إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله وقد جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين.
أيها الإخوة والأخوات:
قد جاء شهر رمضان، شهر مُبارَك، شهر افترض الله – سُبحانه وتعالى – عليكم صيامه، وفي حديث آخر وسن لكم قيامه، تُفتَح فيه أبواب الجنة، وتُغلَق فيه أبواب الجحيم، وتُغَل فيه الشياطين، شهر فيه ليلة خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، مَن حُرِم خيرها فقد حُرِم، قال أبو هُريرة – رضيَ الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يُبشِّر أصحابه، وذكر البُشرى التي تلوت عليكم، والحديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، وهو صحيح، قال الإمام العلّامة ابن رجب الحنبلي – رحمة الله تعالى عليه – وهذا الحديث أصل في تهنئة المُسلِمين بعضهم بعضاً بشهر رمضان، هذه التهنئة التي درجنا عليها واعتدناها، ولا يفهمها تقريباً مَن ليس مُسلِماً، غير المُسلِم يتعاصى عليه فهم لماذا يُهنئ المُسلِمون بعضهم بعضاً بشهر يمتنعون فيه عن ملاذهم، يمتنعون فيه عن الطعام والشراب ومُقارَبة نسائهم بالحلال، إنه شهر مشقة، إنه شهر ظمأ، شهر جوع، شهر نصب وتعب، شهر حرمان! ولذا يفهمونه أو يظنونه نوعاً من العقوبة، في الأديان أو في أكثر الأديان – إن لم يكن في كلها – أمثال هذه التكاليف تأتي عقوبةً، إلا أن المُسلِم يختلف الأمر عنده تماماً، وهو يُهنئ نفسه وإخوانه صادقاً بمقدم هذا الشهر الفضيل، إنه جذلان وفرحان وجد مسرور ورضيان بمقدم هذا الشهر، وهو قد جرَّبه، مَن صام رمضانين أو ربما عشرة رمضانات أو عشرين يعلم هذا جيداً.
المُسلِم يستقبل هذا الشهر لا على أنه محض تكليف وبمشقة وبأنواع من الحرمان، كلا! إنه يستقبله على أنه فُرصة، فُرصة حقيقية ونُهزة ينتهزها، فُرصة يفترصها ونُهزة ينتهزها، لماذا؟ لأجل ماذا؟ لأجل أن يُدبِّر حاله، لأجل أن يسوس بدنه سياسةً جديدةً لا يستطيعها في غير رمضان، بعض الناس بفعل القصور الذاتي النفسي سطت بهم عادات مرذولة، عادات مقبوحة في تناول كميات مهولة من الطعام والشراب، وهم لا يملكون زمام أنفسهم إزاء هذه العادات، عادات ساطية بهم! ولذلك هم يفرحون برمضان، لأنه فُرصة إجبارية في نفس الوقت – فُرصة إجبارية وإلزامية – لكي يُعيدوا سياسة أبدانهم وأجسامهم، والأهم من هذا بكثير لكي تزكو نفوسنا وترقى أرواحنا إن جاز التعبير، هذا الشهر فُرصة للتزكية والترقية والتصفية والرقي والعروج وباختصار للتطهر ظاهرياً وباطنياً، ظاهرياً تتطهَّر هذه الحواس من أن تتسع فيما لا يحل، بل أحياناً فيما لا يجمل وإن كان حلالاً، إنها تنكمش وتنكفئ وتُساس بسياسة جديدة، لا يتسع السمع ولا يتسع البصر وطبعاً لا يتسع اللسان ولا الخطو ولا البطش بالأيدي، كل هذا ينقمع وينكفئ ويعود إلى حالة من الهدوء ومُزايلة الصخب ومُزايلة الشغب، كم ذا تشغب علينا هذه الحواس في ليلنا ونهارنا – حواس الباطن وحواس الظاهر – وتدعنا في حالة من الصخب اللاغب المُتعِب! لا تدع للإنسان فُرصة لكي يُحاسِب نفسه، لكي يُراجِع أعماله، لكي يُقوِّم سلوكاته، ليس هناك مثل هذه الفُرصة، لكن في رمضان يحصل هذا تماماً، يحصل هذا تماماً وبسلاسة وبسهولة، لكن مِمَن ولِمَن تحقَّق بحقيقة الصوم، لمَن فهم المُراد والمقصود لله – تبارك وتعالى – من هذا التكليف الذي يبدو بظاهره شاق، وهو تكليف من أجمل ومن أروع ومن أبدع التكاليف، إنه نعمة، علينا أن نشكر الله – تبارك وتعالى – عليها.
روى الإمام أحمد عن أبي هُريرة أيضاً – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -، قال جاء رجلان من بلي من قضاعة إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أسلما معه، فاستُشهِد أحدهما – سقط شهيداً في المعركة – وأُخِّر الآخر سنةً، قال طلحة بن عُبيد الله – أحد العشرة، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين – فأُريت الجنة – أي في المنام – ورأيت المُؤخَّر منهما أُدخِل الجنة قبل الشهيد فعجبت لذلك، هذا شهيد! الناس يظنون أن الشهادة أرفع منزلة وأروع شيئ، لكن ليس دائماً، أحياناً طول العمر مع حُسن العمل يفوق الشهادة بمراحل، النبي سيُبيِّن لنا هذه المراحل، سيُبيِّن اندياحها وسعتها، قال فعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، أو قال – الشك من الراوي طبعاً وليس من طلحة – أو ذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسل، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – نافياً هذا العجب ومبعثه أليس قد صام رمضان بعده؟ في السنة التي أُخِّرها هذا المُؤخَّر صام رمضان، منّة عظيمة! وبدأ النبي برمضان، قال أليس قد صام رمضان بعده؟ رمضان زائد الآن لهذا، يزيد به على ما صام أخوه، قال أليس قد صلى ستة آلاف ركعة أو قال كذا وكذا ركعة صلاة في السنة؟ وبهذا سبق وأُدخِل الجنة قبل أخيه، أجابوا في رواية الإمام الترمذي رضوان الله تعالى عليه، قالوا بلى يا رسول الله، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فإن بُعد ما بينهما – أي في المنزلة والمقام في الجنة – أبعد مما بين السماء والأرض، الذي أُخِّر سنة درجته ومقامه في الجنة أبعد وأرقى وأكثر سمواً وسماقةً من الآخر الشهيد، أبعد مما بين السماء والأرض، الله أكبر!
ولذلك علينا أن نستشعر عِظم وجسامة وخطر هذه النعمة الجليلة، أن أخَّرنا الله – بفضله ومنّه وكرمه المحض، لا إله إلا هو – حتى نصوم هذا الشهر أيضاً، فله الحمد حمد الشاكرين – سُبحانه وتعالى – عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومداد كلماته، هذا من فضل الله علينا، أن أُخَّرنا!
