إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۩ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة والأخوات:
كما تعلمون انقضى عشر الرحمة من هذا الشهر الكريم، وانقضى على عجل، ونحن نسأل الله – تبارك وتعالى – في هذا اليوم الكريم، في هذا المكان المُبارَك المُطهَّر، وفي هذه الساعة العظيمة، أن يجعلنا فيه من المرحومين، وأن يتقبَّل فيه أعمالنا، وأن يتجاوز فيه عن خطيئاتنا وإسرافنا وجهلنا ونسياننا وما عرض منا، اللهم آمين.
شهر رمضان كما تعلمون أثلاث ثلاثة، رحمة تُسلِم إلى مغفرة، ومغفرة نهايتها السعيدة العتق من نار جهنم، قد يتأتى هذا يا إخواني وأخواتي من المُؤمِن والمُؤمِنة في شهر واحد فقط، وهذا من أعظم رحمة الله – تبارك وتعالى -، لم يرد هناك ما يُؤكِّد على أن المُؤمِن ينبغي أن يحصل له هذا في مُدة عمره كلها، وإنما في رمضان واحد، لو تقبَّله الله – سُبحانه وتعالى -، فرحمه وغفر له، لأعتق رقبته من نار جهنم، اللهم اجعلنا من عتقائك من نار جهنم في هذا الشهر الكريم بفضلك ومنّك، إي مولانا وإلهنا رب العالمين.
هذا الشهر وهذه العبادة – عبادة الصيام – لها خصائص ومزايا، لا تزال مخبوءة، تحتاج إلى الكشف عنها وإلى استكناهها وإلى تدبرها، رحمة عظيمة مُمتَدة، ولو أردنا أن نُموضِع هذه العبادة الجليلة – عبادة الصيام – في خانة من خانات الدين فهل تنتمي إلى الإسلام أم تنتمي إلى الإيمان أم تنتمي إلى الإحسان؟!
وفي الحق مَن غلغل النظر وأنعم الفكر علم أن هذه العبادة العجيبة تنتمي إلى الدين كله، فالصوم إسلام وإيمان وإحسان، الصوم إسلام وهذا واضح وبديه جداً، هذا بدهي، لأن أعمال الإسلام هي الأعمال الظاهرة، وأركانه خمسة، كلها مُشاهَدة محسوسة ملموسة مسموعة مرئية، من الشهادتين حتى الحج، وهذا هو الإسلام، الإسلام أعمال الظاهر، قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ۩، يُمكِن أن يُختبَر إسلام المرء بظاهره، لكن الإيمان هو أعمال القلب، عقائده، أذواقه، مواجيده، أحاسيسه، خواطره، سوانحه، ووارداته، هذا هو الإيمان، الإيمان درجة أرفع ومقام أشرف، إنه ينتمي إلى عالم الباطن، وعالم الباطن أقرب إلى عالم الحقيقة، عالم الظاهر أقرب إلى عالم الزيف، الظاهر أقرب إلى الزيف، ولذلك نُخدَع بالظواهر نحن، نُخدَع بالظواهر! أما لو تسنى لنا وقُدِّر أن نطلع على البواطن لعلمنا أننا مخدوعون، بل قد يُخدَع المرء عن باطن نفسه – والعياذ بالله -، وذلك لإظلام بصيرته، لشدة الحجاب والران على عين البصيرة، يُخدَع حتى عن نفسه، وسيبدو له يوم القيامة من الله ما لم يكن له في حُسبان، عالم الباطن هو عالم الحقائق، وأقرب إلى الحق وإلى الحقائق، ولذلك هو أهم بكثير، الباطن أهم بكثير!
وكما قلنا في الخُطبة السابقة الباطن هو منظر الله، أي هو موضع نظر الله منا، الباطن وليس الظاهر، ليس الظاهر وإنما الباطن، والصيام ما لم يكن إيماناً وتصديقاً يفقد رُكنه الأصلي، ولا يكون صياماً، لأنه سيكون إمساك المُنافِقين، الذين يُمسِكون في الظاهر ويأكلون في الباطن، وهؤلاء هم الزنادقة، فالصيام إيمان لا ريب، وهل يتم الإيمان إلا بتصديق الله في أمرهه ونهيه جُملةً وتفصيلاً؟ هو إيمان، كشأن كل الأعمال الأُخرى، أما أنه إحسان فهذا أظهر ما فيه، أظهر ما في الصوم أنه إحسان، وما هو الإحسان؟ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ۩.
الإحسان كما عرَّفه رسول الله – صلوات الله وتسليماته عليه – في الحديث الشهير جداً – حديث جبريل، الذي تفرَّد مُسلِم بإخراجه عن البخاري، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أكثر عبادة وأرجى عبادة تُحقِّق هذا المعنى على عجل للإنسان هي عبادة الصيام، لو أن الإنسان أحسن أن يصوم، لو أن المُسلِم أحسن وجوَّد أن يصوم، وليس كل مَن أمسك صام كما قلنا في أول خُطبة في هذا الشهر الكريم، ما أكثر المُمسِكين! وما أقل الصوّام! ما أكثر المُمسِكين! كل مَن يزعم ويقول إنه صائم هو مُمسِك، لكن هل هو صائم في الحقيقة؟ لا يعلم ذلك إلا الله، وهو يعلم ذلك جُزئياً، يعلم ذلك نسبياً.
قال إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ۩، كذلك سورة النحل، هذه السورة الجليلة خُتِمت بمعنى مُشابِه، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ۩، والتقوى قريبة من الإحسان وقرينته، لا إحسان بلا تقوى، مُستحيل! التقوى لا تنفصل عن الإحسان، والإحسان لا ينفصل عنها، هي قريبته وقرينته، والصوم هو عبادة التقوى، قال – تبارك وتعالى – في أول سياق آي الصيام، قال كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، وقال في آخر الآيات كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، بدأ آيات الصيام بالتقوى وختمها بالتقوى، والتقوى كما قلنا قريب الإحسان وقرينه.
ختم أيضاً سورة العنكبوت بمعنى قريب، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ۩، قال لَمَعَ ۩، لهم معية، الله مع الخلق جميعاً، الله مع الكون كله، من ذراته إلى مجراته، ما علمنا وما لم نعلم وما لن نعلم، الله مع كل شيئ، لكن هذه معية عامة، تتحقَّق للكافر وللمُؤمِن وللعاقل وللجماد، إلى آخره! ولكن هناك معية خاصة، حين يقول إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ۩ تعلم أنها معية خاصة، معية لماذا؟ أول ما تكون لكشف الحُجب، إن الإحسان هو مُكاشَفة، الإحسان هو المُكاشَفة! أن تعبد الله كأنك ماذا؟ كأنك تراه، هذه هي المُكاشَفة.
