إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۩ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ۩ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ۩ وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۩ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
أن يختلف الناس أمرٌ واقع، وهو إلى ذلكم أمرٌ طبيعي، وأن يُدير الناس من ثمة اختلافاتهم أمرٌ مُهِم بل ضروري، وأن يتوسلوا في إدارة اختلافاتهم الجدال بالتي هى أحسن والحوار المُتَّد المُستمِر أمرٌ يتصدر قائمة الأساليب التي يُدار بها الاختلاف، يتصدر قائمة الأساليب والوسائل التي تُصطنَع في إدارة الاختلافات على اختلافات الاختلافات، أياً كانت هذه الاختلافات، سواء كانت عقدية مِلية أو فكرية أيدولوجية، أو اقتصادية سياسية، وإلى آخره، أي أياً كانت هذه الاختلافات، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩، يا تُرى لو أننا سألنا مسلماً عادياً من عوام المسلمين اليوم كيف يُمكِن أن يُدار الاختلاف مع الآخر الملي بالذات، مع الآخر الملي المُخالِف في العقيدة والدين، فبماذا سيُجيب؟!
أغلب الظن وأرجحه أنه يظن أن هذا الاختلاف لابد أن يُدار على النحو الذي يُدار عليه الآن والذي يُبارِكه جماعةٌ ليسوا بالقليلين من علماء الدين ودعاته ومشائخه، أي على طريقة المُنابَذة، طريقة التشهير، طريقة التكفير، طريقة الإقصاء وأيضاً طريقة الهجر، إنه نوعٌ من العزلة الأدبية والمعنوية وربما تحت شعار لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، فلا علاقة لنا بهم، وإن ذكرناهم ذكرناهم على نحو ما نعتنا أو وصفنا.
يبقى التاريخ أستاذاً في تعليم الإمكانات المفتوحة أو الإمكانات المجهولة، فقراءة عاجلة لتاريخنا يُمكِن أن يضح منها ويتبين أن هذا النحو لم يكن هو دائماً النحو المُصطنَع والمطروق في التعامل مع الآخر، لم يكن كذلك، وإنما بالعكس في مُعظم تاريخنا كنا نتعاطى وفق صيغ أكثر مرونةً واتساعاً مع الآخر على اختلاف أيضاً تصنيفات هذا الآخر، لكن يبدو أن وعينا بالتاريخ مُضمَحِل أو فقير، أجدب، فقيرٌ أجدب أو مُجدِب، فالتاريخ إذن هو أستاذٌ في تعليم المُقارَنة، لأن إتاحة صور الإمكانات المُتعدِّدة تُعطي إمكانية للمُقارَنة، والمُقارَنة هى لعبة الفكر الأصيلة، جوهر الفكر، كما نقلنا غير مرة عن العالم الفيزيائي الكبير البرت أينشتاين Albert Einstein أنه قال “العلم – هو يتحدث عن العلم خاصة – العلم لُعبة مُقارَنة”، ونحن نقول “الفكر عموماً لُعبة مُقارَنة”، ولكن حتى لا نُطوِّل في هاته المُقدِمات نُحِب أن نقول أنه بدءاً من زمان رسول الله السعيد – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – جرت وتمت مُناقَشات ومُحاوَرات ملية دينية، أشهرها ربما وهو حاضرٌ عتيد لدى الكافة ما تم بينه صلى الله عليه وآله وبين نصارى نجران، وقد سجل القرآن طرفاً من هاته المُحاوَرة في سورة آل عمران، ثم بعد ذلك حاور الصحابة، فالإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – فيما يرويه الإمام الجليل أبو إسحاق الشاطبي في اعتصامه حاور رأس الجالوت، ورأس الجالوت هو لقب رئيس اليهود في العراق، وكانت لهم ألقاب أخرى في الأندلس بعد ذلك لما حدث الافتراق أيام الفاطميين، وفي مصر الجاعون وأشياء أخرى، ولكن على كل حال الإمام عليّ – كرَّم الله وجهه – ناظر وناقش أكبر مَن يُمثِّل العقيدة أو اللاهوت اليهودي في وقته – رأس الجالوت -، كما ناقش أسقف النصارى – نُسميه الأُسقف- والحوار موجود ويتعلق بحديث الافتراق، وخالد بن الوليد – رضوان الله تعالى عليه – ناقش أحد النصارى – جورجا -، ونقاشه أيضاً مُسجَّلٌ ومُقيّد.