يعجب غير المُسلِم من فرحة المُسلِمين، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونسائهم، حتى الأطفال يصومون، كثيرون أو كثيرٌ من أطفال المُسلِمين يصومون، يُصوِّمهم أهلهم وبعض الأطفال ينبعث إلى ذلك عن رضا، عن سماحة، عن طواعية نفس، وعن محبة، يُحِب هذا، فإذا مُنِع بكى، عجيب! ما هو السر؟ ما سر هذا التلذاذ بهذه العبادة الحارمة، عبادة الحرمان؟ يعجبون! وأقول لو تحقَّق المُسلِمون حقاً بمعنى الصيام وروحه ورسالته لأقاموا من أنفسهم برهاناً ودليلاً على أنهم عجب، فعلاً عجب! وحُق لغيرنا أن يعجب، لكن لا من الحرمان، وإنما من التحقق بحقيقة الصيام، فمن أسفٍ أن بعض المُسلِمين – ولا اود أن أقول إن كثيراً من المُسلِمين – يفهم الصيام على أنه حرمان من الملاذ الحسية فقط، الطعام والشراب وقربان النساء فقط! فإذا هو فعل ذلك وابتعد عد نفسه صائماً وعد صيامه صحيحاً وإن شاء الله مقبول، نسأل الله أن يتقبَّل صيام جميع الصائمين، هذا ما نرجوه ورحمة الله واسعة، ولكن في الحقيقة قبل أن يكون الصيام تدبيراً للجسد بهذه الحرمانات المحدودة هو تدبير للنفس، والدليل ما يعده السادة الفقهاء صحيحاً ليس بالضرورة عند الله يكون صحيحاً، صدِّقوني!
فصيام – مثلاً – مَن لم يأكل ولم يشرب ولم يُقارِب أهله ولم يأت مُفطِراً من المُفطِرات عند الفقهاء جميعاً صحيح، باستثناء بعض هؤلاء الذين رأوا التفطير بالغيبة، بالكذب، وبالنميمة، وهم قلة! ندرة من السادة الفقهاء، كالعلّامة ابن حزم – مثلاً – والسُفيان الثوري والإمامية الشيعة، ندرة على كل حال! لكن أكثر الفقهاء يرون صيامه صحيحاً، فهل يرى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – هذا الصيام صحيحاً مقبولاً؟ لو كان صحيحاً لكان مقبولاً! النبي يقول في الحديث الشهير الذي نتحفَّظه جميعاً رب صائم حظه من صومه الجوع والظمأ، أي ليس صائماً عند الله، نعم منع نفسه من الطعام والشراب والنساء لكن هذا حظه من صومه، ليس له أجر الصائم ولا مثوبة الصائمين.
إذا لم يكُ في السمع مني تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ.
فحظي إذن من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمت.
ولذلك قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الصحيح الشهير مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، لماذا تحرم نفسك من الطعام والشراب؟ أنت تركت الجوهر، تركت ما هو أهم، تركت أن تزم نفسك وأن تمنعها عن هذه الكبائر المُوبِقة، عن الكذب، عن الغيبة، عن النميمة، عن البذاء، عن الفُحش، عن السعي في مضار عباد الله، في الإيقاع بينهم، في التحريش بينهم، عن كسب الطعام، عن أكل الحرام، وعن شرب الحرام! بعض الناس – والعياذ بالله – كما قال الإمام أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم – يمنع نفسه نهاره بطوله عما أحل الله من طيبات المطاعم والمشارب، ثم يُفطِر على ما حرَّم الله، إما أن يكون ما أفطر عليه مُحرَّماً بذاته أو مُحرَّماً لغيره، سمعنا عن بعض هؤلاء المُعثَّرين – والعياذ بالله – المنكودين يُفطِر على كأس من خمر، لأنه حُرِم عنها نهاره، وهو لا يستطيع مُباعَدتها، فأول ما يُفطِر عليها، بعضهم يُفطِر على تمر حلال في ذاته، لكن كسبه من حرام، أخذه من مال مُحرَّم والعياذ بالله، فهذا أفطر أيضاً على ما حرَّم الله، قال إمامنا فمثل هذا كمثل مَن بنى قصراً وهدم مصرا، تظن نفسك بنيت قصراً لكنك هدمت مدينة كاملة، هدمت قطراً كاملاً! ماذا فعلت أنت؟ ماذا فعلت؟ بنيت شيئاً يسيراً، وهدمت شيئاً عظيماً طائلاً، وهذا لا يجوز، لا يجوز!
ولذلك – انتبه – ليس المُهِم ما يقوله الفقهاء، المُهِم ما يقوله مُعلِّم الفقهاء، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، المُهِم ما ترجع به أنت من تجربة الصوم يوماً فيوماً، انظر إلى نفسك حين تُفطِر، حين تتناول طُعمة أو لُقمة الفطر، هل عُدت وأُبت من يومك هذا الشاق المحروم بنفسية أكثر رقياً، أكثر نقاءً، أكثر صفاءً، وأكثر زكاءً؟ هل تركت ذنوباً كنت تُقارِفها؟ هل تُبت من فواحش كنت ترتكبها وتحتقبها والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ هل صالحت مَن قاطعته وصارمت وداده في الشيطان، لا في الله تبارك وتعالى؟ صرمت حبل أخيك في الشيطان، لوجه الشيطان، وليس لوجه الله! هل اعتذرت مِمَن أخطأت في حقه؟ هل اعترفت بذنبك لمَن أيضاً قصَّرت في حقهم؟ اعترف! الاعتراف بالحق فضيلة وتطهير للنفس وتواضع وربانية، هل فعلت هذا؟ فإن فعلت فأنت صائم، في نهاية المطاف ستجد نفسك بعد شهر كامل قد عُدت وانقلبت إنساناً آخر، تندهش وتعجب من نفسك! هل كان لدي كل هذه الإمكانات وكل هذه الفُرص وكل هذه القُدر أن أكون كما أنا الآن؟
ولذلك رمضان إن تجوهرنا به وإن تحقَّقنا بمعناه وبسره أيضاً سيُقيم برهاناً على أننا في غيره كنا كذبة في عزائمنا، عزائمنا ليست ماضية، كنت مُتلاعِبين في نوايانا، عزمنا على أن نترك الفحشاء، نوينا أن نعبد الله حقاً، ولم نُفلِح في غير رمضان، لماذا؟ لأننا لم نصدق الله تبارك وتعالى، جاء رمضان ليكون فُرصة إلزامية لمَن أراد وصح منه العزم، لكنه فُرصة إلزامية لكي يُقيمنا على النهج، النهج الواسع اللاحب البيّن بحمد الله تبارك وتعالى.
