إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
روى الإمام ابن ماجة وغيره – رضيَ الله عنهم -، عن صاحب رسول الله، أحد العشرة، الشهيد الحي طلحة بن عُبيد الله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال جاء رجلان إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، فأسلما، وكان إسلامهما جميعاً – أي أنهما أسلما في وقتٍ واحدٍ -، وكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فلما كانا بعد حين، خرجا الأشد اجتهاداً يُجاهِد في سبيل الله، فاستُشهِد – رضيَ الله عنه وأرضاه -، ولبث الآخر بعده سنة، ثم إنه تُوفيَ إلى رحمة الله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
يقول طلحة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فرأيت في المنام كأني بباب الجنة، وإذا أنا بهما – رأيت الاثنين: الأول والآخر، الذي تُوفيَ أولاً والذي تُوفي آخراً أو بأخرة -، وإذا بخارجٍ يخرج من الجنة – أحد خزنة الجنة، أدخلنا الله إياها وخلَّدنا فيها في رضوان، بنعمته ومنّه وفضله -، فأذن للذي تُوفيَ آخراً منهما – أذن للآخر، أول مَن دخل الجنة ليس مَن استُشهِد، وإنما الذي تُوفيَ، وهذا شيء عجيب، أن يدخل هذا أولاً -، ثم خرج، فأذن للذي استُشهِد، ثم خرج إلىّ، فقال أما أنت فارجع، فإنه لم يئن لك بعد – ليس هذا وقتك، هؤلاء تُوفيَ إلى رحمة الله، وهذا مآلهما بحمد الله -.
قال طلحة – رضيَ الله عنه وأرضاه – فعجبت مما رأيت. وموضع أو محل العجب بيّن! كيف يُؤذَن أولاً لمَن تُوفيَ آخراً، ولم يُؤذَن أولاً لمَن استُشهِد، ولم يُتوف وفاة طبيعية، وإنما استُشهِد؟ قال فعجبت مما رأيت، فلما أصبحت حدَّثت بها أهلى والناس، وشاع الحديث في المدينة. كانوا مُتروحِنين، على هدي رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله إلى أبد الآبدين – الذي ثبت عنه أنه كان كلما أصبح وصلى الفجر بالناس جماعة وجلس يذكر معهم، يقول لهم أيكم رأى رؤيا الليلة؟ مَن منكم رأى رؤيا؟ لأنه علَّمهم أن المرائي الصالحة هي المُبشِّرات، وهي من بقايا النبوة. وحي من السماء هذا، وحي! وحي مرائي طبعاً، وليس وحي نبوءة أو رسالة، هكذا! فشاع الحديث، والناس يستبشرون بالرؤى الطيبة ويهتمون بها ولها.
حتى بلغ الحديث رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، دائماً، أبداً -، وبلغه عجب الناس، الناس يعجبون، أي يتعجَّبون، فقال من أي ذلكم عجبتم؟ ما الذي أثار العجب فيكم وفي نفوسكم؟ من أي ذلك أو ذلكم عجبتم؟ قالوا يا رسول الله هذا كان أشد اجتهاداً، ثم إنه استُشهِد في سبيل الله، فيدخل آخراً، والآخر يدخل أولاً؟ هذا محل عجبنا. فقال – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، من مُعلِّم كريم شفوق عليم بالله وعليم بالحقائق العالية الرفيعة – أليس الآخر عاش سنةً بعد الأول؟ عاش سنة كاملة، اثني عشر شهراً، عاشها! قالوا بلى. قال أليس أدرك رمضان، فصامه؟
وانظروا إلى عِظم منّة الله علينا جميعاً يا إخواني، عِظم منّة الله على كل مُسلِم ومُسلِمة عاش إلى هذا الوقت وصام هذا الشهر الكريم. اللهم أنعمت، فأتمم. اللهم أنعمت، فأتمم. وإن كنت قضيت برحيلنا، فلا تفعل هذا إلا بعد أن نُكمِل العدة، وتكون قد تقبَّلت منا ورضيت عنا وغفرت لنا وأعتقتنا من نار جهنم.
قالوا بلى. قال وصلى وسجد لله كذا وكذا في السنة؟ الصلوات المفروضات والمُتطوَّع بهن أو بها. قالوا بلى. قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم إلى أبد الآبدين – فإنما بينهما كما بين السماء والأرض.
ولذلك خيركم مَن طال عمره وحسن عمله. قال خيركم مَن طال عمره وحسن عمله. ومن هنا ورد أن من إجلال الله – تبارك وتعالى – إجلال ذي الشيبة المُسلِم. من توقير الله، من إجلال الله – لا إله إلا هو -، أن تُجِل الشيبة التي شابت في الإسلام، مهما أوتيت أنت أيها الشاب أو أيها الكهل، مهما أوتيت من علم ومن فضل ومن مكانة ومثابة ومال وجاه وسُلطان، هذه شيبة شابت في الإسلام، ركعت وسجدت لله عشرات ألوف المرات وربما أكثر من هذا، كم تلت من كتاب الله! كم ذكرت واستغفرت! كم تصدقت! كم بكت! وكم دعت! هذه شيبة، شيبة تُحترَم، لا بد أن نحترم كبارنا، نُوقِّر كبارنا، ونرحم صغارنا.
كيف إذا كبارنا من أهل العلم والفضل والصلاح والتُقى فينا؟ ينبغي أن نبتعد عن خُلق الجحد، خُلق الكبر والعجرفة والغرور والعُجب، وكل هذا من قلة الأدب ومن سوئه – والعياذ بالله -، نعوذ بالله من سوء الأدب، فإنه علامة الحرمان. لا يُمكِن لله أن يُرقي عبداً ساء أدبه مع الله، أو مع نبيه وشرعه، أو مع عباده، خاصة الصالحين. اللهم أحسِن أدبنا. وكان من دعاء رسول اهدِنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف سيئها إلا أنت.
إذن يا إخواني أن أدركنا هذا الشهر وصُمناه إلى الآن، نعمة جزيلة ونعمة جليلة وفضل خطير – والخطير هو المُهِم طبعاً، فالخطير في اللُغة العربية الفُصحى هو الشيء المُهِم، ذو الأهمية البالغة – ولله الحمد والمنّة، ولكن روى أبو داود وابن ماجة أيضاً بسند صحيح، عن صاحب رسول الله أبي بكرة نُفيع بن الحارث الثقفي – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى أبد الآبدين – لا يقولن أحدكم صُمت رمضان كله. مع أنك صُمته كله؛ تسعة وعشرين أو ثلاثين، لكن لا تقل صُمت رمضان كله. قال ولا يقولن أحدكم قُمت رمضان كله. ممنوع أن تقول هذا! لماذا يا رسول الله؟
قال أبو بكرة – بالتاء المربوطة – فلا ندري أكره التزكية، أم لا بد من غفلة! قد يكون نهى عن هذا، لئلا يقع المرء في المحظور، محظور ماذا؟ تزكية النفس. أنني صُمت رمضان! المُسلِمون كلهم المفروض أنهم صاموا رمضان، فكأنك تُعرِّض بما لم يصمه، بأحد الخاطئين أو العاصين أو كذا. أي كأنك تُعرِّض طبعاً، حين تقول صُمت رمضان كله. وكل المُسلِمين يفعلون هذا تقريباً، كل المُسلِمين يفعلون هذا تقريباً والشذوذ لا اعتبار به، بفضل الله شذوذ المُسلِمين هم مَن لا يصومون، محرمون، محرومون الحرمان كله، وسيأتيكم الآن بيانه ودليله.
