الضمير… بين الدين والقانون

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأماجد، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى وجل ثناؤه – في كتابه العظيم وذكره الحكيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ۩ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ۩ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ۩ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ۩ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ۩ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ۩ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۩ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۩ كَلاَّ لا وَزَرَ ۩ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ۩ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۩ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

استمعت قبل أيام إلى حكاية نمطية، تعوَّدنا أن نستمع إلى أمثالها كثيراً كل يوم، رجلٌ دهس بعربته أو بسيارته كما نقول امرأً ما، ثم راح وخلاه، لم يقف، لم يُبلِّغ عن الحادثة، ولم يقم بواجبه إزاءه من قله أو حمله إلى أقرب مشفى حتى يُبريء ذمته على الأقل أمام نفسه وأمام الله تبارك وتعالى، حادثة نمطية تتكرَّر كثيراً، وليس في قضية الدهس أو الدوس بالسيارات أيضاً، أشياء كثيرة من هذا القبيل.

ما هي السيناريوهات المُحتمَلة في حادثة أو في واقعة كهذه؟ قد تكون كثيرة، لكن أشهرها وأكثرها تردداً ثلاثة، حادثة أن رجلاً يقود عربته على طريق خارج المدينة أو القرية، ليس هناك مَن يراه، ليس هناك مَن يُصوِّره، وليس هناك مَن يرقبه، أي من الناس طبعاً، واتفق أنه داس أو دعس أو دهس بعربته طفلاً أو شيخاً أو امرأةً، بحيث لا يراه أحد، السيناريو الأول أن يُواصِل مسيره وقيادته دون أن يلوي على شيئ، السيناريو الثاني أن يأخذه وأن يُقلِه إلى أقرب مشفى، وأن يُبلِّغ على أنه يحتاج إلى عناية وقد يُشفي على الموت، ثم ينطلق وكأنه فاعل خير مُتنصِّلاً من باقي المسئولية، هو لم يفعل هذا، فعلها غيره! السيناريو الثالث أن يفعل ما فعل الثاني ثم يُتيح فُرصة أن يأخذ القانون مجراه، يضع نفسه تحت تصرف السُلطات المُختَصة، نعم أنا الذي فعلت هذا، لكن لم أفعله عامداً، فعلته على سبيل الخطأ، والتحقيق كما يُقال سيأخذ مجراه.
إذن ثلاثة سيناريوهات، تنظيرها سهل جداً، لكن السيناريو الثالث وقوعه وتكرره نادر وصعب جداً، والقضية في نهاية المطاف قضية ماذا كما نقول؟ قضية ضمير، إنها قضية الضمير! هنا ليس الضمير الاجتماعي، ليس الضمير الجمعي، ليس ضمير الجماعة أو الشعب، إنه ضمير الفرد، ضميرك أنت أمام نفسك، إنها قضية الضمير.

ويتساءل بعض الناس هل للضمير مكان في الدين؟ كلمة ضمير لم ترد في كتاب، لم ترد في سُنة، ولم ترد في تراثنا الصوفي والعرفاني والأخلاقي، لم ترد! وهي ترجمة سيئة وبائسة وغير صحيحة تقريباً إلى حد بعيد لكلمة أجنبية مشهورة بالذات في علم النفس وبوجه أخص في التحليل النفسي، وهي Conscience، ضمير في اللُغة العربية فعيل بمعنى مفعول، أي ما تضمره، ما تُخفيه في نفسك، وهذا لا يدل دلالة دقيقة على ما يُسمى باللُغات الأجنبية بالــ Conscience، شيئ يختلف إلى حد ليس بالقليل، على كل حال لا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نفهم ما المقصود في الضمير.

لن ندخل في سجال فلسفي لأنه سيكون سجالاً طويلاً جداً جداً بين الترابطيين، بين العقلانيين، بين التجريبيين، أيضاً بين التحليليين من مدارس علم النفس، وبين الشرطيين والسلوكيين، مداخل مُعقَّدة وكثيرة جداً جداً تتحدَّث عن الضمير، عن بنيته، عن تكونه، حتى التعريف لم يتفقوا عليه، هناك مئات إن لم يكن آلاف التعاريف لهذه اللفظة، كل مدخل، كل تعريف، وكل منظور يعكس خلفية معرفية مُعيَّنة واختيارات مُعيَّنة في عالم العلم أو عالم الفكر وحتى الأيديولوجيا، هذا لا يعنينا! الذي يعنينا جانب يتصل بالمنحى العملي لهذه القضية.
ونحن نرى أن السؤال مُقصِّر جداً، السؤال حقه أن يُصاغ على هذا النحو: هل للضمير مكانة إلا في الدين؟ هذا هو السؤال! لا نتساءل هل للضمير مكانة في الدين؟ لا! نتساءل هل للضمير مكانة إلا في الدين؟ هل يُمكِن أن يصدق أن هناك ضميراً أو يتحقَّق هذا المُسمى بالضمير إلا في ظل منهج وشرع واعتقاد وتربية وتنشئة ورقابة دينية؟ هذا هو!

هم يروغون من هذه المسألة بهذه المُواجَهة، يتحدَّثون عن الضمير الجمعي، ثم يُجزِّئون بعد ذلك هذا الضمير، للأسف هذا سائد وشائع هنا في الحضارة الغربية، وهو في نظرنا يبعث على السخرية والرثاء لهذه الحالة القزمة التي وصل الإنسان إليها أو أوصل نفسه إليه، لهذه الحالة من التشعع والتشظية والتقزيم لقوى وملكات الإنسان!

يتحدَّثون أيضاً عن ضمير العسكري وضمير الطبيب وضمير المُدرِّس وضمير العامل، بإزاء مَن؟ بإزاء الشق الآخر من الإنسان، ضمير الإنسان! ولذلك يكثر – تقرأون هذا في تقارير، ترونه في الأفلام، كأفلام الدراما وغيرها، حتى في الأفلام العسكرية أو أفلام الحرب، تتكَّر هذه العبارة كثيراً – أن يقول أحدهم ضميري كعسكري مُرتاح، أباد قرية عن آخرها، أباد قرية، قتل الأبرياء، أهلك الحرث والنسل، من أجل أن يتعقَّب مجموعة فارين، مِمَن يُسمون بالمُتمرِّدين، وهذا يحدث إلى الآن وسيحدث إلى زمن لا يعلمه إلا الله – تبارك وتعالى – ما دام الإنسان يتخبَّط هذا التخبط، ما دام يتألَّه ويُشرِّع لنفسه كما يُريد وكما يُحِب وكما يهوى، فيُحِل ما حرَّم الله ويُحرِّم ما أحل الله، إنه يشرع لنفسه، ليس له الخلق لكن له الأمر، عجيبة من العجائب! ليس له الخلق لكن يجعل لنفسه الأمر، ويُحاد أمر الله سُبحانه وتعالى.
يقول ضميري كعسكري مُرتاح، والمعنى المفهوم كما يقول الأصوليون أن ضميره كإنسان ليس مُرتاحاً، سؤالنا أين يبدأ العسكري أو أين ينتهي العسكري بالحري وأين يبدأ الإنسان؟ في نظري ربما ليس لهذا السؤال إلا جواب واحد، ينتهي العسكري حين يخلع بزته، إذن أنت مع كامل احترامي – إن كان هناك احترام – لست إنساناً، أنت آلة، لا يُمكِن حين تلبس البزة أو تلبس المعطف – أي الــ Mantel، Mantel الطبيب أو المُمرِّض – أن ينشأ لك ضمير وعقلية وشخصية وسلم قيمي بحياله وبرأسه، تُمارِسه وتزعم أنك مُرتاح، حتى إذا خلعت هذه البزة – أي البدلة – يثور لك ضمير آخر، لست إنساناً، الإنسان ليس هكذا، يستحيل! ويستحيل أن نُصدِّق هذا الهراء وهذا السُخف، إلا أن تكون آلة من الآلات، برمجت نفسك بطريقة آلية، وفي الحقيقة هذا ليس ضميراً، هذا نوع من الاعتذار ونوع من التبرير البارد لمُخالَفات ومُجازَفات واعتسافات وجرائم، لأن السياسي بدوره سيقول وأنا ضميري كحاكم وكرئيس للدولة الفلانية مُرتاح، مُرتاح أنه أعطى إذناً بغزو بلد وتدمير حضارة وسرقة شعب بالكامل ومُعاناة لملايين البشر، يقول ضميره مُرتاح كرئيس أدى واجبه، كإنسان غير مُرتاح، هذا نوع من الوثنية ونوع من الشركية، هذا شرك يُمزِّق وحدانية الإنسان، يُمزِّق فردانية الإنسان، يُمزِّق وحدة الإنسان، وهو غير مقبول عندنا وغير مفهوم، لا نستطيع أن نفهمه، لسنا مُؤهَّلين، لسنا لائقين أن نفهم مثل هذا السُخف الذي يتحدَّث به فلاسفة ومُفكِّرون كبار، في الدين الوضع يختلف تماماً.

