إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۩ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ۩ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ۩ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ۩ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ۩ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ۩ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ۩ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ۩ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ۩ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ۩ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ۩ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ۩ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ۩ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۩ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ۩ كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۩ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۩ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۩ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ۩ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ۩ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ۩ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
قال الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال تعس قومٌ أقسم لهم ربهم ثم لم يُصدِّقوا، يعني – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قوله – سُبحانه – فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۩.
وقد أخرج الإمام الطبراني في الكبير والبيهقي في الشُعب وابن حبان في صحيحه والإمام أبو القاسم القُشيري في الرسالة بسنده عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – قال لا تُرضين أحداً بسخط الله تعالى، ولا تحمدن أحداً على نعمة الله تعالى، ولا تذمن أحداً على ما لم يأتك من الله تعالى، فإن الرزق لا يأتي به حرص حريص، ولا يرده عنك كره كاره، وإن – تبارك وتعالى – بعدله وقسطه قد جعل الرَوْح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الغم والحزن في السخط والشك.
أيها الإخوة الأحباب:
هذه السورة الجليلة التي تلونا مطلعها – سورة الذاريات – لو جاز أن تُسمى باسم آخر أو تُنعَت لقيل إنها سورة اليقين، بدأها – سُبحانه وتعالى من بادئ – بقوله – جل شأنه – وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۩ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ۩ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ۩ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ۩، وقد استند من وجوه كثيرة الآتي، قال الحافظ ابن كثير وروى ذلكم أمير المُؤمِنين شُعبة ببن الحجّاج بسنده عن أبي الطُفيل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب رسول الله، عامر بن واثلة -، قال صعد الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – منبر الكوفة مرةً فقال سلوني، فإنكم لا تسألوني عن آية من كتاب الله ولا عن شيئ من سُنة رسول الله إلا أجبتكم – عليه السلام وكرَّم الله وجهه، ما شاء المرء أن يفجر منه بحر علم انفجر -، فقام إليه ابن الكواء – عبد الله بن الكواء -، فقال يا أمير المُؤمِنين فما وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۩؟ قال الريح، قال فما فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ۩؟ قال السحاب، قال فما فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ۩؟ قال السُفن، قال فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ۩؟ قال الملائكة، وهاته الأربعة الأشياء المُقسَم بها – أيها الإخوة والأخوات – لها اعتلاق من طرف واضح بقضية الرزق، كلها – أربعتها – لها علاقة بقضية الرزق.
في هذه السورة أيضاً – وقد سمعتم – وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ۩، في آخرها وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ۩ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ۩، وفي الحديث الذي خرَّجه الإمام الترمذي – رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً – يقول الله – تبارك وتعالى، وهو حديث قدسي إلهي رباني جليل – ابن آدم تفرَّغ لعبادتي، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ۩، الحديث تأويل للآية، ابن آدم تفرَّغ لعبادتي، أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شُغلاً ولم أسد فقرك، قال وإلا تفعل ملأت صدرك شُغلاً – أي تكثر همومك ومشاغلك – ولم أسد فقرك.
كان – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – سيد المُوقِنين، وغاية الأمر اليقين، قال لقمان – عليه السلام – لابنه مرةً واعلم يا بُني أن كمال الدين الورع واليقين، وقال أبو الدرداء – صاحب رسول الله، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وصلى الله على عبده ومُصطفاه – مرةً ولذرةٌ من ذي تقوى ويقين – أي من عبادة – خيرٌ من أمثال الجبال من عبادة المُغترين، قال ولذرةٌ – مثقال ذرة من عبادة التقي المُوقِن – من ذي تقوى ويقين خيرٌ من أمثال الجبال من عبادة المُغترين – والعياذ بالله، الذين خلوا عن اليقين وعن التُقى، والعياذ بالله تبارك وتعالى -.
اليقين هو رسوخ العلم في القلب، حتى ما يتخالجه شك، من قولهم يقن الماء، أي إذا سكن ما فيه من عوالق، وصارت في أسفل الكوز أو الكوب، فلم يظهر منها شيئ، إنما هو الصفاء والنقاء، لذلك قالوا العلم تتجاذبه الشكوك، مَن كان إيمانه عن علم وعن قول وقال وقيل وليس عن يقين تجاذبته الشكوك، كل علم يُمكِن أن يدخله الشك، وأما اليقين فلا يتخالجه شك، لأنه يقين، وهذا هو اليقين!
هل يتخالجنا شك في أننا سنموت ونقضي؟ لا، لذلك سماه الله يقيناً، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩، وقال – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه، لما مات كان ينعاه – صلى الله عليه وسلم – ويذكر بعض محامده، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، عثمان بن مظعون طبعاً، عثمان بن مظعون قال عنه فقد أتاه اليقين من ربه، لأنه لا يتخالجنا شك في قضية أننا سنقضي وأننا سنرتحل ونُدبِر ونُولي، هذا يقين!
ينبغي أن يكون لدى المُؤمِن يقين بالآخرة، كما قال أحد الصالحين اليقين هو تسليم السر بأحكام الغيوب، تسليم السر بأحكام قطع السر، بأحكام المُغيبات، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۩، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۩، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩، ولذلك نحن نقطع على غيب ما أخبر به الله، كل ما صح به الخبر فضلاً عما تواتر نقطع به، وهذا من اليقين، هذا من لوازم اليقين ومُقتضياته، القطع على غيوب ما ورد به الخبر، قال – عز من قائل – وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۩، حتى ليُنسَب إلى الإمام عليّ – عليه السلام – أنه قال الآتي، وبعضهم نازع في هذه النسبة، ومثل يقين عليّ لا يحتاج إلى مثل هذه الكلمة، ولذلك نسبه أبو نصر السراج الطوسي في اللُمع إلى عامر بن عبد قيس، التابعي العابد الناسك الجليل، أوحد عصره، رضيَ الله عنه وأرضاه، على كلٍ وأياً ما كان قال لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً، لو كُشِف الحجاب ما ازددت يقيناً، لأنه من أهل الذُرى العالية والمقامات السامقة في اليقين، لو كُشِف الحجاب ما ازددت يقيناً، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا يقين، يقين بالغيوب، تسليم بها، يقين بوعد الله، يقين بوعيد الله، يقين بموعود الله تبارك وتعالى.