نقفز بعد ذلك إلى العهد الأموي – إلى عهد بني أمية – حيث كان النصارى يتميزون – وأهل الذمة عموماً – بمكانة خاصة، وربما أشهر الشخصيات في هذا العهد هى شخصية يوحنا الدمشقي – هكذا عُرِف – وهو منصور بن سرجيه – أو سرجون – بن منصور، جده كان القيّم على مدينة دمشق أيام البيزنطيين وهو الذي حاور المسلمين وسلمها لهم، ومن هنا سعد بن البطريق اتهمه بالخيانة طبعاً للخلاف الملي بينهما – لخلاف المذهب الديني- فلم تكن خيانة على كل حال وإنما كان تدبيراً حكيماً، يوحنا الدمشقي هو حفيد منصور الأول، وهذا الرجل كان له مكانة عالية بازخة في الإدارة الإسلامية، فكان معروفاً يوحنا الدمشقي كأبيه وكجده من قبلهما،وقد ألف كتاباً يرد فيه على المسلمين، واللافت بل المُثير أنه تعاطى مع القرآن ومع الإسلام على أنهما هرطقة – Heresy -، بدعة مسيحية، خروج عن الخط المُستقيم المسيحي، وعلى كل حال هذه الفكرة لا تزال تُدغدِّغ مُخيلة أو خيال كثير من العلماء المسيحين في هذا العصر، ليس من آخرهم ربما الأب لويس شيخو اليسوعي الذي كتب مرة دراسة مُثيرة وعجيبة جداً لكنها ليست علمية بالمرة يُثبِت فيها أن الكعبة كانت كنيسة وبالتالي فمحمد خرج عن الخط المستقيم، وهذه الفكرة المُثيرة العجيبة طبعاً – المُثيرة للاستغراب والدهشة – التقطها والتقط أمثالها دانتي Dante في الكوميديا الإلهية ووصف محمداً بأنه مُبتدِع أيضاً خرج عن الخط المُستقيم، وهذا كلام فارغ، لكن على كل حال يوحنا الدمشقي كان يتعاطى مع القرآن والإسلام على أنهما هرطقة، بدعة، زندقة – كما نقول هكذا باللفظ الأعم -، وكتب في كتابه هذا “إذا قال لك العربي – يعني المسلم – كذا وكذا، فقل له كذا وكذا”، أي يُعلِّمهم كيف يردون على الإسلام، ولكن هل عاش الرجل؟!
عاش الرجل أكثر من وزير فهو لم يعش فقط بل عاش الرجل بين المسلمين أكثر من وزير.
في العصر العباسي المنعوت بالعصر الذهبي عب العُباب حيث وُجِدَت عشرات المُناظَرات والمُحاوَرات، طبعاً إذا ذكرنا المُناظَرات والمُحاوَرات فهذا يُؤشِّر إلى حرية دينية واسعة المدى، يُؤشِّر أيضاً بدرجة أعمق إلى حرية في التبشير بالدين، لقد كانوا يُبشِّرون بدينهم إذن، لا يردون فقط وإنما يُبشِّرون، لذلك نجد رسائل مُتبادَلة يكتب فيها مسلم ما إلى مسيحي يدعوه إلى الإسلام فيُكافئه المسيحي بأن يرد عليه فيُفنِّد أقواله ويدعوه إلى النصرانية، فهذا كان مسموحاً، كان أمراً عادياً أو شبه عادي وليس كما نعتقد اليوم، أما اليوم – بين مُزدوَجين أو بين قوسين، بين ظفرين كما يقول أحبابنا التوانسة – بعض العلماء، بعض الفقهاء، بعض أولى النُهى والذكر والعلم يجعلون كسؤال أصلاً هل يجوز لغير المسلم أن يدعو إلى أفكاره، أن يُبشِّر بمُعتقَداته، بمقبولاته، بمُنتحَلاته الملية؟!