روى أبو نُعيم في حلية الأولياء أن عُروة بن الزُبير – رضيَ الله عنهما – أتى عبد الله بن عمر – رضوان الله عنهما – وهو يطوف بالبيت العتيق، بالكعبة المُشرَّفة – زادها الله شرفاً وكرامةً وعزاً ومهابةً وجلالاً ونوراً -، أتاه يخطب إليه ابنته سودة، فتضايق عبد الله بن عمر، وقال له أتيتنا في هذه الساعة ونحن نتراءى الله – تبارك وتعالى -؟ مقام عظيم، وصل إليه هذا العابد الجليل، أن تعبد الله كأنك تراه، قال له أتيتنا في هذه الساعة – أي ألم تجد غيرها؟ – ونحن نتراءى الله – تبارك وتعالى -؟ وتركه، فلم يلتقيا إلا بالمدينة المُنوَّرة، فقال له عبد الله إنك أتيتني في ساعة كنت أتراءى فيها ربي – سُبحانه وتعالى -، فهل لك الآن فيما سألت؟ قال نعم، فدعا ولديه، وزوَّجه، هكذا! تعبد الله كأنك تراه.
يقول عبد الله بن عمر نفسه – هذه وصية رسول الله، وقد عمل بها، رضيَ الله عنه وأرضاه – أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً ببعض جسدي، أي بجُزء مني، وقال لي يا عبد الله اعبد الله كأنك تراه، قال أبو ذر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أوصاني خليلي محمد – صلوات الله وتسليماته عليه وآله وأصحابه وأتباعه -، قال لي أبا ذر اخش الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا المعنى مُتواتِر عن رسول الله، وكانت وصاته، أي كان هذا المعنى وصاته لغير واحد من أصحابه – رضوان الله عليهم أجمعين -، قال أبا ذر – أي يا أبا ذر – اخش الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وفي حديث أنس الذي أخرجه الطبراني في الكبير قال – رضيَ الله عنه وأرضاه – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – صل صلاة مُودِّع، فإنك أن لم تكن تراه فإنه يراك، حتى في الصلاة لابد أن تستحضر هذا المعنى الإحساني وهذا المعنى الكشفي المُشاهَدي أو الشهودي، قال صل صلاة مُودِّع، كأنها آخر صلاة، وكأنه يقول جواباً عن السؤال وكيف يتسنى للمُصلي أن يرتقي إلى هذه الرُتبة – أن يُصلي صلاة مُودِّع -؟كيف؟ قال يستعين عليها بهذا المعنى، أن يستحضر هذا المعنى، أن الله – تبارك وتعالى – موجود، حاضر، لا يغيب – لا إله إلا هو -، هو منك قريب، وعليك رقيب، هو منك قريب، وأقرب إليك من حبل الوريد، وعليك رقيب.
إن التعبد لله – سُبحانه وتعالى – بأسمائه الحُسنى: السميع البصير، الرقيب، القريب، المُحصي، الشهيد، الحفيظ، وإشكال وأضداد هذه الأسماء يرفع الإنسان إلى مقام ماذا؟ إلى مقام المُشاهَدة، أن يعبد الله كأنه يراه، لكن ليس أن يُردِّد هذه.
بعض الوعاظ – بارك الله فيهم – يُعلِّمون الناس أن يتحفَّظوا أسماء الله الحُسنى، ولا يُدرِك الناس إلا هذا المُراد القصير والصغير، يُعلِّمون الناس أن يتحفَّظوا أسماء الله الحُسنى، ويسردون لهم الحديث الصحيح، أن مَن أحصاها دخل الجنة، ما معنى ذلك إذن؟ هل مَن حفظها دخل الجنة؟ تحفظها في خمس دقائق، ما هذا؟ ليست الجنة رخيصة إلى هذه الدرجة أبداً، مَن أحصاها أي مَن تعبَّد الله بها، حتى تتعبَّد الله أنت بهذه الأسماء وحدها ستكون قد وصلت إلى مقام المُشاهَدة، ستكون عارفاً من العارفين بالله – تبارك وتعالى -.
قال العارف – اللهم عرَّفنا عليك، ودلنا إليك، وخُذ بأيدينا إلى ساحاتك وحضراتك يا رب العالمين -:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مُهجتي ولساني.
فخاطبتُ موجوداً بغير تكلم ولاحظت موجوداً بغيرِ عيانِ.
قال:
إذا سكن الغدير على صفاء وجُنِّب أن يُحرِّكه النسيم.
بدت فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم.
كذاك قلوب أرباب التجلي يُرى في صفوها الله العظيم.
هذا هو العرفان، هذا هو العرفان وهذه هي المُشاهَدة، ما الذي يُسلِم إليها؟ المُراقَبة، أن تبدأ أولاً بمُراقَبة الله، مُراقَبة الله هي البداية، ما هي المُراقَبة؟ أن تعلم أنه هو يراك – لا إله إلا هو -، وهذه هي البداية، لكن النهاية تصير إلى حالة كأنك أنت ترى الله – سُبحانه وتعالى -.
يقول الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه، وقد يسأل سائل كيف يقول بعده؟ طبعاً لأنه الآخر بلا آخرية، هو أول كل شيئ – تبارك وتعالى -، وآخر كل شيئ، هو الأول بلا أولية، وهو الآخر بلا آخرية – لا إله إلا هو -، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، قال ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه، الله أكبر! ومن هنا حُقَّ له أن يقول لو كُشِف الحجاب ما ازددت يقيناً، الله أكبر! أي هو يقطع أن إيمانه يوم القيامة ويوم يُكشَف الحجاب والحُجب لن يزداد عما كان عليه في الدنيا، الله أكبر! ما هذا؟! ما هذا؟!