بعض الناس يتعاصاه ويتكاءده الإقلاع عن عادة مرذولة من العادات الساطية به وهي كثيرة جداً، ويُحاوِل مرة ومرتين ومائة مرة، ولا يستطيع! يعود دائماً في حافرته، وينقلب إلى ما كان عليه أبداً، يصبر يوماً، يومين، أسبوعاً، وأسبوعين، ثم يعود! لكن رمضان جاء ثلاثين يوماً، لكي يُلزِمنا الإقلاع عن سيء مُعتاداتنا.
العجيب أنني قرأت في بعض الدراسات – وهي دراسات أجنبية للأسف – ما يُقرِّر هذا، وكان الحري بالمُسلِمين أن يبحثوا عن سر هذه الثلاثين، عن سر هذا التحديد! لماذا؟ لماذا كانت ثلاثين يوماً؟ لماذا لم تكن عشرين أو أربعين كالتي صامها موسى عليه السلام؟ لماذا كانت ثلاثين؟ قرأت هكذا بالنص والفص في بعض هذه الدراسات الأجنبية، أن على المرء إذا أراد أن يقتلع جذور عادة سيئة أو يتعوَّد عادة جديدة مهما تظهر سهلة ميسورة أن يتكابد ذلك وأن يتعاناه شهراً كاملاً، في أقل من شهر لا يُمكِن أن تُقتلَع عادة ولا يُفلِح المرء في زرع بذورة عادة جديدة، لا يُمكِن! لابد من شه، قلت عجيب جداً، ومن هنا كان رمضان شهراً كاملاً، وجرِّبوا! ليُجرِّب أحدنا نفسه، الذي ابتُليَ بالكذب – والعياذ بالله – عليه أن يُجرِّب هذا، كثيرٌ من الناس مُبتلون بهذه المقبحة، يكذبون إن اضطروا وإن خيروا، فيما يضطرون فيه إلى الكذب أحياناً وفيما هم مُختارون، يكذبون! أعرف بعض الناس يكذب في الصغير والكبير من غير داعٍ والعياذ بالله، مرض! كذب مرضي والعياذ بالله، يلتذ به، الشيطان يتلاعب به كالكرة كما كان يقول السلف الصالحون، على كلٍ ليُجرِّب نفسه هذا الذي ابتُليَ بمقبحة الكذب، وليُحرِّم على نفسه – وهو حرام – الكذب في رمضان، يوماً فيوماً، وليلةً فليلةً، وليختبر نفسه بعد ذلك، بعد شهر سيجد أنه صار يتقزَّز ويشمئز من الكذب والكاذبين، وسيرى نفسه مُشمئزاً من نفسه قبل شهر، كيف كنت واحلاً في هذا الوحل؟ كيف كنت ساقطاً في هذه الوهدة؟ كيف؟ والأمر يبدو أنه سهل، سهل على مَن سهَّله الله عليه.
ولذلك جواباً عن سؤال هل نعلم أن الله تقبَّل منا رمضان؟ خطر لي أن هناك سمة وأمارة قطعية، يستطيع كلٌ منا أن يعرف أن الله تقبَّله أو لم يتقبَّله، انظر في نفسك بعد رمضان، إن شعرت وأحسست بتغير حقيقي في نفسك – تغير حقيقي، عادات كثيرة زايلتك وتركتها، وعادات حميدة أنت الآن تعوَّدت عليها وتتعاطاها – فقطعاً صيامك مقبول، هذه أكبر علامة! كما قالوا في الحج المبرور الذي ليس له ثواب إلا الجنة، لهم أقاويل كثيرة، أعدلها وأظهرها قالوا إن عاد بعد الحج أحسن مما كان قبله فحجه مبرور وهو مقبول عند الله تعالى، إن عاد بعد الحج كما كان قبله وربما أسوأ فحجه غير مبرور وهو ليس مقبولاً عند الله تعالى، بعض الناس – والعياذ بالله – يعود أسوأ، هل تعلمون لماذا؟ بعض الناس! قليلٌ ما هم إن شاء الله تعالى، لأن الواحد منهم يتعامل ويتعاطى مع حجه على أنه أشبه برشوة، يرشو بها نفسه الأمّارة، وربما – والعياذ بالله، اللهم غفراً – يرشو بها رب العزة، يقول انتهى، أنا قد أدأبت نفسي وتعبت وأنفقت ربما خمسة آلاف أو ستة آلاف يورو، فإذن الآن سأُحِل لنفسي ما كنت حتى أُحرِّمه عليها، والعياذ بالله يعود أسوأ مما كان، هذا الجاهل الذي لم يفهم مقاصد العبادة، لم يفهم عن الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو! وهكذا يا إخواني.
إذن رمضان فُرصة وليس تكليفاً شاقاً، فُرصة نُهنئ أنفسنا بها، فُرصة ننمو ونزكو بها، تزكو نفوسنا وتنمو، نُصبِح ناضجين حقيقةً، نُصبِح ناضجين نفسانياً، ونُصبِح ناضجين مسلكياً.
مَن أراد أن يُسامِح فليُسامِح في رمضان، عندك مُشكِلة – مثل خصام مع أحد الناس – وتُريد أن تُسامِح وأن تُصالِح وأن تُعيد الأمور – كما يُقال – إلى مجاريها في رمضان افعل هذا، أجرك أعظم إن شاء الله تعالى، وإن لم تفعل فصيامك مُعلَّق، غير مقبول عند الله، انتبه! المُشاحَنة والمُخاصَمة والمُدابَرة والمُصارَمة لا يُقبَل الصيام معها، لا يُقبَل! ولا تُقبَل عبادات كثيرة مع هذه الأشياء – والعياذ بالله – المُكدِّرة، المُكدِّرة لصفاء النفس المُؤمِنة، المُؤمِن لا يعرف الشحناء والبغضاء والصرام، وكما قلت لوجه الشيطان وليس لوجه الله تبارك وتعالى، والنبي قال خيركم كل صدوق اللسان، مخموم القلب، قالوا صدوق اللسان عرفناه يا رسول الله، فما مخموم القلب؟ قال هو القلب التقي والنقي، لا غل فيه ولا غش ولا حسد، قلب نظيف، ما شاء الله! كالكوكب الدُري، اللهم اجعلنا قلوبنا على هذا المثال وأحسن يا رب العالمين، اللهم آمين.
هكذا مَن أراد أن يُواصِل فليُواصِل في رمضان، صل رحمك في رمضان، سل عن إخوانك في رمضان بالذات، أجرك مُضاعَف أضعافاً كثيرةً، مَن أراد أن يضع دينه عن مدين له فليضعه عنه في رمضان، سامحه في رمضان أو أسقط شطراً أو جُزءً من دينك، في رمضان افعل هذا، مَن أراد أن يتسع في الصدقة والعطايا والرضوخ مما أعطاه الله فليفعل هذا في رمضان.
