إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ۩ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
يلفت النظر في كتاب الله – تبارك وتعالى – أخبارٌ وصياغاتٌ كثيرةٌ لأمور من أمور الغيب أخرجها سبحانه وتعالى مخرج ما وقع وانقضى، والقرآنُ طافحٌ ملآن بأمثال هذه الصياغات كمثل قوله عزّ من قائل وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۩ وكقوله وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۩ وكقوله أيضاً وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ۩، فهناك آياتٌ كثيرة جداً تتحدَّث عن ما يأتي على أنه أتى وانقضى بصيغة الماضي المُتحقِّق، وبعض الناس يميل وبعض المُفسِّرين إلى تخريج هذه الآيات العظيمة على طريقةٍ بيانية ولكن ما عساه يفعل مع الأحاديث الصحاح التي قبلتها الأمة وهى كثيرةٌ جداً، كحديث الكسوف المُخرَّج في الصحيحين وغيرهما فقد رواه أبو هُريرة وابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم كثير – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – حيث قيل للرسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في حديث الكسوف “يا رسول الله رأيناك فعلت شيئاً في مقامك هذا لم تفعله من قبلُ، تناولت شيئاً ثم تراجعت”، وفي رواية “ثم تكعكعت”، فقال عليه الصلاة وأفضل السلام “لقد رأيتُ الجنة ورأيت عنقوداً – أي عنقود عنب – قد قدمت إليه ثم كعكعت أو تكعكعت – تراجعت – ولو أصبته – أي وأتيتكم به – لأكلتم منه ما بقيت الدُنيا”، لأنه من طعام الجنة الذي لا يفنى ولن يفنى، فبالحري أن مَن أكل منه ولو حبة لا يجوع بعده أبداً حتى يلقى الله، فهذا ثابت ومُبارَك بفضل الله، ثم قال عليه الصلاة وأفضل السلام “ورأيت النار فلم أر منظراً أفظع قطُ – أي من هذا المنظر – ورأيت أكثر أهلها النساء”، فقالوا بم يا رسول الله ؟ فقالَ بِكُفْرِهِن، وقِيلَ يَكفُرنَ بِاللَّهِ، قَالَ “يكفُرنَ الْعَشِيرَ وَيَكفرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحدَاهُن الدَّهْرَ كُلّهُ ثُم رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ”، فهذا كان في حديث الكسوف، وفي حديث الكسوف أيضاً أخبر عليه الصلاة وأفضل السلام أنه رأى صاحب المحجن في النار، قال “وَرَأيْتُ صَاحِبَ الْمِحْجَنِ مُتَّكِئًا فِي النَّارِ عَلَى مِحْجَنِهِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ – المقصود بالحاج الحجيج، والمحجن هو العصاة وفي رأسها التواء فيدفع بها الراعي عن نفسه ويلتقط بها الأشياء وإلى آخره، فهذا هو المحجن إذن، فَإِذَا عَلِمُوا بِهِ قال لَسْتُ أنَا أسْرِقُكُمْ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي”، أي أنهم إن تفطنوا له قال أن هذا الشيئ تعلَّق بالمحجن، وإن غُفِل عنه ذهب به، ومن هنا قال النبي أنه رآه في نار جهنم بهذه الفعلة النكراء، فإذن الله أخبرنا أنه رآه في النار فضلاً عن أنه أخبرنا – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيضاً أنه رأى عمرواً أو عمرو بن لُحي من خزاعة في النار، وهو الذي سيَّب السائبة أو السوائب بل هو أول مَن سيَّب السوائب وأول مَن أتى بالأصنام من الشام فوضعها في بلادهم وفقاً لما ذُكِر في بعض الأخبار، فلعنة الله عليه ومن هنا قال النبي “رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ – أي أمعاءه فِي النَّارِ”، فمعنى أن النبي رآه في النار أنه دخل فعلاً النار وأن نار جهنم موجودة بالفعل وأُدخِل فيها الذين كفروا والعياذ بالله، إذن لقد دخلوها وانتهى كل شيئ.
في حديث الإسراء والمعراج أخبر النبي عن مرآئي كثيرة جداً وعن شخوص وأحوال وأشياء في الجنةِ وفي النار، وأخبر عن المُجاهِدين والشهداء كيف رآهم في جنات النعيم – اللهم ألحقنا بهم – وأخبر عن خُطباء الفتنة وكيف رآهم في النار، وأخبر عن الزواني والزُناة من الرجال والنساء، وأخبر عن أكلة الربا وأكلة أموال اليتامى كيف رآهم في النار، وأخبر – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن الهمازين اللمازين كما أخبر عن المُغتابين وكيف رآهم في النار، وأخبر عن أشياء كثيرة وعن أحداث وشخوص كثيرين رآهم عليه الصلاة وأفضل السلام، ومن هنا اختلف رأي العلماء، وطبعاً هناك حديث بلال المُخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنه وأرضاه ورضيَ الله عن صاحبي الصحيحين – حيث قال النبي “يا بلال أخبرني بأرجى عمل منفعةً لك – أي من عملك الصالح ترجوه عند الله تعالى – فإني سمعت خشفة نعليك في الجنة”، وفي رواية أُخرى “دف نعليك في الجنة”، إذن بلال في الجنة أصلاً ويمشى فيها والنبي سمع ذلك، ففي هذا الحديث سمع النبي هذا وفي أحاديث أُخرى رأى هذا، إذن سماع ورؤية، وهذه الأشياء موجودة كلها، فالمُستقبَل إذن موجود وناجز وكائن، إنه لا يحدث وإنما هو كائن وحسب، قال بعض علماء الفيزياء “المُستقبَل والماضي والحاضر لا تحدث وإنما هى كائنة وحسب”، هذه هى التخيلات الكبيرة لهذه العقول الضخمة لهؤلاء العلماء الكبار، فهم قالوا أنها كلها كائنة وحسب فلا تقل لي أنها ستحدث أو لن تحدث لأنها حادثة وكائنة وموجودة بالفعل.
إذن النبي قال”يا بلال أخبرني بأرجى عمل منفعةً لك فإني سمعت خشفة نعليك في الجنة”، فأخبره بلال بأنه ما أحدث حدثاً فتطهَّر – إلا صلى ما شاء الله له بذلك الطهور، فهذا الذي بلغ به رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه!
وهناك أشياء كثيرة وأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب وإن كانت حديث المعراج وحديث الكسوف الأشهر، فصلى الله على سيد الخلق وعلى صاحبِ النفس الشفيفة والبصر النفّاذ والبصيرة الفائقة والنفس الصمدانية المُتألِّهة الربانية، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم.
إذن النبي رأى أشياء أكثر من هذه بكثير وأخبر عنها، فرأى دخول بعض الناس الجنة ودخول بعض الناس النار، رأى – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – ذلك كله، وعلى ما نقل الإمام النووي – قدَّس الله سره – عن الإمام العلّامة القاضي عياض المالكي قال بعض العلماء أنه رآها رؤية انكشاف، أي كُشِفَ له عنها وهذا هو الصحيح وهذا هو الكشف لأنها كائنة بالفعل، وقد رجَّح عياض – قدَّس الله سره – هذا القول وقال “هو الأولى لأنه يلتئم بظواهر الحديث – علماً بأننا نقول يلتئم بها ولا نقول يلتئم معها – ويتفق معها”، ومنهم مَن قال إنها رؤية تمثيل لما سيكون، ولكن أين قول الله وَأُدْخِلَ ۩ وقوله وَنَادَىٰ ۩ وقوله وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ۩وقوله وَقِيلَ ۩ وقوله وَقَالُوا ۩؟!