عامر بن عبد قيس – التابعي الجليل، رأس من رؤوس العُبّاد والزُهّاد، معروف عامر، ومَن مثل عامر؟! عامر قدَّس الله سره كان يقول الآتي – كان يقول ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله أقرب إليه منه، صحيح! أي والله، ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله أقرب إليه منه، إذن هو يرى الله في كل شيئ ومع كل شيئ – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
أيها الإخوة والأخوات:
ومَن وصل إلى هذه الحالة هل تتصورون أنه يعصي الله – تبارك وتعالى -؟ مُستحيل، مُستحيل إلا أن يكون مُجتهِداً مُتؤوِّلاً، أما أن يعصي الله عامداً وهو يعلم أنه يقترف معصية كبيرة أو صغيرة فهذا مُستحيل في حقه، مُستحيل! كيف؟ أنت أو أي واحد فينا لا يستطيع ولا يجرؤ ولا يجسر على أن يعصي الله – تبارك وتعالى – وأن يُلِم بصغيرة فضلاً عن أن تكون كبيرة في حضرة عالم شيخ وقور جليل كبير السن، أليس كذلك؟ بالعكس! تُمثِّل وكأنك – ما شاء الله – من سادات الأولياء والخاشعين والمُتخضِّعين لله أمامه وبين يديه، كيف لو كان هذا العالم الشيخ الجليل رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟! كيف ستكون في حضرة رسول الله أنت؟ ستذوب خشوعاً، ستغرق في دموعك، كيف لو كنت في حضرة رب العالمين – لا إله إلا هو – وتستحضر هذا دائماً كأنك تراه؟! ستكون فعلاً يا أخي المُسلِم ويا أختي مُحاسِباً شحيحاً، شديد الحساب والنقاش لنفسك، في كل صغيرة وكبيرة، في كل ما لا يخطر حتى على بال البشر العاديين من الناس، ليس فقط في النظرة أو في الحركة، في كل شيئ ستُحاسِب نفسك، لماذا؟ لأنك تعلم أنه يراك، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩، وأنت تعلم أنه يراك، هو مُطلِع عليك، وهو سميع قريب بصير شهيد، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ۩، إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۩، كل أمر تُفيض فيه الله شاهده – لا إله إلا هو، سُبحانه وتعالى -، حتى إن لم تشهده الملائكة فإن الله يشهد الباطن والظاهر، وأما غير الله فلا يشهدون إلا الظواهر، ولذلك ورد في الأحاديث أن الملائكة تأتي يوم القيامة بصُحف أعمال للمُؤمِنين، وفيها أعمال طيبة كثيرة، والله – عز وجل – لا يقبلها، ويقول ألقوا هذه، ألقوا هذه، لذا تُرمى هذه، فلتكن هباءً منثوراً، لا أُريدها، لماذا وفيها صلاة وصيام وبكاء من خشية الله وقرآن وصدقات؟ قال ما أُريد بها وجهي، الملائكة خُدِعت، سجَّلت الظاهر، عبادات! لكن الله مُطلِع على الظاهر وعلى الباطن، والله – تبارك وتعالى – من وراء قلب كل امرئٍ ولسانه، ليس من أمامه، وإنما من ورائه – لا إله إلا هو -، يعلم نيتك، يعلم دافعك، يعلم مُرادك، يعلم حتى ما لا تعلمه أنت من نفسك.
ستقول الأمر شق وصعب وبعد علىّ جداً، ماذا أفعل؟ هو هذا، ماذا تفعل؟ صدِّقوني ليس بالسهل وليس باليسير أن نتحدَّث في هذه المقامات، فضلاً عن أن ندّعي أننا تحقَّقنا بها أو اقتربنا أصلاً، أمر في غاية العُسر والصعوبة، وهو الأمر الذي يُلحِق المرء بماذا؟ بالصدّيقين، الذي يرتقي إلى مقام الإحسان يبدو مُتأهِّلاً ومُؤهَّلاً لأن يسير في طريق الصدّيقية، أي ماذا يكون بينه وبين الأنبياء؟ درجات، هو تلو الأنبياء مُباشَرةً، أمر ليس بالسهل، يُصبِح فعلاً رجل الله، يُصبِح عبد الله حقيقةً، ليس عبد الظواهر، وليس عبد المظاهر، وليس عبد النفس والهوى، إنما عبد الله، يُصبِح عبد الله – سُبحانه وتعالى -.
لكن هناك طريقة أدل نفسي وإياكم عليها، سهلة جداً، والنبي دلنا عليها – جزاه الله عنا وعن أمته خير ما جزى نبياً عن أمته ورسالته، صلوات الله عليه وآله وأصحابه -، ما هذه الطريقة؟ الطريقة التي هُديَ إليها أحد كبار أولياء الله – تعالى -، قال تفكَّرت طويلاً، ما أفضل وما خير ما يتقرَّب به المرء لربه – تبارك وتعالى -؟ ما هي أقصر طريق إلى الله – عز وجل -؟ هناك طريق كثيرة، بعضها طويل، يمل الإنسان ويضعف وينخذل، قال ثم أُلهِمت – الله ألهمه ذلك – أن أفضل ما تتقرَّب به إلى الله وخير ما تتقرَّب به إلى الله ما ليس عند الله، أي لو إنسان تاجر كُتب، عنده عشرات الآلاف من الكُتب، هل تتقرَّب إليه بأن تُهديه كتاباً؟ هو يُعطي العالمين، لو هناك إنسان خيّاط (طرزي)، هل تتقرَّب إليه بشيئ له علاقة بهذه المهنة؟ لا، لو هناك إنسان عنده أموال كثيرة جداً، هل تتقرَّب إليه بأن تُعطيه مائة يورو؟ مُستحيل، بماذا تتقرَّب إلى الله؟ كل شيئ عنده، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ ۩، بالعكس! أنت تطلب منه، وَهُوَ الْفَتَّاحُ ۩، وبيده المفتاح – لا إله إلا هو -، ليس هذا أبداً.
قال فأُلهِمت أن خير ما أتقرَّب به إلى الله ما ليس عنده، وما ليس له، مثل الفقر، الذل، المسكنة، والتخضع، هذا هو! الله أكبر، تواضع يا عبد الله، تواضع للمُؤمِنين، تواضع في نفسك، تواضع لله رب العالمين، لجلال الله، لعظمة الله، كُن مسكيناً، كُن خضوعاً، كُن خشوعاً، كُن ذليلاً لله – تبارك وتعالى – الذل كله، وسيُدخِلك عليه، وانخلع من حولك وطولك وقوتك، لأنه لا حول لك ولا طول ولا قوة، وإلا كنت مغروراً جاهلاً، لا حول لك، عن أي حول تتحدَّث وعن أي قوة؟ يُمكِن أن تُسلَبها في أقل من لحظة، هذا الحول وهذه القوة! لا نُريد أن نُعلِّق على أحداث يومية، فأنتم تسمعون وتُتابِعون، الإنسان ينخلع في لحظة من كل ما كان فيه، بعض الناس يعيش عيشة الملوك، ويموت – أكرمكم الله – ميتة الكلاب، أليس كذلك؟ ميتة الكلاب! والبقاء لله، والعز لله، فلا، يجب أن تُدرِكك حقيقتك، يجب أن تُردِّد مع مولاك رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمُعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۩، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ۩.