كان نبيكم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وأسلم – أجود الناس طراً، وكان أجود ما يكون في رمضان إذا جاءه جبريل يُدارِسه القرآن، يقول ابن عباس فكان أجود من الريح المُرسَلة، مع أنه كان في عموم أحواله وفي عادي أحواله لا يُسأل شيئاً فيمنعه، أبداً لم يكن كذلك! لكن في رمضان كان أجود حتى من الريح المُرسَلة، يجود بكل شيئ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وذلكم لما يرجوه من مُضاعَفة الثواب.
بعض الناس – ولله الحمد والمنّة كثيراً كثيراً – يختم القرآن في رمضان مرة، وهو لا يختمه في السنة بطولها مرة، يفعل هذا في رمضان! الحمد لله، طيب مُبارَك وكثير بالنسبة إليه، بعضهم يفعل هذا مرتين أو ثلاثاً، بعضهم يختم القرآن عشر مرات، يقول بعضكم هذا صعب، بالله ليس صعباً، ما أريكم؟ والله ليس صعباً! لماذا؟ بعض الناس يختار أن يقرأ القرآن حين يؤوب من التراويح وربما قبلها، بعض الناس لا يُصلي حتى القيام في المساجد، يقول لي على مذهب المالكية أنا أُصلي في بيتي، وأقول له هل تُصلي حقاً وهل تتخشَّع أم أنك تُتابِع ثلاث مُسلسَلات – إن كانت جمعاً لمُسلسَل فهي ثلاثة – أو ثلاثة مُسلسَلات؟ مُسلسَلاً من بعد مُسلسَل من بعد مُسلسَل، كم هذه! بالدعايات – ما شاء الله كثيرة جداً في المُسلسَلات العربية، لا كثَّرها الله – أكثر من ثلاث ساعات! هل تعلم أنك تستطيع لو حدرت بالقرآن حدراً أن تختم في ثلاث ساعات ونصف الساعة عشرة أجزاء؟ بالضبط عشرة أجزاء! إذن تستطيع أنت كل يوم في هذا الوقت الذي تُسجيه باطلاً مُتبطِّلاً في مُتابَعة مُسلسَلات لا معنى ولا فائدة ولا جدوى من ورائها في أكثر الأحيان أن تختم القرآن كل ثلاثة أيام مرة، إذن ستختمه في رمضان كم مرة؟ عشر مرار، عشر مرار في رمضان يا أخي! ستقول الله أكبر، وهل هذا مُمكِن؟ والله العظيم مُمكِن جداً، جرِّب هذا! ما رأيك؟ اجلس ثلاث ساعات ونصف الساعة وستختم حدراً – اقرأ حدراً، أي المد الجائز اتركه، واحدر بالقرآن حدراً، مع مُراعاة الأحكام مهما استطعت – عشرة أجزاء، ستختم عشرة أجزاء في ثلاث ساعات ونصف الساعة، ستقول الله أكبر، هذا الشيئ فعلاً مُشجِّع ومُحفِّز، شيئ جميل! سأتخذ هذا لي، وليست القضية أن تعلم زوجتي أو أن يعلم ابني أو أن يعلم صديقي أو أن يعلم شيخي، بالعكس! لا أُحِب من أي أحد أن يعلم، وإنما القضية أن يُدخَر هذا لي عند الله يوم القيامة.
تخيَّل أنك في عشرة رمضانات فعلت هذا، يا ما شاء الله! فقط في هذه العشرة الرمضانات تأتي ذخيرتك يوم القيامة مائة ختمة من كتاب الله، والله بعض الناس يعيش مائة سنة ولا يختم القرآن في مائة سنة مائة مرة، ما رأيكم؟ لأنه لا يختمه حتى في رمضان مرة والعياذ بالله، بعضهم يختمه كل سبع سنين مرة حين يخطر على باله، ما هذا؟ وهذا ختم ماذا؟ مائة مرة، فقط في رمضان مائة مرة، ما شاء الله! هذا في عشر سنوات، انتبهوا! كثير جداً هذا، كثير جداً عند الله تبارك وتعالى، وإن آخر منازلكم في الجنة عند رب العزة هي مع آخر آية تلوتموها، تعلمون حديث اقرأ وارق ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تلوتها، الله أكبر!
ابن عرفة التونسي – قدَّس الله سره – أفاد عن نفسه مرة أنه ختم القرآن ليس في بيته وليس في مُصلاه وليس في محرابه، وإنما على ظهر بغلته حين كان يتعاطى شؤونه ويقضي حاجاته على متنه، قال ختمت القرآن على متنها من المرات آلافاً، الله أكبر! آلاف المرات، بُورِك لهم في أزمانهم لصدق نواياهم، الله فسح لهم وأعطاهم بركة حتى في الزمان، لا تُفسَّر لا بالفيزياء ولا بقوانين الطبيعة والزمان، شيئ مُختلِف! لأنهم كانوا صادقين، نسأل الله أن يمنّ علينا بالصدق في مُعامَلته والجد في خشيته – سُبحانه وتعالى – وعبادته، هكذا!
إذن هكذا اجعلوها فُرصة، لا تجعلوها تكليفاً، كما نتعاطى مع الصلاة، تكليف ثقيل! نتمنى أن يدخل وقتها وأن نُؤديها في أي جُزء من وقتها ثم نستريح منها، كذلك بعض الناس يتعاطى مع رمضان، يستريح! يقول الحمد لله، يُمزِّق الورقة في الروزنامة ويقول ذهب يوم والحمد لله، لا! بالعكس هذه فُرصة يُبكى عليها، القلوب الصادقة تبكي – والله – ليلة العيد، حُرقةً واستيحاشاً لما ذهب من هذه البركات ومن هذه الفيوضات، أخطر من هذا – والله أخطر من هذا وأشرف من هذا – ما هو؟ يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ، ألا فتعرَّضوا لها، في رواية فلعل أحدكم أن يُصيبه منها نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبداً، الله أكبر! هل هذه الفُرصة مُتاحة؟ أكثر ما تكون مُتاحةً في رمضان، ما رأيكم؟ في أمثال هذه الأوقات! هذا شهر العطايا وشهر النعم السابغات والنفحات والفيوضات المُبارَكات العلويات، هذا الشهر بالذات! وقطعاً لا يُوجَد شهر في السنة كلها فيه نفحات كالتي تكون في رمضان، ما معنى أن تُصيب أحدنا نفحةٌ لا يشقى بعدها أبداً؟ معنى هذا أن النفحة تُغيِّر جوهره، تُعيد جوهرته، تُجوهِره من جديد! سيُصبِح إنساناً آخر بإذن الله تعالى، ليس بكده هذه المرة ولا بسعيه، وإنما بتعرضه، انتبهوا! هو فقط تعرَّض، أي أراد أن يُرتِّب وأراد أن يُوائم بين نفسه وبين هذه النفحة الإلهية، وأفلح في ذلك، لأن النية صادقة، هو يرى نفسه أضعف من أن يُصلِح نفسه، وهذا صحيح! النبي كان يقول اللهم إنك إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعفٍ وعوزةٍ وفي رواية عورةٍ، هذا يعني أننا لا نستطيع، اللهم تكلنا إلى أنفسنا، لا تستطيع أن نُصلِح أنفسنا، والله لا نستطيع! نُحِب كثيراً هذا ولكن أملنا في الله، على الأقل يا أخي – لا تستطيع ولم تدأب ولم تجتهد ولم تُكرِّر المُحاوَلة، هذا على الأقل، أضعف الإيمان – تعرَّض، تعرَّض لنفحات الله! وأحسن ما يكون التعرض في رمضان، ليس من جهة أن النفحات موجودة وتهب ليل نهار، وليس فقط نسائم الأسحار وإنما ليل نهار بحمد الله تبارك وتعالى، وتزيد في أوقات عن أوقات أُخرى، ولكن لأن كل العوامل المُعينة والمُساعِدة مُتوفِّرة لك في رمضان.