من ذلكم الرزق، يقين بأن أرزاقنا تُساق إلينا، ليست تزداد باحتيال مُحتال، وليست تنقص بمكر مكّار أو قاطع سبيل أو أرزاق أو معائش، لا! وقد أقسم الله على هذه القضية، فحقاً بئس العبد وتعس العبد الذي لم يُصدِّق ربه، وقد أقسم، ولم يُحوِجه أحد إلى أن يُقسِم، لا إله إلا هو! لو أخبر لكفى من دون إقسام وإبلاغ وتأكيد للقضية، لكنه يعلم مدى هشاشة وضعف والتواء الإيمان في قلوب عُظم عباده، مُعظَم عباده والعياذ بالله تبارك وتعالى.
رسول الله كان سيد المُوقِنين بأمور اليقين كلها، كيف لا وقد بلغ الذروة الأبعد والأمد الأقصى فتنقَّل من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين؟ لقد رأى الجنة والنار بعيني رأسه في الدنيا، في الدنيا! في حديث الكسوف الصحيح المُخرَّج في الصحاح قال فلم أر كاليوم في الخير والشر قط، لقد رأيت الجنة والنار في عُرض هذا الحائط، رأى هذا بعيني رأسه، ومن هنا قال أحد الصالحين – ولله دره – رأيت الجنة والنار حقيقة، قالوا كيف؟ قال بعيني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال بعيني رسول الله، يقين خبر ويقين دلالة ويقين مُكاشَفة، آمنا بالخبر، وأقام المُخبِر الأدلة على ذلك، فآمنا وصدَّقنا ورسخنا وقعدنا مكانة بفضل الله تبارك وتعالى، قال ورؤيتي الجنة والنار بعيني رسول الله خيرٌ من رؤيتي لهما بعيني رأسي، لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى، وبصره لا يزيغ ولا يطغى، انتهى الأمر ما دام قد أخبر، أنا أيضاً رأيت هذا، رضيَ الله عنه وأرضاه، مقام تسليم، هذا مقام الإيمان برسول الله، نعم! هذا مقام مَن أمَّر السُنة على نفسه، وقام بحقها، فورث هذه الوراثة، ونطق بالهُدى، قال – عز من قائل – وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۩، هذه الهداية التامة، هذه الهداية الكاملة.
قال ولي الله سعد بن سعيد المعروف بأبي عثمان الحيري – قدَّس الله سره -، قال مَن أمَّر السُنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومَن أمَّر الهوى – هوى النفس والعياذ بالله ومُشتهياتها ومال مع أميالها حيث تميل – قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، قال الله تعالى وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۩، وهذا من دقيق العلم وعظيمه وراسخه، هذا من علم الراسخين في العلم، ألحقنا الله وإياكم بهم، اللهم آمين.
ولذلكم الرسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ما كان يدخر لنفسه شيئاً، ربما ادخر لبعض أزواجه على اختلاف أحوالهن ومقامتهن ما يعلمه من ذلكم، لكن هو لا يدخر لنفسه شيئاً، أخرج الإمام أحمد أنه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أُهديَ إليه يوماً طوائر، أي طيور، فأطعم الخادم إحداهن، أعطى وأطعم الخادم إحدى هاته الطوائر أو الطيور، فلما كان من الغد قدَّمت إليه طائراً، فقال مِن أين؟ قالت مِن أمس، قال ألم أنهكِ أن تدخري شيئاً إلى غد؟ فإن الله يأتي برزق غد، غضب النبي من هذا، لماذا يُدخَر هذا؟ ما ينبغي أن يبيت في بيت محمد، صلى الله عليه وسلم.
ولذلك اشتد نكيره واحتد على أزواجه إذ لم يُبادِرن إلى إنفاق الستة الدراهم التي كانت في بيته وفي ملكه وهو يُسلِم الروح، صلى الله عليه وسلم، غضب من هذا، وقال ما ظن محمد بربه لو لقيَ الله وفي بيته هذه الدراهم الستة؟ أين اليقين؟ سيد المُوقِنين، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
في حديث جابر المُخرَّج في الصحيحين – جابر بن عبد الله بن حرام، رضيَ الله تعالى عنهما – لما كانوا بذات الرقاع قال ونزلنا بأرض كثيرة العضاة، أي شجر شائك، فانتبذ رسول الله مكاناً وحده، أي انفرد من بيننا وحده، وعلَّق سيفه بشجرة، فجاء أعرابي مُشرِك فاخترط السيف، ثم أيقظه، وقال يا محمد مَن يمنعك مني؟ فقال الله، فسقط السيف، يقين مُباشَرةً، لم يُناد على أحد من أصحابي، لم يقل أغيثوا، قال الله، فسقط السيف، فأخذه النبي… القصة! وهي معروفة، هذا اليقين.
وفي الصحيحين من حديث الصدّيق الأكبر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا في حديث الهجرة – قال فقلت يا رسول الله لو نظر أحدهم عند رجليه أو قال تحت رجليه لرآنا، نحن مكشوفون! فقال – صلى الله عليه وسلم – يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لم يتخالجه شك مُطلَقاً، قط! ما ظنك باثنين – أنا وأنت – الله ثالثهما؟ وفي ذلكم كما قال بعضهم نزل قوله – عز من قائل – وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ۩، النبي يعلم هذا، يعلم أن الله سيأخذ بأبصارهم لو نظروا، ولن يروا، لن يروا شيئاً!
