فلان كذا وكذا وكذا وكيت وكيت وكيت فهل يجوز لي كذا كذا؟ وطبعاً نحن أهل العلم نقول له في حدود ما ذكرت يجوز لك أو لا يجوز، في حدود ما ذكرت فقط، فكونك ذكرت الحق أو الباطل هذه ستكون مُشكِلتك أنت وليست مُشكِلتي أنت، لكنه يذهب ويطير بها ويقول قال لي الشيخ فلان أن هذا الشيئ هو حقي، فعلى مَن تضحك يا أخي؟ أول شيئ هو أفتاك ولم يقض لك، فهذا الشيخ ليس قاضياً، هو رجل يُفتي بفتوى شرعية، والفتوى عامة أما القضاء فخاص ولذا يُنزَّل على واقعة مُشخَّصة، ومن ثم يجب أن تحفظوا هذا الكلام جيداً وأن تنتبهوا إليه، ففرِّقوا بين الفتوى والقضاء، لا تستطيع أن تتغوَّل حقوق الناس ولا تحكم نفسك بما تُريد بناءاً على فتوى تسمعها مني أو من غيري، هذا لا يعني شيئاً عند الله – تبارك وتعالى – بالمرة، خُذ هذا من القاضي، أنا أُفضِّل أن تذهب حتى إلى القاضي النمساوي، ما رأيك؟ لأني رأيت من دقتهم وتحريهم الشيئ العجب وأُقسِم بالله على هذا، أتمنى أن يكون واحد من مائة منه عند قُضاة المسلمين، فهذا شيئٌ عجب ومُذهِل، تُوجَد دقة غير عادية ولا يضيع عليهم أي شيئ وعندهم طول نفس، ففي قضية تافهة بخمسمائة يورو يجلس سبع جلسات ويأتي في كل جلسة لمدة أربع ساعات ويأتي بالشهود، وكل شيئ مُوثَّق عنده، حيث يُوجَد ذكاء عجيب ودراسة وتمرَس لكي لا يقعوا في الظلم، لكن هذا كله نشطب عليه ونسأل عدنان ثم يقول أحدنا عدنان قال لي خُذ فأخذت كل شيئ لأن الدين يُريد هذا، لكن نحن نقول له تكذب على مَن؟ الدين ليس كذلك وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالدين ضميرٌ حي صاحٍ ياقظ، وقد
تلونا اليوم في مُقدِّم الخُطبة قول الله بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ۩، سيُبعَث يوم القيامة وسيقول له رب العالمين – لا إله إلا هو – وأسرع الحاسبين أي عبدي – يا عبد السوء يا فاسق يا فاجر – كنت تعلم في داخلة نفسك أنك مُبطِل وقد خدعت الشيخ بفتواك فلم استحللت مال أخيك؟ خُذوه على جهنم، فلا يُوجَد لعب مع الله وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فإما أن نتديّن وإما ألا نتديّن، أما كل هذا الزُخرف الذي يُسمى بإسم الدين والمشيخة فنحن – والله – لا نحتاجه، أنا لا أُباليه ولا يُساوي عندي شيئاً، لأن لابد أن نُبالي تقوى الله، ألا إن التقوى ها هنا، ها هنا، ها هنا (وأشار إلى صدره)، أي تقوى الله حقاً، فهذه بينك وبين الله تبارك وتعالى.