قال أم لا بد من غفلة! وقد لا يكون لأجل موضوع التزكية، وإنما الغفلة. من أين لك أن الله تقبَّل الصوم كله؟ لأن المُطلَق يُراد به الكامل. من قواعد أصول الفقه أن المُطلَق يُراد به الكامل. فإذا قلت صُمت، فلا بد أن تصوم أو أن تكون صُمت الصوم الذي أراد الله، لا الصوم الذي فعلته، صوم مع غيبة ونميمة وكذب وأكل ربما الشُبهات أو الحرام، ليس له – أي مثل هذا، ونعوذ بالله – من صومه إلا الجوع والعطش.
ولا قِمت رمضان. الشيء نفسه! مع غيبة ونميمة وكذب وشُبهات وتوسع في المحظورات – والعياذ بالله – وإسراف على النفس، ليس له من قيامه إلا السهر والنصب والتعب، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ۩ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ۩، شيء مُخيف – والعياذ بالله -. فالعبرة بالقبول يا إخواني، والمُطلَق يُراد به الكامل، إذا تحدَّث الله عن الصلاة، فهي الصلاة التي أراد الله، أي كما أرادها الله، كما أرادها الله!
قال سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الصلاة مكيال. قال الصلاة مكيال، مَن وفى، وُفيَ له، ومَن طفف، فقد علمتم ما قيل في المُطففين. أي وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩، وفي كل شيء وفاء وتطفيف، فــ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩، إذن الصلاة مكيال.
وقد روى أبو قتادة الأنصاري عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -، قال أسوأ الناس سرقةً – أخس سارق، وأسوأ السرّاق – الذي يسرق من صلاته. قالوا يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال لا يُتم ركوعها وسجودها. لا يُتم ركوعها وسجودها! فهذا سرّاق، وكذلك هناك أو هنالك مَن يسرق من صيامه، ومن حجه، ومن عُمرته، ومن زكاته، ومن قيامه، ومن تلاوته، ومن ذكره، ومن كل عباداته. يسرق من صيامه – كما قلنا – باحتقاب الذنوب، لا يرعوي، يتخرَّق الصوم، والصوم جُنة، ما لم يخرقها. كيف تُخرَق هذه الجُنة؟ درع! درع وحصن حصينة، وفي رواية جُنة من النار، تحميك من نار جهنم، لكن إن تخرقت، تسلل إليك لهيب النيران. أحرقتك يا مسكين، احترقت!
إذن أنت تُريد من الصوم أن يُجنك من جهنم، إياك أن تخرق الجُنة، الترس! الترس أو الدرع، إياك، المجن! اسمه مجن، لأنه جُنة.
الغيبة، الغيبة والمعاصي تخرق الصوم. قال أبو هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الغيبة تُخرِّق الصيام. تُثقِّبه تثقيباً، تُصبِح الجُنة مُخرَّقة، وكما قلنا يتسلل منها اللفح والسموم ولهيب الجحيم – والعياذ بالله – إلى المُجتن بها. قال الغيبة تُخرِّق الصيام، والاستغفار يُرقِّعه. فمَن استطاع منكم أن يأتي بصوم مُرقَّع، فليفعل. هذا أحسن من لا شيء، أما أن تُخرِّق الصوم وتأتي به مُخرَّقاً، فكما نقول بالعامية (راحت عليك)، أضعت نفسك. استغفر وإياك أن تُصِر وإياك أن تعود إلى الذنب، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۩.
فالإنسان أحياناً يسمع الموعظة، يسمع القرآن، فيبكي ويتأثَّر جداً، وفي داخله يعزم عزماً مُؤكَّداً على ألا يعود إلى هذه المعصية الرهيبة، سواء كانت الغيبة أو النميمة أو الكذب أو الاستهزاء من الناس أو السخرية… إلى آخره! ثم لا يلبث أن تفجأه نفسه بأنه اغتاب، لا إله إلا الله! ما الذي أفعله؟ هذا جيد، جيد! أنت لست معصوماً، وهذا يحتاج إلى تدريب ورياضة واجتهاد. قف مُباشَرةً واستغفر الله واستغفر لأخيك، وإن أسأت إليه في عِرضه، فكذِّب نفسك، قل لا، أنا تجنيت، وأنا كذبت، وتكلَّمت بالظنون وبالشائعات، وأستغفر الله، ولعنة الله على لحظة الغفلة كما يُقال – إن جاز لعن هذه اللحظات، فلعنة الله على إبليس، هو سبيل الغفلة -.
قيل الأصل في الاستغفار لمَن وقعت في حقه، فعل الملائكة، حين أساءت الظن بآدم، فقالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩. ولم تعلم أنه سيكون من ذراريه النبيون والمُرسَلون والعارفون والصادقون الصدّيقون، الذين يعلون حتى على الملائكة أنفسهم. لم تعرف الملائكة هذا! قاسته على ماذا؟ خلق قبله، أفسدوا. كما قال جماهير المُفسِّرين، فلما بدا لهم وجه الحق، استغفروا الله – تبارك وتعالى -، وجعلوا إلى اليوم يستغفرون للمُؤمِنين. الملائكة تستغفر للمُؤمِنين، لأنهم في البداية الأولى – هكذا قال بعض العلماء المُحقِّقين – أسأوا الظن بالآدميين. فإن أسأت الظن بأخيك، فضلاً عن أن تكون تكلَّمت فيه بما لا يجوز وما لا يليق، فعليك أن تُكثِر الاستغفار له، ادع له وأكثر الاستغفار، لنفسك وله، وصلِّح وأصلِح ما وقعت فيه. على كل حال فإن استطاع أحدكم أن يأتي بصوم مُرقَّع، فليفعل.
الحرمان كله يا أحبابي – اللهم لا تجعلنا من المحرومين، بل من المقبولين المسعودين المبرورين – أن يكون المرء أدرك رمضان ولم يُغفَر له. روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا دائماً أبداً – صعد المنبر – وهذا كان في بداية الشهر -، فقال آمين، ثم صعد وقال آمين، ثم صعد وقال آمين. ثلاث مرار! قالها ثلاث مرار. فقيل يا رسول الله صعدت المنبر فقلت آمين، آمين، آمين. فما هذا؟ فقال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – آتاني جبريل، فقال لي مَن أدرك شهر رمضان، فمات، فلم يُغفَر له، فدخل النار، فأبعده الله، قل آمين. قلت آمين. قال له أمّن على دعائي. تخيَّل! الداعي جبريل والمُؤمِّن محمد. الله! حتماً دعوة مُستجابة، حتماً! ودعاء الملائكة مُستجاب على فكرة، دعاء الملائكة مُستجاب!