قضية المحجوبين قضية طويلة، وفيها لطائف وفيها فتوح ونفحات، وكم وكم حصلت وتحصل لأولياء ونُبلاء هذه الأمة! أبو عبد الله القرطبي المُفسِّر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الإمام القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن الكريم، المُفسِّر الشهير، تَلميذ ابن العربي، أبي بكر القاضي، رحمة الله تعالى عليهما – طلبه جُند النصارى يوماً، في تفسيره ذكر هذا، قال وكنت في صحراء، ليس فيها ما يستر، أرض مُستوية هكذا! قال فظننت أنني لن أُعجِزهم فجلست في الطريق هكذا، قال أقبلوا علىّ، أراهم تماماً، قال وتلوت آيات الحفظ وآيات الستر، ولم يذكرها، رحمة الله تعالى عليه، وهن ثلاث آيات، قال وتلوت آيات الحفظ وآيات الستر، قال فوالله مروا من حذائي، ذهبوا يبحثون وعادوا، أنظر إليهم ولا يرونني، ثم عادوا وقالوا أعجزنا، لا ندري كيف ابتلعته الأرض!
هذا عبد من أتباع محمد، صلى الله عليه وسلم، بعد رسول الله بخمسة قرون هذا، ويحصل هذا إلى يوم الناس هذا بفضل الله تبارك وتعالى، لكن باليقين، أين اليقين؟ هناك مَن سأل أحدهم وقال يقولون اجلس في بيتك، وارخ عليك سترك، وانتظر أن يأتيك رزقك، فقال وأنا أقول نعم، اجلس في بيتك، وارخ عليك سترك، وليكن عندك مثل يقين مريم، والله ليأتينك رزقك، قال والله ليأتين رزقك، لكن لابد أن يكون لديك مثل يقين بنت عمران، عليها السلام.
شيخ الإسلام وشيخ الحفّاظ والرجال – ذهبي الرجال في كل عصر وآن – شمس الدين الذهبي – رحمة الله تعالى عليه، هذا الحافظ الذهبي – في سير النُبلاء في ترجمة حيوة بن شُريح – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يقول وكان حيوة يأخذ عطاءه للسنة ستين ديناراً، هذا مُرتَّب سنوي من السُلطة الإسلامية، للسنة، أي لاثني عشر شهراً يأخذ ستين ديناراً، فلا يصل بيته حتى يكون فرَّقها في المحاويج والمساكين، لا يترك شيئاً منها، لا يُريد، وهذه رزقه لسنة كاملة، لا يُريد، يقينه يمنعه أن يحتفظ بدرهم واحد، يقين! هذه مقامات عالية، مَن يبلغها؟ هذه هي القضية.
قال الذهبي حتى إذا دخل بيته حرَّك فراشه فوجدها تحت الفراش، ستون ديناراً تُوجَد مُباشَرةً، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، فسمع بقضيته ابن عم له، ففعل ذات سنة مثل فعله، قبض الستين الدينار ووزَّعها في الفقراء والمحاويج، وعاد إلى بيته، حرَّك الفراش ولم يجد شيئاً، فجاء إلى حيوة بن شُريح، قال له يا ابن عم، يا ابن عم وا غوثاه! حصل معي كذا وكذا، قال نعم، أنا أُعطيها لله بيقين، وأنت تُعطيها تجربة، أنت تُجرِّب طبعاً وتأتي تُحرِّك الفراش، أنت تُجرِّب، لا! لن تراها، لا يُمكِن، ليس هكذا، الله لا يُجرَّب، هذا يقين، ما من تجربة.
روى الإمام أبو بكر بن أبي الدُنيا – قدَّس الله سره – في كتاب اليقين – له كُتيب صغير، صحائف معدودة اسمها اليقين، أورد فيها بعض الأخبار والآثار والمُلح، فروى في كتاب اليقين الآتي – بسنده عن بكر بن عبد الله المُزني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال افتقد الحواريون نبيهم عيسى – صلى الله عليه وعلى نبينا وآل كل وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – يوماً، فقيل لهم إنه توجَّه إلى البحر، تلقاء البحر! فذهبوا يتفقَّدونه، فإذا هو وقد أقبل يمشي على الماء، ترفعه موجة وتخفضه أُخرى، فعجبوا لذلك، أول مرة يرونه يمشي على الماء تلكم المرة، فوقفوا ينتظرونه، حتى إذا دنا منهم قال أحدهم – قال بكر وأظنه أفضلهم، قال أظنه أفضلهم، يبدو أنه كان أفضلهم – يا نبي الله آتي إليك؟ قال نعم، إن شئت، فوضع رجله وذهب ليضع الأُخرى فغاصت، فقال أرني يدك يا قصير الإيمان، لو كان لابن آدم مثقال ذرة من يقين لمشى على الماء.
هذا الأثر أو الحكاية أخرجها الإمام أحمد على ما أذكر في كتاب الزُهد أيضاً بسنده بزيادة، قال فسُئل يا روح الله ما اليقين؟ ما هو هذا اليقين الذي بذرة منه – بمثقال ذرة منه – يمشي المرء على الماء ويطير في الهواء لو شاء؟ فقال أن يستوي الذهب والحجر عنده، تقع في يدك حجرة كما تقع في يدك ذهبة، نفس الشيئ! طبعاً لأن كله من خزائن الله، هو قادر أن يُحيل الحجر ذهباً، لا تُوجَد مُشكِلة، قادر أن يأتيك بما تشاء لو كنت من أهل المقام، بإذن الله تبارك وتعالى، لا يُعجِزه هذا، لا إله إلا هو! هذا اليقين، يقين! يقين يُزهِّد الناس في الدنيا، يُقصِّر منهم الأمل، يجعلهم يُجانِبون المناهي، يجُانِبون نهي الله، يُباينون نهي الله – تبارك وتعالى – مُبايَنة تامة كاملة، ويزهدون فيما أيدي الناس، ولا يطمعون، ولا يتخوَّضون.