هذا أقصر طريق، أي الفقر والخضوع والذلة والمسكنة والتطامن والتخشع والانكسار لله – تبارك وتعالى -، ثم اطلب منه واطلب إليه – لا إله إلا هو – أن ينتشك، أن يجذبك إليه بجذبة واحدة، قال:
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفي عليه يغيبُ.
قال ولا أن ما تخفي عليه يغيبُ، هو الحاضر الذي لا يغيب، والشاهد الذي لا يُغيَّب عنه شيئ – لا إله إلا هو -.
لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب.
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب.
اللهم تُب علينا يا توّاب يا رحيم، قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقُل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ.
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنَّ ما يخفى عليه يغيبُ.
لهونا عن الأيام، يا ابن الأربعين، يا ابن الخمسين، يا ابن الستين، ويا ابن الستين كم لهوت في الأيام! كم حطبت في حبل المعصية! كم! كم أصبح جبل الذنوب الآن الذي ينتظرك يوم القيامة لتحمله على ظهرك! كم! كم لهوت ولهوت ولهوت! وتلهو لا تزال؟ أعمى أنت؟ أصم أنت؟ لا إله إلا الله، لا عقل لك، قال:
لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب.
أصبحت جبالاً، لا قبل لنا بحملها.
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب.
اللهم آمين يا رب العالمين.
أيها الإخوة:
الله هو المُطلِع وحده على بواطننا، يعلم ظواهرنا وسرائرنا، ومن هنا طمعنا فيه، طماعيتنا في الله – عز وجل – وفي رحمة الله، وبالعكس! في أن ينتشلنا وأن يجعلنا من خاصة عباده الصالحين، لأنه مُطلِع علينا، كيف؟ ستقولون لي كيف؟ أنا سأقول لكم، تفكَّروا بالله عليكم في هذا المعنى العجيب الغريب.
انظر إلى البشر، كل الناس أو كل هؤلاء الخلق – صدِّقني – ينظرون إليك من زاويته الشخصية، أحسن هؤلاء الخلق – مَن تُريد؟ أحسن واحد فيهم – ينظر إليك من زاويته الشخصية، ما معنى ذلك؟ أي ينظر إليك من زاوية علاقتك به هو – إذا كانت هناك علاقة -، ينظر إليك من هذه الزاوية، قد تكون أنت صيّناً، ديّناً، تقياً، ورعاً، خشوعاً، رهّاباً لله – تبارك وتعالى -، ذا دمعة، ذا قلب رقيق، من أهل القرآن، من أهل الإحسان، ومن أهل الصدقات، ما شاء الله عليك، وفعلاً قد تكون كذلك – إن شاء الله -، لكنك قد تكون فيما يظن هو قصَّرت في جانبه أو أسأت إليه مرة، صدِّقني لا يرى كل هذه المزايا والصفات إلا من خلال هذه الزاوية وبهذه العدسة، ويرى أنك تُرائي وتُنافِق وأن هذه الصفات كلها لا تصح لك، فلست خشّاعاً ولا ديّناً ولا صيّناً، وإنما أنت مُنافِق صغير، لا إله إلا الله! هكذا البشر، حتى هو نفسه قد يكون ديّناً، صيّاناً، وإنساناً جيداً، لكن هذا ضعف البشرية، لأنه ليس من أولياء الله المُكاشَفين، لو كان من أولياء الله سيُنصِفك، هو ليس من أولياء الله، من الناس العاديين، مُؤمِنين جيدين عاديين مُمتازين، ليسوا مُكاشَفين، ليسوا مُشاهِدين، لا ينظرون بعين الله، الذي ينظر بعين الله هذا الذي يُنصِفك حتى من نفسه.
قال فإن أحببته أصبحت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، مَن يسمع بلُطف الله ويُبصِر بلُطف الله – تبارك وتعالى – وبالله هو الذي يُنصِفك، وأين هو؟! دلني عليه، عزيز هو – والله – العزة كلها، كدنا لا نراه إلا في كتاب أو تحت التراب، أين هؤلاء؟! أما بقية الخلق – أنا وأنت وغيرنا – فلسنا كذلك أبداً، ينظر بعضنا إلى بعض من هذه الزوايا، من زاوية العلاقة الشخصية، فإذا ما أحسنت إليه وأفضت عليه وتواضعت له صرت في نظره سيد الأولياء، أنت أحسن واحد.
رب العالمين الحمد لله أنه ليس كذلك، لا إله إلا هو! الله ليس كذلك، الله يأخذك بالجُملة، ليس بالمُقسَّط، يأخذك كلك هكذا، حتى لو لك ذنوب، لك صغائر، ولك كبائر، يأخذك في جُملتك، ويضعك في ميزان رحمته – لا إله إلا هو -، ثم يصب عليك من زلال فضله، فتكون مقبولاً، وتكون مرحوماً، وأنت لا تستحق، لكن هو عادل معك، ثم مُتفضِّل عليك – لا إله إلا هو -، يأخذك بالجُملة، ويعرفك جُملة، من أول أيامك وقبل حتى أن تكون – حين كنت شيئاً غير مذكور أصلاً – إلى أن تنتهي مُدتك في هذه الجُملة، يعرفك جُملة!
ماذا كان يقول مولانا رسول الله في دعاء سفره؟ اللهم أنت الصاحب، وفي رواية الرفيق، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد، إي، دلوني على أي أحد أو على واحد له هذه الصفة، الذي يكون معي في سفري يُراقِبني لا يُمكِن أن يكون مع أهلي في نفس الوقت، إلا الله – سُبحانه وتعالى -، يكون معي بمعيته وحفظه وعنايته وتسديده وإرشاده وفي مالي وفي بيتي وفي كل ما خوَّلني، وليس معي فقط، ومع كل العالمين، لا إله إلا هو! هذا هو الرب، هذا الرب الذي يستحق وجدير بأن يُستحيا منه، وبأن يُخشى ويُخاف – لا إله إلا هو -، وبأن يُعظَّم.