أولاً الصخب الذي تشغلك به الحواس – الاشتغال بالطعام والشراب والنساء – ينتهي، ينتهي هذا الصخب إلى صمت وإلى هدوء، للأسف ترون المُسلِمين في طول العالم الإسلامي وعرضه كأنهم أقسموا يميناً لا يحنثون فيها، ليستعيدن هذا الصخب، حفلات، مُسابَقات، ومهرجانات موسيقية، تُسمى سهرات رمضانية! ما هذا العبث؟ سهرات ماذا؟ لا تُوجَد سهرات الآن، لا تُوجَد سهرات في رمضان، هذا الكلام كله فارغ في فارغ، والله – أنا أُقسِم بالله – هذه خطة إبليسية، من إبليس! يستزل بها المُسلِمين، هل تعرفون كيف كان يقوم الصحابة في رمضان؟ النبي قال – والحديث صحيح – مَن قام مع الإمام حتي ينصرف كُتِب له قنوت ليلة، أي إن أتيت وصليت معنا ثماني ركعات في عشرين دقيقة يُكتَب لك قنوت الليلة كلها إن شاء الله تعالى، لذلك كان الصحابة حريصين – جداً حريصين – على أن يقوموا مع الإمام، فلا ينصرفوا إلا بانصرافه، لكن متى كان ينصرف؟ متى كان ينصرف إمام الصحابة بعد رسول الله؟ إذا خافوا طلوع الفجر، أي قبل الفجر بدقائق، وكانوا يتكئون على العصي، يقرأون القرآن، يقرأون في الركعة بالمائتي آية، فُرصة! لماذا نُضيِّعها؟ ليست للعب، ليست للمُسلسَلات، فُرصة هكذا! وبعد رمضان هناك راحة.
سأُتعِب نفسي كي أُصادِف راحة فإن هوان النفس أكرم للنفس.
وأرحل عن دنياكم فإن مُقيمها كظاعنها ما أشبه اليوم بالأمس!
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعةً فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا.
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويُصبِح ذو الأحزان فرحان جاذلا.
للصائم فرحتان، فرحةٌ عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه، هذه العبادة المُنفرِدة، هذه العبادة الاستثناء، هذه العبادة العجب! في صحيح مُسلِم كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، لا يعلم جزاءه ولا يعلم ثوابه إلا الذي كلَّف به، لا إله إلا هو! لا ملك مُقرَّب ولا نبي مُرسَل، لا أحد يعلم! لماذا؟ لأنه أشرف الصبر وأصفاه وأنقاه، الصوم هو أشرف الصبر، وأما الصابرون فيُوفون أجرهم بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، أي جُزافاً! الله يُعطيهم جُزافاً، بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، يُهيل لهم هيلاً، لا يكيل لهم ولا يزن لهم ولا يعد عليهم عداً، وإنما يُهيل لهم هيلاً، هذا معنى بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، اللهم اجعلنا منهم.
لذلك قال يحيى بن أبي كثير التابعي الجليل كان من دعائهم – يعني الأسلاف الصالحين – اللهم سلِّمنا إلى رمضان – زمانياً الآن، إلى رمضان، حتى لا نموت قبل رمضان، يسألون المحيا والبقاء إلى رمضان، اللهم سلِّمنا إلى رمضان – وسلِّم لنا رمضان وتسلَّمه منا مُتقبَّلاً، اللهم آمين، يعلمون ما هو رمضان يا إخواني، يعلمون! ليس سهرات موسيقية، ليس سهرات في مُنتديات أو حتى في مسجدات، سهرات في الكلام الفارغ! لا ليس هذا، عبادة وليس سهرات في البيوت.
والعجيب أننا حين أخطأنا ففهمنا أن رمضان لا يعدو كونه حرماناً من الملاذ الحسية عُدنا بأقبح عود – والعياذ بالله – وأُبنا بأسوأ نتيجة، يزيد سمننا في رمضان، هذا معروف! تزيد الأوزان في رمضان، تزيد أوزاننا، ويا لله، يا للعجب! وكيف؟ لأننا ننتقم من هذا الحرمان، يبدو أنه ليس مُبرَّراً تماماً بالنسبة إلينا، إذا فهمنا أنه حرمان من ملاذ حسية ولم نفهم أنه رقي نفساني فطبعاً الخُطة كلها تُصبِح فاشلة عند التطبيق، لأنها خُطة مُخالِفة لخُطة الله – تبارك وتعالى – في تهيئة النفس لمُنادَمة الملكوت، تُصبِح فاشلة تماماً! فنأتي ننتقم في ساعات الفطر وفي أوقات السحور، فنبتلع كميات من الطعام لا تُعادِل ثلاث وجبات بل ربما أربع وجبات وأحياناً خمس وجبات، ما هذا؟ بعض الناس باعترافهم يفعلون هذا، وسمعنا هذا في برامج وثائقية في الرائي، أي في التلفاز! يقول أحدهم في رمضان بحسبة بسيطة جداً أُنفِق مما أُنفِق في سائر العام، على ماذا يا حبيبي؟ على الطعام والشراب، على شتى أنواع العصير، على شتى أنواع الحَلْويات والمُقبِّلات والمُشهِّيات، وطبعاً لا نُريد أن نعد ما في القائمة، ما هذا؟ أهذا في رمضان؟ بالعكس! رمضان – كما قلنا – هو شهر الصوم، شهر التأمل، شهر المُراجَعة، وشهر الهدوء، الهدوء الظاهر والهدوء الباطن! يهدأ الإنسان لكي يُعيد حساباته، لكننا أحلناه إلى صخب حقيقي، صخب ظاهري وصخب باطني! صخب ظاهري بهذه المُنتديات والمهرجانات والمُلتقيات والبرامج والأشياء المُلهيات، وصخب باطني بهذه المعدة، بالعكس! لا تتوقَّف، في رمضان لا تتوقَّف، تشتغل بهذه الكميات المهولة من الطعام والشراب، تشتغل باستمرار المسكينة! لا تُوجَد مرمة لا لبدن ولا لنفس والعياذ بالله.
