“كل شيء في سيلان دائم… ولا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين “… على ضوء مقولة هرقليطس نقول “أنت لا تستمع إلى عدنان إبراهيم مرتين”، لأنـه في سيلان دائم. واقتباسا من الرسام هنري ماتيس الذي قال” عندما أريد أن آكل الطماطم لا أهتم بشكلها، لكن عندما أريد أن أرسمها أتأملها وأنظر إليها طويلا”. هكذا قد يحصل مع الذي يقبل على الاستماع إلى الشيخ عدنان إبراهيم.
هذا الفلسطيني، الذي تنقل بين دروب العلم من بلد إلى بلد، واستقر به المقام في العاصمة النمساوية فيينا. بقي، رغم بعده عن الوطن العربي، في دماءه وفي لغته الفصيحة أصالة وتواضع، جعله من اسود الدعوة إلى معرفة الله في العالم .
الكل قد يُعرِّف الدكتور عدنان إبراهيم على حسب نظرته ومن زاويته، لكن الشيء الوحيد المستخلص أن الشيخ لا يصلح معه التعريف “الويكيبيدي”. فالشيخ أو الدكتور أو العلامة أو… تعددت فيه الأسماء و في المسمى تفرق الواحد.
سقراط .. ميكانيكا الكم.. سارتر.. ابن عربي.. نيتشه.. ماركس.. المنطق.. الروايات العالمية وغيرها… معاني غريبة وسابقة تـُعرض استشهادا مفصلا في جل خطبه ومحاضراته على منبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ويجعلك الاستماع اليه أن تتساءل ما معنى أن تعرف الله من خلال الملحد؟ أو أن تعرف الله من عند عالم النفس والفيلسوف والمؤرخ ومن الماضي والحاضر والمستقبل البعيد ؟ أليس غريبا أن يتجول بنا عالِـم، في هذا الزمان، من بداية الكون إلى نهايته ؟! كيف نعيش البداية والنهاية في نفس الآن؟! ما الذي يجعلنا لا نفكر في إمكانية حدوث هذه الأشياء انطلاقا من بنيتها القابلة للتشكل والفناء ؟ هل فعلا نفكر بعقولنا أم بعقل تاريخنا ؟ كيف هو شعور الإنسان عندما تـُحطم أمامه أصنام المفاهيم التي تربى بين أحضانها ودفأته بين ذراعيها ؟ كيف الفطام ؟…
قد تطول الأسئلة ونغفل عن صاحبنا وشيخنا.. لكن طرح الاسئلة يعني بحثنا عن الحقيقة.
الأكاديمية… فكر كيف تفكر
نشكو في مجتمعاتنا العربية من ضعف القراءة والإنفاق عليها بشكل هزيل جدا. والعربي إذا ما قرأ، في أمة “إقرأ”، فإن خطأه الوراثي أنه يقدس ويعظم الذي يقرأ عنهم ولا يعظم فعل القراءة. وخطأه هذا قد يكون منهجيا وتكوينيا في عملية التدريس التي تلقاها، بالإضافة إلى عدة أسباب ذاتية وشخصية (خاصة بكل مجتمع).