لكن إذا لم نعرفه، لم نعرف عظمته، لم نعرف جلاله، لم نعرف قدرته، لم نعرف رحمته، لم نعرف أسماءه وصفاته كلها، فكيف نعبده؟! كيف نخشاه؟! قال – تبارك وتعالى – إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ ۩… ماذا؟ لم يقل بالله، لا! إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ۩، هو لم يعرف عظمة الله، لو عرف عظمة الله لآمن به ولخاف منه حق الخوف وخشيه الخشية كله، لكن هو لم يعرف، هو يعرف أن هناك قوة عاقلة مُدبِّرة، اسمها الله، خلقت الكون، ثم نُقطة، لا! الله ليس كذلك فقط، لا! الله أكبر وأعظم من ذلك بكثير، وأعظم مما تظن، أعظم مما تظن لكنك تغفل يا مسكين ولا يُغفَل عنك، يا غافلاً غير مغفول عنه، وتنسى ولا تُنسى، وتنسى وأنت لا تُنسى، وهكذا! فعلينا أن نعرفه بأسمائه وصفاته، لكي نقترب منه أكثر – لا إله إلا هو -، طبعاً القُرب على قدر المعرفة، الخشية والأذواق والمواجيد وكل المعاني الصافية الرائقة القدسية على قدر المعرفة.
بالعكس! بل قال أئمة أهل العرفان والحق، قالوا إن تمتع ولذة المُؤمِن بربه يوم القيامة تكون على قدر معرفته به في الدنيا، يا حسرة إذن! على قدر ما عرفته في الدنيا تتنعَّم به – لا إله إلا هو – في الآخرة، بالزيادة – قال -، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۩، هذه الزيادة نعيمك منها على قدر تنعمك بالمعرفة في الدنيا، تقول لي وكيف أصير عارفاً؟ أي كيف أصير مُشاهِداً؟ المعرفة هي المُشاهَدة.
حدَّثت إخواني قبل ليال بالآتي، إخوة يوسف لما دخلوا عليه عرفهم، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ۩، الله لم يقل فعلمهم، حتى نحن يُمكِن أن نُدل، يُقال هؤلاء الأسباط العشرة – بنيامين عنده – وهؤلاء إخوة يوسف، فنقول نعم علمنا ذلك، لا! يوسف لم يعلم، يوسف عرف، الموضوع فيه ماذا؟ فيه مُشاهَدة، فيه مُشاهَدة حقيقية، تُؤكِّد علماً سابقاً، تُؤكِّد علماً سابقاً وعلماً مُتقرِّراً، ومن هنا هذه الاصطلاحات الإلهية الجليلة، في سورة التكاثر اصطلاحان: علم اليقين، وعين اليقين، في سورة الواقعة: حق اليقين، إذن ثلاثة مُصطلَحات: علم اليقين، عين اليقين، وحق اليقين.
قلنا مرة في خُطبة سابقة علم اليقين ما هو؟ الإسلام، علم اليقين هو الإسلام، عين اليقين هو الإيمان، حق اليقين هو الإحسان، لو استعرنا مُصطلَحات السادة الصوفية لقلنا علم اليقين هو الشريعة، عين اليقين هو الطريقة، حق اليقين هو الحقيقة، هذا هو! نفس الشيئ، هذه ليست بدعة، شريعة وطريقة وحقيقة هي إسلام وإيمان وإحسان وهي علم اليقين وعينه وحقه.
رجل يقرأ عن مكة في كتاب – مثلاً – للسائحين، يقرأ ويرى صورة الكعبة ويرى أشياء كثيرة، يقرأ عن مكة وتاريخ بنائها وتجديدها وكل ما يتعلَّق بها، ككتاب الأزرقي – مثلاً -، أو أي كتاب قديم أيضاً أو حديث، هذا عنده ماذا؟ هذا عنده علم يقين، هناك شيئ اسمه الكعبة في مكة وصفاتها كذا وتاريخها كذا، عنده علم هذا، لكن ألا تلحظون فارقاً أو فرقاً بين علم هذا وبين علم الذي رأى مكة؟ طبعاً هناك فرق كبير جداً جداً، هذا عنده علم اليقين، فإذا أسعده الله وقضى له بحجة أو بعمرة وزار البلد الحرام ورمق مكة عن بُعد وهو في حافلته – مثلاً – أو حتى في الطائرة – إذا تسنى له ذلك وهو يتسنى الآن – فسنقول ماذا الآن؟ عنده ماذا؟ عين اليقين، رأى! فعلاً هذه مكة وهذه الكعبة الصغيرة السوداء، فإذا نزل ودلف إلى الحرام وطاف بالكعبة الآن ودعا وسعى وبكى وتضلع من زمزم فسنقول ماذا الآن؟ عنده حق اليقين، عاش التجربة الآن، ذوقياً عاشها، تجربة معيشة، هذا هو حق اليقين.
إذن إسلام، إيمان، وإحسان، الإحسان هو ماذا؟ الإسلام هو حق اليقين أو عين اليقين؟ الإحسان في الدنيا عين اليقين، لكن في الآخرة يأتي ماذا؟ حق اليقين، إذا دخلنا الجنة وعشنا فيها وتنعمنا فهذا حق اليقين، الإحسان في الدنيا نعيش كأننا في الجنة، نتنسم أرواحها أو ريحها، أي الجنة، وربما عرض لنا شيئ كما عرض لرسول الله، قال رأيت الجنة في عُرض هذا الحائط، وأراد أن يقطف قطف عنب منها، هذا عين اليقين، أما حق اليقين فيكون إذا أُدخِلها يوم القيامة – إن شاء الله تعالى – المُؤمِن، هناك حق اليقين.
إذن مقامات، وكل مقام يُسلِم إلى مقام يا إخواني، لكن نُؤكِّد مرة أُخرى أن مَن أراد هذا المقام فعليه بالآتي، أعني مقام الشهود، مقام المُشاهَدة، مقام الإحسان الأعلى، لأن له مقامين: أدنى وأعلى، الأدنى مُراقَبة، والأعلى مُشاهَدة، مَن أراد مقام الإحسان الآن الأعلى فعليه أن يمر أولاً بماذا؟ بالمقام الأدنى، برقابة الله، في السر والعلن، في الخلوات والجلوات، في الكبير والصغير، فيما تقول وفيما تعمل، في كل شيئ عليك أن تُراقِب الله – تبارك وتعالى – أحسن مُراقَبة.