فلماذا إذن يُقال أن هذا من باب التمثيب؟!
ومنهم مَن قال إنها رؤية علم وإخبار فقط، فالنبي لم ير هذا ببصره أو ببصيرته وإنما أُعلِم به، وهذا الرأي ضعيفٌ جداً، فالنبي أخبر أنه رأى وهو يلتزم الحق المُطلَق حين يُخبِر وهو الصادق الأمين – صلوات ربي وتسليماته عليه – الذي يعرف ماذا يقول، فكيف يقول لك “رأيت” وتقول أنت أنه علم أو أنه سمع بهذا عن طريق الوحي؟!
هذا تهوك وهذه تأويلات باردة تُشكِّل تقديمات بين يدي رسول الله فيما يُخبِر عنه وقد نُهينا أن نُقدِّم بين يديه، فإذا قال لك “رأيت” عليك أن تُسلِّم أنه رأى، فلا تقل لي أنه سمع أو أن الوحي أخبره، وإلا من أين لك هذا الكلام ساقط عن درجة الاعتبار؟!
فما الحكاية إذن؟!
ما الذي يحدث؟!
على كل حال هذه الأمور وإن كانت تستثيرُ العجب وتستفزُ الفكر والخيال فينا إلا أنها تتفق لنا جميعاً تقريباً، هى تتفق لكل أحد من الناس على نحوٍ أو آخر ولكن كيف نعرف هذا؟!
مَن مِنا لم يتفق له في حياته ولو مرة واحدة أن رأى رؤيا ثم تحقَّقت بعد ذلك كما رآها بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد عشر سنين؟!
أكثر ما تتحقَّق فيه الرؤيا الصالحة يكون في أربعين سنة كما قال علماء التعبير ولا تتحقَّق بعد أربعين، فإن لم تتحقَّق في الأربعين فلن تتحقَّق ولن تكون رؤيا صالحة صادقة، ولكنها تتحقَّق في أمدٍ أقصاه أربعون سنة وفقاً لما اتفق عليه علماء تعبير الرؤى، لكنها على كل حال تتحقَّق، فكيف يحدث هذا؟!
كيف ترى شيئاً كما هو قبل أن يكون؟!
والدكتور البوطي – رحمه الله وأمتع به – رآى زوجته الثانية التي تُدعى أميرة – علماً بأنه كتب هذا في كتبه – في المنام على الرغم من أنه لم يرها من قبل في حياته قط ولم يسمع عنها ولا عن إسمها، رآها ورآى شكلها وعلم أن إسمها أميرة، وبعد فترة يسيرة جداً لعلها لم تزدد على أيام – سبحان الله – قدَّر الله والتقى بها فإذا هى التي رآها في المنام وإسمها أميرة، فكيف تم هذا؟!
هذه المرائي والأشياء تتفق لكل واحد، فهذه موجودة ولا يُكذِّب بها إلا جاهل أو مُكابِر على الضرورة لأن هذه الأشياء ضرورية وتتفق لكل للناس في تجاربهم الشخصية!
أيضاً هناك أشياء مثل هذه الأشياء في العجب وربما تفوقها عجباً، فالكاتب – مثلاً – الذي كتب رواية معروفة ونشرها سنة ألف وثمانمائة وثماني وتسعين بعنوان حطام الجبّار The Wreck of the Titan كان يصف فيها سفينةً، والعجيب واللافت والمُثير أنه كان يذكر طولها وعرضها وحجمها وعدد ركّابها وأوصافاً دقيقة أكثر من هذا لأشياء فيها، ويذكر أنها دشَّنت أول رحلة لها في المُحيط، ويذكر عدد قوارب النجاة التي كانت على متنها وكانت محدودة للأسف، وكان ذبك كله ضمن رواية خيالية يكتبها مورغان روبرتسون Morgan Robertson صاحب حطام الجبّار أو الـ Titan وكيف أنها اصطدمت بجبل جليدي في المُحيط ثم بدأ يغرق ركّابها وغرقت هى بعد ذلك في المُحيط، وهذه الرواية منشورة سنة ألف وثمانمائة وثماني وتسعين، والبقية نعرفها جميعاً وجمعاوات حيث أن بعد ذلك بأربع عشرة سنة – أي في ألف وتسعمائة واثنتي عشرة – فعلاً تم تدشين السفينة الشهيرة تيتانيك Titanic، وكلمة تيتانيك Titanic أتت من كلمة Titan بمعنى الجبّارة أو ذات الجبروت والتي كُتِب في كتاب التعريف بها “سفينةٌ لا يقهرها القدر”، بمعنى أن الله – أستغفر الله العظيم – لا يستطيع أن يكسر هذه السفينة، وهذا يدل على الإلحاد والكفر وغرور الإنسان والصلف والعجرفة الفارغة، ففي أول رحلة لها اصطدمت بجبل جليدي في عُرض المُحيط وكان ما كان مما تعرفونه جميعاً وجمعاوات وشاهدتموه في الفيلم الرائع، والعجيب أن أوصاف السفينة التي ذُكِرَت في الرواية تنطبق تماماً على أوصاف سفينة تيتانيك Titanic، فكل ما يتعلَّق بطولها وعرضها وعدد ركّابها وعدد الذين نجوا والاصطدام بالجبل الجليدي وصيحات المُستغيثين ذكره الكاتب روبرتسون Robertson تماماً بدقة، وعدد قوارب النجاة وكانت محدودة وهذا سبَّب غرق المئات للأسف، فلم ينج من ألفين وأربعمائة تقريباً من الركّاب إلا زُهاء سبعمائة وقليل، وهذا شيئ غريب، فتنبَّه بعد ذلك بعض الصحفيين والكتّاب وقالوا “هذا مكتوب في رواية نُشِرت قبل أربع عشرة سنة”، فما الذي حدث إذن؟!
كيف نفذت روح هذا الكاتب أو خيال هذا الكاتب أو بصيرة هذا الكاتب في المُستقبَل والتقطت هذه الأحداث المُستقبَلية باعتبار أن هذا هو أقل تفسير لما جرى؟!
خيال الكاتب لم يمتح من عدم، وإنما متح من شيئ يبدو أنه كائن، وعلى الأقل نحن سنفترض أنه سيكون، ولكن خياله نفذ إليه والتقطه ثم صاغه رواية مُؤثِّرة خيالية، فكيف يُمكِن أن تُفسِّروا هذا؟!
