إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۩ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۩ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۩ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
من أسنى الأمثال التي ضرب الله – تبارك وتعالى – في كتابه وأمثلها مثل العالمين، مثل الذين أوتوا العلم، وذلكم أن الله – تبارك وتعالى – أخبر عنهم أنهم يَشركون في الشهادة على وحدانيته وأحاديته، فالله – تبارك وتعالى – يشهد، والملائكة يشهدون، وأولو العلم. وكفى بهذا شرفاً ومحمدةً ومفخرةً.
وقد جعلهم – تبارك وتعالى – فريقاً مُنمازاً من الناس بحياله وبرأسه، فقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۩، كما أخبر – سُبحانه وتعالى – أنه يرفع أهل العلم الذين ضموا وجمعوا إلى الإيمان الحق العلم الصحيح درجاتٍ في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فحري بمَن رفعه الله – تبارك وتعالى – بالخير والنور درجاتٍ في الدنيا أن يكون من المرفوعين في الآخرة – بفضل الله ومنّه -.
على أنه – سُبحانه وتعالى – ضرب مثلين آخرين من أشد وأصعب وأشأم وأبأس وأتعس الأمثال، أيضاً لأهل العلم أنفسهم، إذا ضلوا بعلمهم وأضلوا، إذا بغوا بعلمهم وطغوا، وبكلمة إذا لم يعملوا بعلمهم، لأن العلم إنما يُراد للعمل، وليس للمُفاخَرة والمُكاثَرة والمُباهاة، فقال – سُبحانه من قائل – مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩، مثل بئيس، إنه هويٌ من حالق، من حالق الذين شهدوا مع الله – تبارك وتعالى – على الوحدانية، من حالق الذين رُفِعوا درجات زكيات عاليات سنيات، إلى هذه الوهدة البهيمية، كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩. على أن الحمار لا ذنب له، لأنه غير مُكلَّف أصلاً وغير عاقل، فهؤلاء أَضَلُّ سَبِيلًا ۩ كما أخبر القرآن، كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري – رضيَ الله عنه وأرضاه – حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ۩؛ لم يعملوا بالعلم الذي تعلَّموه. كلمة واحدة! لم يعملوا بالعلم. انتهى، أصبحوا كالحمير، على أنهم من منظور الناس علماء، يعرفون الكتاب، يتلونه، يتحفَّظونه، يفتنون في تفصيل الكلام في جُمله وبيان هذه الجُمل المُجمَلات بتفاصيل وتفاريع القول، كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩.
والمثال الآخر – وبئس المثل – مثل بالكلب. مثل بالحمار، أي مثلٌ حماري، ومثلٌ كلبي. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ۩، بالآيات، بالعلم، وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۩، الله أكبر، بئس المثل، بئس المثل وبئست الحالة، شيء غريب.
لماذا هذا التشديد؟ لا يبدو أن هناك درجة ولو دُنيا من التسامح مع هؤلاء، الذين يعلمون، والعلم بحد ذاته شريف، يُقال لك العلم شيء شريف، ولا يعملون. لا! القرآن لم يتسامح هنا، تماماً كما أنه لم يتسامح، وإن لم يذكر عنوان العلم، فعبَّر عن هذه الحالة (حالة الانفصال والافتراق وفك الارتباط بين العلم والعمل، أن تعلم ولا تعمل بما علمت) بأنها تُوجِب أشد الكُره والبِغضة من الله – تبارك وتعالى -؛ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ۩، عجيب! الآية لم تقل لِمَ لا تفعلون ما تقولون. أي لم تقل لِمَ لا تعملون بما تعلمون. انتبهوا! الآية قالت لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، كأن الآية تسد الطريق والباب على مَن لم يعمل بعلمه أن يتكلَّم به. عليك أن تسكت أصلاً، لئلا ترتكب مُوبِقة النفاق والرياء والخداع، لديك علم ولم تعمل به، على الأقل لا تتكلَّم به، دع غيرك مِمَن عمل به وتحقَّق به يتكلَّم به، أما أنت فاسكت، القرآن يقول اسكت، إن أردت أن تتكلَّم بعلم، عليك أن تكون مهدت قبلاً بالعمل به، لكي تُبرهِن لنفسك ولربك – لا إله إلا هو – أنك من الصادقين، أنك من الجادين، ولست من الهازلين اللاعبين.
إذن المنظور القرآني – إخواني وأخواتي – للعلم منظور غائي، العلم لا يُراد لذاته، العلم وسيلة، وليس غاية، وسيلة لتزكية النفوس، لإصلاح الأحوال، للقُرب من الله – تبارك وتعالى -. والحديث – كما تعلمون – والقول الجاري إنما هو في العلم الديني، كلامنا في العلم الديني، الذي به النجاة في الحياة الأُخرى، في حياة الأبد. علوم الدنيا تُسعِدنا، تُيسِّر علينا معاشنا في أبواب كثيرة في الدنيا. علم الدين المفروض أنه يُسعِدنا في الدنيا وفي الآخرة وهي الأهم، في حياة الأبد، يُسعِدنا ويُصلِحنا في الدنيا.
ولذلك المنظور القرآني هنا منظور غائي وواضح، وليس فيه أدنى درجات التسامح مع مَن فك الارتباط بين الأمرين. وقد تواترت النقول والروايات عن السادة العلماء، بدءاً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -، فالتابعين، فتبع التابعين، ومَن خلفهم ومَن وراءهم، في أن العلم إنما يُراد بالعمل، ورأس العمل الخشية، خشية الله معقد جامع، لأن مَن خشيَ الله، خاف الله، راقب الله – تبارك وتعالى -، بالحري أنه ينزل على أوامر الله – تبارك وتعالى -، ينتهي عما نهى الله، ويصدع ويقوم بما أمر الله، الخشية تدفعه إلى ذلك، قال – عز من قائل – إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۩، كأن الخشية محصورة في العلماء، كأن مَن لا علم له لا خشية له.
لكن السادة العلماء والعرفاء – عرَّفنا الله به ودلنا عليه كما دلهم وأصلحنا بما أصلحهم له به يا إخواني وأخواتي – ذكروا أن مَن تحققت لديه الخشية، فهو عالم. كأن القرآن زاوج بينهما، مَن عنده خشية عنده علم، مُمكِن ليس عنده محفوظات، مُمكِن لا يحفظ الآيات، لا يحفظ الأحاديث، لا يحفظ الأقوال، لكن عنده ماذا؟ جوهر العلم. رجل مُتدين يخشى الله، هو عالم. هذا عالم بالله! لأنك إن لم تخشه، كيف يُمكِن أن تزعم أنك عالم به؟ أنت جاهل به. والله لو عرفته – لا إله إلا هو – لخشيته، حتماً ستخشاه، أنت ترى الأسد تخشاه، حتماً! الحيوان البهيم المُفترِس، السبع هذا، إذا رأيته، تخشاه وترتعد فرائصك، لأنك مُوقِن أنه إن سطا بك، أهلكك في لحظة، ولا قِبل لك به، لا قِبل لك بمُقاوَمة أسد عارياً مُتجرِّداً من السلاح، فكيف برب العالمين – لا إله إلا هو -؟ كيف برب العالمين الذي إذا غضب لا يقوم لغضبه السماوات والأرضوان؟ لا يقوم لغضبه شيء! تزعم أنك تعرفه ثم لا تخشاه؟ أنت ما عرفته، أنت مُتوهِّم، مُتوهِّم!
ولذلك ماذا قيل عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -؟ هذا الإمام الرباني المُتألِّه، قيل عنه الآتي، وهو الذي لم يُدل ولم يفخر ولم يستكبر بعلمه الواسع الغزير المدرار، الرجل كان يحفظ ألف ألف حديث، مليون حديث! بأسانيدها، أعجوبة من أعاجيب الدهر، وكان مُجاب الدعوة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، رجل عجيب، عجيب! أي الإمام أحمد بن حنبل، وكم وكم ذا في هذه الأمة من مثل أحمد، من الأئمة الصُلحاء الواصلين الصادقين! أمة عجيبة هذه، ورّاث النبوة – رضوان الله عليهم، وأعاد الله علينا من بركاتهم وأنوارهم -. أحد تَلاميذ أحمد يقول لزمت الإمام – على ما أذكر، إن لم تخني الذاكرة – أربعين سنة، ما سمعته يوماً يفخر علينا بعلمه. أي أنا حافظ، أنا أعرف وأنتم لا تعرفون، اجتهدوا وسوف تصيرون مثلي. ولا مرة، ولا مرة! ليس عنده هذا، ليس عنده أي شعور بالفخر وما إلى ذلك أبداً، وهو يرى أن هذا ابتلاء من الله – تبارك وتعالى -، الله أقامه في هذا المقام، اختبار! والمُهِم ليس العلم وليس الحفظ والرواية أبداً، المُهِم العمل، فقيل له – رضيَ الله عنه وأرضاه – هل عند معروف الكرخي شيء من العلم؟ وهذا الرجل من الصوفية، رجل من السالكين الواصلين العارفين بالله؛ معروف بن فيروز الكرخي – قدَّس الله سره -، الذي قال فيه الشيخ الإمام الذهبي (ذهبي الرجال لفظاً ومعنىً)، قال فيه قبر معروف بالكرخ – كرخ بغداد – ترياق مُجرَّب. الناس تذهب هناك تدعو، والله يستجيب. وهذا مَن؟ هذا لم يقله صوفي أو طُرقي، قاله الإمام الذهبي، وهو شيخ سلفي، من أئمة السلف الكبار. قال لك هذه حقيقة، قبر معروف ترياق مُجرَّب. تذهب هناك، تدعو الله، والله يستجيب لك. ليُظهِر كرامته حتى بعد موته. معروف الكرخي – قدَّس الله سره -، ولكن لم يكن من أهل الرواية والمحفوظات ومجالس العلم أبداً، كان رجلاً ربانياً. فقيل للإمام أحمد هل عند أو مع معروف شيء من العلم؟ قال كان معه رأس العلم: الخشية. قال علم؟ رأس العلم – قال -: الخشية. رجل يخشى الله، رجل عرف الله، انتهى! هذا هو المطلوب من العلم.
ولذلك لما أراد أحد أهل العلم أن يغمز قناة سيدنا معروف – قدَّس الله سره – مرةً في مجلس الإمام أحمد أيضاً، قال إنه قصير العلم! ذُكِر معروف، قال بعض الناس سيدنا معروف يقول كذا وكذا وكذا، فبعضهم – من أهل الجمود ربما والقساوة، يظنون أن الأمور بالظاهر، تحفظ روايات وأسانيد وأشعاراً وآيات، أي أن هذا شيء عظيم، الآن الكمبيوتر Computer يفعل هذا أكثر مني ومنك، الشيخ جوجل Google يفعل هذا، وهو أحسن واحد في العالم الآن، ليست هذه القضية – قال إنه قصير العلم. قال أمسك. أي الإمام أحمد، لا يسمح بالغيبة طبعاً ويغضب، وليس يفرح لأنه عالم ويُريد الناس أن تُجله هو فقط، وبقية العلماء يُنتقصون. أبداً! قال له أمسك، عافاك الله. أمسك، عافاك الله. وهل يُراد من العلم إلا مثل ما عند معروف؟ قال له ما لك أنت؟ أي هل أنت تفهم القضية وتعرف ما هي؟ هل تظن أن العلم هذا هو الذي عندنا فقط؟ هذا الذي عندنا ما الذي يُراد منه؟ أن نصل إلى مثل ما وصل إليه معروف، أن نعرف الله، أن نخشى الله، أمسك، عافاك الله. وهل يُراد من العلم إلا مثل الذي عند معروف؟ رضيَ الله عنهم وأرضاهم.
أستاذ الإمام أحمد الإمام الشافعي – إمامنا أبو عبد الله الشافعي، رضوان الله عليه -، يُروى أنه كان يُكثِر التردد على رجل أعرابي، لكن من أولياء الله ومن أهل الله، معروف عند الناس، من أهل الله، من أهل العرفان، من أهل الصدق والخشية والخوف والرجاء. شيبان الراعي اسمه، شيبان الراعي! رجل يبدو أنه كان أُمياً، بدوياً أعرابياً أُمياً، شيبان الراعي! فيجلس منه الإمام الشافعي – الإمام اللُغوي الشاعر الفقيه المُتسنِّن الحكيم العالم بشتى العلوم، الإمام الشافعي! وكان لا يرى عالماً إلا مَن ضرب بسهم في شتى العلوم بعد أن يُعظِم نصيبه من الكتاب والسُنة، شيء عجيب الإمام الشافعي هذا، كان موسوعة حية، كان ربما يُؤلِّف مُصنَّفاً من بعض المُصنَّفات الصغيرة التي تسمعون بها في جلسة واحدة، لا يثني رجله، بعد الفجر. تَلاميذه يُحدِّثوننا بهذا، يُملي عليهم وينتهي الكتاب، في ساعتين أو ثلاث ساعات يُخرِج كتاباً كاملاً، شيء عجيب! إمام جليل الإمام الشافعي، رضوان الله عليه – مجلس الصبي من المُعلِّم، فيجلس من شيبان الراعي مجلس الصبي من المُعلِّم! هكذا بين يديه، وبعض الناس أنكر هذا، الشافعي يفعل هذا مع رجل أُمي، لا يُنسَب إلى العلم!
فقيل له يا أبا عبد الله، مثلك في علمك وفضلك وفقهك تفعل هذا؟ أتجلس هكذا مع هذا (الغلبان)؟ قال لقد وُفِّق هذا إلى ما علمناه. انظر إلى هذا، انظر! بليغ، فصيح، ووجيز. لم يُكثِر الكلام. قال نحن لدينا علوم، هذا وُفِّق إلى جوهرها، إلى العمل بها، إلى روحها. وهذا هو المُراد من العلم! لقد وُفِّق هذا إلى ما علمناه. لذلك أنا آتيه وأتواضع وأتعلَّم منه، نتعلَّم منه الجوهر والحقيقة.
وكذلك كان الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم -، ولا نُريد أن نفتح هذا الباب الكريم والمُهِم، باب العلم والعمل. وصُنِّفت فيه مُصنَّفات كبيرة وصغيرة، مثل مُصنَّف الخطيب أبي بكر – الخطيب البغدادي، رحمة الله عليه -، العلم والعمل (كتاب أو كُتيب هو في العلم والعمل).
الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – كان يقول يا أهل العلم، بل يا حملة العلم – كان يقول يا حملة العلم – اعملوا بما تعلمون، وسيأتي زمانٌ يطلبون العلم للمُباهاة. أنا أعلم، أنا أفصح، أنا أشطر، أنا أكثر طلّاباً، أنا أكثر أتباعاً. والعياذ بالله، والعياذ بالله! ليس لله، للدنيا، لمحض الدنيا. يغضب أحدهم على جليسه أن يجلس إلى غيره، قال أولئك لا خير فيهم وأولئك من أهل النار. أهل أكبر! العلم الشرعي يكون طريقاً إلى النار؟ بلية – والله – يا إخواني، نسأل الله العفو والعافية والمُعافاة الدائمة، والله بلية أن يكون هذا العلم الذي تعبت في تحصيله وتحفظه والبحث عنه وتحقيق مسائله سنوات طويلة، أن يكون طريقك إلى النار!
النبي علَّمهم كذلك، لم يأتوا بشيء من لدنهم، النبي علَّمهم هذا، مَن طلب العلم ليُجاري به العلماء – أنت عالم وأنا مثلك، أنت شاطر وأنا أشطر، أنت فاهم وأنا أفهم، ليُجاري! مُجاراة الحكاية، أي وكأنها مُسابَقة، مَن أكثر علماً -، ويُماري به السُفهاء، ويصرف وجوه الناس إليه، فالنار… هكذا النبي قال، فالنار، هذه طريقتك؟ النار. في حديث آخر لم يرح – أي لم يشم، لم يرح – رائحة الجنة، وقد ورد أن ريحها تُشَم وتُراح من مسافة خمسمائة سنة. هذا لا يشم رائحة الجنة، معناها بعيد جداً جداً جداً هو من النجاة، بعيد جداً جداً جداً جداً إلى انقطاع النفس من رحمة الله، عجيب! لماذا؟ مع أنه كان من أهل العلم. علم بلا عمل – انتبهوا – سيكون كما كان في أمم سبقتنا من أهل الكتاب سبيلاً للبغي، إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۩، العلم سيُمزِّق الأمة، العلم سيُفرِّق الأمة، تقول لي العلم هو الذي يفعل هذا؟ ليس هذا، لا! الأوعية السيئة التي وعت هذا العلم ولم تعمل به، أخذت منه الظاهر فقط، ولأغراض ومقاصد دنيوية محضة، المُباهاة والمُفاخَرة وربما أيضاً المغانم والمكاسب المادية والمعنوية – والعياذ بالله -، وليس لإصلاح النفوس وتزكيتها والاقتراب والتزلف إلى رب العزة والجلال – لا إله إلا هو -، هذا هو! لا أن العلم بذاته يفعل هذا، وإنما هذه الأوعية والحملة السيئة تفعل هذا.
ولذلك – إخواني وأخواتي – في الحقيقة لأكون صريحاً وصادقاً الباعث القريب طبعاً على هذه الخُطبة التي أسأل الله أن يتقبَّلها وأن يُبارِكها وأن يغفر لي ما يقع فيها من زلل وخطأ وتجاوز، الباعث مُباحَثة جرت بيني وبين أحد الأفاضل، فهو يرى أن السبب الأكبر لخيبة الأمة اليوم وتقسمها وتضعضعها واضمحلال عزها هو عدم التواضع، أهل العلم لا يتواضعون، فقال لا بد أن يُذكَّر الناس بهذا الموضوع. والذي لا يتواضع هو المُستكبِر، والنبي أيضاً أراد أن يسد هذا الباب وشدَّد فيه تشديداً ما شُدِّد مثله تقريباً بعد الشرك في الله؛ لا يدخل الجنة مَن كان في نفسه مثقال حبة من خردل من كبر. حتى أن العلماء اختلفوا في تأويل هذا الحديث الصحيح، عجيب! بسبب مثقال ذرة من كبر لا يدخل الجنة؟ فبعضهم قال لا يدخلها ابتداءً، لا بد أن يُطهَّر بنار جهنم. طبعاً لأن الجنة لا يدخلها إلا طيب، والمُستكبِّر ليس طيباً، يا للعار ويا للخسار! فحتى في الدنيا المُستكبِر خبيث، باللُغة الدينية المُستكبِر رجل أو امرؤ خبيث، رجلاً كان أم امرأةً خبيث، الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، وهذا ليس طيباً، لا يدخلها، لا يدخلها ابتداءً، حتى يتطهَّر. وقال بعضهم بل تأويله أن هذا جزاؤه، جزاء المُستكبِر ألا يدخل الجنة. ولكن الأمر بيدي الله – تبارك وتعالى – وفي قيد المشيئة. إن شاء الله، عفا. تأويل آخر!
الإمام ابن جرير الطبري – رحمة الله عليه – فيما يحكيه الإمام ابن بطّال عنه في شرحه على الصحيح، الطبري ذهب إلى أن الكبر هنا الشرك. قال المُراد به الشرك. حتماً كل مُشرِك مُستكبِر، وكل كافر قامت عليه الحُجة فلم يُذعِن ولم يُؤمِن مُستكبِر طبعاً، ومُستكبِر على الله. هذا تفسير الطبري، وهو وجيه أيضاً، ولكن لا يمنع كما قال ابن بطّال وغيره، لا يمنع أن الكبر يكون في حق العباد أيضاً، هذا واضح جداً، فيكون في حق العباد، واللفظ عام! النبي قال مثقال ذرة، مثقال حبة، من خردل من كبر، ولم يقل في حق الله، قال من كبر. فالطبري قال لك عجيب إذن، ذرة؟
لا نُريد أن نتكلَّم عن هذا الموضوع بتفصيل، لكن يا إخواني لو حققنا وغلغلنا النظر، سنجد أن الكبر في جوهره هو منبع الكفر، منبع الكفر! هو روح الكفر، هو روح الكفر. ومَن يستكبر حتى من المُؤمِنين – والعياذ بالله – فيه هذه الروح الكفرية. وقد يقول لي أحدكم كيف؟ ما علاقة الكفر بهذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الله هو الحق، والحق من عند الله، ومَن يستكبر على الحق، هو مُستكبِر على الله. كل حق!
ولذلك لما سُئل الفُضيل بن عياض عن التواضع ومَن المُتواضِع، قال المُتواضِع الذي يقبل الحق من أين أتاه، ولو أتاه من صبي قبله، ولو أتاه من أجهل الناس قبله. هو جاهل وغير مُتعلِّم وأُمي ولا يعرف حتى الكتاب، ولكن صحَّح عليك في شيء وكان الحق معه، قل له نعشك الله بالحق كما نعشتني، أصبت وأخطأت. وهو جاهل! هذه سمة العلماء الربانيين، سمة الذين يعشقون الحق، ومَن هو الحق؟ الله – تبارك وتعالى -. وهم يعلمون أنهم كلما صدعوا بالحق وأذعنوا له وبخغوا له وقالوا به، إنما ماذا؟ إنما يقتربون من الله، إنما يتفقون مع الله. هذا هو، هذا هو! فالاستكبار على الحق في أي موضوع – أياً كان، ليس بالضرورة أن يكون موضوعاً دينياً، في أي موضوع – في جوهره استكبار على الله. فالله هو الحق، انتهى! لن نقول لك الله يتطابق مع الحق. الله هو الحق – لا إله إلا هو -، ولذلك لا بد أن تخضع.
ومن هنا حرص العلماء الصُلحاء دائماً يا إخواني على برهنة هذا من أنفسهم، الحسن بن زياد اللؤلؤي – رضيَ الله عنه وأرضاه، من أصحاب أبي حنيفة، المُتوفى على ما أذكر سنة أربع ومائتين، من أصحاب أبي حنيفة الحسن بن زياد اللؤلؤي – أفتى مرة أحدهم بفتوى، استُفتيَ فأفتى! ثم تبيَّن له أنه أخطأ الفتوى، فعظم عليه الأمر جداً، فاكترى مَن يُنادي في الأسواق: يا أيها الناس، يا عباد الله، مَن كان الحسن بن زياد أفتاه في مسألة كذا وكذا، فها هو يُعلِمه ويُنهي إليه أنه أخطأ، ولم يُصِب. قد يقول لي أحدكم هذا يفضح نفسه. ولكنه لا يفضح نفسه، فضوح الدنيا خير من فضوح الآخرة. وعلى فكرة هذا ليس فضوحاً، هذا فضوح عند الجهلة، أرأيتم؟ ها هو يغلط ويفتي. لا! هو لا يعنيه هذا، هؤلاء الجهلة، الجهلة المُستكبِرون. الذي يقول هذا، هو يُنادي على نفسه: لو كنت مكانه ما فعلت. نعم لأنك مُستكبِر، من أهل النار، أنت – والعياذ بالله -هكذا، واضح أنك من أهل النار، أي عندك هذا الكبر. وقد يكون من العامة، لكن هذا عالم كبير، من الأئمة الأجلاء، أئمة الأحناف. لا! يُنادي على نفسه بالخطأ، أنا أخطأت. كيف هو سيفتك رقبته يوم القيامة؟ لا بد أن يُصحِّح نفسه.
وامتنع عن الفُتيا، مكث بضعة أيام لا يُفتي، انتهى! قال لك ما هذه المُصيبة التي وقعت فيها؟ ما عاد يُفتي، رفض هذا، حتى جاءه الرجل، وأخبره بالوجه الصحيح، قال له أنت أخطأت، فما الوجه الصحيح إذن؟ قال له الصحيح هو كذا وكذا وكذا. وعاد للفُتيا – رضيَ الله عنه وأرضاه -، يا سلام! ما هذا؟ التواضع للحق.
مثل هذه القصة اتفقت لسُلطان العلماء العز بن عبد السلام – رضيَ الله عنه وأرضاه – في القاهرة، أي في قاهرة مصر – حفظها الله -، ونادى أيضاً في الأسواق، أي بعث مَن يُنادي، بخطئه، بتخطئة نفسه. العز! سُلطان العلماء، إمام عصره – رضيَ الله عنه وأرضاه -.
الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم، إمام أهل الظاهر، الإمام صاحب الفنون والعلوم، الحفّاظة، مُنقطِع النظير ابن حزم، ومعروف مَن هو ابن حزم – رحمة الله تعالى عليه -، ابن حزم في كتابه التقريب لحد المنطق – هذا كتاب مشهور – يحكي عن نفسه أنه ناظر أحدهم في مسألة يوماً، والرجل كما يُخبِر ابن حزم كان في لسانه حصر أو بكو، حصر أو بكو! أي لا يُحسِن يُعبِّر تماماً، ليس فصيحاً، ليس مُبيناً، فغلبه ابن حزم، قطعه في المُناظَرة. لكن ابن حزم – إمام من أئمة الإسلام – عاد إلى بيته، وراجع بعض الكُتب، فتبيَّن له أنه هو المُخطئ وأن الرجل مُصيب، الصواب مع الرجل، قال فقلت لجليسي – أحد تَلاميذه – انظر. قال ما هذا؟ قال هذا هو. أنا غلطان – قال له -، الخطأ عندي والصواب عنده. قال فقال لي وماذا تُريد؟ أتُريد أن تُعلِمه؟ قال نعم. طبعاً – قال له ابن حزم – أُريد أن أُعلِمه، أنا كنت مُخطئاً وأنت مُحِق يا أخي. لكن هذا ابن حزم، إمام العصر! وهذا رجل عادي، ربما عالم عادي، لا يأتي شيئاً عند ابن حزم. ولو! العلم لله – تبارك وتعالى -، لا يُوجَد أحد لا يُخطئ، العلم لله – تبارك وتعالى -.
العلم للرحمن، جل جلاله وسواه في جهلاته يتغمغم.
ما للتراب وللعلوم، وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم.
هذه هي القصة كلها، أي تطلب علماً وأنت تتفنن، وتنتهي في الأخير إلى أنك لا تعرف شيئاً. كلما تعلَّمت زادك علمك علماً بجهلك. لذلك أوثق الناس من أنفسهم وأشدهم صلابةً وقطعيةً وجزماً وقسوةً على المُخالِفين، مَن هم أقرب إلى الجهل، مَن لم يتعلَّموا حقاً. ولكن العلماء الذين تعلَّموا كثيراً لا يكونون هكذا أبداً، يُصبِحون من أهل العذر، يُعطون فُسحة، وعندهم فُسحة تفسيرية وفُسحة إعذارية، لأن الواحد منهم يعرف أن المسائل طويلة وغامضة ومُعقَّدة وكبيرة، بحور نحن على شواطئها – هذا إن كنا على الشواطئ أصلاً -.
قال فدخله أمر عظيم. قال دخل جليسي هذا أمر عظيم. غير معقول! الإمام ابن حزم يُريد أن يعتذر لرجل عادي، من أهل العلم البُسطاء، والناس تسمع أن ابن حزم أخطأ؟ فقلت له والله لو أستطيع الآن لذهبت إليه وأخبرته. أنا غير قادر على أن أصبر إلى الغد أيضاً، أصبر إلى الغد؟ قد أموت، وقد كذا. يا ليت هذا الآن، ولكن الآن الدنيا ليل، وربما الرجل مُستريح أو نائم مع أهله، ولا أُريد أن أُشوِّش عليه، ولكن غداً سوف يكون هناك الخير، بكرة سوف أقول له أنت على صح وأنا على غلط. أرأيت؟ هؤلاء هم المُتواضِعون، ولذلك أوتوا العلم، ونفع الله بهم.
وهذا ابن حزم، عالم مُسلِم ظاهري، مذهبه من مذاهب أهل السُنة، تخيَّل! إسبانيا إلى اليوم تحتفل به، هناك مُجلَّدات فيه، يأتي علماء ومُستشرِقون ومن كل أنحاء العالم وخاصة العالم الإسباني، ويتكلَّمون عن ابن حزم طبعاً وفلسفة ابن حزم وإسهاماته في علم كذا وكذا؛ علم النفس وعلم العاطفة وفنون الحُب والفقه والتفسير والمنطق والأديان المُقارَنة – المِلل والنِحل -، شيء عجيب! مُجلَّدات عن ابن حزم تُكتَب، والدنيا كلها تعرف مَن هو ابن حزم. هذا هو! لتواضعه للحق، رجل رباني، رجل رباني عنده تواضع حقيقي.