فقل آمين. قلت آمين. أدرك رمضان ولم يُغفَر له، وسوف نفهم سر المسألة، لماذا؟ لماذا؟ لماذا تقول أبعده الله؟ والإبعاد في معنى اللعن، واللعن هو الطرد والإبعاد، أي وهذا الإبعاد، في معنى اللعن! الإبعاد في معنى العن.
ثم قال مَن أدرك أبويه أو أحدهما، فلم يبرهما، فمات، فدخل النار، فأبعده الله، قل آمين. قلت آمين. لا إله إلا الله! مَن أدرك أبويه كليهما، أي الاثنين، أو أحدهما، فلم يبرهما، فمات، فدخل النار، أي بالعقوق، لأن ما المفهوم من لم يبرهما؟ أي أعقهمها. فمات، فدخل النار، فأبعده الله. أي لعن الله هذا البعيد، جبريل يقول لعنه الله، لا يستأهل الرحمة هذا. قل آمين. قلت آمين. أرأيتم بر الوالدين؟ انتبهوا.
إياك أن تغتر أيها الشاب، فتقول أنا مُتعلِّم، أنا حاذق، أنا ماهر، أنا… أنا… وأمي أُمية (غلبانة) ومُشاكِسة. هذه أمك يا… ماذا أقول؟ يا إنسان، أمك يا ابن آدم، أمك! مهما كانت، مهما كانت، أُمية وجاهلة ولا تعرف ويبدر منها ما لا يُرتضى، أمك! الجنة عند قدميها. وإلى اليوم – بفضل الله – يوجد هذا البر في هذه الأمة المُبارَكة. والله الذي لا إله إلا هو، ما خلق الله أعظم ولا أبر من هذه الأمة، والله حين تقف على مبرات الصالحين في هذه الأمة وأحوال العارفين، وهم كُثر – كُثر بفضل الله، كثَّرهم الله ونمّاهم وباركهم -، تجد يا أخي شيئاً لم يكد يُسمَع بمثله، وهذا كله من بركات رسول الله، كله من بركات هذا الداعي العظيم الخاتم، مَن عرَّفنا هذا؟ مَن أدَّبنا بهذه الآداب وبهذه اللطائف؟ رسول الله.
تسمع عن علماء كبار، علماء كبار حفظة للكتاب والسُنن والعلوم، شيء عجيب! وفي مُنتهى درجات الصلاح، ما شاء الله، أصحاب كرامات، وأصحاب تأييدات إلهية، وأصحاب استقامة ساطعة. يأتي أحدهم إلى أمه كل يوم وليلة، ليُقبِّل قدميها، شيخ في الخمسين يُقبِّل قدمي الأم تقبيلاً، ويأخذهما ويضعهما على رأسه أو على عمامته ويبكي، وهي تقول اللهم يرضى عليك يا ابني، اللهم… يقول هذا الذي أُريده، أنا كل ما أُريده أن تقولي يرضى عليك، يرضى عليك. لا إله إلا الله!
أحدهم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – هو الشيخ حمدي عرابي – قدَّس الله سره -، الشامي المُتموِّل الغني، وولي الله الخطير الكبير – رضوان الله عليه -. أبوه ترك أمه وتركهم صغاراً، لم يُبال بهم، وتزوَّج على أمه وذهب إلى الأردن، تركهم سنين! ثم فتح الله على مَن؟ على الشيخ حمدي – قدَّس الله سره -، بصلاحه واستقامته وإعطائه وإنفاقه. آية من آيات الله، آية من آيات الله! وربما أعطى كل ما عنده وأنفق ما عنده، والله يُضاعِف له، ويبدأ من جديد، شيء عجيب! قال أنا بدأت فقيراً، شبه يتيم، وأصبحت دولة. قال هذا – قدَّس الله سره -، وكان عجيبا، كان عجيباً، عجيباً في كراماته. قال أصبحت دولة، أملاك وسيارات وعمارات و… من لا شيء! أبوه لما سمع بهذا، عاد، عاد وجعل يتودد إليه، وهو يبر أباه الذي عقهم وقطعهم هذا القطع وصرمهم هذا الصرم أعظم بر سُمع به.
قال الشيخ حمدي – قدَّس الله سره – حتى أنه طلب مني مرةً كل مالي. قال أعطيته إياه كله. شيء عجيب، شيء لا يُصدَّق! تُعطي أباً مثل هذا؟ نعم، أُعطي أباً مثل هذا. عقنا وصرمنا وقطعنا وتركنا لدواهي الزمان ولنوائب الزمان، لكن الله لم ينسنا. الله لا ينسى عبده الصالح، الله لا ينسى عبده الصالح ورحمته قريبة من المُحسِنين، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩. اللهم أحسِن إلينا يا رب العالمين واجعلنا من المُحسِنين، نعم!
إذن مَن أدرك أبويه أو أحدهما. ثم قال الثالثة، ومَن ذُكرت عنده، فلم يُصل عليك، فمات، فدخل النار، فأبعده الله. عليه الصلاة وأفضل السلام إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. لأن لماذا يا مُسلِم؟ لماذا تستكبر؟ لماذا تتغافل؟ يُذكَر حبيبك، سر الخير كله الذي أنت فيه – إن كنت تستشعر ما أنت فيه من الخير -، ثم تبخل بالصلاة عليه – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ مشغول بماذا؟ ما الذي شغلك؟ أو من أين لك كل هذه القسوة والجحود؟
يُوجَد جحود، يُوجَد بعض الناس الذين يغلب عليهم الجحود وهم من المُسلِمين على فكرة، وهؤلاء ما تأدَّبوا بشيء من أدب الإسلام. بعض الناس قد يتعلَّم على عالم عشرين سنة، وإذا بدا له منه شيء، جعل يسبه ويشنأه. جاحد! أنت لم تسبه، أنت تُنادي على نفسك بأنك جاحد، وبأنك قليل الأدب، فكيف بقلة الأدب مع رسول الله؟ ليس مع عالم ومع شيخ ومع أستاذ ومع أب وأم، مع رسول الله، وهو بوابتنا إلى الله – تبارك وتعالى -، وسيلتنا إلى الله، سبب هدايتنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة – صلوات ربي وتسليماته عليه -، نعم.
إذن هذا هو، لكن لماذا؟ ما سر المسألة؟ لماذا؟ لماذا مَن أدرك شهر رمضان، فلم يُغفَر له، فمات، فدخل النار، فأبعده الله؟ لأنه ربما اجتمع في هذا الشهر من أسباب المغفرة ما لم يجتمع في غيره. سوق! دُعيت إلى سوق، فيها من كل أنواع الفواكه والأثمار، وعُدت إلى بيتك خالي الوفاض، وقلت ماذا؟ لم أُفلح أن آت بشيء. سوق وتأخذ منها مجاناً، سُلطت على ما فيها، قيل لك أنت مُسلَّط، مُحكَّم، خُذ ما تشاء وكم تشاء. وعُدت هكذا وأهلك يتضورون وأنت تتضور، تتضور جوعاً، وقلت لم أُفلح أن آت بشيء. سيُقال لك ما أخيبك! خيّبك الله، ما أخيبك! ما أعجزك! أنت عاجز. الطفل الصغير يعود بشيء، بكيلو أو بكيلين، وأنت لم تعد بشيء.
وهكذا رمضان، أعظم أسباب المغفرة فيه، صيامه! وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. قيامه! ومَن قام رمضان – في الصحيحين – إيماناً واحتساباً -، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. وذكرت لكم أنه عند الإمام أحمد والنسائي وما تأخَّر. لا إله إلا الله! ما تقدَّم وما تأخَّر، شيء عجيب! إذا قبل الله، إذا قبل الله – تبارك وتعالى -.
إذن أولاً صيامه، ثانياً قيامه، وثالثاً تفطير الصوّم، أي تفطير الصائمين، مَن فطَّر صائماً، غفر الله ذنبه وكان عتقاً له من النار. النبي يقول هذا في حديث سلمان، عند ابن خُزيمة، بشَرنا به وهنأنا به في أول خُطب رمضان. إذن تفطير الصائمين أو الصوّم.
رابعاً التخفيف عن المملوك. والآن لا يُوجَد مملوكون – بفضل الله -، ليس ثمة مملوكون، لكن هناك ماذا؟ هناك مَن يعمل في ولايتك، مَن يعمل في إدارتك. أنت مُدير وهو يعمل في مسئوليتك، أنت رئيس عمّال، وهو يعمل أيضاً في ماذا؟ في مسئوليتك. وهكذا، وهكذا! أنت مُدير مدرسة أو أستاذ، وهؤلاء التَلاميذ. أي واحد يعمل في مسئوليتك وفي إدارتك وولايتك، خفِّف عنه. فإن خففت عنه ورحمته، غُفر لك. يُمكِن أن تقول له أنت مُسامَح في ساعة، الدنيا أو اليوم صيام، فتوكّل على الله، مُسامَح. افعل هذا حتى في عملك أو في بيتك، مع مَن يشتغل في بيتك، مياومةً – أي باليوم، باليوم -، قل له لا بأس، في آخر ساعتين توكَّل على الله، وسأُعطيك يومك كاملاً. الشيء نفسه! سيكون مغفرةً لذنبك.
انظر إلى هذا، هذا المُسلِم! يا إخواني المُسلِم كائن رقيق. إذا أردت أن تختبر نفسك، وتعرف هل أنت مُسلِم حقيقي، وهل أنت من أهل الله، أم لا؟ فانظر إلى هذه، هذه كلمة عظيمة، يقشعر لها القلب قبل البدن، ما أهل الله؟ طبعاً لله أهلين، النبي يقول إن لله أهلين وخاصة. هناك مُسلِمون، مُسلِمون! وكلنا مُسلِمون، وقد يكونون من أهل المغفرة – إن شاء الله – ومن أهل العفو، وهذا شيء عظيم عظيم عظيم عظيم، أن يُغفَر لنا ويُعفى عنا – بإذن الله تعالى -، ولكن هناك مرتبة، فوق هذه المرتبة، أسنى وأرفع وأجزل وأفخم وأضخم وأكرم وأنفس وأشرف، مرتبة ماذا؟ الرضوان. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩. ليس أن يعفو عنك، لا! يرضى عنك، يُحِبك، يُدنيك، يُزلِفك، يُقرِّبك، يَرفعك، يُنادِمك، مُنادَمة الملك – لا إله إلا هو -! تُصبِح من أهله، باللُغة المشهورة من خاصة أوليائه وأحبابه – اللهم اجعلنا منهم بحق لا إله إلا الله -.
إن أردت ذلك، فاعلم أن لها معايير. ومن بين المعايير: كم فيك من لُطف؟ كم فيك من حُب؟ وكم فيك من كرم؟ كرم نفس، وكرم لسان، وكرم حتى ابتسامة، وكرم يد، كرم على جميع المُستويات! حتى إغضاؤك عمَن أساء إليك من الكرم، ولا زال الإغضاء من شيم الكرم. ما هذا؟ هو تكلَّم وأنا لا أتكلَّم، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ۩. الله يقول هذا، ادرأ! كم فيك… كم فيك… كم فيك… من هذه الأخلاق التي منبعها، من ماذا؟ الرب الجليل – لا إله إلا هو -. هذه أخلاق الرب – لا إله إلا هو -، تخلَّقوا بأخلاق الله. النبي يقول، هذه أخلاق الرب، الصفح والكرم والرحمة والمحبة واللُطف والمُراعاة و… و… و… كلها أخلاق الرب، كم فيك من أخلاق الرب؟
يا أحبابي، يا إخواني، يا أخواتي، لا بد من الصوم. قال لك إلا الصوم، فإنه لي. كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي. الصلاة والزكاة والحج والعُمرة والتلاوة والذكر والاستغفار والصدقة والجهاد و… و… و… كله لك، وستُحاسَب عليه بالخير خيرات – إن شاء الله -، نعم! ولكن الصوم مُستثنى، الله قال إلا الصوم، فإنه لي. ما السر؟ أكثر من أربعين قولاً، هذه المسألة فيها أكثر من أربعين تأويلاً للسادة العلماء.
الذي بدا لي – والله تبارك وتعالى أعلم -، وإليه إشارة بعض العارفين عبر الأزمان -، أن الصوم تشبه بالملك نفسه – لا إله إلا هو -. إذن فهمنا أن الصوم عن الطعام والشراب، فلماذا الصوم عن الأهل – قُربان الأهل -، وهذا ليس طعاماً ولا شراباً؟ تعرفون لماذا؟ لأن الذي يجعل البشر بشراً ويجعل الفرد ضمن النوع أمران: أن يأكل يشرب، وأن يتناسل. لو لم يكن هناك أكل وشرب، ينقطع النوع. ولو لم يكن هناك تناسل، ينقطع النوع. أليس كذلك؟ هذا الذي يجعلنا بشراً، هذا ما يجعل البشر بشراً، أي ما يضمن امتدادهم، ما يضمن امتدادهم! امتداد ماذا؟ امتداد الجانب المادي فيهم، الجانب المادي البدني، لكن البشر ليس بدناً فقط، البشر بدن ونفخة من روح الله، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩.
قال لك نحن في هذا الشهر نُريد الآتي. هذا البدن الذي خُلق من تراب، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ۩، نُريد أن نُغلِق عليه إمداداته، لأنه دائماً يجور على الروح. الروح المسكينة مُستوحِشة، مُنكمِشة دائماً في زاوية زرية، لأن صاحب هذا الدكان مشغول فقط بالجانب المادي، دائماً! أكل وشرب واستعطار وملابس وكلام وأنا وأنا وأنت، دنيا! هذه دنيا، هذا الجانب الدنيوي، فقط! الله قال لا، هذه دولة الأرواح الآن. رمضان دولة ودورة الأرواح. دورة ودولة للروح – بإذن الله -، لا للأشباح. قال فلا طعام ولا شراب ولا شهوات، لا قُربان للأهل. لا قُربان لله، فتبدأ الروح في ماذا؟ في أن تنتعش الآن. فتطلب أمدادها، هي تُريد أمدادها! قال لك ما أمدادها؟ الذكر، التسبيح، التحميد، تلاوة القرآن، الصلاة، البكاء، القيام، التهجد، السهر، المُناجاة، المُنادَمة، السؤال، الافتقار، الشحاذة على أبواب السماء. تقف شحاذاً على أبواب الله – تبارك وتعالى -، وتطلب. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ۩، تُظهِر فقرك لله. يتصدق عليك، بمقدار ما تُظهِر فقرك وافتقارك وتصغارك وذلك. أنت فقير، الله قال لك سأتصدَّق عليك، لأن الصدقات للفقراء، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ۩.
هذا غذاء الأرواح، فيتروحن المُؤمِن والمُؤمِنة، يتروحن ويخبر أحوالاً لم يخبرها من قبل، وتضعف فيه نزعات ونزغات الشر والكبر والأنا والعجرفة ورؤية النفس والعُجب بها والإدلاء بها والإدلال بها، كل هذا يتراجع ويضمر.
إذا استمريت أو استمررت على هذه الحالة – بإذن الله – في غير رمضان، فأنت في الطريق لأن تُصبِح من أهل الله، من ندمائه ومن خاصة أوليائه وأحبابه. اللهم اجعلنا منهم بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩، ها هو، هذا هو، الربانية! وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩، ما معنى رَبَّانِيِّينَ ۩؟ أقوال كثيرة، بحسب السياق هنا كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩ تعني تخلَّقوا بأخلاق الرب – لا إله إلا هو -، اقتربوا من الرب – لا إله إلا هو -، اعِتَزوا إليه واعِتَّزوا به، اعِتَزوا إليه واعِتَّزوا به – سُبحانه وتعالى -! رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ۩، الدين ليس للكلام، للأسف أخطأنا، جعلنا الدين فقط كلاماً كلاماً كلاماً كلاماً وتنظيرات وفلسفات و… وإلى متى؟ ومتى العمل؟ متى العمل بالدين إذن؟ وهذا الفرق كما تعلمون بين الفيلسوف وبين العارف بالله. هناك فيلسوف دين، وهو مُؤمِن ومُوحِّد، وهناك فيلسوف فقط، الفيلسوف يتحدَّث عن الله، العارف يتحدَّث مع الله. الفيلسوف يتحدَّث عن الدين، العارف يعيش الدين. هذا الفرق! ونحن نُريد أن نكون عارفين، وليس مُجرَّد مُتفلسِفين. تتحدَّث عن الله، متى ستتحدَّث مع الله ويتحدَّث معك الله؟ متى؟ حين تتروحن، حين تُصبِح ربانياً. الصوم بوابتك إلى هذا يا حبيبي، يا حبيبي في الله، يا أخي، يا أختي، الصوم يا إخواني – والله -.
فلذلك أسباب المغفرة كثيرة، ذكرنا أربعة: الصيام، القيام، تفطير الصوم، والتخفيف عمَن هو في ولايتك وفي مسئوليتك. وهناك ذكر الله، وقد روى الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشُعب، عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وذاكر الله في رمضان مغفور له. وفي حديث سلمان عند ابن خُزيمة، أبي محمد، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين لا غناء بهما عنكما… أو خصلتين – في الأول – ترضون بهما ربكم. ما هما؟ شهادة أن لا إله إلا الله – وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير -، وتستغفرونه. الله يُريد أن يغفر لك، انظر إلى هذا، رضا الله أن يغفر لك يا مسكين، هو هذا! وهو يُحِب هذا، هو يُحِب هذا ويُريد أن تستغفره لكي يغفر لك، وهذا اسمه الاستعتاب هنا، هذا عن معنى الاستعتاب. هناك أُناس ما هم بمُعتابين، الله قال لا أُريد. وهناك أُناس الله يستعتبهم، يقول لك ارجع إلىّ يا عبدي، ارجع إلىّ، فأنا حبيبك، وإن لم ترجع، فأنا طبيبك، أبتليك بالمصائب، لأُطهِّرك من الذنوب والمعايب، ارجع إلىّ، ارجع إلىّ! وإن رجعت إلىّ من طوعك، عرفت مقدار حُبك لك ورضواني الذي أُحله عليك، وجنيت أثماره في الدنيا قبل الآخرة، ألحقتك بالمسعودين المُدنين المُصطفين المُقرَّبين – اللهم اجعلنا منهم -.
ولذلك ذاكر الله في رمضان مغفور له. ذكر الله إذن في رمضان! وهناك سبب خامس، وهو استغفار الملائكة. وذكرنا في أول رمضان حديث جابر في الخصال التي أوتيتها أمة محمد – صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً -، أن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة. وورد أنها تستغفر وتدعو لهم خصوصاً عند إفطارهم، حين يقول الله أكبر وتُفطر، تستغفر الملائكة لك. وللصائم دعوة مُستجابة عند فطره. حين تُفطر، لك دعوة مُستجابة. بماذا كان يدعو رسول الله، وأصحابه، عمر وغيره – رضيَ الله عنهم وأرضاهم -؟ الله اغفر لي، اللهم اغفر لي، اللهم إنك واسع المغفرة، فاغفر لي. بالمغفرة إذن، بالمغفرة!
المغفرة والعفو يا إخواني والصفح والتجاوز، آه! هل تعرفون لماذا؟ لأن أكرم الأكرمين – لا إله إلا هو – أكرم من أن يعفو ويغفر لك، ثم يتركك هكذا هباءً سُدىً، بلا إكرام واتحاف. اللئيم يفعلها، رب الكرم – لا إله إلا هو – لا يفعل هذا. الكريم من الناس، لا يفعلها. قال لك وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩. الله! ألم نقل لكم رَبَّانِيِّينَ ۩؟ الله هنا في هذه الآية من آل عمران يصف مَن؟ يصف رَبَّانِيِّينَ ۩، يصف الربانيين.
الإمام زين العابدين عليّ بن الحُسين – عليهم السلام أجمعين، ابن رسول الله – تصب عليه الخادم أو تصب عليه الخادمة، فوقع الإناء، فالماء طبعاً أو رشاش الماء أصاب ثوبه وما إلى ذلك، والماء قذر، فبدا عليه الغضب. قالت يا سيدي وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩. قال كظمت غيظي. مُباشَرةً! وقّاف عند كلام الله، ليس مُتفلسِفاً عند كلام الله، قالت وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩. قال كظمت غيظي. قالت وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩. قال عفوت عنك. لا تُوجَد حتى معتبة، المعتبة غير موجودة! قالت وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩. قال أنت حُرة لوجه الله. الله! خُلق رباني، رباني هذا، رباني! إذا رب العالمين ذكر لك أن الرباني من عباده يكظم ويعفو ثم يُحسِن، فكيف به هو إذا عفا – لا إله إلا هو -؟ طبعاً يُحسِن. ولذلك إذا غفر لك، حتماً أدخلك الجنة وأسعدك يا رجل.
ولذلك قال يحيى بن مُعاذ الرازي – ولي الله الجليل، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ليس بعارف مَن لم يجعل أبعد غايته طلب العفو. تظن أنك عارف؟ العارف يفهم هذا، العارف بالله! يقول إن أكبر همي يا رب وأكبر غايتي أن تعفو عني. لأنه إن عفا عنك، الباقي مضمون. حتى الرضوان – بإذن الله تعالى -! يُحل رضوانه عليك بعد ذلك. هي الأمور هكذا، ولكن لا تأت وتقفز من الأول، تطلب الرضوان ودرجات العارفين والصدّيقين ومُرافَقة محمد في أعلى فراديس الخُلد، لماذا؟ بماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ومن أين هذا الغرور؟ لا إله إلا الله. اللهم عرِّفنا بأقدار أنفسنا.
هناك صلة بن أشيم العدوي، ولن أُحدِّثكم عن كرامته المشهورة، التي ذكرها حتى ابن تيمية – رحمة الله عليه -، المعروف بموقفه من السادة الصوفية، ذكرها وأثبتها! لن أُحدِّثكم؛ حتى لا أفتن بعض الناس. من كبار العارفين (عارفي هذه الأمة) والمُكرَمين صلة بن أشيم العدوي – رضيَ الله عنه وأرضاه -. كان يقوم الليل، أي كل ليلة يقوم الليل، حتى إذا أسحر أو دخل في السحر، رفع يديه وبكى وقال اللهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، ومثلي لا يجترئ أن يسألك الجنة. قال أنا لا أستأهل، أنا لا أستأهل. ونحن اليوم لسنا كذلك، تجد أحدهم – ما شاء الله – على العكس من ذلك، ما شاء الله! الله أعلم بأحواله، والله أعلم بأقواله وأعماله، ويقول اللهم اجعلني من الصدّيقين والعارفين ومن رُفقاء محمد في أعلى الفراديس. لماذا يا أخي؟ لماذا؟ هداك الله، عرَّفك الله بنفسك، عرَّفنا الله بأقدار أنفسنا، لأننا إذا عرفنا أقدار أنفسنا، بدأنا نسير بالطريق الصحيحة، أليس كذلك؟ بدأنا نسير في الطريق الصحيح،
ماذا لو كان أحدهم، وهو شاب صغير – شاب، غُلام – يظن أنه حقيق أن يُلازِم كبار العلماء؟ أي هو إذا أراد أن يتتلمذ، فلن يتتلمذ على واحد أقل من الشيخ ابن عاشور – رضوان الله عليه -، شيخ الإسلام في هذا العصر – مثلاً -! هناك ابن عاشور، وأحمد بن الصدّيق الغُماري، وبدر الدين الحسني، أي الكبار! وهناك أبو الخير الميداني، كبار علماء الأمة! وهناك الشيخ بخيت المُطيعي – رحمة الله عليه – وهو علّامة مصر، هؤلاء من كبار العلماء! إن فهم هذا، فهذا لن يُحصِّل شيئاً من العلم، لأنه ما للتلمذة على هؤلاء من سبيل، مُستحيل! هؤلاء يتتلمذ عليهم العلماء الكبار، لكي تذهب أنت إليهم، لا بد وأن تكون عالماً أصلاً، من الأصل لا بد أن تذهب وأنت عالم، لكي تأخذ من البحر المُحيط. ولكنك تحتاج إلى أن تبدأ تشدو حروف العلم، تبدأ من الــ ABC في الأول، عند واحد مُتواضِع، إمام مسجدك (الغلبان) يُعلِّمك قليلاً في أحكام التلاوة وقليلاً في النحو والصرف، من البداية يا حبيبي! إذا عرفت قدرك، فستكون مشيت في الطريق الصحيح، ومن ثم تبدأ تطوي مراحل العلم، مرحلة فمرحلة فمرحلة، وبعد ثلاثين أو أربعين سنة – إن شاء الله تصير مُستحِقاً لأن تصير ماذا؟ من تَلاميذ الشيخ ابن عاشور، والشيخ المُطيعي، والناس القمم، أهرامات العلم هذه، هكذا لا بد وأن تكون!
وكذلك – ولله المثل الأعلى – مع رب العزة، لا إله إلا الله! اعرف أين أنت، اعرف أين مقامك، اعرف أين أقامك الله، لكي تعرف عنده مقامك. نعم، مقامي أنني من المُذنبين، الساهين، المغرورين، المُعجَبين، المقطوع بهم، الموهومين، المُلبَّس عليهم، من الذين يظنون أنهم شيوخ الأولياء وهم ضائعون. فاللهم لا تُضعنا يا ربي ولا تُسقطنا من نظرك الكريم، لا إله إلا الله!
بعض الناس يظن أننا نُريد بهذا تحطيم، وهذا ليس صحيحاً أبداً، أبداً! هذه الطريقة هي التي تبعث الطموح الصحيح، هذه الطريقة تزم وتخطم الطموح الكاذب الواهم، الذي يجعلك دائماً ناقصاً، لأنك تظن أنك واصل، فمادمت واصلا، فالأمر انتهى ولن تسير، أليس كذلك؟ ستظل ناقصاً. ولكن مَن يرى أنه لم يبدأ، سيقول لك سأبدأ. سيبدأ وسيطوي المراحل وسيصير شيئاً كبيراً – بعون الله – في يوم من الأيام، أليس كذلك؟
إياكم والفهم الخاطئ، افهموا الأشياء جيداً، الشيطان يُلبِّس علينا، الشيطان – لعنة الله عليه – يُلبِّس علينا في كل شيء يا إخواني.
فأسباب المغفرة في رمضان كثيرة جداً، ولذلك مَن لم يُغفر له في رمضان، فمتى؟ النبي يقول، فمتى؟ متى سيُغفَر له.
ولذلك أختم يا إخواني، إذن صومنا هذا الذي نُهينا أن نقول عنه صُمنا الشهر كله – لأن ربما فيه خروق وفيه غفلات، ربما فيه غفلات وفيه تخريقات كما قال أبو هُريرة -، كيف نُرقِّعه؟ بالاستغفار، التوبة، الندم، والإصلاح. نُصلِح فيما أفسدنا، نُصلِح ما أفسدناه! وأيضاً النبي أعطانا – وهذا من رحمة الله بنا – صدقة الفطر، أو زكاة الفطر في الحقيقة، أي اسمها الحقيق بها زكاة الفطر، وهي زكاة واجبة عند جماهير المُسلِمين، خلافاً لبعض مُتأخِّري المالكية ولأهل العراق، والعجيب أن أبا بكر بن المُنذِر – رحمة الله عليه – حكى الإجماع على فرضيتها، ولا يُوجَد إجماع، ولكنه حكى هذا، وقال لك يُوجَد إجماع، أجمع مَن أدركناهم من أهل العلم على أنها واجبة. مفروضة! على كل حال إذن هي قريب أن تكون واجبة بالإجماع، وإن لم يكن هناك إجماع حقيقي، فالمسألة خطيرة.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فرض الله زكاة الفطر، طُهرةً للصائم من اللغو والرفث. هذه تُطهِّرك، في أيام الصوم وليالي الصوم ربما لغوت، تكلَّمت بما لا يليق، أخطأت، أتيت بأشياء، تُطهِّرك بإذن الله تعالى. قال وطُعمةً للمساكين. وأمر أن تُخرَج – أو قال تُؤدى – قبل خروج الناس إلى المُصلى. قبل خروج الناس إلى المُصلى! إذن هذه حكمتها، وورد في بعض الأخبار أن الصوم مُعلَّق بين السماء والأرض، مرهون بماذا؟ بزكاة الفطر. إذا أُخرجت هذه الزكاة، بعون الله – تبارك وتعالى – ارتفع هذا الصوم. طبعاً ثم وُزن كما هو، أي بحسبه. ثم ماذا؟ وُزن. لكن مُطهَّراً، النبي قال مُطهَّراً. الحمد لله، أي مُرقَّعاً، هذه الخروق تُرقِّعها ماذا؟ الاستغفارات، وزكاة الفطر – بعون الله تبارك وتعالى -.
في الخُطبة الثانية نذكر شيئاً سريعاً من أحكامها، لأن ربما الداعية تدعو إلى ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
يقول عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه -، فيما أخرجاه في الصحيحين وأصحاب السُنة – فهذا حديث صحيح ثابت، نعم -، فرض رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأُنثى، من المُسلِمين، وأمر أن تُؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. أيضاً! ذكر هذا المعنى أيضاً، إذن هي فرض يا إخواني، تجب على مَن؟ اختلافات، لكن نأخذ بالمشهور – إن شاء الله والأرجح -. تجب على كل مُسلِم في نفسه وفيمَن ألزمه الشارع النفقة عليه. إذن أنا مُلزَم بالنفقة على زوجتي، خلافاً لأبي حنيفة، أبو حنيفة قال الزوجة تُخرِج من مالها. أي اختلف مع الجمهور، على كل حال أنا مُلزَم بالنفقة على زوجتي، وعلى أولادي، وربما على أبواي إن كان فقيرين، فهذا واضح، يجب أن أُخرِج الزكاة عني وعنهم جميعاً، الزكاة على كل واحد. إذن المُكلَّف منهم أو غير المُكلَّف؟ الكبير والصغير، الكبير والصغير!
وهذا يتوقَّف – قضية الصغير، تحديد صغر هذا الصغير الواجب إخراج الزكاة عنه – على مسألة أُخرى، وهي متى تجب؟ وليس متى يسوغ إخراجها؟ يُمكِن لك أن تُعجِّلها، بعضهم قال من أول الشهر. بعضهم بالغ وقال حتى من أول السنة. مُبالَغات! بعضهم قال حتى يُمكِن أن تُعجِّلها قبل يوم أو يومين من العيد. وابن عمر كان يفعل هذا، يُعجِّلها بيوم أو يومين، قبل حتى العيد، ولكن متى تجب – أي تُصبِح واجبة -؟ قيل تجب بغروب شمس آخر أيام رمضان. إذا كان هذا اليوم – مثلاً – آخر يوم من أيام رمضان، وإذا غربت الشمس وأفطرنا، فإنها تُصبِح الآن واجبة، نحن الآن دخلنا في وقت الوجوب، يجب الإخراج، تُخرِجها واجبةً. وقيل لا، بل تجب بطلوع فجر العيد. غداً العيد – اليوم آخر يوم، وغداً العيد -، ونحن صلينا الفجر، أي هذا فجر العيد، فتُصبِح واجبة. قولان!
فائدة هذا الاختلاف تظهر في ماذا؟ تظهر في مسألة الصغير الذي وُلِد. انتبهوا! على القول الأول إن وُلِد هذا الصغير يا إخواني بعد غروب الشمس، تُصبِح ماذا؟ واجبة في حقه. هذه هي! فحتى هذا تُصبِح واجبة في حقه.
وطبعاً بالنسبة لمقدارها، أعتقد – إن شاء الله – أن الإخوة هنا في المسجد سيُحدِّدونها بالنقد، لأن الرسول تكلَّم عن صاع، والصاع أربعة أمداد، أي أقل من لترين، لأن المُد أربعمائة واثنان وثلاثون مليلتراً، أي بالضبط، وهذا مكيال وليس وزناً، صعب أن تضبط ماذا؟ المكاييل بالأوزان. لأن المسألة تتوقَّف على ماذا؟ على الذي يُوضَع فيه. ماذا لو وضعت في صاع، وهو أربعة أمداد – أي حوالي لترين إلا قليلاً، هم لتران إلا مائتي مليلتر تقريباً -، قطناً؟ ما هذا؟ أي ماذا سوف يزن؟ ربما ثلاثمائة جرام. لو وضعت فيه رصاصاً، يُمكِن أن يزن عشرين كيلاً، عشرين كيلاً! عشرين كيلاً أي عشرين كيلوجراماً.
هذا هو على كل حال، لكن هي ماذا؟ هي مكيال. أربعة أمداد تقريباً، المُد أربعمائة واثنان وثلاثون مليلتراً، أقل من نصف لتر، المُد! أربعة أمداد إذن، والنبي كان يغتسل بصاع، يغتسل هكذا، ويتوضأ بمُد، هذا الاقتصاد في الماء على كل حال.
ورد من حديث أبي سعيد الخُدري، وهو حديث صحيح، أنه قال كنا نُخرِج زكاة الفطر في عهد رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط – الجبن الجميد، أي المُجمَّد -، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب. أي لم يتوقَّف على ماذا؟ على أمرين. ذكر هنا ماذا؟ خمسة أمور. وطبعاً صاعاً من طعام، الظاهر أنه ماذا؟ البُر، القمح. لأنه قال من طعام أو من شعير. لأن غالب طعامهم كان ماذا؟ القمح. والآن ربما يكون غالب قوت البلد الأَرز، أي ما نُسميه نحن الرُز، ولكن هو الأَرز، أليس كذلك؟ ولذلك ذهب طائفة من العلماء أنها تُخرَج صاعاً من غالب قوت البلد، يُمكِن أن تكون طحيناً أو دقيقاً – أي Mehl -، يُمكِن أن تكون أَرزاً، يُمكِن أن تكون ذرة في بلدة آخر، يُمكِن أن تكون تمراً، يُمكِن أن تكون زبيباً، يُمكِن أن تكون أقطاً، يُمكِن أن تكون… والأمر فيه سعة – إن شاء الله -.
انظروا يا إخواني، حتى لا نُشوِّش على أنفسنا، ورحمةً بالقلوب الضعيفة والمعلومات المُتواضِعة عند العامة، نقول الآتي يا إخواني، ونقول دائماً عرَّفنا الله بأقدار أنفسنا، والله العظيم! إجماعهم حُجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. احفظوا هذه القاعدة، الأمة إذا أجمعت، حُجة قاطعة. وإذا اختلفت، فما نُحِب أن يكون لنا باختلاف الأئمة الأعلام حُمر النعم. كما قال ابن القاسم وعمر بن عبد العزيز وغيرهما. إذن إجماعهم حُجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.
الحسن البِصري، عطاء مُفتي الحرمين في وقته – عطاء مُفتي الحرمين -، وعمر بن عبد العزيز، ومَن مثل عمر الثاني؟ عمر بن عبد العزيز! سُفيان الثوري، ومَن مثل سُفيان؟ الإمام الخامس في الإسلام، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإخواننا الإمامية الجعفرية، كل هؤلاء قالوا يجوز إخراجها نقداً. ترى كم ثمن الصاع من تمر أو من شعير أو من كذا، ثم تُخرِجها (بالفلوس)، كل هؤلاء قالوا هذا. إذن ليست مسألة إجماعية، أنه لا يجوز إخراجها إلا ماذا؟ إلا مما ذُكر، قوتاً، طعاماً! ليست مسألة إجماعية، وناهيك بمَن ذكرنا! مَن ذكرناهم هؤلاء ليسوا أُناساً صغاراً.
انظر إلى الآتي؛ عمر بن عبد العزيز كان إماماً فقيهاً مُجتهِداً، وكان أمير المُؤمِنين، أي ما يقوله لا بد وأن (يمشي على الأمة) في وقته، فهذا ليس لعباً وليس أي كلام، قال لك هذا مُمكِن، يُمكِن أن تُخرِجها نقداً. وأبو حنيفة أيضاً، الإمام الأعظم، وكل الأحناف إلى اليوم، فلا نُضيق على الناس أبداً.
ولذلك نحن نرى الأوفق الآن لنا وللفقراء، وهو ماذا؟ أن تُخرَج نقداً. على مَن تجب – كما قلنا -؟ تجب على مَن ذكرنا، وهذا دليل على أنها زكاة بدن، وليست زكاة مال، أليس كذلك؟ زكاة بدن، لأن ابن يوم أو ابن ليلة هذا، نُخرِج عنه الزكاة، لماذا؟ قال لك زكاة بدن هذه. زكاة ماذا؟ بدن، وليست زكاة مال.
هل تجب على الفقير؟ الجماهير قالوا نعم، تجب على الفقير، لا يُشترَط فيها الغنى، أي ملك النصاب. وكيف يُمكِن لي أن أُعرِّف الغني؟ مَن يملك نصابا قدره خمسة وثمانون جراماً من الذهب، فهو غني. وعلى فكرة كلكم أغنياء، وأنا منكم، كلكم أغنياء، مَن عنده النصاب؛ خمسة وثمانون جراماً من الذهب، فهو غني، ولا تحل له الصدقة أو الزكاة إلا بأسبابها، أن يكون كذا وكذا من الأصناف على كل حال.
فعلى كل حال هذا هو، فقال لك هذه لا يُشترَط فيها الغنى، أي لا يُشترَط فيها ملك النصاب، وتجب على الفقير، لأنها زكاة بدن. حتى الفقير الذي يملكها فاضلةً عن عشائه وأولاده وأهله، هذه هي! عنده ما يأكله ويشربه ويفطر به، وزادت عنه أشياء، فلا بد وأن يُخرِجها، لكي تُطهِّره من ماذا – كما قلنا -؟ مما ذُكر. هل هذا واضح؟ فهي زكاة بدن، وليست زكاة مال.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أخرجها قبل الصلاة – قبل ماذا؟ صلاة العيد. إن أخرجها قبل الصلاة -، كانت زكاة مقبولة. زكاة هذه، هذه الزكاة! وإن أخرجها بعد الصلاة – صلى الناس العيد -، فهي صدقة من الصدقات. أي هناك فرق كبير بين أن تُخرِج الزكاة وبين أن تُخرِج الصدقة، اجعلها زكاة، وأخرِجها قبل ماذا؟ قبل هذا الوقت، قبل أن يُصلي الناس العيد.
إخواني وأخواتي:
لم يبق من رمضان إلا ليال معدودة، لعل الله يُكرِمنا ويجعل ليلة القدر فيها، لعل هذه الليلة – إن شاء الله – التي نستقبلها، وهي ليلة السبت، ليلة السابع والعشرين، لعلها بمنّه وكرمه – إن شاء الله تبارك وتعالى -، تكون ليلة القدر. ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُيسِّر لنا فيها الخير والنور والسر والبركة.
وأُنبِّه يا أحبابي – إخواني وأخواتي – أن الاجتهاد في اليوم الذي يتلو الليلة، كالاجتهاد في الليلة. نص عليه الشافعي – رحمة الله عليه – وأئمة كثيرون. فأنت لا تجتهد فقط في الليل، غداً السبت وأيضاً لا بد وأن تجتهد طيلة النهار كما اجتهدت في الليل، قدر الوسع، لماذا؟ لأن هذا تابع لليلة – بإذن الله تعالى -، لكي يُوفى لك الأجر، أجر ماذا؟ قيام ليلة القدر، ويُكتَب لك الأجر تاماً.
فاجتهدوا غداً إذن، ليس فقط الليلة، هل هذا واضح يا إخواني؟ هذا هو بعون الله – تبارك وتعالى -، وأعاد الله علينا وعليكم وعلى أمة محمد – صلى الله على محمد وآله إلى أبد الآبدين – رمضان أعواماً عديدة وسنين مديدة. فـــ:
يا شهر الصيام فدتك نفسي تمهَّل بالرحيل والانتقالِ.
فما أدري إذا ما الحول ولَّى وعُدت بقابلٍ في خير حالِ.
أتلقاني مع الأحياء حيا أم أنك تلقاني في اللحد بالي.
فهذي سنة الدنيا دواما فراق بعد جمع واكتمالِ.
وتلك طبيعة الأيام فينا تبدد نورها بعد الكمالِ.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اللهم أعطنا ما يُرضينا من خيري الدنيا والآخرة، ورأس ذلك وأشرفه رضاك عنا يا رب العالمين. اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا، فاعف عنا وتجاوز عنا، يا حسن التجاوز، يا كريم الصفح، يا مَن لا يُؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين.
اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت. واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، وأمتِعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.
زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واجعل الإسلام نهاية أملنا ورضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا. لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا مَن لا يفنى وجهه، ولا يطفى نوره، ولا يبلى مُلكه، يا دائماً بعد فناء كل شيء، يا رب العالمين، أدِم علينا نعمة الإيمان. نسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقُرة عين لا تنقطع، ومُرافَقة حبيبك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في أعلى جنان الخُلد، برحمتك يا أرحم الراحمين، إنك ولي النعم ودافع النقم.
يا كهف مَن لا كهف له، يا أحد مَن لا أحد له، يا حرز مَن لا حرز به، يا غياث مَن لا غياث له، إلهنا ومولانا يا رب العالمين، يا مالكاً لكل شيء، ويا عالماً بكل شيء، ويا حاكماً على كل شيء، ويا قادراً على كل شيء، نسألك بقدرتك التي قدرت بها على كل شيء، وملكت بها كل شيء، ألا تسألنا عن شيء، وأن تغفر لنا كل شيء، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا خطأنا وعمدنا، جدنا وهزلنا، وكل ذلك عندنا. واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر وأنت على كل شيء قدير.
ارحمنا في رمضان، واغفر لنا في هذا الشهر الكريم، وأعتقنا من نار جهنم، برحمتك يا أرحم الراحمين، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وأولادنا وذُرياتنا وأحبابنا فيك وقراباتنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 31/5/2019
أضف تعليق