في الصحيحين من رواية أبي هُريرة قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرً – اشترى رجلٌ من رجلٍ عقاراً، أي أرضاً أو قطعة أرض، فوجد فيها جرة ذهب، أي جرة من ذهب، لم يفرح ولم يسترها ولم يكتم عليها، إنما ذهب إلى الذي باعه، وقال يا أخي هذه جرتك، إنما اشتريت العقار، ولم أشتر الذهب، والآخر كان عفيفاً، في مثل عفته وأمانته، قال وإنما بعتك الأرض بما فيها، والله لا أخذتها، اختصما! الله أكبر، هذا سبب الاختصام، شيئ عجيب، من أين يأتي هذا؟ اليقين، من اليقين بالله تبارك وتعالى، هذه أشياء تافهة في الدنيا، يقولون وسخ الدنيا وهم يغتسلون به، أرى الناس يقولون وسخ الدنيا وهم يغتسلون به، يتطهَّرون به، أي بوسخ الدنيا، يظنون أن الموضوع بالكلام والقضايا بالكلام، هكذا الامتحان، هكذا! هذان يختصمان، لا يُريد جرة لا هذا ولا ذاك، جرة من ذهب، كنز! لا يُريدها، ما الذي يُريد منها؟ لا يُريدها، فتنة! لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩.
قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فاحتكما إلى حاكم، أي إلى قاضٍ، فقال ألكما ولد؟ فأما أحدهما فقال لي غُلام، وقال الآخر ولي جارية، أي ابنة، ليست جارية بمعنى أمة اشتراها، لا! البنت تُسمى جارية، مَن رزقه الله جارية، مَن رزقه جاريتين أو ثلاث جوارٍ، أي بنات، قال ولي جارية، فقال زوِّجوا الغُلام الجارية، وأنفقوا عليهما وتصدَّقا، يقين!
هذا الفرج، هذا الرَوْح، هذه الراحة، اليقين! دنيا لا تتعبَّد المرء، العلم يستعملك واليقين يحملك، العلم يستعملك – وسيأتي شرحها إن شاء الله – واليقين يحملك، اليقين يُمكِّن المرء ويُقدِره أن يركب الأهوال وأن يفعل المُحالات في نظر الناس باليقين، باليقين! وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ۩، المرء راسخ بماذا؟ باليقين، والمرء خفيف بضعف اليقين، خفيف طيّار! أي هم، أي خبر، أي إشاعة، وأي إذاعة مُباشَرةً تجعله مغموماً محزوناً، تتقطَّعه الهموم والحسرات، لأنه خفيف، أما اليقين فهو راسخ، ولا الجبال! ولا رسوخ الجبال، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ۩، الله أكبر!
رسول الله في رحلة هجرته الشريفة يُدرِكه سُراقة بن مالك بن جعشم، هذا صحابي أعرابي من بني مُدلِج، طويل، مديد، قوي، فارس مغوار، ومُقاتِل شرس، يُدرِك الرسول، والرسول لا يخشى، ويمعنه الله كما تعلمون ثلاث مِرار، ثم يقول له والنبي هارب مُساحِل – بحذاء الساحل – ارجع يا سُراقة ولك سوارى كسرى، مَن يقول هذا؟ مَن نفذ بنور يقينه في الغيوب وأدركها، أبلغ من إدراكه لما يراه، لما يحسه، ولما يسمعه في الساعة والتو، قال ارجع ولك سوارى كسرى، وصدَّق الرجل الصادق الأمين، الذي لم يُنبَذ بكذبة واحدة في حياته، لا قبل النبوة ولا بعدها، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، وأخسأ الله مَن نقصه، وأبأس الله وأتعس الله وعثَّر الله مَن لزمه ومَن غمزه، صلوات ربي وتسليماته عليه.
أما بقية الحكاية فيرويها أحد نُبغاء هذه الأمة، هو ربيب عائشة، وأحد فقهاء المدينة السبعة، القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، يقول القاسم بعث سعد يوم القادسية – هذا في رواية – بسواري كسرى وتاجه – قال وتاجه وليس وعمامته، العمائم تيجان العرب، قال وتاجه – وقميصه وقبائه – القباء، أي قباء كسرى – وسراويله وخُفيه ومنطقته – التي يتمنطق بها، كالحزام يشد على الوسط -، بعثها إلى أمير المُؤمِنين المُلهَم المُحدَّث عمر بن الخطاب، قدَّس الله سره الكريم، بعثها كلها كما هي، تركة كسرى وآل كسرى الشخصية، فنظر إليها عمر، ثم صوَّب نظره فيمَن حوله، فلم ير أطول ولا أمد ولا أعظم جسماً من سُراقة بن مالك بتقدير الله، وجد سُراقة بن مالك بن جعشم من بني مُدلِج، فقال قُم يا سُراقة فالبس، قال فطمعت فيها، أي لعله يُعطيني إياها، من غنائم الحرب، قال فلبست، لبس كل هذا المتاع، متاع كسرى! وفي رواية لبس السوارين، إلى مُنتهى الذراعين، مما يلي العضد، على قد ذراعيه! قال ثم قال أدبر فأدبرت، قال أقبل فأقبلت، قال انزِع، وليس انزَع بمعنى اترك، وإنما انزِع، قال انزِع فنزعت، قال بخٍ بخٍ، أعرابي من بني مُدلِج يلبس تاج كسرى وسواريه وقباءه ومنطقته وخفيه، رب يومٍ يا سُراق بن مالك – يُفخِّم ويُرخِّم اسمه، هذا اسمه الترخيم – لو لبست أنت هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، ثم أقبل على نفسه وقال اللهم إنك قد منعت نبيك وحبيبك محمداً – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – هذا، وكان أحب إليك وأكرم عليك مني، ومنعت هذا أبا بكر، وكان أحب إليك وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم جعل يبكي، حتى رحمه مَن حوله، قدَّس الله سره الكريم، هذا عمر بن الخطاب! ثم قال لعبد الرحمن يا عبد الرحمن أقسمت عليك بالله لما بعته وقسمته في المُسلِمين قبل أن تُمسي، أي هذا المساء، هذا عمر!