ولذلك علينا أن نفهم حكمة الصوم، حكمة الصوم هي أن نُعيد جوهرة أنفسنا، أن يُعيد سياستها وتدبيرها، جسماً ونفساً، مطلوب منا هذا أيضاً! لابد أن نُعيد جوهرة أنفسنا جسماً، لكن هذا ليس الأهم، الأهم هو ما كان من النفس، أما أولئكم الذين لا يزالون يُبارِزون الله بالمعاصي حتى في شهر رمضان فماذا نقول لهم؟ حتى وهو صوّامٌ يعصي الله، الله أكبر! ما عسانا نقول له؟ لن نقول أكثر مما قال الشاعر الأول وقد أجاد إلى ما شاء – رحمة الله عليه – أو ما شاء حين قال:
يَا ذَا الذي ما كفَاهُ الذَنبُ في رجبِ حتى عصَى الله في شَهر شَعبان.
كم كنت تعرفُ مِمن صَام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان!
أفناهم اْلموتُ واستَبْقاك بَعـــــدهم حياً فما أقرب القاصي من الدّانـي.
سل نفسك أين عمي؟ تولى، أين عمتي وخالتي؟ ترحلتا، أين أخي الأكبر؟ ربما أين أمي؟ أين أبي؟ أين جاري؟ أين مُعلِّمي؟ كلهم أدبروا وترحلوا وأصفرت منهم الديار، وأنت هنا، انتبه! فلِمَ هذا الغرور؟ لِمَ هذه الخديعة للنفس؟ لماذا نكون مخدوعين إلى هذا الحد؟
كم كنت تعرفُ مِمن صَام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان!
أفناهم الموتُ واستبقاك بَعـدهم حياً فما أقرب القاصي من الدّانـي.
ومُعجَب بثياب العـيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان.
حتى متى يعمرُ الإنسان مسكَنه مصير مسكنه قبر لإنسان.
هذا الذي نقوله لمَن لا يزالون يُصِرون على مُبارَزة الله بما يكره سُبحانه وتعالى، وهو الحليم الكريم الستّير، الذي ورد في حقه عن عبده إذا عصاه حلم عليه، فإن عاودها ستره، فإن الخلق يُعيِّرون ولا يُغيِّرون، الخلق يُحِبون فقط أن يجدوا أي تُهمة – بالتُهمة فقط – لكي يفضحوا هذا الظنين المُتهَم، لكن يختلف الأمر إن عاد ثالثةً ولبس لها ملابسها، أصر! سيُصبِح بطلاً في هذه المعصية، فالقضية ليست مُجرَّد زلة أو خطأ عارض، فعلها مرة ومرتين والآن تهيأ أن يلبس لها ملابسها، أي ملابس المعصية، فارس! بطل المعصية، ورد في الأثر أن الجبّار لا إله إلا هو – يغضب لنفسه غضبةً لا تقوم لها السماوات والأراضون، ويتأذن بإهلاكه وفضيحته.
فانظروا إلى آثار هؤلاء العُصاة وانظروا إلى مآلاتهم وانظروا إلى عواقبهم في الدنيا وليس في الآخرة، فهي لما تأتي بعد، وإنما في الدنيا، ما أسوأ عواقبهم! ما أردى أحوالهم والعياذ بالله! عياذاً بالله من أمثالهم وأمثال أحوالهم.
اللهم إنا نقول هذا القول ونستغفرك لما أسلفنا ولكل ذنبنا جميعاً، دقه وجله، ظاهره وخفيه، سره وعلانيته، فاغفر لنا يا غفور، يا رحيم، يا جواد، يا كريم، يا رب العرش العظيم.
استغفروا الله، فيا فوز المُستغفِرين!
_____________________________________________________________________________
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، يا إخواني ويا أخواتي:
قبل ان أُغادِر هذا المقام أُحِب فقط أن أتكلَّم في موضوع يهمنا جميعاً، اهتممنا به أو لم نهتم به هو موضوع مُهِم بل مُقيم مُقعِد في ذاته، موضوع مقامنا في هذه الديار التي أكرمتنا، وسنكون واضحين وصريحين دون مُجامَلات لأنفسنا أو للآخرين، هذه الديار التي أوتنا وأكرمتنا وأشعرتنا الأمن والراحة بحمد الله تبارك وتعالى، ونلنا فيها حقوقاً كثيرةً، أنا سأُجازِف بالقول مُوقِناً إن أكثر هذه الحقوق لا ننال بعضها في أكثر دول الإسلام والعروبة، ما رأيكم؟ هذه حقيقة واضحة تماماً، أحياناً يتأخَّر عنك حقك فتأتيك رسالة تُذكِّرك بحقك، تعال إلى المكتب الفلاني وخُذ حقك أو إذا أردت أن تُمدِّد حقك فلك هذا، لا تُغتال هنا الحقوق، بلاد أمن بفضل الله تبارك وتعالى، بلاد أمن وبلاد سلام، بلاد طيبة حقيقةً! إلى الآن لم نر فيها ما يُعكِّر جونا بشكل عام، إلا أن هناك فئات منكودة – والعياذ بالله -، مشبوهة في مقاصدها، مدخولة في نواياها وفي عقولها وتدابيرها، يبدو أن مُشكِلتها – أنا أقول – ليست مع الجهات الرسمية في هذه البلد – في تقديري – ولا حتى مع غير المُسلِمين، يبدو أن مُشكِلتها الحقيقية الرئيس هي معنا نحن، مع المُسلِمين! هي غير سعيدة وغير راضية بما نجده وبما نحن مُنعَّمون به من أمن، بالنسبة إلينا من أمن وإيمان، سلامة وإسلام! أنا أقولها وأُشهِد الله عليها من على هذا المنبر، أنا وسائر إخواني الوعاظ والخُطباء لنا فُسحة وفُرصة أن نقول كل ما نقتنع به دون حسيب أو رقيب – بفضل الله تبارك وتعالى – في عموم الأحوال، لا نستطيع على أي منبر في دولة عربية إسلامية أن نقول عُشر معشار ما نفوه به هنا وأنتم تعلمون هذا، جميل! هؤلاء يبدو أنهم مغيظون ومُحنَقون من هذا الوضع، لِمَ يتمتَّع المُسلِمون بهذه الحريات وبهذا الأمن؟ ولذلك عقدوا عزمهم على أن يُعكِّروا علينا أحوالنا وأن يُبدِّلوا نعمة الله علينا كفراً وأن يُحِلونا دار البوار والعياذ بالله.