طبعاً، علماً بأن الكثير من هؤلاء يميلون إلى أن الجواب لا، وذلك لأنهم يرون أنه لا يجوز الدعوة إلى الكفر، وهذا عجيب جداً، فما بال القرآن غاصٌ وريان وملآن بتسجيل مقالات الكافرين والمُشرِكين والوثنيين وهو ينخرط في مُنازلَتها وفي مُقارَعتها؟!
لا نقول لا يكاد يُوجَد وإنما بالجزم لا يوجد كتابٌ ديني ملي كالقرآن يميل إلى المُحاوَرة بل هو مشغوف بالمُحاوَرة والمُنازَلة مع الآخرين، فالقرآن – كما نقول – غاصٌ، ريان، طافح، ملآن بآيات الحوار مع كل أهل الملل والأديان والمُعتقَدات، وهذا ما فهمه المسلمون.
في عهد المهدي – في عهد الخليفة المهدي – ابن المنصور وأبو الهادي والرشيد تقع مُناظَرة بينه – فيما يُقال – وبين أكبر شخصية مسيحية شرقية، وهذه الشخصية بلغة أيضاً نصارى العراق كانت تُدعى أو تُلقَّب بالجاثِلِيق أو الجاثَلِيق – تعريب Katholicos -، وهذا الجاثَلِيق العرب يسمونه تِيمُوثَاوُسَ -Timothy – الأول The First، تيموثاوس كان يُناقِش الخليفة المهدي في قصره وفي بلاطه وغطت المُناقَشة سبعة وعشرين سؤالاً، علماً بأن هذا الجاثَلِيق كان له حضور أيضاً في مجلس الرشيد وله حتى علاقة بالرشيد قريبة وحميمة، وعاش إلى زمن المأمون وغطت جثلقته أكثر من أربعين سنة، ولكن هذه المُحاوَرات عليها علامات استفهام لأسباب علمية، لكن على كل حال لا يُمكِن أن ننفي أصل المسألة، فكان هناك ثمة مُحاوَرات، ثمة مُناظَرات، وهذا نقطع به، ولكن على النحو المُسجَّل والذي يعرضه إخواننا النصارى هناك علامات استفهام علمية من باب النقد العلمي، لكن هذا كان موجوداً.
في مجلس المأمون جرت مُناظَرات ملية كثيرة، فعُرِف عن عبد الله المأمون شغفه بالمُناظرات العلمية والمذهبية بين العلوم المُختلِفة وبين المذاهب والملل والنحل والأديان المُختلِفة، وكان له – فيما يُقال – مجلسٌ يدعو إليه رجال العلوم ورجال الأديان ويقول لهم “ابحثوا من مسائل العلم ما شئتم” ويشترط عليهم “من غير أن يُعوِّل أحدٌ منكم على كتابه”، أي لا تقل لي ورد في الإنجيل أو ورد في التوراة أو ورد في القرآن، وإنما يكون التعويل على العقل فحكموا العقل، أي أنه يُريد أن يُعقِّلن المسألة، فهل هذا مُمكِن ؟!