عبد الرحمن بن القاسم – أحد مشاهير ونُبلاء تَلاميذ الإمام مالك (إمام دار الهجرة)، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال قلت للإمام أبي عبد الله – يعني مالكاً، رضيَ الله تعالى عنهما، قال قلت له هذا – مرةً يا إمام ما وجدت أحداً أعلم بالبيوع – باب البيوع في الفقه، باب مُعقَّد جداً جداً – من أهل مصر. قال وبِمَ ذلك؟ أي كيف هذا إذن؟ لماذا أهل مصر صاروا أعلم الناس بالبيوع إذن؟ لماذا ليس أهل الحجار؟ لماذا ليس أهل العراق؟ لماذا ليس كذا؟ لماذا مصر؟ قال بك، مذهبك انتقل إلى هناك وتعلَّموه. قال بي؟ أنا أصلاً لا أعلم البيوع، فكيف يعرفونها بي؟ انظر إلى التواضع! قال له بي؟ لا! أنا لست خبيراً – قال له – في البيوع، علمي محدود في البيوع، وأنت تزعم أن أهل مصر صاروا أعلم الناس بالبيوع بي؟ انظر إلى التواضع، شيء لا يكاد يُصدَّق.
أبو الحسن سعيد بن مسعدة المعروف بالأخفش – أحد أيضاً نُبلاء علماء النحو – هو الذي يقص القصة ويحكي الحكاية، يقول أتيت مرة مجلس الكسائي – أبي الحسن أيضاً عليّ بن حمزة الكسائي، أحد القرّاء السبعة، وأحد علماء النحو الكبار، الكسائي! من المدرسة الكوفية طبعاً، من المدرسة الكوفية المُقابِلة لمدرسة سيبويه، رحمة الله عليهم أجمعين – ببغداد، فإذا عنده الفرّاء والأحمر وابن سعدان – مشاهير تَلاميذ الكسائي في النحو – وهو لا يعرفني. هو يعرف أن هذا الكسائي، والكسائي معروف في العالم الإسلامي كله في النحو والقراءة واللُغة، إمام جليل، وكان رجلاً صالحاً، وكان رجلاً صالحاً أيضاً يعمل بعلمه، وقارئ، أحد القرّاء السبعة. قال فسألته في مائة مسألة، فأجابني، فخطّأته في المسائل كلها. تخيَّل! المائة مسألة غلط – يقول له -، غلط، ليس صحيحاً، هذا غلط، هذا غلط. قال فهّموا بي. أي التَلاميذ، يُريدون أن يقوموا له، ما هذا؟ هل أنت قليل الأدب؟ هل أنت مجنون؟ هل أنت كذا؟ أي مَن أنت؟ أنت ترى نفسك، قال فثبَّطهم – قال لهم اجلسوا، عافاكم الله -، ثم قام وقال لي أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ قلت نعم. قال فاعتنقني. انظروا إلى هذا، انظروا إلى هذا، شيء عجيب! ما هذه الأرواح الطيبة؟ ما هذه النفوس السليمة؟ ما القلوب السليمة هذه؟ ما هذا الحُب الحقيقي للحُب والحقيقة؟ هو يُحِب كل مَن ساعد وكل مَن ساهم بالبحث عن الحقيقة وتجليتها من جميع جوانبها، حتى ولو خالفهم، وحتى ولو على حسابه، وما المُشكِلة؟ أمة محمد تستفيد، العلم يستفيد، الحق يستفيد، النحو يستفيد، نعم! التفسير يستفيد، لماذا لا؟ قال وعانقني، وقال كنت أسمع بك، وأُحِب أن تكون مُؤدِّب أولادي. أي وأنت تأتي لكي تُعلِّم لي أولادي. قال فقبلت ولبيته – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -. شيء عجيب يا إخواني، شيء عجيب.
هذه قضية يا إخواني، هذه قضية، ولكن هناك أيضاً ماذا؟ ما هو أعجب. هناك مَن كان يسعى إلى البحث عن خطئه، ليس أنه إذا خُطّئ، يقبل ويُرحِّب ويُثني ويدعو، لا! يبحث عمَن يُصحِّح له، أي انتبهوا إلى الصواب. فمثلاً هناك الإمام البقاعي – برهان الدين البقاعي، رحمة الله عليه – صاحب التفسير العظيم نظم الدُرر في تناسب الآيات (الآي) والسور، اليواقيت والدُرر، تفسير عجيب وجميل جداً ونسيج وحده، وعنده كتاب آخر أيضاً في معاني السور اسمه مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، كتاب جميل، وطُبِع مُحقَّقاً – بفضل الله تبارك وتعالى -. يقول في أوله – في أوله هذا بما معنى الكلام والقول – إنه كان يقول لتَلاميذه ولكل مَن يرتاد مجلسه وكل مَن يُلِم به – يقول كنت أقول لكل مَن يُلِم بي، سواء في بيتي، في مسجدي، أو في أي مكان، كنت أقول لهم هذا – المقصود البحث عن الحق في معاني قول الله – تبارك وتعالى -، ومُساعَدة وإفادة أهل الإسلام. انظر إلى هذا، انظر إلى هذا، انظر إلى النية العظيمة في العلم، هذا الذي نُريده نحن، نُحاوِل أن نفهم القرآن بشكل صحيح، ونجعل الأمة تتنوَّر بهذه الفهوم وهذه العلوم، نُساعِد الناس، نُساعِد أمة محمد، أمة لا إله إلا الله. ووالله الذي جل مجده وعظم في عليائه – أو كما أقسم – لو عندي ما يقوم – أي لو عندي من المال ما يقوم – بإسعاد مَن يُساعِدني على تبيان خطئي، لأعطيت كل مَن دلني على خطأ ديناراً. أي ذهبياً. تقول لي أخطأت، فأقول لك خُذ لك هذا الدينار، خُذ لك هذا الدينار. يُقسِم بالله، يقول هذه نيتي، لو عندي مال، لفعلت هذا! كل واحد يُصحِّح لي ويقول لي غلطت وأنت في هذه أخطأت، أنا أُعطيه ديناراً، أنا أُعطيه ديناراً! شيء غريب.
كأنه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهو من أهل القرن العاشر الهجري – استوحى واستلهم الإمام المُحدِّث الشيخ التاجر دعلج. دعلج بن أحمد بن دعلج المُعدَّل إمام مُحدِّث، من أئمة الحديث، وعنده مُسنَد، أي صنَّف مُسنَداً، والمسانيد كثيرة في تاريخ الحديث – بفضل الله تبارك وتعالى -. ولما هذا الإمام المُعدَّل أنهى مُسنَده، أرسله إلى الإمام الجليل أبي بكر بن عُقدة، الإمام الحافظ الكبير أبو بكر بن عُقدة! أرسله إلى أبي بكر بن عُقدة، فريع ابن عُقدة أنه وجد في الأجزاء بين كل صفحتين ديناراً، ثروة! أعطاه ثروة ذهبية، تخيَّل! لأن المُسنَد هذا ليس حتى من جُزء واحد، هو من عدة أجزاء، وبين كل صفحتين وضع ديناراً، بقصد ماذا؟ هو بعثه له لكي يُصحِّح له أغلاطه، قال له أنا مُحدِّث، ولكن أنت حافظ كبير، وإمام العصر – قال له – أنت. ابن عُقدة شيء عجيب! فأنت تُصلِّح لي أي غلط عندي في الأسانيد أو في كذا، تُصلِّح لي، وكل خطأ، تأخذ عليه مالاً. أي أنا أُريد أن أُثيبك شيئاً في الدنيا بنيتي. فوضع له بين كل صفحتين ديناراً. ما هذا؟
الآن يا إخواني ننتقل إلى نُقطة ثانية، إذا بان هذا ووضح، فليس عجباً أن يكون هذا حال هؤلاء العلماء الربانيون العاملون بعلمهم، وطبعاً بين قوسين أقول (هل تتوقَّعون أن مثل هؤلاء العلماء بهذه الخصال، بهذه الصفات، بهذه الخلال، بهذه الخشية، بهذه التقوى، يتساهلون – مثلاً – في الكذب؟ مُستحيل. في المعاصي؟ مُستحيل. في الغيبة؟ مُستحيل. في تبدية مصالحهم وأهوائهم على مصلحة الأمة والدين؟ عشرة مُستحيلات، بل مليون مُستحيل. انتبهوا! وهذا هو العلم على فكرة، لماذا قلت هذه الأمثلة، ولم أُحِب أُقدِّم بمُقدِّمات؟ فقط أنا أُريد أن أضرب أمثلةً وأعرض لنماذج، وبعد ذلك نحن نقيس عليها، حتى يستقيم لنا المقياس، المسطرة، المعيار! وحتى نعلم من أين أُخذنا، من أين دُهينا، ومن أين دُهيت هذه الأمة. المصباح يا إخواني الذي ينبغي أن يُنير لنا الطريق كسرناه، ومشينا في الظُلمة، مع أننا ندّعي أن لدينا مصابيح، بالاسم وبالوهم! لا يُوجَد هذا، لو كان لدينا مصباح، لما حصل ما حصل. ولا يكون لديك مصباح، إلا إن كنت عاملاً بما علمت).
روى أبو نُعيم في الحلية، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن عمل بما علم، ورَّثه الله علم ما لم يعلم. ولذلك قالوا تسنح لأهل الله ولأهل الصلاح والخشية والصفاء والصدق والإخلاص من المعاني في كتاب الله وكلام رسوله ما لا يُوجَد في كتاب. ومن ألطف ما يكون! إذن من أينا أتيتم بها؟ هذا علم أورثه ماذا؟ العمل. العمل بما علمت!
ولذلك قلت لكم تواترت النقول عن الصحابة والتابعين وتبع التابعين ومَن بعدهم أن العلم هو الخشية، قال عبد الله بن مسعود كفى بخشية الله علماً – العالم مَن يخشى الله، هذا عالم -، وكفى بالاغترار جهلاً – المُغتَر هذا الذي لا يفهم كيف يخشى الله وكيف يتقي الله جاهل -. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس عن ابن مسعود وعن حُذيفة وعن مُجاهِد وعن الشعبي وعن يحيى بن أبي كثير وعن الربيع بن أنس وعن مسروق أبي عائشة وكثيرين، أن العلم هو الخشية، هذا هو الحال، حين لا تُوجَد خشية ولا تُوجَد تقوى، جهل! ولو كنت أكبر عالم.
ولذلك قال الشعبي الآتي. قيل له يا فقيه، يا عالم. قال لسنا بفقهاء، لسنا بعلماء، نحن نروي أحاديث – سمعنا أحاديث ونرويها -، العالم مَن عمل بما علم. قال لهم لا تُسمونا علماء وتُكبِّروا رؤوسنا، نحن لسنا علماء. يُزري على نفسه! وكان من العلماء العاملين، لكن قال لهم العلم ليس أن تكون حافظاً، والشعبي هذا كان حافظ الحفّاظ، قال الذي نسيته من العلم لو حفظه أحدكم صار به عالماً. حافظ عجيب، وبحر مُحيط، كان هكذا، ولكنه قال لك أنا في الحقيقة لست عالماً، لأن العالم ليس الحافظ وليس مَن يعرف النصوص، العالم هو الذي يعمل. وهكذا أيضاً قال أيضاً الحسن البِصري، مع اختلاف فقط في التعبير، الشيء نفسه!
ولذلك شيخنا، شيخ الدنيا، حُجة الإسلام، حُجة الله على خلقه أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – كُتبه لا تزال إلى اليوم – والله – نباريس، مصابيح هُدى. تقرأها، تُحيي الميت من قلبك – والله -، شيء عجيب، إلى اليوم! شيء غريب، وهذا لا يُهيأ لكل إمام ولكل مَن كتب وسوَّد في البياض، بحسب الإخلاص، يبدو أن النية طابع، تطبع أعمال صاحبها، حتى الكلام الذي يكتبه – هذا يكتبه -، بعد قرون يبقى فيه النور والتأثير، لأن الطابع عليه، ولو قال الكلام نفسه عالم آخر أو كتبه كاتب آخر وليس له مثل هذه النية، لا تتأثَّر به. شيء غريب! آمنت بالله، هذا دين، انتبهوا، نحن لا نتكلَّم عن فيزياء وكيمياء، نحن نتكلَّم عن دين وعلوم دينية تُراد لتزكية النفوس وتمتين الصلة بالله – تبارك وتعالى -، لذلك النية سرها وروحها.
الإمام الغزّالي تاب مما كان يُسميه رعونة، وهو كان شيخ الدنيا، علّامة الدنيا، قال لك أنا كنت أرعن، كنت جاهلاً، كنت مُغتراً. ولكن أنت عارف الفقه والأصول والفلسفة والمنطق وغير ذلك؟ قال لك هذا كله كلام فارغ، لا ينفع، العلم ما دلك على الله. وذهب وترك بناته في طوس وترك العلم ولبس المُرقَّعة. تخيَّلوا! خمس سنوات، خمس سنوات! هجر الدنيا وما فيها، ترك أهله وبُنياته وترك مناصبه، كان عنده أفخم منصب علمي، أبو حامد الغزّالي كان أكبر أستاذ في العالم الإسلامي، وكان شاباً صغيراً، في الثلاثين، وعمره خمس وثلاثون سنة كان أعظم عالم في عصره. ترك كل هذا، وظل خمس سنوات يطلب وجه الله، يطلب تأديب نفسه، تزكية نفسه، ولما حصل له هذه الاستنارة الحقيقية واتصل، كان بعد ذلك إذا مر بالأماكن التي كان يُدرِّس فيها ماذا يقول؟ ها هنا حيث كنا نعصي الله. وكان يُدرِّس القرآن والحديث والتفسير، مجالس معصية! لم يكن العلم لله هذا، كان علم انظروا إلى، أنا شاطر، فقيه، علّامة، أنا لساني طويل مُهذَّب، أعرف، أتكلَّم. كله – قال – معصية. كله هذا! والعياذ بالله، ها هنا حيث كنا نعصي الله.
شيخ مشايخ الإسلام النووي – رضيَ الله عنه وأرضاه -، مُعظَّم عند كل المُسلِمين، محبوب عند كل المذاهب، أي الرجل هذا، رجل عجيب الإمام النووي، ومات في أول الخمسينيات من عمره. الإمام النووي كان يُحاسِب نفسه أثناء الكلام، وهو يتكلَّم معك يُحاسِب نفسه على كل كلمة؛ لماذا؟ ماذا أُريد بها؟ فربما قطع الكلام فجأة وقال يا الله، إِنَّا لِلَّهِ ۩، أُخِذنا من حيث لا ندري. ويتوقَّف عن الكلام، الكلام لا بد أن يكون لله، كل كلمة تقولها لله، ليس ثأراً للنفس، ليس إظهاراً لمفخرة أو محمدة، ليس شماتةً بالناس، ليس استعلاءً على الناس، ليس استقواءً على الناس، وليس… أبداً أبداً. لا بد أن يكون لله.