نحن قلنا السؤال حقه أن يكون هل للضمير مكان إلا في الدين؟ لاعتبارات شتى، الاعتبار الأول أن ما يُنشئ هذا الضمير وما يجعله باقياً على قيد الحياة وصاحياً يقظاً وعاملاً بفاعلية هو جانب مُقدَّس، إنه أمر الله ونهي الله، رغبة الله، غضب الله، حُب الله، رضا الله، ومُراد الله تبارك وتعالى، هذا جانب مُقدَّس، وهو المُقدَّس المُطلَق، في نظرنا هو المُقدَّس المُطلَق، أما ما دون ذلك فليس مُقدَّساً، ماذا يقول القانون؟ ماذا تقول العادات والتقاليد؟ ماذا علَّمني أبي وأمي بعيداً عن أمر الله ونهيه؟ كل هذا – صدِّقوني – لن يكون مُقدَّساً وإن كانت له سطوة وإن كانت له سُلطة وإن كانت له هيبة، بلا شك هناك سطوة للعادات والتقاليد والأعراف والإلف، كل هذا له سُلطة وله سطوة وله هيبة وله فعل بلا شك وله أثره وتأثيره، لكنه ليس مُقدَّساً، ومعنى كونه ليس مُقدَّساً في نظرنا أنه لا يُنشئ ضميراً حقيقياً، لماذا؟ لأن هذا الضمير فقط وفقط سيعمل حال كان صاحبه مرقوباً، منظوراً، مرئياً، ومحسوباً عليه حركاته وأفعاله وسلوكاته، سيعمل! لكن اطفئوا المصباح وسنرى هل يبقى هذا الضمير يُشِع أم أنه يُعتِم أيضاً؟ سيُعتِم.

تقرأون كثيراً مُذ كنا صغاراً عن ارتفاع مُعدَّل الجريمة بشكل مُقلِق ومُخيف في رُبع ساعة فقط – مثلاً – أو نصف ساعة أو عشر دقائق ينقطع فيها التيار الكهربائي عن المدينة الفلانية في الغرب الأوروبي أو الأمريكي بالذات، جرائم الاغتصاب والقتل والسرقة والاغتيال، شيئ فظيع جداً! تماماً هذا كضمير ذاك الجُندي أو ذاك المُوظَّف أو ذاك الأستاذ الأكاديمي أو ذاك الشيخ – إلى آخره – الذي فاجأنا أنه استحال في آخر عمره بعد أن علت سنه وكبر قدره وذاع صيته واستقرت مصدقيته ورسخت سُمعت فإذا به ينقلب إلى خوّان أثيم، يبيع الدين، يبيع الوطن، ويبيع الشرف، لماذا؟ في الحقيقة لا يُمكِن الترجمة عن هذا السلوك إلا بأنه لم يكن ذا ضمير، ولكنه لم يكن ذا فُرصة، كانت تُعوِزه الفُرصة فقط، إذن هو انتظر عشرين سنة أو ثلاثين سنة فقط ليبيع نفسه، انتبهوا! لم تُواته فُرصة أن يبيع نفسه مُنذ ثلاثين سنة، وهو كان على أتم الاستعداد خاصة حين كان شاباً، الشاب يتطلَّع إلى التحصيل والإنجاز والمُباهاة والمُفاخَرة وتحقيق الذات كما يُقال، هناك صراع وتنافس في مُقتبَل العمر! لكن لم تُواته الفُرصة، لذلك كان يتقنَّع خلف قناع الضمير والشخصية وشرف المهنة وشرف الكلمة والمُواطَنة الصالحة وأمثال هذا الهراء للأسف الشديد من أمثال هؤلاء، لكن لما واتته الفُرصة مُباشَرةً داس هذا القناع المُسمى بالضمير، داسه مُباشَرةً وظهر على حقيقته.

إذن هو كان ينتظر نصف قرن حتى يبيع نفسه، لم يجد مَن يشتري، لكن الآن وجد مَن يشتري وبثمن بخس، دراهم معدودة! باع نفسه بعد خمسين سنة، يا له من إنسان! أستغفر الله، يا له من شيئ! هذا ليس إنساناً، هذا شيئ آخر، الإنسان لا يكون هكذا، هذا الإنسان خليفة الله المُكرَّم الذي ينبغي أن يكون فعلاً مثابةً للقيم والأخلاق والمعاني والمعالي، وهنا لا نفهم احترام النفس إلا من أمثال هذه المعاني، للأسف لم يكن كذلك، هو كان شيئاً مُختلِفاً تماماً، لماذا؟ كما قلنا الضمير لا يتأسَّس على غير المُقدَّس، هذا ليس بمُقدَّس، ثم هو ليس بمُقدَّس – منزوع القدسية – وفي نفس الوقت يُناضَل ويُجادَل لإثبات أنه نسبي، وبالحري هو نسبي، قمين أن يكون نسبياً، يُقال هذا نسبي، فالإنسان كيف يُقنِع نفسه بتفويت فُرصة أن يغتني؟ تحت يده الآن فُرصة – مثلاً – أن يتخوَّض في ثلاثة ملايين يورو أو في عشرة ملايين في بعض الأحيان، بعضهم يتخوَّض في مليارات، يُمكِن أن يتخوَّض في خمسة ملايين يورو أو عشرة ملايين يورو، فُرصة في نظره ستُسعِده وتكفيه وأولاده وذراري ذراريهم، لماذا أُفلِت ولماذا أُضيِّع هذه الفُرصة بحجة أن القانون يُحرِّم هذا؟ قانون ماذا؟ وقانون مَن؟ قانون بشر مثلي حرَّم علىّ هذا، هل هذا الذي وضع القانون دائماً يلتزمه؟ في أحيان كثيرة القضاة نفسهم يرتشون، المُحامون يرتشون، واضعو القوانين من كبار المُشترِعين يرتشون ويكذبون، ثم لو لم يكونوا كذلك فهذه القوانين ما بالها تتغيَّر؟ كل عشر أو كل عشرين أو كل ثلاثين أو كل أربعين أو كل خمسين سنة تتغيَّر، فما دامت تتغيَّر فليس لها ثبات، إنها نسبية، الثابت هو مصلحتي، الثابت هو إنجازي، فعلىّ أن أهتبل الفُرصة إذا واتتني ما دمت آمناً، ما دمت آمناً من أن أكون مرقوباً وأن أُضبَط مُتلبِّساً أو أُحاسَب فلأهتبلها، فلأهتبلها! وهذا شيئ منطقي وطبيعي جداً، هذا معنى نزع القداسة، وهو طبعاً احد الأهداف الكُبرى للحداثة، وطبعاً تجاوزته ما بعد الحداثة لأنه تقريباً كل شيئ نُزِعت قداسته، كل شيئ تقريباً نُزِعت قداسته، لم يبق شيئ مُقدَّس، لا أدري ما هذا المُقدَّس للأسف الشديد، وإن بقيَ فهو مُزعزَع وقلق جداً جداً جداً، ينتظر ريثما تُنزَع قداسته أيضاً ليعود شيئاً طبيعياً لا قداسة له، بعد ذلك عن أي ضمير سنتحدَّث؟