قبل أكثر من سنة وُضِعت قنبلة والعياذ بالله – لا أدري موقوتة أو غير موقوتة، لكنها قنبلة – في مقر إخواننا الشباب المُسلِم، وتبيَّن بعد ذلك أن واضعها من المُسلِمين، مُسلِم! ضُبِط ولله الحمد والمنّة، نحن نحمد الله طبعاً ونشكره جزيل الشكر على أن يُضبَط أمثال هؤلاء العابثين.
قبل بضعة أشهر يُكتَب على الإنترنت Internet تهديد لحكومة النمسا، طبعاً ولشعب النمسا! بأنكِ إن لم تسحبي قواتك وتفعلي كذا وكذا من كذا وكذا فأنتِ إذن مُعرَّضة لتهديد حقيقي، بحمد الله قبل أيام أو قبل يومين بالحري ضُبِط هذا المعتوه، سأقولها واضحةً لأنه شخص معتوه حقيقةً، ضُبِط هذا المعتوه من جُملة معاتيه لا نعلمهم، الله يعلمهم، نسأل الله – عز وجل – أن تطالهم جميعاً يد القانون والعدالة، حتى لا تتبدَّل أحوالنا بواراً، صدِّقوني!
أنت أيها الطبيب في عيادتك، أنت أيها المُهندِس في مرسمك، أنت أيها العامل في معملك، أنت أيها المُوظِّف في دائرتك، وأنت أيها القابع في بيتك تأكل خيرهم، والله لن يبقى واحد منكم بعد ذلك آمناً، ليس من الحكومة – هذه حكومة رشيدة وعاقلة – ولكن حتى من الشعب، والشعوب من السهل جداً أن تُهيَّج وأن تُعبَّأ وأن تُنفِّس عن غضبها وعن مخاوفها، من السهل جداً جداً! لكم أن تتصوَّروا في بلادنا العربي الإسلامية أو المُسلِمة أن تأتينا جالية – مثلاً – مسيحية من النمسا أو من أي بلد وتُهدِّدنا في عقر دارنا، بعد أن نُعطيهم كامل حقوقهم تقريباً أو أكثرها، بعد أن نمنحهم الأمن والسلامة والجواز والجنسية، وبعد أن نُعطيهم شتى المُساعَدات كما نُعطي أبنائنا، يُهدِّدوننا! سألتكم بالله – وكونوا صريحين – ماذا ستكون ردة فعلكم؟ ليُطرَدوا، ليُسحَقوا، وليذهبوا إلى حيث ألقت، هكذا سنقول جميعاً! لا تطلبوا من هذا الشعب ولا حتى من هذه الحكومة أن يكونوا أكثر من ملائكة، إنهم بشر عاديون مثلنا، يتأثَّرون! لهم مخاوفهم، لِمَ يُهدَّدون في بلادهم؟ وهم لم يمدوا لنا إلا كل يد بيضاء بالمعونة وبالأمن كما قلت.
رحم الله شيخنا محمد الغزّالي، كان يقول هذا المُسلِم الذي يبيت في عواصم الغرب – في برلين قال أو في لندن أو في باريس أو في أي مكان – ملء أجفانه أو جفونه في بلده يُختطَف وهو مُهدَّد في كل لحظة، ماذا تُريدون من هذه البلاد؟ هل تُريدون أن تُقيموا خلافة الإسلام هنا؟ إذن أنتم قطعاً معاتيه، اذهبوا إلى مُستشفيات الأمراض العقلية، ليس هنا محل أن نُقيم دار الإسلام ولا أحكام الإسلامية الكُلية، إذا أردتم ذلك – وهذا مسموح – فلتذهبوا إلى بلادكم، نعم هناك نُطالِب بهذا، لأن الأكثرية من المُسلِمين بحمد الله تبارك وتعالى، لكن كيف تُطالِب بأن تُقيم دولة الإسلام هنا في الغرب؟ ماذا تُريد؟ أتُريد أن تخوض معارك حماس – مثلاً – أو طالبان أو معارك العراق هنا في النمسا؟ دعهم هم يخوضوها بالطريقة التي يُدبِّرونها، وإذا كنت صادقاً في هذا فاذهب إلى طالبان، التحق بهم وقاتل معهم، لا تُقاتِل هنا باسم طالبان أو باسم غير طالبان ثم تقول اسحبوا قواتكم من هنا ومن هنا، هذا عته وكلام فارغ، ويدل على أن أصحابه مُصابَون بداء النفاق والرياء، ليسوا صادقين! أليس كذلك؟ لو كان الواحد منهم صادقاً لقلنا له اذهب والتحق بهم يا سيدي، اطلب الشهادة معهم وانصر القضية التي آمنت بها، لكن لا تفعل هذا وأنت تعيش هنا وتتبلَّغ بأرزاقهم وخيراتهم، كذاك اللندني – كان في لندن وهو من بلاد الشام – الذي لم يعمل قُرابة عشرين سنة يوماً واحداً، لم يُفِد المُجتمَع البريطاني بساعة عمل حقيقية واحدة، عشرون سنة وهو لا يعمل! وعنده ستة أولاد، كيف كان يعيش؟ على مُساعَدات البريطانيين من دافعي الضرائب، ثم هو في أول يوم يُؤيِّد ضربهم في مترو الأنفاق، يقول فليُضرَبوا أعداء الله، ما هذا العته؟ ما هذا النفاق؟ ما هذا الكفر بالنعمة؟ ما هذا الجحود؟ هل هذا ديننا؟ هل هذا إسلامنا؟ هل هذه وصاة نبينا الموضوعي الواقعي الصادق حين قال – وهو صادق مُصدَّق دائماً وأبداً – اللهم لا تجعل لكافر علىّ منّة فتجعل لها بهذه في قلبي محبة؟ طبيعة الإنسان أن مَن أحسن إليه يُحِبه، لكن كيف يفعل هؤلاء هذا؟ هؤلاء لا طبيعة بشرية حقيقية لهم، هؤلاء يتمنون الموت والدمار لمَن أحسن ويُحسِن إليهم، ثم يدّعون أن هذا هو الإسلام! الإسلام براء من كل هذا العته وهذا الجنون، لقد سوَّدتم مُحيا الإسلام، والله العظيم! لن أقول كلمة ابن الجوزي في الحنابلة: لقد سدحتم على الإسلام، وابحثوا في القاموس عن معنى سدحتم، نعم لقد سدحوا على الدين باسم الدين، اختُطِف الدين بأمثال هؤلاء!