أيضاً عمر المُوقِن العظيم، المُوقِن بما عند الله، والمُوقِن بموعود الله، لا إله إلا هو! شيئ عجب، شيئ عجب أمر اليقين، شيئ عجيب في هذه الأمة، يُحكى في سيرة الإمام الجليل أبي عثمان الحيري الآتي، وقد ذكرته اليوم، سُبحان الله، سعد بن سعيد ذكرته اليوم، وفيه يُقال كما في الرسالة القُشيرية إنه من ثلاث لا رابع لهم، كان يُقال ثلاث لا رابع لهم، أبو عثمان بنيسابور، والجُنيد – أبو القاسم بن محمد – ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلاء بدمشق، ثلاث – مشايخ الوقت، نُبلاء المُسلِمين، رؤوس الأولياء – لا رابع لهم، لا رابع يُشبِههم، أبو عثمان منهم، أبو عثمان الحيري – قدَّس الله سره، سعد بن سعيد، مُتوفى سنة ثمان وتسعين ومائتين – منهم، أبو عثمان الحيري هو القائل لي أربعون سنة ما أقامني في مقام فأحببت أن أتحوَّل، راضٍ – قال – أنا، وهذا من اليقين، كما قال عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه – إني لأُصبِح وليس لي سرور إلا في مواضع القضاء، قال سروري وفرحي وفرجي وسلواي وعزائي فيما يقضي الله، كل ما يأتيني من عند الله سروري، الله أكبر! يقين وتسليم مُطلَق، يقين بالله مُطلَق، وتسليم مُطلَق، وتفويض مُطلَق، وتوكل مُطلَق، والتفويض والتوكل والتسليم والرضا بل الخشية والمحبة والأُنس وغيرها وغيرها كلها من لوازم اليقين، كلها من آثار اليقين.
ولذلك قال أحدهم كما نقل السراج الطوسي في لُمعه، قال اليقين أول الأحوال كلها وباطن الأحوال كلها، وآخر الأحوال كلها وغاية الأحوال كلها، اليقين! مَن ليس له يقين ليس له عبادة على الأقل مقبولة، ليس له عبادة، ليس له حال، ليس له مقام، ليس له شيئ، اليقين!
أبو عثمان الحيري – قدَّس الله سره – له نبأ عجيب، يذكره أيضاً الذهبي وغيره، رحمة الله عليهم، قال لما غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني – المُسرِف الظالم الفاجر – على البلدة – على نيسابور – أعمل فيها السيف، أي أعمل في أهلها السيف، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً وقتلاً ذريعاً، ألا ساء ما فعل! ثم إنه نصب في السوق رُمحاً طويلاً، نصب رُمحاً وأقسم بالله أن يصب عليه الدراهم والدنانير، فإذا لم يُغطوا رأسه فقد أباحوا دماءهم، مُجرِم! أي هذه ملايين، ملايين! كيف يُغطى رأسه هذا وهي تسيل من على جانبيه باستمرار؟ أقسم بالله لابد أن تصبوا حتى يُغطى رأس الرُمح بالأموال، وإلا فقد أبحتم دماءكم لي، سيقتل العلية والتجّار والأغنياء، فجعلوا يتقاسمون الغرامة – كم عليك أنت وكم عليك أنت – بحسب تمول كل منهم، بحسب تموله وحالته المالية، فأصاب أحدهم ثلاثون ألفاً، أي أصابه ثلاثون ألفاً، ثلاثون ألفاً لزمته، حتى يُغطى هذا الرمح، فأتى إلى أبي عثمان الحيري – قدَّس الله سره – ويبدو أنه كان من تَلاميذه، وقال له يا شيخنا والله الذي لا إله إلا هو ما عندي إلا ثلاثة آلاف، هذا كل ما عندي، والمطلوب مني ثلاثون ألفاً، وإلا سنُقتَل جميعاً، فقال له أبو عثمان اجلس، اجلس يا أخي، فجلس، ثم قال له تأذن لي أفعل فيها ما هو خيرٌ لك؟ قال قلت نعم، فنادى بالغُلام، فأمره بتفريقها، قال خُذ الثلاثة الآلاف وفرِّقها على الفقراء والمساكين، فعظم الخطب على هذا، شيئ عجيب! أفرَّقها؟ نحن نحتاج ثلاثين ألفاً، الثلاثة الآلاف ذهبت، قال امكث عندي يا فلان، هذا أبو عثمان، قدَّس الله سره، أين أمثال هؤلاء في الأمة اليوم؟ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، الأمة تحتاج إلى رجال يا إخواني، هؤلاء الرجال، ليسوا رجال المقال واللسان والشقاشق والخُطب والكلام أمثالنا.
قال اجلس لدي يا أخي، قال فجلست لديه، حتى دخل وقت الفجر وأذَّن المُؤذِن، فقال أبو عثمان لا تُقيموا الصلاة، لا تُقيموا! ثم بعث خادمه، قال اذهب فانظر ماذا حصل، فذهب فعاد فقال لم يحصل شيئ، قال اذهب كرةً أُخرى، وأبو عثمان يضطرب بين السكة والمسجد، لا يجلس! ثم وقف وقال – يسمعه الناس – وحقك – يقول لله وحقك، أي وحق الله – لن أُقيم الصلاة حتى تُفرِّج عن المكروبين، فلم يستتم دعوته حتى جاء الغُلام فرحاً، يعدو يقول يا سيدي، يا سيدي، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩، بُقِرت بطن أحمد بن عبد الله، قُتِل الرجل وانتهى كل شيئ، فقال أقِم الصلاة يا مُؤذِّن.
قال الإمام الذهبي – قدَّس الله سره – وبمثل هذا – الذهبي شيخ السلف في وقته، قال وبمثل هذا – تُعظَّم مشايخ الوقت، تعظيم المشايخ وأهل الله بمثل هاته الوقائع، ليس بالكلام والشقاشق، قال بمثل هذا تُعظَّم مشايخ الوقت، بدعوة! لو أقسم على الله لأبره، اليقين!