هؤلاء أُناس عندهم مُراقَبة عجيبة يا إخواني، هذه المُراقَبة، هذا الدين. قد يقول لي أحدكم أهذا الدين؟ هذا الدين. وهؤلاء العلماء وهؤلاء الشيوخ. هذا هو! ولذلك وجود هؤلاء بركة ونور وحفظ وعصمة وحفظ للأمة في مجموعها، وجودهم! كلما كثروا – كثَّر الله من أمثالهم، وأعاد الله علينا من أنوارهم وبركاتهم – زادت البركة. حالة مُراقَبة دائمة، اتصال عجيب بالسماء، لكن صدِّقوني، الأمثلة حين تُضرَب بالمُعاصِرين والمُحدثين جداً من العلماء تكون أعظم تأثيراً. حين تسمع أنت عن اللؤلؤي وابن حزم والغزّالي وفلان وعلان، وهم قدماء، من ألف سنة أو خمسمائة أو ثمانمائة أو تسعمائة سنة، نعم تتأثَّر، لكن حين تسمع عن عالم مات قبل عشرين سنة أو قبل عشر سنوات أو قبل خمس سنوات أو لا يزال حياً أو مات قبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين سنة، تقول عجيب، مثل هؤلاء عاشوا في عصرنا؟ أي هل كانوا مُجايلين لأبي – مثلاً – أو مُجايلين لجدي أو حتى مُعاصِرين لي؟ أعندهم مثل هذه التقوى، مثل هذه الخشية، مثل هذه المُراقَبة والاتصال؟ إذن أُفٍ لنا وتُف. تقول عن نفسك أُفٍ لي وتُف. وتنبعث الهمة – بإذن الله -، هذا أعظم تأثيراً.
ولذلك هذه أمة الخير، والخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة. لو خلت الأمة من هؤلاء، لانتهى الأمر، يتأذَّن الله – تبارك وتعالى – بطي بساط هذه الأمة، ولن تخلو منهم، إلا أن يشاء الله في آخر الأمر، ومعروف هذا، لكي تقوم الساعة. لكن إلى اليوم لا يزال يُوجَد أمثال هؤلاء، عجب عُجاب يا إخواني، وسأُحدِّثكم بنماذج يسيرة وسريعة ومُؤثِّرة.
تعرفون الشيخ الشهيد العلّامة محمد سعيد رمضان البوطي، في الشام معروف، ومعروف في الشام ربما أكثر منه والده مُلا رمضان، معروف بمُلا رمضان. هذا كان مُعظَّماً عند كل علماء وأولياء الشام، عند الكبير قبل الصغير، مُلا رمضان – يقول لك – هذا، معروف بالورع التام والخشية التي لم يُسمَع بمثلها إلا قليلاً، آية من آيات الله.
مُسلِم من أصول كُردية، من جزيرة بوطان، جزيرة ابن عمر، سُبحان الله! وجاء إلى الشام، عالم على مذهب الشافعي وعلى العقيدة الأشعرية، وهو رجل صالح، صالح عجيب وورع.
مُلا رمضان – قدَّس الله سره – حصل معه الآتي، والناس لم تعرف هذا إلا من خلال هذه القصة التي رواها ابنه الشهيد العلّامة البوطي – رحمة الله عليه -، الذي ظُلِم كثيراً في حياته وبعد وفاته. وأُريد أن أقولها، والرجل في دار الحق – رحمة الله تعالى عليه، وأعلى الله مقامه -، والحمد لله رؤيت له مرائي كثيرة جداً مُبشِّرة، كثيرة جداً! من أحبابنا حتى وإخواننا وأهلينا، رأوا هذه المرائي، ووالله – وأنا على المنبر أقولها، ووالله – تتطابق بعض هذه المرائي تطابقاً تاماً، كأن الله يقول هذا هو الحق. رؤيَ هذا الرجل الشهيد السعيد في المنام عملاقاً كبيراً، وقد كان ماذا؟ أقرب إلى القصر، منه إلى الطول. أليس كذلك؟ وواضحة هذه الرؤيا، أنه عند الله له مقام عظيم.
الشيخ البوطي – رحمة الله عليه – إنصافاً له وهو في دار الحق في الثمانينيات لما أنكر الأحداث التي وقعت، وكان له وجهة نظر مُعيَّنة حول الاصطدام بالسُلطات، وكان له وجهة نظر فيما حصل في الجزائر، أُنكِر عليه جداً، وقيل إنه عالم سُلطان ويُنافِق السلاطين ويُنافِق حزب البعث والبوطي كذا وكذا، ودعوا عليه وسبوه وما إلى ذلك. ثم بعد سنوات مُعظَم العلماء والمُفكِّرين الذين أنكروا عليه، اعتذروا وقالوا هو رأى ما لم نر، هو كان مُحِقاً وكنا على باطل. وعلى كل حال هو أجره على الله – رحمة الله عليه -، وهو ليس أول مَن يُفعل معه هذا، فأبو حنيفة عاش ومات والناس فرت جلده فرياً، أبو حنيفة – الناس لا تعرف ربما هذا – أُلفت مُصنَّفات في تكفيره وسبه والطعن فيه. أبو حنيفة، الإمام الأعظم! لكن رُغماً عنهم وعن مُصنَّفاتهم وعن أقاويلهم أبى الله إلا أن يبقى الإمام الأعظم، أعظم ما تعبَّد المُسلِمون حول العالم بمذهبه هو مذهب الإمام أبو حنيفة، من ناحية العدد، سر عند الله! لكن في حياته كان زنديقاً وكان عدواً للإسلام وكان عدواً للسُنة وعدواً لرسول الله وأشأم مولود وُلِد في الإسلام، ولو تقرأون ماذا كتب فيه العلماء والأئمة – هي موجودة إلى اليوم، وبالأسانيد أيضاً – في كُتبهم ومُصنَّفاتهم، تقشعر أبدانكم. وبقيَ أبو حنيفة أبا حنيفة، لأن إنما الأعمال بالنيات. والله من وراء قلب كل امرئ ولسانه. الله يعلم الحقائق، أي ليس كما يقول الآخرون، فهكذا حصل مع الشهيد البوطي.
والشيء نفسه وقع لما حصل الحراك في سوريا، قال لهم دعوا هذه، هذه لن تكون ثورة، هذه ستكون فتنة، هذا باب فتنة يا أولادي، يا أحبابي، يا أهل الشام، إن كُسِر هذا الباب، لن يُسَد بعد ذلك، ستدفعون الثمن. قالوا عالم السُلطان، باع نفسه للسُلطان. وظلوا يلعنونه ويسبونه، وإلى اليوم يفعلون، وبعد أن تبيَّن أن الحق كان معه وأنهم لم يصلوا إلى ما أرادوا ولم ينجح هذا الحراك أو الثورة ولم يحكموا ولم يُوفَّقوا، لا تُوجَد فائدة، قست القلوب، لم يقولوا نستغفر الله، ونتعذر من الإمام الشهيد، ظلمناه حياً وميتاً. لا! هو مُخطئ وعالم سُلطان، وعالم سُلطان! عالم سُلطان؟
تعرفون عالم السُلطان مَن هو، عالم السُلطان أول خصيصة فيه وأول صفة فيه أنه يبيع دينه للسُلطان، مُقابِل ماذا؟ بعض دُنيا السُلطان. وكما قيل فعلاً من الذين يكونون علماء سُلطان؟ قيل أو قال أسلافنا والله لا يُعطيك السُلطان شيئاً من دُنياه حتى يأخذ من دينك أضعاف ما أعطاك. وهذا صحيح، هؤلاء السلاطين وأهل الدنيا غير مُمكِن أن يُعطيك الواحد منهم ويجود عليك بشيء من دنياه – أي من المال ومن الذهب – إلا بعد أن يُصيب من دينك أضعاف ما أصبت من دنياه. هل البوطي كان ذلك؟ سوف نرى فقط ونمضي، نرجع إلى أبيه مُلاه رمضان – قدَّس الله سر الرجلين الصالحين -، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ۩، وأربعة أجيال! وابنه الدكتور توفيق عالم صالح ورجل مُبارَك، وابن ابنه الدكتور محمود عالم صالح ورجل مُبارَك، أسرة مُبارَكة والله!
الشيخ البوطي عاش ومات، وهو – لا أدري كان يعيش في أي طابق بالضبط، ربما في الثامن أو في الرابع – في عمارة، ويصعد إلى شقته بلا اسانسير – بلا Lift -، برجليه، الشيخ البوطي!
الشيخ البوطي لما استُشهِد عشية الجُمعة – ليلة الجُمعة، أي يوم الخميس – وكان صائماً، وجاء إلى المسجد، صلى المغرب وجلس يُفسِّر كتاب الله – تبارك وتعالى -، وهو صائم، تخيَّل! نعم، وحدث ما حدث، وانتقل شهيداً سعيداً موفوراً، لم ينقص من بدنه شيء، ابن ابنه الدكتور محمود – وهو عالم مثل أبيه ومثل جده، وادخلوا إلى اليوتيوب YouTube – عنده مُحاضَرة جميلة طيبة، حوالي – أي قريبة من – ساعة ونصف عن جده، طُلِب منه أن يُلقيها، بين علماء أفاضل صُلحاء، وما أكثر صُلحاء الشام وعلماء الشام الصالحين! وحسبنا الله ونعم الوكيل في كل مَن أراد بالشام شراً وفي كل مَن أذاقها العذاب. بلد مُميَّزة جداً يا أخي – يشهد الله – بعلمائها الصالحين الربانيين، شيء لا يكاد يُصدَّق، شيء لا يكاد يُصدَّق! ومَن يقرأ ويتتبع، يعرف هذا الشيء.
فيقول لما سقط شهيداً، كانت هناك جُثث، خمسون واحدا – أي خمسون شهيداً – ارتقوا إلى الله – تبارك وتعالى -، قال والله ما عرفنا أين هو إلا بنور سطع من وجهه. اسمعوها، نور! كان هناك ظلام وانقطعت الكهرباء. قال انقطعت الكهرباء، فما عرفنا أين هو إلا بنور كان يخرج من وجهه – قدَّس الله سره -. ولذلك رأى بعض الناس الرسول في المنام وهو يُثني عليه، فقيل له يا رسول الله مَن قتله؟ قال طلبة جهنم. طلّاب النار! الذين قتلوا عالم السُلطان، وسوف نرى عالم السُلطان طبعاً!
قال ثم ذهبت – أعتقد في الليلة نفسها أو الليلة المُوالية – إلى خالتي أم فلان – التي هي زوجة جده، الشهيد البوطي -، ذهبت إليها أُواسيها وأُعزيها وكذا، فقالت لي يا ابني، يا محمود، (الله يخليك) اذهب بأي طريقة وحصِّل لنا خُبزاً، جدك تُوفيَ ولم يدع لنا شيئاً. ولا أي دولار! قال والله جدي ما ترك من الدنيا إلا سبعين ليرة، كانت في جيبه. تعرفون كم تُساوي السبعين ليرة؟ نصف يورو. نصف يورو! هذا ما عند الدكتور البوطي، قال لك عالم سُلطان. أين؟ أين القصور؟ أين الضياع؟ أين البساتين؟ أين الملايين؟ وأين الكونتو Konto – أي الحساب البنكي -؟ ولا شيء. قال وكان جدي – رضوان الله عليه – كل ما زاد عن حاجته، يتصدَّق به. انظروا إلى البوطي، هذا البوطي! العالم الفيلسوف المنطيق المُحدِّث المُناظِر المُتكلِّم المُفكِّر، والشيخ الأصولي الفقيه الصوفي، جامع العلوم! كان مُتفنِّناً البوطي، وعنده كل هذا التواضع. ما زاد عن حاجته، تصدَّق به لله.
لكن انظروا البوطي ابن مَن إذن؟ ابن مُلا رمضان – قدَّس الله سره الكريم -، الذي كان في حال مُراقَبة مع الله، ونحن عرفنا هذا الشيء من خلال قصة حكاها البوطي في كتابه هذا والدي. أنصحكم أن تقرأوا هذا الكتاب، كتاب مُفيد جداً في إنعاش النفس وتزكيتها وتذكيرها بالله، من أحسن ما تقرأون.
حكى أن والده كان مرةً مُسافِراً – أعتقد كذلك، ولعله كان مُسافِراً في لبنان -، فمر بُستان في فصل الحمضيات؛ البرتقال وما إلى ذلك. بُستان عجيب، تتدلى منه جواهر الحمضيات؛ برتقال وجريب فروت وليمون أصفر! فالرجل – سُبحان الله هكذا، أي هذه لحظة تجلى – جعل يتأمَّل في هذا الجمال الإلهي وهو مأخوذ، قد يقول لي أحدكم هذا شيء جميل، ينظر في آيات الله. لكن انتبهوا، سوف نرى ما حصل. فمر به رجل، وهو لا يدري إنسٌ هو أم جنٌ أم ملك، رجل! أحدهم مر به، واقترب منه، وقال له أين منزل صبّاغ الليمون؟ قال فقلت له لست من أهل هذه البلدة، أنا مُسافِر. قال ثم الرجل مشى واختفى. ذهب وغاب! قال فاستيقظت. صبّاغ الليمون! الليمون لا يُصبَغ، الليمون الله هو الذي يصبغه – لا إله إلا هو -، قال فاستيقظت من غفلتي. هو رأى أنه حين استُغرِق في مشهد الحمضيات – الليمون والبرتقال الجميل والألوان وخُضرة الأشجار -، كان في غفلة عن مشهد ماذا؟ الصانع المُبدِع – لا إله إلا هو -، استُغرِق في النعمة، وغفل للُحيظة عن مشهد المُنعِم، فسيَّر الله له مَن جاءه وأسر إليه – بينه وبينه -، قائلاً أين منزل صبّاغ الليمون؟ قال له أنت يُعجِبك كثيراً الليمون؟ مَن صبّاغه؟ يا الله! شيء لا يكاد يُصدَّق، هذا مُلا رمضان.