نسأل الله بإسمائه الحُسنى وصفاته العُلا وكلماته التامة أن يُفيض علينا من معارفه الإلهية وأن يُسبِغ علينا من نعمه الوهبانية وأن يُعرِّفنا به تعريف العارفين ويدلنا عليه دلالة الصادقين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القيل وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
قبل بضعة يسيرة أحد الإخوة الأتراك رفع رأسنا، فهؤلاء الأتراك رفعوا رؤوسنا، ما شاء الله على حكومتهم وعلى شعبهم، زادهم الله من الخير ووال عليهم النعم، فأحد الإخوة الأتراك هنا في فيينا كان يعمل في الزبالة مع البلدية ووجد ضمن القمامة شيئاً هكذا ففتَّشه فإذا هو خمسون ألف يورو، فبادر مُباشَرةً إلى الشُرطة وقال تفضَّلوا هذا مال صاحبه، فقالوا يا أخي مَن أنت؟ لماذا تفعل هذا؟ قال هذا ليس مالي، فقالوا ماذا تعمل؟ قال أعمل زبّالاً، الله أكبر يا أخي، ونحن لا نعرفه والله العظيم، رضيَ الله عنه وأرضاه وهنّأه الله بما أتاه وجعل الجنة مُستقَره ومأواه، وكثَّر الله من أمثال هذا الزبال التقي الورع الأشرف من بعض رؤوس الضخمة في هذه الأمة، فهذا شيئ عجيب، هذه خمسون ألف يورو وهو زبّال مسكين وبالتالي هو يحتاجها، لكنه قال هذا ليس مالي، هذه خمسون ألف يورو لكنها ليست مالي، ولو كانت خمسون مليون يورو لن آخذها، فردَّها مُباشَرةً، وهذا يرفع رأس الجالية، فهذا أحسن درس يُعلِّم مَن هو المسلم وما هو المسلم – أي ماهية المسلم – هنا، وقبله ربما بشهر أو بأقل – علماً بأنني تابعت هذا بطريق التقدير الإلهي على فضائية دبي – كان يُوجَد مُوظَّف سوداني كبير، أي شيخ كبير ولكن – سبحان الله العظيم – سيماؤه سيماء الصالحين، هذا الرجل الصالح السوداني كان يعمل مُوظَّفاً في الإمارات، وذهب إلى البنك لكي يأخذ خمسمائة درهم كما يفعل كل أول شهر، وهذا المسكين لا يأتي الشهر حتى تكون انتهت، لكنه يتبلَّغ بها هو وعجوزه، فإذا به يُفاجأ بالمُوظَّف وهو يقول له أنت عندك خمسة مليون وخمسمائة ألف، فقال كيف يُوجَد لدي خمسة مليون؟ أنا عندي خمسمائة درهم فقط، فقالوا بل عندك خمسة مليون وهذا موجود هنا، فأتى مدير البنك وقال نعم هذا موجود، فهذا حقك وهذا مالك، فقال ليس حقي وليس مالي ولا أُريده، أجُننتم؟ قالوا يا أخي أنت الذي جُننت لأن هذا مالك، فقال ليس مالي، أنا رجل مُوظَّف بسيط وعندي خمسمائة درهم فقط، لا يُمكِن أن أُدخِل ذمتي ما ليس لي، المُهِم هو أنه اختلف معهم وذهب إلى الشُرطة وقال قضيتي كذا كذا كذا كذا، ويبدو أن هناك خطأً مُعيَّناً في الحاسوب، وقال أنا لا أستحق في حسابي إلا خمسمائة، فمن أين أتت الخمسة مليون؟ حدث تحقيق وفعلاً وُجدوا خطأً حاسوبياً، وبعد ذلك قابله بعض الوزراء – ما شاء الله وكثَّر الله من أمثالهم – وكان يتكلَّم بكل بساطة في التلفزيون Television، وقال هذا أمر عادي، فقالوا له كيف شعورك؟ قال هو شعور عادي، هذا مال ليس لي فأعدته لأنه لن يدخل بيتي، كيف أُدخِل وأنا في كبر سني وفي شيبتي حراماً إلى بيتي؟
يا سلام، هذا هو الإيمان، ولذلك هذه الأمة عظيمة وسوف تبقى عظيمة، اللهم اجعلنا من عظمائها، فهؤلاء عظماؤها حقاً، اللهم اجعلنا من عظماء هذه الأمة الأعفاء الشرفاء الأتقياء الورعين، اللهم أعطنا ذلك ووفِّر حظنا وقسمنا منه وأنِلنا منه ما تُسعِده به في الدنيا والآخرة، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عن مَن سواك وبك عن جميع خلقك، اللهم أغنِنا عن مَن أغنيته عنا مِن عبادك، اللهم أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، أقسِم لنا مِن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومِن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك ومِن القين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم لا تجعل مُصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تُسلِّط علينا بذنونبا مَن لا يخافك ولا يحرمنا إلهنا ومولانا رب العالمين، أصلِحنا وأصلِح بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين برحمتك يا أرحم الراحمين، وأصلِح أزواجنا وأولادنا – أبناءنا وبناتنا – واجعلهم لنا قُرة أعين واجعلنا بفضلك من أئمة المُتقين إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة!
(18/6/2010)
أضف تعليق