يُحكى في ترجمة الحافظ الأوحد كما يُلقَّب – الشيخ الإمام الحافظ الأوحد عليّ بن طاهر، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه حين أتى بلاد الشام وقصد الأشياخ في طلب حديث رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه – كتب كُتباً كثيرةً جعلها في صندوق، فلما أراد أن يركب البحر قيَّره، أي سد منافذه بالقار – بالزفت -، حتى لا يُصيبه من رشاش الماء والبلل، قيَّره وجعلها في صندوق، هذه نتاج سنوات في طلب العلم والتبكير والحفظ والتقييد والاهتمام والجلد، فاضطربت الأمواج، وتلاعبت بالسفينة، فلم يروا بُداً من أن يُخفِّفوا حملها، فألقى هو إيثاراً صندوق علمه، وعنده كان أهون لو ألقى نفسه، لكن ما يجوز قتل النفس، ألقى صندوق علمه، وأتبعه حسرات نفسه، وسكن كل شيئ، فلما خرج إلى الساحل مكث ثلاث ليال قائماً راكعاً ساجداً، يبتهل إلى الله في صندوقه، حتى إذا كانت الليلة الثالثة سجد وقال – ألهمه الله، الله أحياناً يُلهِم عبده الدعاء ليستجيب له، ألهمه الله دعوة – اللهم إن كنت تعلم أنني ما طلبت هذا العلم إلا في حُبك وحُب رسولك فأغثني برده إلىّ، فما رفع رأسه إلا والصندوق أمامه، قذفه الموج في لحظة أمامه أو آتاه به ملك كريم، لا ندري! شيخ الإسلام هذا، فأخذه وحمد الله أعظم الحمد وأسناه وأعلاه، ثم ذهب وتنسَّك الرجل، ولم يُحدِّث حتى بحديث رسول الله، يخشى! يخشى حظ النفس والشهوة، لم يُحدِّث، والناس يلومون عليه، كيف حصَّلت كل هذا العلم ولا تُحدِّث برسول الله؟ ويُخوِّفونه بكتم العلم، إلا أنه يمتنع ولا يستجيب، قال ثم عرض لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنام ليلاً، ومعه الإمام عليّ عليه السلام، عليّ! واسمه عليّ بن طاهر، ربما لأجل هذه النُكتة آتاه النبي بعليّ أيضاً، عليّ مع عليّ، عرض له النبي ومعه عليّ عليه السلام، قال فقال لي يا عليّ مَن عامله الله بمثل ما عاملك به عند شط البحر؟ وتدع الحديث عني؟ حدِّث عني، فقام الرجل يبكي، وجعل يُحدِّث عن رسول الله حتى توفاه الله، وكان حافظ الوقت الأوحد، قدَّس الله سره الكريم، يقين! هذا اليقين.
وبما أننا ذكرنا عليّاً – عليّ بن أبي طالب، عليه السلام – فلنأتي على طرف يسير جداً من يقينه، وهو أعجب اليقين، يقين عجب! في الصحيح من حديث أبي سعيد الخُدري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يقسم يوماً – طبعاً ورد أنها غنائم حُنين، كان يقسم بالعدل الذي يتوخاه دائماً ولا يحيد عنه -، فقام إليه عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي – قبَّحه الله، هذا صحابي مقبوح منبوح، والعياذ بالله -، وقال له اعدل يا محمد، اعدل، قال ويحك! مَن يعدل إذا لم أعدل أنا؟ ثم قال عمر يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنه، نافق هذا! أيقول لرسول الله – رأس العدل والمعدلة – اعدل؟ في رواية ما هذه قسمة أُريد بها وجه الله، الله أكبر! ماذا أُريد بها يا مقبوح، يا منبوح، يا عاثر، يا خائب، ويا خاسر؟ مُجرِم! وفيه نزل قوله تعالى كما في الصحيح وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ۩، أي في عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، قبَّحه الله تعالى، فقال – صلى الله عليه وسلم – دعه يا عمر، فإن له أصحاباً – انظروا الآن إلى اليقين وإلى كشف الغيوب بتعليم الله، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ۩ – يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم – في رواية إلى صلاته – وصيامه إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قد سبق الفرث والدم، يمرق السهم بسرعة خيالية، حتى تنظر فيه – في نضيه، في نصله، في رصافه، وفي قذذه – لا ترى شيئاً كما قال، وهذا في الحديث، لا ترى شيئاً من دم، لم يعلق به شيئ، لشدة نفاذه ومروره سريعاً، قد سبق الفرث والدم، يمرقون بسرعة! قال – صلى الله عليه وسلم – يخرجون على حين فُرقة من المُسلِمين، تكون هناك فتنة وفُرقة ويخرج هؤلاء، بمَن يتنبأ النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ وعن مَن يتحدَّث؟ عن الخوارج، آيتهم – النبي يُعطي علامة، هنا اليقين، نحتاج إلى يقين، قال آيتهم، قال وأنا أُعلِّمهم لك، سأذكر علامة لهم – رجل إحدى يديه مثل البضعة تدردر – أي تتدردر، قال تدردر، أي تهتز جيئةً وذهاباً، هكذا! والمقصود أنه رجل بلا ذراع، له عضد بلا ذراع، وفي آخر عضده قطعة من لحم، فيها شعرات مثل السنور، قال تدردر، ذكره بعلامة عجيبة جداً – ويُلقَّب ذا الثُدية، شُبِّهت هذه اليد بالثدي، وفي روايات له ثُديٌ، المُهِم قال إحدى يديه كما ذكرت، قال هذه علامتهم، وأمر بقتلهم، وبشَّر النبي مَن يقتلهم، وأنه أدنى إلى الحق وأجدر بالحق، وأنهم كلاب جهنم.
قال أبو سعيد الخُدري أشهد لسمعت من رسول الله، وأشهد ان عليّاً قتلهم وأنا معه، أنا كنت معه حين قتلهم، بالضبط كما ذكرهم الرسول! ولهم صلاة ولهم صيام وقراءة قرآن، هنا اليقين، تحتاج إلى يقين لكي تُقاتِل وتقتل أمثال هؤلاء، عُبّاد قُرّاء يبكون ليل نهار من خشية الله، لابد أن يُقتَّلوا، فتنة! جُهلاء مُجرِمون، إرهابيي عصرهم كانوا والعياذ بالله، تحتاج إلى يقين!