وأختم هذه الخُطبة – إخواني وأخواتي – بقصة جميلة جداً، وأرجو أيضاً أن تعودوا إليها في مظنتها، يُوجَد على اليوتيوب YouTube مُحاضَرة من أروع وأبرك ما تسمعون، للشيخ الذي أحسبه من رجال الله الصالحين أيضاً، الشيخ العالم المُقرئ الدكتور أيمن سويد – حفظه الله وأمد في عُمره -، الذي من المؤكد أنكم ترونه في قناة اقرأ، والذي من المُؤكَّد تخرَّج به وتعلَّم عليه ملايين – جزاه الله كل خير، هنيئاً له -.
الشيخ الدكتور المُقرس أيمن سويد هو تَلميذ الشيخ المُقرئ العلّامة الإمام عبد العزيز عيون السود – قدَّس الله سره الكريم -، كان هذا أمين الإفتاء بحمص، وشيخ القرّاء. شيء عجب! حين تسمعون هذه المُحاضَرة، تجدون شيئاً عجباً. هذا الشيخ – عبد العزيز عيون السود – أعتقد أنه تُوفيَ سنة تسع وسبعين وألف وتسعمائة، أي مُنذ أقل من أربعين سنة تقريباً، هكذا! هذا الشيخ عبد العزيز عيون السود، وله مُؤلَّفات حافلة، ويُنتفَع بها في علم القراءات والتجويد، وكان عالماً في الفقه وعلوم أُخرى أيضاً شرعية. انظروا إلى القصة، انظروا إلى العجب يا إخواني. وتذكرون أنني قبل خُطب – العبد الفقير -، ذكرت شيئاً عن مولانا العارف بالله الشيخ محمد مُتولي الشعراوي – قدَّس الله سره الكريم -، وسأُشير إليه في الخُطبة الثانية إشارة سريعة.
الشيخ الشعراوي حكى الآتي، لما عملوا الختمة المُشترَكة في الستينيات. قال الشيخ المنشاوي (محمد صدّيق المنشاوي) وإخوانه الأربعة – وهم مُصطفى إسماعيل، والشيخ البنا، والشيخ عبد الباسط، والشيخ الحُصري، رضوان الله على أرواحهم الطاهرة جميعاً، هؤلاء العمالقة الصُلحاء – ركبوا مركباً أبحر في بحر كتاب الله – تبارك وتعالى -، وسيظل مُبحِراً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. أي نبوءة، نوع نبوءة! لماذا يا شيخ الشعراوي؟ أي ومَن أدراك؟ ولماذا هؤلاء بالذات – أي المنشاوي، والحُصري، وبقية مَن ذكرناهم -؟ الآن ستعلمون لماذا. أنا لم أفهم هذا في وقته ولم أعرف لماذا، والآن فهمت، وستعرفون لماذا.
الشيخ عبد العزيز عيون السود – قدَّس الله سره – في أول حجة حجها – وكانت أول حجة له، وهي أول حجة لأبيه أيضاً، الرجل الصالح الفاضل، وكانا هناك في المدينة المُنوَّرة، على مُنوِّرها مليون تحية وسلام إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – أوصاه أبوه، قال له يا ابني، يا عبد العزيز، انزل إلى مصر، اذهب إلى شيخ عموم المقارئ المصرية، الشيخ عليّ بن محمد الضبّاع – رضوان الله عليه -. شيخ عموم المقارئ، وتَلميذ الشيح المُتولي، إمام الدنيا! الشيخ المُتولي إمام الدنيا في علوم القرآن وقراءاته، شيء عجيب! هذا – الشيخ الضبّاع – تَلميذه، وكان شيخ عموم المقارئ المصرية، وتحت يديه ستون ألف قارئ ومُقرئ. انظروا إلى البركة، انظروا إلى البركة! كيف الله يحفظ كتابه؟ وبمَن يحفظ كتابه؟ انظروا مَن هو الضبّاع هذا.
قال فقلت له لبيك يا أبتِ. قال ونزلت إلى مصر. لما أتيت إلى مكتب الشيخ الضبّاع – قال – وجدت الكثير من الناس، هناك حشد جامع عجيب، سرا طويل. وطبعاً مصر كبيرة – ما شاء الله – ومُبارَكة، وكل يوم تطلع أُناساً. قال فلما لمحني – وطبعاً هل هو رآه قبل ذلك؟ ولا مرة. لا هذا رأى هذا ولا هذا رأى هذا من قبل، أول مرة! والشيخ عبد العزيز لا يزال طالباً صغيراً، أي في العشرين من عمره، ربما عمره أربع وعشرون أو خمس وعشرون سنة، لا أحد يعرفه، وليس عالماً وليس مُقرئاً، ولا يزال في بدايته. يحتاج إلى أن يأخذ إجازات، ولا أحد يعلم به، أي غير معروف، أبداً أبداً – أومأ إلى مُدير مكتبه، فصرف الناس، على غير عادته. قال لهم الكل يأتي غداً. مُباشَرةً! ذهبوا الناس، مئات الناس.
قال ثم قام إلىّ وعانقني قائلاً أهلاً وسهلاً يا ابني، تُريد أن أُعطيك الإجازة؟ إجازة ماذا؟ أحتاج إلى أن أقعد عندك فترة طويلة، لا بد وأن آخذ القراءات السبع، ثم الثلاث المُوفية، ثم الأربع المُوفية للعشر، ومن طريق الشاطبية ومن طريق الدُرة ومن طريق كذا. مسألة كبيرة هذه! وأُريد أن آخذ منك أيضاً رسم الآي وعد الآي، علوم كثيرة هذه، وتحتاج إلى وقت طويل. قال قلت له يا شيخي، يا شيخي أنا جئت أتعلم، أقرأ عليك. قال على بركة الله يا بُني. قال وأعطاني كل وقته. كان يُعطيه وقتاً طويلاً جداً ويهتم به بشكل شخصي. قال وأنا أتعجَّب، لماذا؟ قال حتى منّ الله – تبارك وتعالى – وأتممت عليه هذه العلوم وأخذت الإجازة الشريفة – انظر إلى هذا – بالنسد المُتصِل منه إلى رسول الله. شيء مُشرف، شرف! هذا هو الشرف. من… من… من… إلى رسول الله، عن جبريل، عن ربه.
(ملحوظة هامة) قال فضيلة الدكتور عدنان إبراهيم آسف؛ نظراً لأنه حاول حبس دموعه وهو يتحدَّث، ثم أكمل قائلاً:
وانظر الآن مَن هو الشيخ الضبّاع، قال بعد أن أنهيت قلت له يا سيدي، يا ليت تُشرِّفنا في الشام، تزورنا في الشام. فقال إن شاء الله يا بُني، إن شاء الله وقدَّر وكتب لي آتي وألتقي بأبيك، كما التقيته بالمدينة. فقلت يا شيخي بالمدينة؟ أبي لم يحج قبل هذه السنة! قال رأيته والتقيته وأراني إياك، وقال لي هذا ابني عبد العزيز، أوصيك به. ولذلك يا بُني لما أتيتني عرفتك، وقمت إليك واستقبلتك. شيء لا يكاد يُصدَّق! فقلت له يا سيدي أنت عرضت علىّ الإجازة من أول يوم، كيف عرفت أنني أصلاً أحفظ القرآن وأُجوِّده؟ قال يا بُني الله – تبارك وتعالى – أعطاني نوراً أعرف به أهل القرآن إذا رأيتهم. هذا الشيخ الضبّاع، وهذا كتاب الله وهكذا يُتلى ويُقرأ، وهؤلاء هم الشيوخ.
أما الشيخ عبد العزيز فأحلتكم أنا على مُحاضَرة تَلميذه البار الوفي الشيخ الدكتور أيمن سويد، ارجعوا واسمعوا، واسمعوا فصولاً من ورع هذا الشيخ الإمام، من ورع هذا الإمام، من حرصه على العبادة، ومن قُربه إلى الله. شيء لا يكاد يُصدَّق!
ذكرت لكم مُلا رمضان البوطي – قدَّس الله سره ومقامه عند الله وعند أولياء الله -؛ مُلا رمضان والد مولانا الشهيد البوطي – قدَّس الله سره -. مُلا رمضان يكبر الشيخ عبد العزيز عيون السود بثلاثين سنة تقريباً، أسن منه! وكان الشيخ عبد العزيز كلما نزل من حمص إلى دمشق، لا يكاد يتخلَّف عن زيارته، لا بد أن يزور مُلا رمضان، ويجلس إليه…
(ملحوظة هامة) قال الدكتور عدنان إبراهيم في مُنتصف حديثه جزاك الله خيراً؛ نظراً لأن أحدهم أعطاه منديلاً، ثم أكمل حديثه قائلاً:
ويتبرَّك به، ويستفيد منه.
يقول الدكتور أيمن أنا كنت معه في هذه المرة. قال كنت معه، وجلسنا عند مولانا الشيخ مُلا رمضان البوطي. قال وسُبحان الله، امتحان إلهي! في لحظة مُعيَّنة الشيخ مُلا ذكر إنساناً هكذا، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۩، في لحظة مُعيَّنة هكذا ذكر إنساناً واسترسل في الحديث عنه، أي هذه غيبة، وهذا مُلا رمضان، لا يفعل هذا أبداً، كيف صار؟ ابتلاء من الله، وتعليم لنا، لكي نتعلَّم نحن الآن. قال وكنت جالساً، فما كان من الشيخ عبد العزيز عيون السود – وهو بمثابة تَلميذ عند الشيخ مُلا رمضان، وأصغر منه بثلاثين سنة – إلا أن رفع يده هكذا – وكان معه عصاه -، أي كفى يا شيخ، حسبك. تخيَّلوا! لم تمنعه هيبة الشيخ وولايته وصلاحه وكبر سنه وفضله عليه أن يقول له لا، غيبة الناس لا. أرأيتم؟ هذا العلم، هذه المشيخة.
فالشيخ مُلا رمضان لما رأى هذه الحركة أدرك أنه يرتكب إثماً، قال جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً. ثلاث مرات! استيقظ، الله أكبر، ما الذي فعلته؟ وكيف دُهيت أنا؟ كيف دُهيت؟ كيف انزلقت إلى غيبة إنسان؟ يقول ليس هذا العجب، يقول الدكتور أيمن بعد سنوات يجلس إلىّ أحد طلّاب العلم – أو العلماء -، فيقول لي يا دكتور أيمن كنا قبل فترة – قبل أيام، بعد سنوات – عند سيدنا ومولانا مُلا رمضان البوطي، فقلنا له أنت سيدنا، أنت شيخنا، أنت… وأنت… وأنت… قال حسبكم، أنتم بهذا لا تُعينوني على نفسي، ولكن تُعينون نفسي علىّ، الشيخ عبد العزيز عيون السود كان أخاً صالحاً، اغتبت رجلاً مرةً وهو حاضر فنهاني، جزاه الله خيراً. نحن نقول أي فضح نفسه. ولكن هم لم يفضح نفسه، هو غير قادر على أن ينسى هذا الفضل للشيخ عبد العزيز الذي قال له كفى، لا تغتب أحداً، هذا يُغضِب الله.
هؤلاء أُناس موصولة بالله يا إخواني، هذا هو العلم، هذا هو القرآن، هذا هو الشرع، إذا حلت أنواره قلب عبد صادق.
اللهم دلنا على مَن يدلنا عليك، وأقذف أنوارك في قلوبنا وفي سوح أنفسنا يا رب العالمين، حتى نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحايه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
روى الإمام الترمذي في سُننه عن جُبير – بإسناده طبعاً – بن نُفير، عن أبي الدرداء – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاه -، أنه قال – أي أبو الدرداء – كنا في مجلس رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يوماً، إذ شخص ببصره إلى السماء، ثم قال سُبحان الله، هذا أوان يُختلس العلم من أمتي، حتى ما يقدرون منه على شيء. عجيب! قال هذا، العلم سيُؤخذ، لن يصير هناك علم. قال فقال له محمود بن لبيد – صحابي من الأنصار، وصحابي جليل – يا رسول الله، وكيف يُختلس منا وعندنا القرآن – أو معنا القرآن -؟ فوالله لنقرأنه ولنُقرئنه أبناءنا ونساءنا. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأحسبك من أفقه رجل بالمدينة – أي كنت أظنك أفقه من هذا -، هذه التوراة والإنجيل بين يدي اليهود والنصارى، فما أغنت عنهم. قال له ليس هذا العلم، أنك تقول قال الله وقال الرسول وتكون حافظاً، ليس هذا العلم – قال له -، ألا تقرأون كتاب الله؟ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۩. هذا العالم، ليس حافظ القرآن الذي فقط يُصوِّت به ويُنغِّم به ويتغنى، وينام عنه في الليل، يتوسده. لا! هذا يقوم، الناس نومى وهو قائم يبكي، يُناجي ربه، يتملقه، يضرع إليه. هذا هو! هؤلاء أهل العلم – الله قال – وهؤلاء العلماء، هؤلاء العلماء!
يقول جُبير بن نُفير فذهبت إلى عُبادة بن الصامت – هاله حديث أبي الدرداء، أي حديث عجيب هذا ومُخيف، فما الذي يحصل؟ ما تأويله؟ قال فذهبت إلى عُبادة بن الصامت -، فقلت له يا عُبادة، أما تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟ ثم ذكرت له ما ذكر أبو الدرداء. أي أن النبي قال كذا كذا وأن العلم سيُختلس. فقال صدق أبو الدرداء، وإن شئت – إن شئت يا جُبير بن نُفير – أخبرتك بأول علم يُرفَع من الأمة. طبعاً سيُرفَع شيئاً فشيئاً وليس مرة واحدة. قال الخشوع. أرأيتم فقه الصحابة؟ يُسمون الخشوع ماذا؟ علماً. هذا العلم! العلم هو الخشوع والتبتل والزُهد والورع والخشية والتقوى والخوف والرجاء والاعتماد والإحساب والتوكل. هذا العلم! قال له الخشوع. يُوشِك أن تدخل مسجد جماعة – ليس مسجداً عادياً، هذا مسجد جماعة، تُجمَّع فيه الجماعة والجُمعة، مسجد جماعة -، فلا ترى رجلاً خاشعاً.