افتحوا أبواب الفُرص لهذا المُجتمَع بضميره وانظروا ماذا ستكون ردة الفعل، قبل سنوات – ربما قبل ثماني سنوات، في الجزيرة رأيناها بأم العين – حافة أو سيارة كبيرة من التي تُقِل أموال البنوك وقع لها حادث وانقلبت وانفتح بابها ونزلت كميات مهولة – مئات الآلاف – من الدولارات، تقريباً كلها نُهِبت، وهذا كان في قرية وادعة – قرية حتى وليس مدينة – فيها أناس مُهذَّبون ومُلتزَمون في إنجلترا، ورأينا الصور، كلها نُهِبت في لحظات، الكل ضرب ضربته، هذا هو! اطفئ النور كما قلنا، أي نور الرقابة، افتح أبواب الفُرص، وافحص الضمير.

في الحالة الدينية الوضع مُختلِف تماماً وبالمُطلَق بفضل الله تبارك وتعالى، تعرفون قصة الرجل الذي جاء مع خصمه إلى رسول الله، يختصمان! كل واحد يدّعي أنه على الحق وأن وجهة نظره هي الحق، لكن على ماذا يختصمان؟ وفي ماذا يختصمان؟ هذا الرجل اشترى داراً من أخيه، أي من أخيه في الله، من رجل آخر لا يعرف! وبعد أن اشتراها فُوجئ بعد فترة وهو يُرمِّمها ويُعيد بناءها بكنز كان مدفوناً في أحد جدرانها، كنز! ذهب وفضة وجواهر كريمة، أُسقِط في يده، لم يقل يا ليت القدر فُتِحت أبوابها،  لم يقل دس واسكت، بالعكس! وجدها مُصيبة، ما هذه المُصيبة؟ قال سأُعيده إلى صاحبه، فذهب إلى صاحب الدار وقال خُذ، هذا مالك، قال مالي؟ من أين لي هذا؟ ليس لي! قال هذا مالك، وجدته في جدار دارك يا أخي، ليس لي، قال والله ليس مالي يا أخي، ربما كان من قبل وأنا لا آخذه ولن آخذه، الله أكبر، الله أكبر! لكن أتمنى ألا تبقى قصصاً، أنا مللت من ذكر القصص والحكايات، ولا أُحِب حتى هذا الأسلوب مع أنه مُفيد لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۩، لأننا أمة تُدمِن القصص وتُدمِن الحكايا دون أن تستحيل هذه القصص والحكايا إلى واقع، نسمع قصصاً، نهز رؤوسنا، وتسيل دموعنا، ثم نتغوَّل حقوقنا على مُستوى خمسين ومائة وألف يورو، وبالأيمان الكاذبة! ونتلو على المنابر ونُعلِّم أبناءنا وبناتنا أيضاً قوله – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مُسلِم أيما امرئٍ مُسلِم اقتطع حق أخيه بيمينه إلا أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة، أتحلف يميناً وتقول والله هذه لي؟ أتقول والله؟ خُذ! في المنظور الإسلامي البينة على مَن ادّعى واليمين على مَن أنكر، المسكين لا بينة عنده، أنت عندك اليمين، ما شاء الله! جرِّبوا وطبِّقوا الآن في القضاء هذا، افترضوا أننا في دولة تحكم بشرع الله وجرِّبوا – ما شاء الله – واليمين على مَن أنكر، ستذهب كل حقوق الناس! لأن الدين لا يعمل في وسط أُناس غير مُتدينين أو مُتدينين نفاقاً وزيفاً.

طبعاً في المثل العامي – وهذا المثل العامي يحكي الصورة الزرية والوهدة التي انحدرت إليها هذه الأمة إلا مَن رحم الله – يقولون قيل للكاذب احلف قال جاءك الفرج، هذا صحيح صحيح صحيح! هذا يُترجِّم عن حالتنا تماماً، لأن الكاذب مُستعِد أن يحلف ألف يمين على المُصحَف، كما قلنا في الخُطبة السابقة من أجل مائة يورو، ليس مليون يورو وإنما مائة يورو، من أجل أن يأخذها ومن أجل ألا يُفتضَح أنه كذّاب أثيم وخوّان والعياذ بالله، فكيف إذا طبَّقنا هذا وقلنا واليمين على مَن أنكر؟ ستذهب الحقوق، لكن النبي الذي قال هذا وأكَّده – هو مأثور سابق لكن أكَّده – هو الذي قال إذا تغوَّلت حق أخيك بيمينك – حلفت يمينك، قلت والله، وهي ليست لك – أوجب الله لك النار، قال أيما امرئٍ مُسلِم اقتطع حق أخيه بيمينه إلا أوجب الله له النار – والحديث صحيح – وحرَّم عليه الجنة، فرجل من الصحابة – يبدو أنه فزع وخاف – قال وإن كان شيئاً قليلاً يا رسول؟ قال وإن قضيباً من أراك، ليس خمسة يورو وإنما سواك، انظر إلى السواك، لا يُساوي فلساً هذا السواك، حتى لو كان هذا سواكاً – قضيب أراك تحلف كاذباً وتأخذه – مُحرَّم عليك الجنة وواجب لك نار جهنم، الحقوق! لا قيمة لدين بلا مُراعاة الله، لا قيمة لدين بلا ضمير، هذا هو الضمير، هذه مسألة الضمير.

لن آخذ ما ليس لي، لن أحلف كاذباً، لن أُزوِّر شهادتي، لن أُزوِّر موقفي، لن أبيع ذمتي، ولن أُخرِّق ضميري، من أجل ماذا؟ كلنا ميت، كلنا ميت! من أجل ماذا؟ والله العظيم لا شيئ يستحق هذا، لا شيئ يستحق الكذب والتدجيل، قال وإن قضيباً من أراك.