الآن يروي الإمام أبو القاسم الطبراني في المُعجَم الأوسط بسنده عن جُندب بن عبد الله البجلي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال جُندب لما مرقت الخوارج وانحازوا إلى حروراء وكانوا ثمانية آلاف ناظرهم الإمام عليّ عليه السلام، فرجع منهم أربعة آلاف، فيهم عبد الله بن الكواء، ذكرناه اليوم في صدر الخُطبة، الذي سأل عليّاً عن تأويل آيات الذاريات، هذا ابن الكواء، فيهم عبد الله بن الكواء، وأبى الآخرون أن يرجعوا، فقال لهم أبو الحسن – عليه السلام – كونوا حيث شئتم، على ألا تسفكوا دماً حراماً، ولا تقطعوا السبيل، ولا تظلموا أحداً، فإن فعلتم فقد آذنتكم بالحرب، كونوا حيث شئتم، أنا لا أُقاتِل الناس ولا أقتلهم على عقائدهم وعلى خروجهم علىّ حتى، لكن لا تقطعوا السبيل، لا تُروِّعوا الآمنين، لا تقتلوا معصومي الدماء، وإلا فهي الحرب.
قال جُندب بن عبد الله البجلي – رضوان الله تعالى عليه – فوالله ما قتلهم عليّ إلا بعد أن سفكوا الدم الحرام، قتلوا عبد الله بن خبّاب – هذا ابن الأرت، وهو الصحابي الجليل المُجاهِد المُعذَّب الصابر والمُحتسِب، ابنه عبد الله قتلوه، قتلوا عبد الله بن خبّاب – وبقروا بطن سُريته، كان له سُرية وكانت حاملاً منه، بقروا بطنها وقتلوا الجنين، وقالوا وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ۩، وهؤلاء يقرأون القرآن ويبكون ليل نهار، ووجوههم فيها مثل الأخاديد من البكاء من خشية الله، أي خشية وأي عبادة مع هذا الجهل والإجرام والمنزع الدموي العجيب؟ نعوذ بالله من عماء القلب ومن عدم الفقه الدقيق في دين الله والرسوخ في الفهم عن الله وعن رسوله، فعليّ نبذ إليهم وآذنهم بالحرب، قال فكنت معه في جيشه، فلما نزلنا قريباً منهم ورأينا عسكرهم رأيناهم ما بين راكع وساجد، لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، وفيهم أصحاب البرانس، أي العُبّاد القُرّاء الزُهّاد، معروفون بأصحاب البرانس، موجودون بالآلاف، قال فدخلني أو داخلني من أمرهم شدة، أي كيف؟ أأرفع السيف على هؤلاء؟ ناس تُصلي، تعبد، تقرأ القرآن، يدوون به، وفيهم العُبّاد القُرّاء الزُهّاد؟ قال فدخلني من ذلك شدة، ما الله به عليم، فقمت أُصلي ودعوت ربي اللهم إن كان في قتل هؤلاء لك طاعة فائذن لي به، قال افتح علىّ، هذه فتنة عجيبة، يُفتَن الإنسان! الآن عليّ لا يُفتَن، عليّ عنده يقين، عليّ عنده إذن من رسول الله، إنه عهد من الله ورسوله، لا اختلاج، لا تردد، لا جمجمة، يقين! يقين هنا وتصديق، هذا صحابي، ولكن تردد المسكين، تردد كما تردد صحابة آخرون وندموا على ذلك، ندموا ألا يكونوا كانوا مع عليّ وقاتلوا مَن بغى علىّ عليّ من أهل الشام ومَن خرج عليه مِن الخوارج، ندم بعض الصحابة الأجلاء الكبار على ذلك، عليّ لم يتردد لحظة، لأنه المُوقِن، عليه السلام وكرَّم الله وجهه.
اسمعوا العجب الآن، اسمعوا العجب! قال فبين أنا أُصلي قائماً إذ مر عليّ بحذائي، فناداني، قال يا جُندب إياك والشك، الله أكبر! طُولِع بسره، عليّ طُولِع بسر هذا الرجل من جنوده، قال يا جُندب إياك والشك، يعرف أنه شك، تخالجه شك وتردد، قال فعجبت لأمره، فلما قضيت صلاتي سرت معه، فآتاه رجل، فقال يا أمير المُؤمِنين إن كان لك بالقوم حاجة فعليك بهم، فقد قطعوا النهر، قال ما قطعوه، وعليّ لم يرهم قطعوه أو لم يقطعوه، قال ما قطعوه، عجب الناس! كيف؟ أنقول لك قطعوه وتقول ما قطعوه؟ ثم جاءه آخر، فقال قد قطعوا النهر، قال ما قطعوه، ثم جاءه ثالث، فقال يا أبا الحسن قطعوا النهر، قال ما قطعوه، ولا يقطعونه، عهد الله وعهد رسوله! قال عهد من الله ورسوله إلىّ، كيف يقطعونه؟ قال والله لنُقاتِلنهم، ووالله لا يُقتَل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة، الله أكبر!
(ملحوظة) قال أحد الحضور الله أكبر، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت أيها المُكبِّر، ثم قال فضيلته قال جُندب فقلت الله أكبر وأعجبني ذلك، الله أكبر! ما هذا الفتح؟ قال فوالله لا يُقتَل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة، سيُقتَلون من عند آخرهم، فإن نجا لن ينجو أكثر من عشرة، ونحن لن نُصاب بأكثر من عشرة، الله أكبر! عهد من الله ومن رسوله، فكبَّر هذا الذي تخالجه شك، رضوان الله تعالى عليه، ثم قال لي يا جُندب إني مُرسِل إليهم برجل يقرأ المُصحَف، يقرأ عليهم ويُقيم عليهم حُجة الله وحُجة رسوله، فلن يعود إلينا حتى يُرشَق بالنبل، قال هذه آية أُخرى، فسيَّر إليهم رجلاً، فاستقبلوه بالنبل، فعاد، فأُقعِد الرجل، فقال عليّ دونكم القوم، عليكم بهم! قال دونكم القوم، قال فأخذناهم، قال والله ما قُتِل منا عشرة، ولا نجا منهم عشرة، كانوا فوق بعضهم البعض، قتل ذريع بإذن الله تبارك وتعالى.
هذه سياقة الطبراني في الأوسط، وهنا يُخرِّج الإمام مُسلِم في صحيحه – رحمة الله تعالى عليه، هذا اليقين، اليقين بموعود الله وموعود رسوله – ويقول فقال الإمام عليّ – عليه السلام – قوموا فانظروا، انظروا مَن؟ ذا الثُدية، صاحب العلامة، انظروا ذا الثُدية، فذهبوا فعادوا وقالوا لم نجد شيئاً، قال بلى، ألا فعودوا، فعادوا، عند غير مُسلِم حتى قام الإمام عليّ بنفسه، ووجد قوماً قد تكوَّم بعضهم فوق بعض – من الخوارج -، فجعل يُنحي بعضهم – أي يزيح بهم – حتى وجده أسفل منهم بالعلامة التي وصف رسول الله، فكبَّر المُعسكَر، الله أكبر! النبي قال هذا هو، هذا الفاتن المفتون والعياذ بالله، علامتهم وآيتهم ذكرها رسول الله عبر السنين والعقود، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا إيماناً ليس بعده كفر، ويقيناً لا يتلجلج، ولا يتخالجه شك يا رب العالمين، حتى نعلم أنه لن يُصيبنا إلا ما كتبت لنا، ورضِّنا من معاشنا بما قسمت لنا، أنت ولينا، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩.
استغفروا الله، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
أخرج الإمام أبو الفرج بن الجوزي في سيرة خامس الراشدين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أن مسلمة بن عبد الملك دخل عليه وهو في السياق، وهو في مرضه، أي مرض موته، هذا كان بالسُم وليس مرضاً، لكنه قال في مرضه، فقال له يا أمير المُؤمِنين لقد فطمت أفواه بنيك – أفواه ولدك – عن هذا المال والناس يجدون، وتركتهم عالةً ليس لهم شيئ، ليس بين أيديهم شيئ، فلو أنك أوصيت بهم إلىّ أو إلى نُظرائي من أهل بيتك كفيتك مُؤنتهم، فما ترى؟ قال فقال أجلسوني، فأجلسوه رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهو شاب في الرابعة والثلاثين، عمر بن عبد العزيز شيخ الأمة، شيخ الإسلام، أمير المُؤمِنين، رأس الأولياء في وقته، ابن أربع وثلاثين سنة، قدَّس الله نفسه وروحه الطاهرة، قال أجلسوني، هكذا الرجولة وهكذا الدين واليقين والإيمان والسداد والتوفيق والرشاد، سدَّدني الله وإياكم، فأجلسوه، فقال الحمد لله، أبالله تُخوِّفني يا مسلمة بن عبد الملك؟ أتُخوِّفني مما أعد الله لي ولأولادي؟ أبالله تُخوِّفني يا مسلمة بن عبد الملك؟ أما ما ذكرت من فطمي أولادي عن هذا المال فإني لم أحرمهم حقاً هو لهم، ولا أُعطيهم حقاً هو لغيرهم، قال حقهم أخذوه، مثل كل الناس، لكن لا أُعطيهم شيئاً ليس لهم، وأما ما ذكرت من الوصية بهم إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي تكفونني مؤنتهم فإني أُوصي بهم إلى الله الذي يتولى الصالحين، قال إلى الله الذي يتولى الصالحين، لا إله إلا هو! وإنما ولد عمر أحد رجلين، رجل اتقى الله فجعل الله له من أمره يُسراً ورزقه من حيث لا يحتسب – يقين! هذا لا يقوله إنسان على فراش الموت وهو يترك أطفاله الصغار من بعده إلا بيقين، يترك اثني عشر ولداً بيقين تزول الجبال ولا يزول، تزول الجبال ولا يزول! ما الذي يحمل الناس على أن يعصوا الله وأن يأكلوا من حله ومن حرامه ومن شُبهاته؟ الحرص على مُستقبَل الأولاد، أنت مسكين، وأنت ضيَّعتهم، النبي قال ضيَّعتهم، أنت هكذا ضيَّعتهم، والله العظيم! والله بدرهم حرام ضيَّعت أولادك يا مسكين، أتجهل هذا؟ أتجهل هذا؟ قال وإنما ولد عمر أحد رجلين، هذا الأول، والثاني هو الآتي -، ورجل قد غيَّر وفجر، فلا يكن عمر أول مَن أعانه على ذلك، لن أكون أول مَن يُعينه على أن يفجر، لا! انتهى، ثم قال ادعوا إلىّ بولدي، فدعوا بهم، فأتوا وكانوا يومئذ اثني عشر، أي اثني عشر ولداً، رضوان الله عليهم، فوقفوا بين يديه، فنظر إليهم وصَّوب بصره، واغرورقت عيناه بالدموع، وقال بنفسي فتيةٌ تركتهم ولا مال لهم، أي بني إني مثَّلت رأيي بين أن – أي قدَّرت الأمور، تصوَّرتها، وافترضتها إحدى حالتين – تفتقروا ولا أترك لكم شيئاً ولا يدخل أبوكم نار جهنم، وبين أن تغتنوا وأترك لكم ما فيه نوال ويدخل أبوكم نار جهنم، فوجدت أن تظلوا فقراء إلى آخر الأبد، خيراً من أن يدخل أبوكم جهنم يوماً واحداً، ألا فقوموا عني، عصمكم الله، أحسبكم الله، ورزقكم الله، قال الراوي فوالله ما افتقر واحد منهم ولا احتاج.
اللهم إنا نسألك أن تُنير أفئدتنا بنورك وأن تُعظِّم حظنا من عبادتك، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا رحمن، يا رحيم، يا مالك الأمر، يا صاحب المُلك والملكوت، يا رب العالمين.
نسالك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك وطاعةً لنبيك واتباعاً لسُنته، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
اللهم مَن أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومَن أمته منا فأمته على الإسلام، وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(15/5/2009)
أضف تعليق