لذلك لن يكون كلامي هذا مُجرَّد تنفيس وخطابة وعظية، هذا دوري وأنا أعلم أنه قد يُكلِّفني ما يُكلِّفني، لكن على كل واحد منكم أن يكون له دوره، حاصروا هذه الأفكار المُنفلِتة من عقالها، لا عقال لها أصلاً، لم تُعقَل يوماً، لأن هذه الأفكار من الأصل لم تكن مُؤسَّسة على هُدى من الله وتقوى، أفكار مجنونة، أفكار مرضية، سيكوباتية، بارانودية، واضطهادية، شيئ عجيب! ولذلك ابحثوا عن هؤلاء، وبالمُناسَبة ستوافيكم الأخبار في الوقت المُناسِب وستسمعون ما لا يسركم عن هؤلاء، إنهم ليسوا أسوياء، ولن أقول أكثر من ذلك، هناك حقائق مرصودة بالكاميرا Camera وبالصوت، هؤلاء ليسوا أسوياء، افهموا عني! ليسوا أسوياء حقيقةً، ليسوا بشراً أسوياء مثل أي بشر، معاتيه حقيقةً، وستُصدَمون حين تسمعون حقيقتهم، نحن لم نستبعدها يوماً، ونعلم أنهم ليسوا أسوياء، الإنسان السوي لا يكون هكذا، الإنسان السوي تصدر عنه سلوكاته وأفعاله بسويةٍ ويُعلَم أنه سوي، أخطأ أو أصاب هو سوي في نهاية المطاف، أما هؤلاء فليسوا أسوياء.
اللهم نسألك ونبتهل إليك أن تقينا شرهم، اللهم أحبط مكرهم، اللهم أدر عليهم هم دائرة ما يُدبِّرون، وأخرِجنا منها سالمين، الأوضاع صعبة يا إخواني! والآن للأسف حتى في النمسا على إثر هذه التهديدات وهذه الحماقات وهذه المُنفلَتات بدأ التيار اليميني يتصاعد، وبدأ يجعل في مشروعه بل في عنوان مشروعه تحجيم المُسلِمين والتضييق على حريات المُسلِمين والتضييق على مساجدهم، ولا يزال هذا أول غيث السموم، الغيث السام، غيث النكد! نسأل الله ألا يتواصل ذلك كثيراً، على كل واحد منكم أن يكون موقفه إيجابياً، أنا أعلم أن بعض الناس – وهم قلة قليلة جداً جداً – يُنكِرون علىّ، وأيضاً سأُجازِف بالقول إنهم ليسوا أسوياء للأسف، يخرج الواحد منهم لكي يقول لماذا؟ بالعكس! هؤلاء لهم قضية، لا يجب علينا ولا على الشيخ أن يقوم مُنفعِلاً إلى هذه الدرجة، لا! هؤلاء إخواننا، وأقوله له أنت من جنسهم، لست طبيعياً، أنا أُقسِم بالله أنك لست طبيعياً، أنت فاشل، يُوجَد فاشل، يُوجَد عندك ثأر معنا ومع المُسلِمين الناجحين، انتبهوا! كل فاشل يرى في نجاح الناجحين تحدياً لفشله، كما أن كل غبي يرى في فوز السابقين من الأذكياء تحدياً لغبائه، مُشكِلة هؤلاء باختصار أنهم فشلة، هم ندرة – بفضل الله – بيننا، كلنا – ليس أكثرنا وإنما كلنا – تقريباً باستثناء هؤلاء – والله العظيم كلنا باستثناء هؤلاء – جئنا هنا ليطلب بعضنا العلم، فهو يطلبه في دعة وفي سكون، ليطلب بعضنا رزقه، فهو يطلبه في شرف وأمانة، وهذا بحمد الله تبارك وتعالى، ليخدم بعضنا – كالوعاظ وعلماء الأزهر وغيرهم من المُنتدَبين من بلادهم – دينه، فهو يفعل ذلك – إن شاء الله – بكفاءة طيبة تُحمَد له، إذن هؤلاء ماذا يفعلون؟ هؤلاء يفشلون ويُريدون أن ينتقموا لفشلهم، مِمَن يكون الانتقام؟ منا نحن الناجحين المُسلِمين الوادعين بدرجة أولى، أول ما تدور الدائرة علينا، معهم وربما قبلهم، فقوموا أيها الإخوة بمسئولية، بحس الأمانة، وبحس الضمير المُسلِم بواجبكم، حاصروا هؤلاء، حاصروا أفكارهم، وحاصروا فتواهم.
ومرة أُخرى أُكرِّر فتواي التي أتشرَّف بها ولا أخجل منها لحظة بفضل الله تبارك وتعالى، مَن اشتم رائحة تدبير، رائحة إرهاب، رائحة تفجير، رائحة قتل، رائحة مجازر، مُباشَرةً عليه أن يُبلِّغ السُلطات المُختَصة لفوره، لأنه بهذا سيكون خدم الإسلام والمُسلِمين، ليس في النمسا فقط وإنما في أوروبا كلها، أنتم رأيتم أن ما حصل في هولندا انعكس علينا، ولكن طبعاً أقل مما انعكس على أهل هولندا المُسلِمين، ما حدث في لندن انعكس علينا، ما حدث في مدريد انعكس علينا، ما حدث في نيويورك انعكس علينا، فكيف لو حدث عندنا حادث جلل؟ سنرى كيف يكون الانعكاس، فبالله خُذوا الأمر بجد، ولا تأخذوه بتلاعب أو باستسهال واستخفاف، لأنه جدٌ حقيقة، لا يُمكِن أن تُهدَّد البلد وأن يُهدَّد الشعب باسم القاعدة وباسم مَن ينتمي إليها، كلام في مُنتهى الخطورة، لا يقبل التلاعب.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا أن تحمي إسلامنا وأن تحمي إخواننا وأخواتنا، اللهم احمنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك وعزتك أن نُغتال من تحتنا.
اللهم إنك تعلم ونحن نعلم أن أمن هذه البلد وأمن هذا الشعب هو أمننا، اللهم فأتمه علينا وعليهم يا رب العالمين، اللهم اجعلنا شامةً في أعين الناس، واجعلنا قدوةً حسنةً للإسلام والمُسلِمين ولغير المُسلِمين.
اللهم أصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم واهد الشاردين من إخواننا ومن شبابنا ومن أبنائنا وبناتنا، اللهم اهدهم سواء السبيل، اللهم افتح مسامع قلوبهم للحق الذي تعلمه حقاً يا رب العالمين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم ليرحمني ويرحمكم الله.
(14/9/2007)
أضف تعليق