تعرفون ماذا يحدث يوم يفزع الناس إلى أنبياء الله يُناشِدونهم الشفاعة في التخفيف في موقف يمتد فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۩ وتُدنى الشمس من رؤوس الخلائق؟ وبالمُناسَبة الشمس بلا نور، عالم آخر، نشأة أُخرى، أين الناس؟ في الظلمة دون الجسر، قال في الظلمة، ظلام! حشر رهيب وعرق وخوف وظلام، في الظلمة دون الجسر، قبل جسر جهنم، فيفزعون إلى آدم، فيقول لا، وهل انتقلتم إلى الأرض إلا بخطيئتي؟ قال أنا لا أشفع الآن، اذهبو إلى إبراهيم، يأتون إلى إبراهيم فيقول لا ويعتذر عنها، يذهبون إلى موسى فيعتذر، يذهبون إلى عيسى فيعتذر، يذهبون إلى محمد – عليه السلام – فيقول أنا لها، فيقوم النبي ليشفع في الأمم، في الخلائق! هذا المقام المحمود، مقام الشفاعة العُظمى، ليس في أمته فقط وإنما في كل الأمم، وحين تفزع إليه الأمم سيكون هذا بمثابة اعتذار للسيد الجليل – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – عما طوَّلوا ألسنتهم في عرضه وعما ائتفكوا من الأفائك والأكاذيب في جنابه الشريف، صلى الله عليه وسلم، سيعتذرون عملياً رُغماً عنهم أجمعين، ليس لهم إلا هو، صلى الله عليه وسلم، فيقول أنا لها، المُهِم فيقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – وتأتي الأمانة والرحم، الله أكبر! لماذا؟ وتأتي الأمانة والرحم فتقومان عن جنبتي الصراط، الأمانة تقف هنا والرحم يقف هنا، الرحم – أخوك، أختك، عمتك، خالتك، ابنة عمك، قريبتك، أمك، وأبوك – شأنه خطير، الرحم! هل نصل الرحم أم نعق ونقطع ما أمر الله بأن يُوصَل، ثم الأمانة! هل تعرفون لماذا؟ فكَّرت في هذا ووجدت أن الأمانة أكبر مقياس وأصح معيار للضمير، هي المحرار، كما نقول ترمومتر Thermometer، محرار الضمير هي الأمانة، والأمانة ليست فقط على الأموال، لكنها مُهِمة جداً هذه، الأمانة على الأموال، الأمانة على الأعراض، والأمانة على الأسرار، بكل أنواعها هي مقياس الضمير، هل أنت أمين؟ أنت مُوظَّف، هل أنت أمين في وظيفتك؟ هل تتقي الله في وظيفتك؟ هل تُحلِّل لُقمتك أم تعتذر كل يوم والثاني بالكذب قائلاً إنك مريض وتأخذ إجازة مرضية؟ كل هذا كذب وستُسأل عنه، لم تكن مريضاً وأجذت إجازة مرضية، ومن ثم مالك حرام يا حبيبي شرعاً، لا كلام في هذا، هذا الدين، هذا ليس قانوناً، هذا المُقدَّس! أكلت من حرام، أطعمت أولادك من حرام، ثم تقول لماذا أولادني خائبون؟ لماذا أولادي لا يسمعون؟ لأنك خائب، أنت لم تتق الله، أنت تخرَّق ضميرك، اتسعت ذمتك دون أن تدري، لأنك لا تُحاسِب نفسك، لو كنت تُحاسِب نفسك كل يوم لوقفت مائة مرة عند هذا.

أنا حدَّثتكم مرة عن شاب حين يذهب إلى المحال العامة – مثل الــ Hofer والــ Billa – يُحاسِب نفسه على كيس الورق البسيط هذا، ليس الذي يُقدَّر بعشرين سنتاً وإنما الكيس البسيط والخفيف جداً، موضوع ويأخذون منه بالعشرات، لكنه يُحاسِب نفسه، هل أحتاجه؟ هل البضاعة التي اشتريتها تقتضي أن آخذ ثلاثة أم أربعة؟ لأنه يحسب – وأظن أنه على حق – أن الله سيسأله عن هذا، هذا المال ليس مالك، وهذا ليس موضوعاً مُباحاً لكل الناس، فلا يستطيع أحد ألا يشتري لكنه يأتي ويأخذ ثم يمشي، ممنوع! هذا فقط لكي تأخذ فيه البضاعة، لماذا أخذت بشكل زائد؟ ستُسأل عن هذا يا حبيبي، هذا الدين، هكذا الدين يُربي الضمير، هذا هو الدين الحقيقي!

لكن بالأمس تابعت الحلقة الأولى من مُسلسَل اغتيال وزير الأوقاف الشيخ العلّامة محمد حُسين الذهبي، هذا قتلوه يا حبيبي، قتلوه بالنار! أي ضمير دفع إلى قتل شيخ جليل وعالم كبير مثل هذا؟ أين الضمير؟ أين التربية الإسلامية؟ أين خشية الله؟ ألم يتعلَّموا، ألم يُوقِنوا، وألم يُؤمِنوا بأن الله سميع، بصير، حفيظ، رقيب، قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، لا إله إلا هو! لا تغيب عنه غائبة في السماوات ولا في الأرض، لا تخفى عليه خافية، ثم إنه لَبِالْمِرْصَادِ ۩، وإليه إيابنا وحسابنا عليه تبارك وتعالى؟ ألم يعلموا هذا؟ ألم يقرأوه؟ ألم يُرتِّلوه؟ ربما! وربما لا، لأن من العلم ما يكون جهلاً والعياذ بالله، أي العلم الذي يتوسَّع به المرء في المعصية وتبرير المعصية، بخلاف الصالح صاحب الضمير اليقظ الحي، يعلم أن كل معصية وكل خطيئة هي سعي في تحطيم شخصيته وذاتيته، مَن يود أن يُحطِّم شخصيته؟ كثيرون، صدِّقوني! وسأقولها من غير أن نغضب أو نحزن، الذي يُدخِّن هذا إنسان يُحطِّم شخصيته، يُحطِّم نفسه هذا، أنا لا أفهم إلى الآن – من عشرين سنة تقريباً لا أستطيع أن أفهم – كيف يُدخِّن المُدخِّنون، لا أفهم هذا، والله العظيم لا أفهمه، والله! أنا أُشهِد الله أنني لا أفهم هذا، كيف يُمكِن أن أتعاطى شيئاً أُدمِّر به نفسي؟ كيف؟ تحت أي سُلطان لا يُمكِن، لكن أسوأ من تدمير النفس والشخصية بالدخان تدميرها بالمعصية، ما يُسميه القرآن في لُغة غير مسبوقة ظلم النفس، نحن نفهم ظلم الغير، لكن – صدِّقوني – مَن منا وقف ليسأل نفسه ما معنى أن أظلم نفسي؟ ربما لم نفعل كثيراً أو مراراً للأسف مع أنها سهلة وواضحة جداً.

ظلم الغير ما هو؟ أن تغتال حقوقه أو تمنعه حقوقه أو تعتدي عليه، هذا ظلم! لكن ماذا عن ظلم نفسي؟ أن تمنعها حقوقها، من حق النفس أن تبلغ كمالها المُهيأة له، من حق النفس أن تتكامل يا إخواني، من حق النفس أن تزداد علماً وورعاً وجمالاً وتُقىً ونورانيةً في الظاهر والباطن، من حق النفس أن تكون نفساً مرضيةً عند الله تبارك وتعالى، من حق النفس أن تكون نفساً محبوبةً عند الله، من حق النفس أن تكون نفساً طاهرةً طيبةً، من حقها! أنت لم تُعطِها الفُرصة لذلك للأسف بالمعصية، بمعصيتك دنَّست هذه النفس ودسيت أو دسوت هذه النفس، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩، أي نمّاها، زكى الشيئ إذا نمى وكثر وتبارك، هذا معنى الزكاة، نم نفسك، أعطها كمالها، حتى تبلغ كمالاتها، قال – تبارك وتعالى – كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۩، الشجرة حين لا تظلم من أُكلِها شيئاً، ما معنى ذلك؟ فعلاً تحمل حملاً كاملاً، مُقدَّر لها أن تُقِل – مثلاً – خمسمائة ثمرة، وأقلت خمسمائة ثمرة، لم تسقط زهرة واحدة، كل زهرة تسقط تسقط معها ثمرة مُرتقَبة، الله يقول لا، وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۩، النفس كذلك! يُمكِن لهذه النفس أن تكون نفس ولي كبير، نفسكَ أنتَ، نفسكِ أنتِ، يُمكِن آن تكون نفس عارف بالله – تبارك وتعالى – وعالم جليل وقوّال بالحق وخشّاع أواه مُنيب وإنسان يُفزَع إليه ويُتبرَّك بمرآه ودعائه، لكن لماذا هذه النفس نفس خبيثة، نفس كذّابة، نفس شهوانة، نفس دنيئة، لا تعرف معنى العفة، لا تعرف معنى التُقى، ولا تعرف معنى الطهارة؟ لماذا؟ لأنك ظلمتها، أنت ظلمتها وستُحاسَب على هذا!