وقبل هذا في سنة ألف وثمانمائة وسبع وثلاثين كتب الكاتب الشهير جداً إدغار آلان بو Edgar Allan Poe – الذي مات شاباً عن أربعين سنة تقريباً كتابه آرثر غوردن بيم Arthur Gordon Pym، وهذا الكتاب كان عبارة عن قصة عن شاب يُدعى آرثر غوردن بيم Arthur Gordon Pym ، وهى قصة تخيلية حيث أن هناك سفينة ضلت في عُرض المُحيط فترةً ما واضطُر بعد ذلك العاملون عليها لأنهم شارفوا على الموت وعلى الهلاك أن يذبحوا غُلاماً كان يعمل خادماً على متنها – أي على ظهرها – ويُدعى ريتشارد باركر Richard Parker، فذبحوه وقالوا “بدل أن نموت كلنا نأكله، وعلى الأقل نعيش جميعاً ويموت شخص واحد وهو خادم”، فذبحوه وأكلوه في الرواية المنشورة سنة ألف وثمانمائة وسبع وثلاثين لإدغار آلان بو Edgar Allan Poe، ثم أن في ألف وثمانمائة وسبع وثمانين – أي بعد نصف قرن بالضبط – كتبت الصحف أمراً عجيباً، وهذا الأمرالتقطه بعض النقّاد وبعض مَن قرأوا هذه الرواية، حيث أنهم التقطوا اتفاقاً مُذهِلاً مُحيّراً جداً وذلك لأن هناك سفينة ضلت في عُرض المُحيط أيضاً وكان ينطبق عليها نفس الأوصاف المذكورة في رواية بو Poe، ثم بعد ذلك أتت الخاتمة العجيبة والمُستفِزة، حيث أنهم ذبحوا خادماً شاباً كان يعمل على السفينة وأكلوه والعجيب أن إسمه ريتشارد باركر Richard Parker، فما الذي يحدث إذن؟!
وسأُحدِّثكم الآن بأعجب من هذا، علماً بأن هذه الحالات – Cases – طبعاً يقرأها العلماء المهتمون ويقفون معها، فهذه ليست ألاعيباً أو أفلاماً بل هى أشياء علمية مُوثَّقة ومذكورة في الكتب المُعتمَدة في هذه الدراسات،وهذا يحدث طبعاً في الشرق وفي الغرب ومع المسلمين وغير المسلمين، وتحدث بكثرة هذه الأشياء لمَن أراد أن يلتقطها، فما الذي يحدث إذن؟!
يجب إلا نُطوِّل فالحالات كثيرة جداً لكن أعجب حالة كانت هى حالة الكاتب الروائي فيليب ك. ديك Philip K. Dick وهو من أكبر كتّاب الخيال العلمي الأمريكي،
فيليب ديك Philip Dick أو فيليب ك. ديك Philip K. Dick كتب ست وعشرين رواية ولم تحصل أي واحدة من هاته الروايات على جائزة عالمية مُهِمة، لكنه حصل في سنة أربع وسبعين على جائزة مشهورة عالمياً عن أشهر رواياته الست والعشرين وهى روايته الشهيرة”Flow My Tears, the Policeman Said” ، أي “سحي يا دموعي، قال الشرطي” أو “انهلي يا دموعي، قال رجل الشرطة”.
قال” هذه الرواية كتبتها في أيام، بمجموع أيام العمل عليها كان عدة ساعات، كأنما ريشة القدر تخط على دماغي، فهى أسرع رواية كتبتها” ثم اتضح بعد ذلك أنها أحسن رواية.
نشر هذه الرواية سنة ألف وتسعمائة وأربع وسبعين ميلادياً، أي قبل زُهاء خمس وثلاثين سنة أو أكثر قليلاً، لكن المُهِم هو أنه بعد أن نشر هذه الرواية بأربع سنوات حدث شيئاً غريباً، فهو يُحدِّث عن نفسه أنه كان مدعواً إلى حفلٍ ما فالتقى بسيدة وسألها عن إسمها ليتعرَّف عليها، واتضح أن إسمها فلانة مثل إسم بطلة الرواية، وهذا شيئ طبيعي طبعاً ويحصل كثيراً طبيعي فهناك الملايين مِمَن يحملون نفس إسم بطلة الرواية في أمريكا وفي العالم كله، ثم اتضح بعد ذلك أنها مُتزوِّجة مثل بطلة الرواية التي كانت مُتزوِّجة، واتضح أن العلاقة قلقة جداً وليست مُستقِرة بين الزوجين أيضاً كما في الراوية، وهذا شيئ عادي جداً وقد يحصل، ولكن اكتشف بعد ذلك شيئاً عجيباً، حيث أن هذه المرأة استروحت إلي هذا الكاتب الشهير وأسرت إليه بسر للأسف وهو أن لديها علاقة ما مع رجل الشرطة الذي يعمل رئيساً لمغفر الشرطة في البلدة، فقال لها “هذا أمرٌ عجيب، هذه التفاصيل مثل تفاصيل الراوية التي كتبتها”، فقالت “أنا لم أقرأ الرواية، عن أي رواية تتحدَّث؟”، فقال “أتحدَّث عن روايتي”، فقالت “لم أقرأها ولم أعرف بهذه الرواية أصلاً”، فسألها عن إسم هذا الشرطي فقالت هو فلان، وهو نفس إسم رجل الشرطة في الرواية، فهنا طبعاً انتاب الرجل شيئ من الخوف والفزع لأن هذه التزامنيات أو التوافقيات ليست أمراً عادياً، بل هى أكثر من العادي، فهذه تزامنيات من الدرجة الثالثة أو الرابعة أصلاً كما شرحنا في الخُطبة السابقة، فترك الحفل وانطلق الرجل وفي ذهنه ألف سؤال وسؤال، وفي الطريق كان معه رسالة لابد أن يُودِعها في مكتب البريد فدخل المكتب أودع الرسالة، علماً بأنه ليس من عادته كما يُخبِر عن نفسه أن يُعين الناس، فهو لا يُساعِد أحداً لأنه مُصاب بالفوبيا Phobia ومن ثم عنده دائماً مخاوف من الناس فلا يُحِب الاقتراب من الناس الأغراب ويخاف منهم، ولكن على غير عادته وجد نفسه مدفوعاً أن يسأل رجلاً كان واقفاً إلى جانب سيارته مُحتاراً ومُتبلبِلاً هيك ومُشتَتاً فقال له هل من سبيل إلى مُساعَدتك يا سيدي؟ فقال نعم فلقد فرغ البنزين عندي في سيارتي ولا أعرف ماذا أفعل في الحقيقة.
قال الكاتب “فأخذت محفظتي فتحتها وأعطيت الرجل بعض المال ثم انطلقت وعُدت إلى بيتي، وساعة ما وصلت مُباشَرةً قلت يا لي من من أحمق، فما الذي فعلته هذا؟الرجل لا يُريد مالاً فربما عنده مال، ولكن أقرب محطة بنزين تبعد مسافة بعيدة نسبياً فلابد أن أُعينه”، قال “فعُدت إليه وأخذته في سيارتي مع الجالون إلى أقرب محطة بنزين وهناك فجأة ظهرت الصورة التي دفعت بالإثارة قُدماً إلى الأمام، فهذه الأحداث كلها مذكورة في روايتي، حيث سيخرج الرجل في الرواية من الحفل ويذهب إلى مكتب البريد ،ويجد رجلاً عند السيارة وإلى آخره”، فكل هذه الأحداث مكتوبة في الرواية، وهنا تملّكه الفزع، فما الذي يحدث؟!