وإذا كان المشكل يكمن خارج فعل القراءة أو يبقى محصورا بين ثنايا الفعل فإنه في حد ذاته عائق لعملية الإبداع التي هي نتاج لممارسة فعل القراءة بكثرة، والذي هو سر تقدم الحضارات. بيد أن هذا يحيل بشكل بدهي إلى التساؤل عن موقع عملية التفكير، هل هي فعل قبل القراءة أم بينها وبين الإبداع؟ أم أن التفكير يأتي بشكل عرضي في نهاية الطريق؟ أم لا ضرورة لموقعه ؟…
يأتي هنا الدكتور ويقف ليعيد قلب هذه العمليات رأسا على عقب، ويضيء شمعته. فعندما تختار، ولو بشكل اعتباطي، أيًا من خطبه أو محاضراته المطولة تكتشف انه يلزمك الاستعداد لعالم جديد ليس كالذي ألفته. يقول لك ضمنيا انه يلزمك كنس ترسبات ما تعلمته أو ما عُـلـِّمته من تاريخ وفقه وتفسير ومذاهب وشخصيات وفلسفات وعلوم… واكتشف أن لك حرية التفكير تساعدك لتركيب عقل جديد يصلح لأن تسافر به كل الأزمنة وتطرح عليها أسئلتك الخاصة بنفسك… وهذا بطبيعة الحال انه يجعلك تفكر في كيفية تفكيرك. يقول في أحد خطبه “إذا كنت تحب، فهل ستقول لشخص ما “حب عني”.. لينوب عنك في حبك!! أم أن الحب هو خاصتك ؟… فكذلك عملية التفكير.. لا تدع أحدا ينوب عنك”. هذا أول درس تتعلمه من أكاديمية الدكتور عدنان إبراهيم قبل أن تلج عالمه. وان لم تتعلم كيف تفكر، فعل الأقل فانه يكون أعطاك معنى للتفكير.
يشغلك عن الكتابة بالكتابة
أما إذا فرغت من الاستماع إليه وقررت أن تكتب عنه أو إليه أو من خلاله.. فقد تغرق في يمك ويغـُرَّك موجه فتقول: كيف أكتب عن شخصية لا يشتعل رأسه شيبا..؟!! لكن حين تجول في فكر بعض الكتاب سترى أن الشيب عار على بعضهم وليس وقار.
لا أريد بين يدي هذه السطور أن أسرد قصصه وانجازاته التي حققها وهو في صباه (ألف كتبا فكرية وهو في الرابعة عشرة من عمره) ونبوغه في الفكر والعلم؛ من معرفته المبكرة باينشتاين وماركس و توينبي وأفلاطون … إلى أبي حامد الغزالي والرومي وسبويه… إلى معرفته الدقيقة بالفكر الإسلامي بفروعه وأصوله… لكن ابتغي أن أتساءل عما تساءل عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، عن إمكانية “اجتماع كل المعارف في هذا العصر في رجل واحد، وعن زمن العالِم الموسوعي!!! لكن ما إن عرف المسيري الشيخ عدنان حتى زال عنه الاستغراب، فالرجل (عدنان) يحوي في بيته مكتبة كبيرة في كل المجالات والمعارف. ويعكف بإدمان على قراءة الكتب (ما يقارب الكتاب في الساعة). كما أن ذاكرته تساعده على الحفظ، تصل إلى استحضار أحاديث وأقوال من كتب قرأها من ربع قرن.
إضافة إلى ملكة الحفظ التي يتميز بها الدكتور عدنان إبراهيم، فإن له قدرة على التحليل والتفسير والاستنباط والاجتهاد، في أكثر المسائل الشرعية والكونية والمقولات الفلسفية حساسية. وهي ضرورة لزومية يفتقر إليها أغلب المفكرين الإسلاميين، وبعيدة كل البعد عن الدعاة التقليديين.
يجعل هذا كل مستمع إليه إلى أن يتحول إلى مستمع- مدمن، ثم إلى مستمع- مدون، إلى أن يغدو تلميذا بين محاضراته ينتظر امتحانا لينتقل إلى القسم الذي يليه، وبالتالي تتحرك فيه ملكة الكتابة والقراءة. وما أكثر الذين قالوا: “يكفينا هذا الشيخ معلما ومرجعا” !!.
نختم بالفيلسوف الألماني هيدجر الذي قال أن “اللغة تعجز عن الإحاطة بالفكر”. لنقول في هذا السياق، أن الكلام قليل ولا تقدر اللغة (الكتابة في هذا المقام)، أن توافق الفكر الذي تعلم الكثير من هذا الشيخ. ولأن جريان النهر الذي ذكرناه سابقا، لا يزال في هذه اللحظة في سيلان مستمر، فما أجمل النزول إليه مرة ومرات…
أضف تعليق