نفهم أن يخسر الإنسان بعض مُختصَاته، نفهم أن يخسر بعض ما يملك، وهذا سيكون صعباً على الإنسان، لكن هل حاولنا أن نفهم كيف يخسر الإنسان نفسه؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ۩، أنت الآن لا تخسر مائة ألف يورو احتال عليك فيها أحد المُحتالين أو في تجارة فاشلة أو بأي سبب من الأسباب القدرية، لا! أنت تخسر نفسك الآن، نفسك! هلاك الأبد، إنه هلاك الأبد فانتبه، الضمير الديني هو الضمير، لا تقل لي الضمير ابن القانون، الضمير كذا وكذا، أنا لا أُؤمِن بهذا الضمير، الضمير ابن القانون لا أُؤمِن به، الضمير ابن العادات لا أُؤمِن به، الضمير ابن الإلف لا أُؤمِن به، أُؤمِن بالضمير ابن الدين، ابن شرع الله، ابن رقابة الله، وإذا تحدَّثنا عن هذا الضمير يا إخواني فلا مناص أن نتحدَّث عن خشية الله، عن خشيته بالغيب، عن الرغب والرهب، عن الرقابة، عن المُحاسَبة، وعن المُشارَطة، أليس كذلك؟ سنتحدَّث عن الإخلاص، عن الصدق، عن انتفاء الرياء، وعن البُعد عن النفاق، هذا هو الضمير، كل هذا! ولذلك كلمة ضمير في نظري اصطلاح فقير جداً جداً وباهت وشحيح، اللُغة الدينية لا تعرف هذا اللفظ وليس عليها أن تعرف أو لا تعرف، اللُغة تعرف خشية الله، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، سبعة يُظِلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، مَن هم يا إخواني؟ قال ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، الله أكبر! هل هذا سيغتال الأمانات؟ هل سيتغوَّل في الحقوق؟ هل سيكذب؟ أبداً، مُستحيل! هذا رجل يبكي من خشية الله خالياً، حيث لا يراه إلا هو، لا إله إلا هو! ورجل دعته امرأة – لم أذكرها بالترتيب، ذكرت موضع الشاهد، من هؤلاء السبعة رجل دعته امرأة – ذات منصب وجمال، منصب يحميها ويحميه، سيفسق بها دون أن يكون لأحد سُلطان عليهما أبداً، لن يكون هناك تبعة، وجمال! إنها مُغرية، فكَّرت في هذا أيضاً مرة أُخرى، قلت سُبحان الله! لماذا؟ لأن الضمير يتدرَّج، له درجات – سنذكرها إن شاء الله – وله أيضاً قوى وشدة، يقوى حتى يبلغ درجة التمام، وهو ضمير حسّاس جداً، يُوحي ويُبصِّر صاحبه بما يخفى على أكثر عباد الله، أشياء لا نتنزَّه نحن عن أمثالنا، كما قال أنس إنكم لتعملون أعمالاً تظنونها كالذباب، كنا نظنها أيام رسول الله أو نراها كالجبال، لماذا؟ الضمير يقظ، يقظة ضمير غير عادية، درجة رقابة ومُحاسَبة غير عادية، مثل هذين الذين اختصما في كنز، الله أكبر يا حبيبي! يختصمان في كنز، هذا لا يُريده وهذا لا يُريده، لأنهما يُريدان ما عند الله، كل شيئ عندهم بمنظور أُخروي، كل شيئ يضعونه في مرآة الآخرة؟ هل يسوى أو لا يسوى؟ هل يستأهل أو لا يستأهل؟ لا يستأهل، لا نُريده، غير مُهِم! النبي اضطر أن يصلح بينهما بعد ذلك، قال أنت خُذ النصف وأنت خُذ النصف، ماذا نعمل؟ رضيَ الله عنهم وأرضاهم.

جرير بن عبد الله البجلي – ذكرناها مائة مرة لكنها عجيبة، وهي في مُسلِم – أراد أن يشتري حصاناً، قال لأحدهم بكم تبيع؟ فقال الرجل بأربعمائة، لكن جرير المُشتري يقول لا، يسوى أكثر، كيف يسوى أكثر؟ ما هذا؟ هذا غير معروف، المعروف أن شيخ المشايخ يُحاوِل أن يأخذ أكبر قدر مُمكِن من التخفيض، شطارة! يقول لك هذه شطارة وأُحرِز عقلي، لا يا أخي، أربعمائة كثير يا أخي، ويُمكِن أن يحلف لك هذا الشيخ كاذباً، يقول لك والله يا أخي يقولون إن هناك ما هو مثله بمائتين وخمسين، أيقول والله أيضاً؟ يقول هذا لغو، لغو يمين هذا! لكن جرير قال لا، يسوى أكثر، حصانك يا أخي يسوى أكثر، نعم أُريد أن أشتريه لكنه يسوى أكثر من أربعمائة، فقال خمسمائة، فقال أكثر، فقال ستمائة، فقال أكثر، فقال سبعمائة، فقال أكثر، فقال ثمانمائة، فقال نعم، هو ذاك، ثمانمائة! حصانك هذا – أنا أعرف في الأحصنة – يُساوي ثمانمائة، الرجل قال عجبي، عجب! هذا عجب لا ينقطع، أين هذا حصل في تاريخ الدُنى؟ في تاريخ العالمين أين حصل هذا؟ مع أتباع محمد بن عبد الله، مع خرّيجي مدرسته، صلى الله عليه وسلم، حصل معهم! قال لقد بايعت النبي – صلى الله عليه وسلم – على السمع والطاعة والنُصح لكل مُسلِم، وهذه بيعة يا حبيبي، بيعة للرسول، هذا ليس لعباً!