على كل حال هذا ما كان يقع، كما أن التاريخ حفظ لنا مُحاوِرةً هامة لثيودور أبي قُرَّة Théodore Abu Qurrah – للأسف بعض المصادر الإسلامية المنشورة نشرات غير علمية يُسمونه أبا فروة، أبو فروة هذا غير الموجود، والصحيح أنه أبو قُرَّة Abu Qurrah وهو مشهور جداً -، علماً بأن المُستشرِق الألماني الشهير جورج جراف Georg Graf كتب عنه كتاباً في زُهاء ثلاثمائة وخمسين صفحة – عن أعمال ثيودور أبي قُرَّة Théodore Abu Qurrah أو ثيودورس أبي قُرَّة Theodoros Abu Qurra – والكتاب موجود ومطبوع في بداية القرن المُنصرِم، إذن هذا أسقف حران وكان لاهوتياً عظيماً وكبيراً جداً مُتفلسِفاً، وناقشه شاعرٌ أديبٌ مُصنِّف مسلم وهو كلثوم بن عمرو العَتَّابيُّ، وسأسوق المُناظَرة هذه المرة لأنها لطيفة وقصيرة على عكس المُناظَرات الأخرى أكثرها طويل – طويل جداً – ومُسهَب، فقال لهما المأمون – رحمه الله – “تناظرا وأوجِزا في الكلام “، أي مُناظَرة سريعة خاطفة، فقال العَتَّابيُّ لأبي قُرَّة Abu Qurra – لثيودور أبي قُرَّة Théodore Abu Qurrah – ما المسيح عندك، أي في رأيك، في اعتقادك؟!
فقال المسيح من الله – وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ ۩-، فهو كلمةٌ من الله، روحٌ من الله كما يُقال في القرآن – وهذا يدل على ذكائه لأنه بقوله ” من الله”يُعوِّل على المُشترَك الظاهري -، فقال له الشاعر – شاعر وأديب ومُصنِّف – كلثوم بن عمرو العَتَّابيُّ حسنٌ، ولكن (مِّنْهُ۩) هذه – المسيح من الله – تقع على أربعة أوجه، لا خامس لها، أي لا وجه خامس لـ (مِّنْهُ۩):
(1) تقع على سبيل البعض من الكل: أي التجزي – التجزئة – والتبعيض، (من) للتبعيض كقول أحدهم إعطني مما أعطاك الله، فهذه للتبعيض!
(2) تقع على سبيل الولد من الوالد: التناسل، ففلانٌ من فلان وفلانٌ من فلان، أي على سبيل التناسل.
(3) وتقع على سبيلِ على سبيل الاستحالة: مثل تقل على سبيا الخلُ من الخمر، علماً بأننا نقول على سبيلِ الخلُ من الخمر لأنها مرفوعة على الحكاية حتى لا نُلحَّن، فنضع نُقطتين ثم نقول الخلُ، والاستحالة – Umwandlung – هى تحول شيئ إلى شيئ وليست الاستحالة بمعنى الامتناع.
(4) تقع – أي مِّنْهُ۩ – على سبيل المخلوق من الخالق، والمصنوع من الصانع وهو الوجه الرابع والأخير، على سبيل الخلق كقوله ” وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ ۩“، ومن هنا فالمسيح من الله ونحن من الله وكذلك كلٌ من الله.
ثم قال:أم هل عندك وجهٌ خامس؟!
فقال ” لا، فما أعلم فيها إلا ما ذكرت”، فقال له كلثوم بن عمرو العَتَّابيُّ:
فما الذي تنتحله من هذه الأوجه؟!
أنت تقول المسيح من الله وهذا جميل واتفقنا عليه ولكن على أي وجه من هذه الوجوه؟!
فقال:ما الذي تنحلني أنت إياه ثم بماذا تقضي فيّ؟!
قال: إن قلت إنه على سبيل التبعيض كفرت، نعم المسيح بعض من الله، جزء من الله ولكن جزء ليس كالجزء الحقيقي، فهذا مُستحيل وبالتالي كفرت، وإن قلت إنه على سبيل التوالد والتناسل كفرت، وإن قلت إنه على سبيل الاستحالة – الله تحول من جوهر إلى جوهر ومن حالة إلى حالة – فقد كفرت، وإن قلت على سبيل الخلق والصنعة فهذا الذي يجمعنا.
فانقطع أبو قُرَّة Abu Qurra – ثيودور أبي قُرَّة Théodore Abu Qurrah أو ثيودورس أبي قُرَّة Theodoros Abu Qurra انقطع – اللاهوتي الكبير الهائل!
والله أعلم بصدقية ما حصل، لكن هذا ما تذكره الكتب وتُقيّده، فهكذا كانت المجالس!
ابن النّديم في الفهرست يذكر أن الخليفة المأمون أرسل إلى رجل مانوي – المانويّة وتُسمى عندهم أيضاً المنانية كما يدعوها النّديم أو ابن النّديم – كبير، هو فيهم رأسٌ وهو يزدان بخت – بخت بالسريانية معناها عبد، ومن هنا بخت يشوع وهو الطبيب المشهور وكل الأسرة مشهورة تعني عبد عيسى، ويُقال بختِ يشوع بالفارسية بالكسر للإضافة – علماً بأنه يُقال أنه جمعه بالمُتكلِّم المُعتزلي الشهير أبو الهذيل العلاّف – المُتوفى في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري – فقطعه العلاّف، فأيضاً العلاّف عقلية كبيرة – ناظره فقطعه -، فقال له المأمون “يا يزدان أسلم تسلم، فلولا ما كان بيننا من عهدٍ لكان لي معك مقالٌ آخر”، فقال” يا أمير المُؤمِنين نصيحتك مسموعة وقولك مقبولٌ غير أنك لست من القوم الذين يُكرِهون الناس على أديانهم”، – يُريد أن يقول له أنت معروف بالحرية والتسامح وحرية الفكر والعقائد -، فقال ” صدقت”، وهنا يقول ابن النّديم ” وكان أنزله بالمُخرَّم – مكان مُعين قد يُشبِه أن يكون خاناً – ووضع عليه حفظةً يحمونه من الغوغاء، وكان فصيحاً لسناً”، أي أن المأمون خشى عليه من غوغاء الناس من العامة، فهو لا يُريد أن يُؤذى الرجل لأن الرجل مانوي، أي بلغة اليوم يُعتبَر بمعنى من المعاني مُلحِداً.
أبو عثمان الجاحظ في الحيوان يذكر أن المأمون ناقش زنديقاً من الزنادقة يُدعى أبا عليّ وأفحمه ثم تركه، لم يعمل له شيئاً وإنما تركه، فهكذا كانت المجالس فيها نوع من الحرية، والمُناظَرات الدينية – كما قلت لكم – في هذا العصر بالذات بالعشرات، فهناك كتب يكتبها النصارى – كما قلت – ويردون على الإسلام وعلى القرآن ويُثبِبتون أن محمداً لم يُبشَّر به في التوراة والإنجيل، وهكذا كانوا يُدلِّسون ويُكابِرون بقولهم “لأ، لم يُبشَّر به”، ولذلك في المُحاوَرة التي جرت فيما يُقال – والله تبارك وتعالى أعلم بحقيقة الحال – بين المهدي وبين الجاثَلِيق الشهير تِيمُوثَاوُسَ الأول أنكر هذا الجاثَلِيق أن محمداً أتت البشارة به في التوراة أو الإنجيل، قال “هذا غير صحيح، لم يرد شيئٌ من ذلك” وأنكر إلهية القرآن الكريم ودافع عن إلهية الكتاب المُقدَّس، ومع ذلك عاش الرجل مُوفوراً في عهد الخلفاء إلى أن تُوفى في عهد المأمون، فكان عندهم هذه الحرية، علماً بأن هذا نوع من التبشير والإعراب عما لديك ولكن كان يُسمَح به دون إزعاج ودون تعتعة.