قال السادة العارفون – وهذا المعنى أجمع عليه العارفون بالله تعالى، فهو معنى جزيل وخطير وشريف – مَن راقب الله في خواطره عصمه الله – سُبحانه وتعالى – في حركات جوارحه، الله أكبر! بعض الناس يشكو ويقول أحياناً أنا أكون في حالة جيدة، وبالعكس! قد أكون في قيام ليل، أو أكون دفعت صدقة، أو أكون أفطرت من صوم تطوع، وبعد ساعة يعرض لي ذنب، فأعمل ذنباً – والعياذ بالله – من أسوأ ما يكون، ما هذا؟ هل أنا مفصوم؟ هل أنا مُزدوَج الشخصية؟ هل أنا مريض؟ هل أنا شيطان؟ لا، أبداً! ولكنك لست من أهل المُراقَبة، ليس عندك هذا الحفظ الإلهي، لا تُراقِب الله في الكبير والصغير، تُراقِب الله فيما يعن لك، فيما تُحِب، لكن فيما لا تُحِب – مثلاً في حقوق الناس، في الأموال – لا تُحِب أن تراقب الله، تقول هذا لا يهم، دعونا نفعل هذا الذنب، وبعد ذلك سيُحل الأمر، والله سيغفر، طبعاً لأنك الآن لا تعبد الله، أنت تعبد المال حقيقة، ربك الأول هو المال، وليس رب العالمين، انتبه! طبعاً لأنك ضحيت رب العالمين من أجل ماذا؟ من أجل أن تُكثِّر أموالك، عند المال بالذات لا تُراقِب.
بعض الناس ليس كذلك، المال عنده هيّن، هو كريم، عنده سخاوة نفس، جينات Genes هذه ووراثة، هو تلقى هذا الأمر عن أبيه وأمه، لأنهما من الكرماء الأسخياء، وهو لا يهمه المال، ليست قضية إيمان، قضية أريحية نفسية وتربية، لا يهمه المال، يُعطي ولا يهمه، هناك بعض الكفّار الكرماء، أليس كذلك؟ بعض الكفّار كرماء جداً، لذلك هذه قضية ثانية، فهو لا يكرم دينياً، وإنما يكرم طبعاً أو عادةً أو تنشئةً، فالمال سهل عليه أن يُعطيه أبداً وما إلى ذلك، وهو يُعطيك دائماً أكثر من حقك ويتصدَّق باستمرار، المُشكِلة أين – مثلاً -؟ في شهوة النساء، فعند المال يُراقِب الله هو، ليس عنده أي مُشكِلة، فعند النساء لا يُراقِب، ويغض الطرف، يقول هذا لا يهم، نفعل ما نُريد والله غفور رحيم، ويقول هذا شيئ وهذا شيئ، فهو يُراقِب الله فيما يُريده، فيما يُريده! فهذا عبد نفسه، أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ۩ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ۩، الله أكبر! هل يكون مُسلِماً ويكون أشبه بالبهيمة؟ نعم، مُسلِم بالكلام، ولكن هو في الحقيقة أشبه ببهيمة، لأنه لا يُراقِب الله فيما ينبغي له أن يُراقِبه فيه، فهل أنت تُراقِب الله؟ تُراقِبه فيما تُحِب، ولا تُراقِبه فيما تكره، إذن أنت عبد الهوى، ولست عبد الله – تبارك وتعالى -، بالعكس! أول ما ينبغي أن أُراقِبه فيه الأشياء التي أُحِبها، هذه هي، هذه لن أفعلها، لأنني أُحِبها بالذات لن أفعلها محبةً له، لأن محبته عدلت عني وفاقت محبة الشهوة، وهذه هي العبودية، هذه هي العبودية!
أجمع تعريف للعبودية قرأته أن يُخرِجك من داعية هواك إلى ماذا؟ إلى أمره ونهيه، إذا أخرجك من داعية هواك إلى أمره ونهيه فأنت عبد لله، إذا لم تخرج من داعية الهوى فأنت عبد الهوى – والعياذ بالله -، وسيُسلِمك إن لم يتب عليك لهذا الهوى، إن لم يتب عليك فسيُسلِمك لهذا الهوى، فيا مسكين تتعثَّر، تتدعثر، وربما يلج بك العثار فتهلك في الدنيا والآخرة، انتبه! فلا تكن عبد الهوى وعبد الشهوة، كُن عبد الله.
قال أحد الصالحين وأبطأ الناس نهضةً يوم القيامة صريعو الهوى، الكل يجبن والكل يقع من الخوف في يوم الدينونة ويوم الحساب، أبطأ الناس مَن هم؟ آخر واحد يقوم صريع ماذا؟ صريع الهوى، نعم! صريع الهوى، الذي باع رضوان الله – والعياذ بالله – بقليل من المال، لأن هواه في المال، باع رضوان الله – عز وجل – واشترى سخطه بماذا؟ بالزنا، يُحِب الفواحش – والعياذ بالله -، هكذا! وبأشياء أُخرى، لا! انتبه، انتبه ولا تُمن نفسك الأماني، كما أن الله غفور رحيم فهو شديد العقاب، وله سطوات ولطمات، ولابد أن تكون عبداً في الأول حتى يرحمك، أن تكون من عباده حتى يرحمك، فإن كنت من عُبّاد النفس والهوى والشيطان فكيف يرحمك؟ لست عبداً له أصلاً، عُد إليه، قال إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ ۩… مِمَن؟ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩، قال إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩، وقد عرفنا الإحسان اليوم، ما هو؟ أن تعبده كأنك تراه، كبير يا رب هذا، كثير علينا، قال جيد، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إذن راقبه على الأقل، ليس مطلوباً منك كأنك تراه، لكن اعلم واعمل وسر على ذلك، على أنه هو يراك، راقبه في الكبير والصغير، في الحقير والجليل، في الخلوات والجلوات، في السر والعلن، وفي الظاهر والباطن، راقبه – لا إله إلا هو -، وهكذا! تُرحَم – بإذن الله تعالى -، ستكون من المرحومين، لأن الله قال إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩.