كم أنا وأنتم بايعنا الله – يا رب لئن أتيتنا كذا وكذا وصرفت عنا كذا وكذا لنفعلن كذا وكذا – ثم خسنا بالعهد! أليس كذلك؟ ونقضنا الأمانة مع الله، كم مرة! كم مرة! اللهم غفراً، اللهم اغفر لنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، نفس مطواعة في الشر والعياذ بالله، كم مرة! كثير جداً، هذا قال لا، هناك بيعة، لذلك في الحديث الآخر في الصحيحين – حديث حذيفة – حدَّثني حبيبي – صلى الله عليه وسلم – بحديثين، قد رأيت أحدهما وأنا في انتظار الآخر، حدَّثني أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، إلى آخره! إلى آن قال – الحديث طويل – حتى يُقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، ترتفع الأمانة! تقريباً كل مَن تراه خوّان أثيم، كل مَن تراه إلا القليل، في القبيلة الكبيرة يُمكِن أن تستثني واحداً، تقول فيهم أمين، مَن هو؟ هذا، واحد! واحد من آلاف، حتى يُقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يُقال للرجل ما أظرفه! ما أجلده! ما أعقله! – النبي يقول – وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، لماذا لم يقل من أمانة؟ لأن الأمانة والإيمان يقتضي أحدهما الآخر، ولا إيمان لمَن لا أمانة له، وبالتالي لا أمانة أيضاً لغير المُؤمِن أبداً، والناس هكذا! يُقال والله هذا إنسان مُمتاز يا أخي، الأستاذ فلان الفلاني مُمتاز جداً، رجل طيب عاقل وواعٍ، فهل يُصلي؟ لا يُصلي، للأسف لا يُصلي، هل يُخرِج زكاة ماله؟ هذا لا يُفكِّر فيه أصلاً، لم يُفكِّر إلى الآن أن يُخرِج زكاة ماله وأن يحسب، يُؤجِّل دائماً هذا، يُؤجِّل! هو مُسلِم على الورق، ما هذا؟ ما هذا؟ كيف نحترمه؟ كيف نُجِله؟ كيف نُحِبه؟ على أي أساس نُعطيه هذه المثابة وهو رجل علاقته خراب مع الله تبارك وتعالى؟ علاقته خراب مع الله عز وجل، فلماذا نُعطيه هذه المثابة؟ لو كانت علاقته خراب مع السُلطة ومع المُخابَرات كلنا سنقلوه وسنتركه، أليس كذلك؟ سنتركه! الناس لو اتُهِمت تُهمة هي شرف لك سيجزعون منك ويجفونك ويتساءلون هل حقاً يا أخي ما سمعنا؟ يا أخي حتى لو كان حقاً هذا يُشرِّفني، يُشرِّفني أيها الأحمق! لكن هكذا الناس، الناس مع السُلطة ومع القوة، ويُريدون فقط فضيحة لأحد ولو بالحق، فضيحة بالحق، يُريدونها! هذا حق يا أخي وهذا يُشرِّفه، قال هل حقاً ما سمعنا؟ بعضهم قال لي أنا لم أتحدَّث عن هذا الموضوع، أي الذي حصل معي أنا العبد الفقير، قلت له لماذا يا حبيبي؟ لماذا؟ سقط من عيني هذا الرجل، علمت أنه أحمق وغبي، قال أنا لم أتحدَّث حتى لا يُساء الظن بك، قلت له لماذا يُساء الظن بي؟ أنا جريمتي أنني قلت كذا وكذا وكذا، وأنا أعترف بهذا، هذا شرف لي، أسأل الله أن يقبله مني وأن يُجزِل لي أجره يوم القيامة يا حبيبي، يوم سكتم أنتم ويوم جبنتم وخفتم أنا لم أجبن ولم أخف، وعلمت أنني سأُسأل عما قلت، هل هذا شرف أم عار؟ عار، تفكير عار! الناس غريبون، والنبي قال الناس يُعيِّرون ولا يُغيِّرون، هذا إذا وجدوا ما فيه عار، وليس ما فيه فخار، لكن العقول حتى غير موجودة، ما أعقله! ما أجلده! ما أظرفه! وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، قال حُذيفة ولقد أتى علىّ زمان ولا أُبالي مَن بايعت فيكم، أُبايع أي أحد! هل تعرفون لماذا؟ الأمانة كانت عامة، كلها كانت أمينة، ما شاء الله! الخيانة هي النادرة، هي الاستثناء، هي الشذوذ، ولقد أتى علىّ زمان ولا أُبالي مَن بايعت فيكم أو منكم، يقول لئن كان مُسلِماً ليردنه علىّ دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنه علىّ ساعيه، أي الوالي عليه، أما اليوم فلا أُبايع إلا فلاناً وفلاناً، وذكر اسمين، الله أكبر! أهذا حتى في زمن الأصحاب؟ في زمن الأصحاب، والنبي عرف هذا، لذلك النبي قال إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، إذن تخرَّقت الذمم وبطلت الأمانات، بعض الناس يقول ما علاقة الأمانة بتوسيد الأمر؟ هذه أكبر أمانة! النبي يقول مَن أمَّر رجلاً على عشرة من المُسلِمين وفي رواية على عصابة – هذه تبلغ أربعين، هذا الــ Maximum كما يقولون – وهو يعلم أن فيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المُؤمِنين، هذه يا حبيبي أمانات، أن تضع الرجل المُناسِب في المكان المُناسِب، لا تُؤخِّره عما يليق به وبقدره وإمكاناته ومُؤهَّلاته، حتى تنتفع الأمة، الأمة دُمِّرت بهذا الشيئ، الأمة مُدمَّرة بهذا السبب، الكفاءات تتراجع، والأقماع والرويبضات تتقدَّم، وتُغتال الحقوق وتضيع مصالح الأمم، الأمم! كانت أغنى أمة والآن أفقر أمة، كانت أعز أمة والآن أذل أمة، كانت أمة واحدة والآن أكثر من عشرين أمة، وهكذا! بهذا السبب، قال إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، المُهِم قال مَن أمَّر رجلاً على عصابة أو على عشرة وهو يعلم أن فيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المُؤمِنين.

طبعاً – ما شاء الله – فلينتظر كيف يُسأل يوم القيامة عن الخيانة العُظمى، خيانة الله والرسول والأمة! ما هذه الخيانة؟ أن تُقدِّم رجلاً لا يستحق وتُؤخِّر مَن يستحق، أو تُقدِّم مَن يستحق قليلاً وتُؤخِّر مَن يستحق أكثر منه ولو بدرجة، ستُسأل عن هذا يا حبيبي، هذا الدين! هذا الدين لو طُبِّق – والله العظيم – لا نحتاج معه لا إلى فلسفات ولا إلى تنظيرات ولا إلى أي شيئ، لكن أين يُطبَّق؟ وكيف يُطبَّق وبعض رجاله وبعض علمائه يلعبون به للأسف؟ قضية اعتذارات، هذه لا تنفع، حتى الاعتذار يوم القيامة سيكون موجوداً، وسيحلفون لله كما يحلفون لنا، وسيعتذرون لكن الله قال يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ۩، طبعاً سيعتذرون ولن ينفع، لن ينفع! فليعتذروا في الدنيا، فليعتذروا في الآخرة، ولن ينفع! قال الله تعالى في سورة الضمير – إن جاز أن نُسميها وليس يجوز – وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩، هذه آية مفتاحية في موضوع الضمير، قال في نفس السورة وبها ختمنا المطلع بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ۩، تستطيع أن تُغالِط الكون، لكنك لن تُغالِط نفسك، وإن غالطت نفسك لن تُغالِط رب العالمين، الذي: يَعْلَم مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۩، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩ والعياذ بالله تبارك وتعالى.
هنا الضمير، فهذا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، لا يُوجَد أحد إلا الله، الله تبارك وتعالى! جاء رجل بدوي وعشق وهويَ أمرأة بدوية ويبدو أن هواه وقع في قلبها أيضاً لكنها كانت تتقي، تتقي الله تبارك وتعالى! فخالف أهلها إليها في ربوعهم ذات ليلة لما أحس أنهم قد غطوا في نوم عميق، جاءها فقالت له يا عبد الله في قلبي مثل الذي في قلبك، أنا أيضاً هويتك وأحببتك، يبدو أنها امرأة غير مُزوَّجة طبعاً، فتاة! لكن نعم الفتاة ونعم التربية، لكن انظر، جل حول المضارب والحمى لعل أحدهم لا يزال يقظاً صاحياً، فأخذ جولة الرجل ثم قال كلهم ناموا والحمد لله، هو فرح وظن انها أجابته إلى ما يُريد، مسكين! مسكين يظلم نفسه، هذا يظلم نفسه ويُخرِّب ذاته، ما هذا؟ بأي ذات ستُقابِل الله يوم القيامة؟ بأي شخصية؟ هل بشخصية إنسان زانٍ أو إنسان شارب للخمر أو إنسان كذّاب أو إنسان نصّاب أو إنسان دجّال أو إنسان نجس لا يُصلي ولا يتطهَّر أو إنسان لا يذكر الله لأنه مُنافِق؟ كيف ستُقابِله تبارك وتعالى؟ كيف سترد عليه؟ لكن يبدو أن المسألة مسألة ضعف إيمان، إيمان كلام وإيمان تحقق، ضعف إيمان، ضعف! إيمان لا يُربى ولا يُنعَش للأسف، فقالت له – ولله درها – الله – تبارك وتعالى – أهو نائم تراه؟ فصحا ضميره الرجل، قال سُبحانه وحاشاه لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ۩، هي استفتحت استفتاحاً مُخيفاً، الله قالت له، الله! أنائماً تراه أو هو نائم تراه؟ أنائماً تراه؟ هل يُمكِن أن يكون رب العالمين أخذ غفوة الآن؟ الرجل اهتز، قال سُبحانه وحاشاه لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ۩، ثم ولى الرجل ودموعه تسيل، عرف وأيقظته! إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۩، اللهم اجعلنا منهم، طَائِفٌ ۩! الشيطان لا يتمكننا، قال تعالى إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ… ۩ ماذا؟ ضَعِيفًا ۩، فبالله إذا كان كيد الشيطان ضعيف فكم هو ضعف وهشاشة وتحطم شخصية مَن هو كالكرة في يد الشيطان! لو الله قال إن كيد الشيطان كان مُحكَماً قوياً متيناً لقلنا قد قام بعض العذر – له عذر – لمَن وقع في حبائل الشيطان، لأن كيده عظيم يا أخي، الله قال لا، قال لا! لا تضحك على نفسك، لا تُخادِع نفسك في الحقائق، كيد الشيطان ضعيف، وهو لا يملك عليك إلا الوسوسة، لكن النفس خبيثة، التربية غير موجودة، الإيمان ضعيف، والخشية مفقودة، هذا هو! واجه نفسك بالحقائق، ارجع إلى نفسك، لا تُحاوِل أن تعتذر وتكذب على نفسك قبل أن تكذب على خلق الله وعلى عباد الله، فإذا كان كيده ضعيفاً كم يبلغ ضعف مَن هو كالكرة في يد الشيطان! هو معين الضعف، هو أبو الضعف وأمه إذن، لا تُوجَد شخصية، لا يُوجَد إرادة إذن، لا يُوجَد إيمان! أين الإيمان؟ فرُئي هذا الرجل في المنام – رحمة الله عليه – بعد موته، رآه بعض مَن يعرفه، فقال ما فعل الله بك يا فلان – يا سويلم، رجل بدوي -؟ قال غفر لي، قال بماذا؟ قال بتوبتي وخوفي منه في ذاك المقام، خفت منه أنا، خفت من الله فعلاً، ذكَّرتني بالله، فخفت وتراجعت، وهي تهواه وهو يهواها، ولكن خاف الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩، الخوف من الله! لابد أن يكون الله أكبر من الشهوة في قلبك، أكبر من شهوة المال وشهوة السُلطان وشهوة الظهور وشهوة التلميع والتسويق، أكبر! لابد أن يكون أكبر من كل هذا، ليس كلاماً كالذي أقول، وإنما في الواقع وفي التحقق، أن تُثبِت لنفسك أنه أكبر من كل هذا، تُضحي هواك، تُضحي مصالحك، تُضحي منافعك، وأحياناً تُضحي سُمعتك من أجل أن يرضى هو ولا يسخط، لا إله إلا هو!