يحيى بن عدي هو فيلسوف نصراني يعقوبي، من جماعة اليعقوبية، فكما قلنا مرة أكثر نصارى الشام، وبخاصة في الأرياف – باستثناء المدن – كانوا يعاقبة، وطبعاً المدن أكثرهم كانوا ملكانيين أو ملكيين، أما أكثر نصارى العراق كانوا نساطرة، أي على المذهب النسطوري، ومنهم تِيمُوثَاوُسَ هذا وأمثال هؤلاء، ولكن على كل حال في الفترة هذه – كما قلنا – برز هذا الفيلسوف اليعقوبي النصراني الكبير يحيى بن عدي، علماً بأن ابن النّديم وصف أربعة فقط في الفهرست بأنهم انتهت إلى كل ٍمنهم رياسةُ عصره – أي أهل عصره – في فنه وكان منهم يحيى بن عدي الذي انتهت إليه رئاسة أهل عصره في فن الحكمة في الفلسفة، وهذا الوصف لم يصف به ابن النّديم إلا أربعة عبر التاريخ منهم أبُقراط Hippocrates في الطب ، ومنهم أرسطو Aristotle في الفلسفة والحكمة، وهذا كان – يحيى بن عدي – من هؤلاء الأربعة، هذا الرجل كتب رسالةً، ويقولون كتاباً – ليس كتاباً عظيماً أو كبيراً مُسهَباً – يرد فيه على الفيلسوف أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي – فيلسوف العرب – لأن الكندي كان وضع رسالةً يرد فيها على النصارى، فرد عليه يحيى بن عدي يُبيّن له غلطه في رسالته وأن النصارى على حق وأنك مُبطِل ولم تُصِب شاكلة الصواب، ويحيى بن عدي هذا – أبو زكريا – رد أيضاً على عيسى بن الوراق – المُتكلِّم المُعتزلي الشهير، ابن هارون – ورد على جماعة من المسلمين في مجلس الوزير الجراح – عليّ بن عيسى الجراح -، فكان مسموحاً لهم أن يردوا على المسلمين في قصورهم لدى وزرائهم، فهذا نقاش علمي، وهذا النمط – كما قلنا – يطول بنا المقام جداً لو أردنا أن نتقصى أطرافه فهى كثيرة، والمُصنَّفات في تقييد هذه المُسجَلات والمُحاوَرات كثيرةٌ أيضاً، فنتركه إلى شيئاً آخرمن جنسه ولا يُخالِفه.
من اللافت أن علماء المسلمين في المُقابِل أو بالإزاء وُجِد منهم الجماء الغفير الذي حرص الحرص كله – بل بلغ هذا الحرص ببعضهم حد الشغف والتتيم – على أن يعرف تقريباً – بحسب الجهد الإنساني – كل ما لدى الآخرين من منابعه ومصادره، ليس ما يُقال وليس ما يُحكى، وإنما أن يقرأ لهم، لا أن يقرأ عنهم، وإنما يقرأ لهم ويقف على ما قالوا، فقرأت لأحد المُفكِّرين الغربيين – وقد أصاب في هذا – يذكر أن هذا العلم الذي نشأ بحسب هذا الشغف وبفضل هذا الشغف أيضاً والحرص هو علم مُقارَنة الأديان، فعلم مُقارَنة الأديان يجد أصوله وأسسه الأولى في : القرآن العظيم، فالقرآن – كما قلنا لكم – ملآن من مُحاوَرات أهل الأديان والملل، ولذلك الذي يتناغم في اهتماماته – في مزاجه العلمي – مع القرآن الكريم ينعكس تناغمه هذا في شكل الاهتمام بما لدى الآخرين، ثم من جهةٍ أخرى القرآن الكريم علمنا وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم – أي لا تتبع أي شيئٍ ومن ثم المُراد بعد ذلك باللزوم لا تتكلم فيما لا تُحسِنه، فيما لم تقتله بحثاً ودرساً – إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ۩