هناك مَن يقف وهو يتلفت ويحك رأسه ويهندم ملابسه! بعض الناس يُمكِن أن يُخرِج التليفون Telephone من جيبه ثم يرجعه، نعم! بعض الناس يُمكِن أن يعد النقود، يعدونها ثم يرجعونها، وكل هذا رأيناه في التلفزيون Television، غير معقول! وأين هذا؟ أنت بين يدي الله يا رجل، لو كان بين يدي ملك، لكان من المُستحيل أن يفعل هذا، أليس كذلك؟ لأصبح مثل الصنم خشوعاً، والخشوع هو عدم الحركة، هذا الخشوع، عدم الحركة! يُوشِك أن تدخل مسجد جماعة، فلا ترى رجلاً خاشعاً.
وأختم بحديث أبي أُمية الشعباني، يقول أتيت أبا ثعلبة – وهذا صحابي أيضاً – جرثوم بن ناشر، فقلت له ما تصنع بهذه الآية؟ قال أي آية؟ أي آية؟ قال قلت قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩، قال له ما هذا؟ آية عجيبة هذه، تقول اهتم بحالك، أصلِح نفسك، وليس عليك من الذين ضلوا، إذا كنت أنت مُهتدياً، فلا عليك منهم. قال فقال لي – أي الصحابي الجليل، أبو ثعلبة الخُشني، جرثوم بن ناشر – على الخبير سقطت. سُبحان الله! كيف الله يسَّرك لي هكذا ويسَّرني لك؟ عجيبة هذه، أي نيتك صادقة بمعنى الكلام. على الخبير سقطت، لقد سألت عنها رسول الله. أرأيت؟ فعلاً صدق النوايا! هذا أبو أُمية الشعباني، وهو رجل صادق صالح، تابعي صالح، وهذا صحابي طبعاً، فماذا نقول؟ صحابي! من أصحاب رسول الله، وهو صادق. انظر إلى هذا، الله يسَّر له من سأل عن الآية رسول الله، قال له على الخبير سقطت. لقد سألت عنها رسول الله – صلى الله عليه وآله -. فقال بلى، ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المُنكر، حتى إذا رأيت شُحاً مُطاعاً – هناك بُخل، يُوجَد بُخل، ولا يُوجَد عطاء، لا يُوجَد عطاء لله وللإسلام وللأمة والدين، لا يُوجَد هذا، دنيا! حتى إذا رأيت شُحاً مُطاعاً -، وهوىً مُتبعاً – كل واحد يتبع هواه، الذي يطيب له ويلذ له ويُناسِبه؛ بلا إسلام، بلا حقيقة، بلا حق، بلا تزكية، شُحاً مُطاعاً وهوىً مُتبعاً -، ودنيا مُؤثَرةً – دنيا تُؤثَر على الآخرة، الدنيا هي ماذا؟ دنياهم وآخرتهم. لا تُوجَد آخرة! الدنيا قبل كل شيء، وآخر صفة والعياذ بالله ما هي؟ -، وإعجاب كل ذي رأي برأيه…
تأملت في هاته الأربع الصفات يا إخواني – وأسأل الله العفو والعافية -، ورأيتها مُتفشية مُنتشِرة اليوم بشكل مُريع ومُخيف؛ شُح مُطاع، هوى مُتبَع، دنيا مُؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه. حتى أنني أرى بين اليوم والآخر مَن يُكفِّر علماء المُسلِمين وصُلحاء المُسلِمين، وهو ليس من أهل العلم، ويُقِر على نفسه بالجهل، ويقول لك أنا لست عالماً. وطبعاً واضح من كلامه أنه ليس عالماً، ولا يعرف ما العلم، واضح من كلامه طبعاً! المُتكلِّم حين يتكلَّم لثلاث دقائق قدام أي عالم، يستطيع العالم أن يعرف هل هو – أي هذا – عالم أم جاهل أم مُدعٍ، يعرف؛ لأنه في ثلاث دقائق، هل تعرف أنت تقول كم جُملة وكم كلمة؟ يضح فيها علمك بالنحو وعلمك بالصرف وعلمك بالبلاغة، وتضح المعلومات التي تأتي بها. يقدرون على أن يعرفوا أين أنت، ولا يُوجَد كلام غير هذا! أما الجاهل فهو مَن لا يعرف، الجاهل يُحكِّم نفسه في كبار العلماء.
والله لقد رأيت مَن كفَّر من علماء المُسلِمين، بل من أكابر علماء المُسلِمين في هذا العصر، في جُملة واحدة هكذا سرداً، قال فلان… وفلان… وفلان… كفرة، زنادقة، فجرة، سُخفاء، كذا وكذا. كفرة! وظل يُصِر على تكفيرهم، وهو رجل جاهل، ليس من أهل العلم، وهذه ليست البلية، الأعظم من هذه البلية أن هناك مَن يتبعونه ويستمعون إليه وهم بالآلاف، ويستحسنون قوله ويقولون له جزاك الله يا شيخنا، وأنت نوَّرتنا، وأنت فتحت علينا، وأنت تقول بالحق. شيء مُخيف، بلاء عظيم يا إخواني، بلاء عظيم!
النبي يقول حتى إذا رأيت شُحاً مُطاعاً، وهوىً مُتبَعاً، ودنيا مُؤثَرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أيام الصبر، القبض فيها على الدنيا كقبض على الجمر، للعامل منهم أجر خمسين منكم إذا عمل بعملكم. في رواية يا رسول الله منا أو منهم؟ قال بل منكم. وفي رواية أُخرى لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنعِشنا بمعرفة الحق، وفهم الحق، والخضوع للحق، والقول بالحق، والمصير إلى الحق، فالحق أحق أن يُتبَع، والعود أحمد.
اللهم إنا نسألك أن تهدينا إلى مراشد أمورنا، اللهم أصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيما عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، هُداةً مًهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
اللهم أصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين، اللهم دلنا على مَن يدلنا عليك برحمتك يا أرحم الراحمين، آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها.
نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمَع، ومن عمل لا يُرفَع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنات والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
(تكملة لموضوع الخُطبة)
(رسالة الخُطبة ونصائح لطلّاب العلم)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يُحِب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، واعف عنا وعافنا، وأصلِحنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخواني وأخواتي:
قبل أن أشرع في جواب ما تيسَّر من الأسئلة، أُحِب فقط أن أختصر رسالة الخُطبة، قد يسأل سائل ما رسالة هذه الخُطبة؟ في الحقيقة هذه الخُطبة أنا حدَّثتكم عن الباعث القريب لها، الباعث البعيد والعميق لها هو نصيحة – أي نُصح، أسأل الله أن أكون صادقاً ومُخلِصاً في إشفاق هذه النصيحة – بالذات للشباب والشابات، وهي للجميع أيضاً بلا شك، لكن بالذات لهم؛ لأن المُستقبَل مع أبنائنا، مع شبابنا وشوابنا، الذين أشعر حقيقةً بالحُزن والحسرة والألم والرثاء العظيم بسببهم، لأنني أرى الحيرة التي يتهوكون فيها، وهم من حيث الأصل وفي الجُملة معذورون، لأنهم يرون ألوف الطرق، ألوف الآراء، ألوف الأقوال، ألوف الاتجاهات، وطبعاً الكل يزعم أنه ماذا؟ أنه أصاب الحق، وأنه أسعد بالحق، وأنه… وأنه… والشباب مُتهوِّكون، الشباب مُتحيِّرون.
وقديماً قيل الجاهل – أعزكم الله وأكرمكم – لا يدري رُتبة نفسه، فأحرى ألا يدري رُتبة العالم! لأن الجاهل لا يعرف مقام نفسه، هو اسمه جاهل، حين تقول له أنت تُوزِّن ماذا؟ لن يعرف، لأنه جاهل، فكيف يأتي الجاهل ويُوزِّن العلماء؟ وليس يُكفِّر العلماء أيضاً، تكفير! فهذه مُصيبة وبلية عظيمة.
ولذلك نصيحتي لإخواني وأبنائي وبناتي من الشباب والشابات نصيحة بسيطة، لا يُوجَد حل بالرثاء نفسه، أي أن نرثي ونشكو ونبكي ونعمل خُطباً مثل هذه أيضاً فقط من ناحية الإدانة، أي أن هذا وضع غير سليم وما إلى ذلك، هذا ليس حلاً، لا! لا يُفيد شيئاً. الذي يُفيد – وهو حل تربوي عملي تعليمي – يا ابني، يا بنتي، يا أخي، يا أختي، ويا أحبائي، هو أن تأخذوا الأمر بجد. وطبعاً جميل أنك مُهتَم، بغض النظر عن أي شيء، حتى لو اتبعت بعض المُتنطِّعين والمُتشدِّدين وربما… لا نُريد أن نتكلَّم بلُغة أصعب من هذه، مُفيد وجميل أنك مُهتَم، أنت مُهتَم؛ مُهتَم بأمتك ومُهتَم بدينك، وهذا على رأسنا من فوق، يُحمَد لك ويُحسَب لك، لكن بما أنك مُهتَم، كُن جاداً. لكي تكون جاداً اشرع في التعلم، دعك من مُتابَعة فلتان وزيدان وعدنان وعثمان، دعك! لأنك لن تستطيع أن تنخل وأن تُغربل، فتعرف مَن يحكي كلاماً صحيحاً، مَن يحكي كلاماً غالطاً، مَن يعرف، مَن لا يعرف، مَن دعي، مَن أصيل؟ مَن المُتوهِّم، ومَن المُحقِّق، لن تعرف، مُستحيل! هم أنفسهم لا يعرفون، كل الأدعياء منهم والمُتوهِّمين وما إلى ذلك لا يعرفون، باستثناء فقط المُحقِّقين والعارفين، وهذا عن علم وعن نور إلهي، فكيف أنت ستعرف؟ فاترك هذا، هذه خُطة سيئة، ستزيدك خبالاً وعنتاً.
ابدأ بالتعلم، تعلَّم العلوم على أصولها، ابدأ بعلوم الآلة، أي كل العلوم التي يُسمونها علوم الآلة وعلوم الوسائل، تعلَّم النحو، تعلَّم الصرف، تعلَّم علوم البلاغة الثلاثة، تعلَّم المنطق وأصول حتى الحكمة، تعلَّم أصول الحديث وأصول الفقه واللُغة، كل هذه العلوم علوم آلة، هذه كلها علوم ماذا؟ آلة، علوم آلة. تعلَّمها! وبعد ذلك تعلَّم علوم المقاصد، واختُلِف في التفسير، هل هو من علوم المقاصد أو ليس منها ومن كذا؟ والأرجح أنه من علوم المقاصد بصراحة، وبعض العلماء قال لك لا، علم التفسير من علوم الآلة. لا! أي الأرجح أنه من علوم المقاصد. وادخل في العلوم بعد ذلك، ادخل في الفقه، ادخل في التوحيد، وهذا أهم شيء، أي العقيدة، ادخل في التفسير، ادخل في علوم أُخرى. أهلاً وسهلاً، لكن على أُسس.
والأهم – وهذا الجُزء الثاني من رسالة الخُطبة، ونمضي إن شاء الله – أن تفعل هذا مُنذ البداية بإخلاص. ما بُنيَ على سليم، يبقى سليماً. ما بُني على حق، يحوطه الحق – بإذن الله تعالى -. مُنذ البداية، خل نيتك لله – تبارك وتعالى -، لطلب مرضاة الله، للآخرة وليس للدنيا، ليس من أجل أن تُجاري العلماء، وليس من أجل أن تُماري السُفهاء وترد على فلان وعلتان وكذا! وانظر؛ إذا فُتِح باب الرد هذا، وأردت أن تصير عالماً وما إلى ذلك وأن ترد، فوالله ستنقضي حياتك وأنت لم ترد على واحد من مائة مِمَن يردون عليك، لأنك ترى – ما شاء الله – أن الحبل على الغارب، والكل – الكل – عند نفسه عالم ومُحقِّق وفهمان ويعرف ويتكلَّم في كل شيء، شيء غريب، شيء غريب يا إخواني، شيء غريب!
هذه الحالة لن تتراجع ولن تتقلص إلا بماذا؟ إلا بوضع تربوي وتعليمي جديد. يبرز فيه إلى الحياة وإلى المسرح أُناس مُتعلِّمون حقيقةً، هؤلاء سيُرجِعون الأمور إلى نصابها – بإذن الله -، شيئاً فشيئاً فشيئاً، أي في عشرين أو ثلاثين سنة سوف نرى أن الأمور أصبحت غير، غير!
ورحمة الله على إمامنا الشافعي، قال – هذا مُلخَّص كلمته على فكرة، هم صاغوها بطريقة بليغة، لكن هو حكى كلاماً ثانياً، ولكن هذا المعنى نفسه – لو سكت مَن لا يعلم، لسقط الخلاف. أي أن كل الخلاف والتنازعات والمشاكل بسبب أن بين مَن يتكلَّم هناك مَن يتكلَّم بجهل، وهو يظن أنه عالم، ويتكلَّم وعنده رأي ويرفع راية، ويتبعونه، هم يتبعونه! مع أنه يقول لك أنا جاهل، أنا غير مُتخصِّص. وطبعاً واضح أنه جاهل، هو لا يعرف كيف تتكلَّم باللُغة العربية أصلاً، وهذا واضح، ولكنه يُكفِّر العلماء الكبار، يُكفِّرهم! وهو مُستعِد أن يحلف لك على المُصحَف أنهم كفّار وفي جهنم. شيء لا يُصدَّق، وأنت تتبعه، وتقول له بارك الله فيك وأنت تقول بالحق؟ شيء غريب، محنة رهيبة، رهيبة، رهيبة! فتنة ما بعدها فتنة – والله العظيم -، ما في بعدها فتنة، ضل مَن كانت العُميان تهديه. ضل مَن كانت العُميان تهديه! الجاهل أعمى، وأنت تستهدي بجاهل؟ وعلى العلماء؟ ويُكفِّر لك كبار علماء الأمة في القرن العشرين وأنت تُكفِّر معه وتكون سعيداً به؟ شيء غريب، أنا غير قادر على أن أفهم.
ولذلك ابدأ بالصدق وبالإخلاص، شحِّر النية ومحضها لوجه الله، اطلب العلم لوجه الله – تبارك وتعالى -، تعبَّد به، اجعله عبادة، اجعله قُرباً من الله. وعلى فكرة بمُجرَّد أن تصدق النية، سيُقذف في قلبك نور. الله لا يُخلي عبده من ألطافه، مُجرَّد أن يلحظ منك صدق النية، يقذف في قلبك بعض نوره. كما قال علماؤنا، كابن القيم وغيره – رحمة الله عليه -، قال لك لو حصلت لك جمعية قلب على الله – أي لو قلبك هذا اجتمع فعلاً على الله، صار مُهتَماً فقط بالله، يلحظ الله، وليس الدنيا وأودية الهموم -، فوالله لو جُمعت كل لذائذ الدنيا – انظر إلى هذا، كل اللذائذ، أي لذائذ المناصب، لذائذ الشُهرة، لذائذ الفلوس، لذائذ المُتع الجسدية، أي شيء! كل اللذائذ لو جُمعت – لن تُوازي شيئاً من لذة الاجتماع على الله. الله! هذا الله يا جماعة، فمَن عرف الله واقترب من الله، اضمحلت الدنيا في عينيه.
ولذلك يا إخواني بكلمة بسيطة جداً، يُمكِن لكل إنسان أن يروز نفسه، وأنا أول الناس، ويُمكِنك أن ترى نفسك، وتعرف هل أنت من أهل الله ومن أهل الآخرة، أو من أهل الدنيا، أنت صادق، أم غير صادق – أي هذا البعيد -؟ سهلة جداً جداً، ويُمكِنك أن تعرف هل عبادتك مقبولة أو غير مقبولة، وهل هي صحيحة أو غير صحيحة، سهلة جداً! العبادة الصحيحة تجعلك تضمحل باستمرار عن نفسك. لماذا إذن؟ لأنها تُقرِّبك من ذي الجلال. وكلما اقترب الإنسان من الله، فنيَ عن نفسه، ما عاد يرى نفسه، مُستحيل! كيف يراها؟ هو يعيش في عظمة الله، يعيش في جلال الله وفي أنوار الله، لا يرى نفسه. ومن هنا أنت ترى تواضع الناس العارفين، الذين يكونون علماء كباراً جداً جداً، هم بحور علم، وليس عندهم أبداً أي كبر، أحدهم لا يرى نفسه شيئاً. كما قال الحسن البِصري، قال التواضع أن تخرج من منزلك، فلا ترى أحداً من المُسلِمين، إلا رأيت له على نفسك فضلاً. أنه أحسن مني، أكيد هذا أحسن مني، وأكيد هذا أحسن مني، وهذا أيضاً. ترى أنك أسوأ واحد. هذه حالة ماذا يُوجِبها؟ القُرب من الله، القُرب من العظمة، عظمة العظمات! من الله أكبر، الله الأكبر – لا إله إلا هو -. فكلما اقتربت منه تضمحل ذاتك. أليس كذلك؟ أبداً! تبقى ذاتاً إلهيةً ربانيةً جميلةً طاهرةً طيبةً سليمةً، من أجمل ما يكون، لا يُوجَد فيها غش ولا دغل ولا حسد ولا حقد ولا انتقام ولا ضغينة ولا كذب ولا تمثيل ولا افتعال. شيء عجيب، رباني! تصير رجلاً ربانياً، تصير رجلاً ربانياً؛ لأنك اقتربت من الله.
ويُوجَد أيضاً جُزء من رسالة الخُطبة التي أُريد أن أقولها لطلّاب العلم، أي لمَن يُريد وينوي – إن شاء الله – أن يطلب العلم على أصوله وأن يبدأ، والحمد لله النت Net بصراحة قرَّب إليكم كثيراً طريق العلم! وسوف تجد في النت Net كُتباً كثيرةً وأبحاثاً ودورات علمية، وهذا في كل العلوم، وتبدأ بها. وإذا طبعاً قدرت على أن تُحصِّل علماء حقيقيين من لحم ودم وكانوا صُلحاء ومُتقِنين، فلا تُفرِّط فيهم. العالم يُقصِّر لك طريق العلم أكثر بكثير مما تأخذه على نفسك بصراحة، والعلم يثبت على التعلم والمُدارَسة ما لا يثبت على القراءة والاطلاع. ومعروف هذا، فهذا أحسن بكثير وأولى بلا شك.
لكن ما هي؟ جُزء من رسالة الخُطبة يا إخواني، هو لماذا كنا نرى العلماء الذين حكينا عنهم اليوم – اللهم يا ربي أصلِحنا كما أصلحتهم، وأعد علينا من بركاتهم – مُتحابين ومُتواضِعين جداً لبعضهم؟ كل واحد كان يرى أخاه أفضل منه، فأي عالم صالح يقول لك هو أفضل، أخي هذا شيء كبير، كبير في العلم والصالح، نسأل الله أن يُبارِكنا به. ولا يرى نفسه، يقول لك أنا؟ لا! أنا مسكين، أنا؟ مَن أنا؟ أنا؟ أنا لست بشيء، والآخر يقول الشيء نفسه، يقول لك أنا؟ أنا لست بشيء. وهو – ما شاء الله – أفضل. ما التواضع هذا؟ وما الصدق هذا؟ ويدل بعضهم على بعض، ويمدح بعضهم بعضاً، وكذا!
سهلة، وعكسها أيضاً سهل أن يُفهَم؛ ألا ترى شيوخاً وعلماء كل واحد فيهم ضد الثاني؟ وإذا رأى أن عند الثاني أي شيء، حتى ولو عنده أتباع وما إلى ذلك، فلا بد وأن يُنزِّل من قدره، ويُحاوِل أن يُشكِّك فيه، وربما يُكفِّره، وربما يطعن في دينه ويطعن فيه. شيء غريب، حرب شعواء، وأنتم الآن ترون طبعاً الحالة العامة المُنتشِرة.
البيان واضح وسهل، وسهل جداً! وقبل قليل أنا فرغت منه. لو سرنا نحن عشرة إلى الله – تبارك وتعالى -، وسرنا حقاً واقتربنا منه – كل يوم عن يوم لا بد وأن تكون أقرب بعون الله، بفعل العبادة والصدق والذكر والتوبة النصوح -، ما الذي سيحدث هنا؟ كما قلنا نفنى عن ذواتنا، لن نرى أنفسنا شيئاً، أهم شيء الرب – لا إله إلا هو -، هو سيصير كل شيء بالنسبة لنا. جميل! وبعد ذلك هو حقيقة واحدة وأحدية ومُطلَقة، حقيقة الحقائق، ليس فيها ارتياب وليس فيها شك، ونحن كلنا ماذا؟ سُعاة وسلّاك إليه. ما الذي سيحصل؟ يجمعنا. طبعاً نجتمع عليه، حقيقة! نجتمع عليه. ولذلك هو قال – عز من قائل، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩ – وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ۩، يا محمد، مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۩، قال أنا الذي ألَّفت بينهم. لماذا؟ لأنهم أحبوني، هم يُريدونني، هم سائرون إلىّ، فطبعاً اجتمعوا علىّ. قال لك ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه. من السبعة! اللهم اجعلنا من هؤلاء السبعة. أرأيتم؟
إذن إذا صدق العالم، وطالب العلم، والقائل، والسالك، والعابد، إذا صدق في طلبه وجه الله وابتغاء مرضاة الله، فهو تلقائياً سيجد نفسه مُتفِقاً مع ومُحِباً لكل مَن؟ سلّاك طريق الله. أبداً! ويرى مثابتهم وحيثيتهم ويُوقِّرهم من حيث لا يرى نفسه، وكلٌ يفعل هذا بأخيه.
واليوم تحدَّثنا عن بعض مشايخ الشام وعن ورعهم وتقواهم وكراماتهم وأنوارهم، الشيخ بدر الدين الحسني، أكيد سمعتمونني مئات المرات وأنا أتحدَّث عنه، ولا أمل، لا أمل! هذا الشيخ بالذات – والله – لو كل يوم جعلت أسمع عنه أو أتكلَّم عنه، والله لن أمل، اسمه يُحيي قلبي، بمُجرَّد أن أذكر اسمه هكذا يصير عندي شيء في قلبي، تخيَّل! وحسبك بأُناس تحيا القلوب بذكرهم. آمنت بالله، هذا حق، آمنت بالله، هذا حق! هناك صُلحاء وأولياء في أمة محمد من يوم ما أتى رسول الله إلى اليوم، لما يُذكَر اسم الواحد منهم القلب ينتعش بالإيمان، وحسبك من أُناس تموت القلوب بمرآهم. وهم أهل المعصية والشهوات والفسق والفجور والشك والارتياب والدنيا. حين ترى الواحد منهم، تحصل عندك قسوة وعسو في قلبك – والعياذ بالله -، وواحد ميت من مائة سنة أو من ألف سنة أو من ألف ومائتي سنة، حين تذكر اسمه، ترتاح، تنزل دمعتك، ويقشعر بدنك. يا الله، معناه؛ ما أعظم سره! ما أعظم كرامته على الله!
ومن هؤلاء بصراحة سيدنا ومولانا وسيد العالم بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره -، الرجل الصالح! في يوم من الأيام حصل الآتي، أحد تَلاميذه يحكي ويقول وأنا ذاهب إلى السوق في الشام، قلت سأمر على دار الحديث – والتيي كان فيها طبعاً يُدرِّس مولانا بدر الدين الحسني، وعنده فيها هناك غُرفة -، وأرى مَن – بعون الله – أقرب إلى الله وأعظم منزلة عند الله؛ الشيخ عبد الحكيم الأفغاني – قدَّس الله سره -، أم الشيخ بدر الدين الحسني؟ قال ذهبت بهذه النية. عالم! الذي يحكي هذا ليس قصّاصاً، هذا رجل عالم أيضاً. قال فلما وصلت دار الحديث وجدت الشيخين – رضيَ الله عنهما – قد خرجا كلٌ منهما من غُرفته. وكانوا واقفين وينتظرون، ويعرفون أنه سيأتي بالنية هذه! قل لي ما هذا؟ حدِّثني، قل لي ما هذا؟ قل لي ما هذا؟ هذا سحر؟ هذه شعبذة؟ هذه طلاسم؟ هذه لا سحر ولا شعبذة، ولا إبليس يعرف هذا، الملائكة لا تعرف هذا، الملائكة لا تعرف ماذا في قلبك، أليس كذلك؟ الملائكة لا تعرف، فقط مَن يعرف ما في قلبك ونيتك رب العالمين، من أين عرف الشيخان الجليلان هذا؟ وقال لك هؤلاء مشايخ الشام . أعاد الله – آمين يا ربي – إليها أُنسها ووحدتها وأمنها واستقرارها، وجميع بلاد المُسلِمين. خسارة ما حصل، حسبي الله ونعم الوكيل.
قال وجدت الشيخين، كلٌ منهما واقفاً بباب غُرفته، ويُشير إلى الآخر. كل واحد يُشير، وكأنه يقول له هو أعلى، هو! فأُسقِط في يده، لا إله إلا الله. فيا أسيادنا نحن أتينا، وهذا في قلبنا! وهو ذاهب في الطريق فقط جاءته النية هذه، طولعا بسره، كوشفا بسره، وجاوباه بالإشارة، كانا واقفين له، الشيخ بدر الدين يقول له لا، هو أحسن مني، والشيخ الأفغاني – عبد الحكيم طبعاً، أي الشيخ عبد الحكيم – يقول له لا، هو أرفع مني. شيء عجب!
انظر إلى هذا، هذا مولانا بدر الدين الحسني، هذا عاش أكثر من ثمانين سنة، هذا لم يتفق مرة واحدة له الآتي، وحياته كلها علم، هذا كان لا ينام، ما رأيكم؟ كل مَن عاش معه يكتب هذا، وعلى فكرة كل علماء الشام اليوم وهم بالألوف، كلهم من تَلاميذ تَلاميذ تَلاميذه، والكبار فيهم من تَلاميذ تَلاميذ، والذين ماتوا قبل عقود وسنين من تَلاميذه. ما رأيكم؟ كل علماء الشام تقريباً، ما البركة هذه؟ ما الرجل المُبارَك هذا؟ وهذا الرجل – انظر إلى هذا – لم يُصل بالناس إماماً، ولو لمرة في حياته، لا يرى أنه يستحق أن يؤم واحداً من المُسلِمين أبداً، هذا كان شيخ الإسلام وحافظ الدنيا، الشيخ بدر الدين شيء أُعجوبة، ولا مرة صلى إماماً، دائماً يُصلي مأموماً.
وربما أتاه في مجلسه الكثيرون، وما مجلسه؟ كلهم علماء، فقهاء، جهابذة. الرجل كان جهبذاً، لم يكن يُدرِّس فقط العلوم هذه، كان يُدرِّس حتى العلوم العقلية.
اليوم هناك الشيخ الفاضل أسامة الرفاعي ابن مولانا، عالم العقيدة الكبير، والولي الصالح الجليل عبد الكريم الرفاعي – قدَّس الله سره -، هذا حين ذهب أحد تَلاميذه إلى الأزهر لكي يأخذ إجازة، قال له علماء الأزهر لا. ذهب أحد تَلاميذه، وأعتقد هو الشيخ محمد عوض – رحمه الله – وقد تُوفيَ قريباً، قالوا مُستحيل، ألك علاقة بالشيخ الرفاعي؟ قالوا هذه المسائل لا يُمكِن أن يُجب عنها إلا الشيخ عبد الكريم أو واحد من تَلاميذه. قال لهم أنا تَلميذه. والشيخ عبد الكريم كان من تَلاميذ مولانا بدر الدين الحسني، كان له معه مجلس أفرده به بين الظهر والعصر، لم يَشرك فيه غيره. فقط للشيخ عبد الكريم! وكان صغيراً، أي كان شاباً صغيراً.
يقول الشيخ عبد الكريم في يوم من الأيام، يقول وكان شيخنا – وهو مَن كان يحكي القصة – لا ينام، أي لم ينم مرة هكذا مُستلقياً مثلنا على (الفرشة)، مُستحيل! ينام وهو جالس، عنده وسائد تُوضَع له، يتكئ هكذا ساعة أو ساعتين، ثم يقوم وينتهي الأمر، وفي النهار لا يضع ظهره على حائط، أي لا يستند، فماذا إذن؟ علم، كله علم! قراءة وإقراء، والله أعطاه الطاقة الجبّارة هذه، شيء عجب! عنده ما تحتاج إليه من منطق، ما تحتاج إليه من حساب، ما تحتاج إليه من هندسة، ما تحتاج إليه من جغرافيا، هذا غير علوم الشريعة، وكذلك ما تحتاج إليه من طب، كبار أطباء الشام وأساتذة في الكليات، أقسموا بالله وشهدوا له. قال لك أحدهم كنا نجلس في مجلسه، إذا سنحت مسألة طبية يتكلَّم فيها بما نتعلَّم منه. أي أشياء ما كنا نعرفها، أُعجوبة! الله فتح عليه فتوحاً رهيبةً، من نسل رسول الله، حسني هو، شيء عجيب، آية!