سُئل – عليه السلام – يا رسول الله ما أفضل الإيمان؟ قال أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت، هذا أفضل الإيمان! قال سهل بن عبد الله التستري – قدَّس الله سره – ما تزيَّنت قلوب الخلق بشيئ أشرف ولا أفضل من علمها أن الله معها في الخلاء والملاء، أجمل زينة للقلب أن تعلم دائماً أنه معك، قالت إحدى العارفات – قدَّس الله سرها – مَن عبد الله وعامله على المُشاهَدة فهو العارف، ومَن عبد الله وعامله على مُشاهَدته لله فهو المُخلِص، اللهم اجعلنا أحد الرجلين، وهكذا يتفاوت هذا المقام، وهذا مقام الإحسان! أن تعبد الله كأنك تراه: المُشاهَدة، فإن لم تكن تراه فإنه يراك: المُراقَبة، مقام المُشاهَدة – أعلى – مقام العارفين، ومقام المُراقَبة مقام المُخلِصين، وهذا التفاوت بحسب نفوذ البصائر، بحسب نفوذ بصيرة المُؤمِن، هكذا!

استوصى بعضهم شيخه، قال له يا شيخي أوصني وعظني وأوجِز، قال لئن عصيت الله وأنت تعلم أنه يراك لقد ارتكبت عظيمة – أتعصيه وأنت تعرف؟ أتستحضر أنك في نظره، أنك بسمعه وبصره، وأنه يراك روقيب عليك وقائم عليك بما تكسب الآن،ثم تعصيه؟ عظيم، هذا أمر عظيم جداً، كبيرة! لقد أتيت عظيمة – ولئن عصيته وأنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت، لا يُمكِن! فكِّر هكذا، ألست مُؤمِناً؟ تقول أنا مُؤمِن، هذا هو المُؤمِن، يراني أو لا يراني؟ يراني، كيف أعصيه؟ انتبه! وسيدخل إبليس، وكم له مداخل! كم له مداخل ومخارج لعنة الله تعالى عليه! لا تُعَد ولا تُحصى، لكنها ضعيفة أمام بصيرة المُؤمِن، في أقل من ثانية تنفتئ بإذن الله تعالى، مثل بالونة! في أقل من ثانية تنفتئ، سيقول لك لا يأخي، هذا الواعظ شدَّد الأمر علينا، هذا الشيخ الصوفي شدَّد الأمر، أنا أعصي الله وأعلم أنه يراني اتكالاً على عظيم رحمتي وإدخالاً لنفسي فيما أرجوه من عفوه البالغ، لا إله إلا هو! هذا جواب إبليسي، ليس جوابي، جواب إبليس نفسه هذا، جواب إبليسي! وهل تعرف كيف المخلص منه؟ نعم فنحن لا نعبد الله – تبارك وتعالى – خوفاً وطمعاً فقط، أين الحياء؟ أين التوقير؟ أين الإجلال؟ ألا تُوقِّره؟ هل تستطيع أن تفعل نفس المعصية وأبوك يراك؟ لا، هل تستطيع أن تفعل نفس المعصية ومحمد – عليه السلام – يراك؟ والله لا، هل تستطيع أن تفعل نفس المعصية وشيخ يراك؟ والله لا، لكنك تفعلها! هل تعرف لماذا؟ أنت لا تخاف من شيخك، وشيخك ضعيف وسيستر عليك، لكنك تستحييه، تستحي منه، كيف يرى هذا شيخي؟ كيف سأكون في نظر شيخي؟ تستحي منه! أفلا تستحي من رب العالمين وقد أُمِرت أن تستحي منه؟

مُعاوية بن حيدة جده قال يا رسول عوراتنا ماذا نُظهِر منها وماذا نستر؟ ما نبقي وما نذر؟ قال استر عورتك عن كل أحد إلا عن زوجك وأمتك، قال فالرجل يكون خالياً، قال فالله أحق أن يُستحيا منه، استح من الله! يا سيدي أنت لا تخاف لأنك مُتكئ على الرحمة ولا تخشاه لأنك تُرجي العفو، جميل! لكن أين الإجلال لله؟ أين التوقير لله؟ أين الحياء من الله؟ ومن هنا نقول مرة أُخرى المنهج الرباني والشرع الإلهي يُنشئ الضمير ويُصحيه ويُوقِظه ويُربيه أيضاً ليس لأنه مُقدَّس فقط، ولأنه شامل، ولأنه دقيق، يقول لك لا ترقب الله فقط لأنك تخافه، بل لأنك تُجِله، لأنك تُعظِّمه، وليس لهذا فقط، بل لأنك تستحييه، لا إله إلا هو! بل لأنك أيضاً تُحِبه.

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تزعمُ حُبَّهُ                             هذا لعمري في القياس بديعُ.

أي شيئ ما سُمِع بمثله، معنى بديع أنه بدعة، لم نسمع بهذا، بعضهم لم يفهمها فأحالها إلى شنيع، لا بأس عليه.

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تزعمُ حُبَّهُ                             هذا لعمري في القياس بديعُ.

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ                                 إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.