أبو الريحان البَيْرُوني – رحمة الله تعالى عليه – المُفكِّر الحكيم العالم كان موسوعة بحياله، فبعض مُؤرِّخي العلم الغربيين قالوا عن هذا الرجل أنه أعظم عقلية علمية عبر العصور، فهكذا أعطوه هذا النيشان، هذا الشرف الباذخ، أبو الريحان البَيْرُوني نشر له المُستشرِق الألماني كارْل إدورد سَخَأوْ Karl Edward Sachau في أواخر القرن التاسع عشر الكتاب المشهور ” الآثار الباقية عن القرون الخالية ” وألحق به في آخره رسالةً للإمام البَيْرُوني – رحمة الله تعالى عليه – في فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي، علماً بأن البَيْرُوني كان مُعجَباً به أشد الإعجاب، وذكر البَيْرُوني في هذه الرسالة أنه سلخ من عمره نيفاً وأربعين سنة يتطلب كتاباً لماني Mani – مُؤسِّس المانويّة – يُدعى بسفر الأسرار – كتاب الأسرار -، نيفاً وأربعين سنة يطلبه أينما ذهب، علماً بأنه قد صحب البَيْرُوني طبعاً محمود بن سُبُكْتِكِين الغزنوي – من بلاد الأفغانستان الآن – في ثنتي عشرة رحلة من رحلاته الحربية العسكرية، فأينما حل البَيْرُوني أو ارتحل يسأل عن هذا الكتاب – يسأل نيفاً وأربعين سنة وهذا شغف عجيب جداً من إمام موسوعي في رُتبة البَيْرُوني -، ثم يقول البَيْرُوني ” وبعد ذلك اتفق أن ساق الله رجلاً معه مجموعة كتب ووجدت الكتاب في جُملتها، من بينها”، وقال “فغشيني لهو من الفرح ما يغشى الظمآن من رؤية الماء ومن القرح في عُقباه ما يغشاه من الجشة في مؤباه “، أي أنه يقول ” فرحت به جداً في الأول” والمقصود أنه لما طالعته ووقفت على تضاعيفه أحبطني وخذلني.
فالشاهد أن الرجل مكث أكثر من أربعين سنة يطلب كتاباً بلغتنا الآن العصرية كتاباً إلحادياً، لأنه يُريد أن يعرف ماذا قال هذا الرجل في سفر الأسرار، فهو لا يتحدث بالإشاعات أو بما سمع أو بالاختزالات العلمية – يُقال ويُقال -، وإنما يُريد أن يقف على المصادر، فهناك روح علمية عجيبة جداً، وهذه الروح – كما قلت لكم – أنشأت وأجدت – أجدت على البشرية وليس على الأمة الإسلامية – علماً جديداً أهدته هذه الأمة للبشرية جمعاء، إنه علم مُقارَنة الأديان.
وصحيح أن البَيْرُوني مسبوق فهناك أبو محمد النوبختي الذي كتب كتاب في الآراء والديانات – والنوبختي مُتوفى سنة خمس مائتين للهجرة أي مُبكِّر جداً – وهناك كتابٌ عجيب – يا ليته وصلنا فهو لم يصلنا إلى الآن، ولعله محفوظ في مكانٍ ما، عسى الله أن يأذن له بالفرج – لعالم مصري كبير هو ابن المسبحي ” أبو القاسم محمد بن عُبيد الله بن المسبحي “، يقول ابن خَلِّكان في ” وَفَـيَات الأعيان ” وكتابه ” درك البغية ” في أصول الدينات والعبادات يقع في ثلاثة آلاف وخمسمائة ورقة، إي أنه شيئ غريب، موسوعة في الأديان المُقارَنة، علماً بأن هذا الرجل – ابن المسبحي – مُتوفى سنة ثلاثمائة وأربعين.
الإمام والمُؤرِّخ الشهير المسعودي – أبو الحسن عليّ المسعودي – صاحب المروج وصاحب الإشراف أيضاً – التنبيه والإشراف – ذكر في التنبيه أنه ناقش جماعة من النصارى منهم أبا زكريا دونحة – وبعضهم يكتبها دونخة – في كنيسة الخضراء، قال “وأودعنا هذه المُساجَلة أو هذه المُناظَرة كتابنا في الديانات وهو كتاب المسائل والعلل في المذاهب والملل”، فالرجل سابق وله كتب في الأديان المُقارَنة، وله كتاب سر الحياة، وله كتاب آخر وهو أصول المقالات في المذاهب والديانات، فهذه ثلاثة كتب للإمام المسعودي المُؤرِّخ، لكن يبقى العلّامة أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم – المُتوفى سنة ستة وخمسين وأربعمائة للهجرة – نسيج وحده في هذا الباب بموسوعته الفريدة العجيبة “الفصل في الأهواء والملل والنحل”، ونحن نعرف طبعاً الشهرستاني، ولكن أين الشهرستاني – وهو لاحق طبعاً – من ابن حزم المُتقدِّم؟!