ما هذه الرواية الملعونة التي تُطبِّق نفسها في الحياة بالحذافير؟!
فخاف الرجل وذهب إلى القس في البلدة وقال له “يا أبانا أنا اتفق معي شيئ مُرعِب وأنا في الحقيقة الآن في حالة غير عادية”، فسأله القس عن الذي حدث وهو بدوره أخبره، فإذا بالقس يضحك ويبتسم له، فسأله عن سبب الضحك، فقال له “هذا أمر عجيب جداً، فهذه الأحداث هيكلياً كلها مذكورة في سفر الأعمال”، فاندهش الكاتب وقال له ” أنا لم أقرأ سفر الأعمال في حياتي، فما هى هذه الأسفار؟”، فقال “أعمال الرسل هى من أسفار العهد الجديد”.
قال “مُباشَرةً انطلقت إلى بيتي وأكببت على سفر الأعمال وفعلاً كل ذلك مذكور هيكلياً”، وهذا الذي جعله يقترح نظرية جديدة في فهم الزمان لكي يعرف ما الذي يحدث، وطبعاً النظرية سخيفة في نظري وهو يرى أننا تجمَّدنا ووقف الزمن كله في الكون عنده سنة خمسين ميلادياً وهى السنة التي كُتِب فيها سفر الأعمال، وهذا كلام فارغ طبعاً لأن الأمر أعقد من هذا بكثير، لكن لماذا قدَّمت بين يدي خُطبتي بهذه الحكايا والقصص المُثيرة طبعاً والتي ستدع أذهانكم وأدمغتكم مُشتَتة وقلقة ومُستفَزة إلى وقت ليس بالقليل حيث أنكم ستظلون إلى وقت بعيد جداً تُفكِّرون في هذه المسائل؟!
فما الذي يحصل إذن؟!
وطبعاً هذه الخُطبة يبدو أنها الجزء الثاني من الخُطبة السابقة التي تتعلَّق بالتوافق أو التزامن أو التواقت وهى خُطبة التزامنية بين الصدفة والقدر، هذه الموضوعات مع ابتدائي للخُطبة بتساؤلاتٍ عن إخبار الله عن دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار وحديث بعضهم مع بعض وما رآه الرسول وإلى آخره كلها موضوعات يتوقف فهمها على فهم مسألة الزمن، فما هو الزمن؟!
ما هو الماضي؟!
ما هو الحاضر؟!
ما هو المُستقبَل؟!
كيف يسير الزمن؟!
ما القصة إذن؟!
وطبعاً لا أزعم أنه سؤالٌ سهلٌ ولا أزعم أن عندي جوابه ولا حتى ربما رائحة الجواب عنه، فهذا أصعب سؤالٌ على الإطلاق وكل الذين درسوه وكابدوه وتعانوا معه قالوا في نهاية المطاف الحقيقة من زاوية جديدة أو ربما اقتربوا خُطوات إلى الأمام في بيداء مجهولة ولكنهم مُوقِنون أن الأمر أيضاً لا يزال قيد الغموض وقيد التساؤل، فما هو الزمان؟!
الفيزيائي الشهير عالمياً بول ديفيز Paul Davies يقول “كل مُحاوَلات الفلاسفة والشعراء والفيزيائيين والرياضيين في التعاطي مع الزمن وفي فهم الزمن كلها باءت بالفشل إلى الآن”، ومن هنا معنى “لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله” ومعنى يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ ۩، فهذا لغز كبير كما أن الله هو لغز الألغاز، لذا الله يقول لك “أنا الدهر”، أي أنا الزمن، فما هو الزمن إذن؟!
الزمن هو شيئ غير مفهوم، وهو شيئ صعب جداً جداً، لكن طبعاً السذّج من الناس العوام والأطفال الصغار يظنون الزمن هو حركة الأرض حول محورها وحول الشمس أو حركة عقارب الساعة على ميناء الساعة، وهذا كله كلام فارغ، الغ الساعة والغ كل المُوقيتات والميقاتيات وأوقف الأرض وأوقف الشمس وسيظل الزمن موجوداً، ادخل في زنزانة وانعزل عن العالم الخارجي بالمُطلَق وسيظل الزمن موجوداً وسوف يمخر عباب ذراتك وجُزيئاتك وخلاياك وسوف تشيخ، وحتى حين تُفكِّر وأنت في هذه الزنزانة أو الكهف – كما فعل الألمان من قبل خمسين سنة في التجربة الألمانية الشهيرة على كل حال – سوف تعرف أن الزمن يسير، لأنك تُفكِّر في فكرة بعد فكرة وفي كلمة بعد كلمة فإذن الزمن يسير ولا يُمكِن إلا أن يسير، فالزمن شيئ آخر غير هذه الميقاتيات الفارغة، ولكن هذه الأشياء فقط لكي نُنظِّم أعمالنا وأشغالنا وشعورنا بالزمن.
سيقول أحدكم: هذا أمر عجيب، هل هذه المسألة مُستغرِقة إلى هذه الدرجة؟!
نعم، بل هى مُستغرِقة أكثر مما نظن وأكثر مما نحسب، لكننا دون أن نسأل السؤال ودون أن تُطرَح علينا هذه المُعضِلات نظن أننا نفهم الزمن ونشعر به وكفى، تماماً كما قال الفيلسوف المسيحي في القرن الخامس سانت أوجستين Saint Augustine أو القديس أوجستين Augustine حيث أنه قال ” أنا أفهم الزمن ما لم يسألني عنه أحد”، فإذا سأله أحد وأراد أن يستفسر فلن يفهم شيئاً، وسانت أوجستين Saint Augustine نفسه هو الذي قال “الماضي ولى وراح – لا يُمكِن أن تقبض على الماضي، فالماضي فنيَ – والمُستقبَل لم يُوجَد بعدُ والحاضر غير مُتعيِّن”، وإلا كم الحاضر؟!
مَن يستطيع أن يقول لي ما هو الحاضر؟!
لا أحد فيكم يعرف ما هو الحاضر ولا حتى أنا، لكن بعض العلماء اقترح أن يكون الحاضر هو عُشر الثانية وهذا غير صحيح، فلماذا العُشر تحديداً؟!
لماذا لا يكون الحاضر هو فيمتو ثانية Femtosecond – مثلاً – أو بيكو Pico أو نانو Nano أو أي شيئ آخر؟!
مَن قال لك أن عُشر الثانية هو الحاضر؟!
هذا لا يُمكِن أن يكون حاضراً لأن عُشر الثانية يُعَد زماناً طويلاً جداً جداً جداً لبعض المخلوقات والدقائق الذرية التي تعيش وتُولد وتُؤدّي دورها وسط الحياة وتفنى في أقل من عُشر الثانية ملايين المرات، وهناك بعض الدقائق الذرية تعيش عشرة ناقص خمسة عشر من الثانية، أي جزء من ألف مليون مليون جزء من الثانية، وهذه الأمور معروفة في علم الفيزياء وتحديداً في فيزياء الجُزيئات والدقائق الذرية، فمثل هذه الدقائق تعيش جزء على ألف مليون مليون جزء من الثانية، فلو جزأت الثانية ألف مليون مليون جزء سوف تعيش هى في جزء واحد فقط، هذه هى حياتها فقط، إذن الحاضر أقل من هذا المدة، فما هو الحاضر إذن؟!