وسلوا مَن أحب امرأةً وعلقها وأراد أن يتزوَّج بها إلى حد التميم هل يعصي لها أمراً؟ لا والله، بالعكس! هو يتخيَّل لها أوامر ويُطبِّقها قبل أن تأمره، يقول فكَّرت أنكِ تحتاجين هذا الشيئ، فكَّرت أنكِ تُحبين هذا الشيئ فأتيت به، ما شاء الله! سابق إلى مرضاة الله كإبراهيم، كيوسف، وكموسى، قال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ۩.

نعود، الضمير يقوى ويضعف، له شدة بلا شك، وهو درج أو درجات، مُدرَّج! كيف نعرف؟ كما قلت أحسن معيار الأمانة، والأمانة معنى واسع وعريض وشامل، فالإنسان قد ينجح في اختبار الضمير مع أمانة مائة ألف يورو، لكنه يفشل مع أمانة – مثلاً – عشرة ملايين يورو، ضميره تعبان وضعيف، نجح إلى حد مائة ألف، مع عشرة ملايين راح  الضمير، تخرَّق الضمير! يُوجَد ضعف في الإيمان هنا، لا تقل لي ضميري ضعيف، لأنه طبعاً لن يُؤثِّر في نفسي كثيراً أن ضميري ضعيف، قل إيماني، خشيتي من الله، رقابتي لله، خوفي من الله، حُبي لله، وتعظيمي لله ضعيف، ضعيف! أضعف من عشرة ملايين يورو أو من مليون يورو، أضعف! أي مليون يورو ثقلت عندك – والعياذ بالله – برب العالمين، هذا في قلبك طبعاً، لا يثقل به شيئ، ولا يثقل باسمه شيئ، لكنك هذا في قلبك.

قد ينجح الإنسان في امتحان الضمير بإزاء فتنة امرأة مُعتدِلة الجمال أو مُتوسِّطة الجمال، ويخسر ويرسب – يسقط في امتحان الضمير – بإزاء فتنة امرأة خلّابة الجمال وفتّانته، فتّانة! يفشل هنا، نفس الشيئ، يُوجَد ضعف إيمان، مُستحيل! يوسف نجح مع زليخة، زليخة يُقال كانت أجمل نساء عصرها، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۩، مُباشَرةً من غير تفكير، إِنَّهُ رَبِّي ۩، مَن ربه؟ عزيز مصر، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۩، قال هذا سيدي وأكرم وأحسن مثواي، كيف أخونه؟ انتبهوا! هذه فيها ملحظ مُمتاز جداً جداً، كأن الله يقول لنا لا بأس أن تكون الرقابة أو الضمير مُبرَّرة أيضاً ومُؤسَّسة على معاني مثل هذه، معاني الوفاء، انتبهوا! هنا لم يقل أنا أخشى الله رب العالمين، لو قالها لحق له وهو يخشاه بلا شك، لكنه قال كيف أخون أمانة سيدي وقد أحسن إلىّ؟ إذن هل يُمكِن أن يتأسَّس الضمير على هذه القيم: قيم العفة، قيم الوفاء، وقيم الإحسان مُقبِل الإحسان؟ نعم، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه القيم أيضاً بذاتها قيم فطرية، ركزها الله في نفس الإنسان، موجودة كجرثومة، ليس بمعنى أنها ميكروب Microbe، الجرثومة هي الأصل، كأصل وكبذرة، موجودة! ما الذي يُنميها ويُنعِشها؟ التربية الدينية، رقابة الله، عبادات الإحسان، مُشاهَدة ومُرقابة، هذا هو! لكنها موجودة في الإنسان.

بعض الناس يتحدَّث عن الضمير حتى عند الحيوان، عند القط، عند الكلب، وما إلى ذلك، هذا الكلام ليس علمياً وليس دقيقاً، لا! الضمير – ونختم بهذا – ثلاث درجات، ضمير الإنسان الذي يرقب المُجتمَع والقوانين ما دام مرقوباً، فإذا غفلت عنه عين الرقيب تخرَّق كل شيئ، وهذا موجود لدى كثيرين والعياذ بالله، وخاصة الضمير المُؤسَّس على غير المُقدَّس، حتى الحيوانات ما دامت مرقوبة فإنها لا تسرق، الحيوان حينها لا يسرق منك ولا يأخذ منك، فإن غفلت عنه ربما خالفك إلى بعض متاعك، عنده هذا الضمير، لكن هذا ليس ضميراً، هذا نحن لا نُوافِق أن نُسميه ضميراً، هذا ليس ضميراً، هذا شيئ آخر إشراطي، هذا شيئ إشراطي أو ملكة إشراطية، هناك الضمير الثاني، وهو في أكثر الخيّرين والصالحين، يحترم ما ينبغي احترامه سراً وجهراً، رُقِب أم غُفِل عنه، سيان أبداً! حتى إن كان وحده فإنه لا ينتهك المُحرَّمات والمحظورات، وهذه درجة راقية، وأكثر الصالحين من أبناء هذه الدرجة، هل فوقها درجة؟ نعم، وهذه لا تكون إلا للنبيين والمُصلِحين وكبار العارفين وأصحاب الهمم، خواص الخاصة أو خاصة الخاصة، هذا لا يعنيه ماذا يقول المُجتمَع وماذا يقول الناس والجماهير، يعنيه أن يكون هو مُرتاحاً ومُقتنِعاً ومُطمئناً إلى ما يأتي وإلى ما يذر وإن خالف العالمين، وإليه الإشارة بقول النبي المُحمَّد – عليه السلام – استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ما دام قلبك ليس مُرتاحاً قل لا، الشيخ قال لك مُباح والقاضي قال هذا لك لكن قلبك ليس مُرتاحاً وضميرك غير مُرتاح، فقل لا، بالنسبة لي ليس مُباحاً وليس حلالاً، لن آخذه وسأرده، حتى يستريح الضمير، لا تتذرَّع بفتوى المُفتي وبقضاء القاضي، ضميرك ليس مُرتاحاً!

محمد بن عبد الجبّار النفري – قدَّس الله سره – صاحب المواقف والمُخاطبات قال لي كيف تيأس مني وسفيري في قلبك وحديثي إليك؟ يُوجَد حديث رباني أحياناً، إلهام! صوت الرب – لا إله إلا هو – في قلب كل مُؤمِن صادق بإذن الله، قلبه معمور بالتقوى، مُنوَّر برقابة الله تبارك وتعالى.

نسأل الله – عز وجل – أن يُعمِّر قلوبنا وقلوبكم بذكره، اللهم قدِّس ضمائرنا ونوِّر سرائرنا وعُد علينا بعائدة خير وفتح يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                               (الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ذكر الإمام محمد بن محمد الجزري – شيخ مُقرئي عصره رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الزهر الفائح في ذكر مَن تنزَّه عن الذنوب والقبائح أن أحد الصالحين كان كل ليلة قبل أن ينام يأتي إلى قرطاس فيكتب فيه ماذا فعل في يومه، فإن وجده مأثمة أو ذنباً ظل يبكي ويتندَّم حتى يُصبِح، قال الشيخ ابن الجزري ثم مات – قدَّس الله سره – فرُئي في المنام، فقيل له يا شيخ ما فُعِل بك؟ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن، فإنه مما يُخفِّف على أحدكم الحساب يوم القيامة أن يُحاسِب نفسه في الدنيا، قال أوقفني بين يديه وقال لي اذهب مغفوراً لك، فقد جعلت حسابك في الدنيا لنفسك بدل حسابي لك في الآخرة، أنت أتعبت نفسك! اللهم اجعلنا من أمثالهم، اللهم اسلك بنا سبيلهم وطرائقهم يا رب العالمين، وافتح علينا فتوح العارفين بك.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا غائباً إلا رددته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه وحُزنه يا رب العالمين.

اللهم اهدنا واهد بنا، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم اجعلنا من الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۩، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكرو الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(27/4/2007)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك