بدأ المُحاوِر بالصلاة والسلام على رسول الله ثم أخذ في الترحيب بالحضور وبالأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مشيراً إلى أن هذا اللقاء المُبارَك سيكون له فائدة عظيمة نظراً لاجتماعهم حول موضوع له أهمية خطيرة، وقد عُنوِّن لهذا الموضوع بعنوان الصراع على الإسلام نحو نموذج معرفي جديد، وأشار أن من خلال هذا العنوان يتضح وجود إشكال وهو الصراع حول تأويل الإسلام، وهذا الصراع ليس وليد اليوم وإنما موجود منذ تأسيس الفكر الإسلامي في بواكره الأولى حيث عرف الفكر الإسلامي تيارات مُتعدِّدة مثل المُعتزِلة والأشاعرة وعرف تيارات أقل عقلانية أو حروفية مثل السلفية والحنبلية وعرف تيارات كلامية – على مُستوى علم الكلام – وتيارات فقهية – على مُستوى الفقه – وإلى آخره، وقال أن هذا الصراع قد يُنعَت بإنه كان إيجابياً وقد يُقال أنه كان سلبياً لكن الصراع في مُجمَله كان صحياً لأنه أفاد الفكر الإسلامي كثيراً، وأضاف أننا اليوم على عتبة القرن الواحد والعشرين والعالم الإسلامي يعيش تحديات من نوع جديد، مثل التحديات السياسية والتحديات الفكرية المعرفية، وهذه التحديات طرحت أسئلة جديدة فضلاً عن الأسئلة القديمة، لكن كلها تتعلَّق بما هو الإسلام وما هى ماهيته وما هو التأويل الصحيح له وما هى الآليات التي تُخوِّل لنا تجديد الدين باعتبار أن مفهوم التجديد يُعَد مفهوماً إسلامياً أصيلاً، ثم أوضح أن هناك أسئلة عديدة من هذا النوع سيُحاوِل الدكتور عدنان إبراهيم الإجابة عنها، ولأن الموضوع دسم دعا الحضور إلى المُتابَعة وتمنى لهم مُتابَعة مفيدة وجيدة، ثم ترك الكلمة للأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم ليتحدَّث مشكوراً.
أخذ الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم بطرف الحديث قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينغعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ۩.
أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:
أبدأ بهذا الرجل في الأول – أي المُحاوِر – وأقول له أحسدك ولا أحسدني وأغبطك ولا أغبطني لأنك تفرغ مما أنت فيه في دقيقتني، تُلقي الأسئلة وتُلقي الإشكالات وتتقدَّم بالاقتراحات ثم تُورطني وبعد ذلك علىّ أنا أن أُجيب عن هذا كله.
ورداً على قول المُحاوِر هذه هى اللعبة يستكمل الدكتور عدنان إبراهيم كلامه قائلاً نعم هذه هى اللعبة وما أشقها من لعبة وما أجدها – ما أعظم جديتها من لعبة – أيضاً، تتركني بعد ذلك في المعمعان لأصول وأجول وأتخبط وأتلقى الضربات، وعلى كل حال لست أحسد نفسي ولا أحسد أحداً – أحبتي في الله – يتصدى لهكذا موضوع وخاصةً في زمن مُحاضَرة لجهتين، الجهة الأولى جهة تعقيد وتركيب واشتباك هذا الموضوع في ذاته، فهذا الموضوع هائل الاتساع من جهة ومُركَّب ومُعقَّد جداً كما تعلمون، والجهة الثانية جهة حساسية هذا الموضوع والتفاوت البعيد بين مُقاربَاته المُختلِفة حتى ليصل الأمر أحياناً – للأسف الشديد – من بعض الأطراف والجهات إلى حد التراشق والنبذ بتُهم الإخلال بالمنهجية وشروطها فضلاً عن الإخلال بأسس الإيمان وأركان الاعتقاد والطعن في الذمة والطعن في الدين والطعن في النوايا وغمز قناة الاعتقاد، وهذا شيئ خطير جداً!
كما تفضل أخي الأستاذ عبد الواحد – فتح الله عليه وعلينا جميعاً وجمعوات – موضوع تأويل الإسلام وقراءة الإسلام وتفسير النص الديني هو موضوع قديم حديث ومُستمر مُمتَد ولن يتوقف لا اليوم ولا غداً حتى يطوي الله بساط هذه الخليقة، وهناك طبعاً مشارب – إن جاز التعبير – مُختلِفة للتأويل والتفسير، مثل المشرب اللغوي والمشرب البياني الدلالي والمشرب البلاغي، وهنا نتحدَّث بالذات المُعتزِلة وما أثروا به موضوعة المجاز في تأويل النص وهذا مما يُحسَب لهم وإن كانوا أصابوا وأخطأوا، ويُوجَد المسلك الثيولوجي أو الكلامي كما أشار الأستاذ عبد الواحد، والمسلك البرهاني الفلسفي، والمسلك الذوقي العرفاني الصوفي، وهناك المسلك أيضاً الأثري الحروفي – إن جاز التعبير – على تحيف ربما في هذا الإصطلاح، فضلاً عن المُقارَبات المُعاصِرة -لن أقول حتى الحديثة لأنها في العالم الإسلامي مُعاصِرة وربما لا ترقى إلى أكثر من ثلاثين سنة تقريباً – والتي تتغيا تأويل النص الديني وفق المناهج المجلوبة، أي مناهج التأويل الغربية المجلوبة التي أيضاً لا تزيد على مائتين أو مائتين وخمسين من السنين فقط.
لا نُريد أن نخوض حتى في وضع خُطاطة لهذه المُقارَبات المُختلِفة لأن هذا ليس من مقصود مُحاضَرة وجيزة كهذه، وإنما أُريد أن أعمد مُباشَرةً إلى موضوعي لأقول أنا أُحِب أن أتشارك معكم بعض أفكاري وبعض حدوسي العلمية – جمع حدس – وتظنياتي ربما أيضاً – لا أقول تحقيقات أو أشياء مفروغ منها – حول المُقارَبة المقاصدية والمُقارَبة الغائية للنص الإلهي بل للدين بجملته، وهذه المُقارَبة المقاصدية يُمكِن أن تتكفل – وهى منذورة وحري بها وقمين أن تتكفل – بتحقيق جُملة أهداف، الهدف الأول منها تمييز الغايات من وسائلها، فعوام المسلمين وعوام المُتدينين في كل دين تقريباً لا أقول يعجزون ولكن لا ينشطون بل هم غير معنيين وغير مُهتمين بتمييز الغايات من الوسائل، فكل ما أتى به الدين يأخذ صفة التقديس وهى صفة الدين الجوهرية، فالدين هو المُقدَّس وآتي من المُقدَّس وبنص المُقدَّس، وهذا يُوقِعهم في خلط وخبط عظيمين وأحياناً شنيعين، لأن المفروض أن اعتبار الوسائل تبعٌ لاعتبار الغايات والمقاصد، ثم أن هذه الغايات والمقاصد المفروض فيها أصالةً الثبات والدوام والامتداد، وخاصة إذا كانت مقاصد شرعية، بمعنى أنها ذات أصل إلهي، فالذي دل عليها الله ذاته – لا إله إلا هو – بكلمه العلوي، وليست مقاصد فيلسوف أو مُصلِح أو مُفكِّر أبداً تخضع للنسبية وتخضع للتبدل، فهذه المقاصد المفروض فيها أصالةً الثبات والدوام، أما الوسائل فبطبيعتها وإن أدت إلى هذه المقاصد مُتغيرة مُتحرِّكة ويُستبقى منها ما كان أكثر فاعليةً في إصابة المقصد وفي درك أو إدراك الغاية.
التأمل في عشرات – ليس في آحاد بل عشرات – الوقائع الثابتة عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله ورضى الله تعالى عن أصحابه جميعاً – يُؤكِّد أن هذه المسألة كانت على المُستوى العملي محسومة لديهم، فلم يكونوا يُسقطون على الوسائل قدسية الغايات والمقاصد بل كانوا يعتبرونها بقدر ما تُفضي إلى تحقيق الغاية وإدراك هذه الغاية أو المقصد، ولي مُحاضَرة هنا في بروكسيل قبل بضع سنين أتيت فيها بجماء غفير أو بمجموعة طائلة من الأمثلة عن الصحابة وأئمة التابعين وتابعي التابعين تُؤكِّد هذا المعنى وتُضوئه وتُنيره، فهناك نصوص كثيرة عن هذا على تفاوت طبعاً صحتها أو تفاوتها صحةً وضعفاً، فهذه المسألة مُهِمة، وبعد ذلك هذا سيُمكِننا أن نضع سلماً أولوياتياً – إن جاز التعبير – للوسائل تبعاً لمقاصدها ثم للمقاصد ذاتها، وتفصيل هذه النُقطة سيأخذ على ما أعتقد ربما ثلث هذه المُحاضَرة، لأننا سنكتشف أن هذه المقاصد على نوعين رئيسين، النوع الأول مقاصد قدرية تكوينية خلقية مدلول عليها بلسان الآيات، والنوع الثاني مقاصد شرعية لا يُستدَل عليها إلا بالآيات ولا يُقال مدلول عليها بلسان الآية أنها ثابتة في ذاتها، فقد يدل عليها العقل وتأمل الخلقة والهيئة التكوينية، ويعرف هذا صاحب الوحي وغير صاحب الوحي، أي مَن كان يمتح مِن مصدر وحياني أو مَن كان لا يمتح مِن هذا المصدر، فالغايات أو المقاصد الشرعية النصوص تأتي بها ولا يستقل العقل أصلاً بالوصول إليها وإنما طريقها العميد الوحيد هو الآي أو النص الإلهي وهذا مُهِم، وطبعاً أعتقد أن تمييز الوسيلة أو تمييز الغاية من وسائلها ثم تمييز الغايات أولوياتياً بحيث نعرف أن هذه الغاية أشمل وبالتالي فهى مُقدَّمة وأن هذه الآية أكثر اعتباراً وأكثر أهميةً وإن كانت تلك مُهمَةً فيكون لهذه الأولوية أيضا فضلاً – كما قلت – عن ترتيب الوسائل ذاتها المُفضية للغايات يعمل في اتجاه بَلْوَرَة المعنى فينفي العبث، فهذه الطريقة مُهِمة جداً لنفي العبث عن شرع الله ولنفي العبث عن فهم الدين وتنزيل الدين حتى في حياة الفرد وفي حياة الأمة والمجموع، وهذا يحدث بهذه الطريقة وحدها، ولذلك لي مُدة – ليست طبعاً مُتطاوِلة – أُركِّز دائماً في مُناسَبات شتى على قضية تحديد الغائي للإسلام، لأن كثيراً من هذا الهرج والاشتباه والانفلات أيضاً والعبث الذي نعيشه جاء بسبب أو على خلفية أننا فقدنا هذا الفهم والتحديد الغائي للدين، فربما استُهلِكنا في الوسائل استهلاكاً يُفضي إلى مزيد من التعثر ومزيد من الخيبات، ومهما كنت سائراً ومُهتماً بآلة السير وباتساق هذا السير وتنسيقه لن تخرج من قيد العبثية ومن حيز العبثية إذا لم تُحدِّد الغاية التي ينتهي إليها السير، ستكون كما يقول العرب راكب تعاسيف مع أن سيرك مُنتظَم ودقيق ومُمنهَج ومُتسِق أيضاً ومعني به حتى الغاية، ولكن بلا غاية ينتهي إليها السير أنت عبثي ،وستؤول في النهاية إلى خيبة وفشل بل إلى عدم وإلى لا شيئ، قال تبارك وتعالى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ۩ أي بلا غاية وكأننا خلقنا وفقط، فالخلق بحد ذاته لا يكون غاية ولذلك لابد أن نبحث عن مقاصد الخلق فنقول لم خُلِقنا؟ ومن أجل ماذا خُلِقنا؟ وهذه المقاصد مقاصد قدرية تكوينية خلقية ومقاصد شرعية وتشريعية أحكامية حُكمية، فنفي العبث إذن لا يكون إلا بهذا.
أخيراً حتى لا نُطوِّل – لأن هذا الموضوع مُستطيل بذاته لكن هذه كلها إلماعات وإيقاظات أو رؤوس أقلام كما يُقال أحبتي في الله، وطبعاً سترون من خلالها إن شاء الله أيضاً مشرباً جديداً في تناول موضوع المقاصد، فلم نحصر أنفسنا في الطريقة التقليدية المعروفة وهى التهميش والتقرير والشرح على متن الشاطبي ومتن القرافي ومتن العز ومتن الغزالي ثم متن ابن عاشور، ولكن يُوجَد هنا مشرب جديد من بعض النواحي، وهذا مُهِم ومن ثم موضوع المقاصد لابد أن نُبدِع فيه تعاطياً، والمُقارَبات جديدة أصلاً، وسوف نرى أن هذا الموضوع بالذات قد يُثوِّر ملكات الاجتهاد في أصحاب هذه الملكات واللياقات، ومن ثم يعد إن شاء الله تبارك وتعالى بفهمٍ قد يكون ثورياً فعلاً تجديداً لشرع الله عز وجل، وهذا نحتاجه الآن، فأسلافنا رضيَ الله عنهم وجزاهم الله جزاء شاكر فعلوا ما بوسعهم على وجهٍ حسنٍ جداً، لا نقول إنه الأحسن ولا إنه الوجه الأكمل والأتم ولا نقول أيضاً كم ترك أو ماذا ترك الأول للآخر؟ بل ترك الكثير والكثير، فكم وكم ترك الأول للآخر، والفضل لله تبارك وتعالى مع حفظ فضل المُتقدِّمين والسابقين رضوان الله عليهم وعنهم أجمعين – أقول أن هذه الطريقة المقاصدية الغائية ستحفظ للفهم وستحفظ لفهم الفاهم ولفهم المُجتهِد ولاجتهاد المُجتهِد خاصية وميزة الاتساق تبعاً لإدراك اتساق النص ذاته، وسينعكس هذا الإدراك مُباشَرةً في ماذا؟ في اتساق الاجتهاد وفي اتساق التأويل وفي اتساق القراءة وفي اتساق التفسير وفي اتساق الفهم، لماذا؟ لأن الطريقة التقليدية التي غبر عليها إلى الآن بضعة عشر قرناً طريقة لا تحفظ هذا الاتساق للنص بل تنتهك – وهذه العبارة جريئة ولكنها واقعية – اتساق النص الإلهي وتضربه في مقتل كما قلت ربما أمس أو أول أمس، وهذه الطريقة ستكشف لنا عن ميزة أكثر من رائعة في النص الإلهي لدى تفعيلها وتشغيلها وهى خاصية تراكم المعنى – وهذا أصبح مفهوماً لديكم – تناسخ المعاني، أي معنى ينسخ معنىً وحُكم ينسخ حُكماً ويُلغيه ويُبطِله، فهذه الطريقة في التناسخ والإبطال والإلغاء تليق بالنشاط البشري وتليق بالنص الإنساني، قال الله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، فالتعاطي مع هذا الاختلاف الكثير في نص إنساني سيؤول بعد ذلك إلى التناسخ وإلى ضرب بعضه ببعض وترجيح بعضه على بعض، وفي النهاية بالتواضع العلمي الاستغناء عن بعض واستبقاء بعض، حيث سيكون رهناً بذاته لمُحاوَلات جدلية ديالكتيكية مُستقبَلة تستبقي بعضه وتنفي بعضه وقد تستبقي أقله، وبعد حين سنرى أن هذا الإنسان نسخ نفسه تقريباً، فهذا هو البشر وهذه هى طبيعة البشر، أما مع النص الإلهي يستحيل هذا، وأنا أعتقد أن هذه جريمة معرفية أن يُتعاطى معه من خلال هذا المنظور، بالعكس المنظور اللائق به والحقيق به هو أنه يتكامل إبانه وفي أثناءه وتضاعيفه المعنى، لأنه نّص مَن أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩ فلا يتعلَّم ولا يُعلَّم – يا عالماً لا يُعلَّم ولا يتعلَّم – شيئاً جديداً – لا إله إلا هو – ولا يتكامل – هو مصدر الكمال وهو المُطلَق لا إله إلا هو – أيضاً، أما نصه الذي نتلقاه نحن المُنزَّل على قلب خاتم النبيين – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيتكامل فيه المعنى، ومن هنا لم يُعط المعنى دُفعة واحدة، لأننا نعجز عن تلقيه دُفعة واحدة فضلاً عن أن هذا المعنى نزل من المُطلَق ومن المُجرَّد إلى المُتشخِّص العياني فلاحق شروطه ورهاناته وتحدياته واشتباكاته، وهذا شيئ طبيعي، ولكنه مع ذلك لم يخضع له، إنما أراد ان يُكيِّف هذا المُتحرِّك المُشتبِك المشروط المُظرَّف – إن جاز التعبير – له من حيثية أو من زاوية تكامله – تكامل المعنى – أيضاً، وهذا – إن شاء الله – ربما أُنيره – بعون الله – في مُحاضَرة مُستقِلة أو خُطبة، وسوف نأتي بأمثلة مُعجِبة جداً جداً لتكامل المعنى في الآي القرآني بدل تناسخه، فهى تتكامل ولا تتناسخ، والمُقارَبة الغائية المقاصدية ستكشف لنا عن هذا الجانب أيضاً، فهذه من ضمن الأهداف التي يعد بها هذا المنهج الجديد أو هذه الخُطة الجديدة.
(يُتبَع الجزء الثاني)
أضف تعليق