رجل كان أميراً بالبصرة أو بإحدى بلاد العراق، وكان عنده رجل يشتغل فلّاحاً في أرضه، هذا أمير عنده قصور وأموال وحشم وخدم، ولكن – سُبحان الله – القناعة كنز لا يفنى، القناعة كنز – جميلة هذه العبارة – لا يفنى، حتى لو كان عندي ألف، وأنا قنوع أو قنع، هذا الكنز سأُنفِق منه باستمرار ولن يفنى، لماذا؟ لأني أرضى بما قسم الله لي، راضٍ جداً جداً بما عندي، لكن هذا عنده مائة مليار، وهو غير قنوع، فهو فقير، لأنه لا يرضى، لا يرضى! ليس عنده كنز يُنفِق منه، أنا عندي كنز، وأنا صاحب الألف، وهو صاحب المائة مليار، هذا الرجل لم يكن قنوعاً – سُبحان الله -، عنده حشم وخدم وجواري وإماء وزوجات، لكنه رغب مرة إلى زوجة هذا المسكين المُزارِع، أعجبته! أأعجبتك هذه المرأة الفقيرة الفلّاحة؟ هل كل ما عندك لا يكفيك؟ لا إله إلا الله، كل ما عنده لم يكفه، فاحتال، فدعا الرجل وزوجه، كأنه يُريد أن يُكرِمه، دعاه على شيئ في القصر، كأن يقول تعالوا، تفضَّل عندي أنت والعيال، فجاء الرجل مع زوجته، وليس عندهم أولاد، مساكين! ثم قال له آه، والله لقد نسيت هذا الأمر، اخرج والتقط لي الرطب، إن كان كذا وكذا فنقه، أعطاه عملاً يقعد فيه ست أو سبع ساعات، وبعد أن تفرغ أعطه لفلان وفلان وفلان وفلان، الرجل المسكين قلبه سليم، بحُسن نية ذهب، لم يفهم ما الخُطة، ولما ذهب قال لهذه – وهي بمثابة خادمة – قومي واغلقي الباب الخارجي، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، ثم هذا، أربعة أبواب! فغلَّقت الأبواب بأمره، والمسكينة لا تفهم، في الأخير فهمت هي، لماذا كل هذه الأبواب؟ فهمت، لكن هي لا حول لها ولا قوة، مسكينة عاملة فقيرة، قال لها هل أغلقتي الأبواب كلها؟ قالت نعم، إلا باباً يا سيدي، قال أي باب يا حمقاء؟ قالت باب الله، فارتجف الرجل وأُرعِب مُباشَرةً، فسرَّحها وعاهد الله – عز وجل – ألا يعصي الله – تبارك وتعالى -، والله رحمة الله عليه، هداه الله في آخر لحظة، قالت له كلها، أغلقتها كلها إلا باباً، قال أي باب يا حمقاء؟ قالت باب الله.
ذكر الفخر الرازي – رحمة الله تعالى عليه – في تفسيره أن أحد المشايخ الصالحين المُسلِّكين كان له جُملة تَلاميذ، وكان يخص أحد هؤلاء التَلاميذ بالمودة الزائدة والإحسان والتلطف والمحبة والرفق، يخصه! له مكانة مخصوصة، فاعترض عليه بقية أو سائر تَلاميذه، يا مولانا لماذا؟ إذا كان ذا علم فكلنا أيضاً ذوو علم، إن كان مُجتهِداً في محبتك فنحن كذلك، إن كان… إن كان… ما الفرق؟ قال لا، لا! هذا فيه – قال – مزية لا تُوجَد فيكم، قالوا كيف؟ أين هذه المزية؟ لا نراها! قال سوف أُبرهِن لكم في يوم من الأيام، وبعد حين لم يطل – قصة معروفة جداً، وتُحكى عن القُطب الرفاعي، والله أعلم بالحقيقة، لكن حكاها الفخر الرازي والفخر الرازي قبل القُطب الرفاعي – آتى كل واحد منهم طيراً – عصفوراً أو دجاجةً – وسكيناً، وقال اذهب يا بُني وافعل الآتي، ليذهب كل منكم إلى مكان ويذبح فيه هذا الطير ولكن دون أن يراه أحد، فذهبوا وآبوا على عجل، كل واحد معه الطير مذبوحاً، قالوا أنجزنا، إلا هذا، عاد يبكي هذا الطفل الصغير، وهو يبكي قال يا سيدي لم أستطع، قال لماذا يا بُني؟ ووصفها بالغضب، لماذا لم تستطع؟ وهم طبعاً شمتوا فيه، هذا الذي يُقرِّبه، هو الذي عصى أمره، ويُقرِّبه علينا! وصفها بالغضب، وقال لماذا يا بُني؟ ويحك! قال يا سيدي أنت قلت لابد أن نذبحه في مكان لا يراني فيه أحد، وقد حاولت واجتهدت وأينما ذهبت رأيت الله، الله دائماً موجود، وأنا أراه – عز وجل -، فبكى الشيخ، وأرموا جميعاً وسكتوا وعلموا أن الأمر جد، ليس أمراً يتعلَّق بالكلام وما إلى ذلك، هذا الأمر الجد، هذا هو، وهو طفل صغير – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
روى الإمام الذهبي في كتابه العلو للعليّ الغفّار بإسناد جيد، أن عبد الله بن عمر – وتُحكى عن عمر، لكن بهذا الإسناد الجيد عن عبد الله بن عمر – مر براعٍ – هو راعٍ وليس مالكاً -، فقال له يا فلان، يا راعٍ، هل من جزرة؟ أي هل من جزور صغير نذبحه؟ والجزر هو النحر، قال هل من جزرة؟ قال صاحبها غير موجود، قال قل له أكلها الذئب، قال فأين الله؟ الراعي قال فأين الله؟ فبكى ابن عمر، وقال والله لأنا أحق أن أقول أين الله؟ ابن عمر يختبره، ثم اشتراه واشترى الغنم، وأعتقه وجعل الغنم له، رضيَ الله عن ابن عمر يا إخواني، أنا دائماً أنظر إلى البشر وإلى نفسي حتى وإلى الناس من هذه الزوايا، أحياناً أُحاوِل هذا، لا تُحاوِل أن تُقوِّم إنساناً لموقف واحد في حياته، لا يا أخي، لا يا أخي لأن رحمة الله ليست كذلك كما قلنا قبل قليل، الله لا يُعامِلنا هكذا، والحمد لله أن حسابنا ليس إلينا، الحمد لله أن حسابنا حتى ليس إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو عليّ أو الجيلاني أو أي إنسان، أبداً! الحمد لله.
في حديث قال محمد – صلى الله عليه وسلم – يا رب اجعل حساب أمتي إلىّ، النبي شديد الشفقة، يقول إنه خائف على أمته، فقال له – تعالى – لا وعزتي وجلالي، لا أجعل حسابهم إلا إلىّ، أوتظن يا حبيبي يا محمد أنك أرحم بأمتك وأرأف مني؟! قال له أنت تكون واهماً إذا ظننت هذا، لا! أنت لست أرحم مني، أنا أرحم منك بكثير، صحيح! وأين رحمة محمد من رحمة الله؟! رحمة محمد – صلوات الله عليه وآله وأصحابه – هي جُزء من هذا الجُزء المأخوذ من مائة جُزء من رحمة الله، أي رحمات الأنبياء أجمعين والصالحين والرقيقين اللطيفين، كل هذه الرحمات جُزء من هذا الجُزء المأخوذ من مائة جُزء، أما التسعة والتسعون فهي رحمة الله يدخرها يوم القيامة لعباده ليرحمهم بها، الحمد لله، فلا نستعجل، إذا أردنا أن نُقوِّم أنفسنا ونُقوِّم أصحاب رسول الله والتابعين والعلماء والدُعاة والمُجاهِدين من زوايا نظرنا هلكوا جميعاً، لا! لا نفعل هذا أبداً، الله قد يرحم عبده لمثل هذا العمل، يكفي عبد الله بن عمر – والله – مثل هذا العمل، والله والله يكفي مثل هذا العمل، هذا كالذي قاله الرسول لعثمان، عثمان ماذا فعل؟ اشترى بيرحاء، عثمان جهَّز العُسرة، في وقت اسمه العُسرة، وقت شديد جداً جداً، والنبي قال ما على ابن عفان ما فعل بعدها، وكأنه يُشير إلى أنه ستكون له هنات وهنات، لكن قال ستذهب – إن شاء الله -، لماذا؟ لأن الله شكور، والشكور لا يكون لئيماً، إذا شكر لك مرة انتهى الأمر، أعتقك، هو شكرك.
أحياناً يكون هناك عمل هكذا، عمل يتأخَّر عنه ناس كثيرون، وتتقدَّم إليه أنت، عمل يكع عنه الآخرون، وتسبق إليه أنت، الله يأخذه فيشكره، كما شكر للبغي التي سقت الكلب العطشان، وهي بغي، قال فشكر الله لها، فغفر لها، فأدخلها الجنة، وهي بغي! فنحن لا نقنط من رحمة الله، ولا نُقنِّط الناس من رحمة الله، لكن نُحِب أن نعيش بين الخوف والرجاء، بين الترغيب والترهيب، آملين خائفين، هكذا!
ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يتقبَّلنا في الصالحين، وأن يأخذنا إليه، وأن يجذبنا إليه جذبةً تُلحِقنا بعباده المُحسِنين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة والأخوات:
قبل أن أُغادِر هذا المقام الكريم أُحِب فقط وفي جُملة مُوجَزة واحدة أن أندب نفسي وإياكم في هذه الأوقات الشريفة الفاضلة الكريمة – إن شاء الله – المرجوة إلى أن نتحلَّل من تبعات العباد وذنوبهم، مَن كانت لأخيه عنده مظلمة فليتحلَّله منها في هذا الشهر، لا تُؤجِّل، لا تُؤجِّل حتى لا تكون عائقاً بين العمل وبين قبوله، انتبه! مَن كان لأخيه عنده حق، وهو يُريده، وهذا يُماطِل، فليعد إليه حقه دونما مُماطَلة، مَن كان وقع في عرض أخيه فليستسمحه بطريقة أو بأُخرى، وليُكثِر من الدعاء له والاستغفار.
وأهم من ذلك أيضاً ومعه مَن كان مُقيماً على ذنب من الذنوب صغيراً كان أو كبيراً فليُعاهِد الله وليستقرض الله وليستمد من الله الحول والقوة والمعونة على أن يُلهِمه رُشده وأن يُعيذه من شر نفسه، حتى يُقلِع عن هذا الذنب – صدِّقوني – كبيراً كان أو صغيراً، لأن الإصرار يُلحِق أيضاً المُصِرين بمقت الله – تبارك وتعالى -، الإصرار ليس جيداً، حتى لو كان على ذنب صغير، فهذا شيئ مُهِم جداً.
وآخر شيئ طبعاً أن نتوسَّع في أعمال البر، وفي رأس هذه الأعمال الصدقات، الصدقات، التبرعات، والعطاءات لإخوانكم في فلسطين، في العراق، وفي الشيشان، للفقراء، للأرامل، للمسجونين، لليتامى، للمساكين، وللطلّاب الفقراء، أي باب يُفتَح لك لا تُقصِّر فيه ولا تبخل، أعط في هذا الشهر، فإن الحسنات تُضاعَف عشرات الأضعاف، سبعين ضعفاً على الأقل وأكثر من ذلك بكثير، وهذه فُرصة لا تتكرَّر إلا في السنة مرة تقريباً، ولعلك يا عبد الله لا تُدرِك رمضان القابل، مَن يدري؟ مَن يدري؟
قال:
رمضان يا شهر الصيام فدتك نفسي تمهَّل بالرحيل والانتقال.
فإنك لا تدري إذا ما الحول ولى وعدت من قابلك بخير حال.
أتلقاني بين الأحياء حياً أم أنك تلقاني في اللحد بال.
لا يعرف هذا إلا الله – تبارك وتعالى -، نسأل الله – عز وجل – أن يُعيده علينا أعواماً عديدة وسنوات مديدة، وأن يجعلنا فيه وإخواننا المُسلِمين وأخواتنا المُسلِمات وآباءنا وأمهاتنا من المقبولين.
اللهم ارحمنا في رمضان، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها يا الله، ما تقدَّم منها وما تأخَّر، سرها وعلانيتها، دِقها وجِلها في رمضان.
اللهم وإننا نسألك ونضرع إليك ونبتهل، نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا، بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تُعتِق رقابنا من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا ومشايخنا وجيراننا وصديقنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين في شهر رمضان، بفضلك ومنّك، إلهنا ومولانا رب العالمين.
ونسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبالمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، اللهم أرِنا فيهم عجائب قُدرتك، وعلائم انتقامك، وبأسك الشديد الذي لا يُرد عن القوم المُجرِمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا يائساً ولا بائساً ولا محروماً، وعُد علينا بالخير والإحسان والفضل والنعم، يا مُفضِل، يا مُجمِل، يا مُنعِم، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(14/10/2005)
أضف تعليق