لا يُوجَد حاضر، ومن هنا رسم أحد علماء الفيزياء والرياضيات المشهورين مُخطَّطاً للزمان وأظهر فيه الماضي والمُستقبَل فقط، ورسم الحاضر كنُقطة عدمية وقال “هذا الماضي وهذا المُستقبَل، أما الحاضر فهو نُقطة عدمية، أي لا شيئ None، فلا يُوجَد حاضر”، ولذلك يقول سانت أوجستين Saint Augustine: فإذا كان الماضي ولى وراح والمُستقبَل لم يأت والحاضر غير مُحدَّد وغير مُتعيَّن ، فما هو الزمان إذن؟!
أين الزمان إذن؟!
هذه هى الأفكار وهؤلاء هم الفلاسفة أصحاب العقول الضخمة التي تختلف عن العقول الهبلة التي كل شيئ عندها واضح ومن ثم تعتقد أنها تفهم كل شيئ لكنها في حقيقة الأمر لا تفهم شيئاً، فتعريف الزمان وتحديد أين هو يُعَد لغزاً كبيراً جداً!
نستطيع أن نقول إسحاق نيوتن Isaac Newton هو أبو أو أحد آباء العلم الحديث العظام جداً بلا شك، فهو الذي أثَّرت أفكاره على مدى قرنين من الزمن بسُلطة مُطلَقة على عقول علماء الطبيعة، إسحاق نيوتن Isaac Newton صوَّر الزمن على أنه ذاك الشيئ النبيل – Noble – الذي يسير ويمخر ويجري بتجانس بوتيرة واحدة في كل أرجاء الكون من أصغر الدقائق إلى أعظم المجرات وأكثرها شساعة، فهذا هو الزمن لأنه حقيقة مُطلَقة بغض النظر عن الراصد وعن المكان وعن الأشخاص وعن أي شيئ آخر، وظل هذا التصور معمولاً به ومُعتصَماً به إلى أن جاء ألبرت أينشتاين Albert Einstein وقال “هذا غير صحيح، فالزمن ليس كذلك بالمرة، الزمن هو حقيقة مرنة وروّاغة ومُخادِعة وليس حقيقة نسبية أو مُطلَقة”وهذا هو الصحيح، فالزمن يتمطط ويتمدد وينكمش ويُسرِع ويُبطيء، وسأُوضِّح لكم هذا بأمثلة سريعة.
أول شيئ لابد أن نتساءل: هل هناك إمكانية للحديث عن التآني والتزامن والتآقت بمعنى أن شيئين أو أكثر يحدثان في نفس اللحظة؟!
لا يُمكِن أن نقول نعم، هذا غير صحيح فلا يُوجَد أي إمكانية لتآني حقيقي أو لتآقت حقيقي مُطلَقاً، ودائماً كنت أقول لإخواني أنا الآن – مثلاً – أراكم الآن، وكل واحد منكم ومنكن يزعم أنه يرى إخوانه الآن في نفس اللحظة، لكن هذا غير صحيح، فنحن نراكم في أوقات بعد أوقات، لكن لماذا؟!
أنتم تعلمون أننا نرى الجسم بفضل الضوء الصادر منه والساقط على الشبكية، والعملية معروفة علماء الفسيولوجي Physiology وتنتهي بعد ذلك بإحساس بصري في القشرة البصرية في الدماغ، ولكن الضوء ليست سرعته لا نهائية، فسرعته مُحدَّدة بثلاثمائة ألف كيلو متر – أي ثلاثمائة مليون متر لأن الكيلو متر ألف متر – في الثانية، وليس عدد لا نهائي في الثانية، وإنما ثلاثمائة مليون متر في الثانية، فهذا – مثلاً – شخص ما ويبعد عني متراً وأنا في الحقيقة لا أراه في نفس اللحظة التي هو فيها الآن، لكن أنا أراه بعد واحد على ثلاثمائة مليون من الثانية، لأن في الثانية الضوء يقطع ثلاثمائة مليون متر، وهو يبعد متر فأنا أراه بعد واحد على ثلاثمائة مليون من الثانية، لكن الذي يبعد ثلاثة أمتار أراه بعد ثلاثة أجزاء – لابد أن تمر ثلاثة أجزاء – من ثلاثمائة مليون من الثانية وهكذا، وهذا مُستحيل أن تشعر به لأن دماغك وجهازك العصبي لم يُصنَع ولم يُركَّب بتلك الرهافة التي تلتقط هذه الفروقات الزمنية الدقيقة جداً، أنت لست ساعة ذرية ولست ساعة سيزيوم Cesium – مثلاً – وحتى هذه ترصد جزء من تسعة مليارات جزء، هى ترصد هذا تماماً، ولذلك لو كان دماغك يتحرَّك ويلتقط الفروقات الزمنية بسرعة ساعة السيزيوم Cesium لكان معنى ذلك ببساطة أنك سوف ترى شخص ما ثم سوف ترى شخصاً آخراً ثم سوف ترى شخصاً آخراً وهكذا، بمعنى أنك سوف ترى وفقاً للأقرب فالأبعد فالأبعد وهكذا، فلن ترى كل الأشخاص في نفس اللحظة، ولكن المُصيبة حتى الذي يبعد متر أو حتى عشرة سم أنا لا أراه في نفس اللحظة وهذا أمر عجيب، فأنا لا أستطيع أن ألتقطه في نفس اللحظة ومن ثم هذا هز أدمغة هؤلاء الناس!
سأسأل سؤالاً الآن للتبسيط: الآن كم تبعد الشمس عنا؟!
تبعد عنا ثماني دقائق ضوئية يقطع الضوء فيها مائة وتسعين مليون ميل Mile، أي أنه يقطع مائة وخمسين مليون كيلو متر في ثماني دقائق فقط، ولك أن تتخيَّل هذا،
فالضوء كما قال أينشتاين Einstein غير مُطلَق بل هو مُحدَّد وإن كان على كل حال مُطلَقاً بمعنى آخر في الفيزياء، والضوء لا يُمكِن أن يكون لا نهائي فهو مُتناهي وسرعته مُتناهية ولها حدود، وأي شيئ تراه الآن كانفجار يقع على سطح الشمس – مثلاً – أنت تراه بعد أن يقع بثماني دقائق، فحين تراه أنت ترى الذي وقع قبل ثماني دقائق، فمن المُستحيل أنت تراه في نفس اللحظة لأنه حتى يصل إليك الحدث يستغرق الضوء الصادر من الشمس إلى أن يصل إليك ثماني دقائق، وهذا واضح جداً وبدهي ومفهوم، لكن لو وُجِد إنسان آخر يسكن على كوكب يبعد عن الشمس بليون سنة سينبغي عليه أن ينتظر بعدك لكي يرى الحدث، فأنت ستراه بعد ثماني دقائق وهو سوف يراه بعدك ببيلون سنة إلا ثماني دقائق، فما رأيته أنت وكان بالنسبة إليك ماضي سحيق وبعيد جداً لأنك رأيته قبل بليون سنة على الأرض سيكون بالنسبة له بمثابة حدث يجري الآن وسوف يقول لك أن الشمس تنفجر الآن ويخرج الكلف الشمسي – Sunspot – الآن، لكن هذا غير صحيح لأننا رأينا يحدث قبل بليون سنة!
ولو افترضنا وجود إنسان يسكن على طرف الكون ويبعد عن الشمس اثنا عشر بليون – مثلاً – أو ثلاثة عشر بليون سنة – مثلاً – فإنه سوف يرى هذا بعد ثلاثة عشر بليون طبعاً، ولو افترضنا أن هناك مَن يسكن على الشمس فإنه سوف يرى هذا الحدث بعد حدوثه بواحد على كذا بليون من الثانية، أي أنه سوف يراه الآن تقريباً، فهذا هو إذن!
لو افترضنا أن هناك قوة فائقة أو كائن ما أعظم يُحيط بالكون كله ولا تؤثِّر فيه الأبعاد الفضائية والمكانية وأن الكون كله مثل صحن – مثلاً – بين يديه فإن كل هذه الأمور ستكون حاضراً يجري الآن بالنسبة له، هذا إن افترضنا أنه يخضع للآن أصلاً وهو لا يخضع طبعاً كما تعلمون، لكنه على كل حال سوف يرى ما يحدث هنا وما يحدث هنا وهنا وهناك على أنه يحدث الآن، إذن يستوي عنده ما يحدث بالنسبة لكائنات راصدة في الكون بعد ثماني دقائق وما سبحدث لراصد آخر بعد بليون وما سيحدث لراصد آخر بعد ثلاثة عشر بليون سنة، ويجب أن ننتبه أن هذا يحدث لراصد واحد لأن لو كان الأمر يتعلَّق بكل راصد لكان كل شيئ يحدث الآن، لكن لا يُوجَد معنى “للآن” في الكون وإنما يُوجَد “بالنسبة إلى إطار رصد مُعيَّن” كما يقولون، إذن هذا الكائن الفائق كل شيئ يحدث عنده في لا زمن وكل شيئ لديه يُعَد حاضراً!
الأعجب من هذا أن النسبية لألبرت أينشتاين Albert Einstein برّهَنت لنا على – هذه ليست خيالات وإنما حقائق بُرهِنَت لنا في المعمل وفي المُختبَرات – أن الزمان يتلكأ أحياناً، فمن المُمكِن أن يسير الزمان ببطء، فيتباطأ ويسير سلحفائياً، وكلما أسرع الجسم السائر المُسافِر أياً كان دقيقة ذرية أو صاروخ فضاء أو نجم أو كوكب أو مجرة كثيراً كلما تباطأ الزمان، فكلما أسرع كثيراً كلما تباطأ زمانه، وطبعاً مُستحيل أي جسم أو جُسيم حتى أن تبلغ سرعته سرعة الضوء لأنه بحسب أينشتاين Einstein سوف يُصبِح كتلة لا نهائية، وعلى كل حال هذه أمور فيزيائية مُعقَّدة، فمن المُستحيل أن تبلغ سرعة أي جسم سرعة الضوء ولكن من المُمكِن أن تقترب من سرعة الضوء، فلا تُساوي سرعة الضوء بنسبة 100% لأن هذا من المُستحيل أن يحدث وإنما تُساوي 99,99999 % من سرعة الضوء، ومن ثم سوف يتباطأ زمانه تماماً إلا قليلاً، لكن ما معنى هذا؟!
معنى هذا كالتالي:
أشهر رائد فضاء في العالم قضى أطول فترات في الفضاء الآن هو الروسي سيرجي أفدييف Sergei Avdeyev، وقضى هذا في المركبة الفضائية المشهورة مير Mir والتي تسير بسرعة سبعة وعشرين ألف كيلو متر في الساعة وليس في الثانية، فطبعاً هى أسرع من أسرع طائرة عندنا بأربع مرات، فسيرجي أفدييف Sergei Avdeyev قضى في مير Mir سبعمائة وثمانية وأربعين يوماً مُتواصِلاً والسفية هذه أو هذه المركبة الفضائية تسير بهذه السرعة الهائلة ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وعندما عاد وجد العلماء بالحسابات طبعاً أنه دخل في المُستقبَل، فهو كان مُسافِراً في المُستقبَل Time Traveller وبالتالي كسب حياته وتباطأ زمنه بنسبة واحد على خمسين من الثانية، وهذا ثمن جيد لكن ينبغي علينا أن نمكث سنتين ونصف في الفضاء بالسرعة هذه لكي نكسب واحد على خمسين من الثانية، لأن السرعة طبعاً سلحفائية، فأن تسر المركبة بسرعة سبعة وعشرين ألف كيلو متر في الساعة يُعَد كلاماً فارغاً، لكن لو كنت سرت بسرعة مائة وستة وثمانين ميل Mile في الثانية – علماً بأنه لا يُوجَد لدينا أي صواريخ تسير بالسرعة هذه – لتباطأ وتراجع الزمن الخاص بك ولكسبت حياتك وشبابك بنسبة واحد على خمسين مليون من الثانية وهذا قليل جداً، لكن لو سرت بسرعة ثمانين في المائة من سرعة الضوء – أي لو سرت بسرعة مائتين وأربعين ألف كيلو متر في الثانية – لتباطأ الزمان لكل ساعة بنسبة خمس وعشرين دقيقة ومن ثم من المُمكِن أن تكسب تقريباً نصف عمرك، لكن لو سافرت – مثلاً – أربع سنين ذهاباً وأربع سنين إياباً لن نجدك أن عمرك زاد بنسبة ثماني سنوات، لكن عليك أن تُنقِص من هذا الربع، أي من ثماني سنين إلى الربع تقريباً، في حين أن أخاك على الأرض سوف يكبر ثماني سنين، ولو سرنا بسرعة قريبة من سرعة الضوء – 99,99999 % من سرعة الضوء – سوف يتراجع الزمن ويتباطأ ويتقلَّص ويتجمَّد بنسبة تسع وخمسين دقيقة لكل ساعة، ففي كل ساعة سوف تكبر دقيقة وتكسب تسع وخمسين دقيقة، ومن هنا يقول العلماء لو أنك سافرت – مثلاً – إلى أندروميدا Andromeda – مجرة المرأة المُسلسَلة وهى أقرب مجرة إلى مجرتنا Milky Way Galaxy وتبعد عنا اثنين مليون سنة ضوئية – فسوف تحتاج لكي تقطع هذه المسافة إلى ست وخمسين سنة، وحين تعود سوف تجد أن الأرض مر عليها أربعة مليون سنة!
من هنا قد يقول لي أحدكم أن هذا ينطبق على قصة عزير وأصحاب الكهف، وهذا صحيح، فهذه هى قدرة الله لا إله إلا هو، والمسألة علمية وثبتت علمياً في المُختبَرات في سويسرا في سنة ألف وتسعمائة وثماني وثلاثين ولحد الآن تحدث ويراها العلماء ودارسو الفيزياء الشباب بعيونهم ويستغربون جداً من هذا، لكن كيف؟!
سوف أُبسِّط لكم هذا، في طبقات الجو العُليا يحدث صدام وصراع رهيب، فالأشعة الكونية الآتية من الفضاء الخارجي وهى مُعظمها مُهلِك تصطدم بذرات ودقائق في الغلاف الجوي الأعلى، وينتج عن الصدام بين الأشعة الكونية Cosmic Rays وهذه الذرات والأشياء جُسيمات دقيقة إسمها الميونات Muons، وهذه الميونات Muons سرعتها فائقة، فسرعتها قريبة من سرعة الضوء ولكن طبعاً من المُستحيل أن تُساوي سرعة الضوء كما قلنا، المُهِم هو أنها تعيش جزئين من مليون جزء من الثانية، فحين نُخلِّقها في المُختبَرات الأرضية نجد أن هذا هو زمان حياتها فقط وهذا شيئ عجيب، لكن هذه هى حياتها وهذا هو عمرها، فهى تُولَد وتُؤدِّي الرسالة وتفنى في اثنين من مليون من الثانية، اثنان من مليون من الثانية بسرعتها المرصودة علمياً تُخوِّلها أن تقطع في الفضاء ستمائة متر فقط ولكنها تقطع عشرات بل مئات الكيلو مترات وتصل إلى الأرض وتُرصَد في قمة جبال الألب في سويسرا في مُختبَرات خاصة لعد الجُزيئات – إسمها عدادات الجُزيئات في جبال الألب في سويسرا – وهذا حيَّر العلماء، فمن المُفترَض ألا تصل إلى الأرض، لأن من المفروض أن المايونات Muons بعد ستمائة متر في الفضاء تكون قد فنيت الآن وانتهى كل شيئ، ولكنها تصل وتخترق كل شيئ أمامها، فتخترق الجبال والمُحيطات والأجسام وكل شيئ، وتفنى وتتحلَل لدينا في الأرض وتُرصَد، علماً بأن أينشتاين Einstein كان قد سبق بالتفكير في تفسير هذه الظاهرة المُحيِّرة، فكيف تصل إلى الأرض إذن؟!
قال العلماء أن هذا يحدث لأنها تسير بسرعات هائلة تقترب من سرعة الضوء، فمعنى ذلك أن زمانها يتباطأ وبالتالي يطول عمرها بما يسمح لها أن تصل إلى سطح الأرض، فهذا هو التفسير الوحيد، وهذا تبرّهَن في سنة ألف وتسعمائة وثماني وثمانين علمياً، والبراهين على ذلك كثيرة جداً.
معنى ذلك أن الماضي والحاضر والمُستقبَل بمثابة أشياء وصيغ مُعيَّنة، فالذهن لا يستطيع أن يتعاطى مع الأحداث ومع الوجود إلا عبرها، أي عبر صيغة ذهب وصيغة جاء وصيغة سيجيء، يقول علماء الفيزياء أن هذه الصيغ على الأرجح ليس لها مضامين فيزيائية، هى نوع من الخدع اللغوية والخدع للجهاز الذهني لديك، فذهنك هو الذي يتعاطى هكذا مع هذه الأمور، وأنا أُشبِّه هذا في العادة بشريط كاسيت الفيديو الذي يُوجَد بداخله فيلم، وهذا الفيلم أحداثه تتوزَّع على بحر زمني من ساعتين وأحياناً ثلاث ساعات خاصة في الأفلام المُطوَّلة، ولكن هذه الأحداث كلها من منظور مُعيَّن موجودة الآن وهنا في هذا الفيلم في شريط الفيديو بشكل مُدمَج، ولكن آلية عمل الدماغ لكي تتواءم مع آلية عمل جهاز الفيديو وعرض شريط الفيديو تحتاج إلى تتابع مُعيَّن بحيث يقتضينا هذا ثلاث ساعات ونحن نُتابِع الأحداث مع أن الأحداث موجودة ومُجمَّدة كلها في لحظة واحدة في الفيلم، لكن دماغك لا يستطيع أن يراها في لحظة واحدة، فما الذي يحدث إذن؟!
هناك سيدة تونسية التقيت بها قبل سنوات وزوجها يحضر معنا الجٌمعة الآن، هذه السيدة أخبرتني بشيئ ما كانت مُحتارة بصدده فقلت لها أن هذا يُعَد شيئاً طبيعياً هذا، فلو قرأتِ وتثقَّفتِ لعلمتي أن هذا يُوجَد في العالم وأن كل الذين عاشوا خبرتكِ أو مروا بمثل ظرفكِ يعيشون هذه الخبرات، لأنها كانت تعتقد أن هذا الأمر يُعَد نادراً وهذا غير صحيح ومن ثم قلت لها هذا الأمر يُعَد أمراً معروفاً ونحن نقرأ عنه مُذ كنا صغاراً، ولكن ما هو هذا الأمر؟!
هذه السيدة حدث معها حادث سيارة – Unfall , Accident – مُروِّع ونجت بأعجوبة لكن طبعاً تهشّمَت وبقيت في الفراش لأشهر، قالت لي “لكن الذي حدث معي يُعَد أمراً عجيب جداً جداً جداً، ففي لحظة الحادث رأيت الكثير جداً جداً جداً من أعمالي التي قمت بها في حياتي، فحتى صلواتي التي تركتها رأيتها كلها أمامي، وهذا كله ربما في أقل من جزء من ألف من الثانية، فرأيت كل شيئ في لحظة ثم دخلت في الغيبوبة”، فقلت لها “هذا شيئ طبيعي، وهذا يحدث مع كل الذين يمرون بمثل هذه الخبرات، فالذين يقعون – مثلاً – من شاهق من أعلى الجبال إذا نجوا يُخبرون عن نفس الخبرة، ومن هنا يقول لك أحدهم أنه سقط في خمس ثوانٍ لكنه يستطيع أن يكتب لك ماذا رأى وماذا حدث أمامه وماذا استحضر في مائة صفحة أو في مائتين صفحة، وهذا صحيح ولذلك العلماء لم يُفلِت هذا الشيئ منهم وأرادوا أن يدرسوه، فحتى علماء النفس وعلماء الفسيولوجي Physiology والفيزيائيون درسوه وبرّهنوا شيئاً جديداً”، وطبعاً الآن الشيوخ منا – أي كبار السن – يشعرون بأن الزمن يهرب منهم هروباً، وفعلاً هو يذهب بسرعة شديدة في حين أن الأطفال يرون يشعرون أن الزمن يتلكأ جداً جداً جداً وأنه مُمِل وطويل، فإذا قلت لأحد من هؤلاء الأطفال “عمك في الطريق وهو الآن عند المُنعطَف وسوف يصل بعد خمس دقائق” فسوف يسألك كثيراً متى سيأتي، لأن الخمس دقائق عنده تُعَد فترة زمانية طويلة جداً، ولكن عندك أنت تكفي فقط لكي تُمشِّط شعرك الجميل في حين أن الطفل يكاد يُجَن في الخمس دقائق هذه، وهذا شيئ طبيعي وليس مُجرَّد طفولية وصبيانية، فعلماء الفسيولوجي Physiology ووظائف الأعضاء ربطوا بين هذه الظاهرة ” ظاهرة هروب الزمن عند الشيوخ وتلكؤه عند الأطفال الصغار” بموضوع سرعة التئام الأنسجة، فإذا التئمت الأنسجة بسرعة دل هذا على أن الزمن يُعَد بطيئاً جداً لأنك في وقت زمني مُحدَّد سوف تُنتِج أشياء كثيرة وهذا يدل على أن الزمن كان مُبارَكاً وطويلاً، لكن إذا التئمت الأنسجة ببطء دل هذا على أن الزمن يفر بسرعة، فأنت في ساعة واحدة لن تُنتِج إلا حدثاً واحداً يتيماً، وهذا التفكير منطقي ولذلك قاموا بتجربة مُثيرة جداً، حيث أتوا بشخص ووضعوا على يده عدّاد مُعيَّن يكتب أرقاماً بسرعة مُعيَّنة، وقالوا له هل تستطيع أن تقرأ الرقم ؟ فقال نعم أستطيع أن أقرأه، ثم كرروا الحدث نفسه مرة ثانية وقال أيضاً أنه يستطيع أن يقرأ الرقم، ثم أسرعوا الجهاز فقال لا أستطيع أن أقرأ شيئاً، ثم أخذوا كل الاحتياطات وقذفوه به من على علو ثلاثة وثلاثين متر بعد أن قالوا له “مطلوب منك أن تُحاوِل أن تقرأ المكتوب وأنت تسقط من أعلى” فقرأ بوضوح الشيئ الذي يستحيل أن يقرأه وهو على الأرض، فما الذي يحدث إذن؟!
حين يُفرَز هرمون الأدرينالين Adrenaline يعمل على تباطؤ الزمن، ومن ثم نرصد أشياء كثيرة في نفس اللحظة الزمنية الواحدة، وهذا أيضاً يُفسِّر لنا كيف علماؤنا وأولياؤنا وأهل الإسلام وأهل البركة كان يقرأ بعضهم ألف صفحة في ليلة وبعضهم يقرأ خمس مُجلَّدات في ليلة، فابن دقيق العيد كان يقرأ خمس مُجلَّدات ويُلخِّصها في ليلة بل وفي جزء من الليلة، وكذلك الحال عبد الوهاب الشعراني وفلان وعلان وغيرهم فضلاً عن عدد من المُعاصِرين مِمَن لديهم القدرة على أن يفعلوا هذا بإذن الله تبارك وتعالى، وهناك آخرون يحتاج الواحد منهم إلى خمسة أشهر لكي يخلص مُجلَّداً واحداً ويقول عن نفسه أنه عالم وشيخ وعنده لحية لكبيرة لكن إنتاجه الفكري قليل لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من هذا، فهذا المسكين يقرأ ألف صفحة في خمسة أشهر وتتسبَّب له في ألم في رأسه، فهو يقرأ ثم ينسى ثم يقرأ ثم ينسى وهكذا، في حين أن العالم الآخر يستطيع أن يقرأ خمس مُجلَّدات في ربع ساعة فقط، فكيف هذا؟!
الزمن إذن ليس حقيقة نيوتونية أو حقيقة مُطلَقة وإنما هو حقيقة نسبية، والله – تبارك وتعالى – قادر على التحكم فيه، ومن المُمكِن أن يجعله يمر عليك في ثلاثمائة وتسع سنوات في حين أنه يجري على أصحاب اليوم كأنه كان يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ ۩، فأصحاب الكهف استيقظوا من النوم ووجدوا أن أظفارهم مثل ما هى وكذلك شعرهم مثل ما هو، فلم يتغيَّر أي شيئ، فهذا الزمن كله فعلاً مضى عليهم كأنه كان يوماً أو بعض يوم، لكن على الأرض كلها مر ثلاثمائة وتسع سنوات، وعُزير نفس الشيئ أيضاً حيث مر على الأرض مائة سنة في حين أن هذه السنوات مرت عليه كأنها كانت يوماً أو بعض يوم، قال الله أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۚ ۩، فهذه هى قدرة الله إذن، والآن بدأ العلم يُبرّهِن هذا!
للأسف أدركنا الوقت ولكن بقيت خُطبة لابد أن نعود إليها لكي نستخلص خُلاصات من هذا الشيئ ونُحاوِل إعادة تفسير الآيات والأحاديث والأشياء في ضوء هذه الحقائق العلمية الصُلبة والمُحترَمة جداً والأكثر جدية وإثارة في نفس الوقت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
في تراثنا العرفاني يُحكى عن أحد الأولياء العارفين – علماً بأنني شخصياً أُصدِّق بهذا ولا أكذب به بفضل الله، وعلى كل حال مَن يُكذِّب بهذا لن يساعده العلم وخاصة الفيزياء بالذات التي لن تُساعِده فضلاً عن الدين والنصوص التي لن تُساعِده أيضاً، وهو يعتقد أن الذي سيُساعِده فقط هو صلابة تجربته اليومية، فتجاربه اليومية صلبة ومحدودة جداً جداً جداً وبليدة ولكنه يتمسك بها ويظنها الإطار المُطلَق للفهم – أنه كان يتوضأ في ميضأة في المسجد فأتاه أحد الناس وكان يغلب عليه ربما السفه والفضولية وقال له: يا شيخ أما تُحسِن أن تتوضأ؟!
فهو لم يُعجِبه وضوء هذا الشيخ لأنه ليس على السُنة كما يعتقد هو، فأخذ الشيخ بيده وقال له: يا بُني كيف لا أُحسِن أن أتوضأ؟!
ثم ترك يده فجعل الرجل يزعق ويصرخ كالمجنون، وذهب الشيخ ولم يكد يُصدِّق الرجل ما حدث حيث قال “أنا حين سألت هذا الشيخ أخذ بيدي ثم أطلقني، لكن في الفترة التي أخذ فيها يدي رأيتني في بلد مُعيَّنة وتزوَّجت وعشت وأنجبت خمسة أولاد، وعشت حياة كاملة على مدى ربما خمس عشرة سنة ثم بعد ذلك وجدتني هنا وقد أطلق يدي”، ومن هنا كاد الرجل أن يُجَن، فما الذي حدث إذن؟!
هؤلاء هم أولياء الله الذين يعيشون هذه الأشياء وهذه اللطائف العجيبة فيتنقّلون في الزمن، ومن هنا ربما نُجيب في الخُطبة المُقبِلة – إن شاء الله – عن شيئ جعله أينشتاين Einstein مُستحيلاً وهو العودة إلى الماضي وسنُثبِت بطريقة علمية وبسيطة جداً جداً جداً أن العودة إلى الماضي مُحتمَلة ومُمكِنة علمياً بإذن الله، وكذلك الحال نفسه طبعاً مع المُستقبَل والدخول في المُستقبَل، فسوف نرى كيف يُمكِن هذا علمياً إن شاء الله.
انتهت الخُطبة بحمد الله
فيينا (19/11/2010)
أضف تعليق