هذا أمه سيدة كريمة جليلة، ومن عائلة كبيرة، وهي عائشة الكُزبري – رحمة الله عليها -، أمه! تقول لما وضعته كنا في شهر رمضان، فراعني أن الطفل كان بعد الفجر إلى المغرب لا يأخذ الثدي، فخشيت عليه. قلت هذا سيموت، ما هذا؟ طفل عمره أيام ولا يأخذ الثدي ولا يرضع! قالت إذا أذن المغرب، أخذه. هذا لكي لا تقول لي كيف؟ انظر، كما يقول أولياء الله العباد نوعان: مُريد ومُراد. أو بلُغة سيدنا ابن عطاء الله السكندري منهم مَن يسبق نوره عمله، ومنهم مَن يسبق عمله نوره. هناك الذي يسبق نوره عمله، وهذا مثل مَن؟ الأنبياء. فعيسى وهو ابن يومين أو ثلاثة قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ۩ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۩، ما هذا؟ أنت عمرك يومان، ويتكلَّم! وقال لك أنا نبي، والله الذي جعلني كذلك، وطبعاً الله هو مَن جعلك، ما هذا؟ أنت قطعة لحم. الله جعله هكذا، الله خلقه وقال لا بد وأن يكون نبياً هذا. انتهى! هناك أُناس الله خلقهم، وقال هذا لا بد وأن يكون ولياً، لا بد وأن يكون شيخ الأولياء وقُطب الأولياء، هذا لا بد وأن يكون ولياً كبيراً. هكذا الله قال، ولا أحد له أن يعترض، أليس كذلك؟ سوف تقول لي أنا لست هكذا، أنا أختلف، وحتى وأنا صغير كنت تائهاً، وأنا شاب مُراهِق كنت تائهاً، وعملت ما لا يُحمَد و(خربطت) وما إلى ذلك. وسوف أقول لك لا، تُوجَد عندك فُرصة تامة، كُن من الصنف الثاني الذي يسبق عمله نوره. اجتهد، اعمل، تُب إلى الله توبة نصوحاً، تعبَّد، قُم، احفظ، زك نفسك بالأعمال الصالحة، ومن ثم سيكون لك نور وستكون من أهل القُرب – بإذن الله تعالى -، الباب مفتوح، وهذا شأن الله، أنت لا تعترض ولا تقول لماذا اختار الله الأنبياء، أليس كذلك؟ فلا تعترض لماذا اختار الأولياء أيضاً، هناك أولياء كانوا وهم صغار أولياء، وهم صغار! شيء عجيب.
اليوم حدَّثتكم عن سيدنا الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره -. عنده شيء مُبكٍ، والناس مُعظَمها لا تعرف على فكرة أن الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره الكريم – جرى معه الآتي، وكان تقريباً في الثالثة والخمسين من عمره. أنت تعرف أنه وُلد في سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشرة، أي مولانا الشعراوي، وذهب في الجزائر في عام ألف وتسعمائة وست وثلاثين، فتقريباً كان عمره ثلاث وخمسون سنة، أليس كذلك؟ ثلاث وخمسون سنة، كبير في السن، شيخ! بعد الخمسين يُسمونه في اللُغة العربية شيخاً، وهو هكذا، عمره ثلاث وخمسون سنة. ذهب على رأس بعثة الأزهر إلى الجزائر، وانظر إلى هذه القصة العجيبة.
هو لم يُرد أن يذهب، لم يُرد أن يترك مصر، أراد أن يبقى في مصر، فسنح له في المنام شيخ وقور جميل، بلحية جميلة. وقال له يا شيخ مُتولي لماذا أنت عازف عنا ولا تُحِب أن تأتينا؟ تعال عندنا، تعال عندنا. فقال والله هذه الرؤيا كأنها حق، أنا سأذهب، الله خار لي أن أذهب إلى الجزائر. وذهب إلى الجزائر كرئيس للبعثة، هو كان رئيس البعثة الأزهرية إلى الجزائر.
وفي يوم من أيام – هذا أول ما وصل، أي في الفترة الأولى – كان هناك مُؤتَمر رئاسي، في قصر الرئاسة، تخيَّل! وحضره علماء ومُفكِّرون وصحافيون وما إلى ذلك. وهو جالس – أي الشيخ الشعراوي – رأى الشيخ الذي رآه في المنام. هو! نفسه! هذه أول مرة يراه في حياته، فقال نظرت إليه، فابتسم وقام لي، وهُرعت إليه. طبعاً أكيد كان هناك بكاء، هما الاثنان جعلا يبكيان. أهلاً بك – قال له -، هو دعاه! وهذا الشيخ هو سنين الشيخ الشعراوي، وُلد في سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشرة، وأنتم تعرفون أن النفس تطيب وتسمح أن يكون شيخي أكبر مني، نعم! واحد أكبر مني بعشر أو بعشرين سنة، نعم، شيخنا. لكن لا يكون شيخي واحداً أصغر مني، انس. وعندما يكون شيخي واحداً في مثل عمري، أقول لماذا؟ أليس كذلك؟ هذا الخُبث النفساني، النفس الوسخة! وهذا الشعراوي، إمام من أئمة العصر هذا، رجل نادر هذا، ليس إنساناً عادياً، ليس عالماً عادياً الشعراوي – رحمة الله عليه -، أي عالم بحق، عالم هذا، لا تتعلَّق الأمور بالهيلمة وما إلى ذلك، عالم كبير ومُعترَف به – رحمة الله عليه -.
مُباشَرةً قال له أنت شيخي، وأنا كنت أطوّف – قال له – بشرق البلاد وغربها أبحث عن مثلك. قال له وجدتك يا شيخي. أخذ منه الطريقة وصار شيخه. وهو سيده وسيدنا محمد بلقايد الهبري الحسني الإدريسي – قدَّس الله سره -. أهل الجزائر بالذات يعرفونه، ربما منكم قليل مَن سمع بهذا الشيخ الكبير، اليوم على رأس الطريقة ورأس الزاوية ابنه الشيخ عبد اللطيف – قدَّس الله سره -، ابنه نور، ادخل أنت على اليوتيوب YouTube واكتب الشيخ عبد اللطيف بلقايد وانظر، نور، نور! وانظر إلى الزاوية البلقائدية هذه وانظر إلى الدروس التي عندهم وانظر إلى الناس التي هناك، تر السكينة والوقار والأنوار والصدق والإخلاص.
وطبعاً سيدي محمد بلقايد هذا كان عالماً كبيراً، مُتضلِّعاً في العلوم، أحكم العلوم كلها، وشُهد له، من شيوخه في الحديث آخر الحفّاظ أحمد بن الصديق الغمّاري، شيخه في الحديث، كان عالماً كبيراً أيضاً ومُجاهِداً، كان بيته مثوى للمُجاهِدين ضد الاحتلال الفرنسي، هذا صار شيخ مولانا الشعراوي، وترون حتى – هذا ترونه حتى على النت Net – أن مولانا الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – كان إذا جلس، جلس بين يديه على الأرض، ولم يجلس طيلة حياته إلى جانبه، أي أنا مثلك، مُستحيل! مع أنه في مثل سنه بالضبط؛ هو وُلد في سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشرة، والآخر وُلد في سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشرة! الشيخ يجلس فوق، وهو يجلس بين يديه، أي الشيخ الشعراوي، ودائماً ما يقوله يا أستاذي، ويا شيخنا، ويا شيخي. ويا إمام العصر – يقول له -، ويا إمام الدنيا.
جيد، مَن يسمع بسيدي محمد بلقايد؟ قلة، فقط في المغرب العربي، والجزائر بالذات. عكس الشعراوي، الدنيا كلها تعرف مَن هو الشعراوي، لكن هذه ليس لها علاقة بهذا، وانظر إلى العجب، وانظر إلى الجمال (جمال العلم الرباني، وجمال المحبة في الله والطريق إلى الله – اللهم اجعلنا من أهل هذه الصفات، مع العافية التامة يا رب العالمين، أينعم -)، انظر إلى الشيخ محمد بلقايد – قدَّس الله سره -، استجاز تَلميذه الشيخ الشعراوي، قال له أنت تُوجَد عندك إجازات في العلوم وكذا وكذا، أعطني إجازة. فأيضاً صار تَلميذاً، أي له، أرأيتم؟ من جهة أستاذ ومن جهة تَلميذ. أنا أستاذك في الطريقة وأنت تُعطيني إجازات في علوم ليس عندي فيها إجازات من هذه الطرق. أكيد عنده إجازت من طرق أُخرى، لكن من هذه الطرق ليس عنده، أعطني إياها.
تواضع! وهذا كله طلباً للخير فقط، ليس طلباً للمظهرة والتميز وأنا وأنت، لا يُوجَد الكلام هذا عندهم أبداً، وانظروا إلى نهاية الشيخين الجليلين، شيء لا يُصدَّق! في عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين مات الشيخ الشعراوي، أليس كذلك؟ نعم! مات في ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين – قدَّس الله سره -. الشيخ الشعراوي يبعث قبلها رسالة، وسوف تجدونها على اليوتيوب YouTube، فشاهدوها، شاهدوا هذا الوجه المُنير، يبعث رسالة صوتية وهي مُسجَّلة، إلى سيدي وشيخي الشيخ محمد بلقايد، يقول له يا سيدي – أي هذا بمعنى الكلام – أنا ما قصَّرت في زيارتك عن خاطري أو برضاي أبداً، وإنما يطلب الزيارة مَن يغيب عن محبوبه. ويعلم الله – قال له – أنت لا تغيب عن خاطري لحظة. معي باستمرار! هذا شيخه الذي دله على الله وأدخله في الحضرة، ليس الذي علَّمه البلاغة والفلسفة، الذي أدخله في الحضرة الإلهية. هذا لا نعرفه ولم نترب عليه للأسف، ضاعت الأمة، ضاعت الأمة!
قال له وأنت يعلم الله لا تغيب عن خاطري لحظة. الشيخ الشعراوي! قال له وإذا صدق الود، حمل فراق البُعد. ويا شيخي – يقول له – نحن تحابننا في الله. والحُب في الله – قال له – لا تُؤثِّر فيه الأزمنة المُتباعِدة – يا الله – ولا الأمكنة المُتشتتة. لو أنت أحببت واحداً في الله مات قبل ألف سنة – بغض النظر عن الوقت، هو عاش من ألف، وأنت تعيش الآن -، لشعرت بهذا. وهناك أُناس أرواح الصُلحاء والعلماء قبل ألف سنة تُربيهم وتهديهم – بإذن الله تعالى -، هناك صدق وهناك صلة. قال له أنت في عصري الآن، لكن في مكان آخر، وهذا ليس له علاقة بذاك، أنت في الجزائر وأنا في مصر، لكن هذا ليس له علاقة، نحن واحد، لأننا تحاببنا في الله. نعم! الحُب في الله يُقرِّب البعيد، أليس كذلك؟ ويُسهِّل الصعب، ويُؤلِّف بين المُختلِفات، ويُقرِّب بين المُتشتتات. الحُب في الله!
انظروا يا إخواني، سأقول جُملة واحدة، ولكنني لا أُريد أن أُفصِّل، حتى لا ندخل في الفلسفة وما إلى ذلك، ولكن هذه تجدونها، لكي تفهموها بعُمق حين تقرأون تُراث سيدنا ومولانا عبد الواحد يحيى، أي رينيه جينو René Guénon، الذي حدَّثتكم عنه في درس سابق، شيخ مولانا شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، هذا شيخه أيضاً، الفرنسي الذي أسلم وأخذ الطريقة، وهي طريقة شاذلية.
الفيلسوف العارف بالله رينيه جينو René Guénon. أو عبد الواحد يحيى قال لك المسألة بسيطة جداً، الله – تبارك وتعالى – وهو قصد الروح وغاية الروح ووجهة الروح يُوحِّد. هو الواحد الأحد، يُوحِّد! أي سعي صادق لله يُوحِّد، المادة – عكس السماء وعكس الروح، المادة والدنيا – تُقسِّم وتُفرِّق، لأن طبيعتها الانقسام. المادة! أنت تعرف الذرة والــ Subatomic وكذا وكذا. ولذلك إذا اعتمدت على المادة واستندت إلى المادة، فيتقسَّم كل شيء، يتقسَّم! فقط هل تعرف مَن أهل الوحدة ومَن الذين ليس بينهم هذا النزاع؟ مَن هم في طريق الله. السائر إلى الله يتحد مع كل السائرين الذين هم مثله، لا يُوجَد خلاف!
قال له ما ذكرت، فهذا معنى الكلمة، وبعد ذلك قال له ويا شيخي، وأسأل الله أن يجمعنا في عالم الأرواح بعد عالم الأشباح. دعا له أن يكون إمام العصر وإمام كذا وكذا، ثم قال ويا شيخي، وأسأل الله أن يجمعنا في عالم الأرواح بعد عالم الأشباح. وهكذا! فوصلت الرسالة إلى سيدي بلقايد، فماذا قال؟ قال الشيخ الشعراوي ينعى إلىّ نفسي. سأموت!
بعد شهرين من الرسالة يتوفى الشيخ الشعراوي، وبعد شهرين من وفاة الشيخ الشعراوي يتوفى الشيخ بلقايد. نعم! الشعراوي كان يحس ويعرف أن الأمر انتهى ولا تُوجَد فُرصة لنتلاقي في عالم الأشباح، قريباً سنلتقي في الأرواح أنا وأنت، واللقاء هذا سيكون أبدياً – بعون الله تعالى -، هذا أبدي، لا ينتهي.
ما هذا؟ وأين هذا؟ عالم آخر. صار العلم عندنا والدين والمشيخة، صار كل هذا مصالح وأيديولوجيات وسياسات وأفكار ودول ودفع وغير دفع، شيء رهيب، رهيب! الدين ضاع، الدين ضاع.
نسأل الله أن يُنقِذ هذه الأمة. سيُنقِذها حتماً، هذا دينه وهذه أمته – إن شاء الله -، لكن نسأل الله أن نكون من أهل السعادة الذين بصَّرهم الله بالحق وبالحقيقة، ونسلك الطريق الصح – بإذن الله تبارك وتعالى -.
(انتهت التكملة بحمد الله)
فيينا 29/3/2019
أضف تعليق