ابن حزم نسيج وحده في هذا الباب، لماذا؟!
لأنه نقل هذا العلم الناشئ وهذا العلم الفتي من مرحلة علمية – وهى بلا شك علمية – وهى المرحلة الوصفية إلى مرحلة أكثر تقدماً، فالعلماء المسلمون جرَّدوا هذا العلم وتعاطوا معه وحده لا على أنه باب من أبواب وفصل في كتاب وإنما علم هكذا تُؤلَّف فيه المُصنَّفات برؤسها، وكانوا فيه وصفيين لا يتدخلون إلا لُماماً و لا يصدورن أحكام قيمةوإنما يصفون.
أبو الريحان البَيْرُوني في مُقدِمته الرائعة لكتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولةٍ في العقل أو مرذولة قال ما معناه ” ليس من غرضي أن أُجادِلهم أن أحكم لهم أو عليهم، وإنما غرضي أن أسوق كلام الهند، مقولات الهنود كما هى بغض النظر وافقتهم أم خالفتهم”، فهذا هو الوصف، هذا هو المنهج الوصفي وهو بلا شك منهج علمي، أما ابن حزم لم يكتف به وذهب خُطوةً إلى الأمام فجمع إلى الوصف النقد العلمي وليس النقد الأيدولوجي، وإنما نقداً علمياً معرفياً بشهادة أكثر من مُستشرِق، فابن حزم طبعاً غير مسبوق في هذا الباب والعجيب أنه غير ملحوق فبعضهم قال “إلى القرن السادس عشر” وبعضهم قال “إلى القرن التاسع عشر” وبعضهم قال ” إلى القرن العشرين” استمر الوضع على ما هو عليه ففقط في القرن العشرين وصلت أوروبا إلى ما وصل إليه – وربما تجاوزت طبعاً – ابن حزم من قبل ، فالمُستشرِق الإسباني فينييت كتب هذا قائلاً “في القرن العشرين فقط بلغنا النقد العلمي الذي تميز به ابن حزم”.
المُستشرِق الإسباني الشهير ميغيل آسين بلاثيوس Miguel Asín Palacios -دارس ابن عربي ومُترجِم فصل ابن حزم ، وصاحب المُقدِمة الرائعة الخاصة به وهى المُقدِمة المُسهَبة ترجمها العلّامة المصري الطاهر أحمد مكي رحمة الله تعالى عليه – قال ” أوروبا وصلت إلى ما وصل إليه ابن حزم فقط في القرن التاسع عشر”، ولكن سيقول لي أحدهم وأين ريتشارد سيمون Richarad Simon الفرنسي وقبله باروخ سبينوزا Baruch Spinoza الهولندي اليهودي؟!
بعضهم يقول: حتى هذان – حتى ريتشارد سيمون Richarad Simon و سبينوزا Spinoza بالذات – اليهودي – ربما استفادا من ابن حزم، فربما استفادا ومتحا من ابن حزم عبر اليهودي إبراهام بن عزرا الذي درس ابن حزم وتعاطى معه، فسبينوزا Spinoza يعرف تراث ابن عزرا، فربما – ربما – كان الأمر هكذا!
فهذا هو ابن حزم، وهذا كله بفضل الحوار، بفضل المُدارسة، أي كما نقول الآن بفضل المُثقافة، فالمُثقافة هى أن أعرف أنا ما لديك وأن تعرف ما لدي وأن نتعاطى معاً ثم بعد ذلك لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، كما قال الله أيضاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۩.
مما يلفت ويُعجِب أيضاً أن الرحالة المسلمين – والعلماء المسلمين بشكل أوسع من أن يكونوا مُجرَّد رحالة، ولكن خاصة الرحالة – لم يكونوا يتحرجون، لم يجدوا بأساً وحرجاً أو حريجةً من أن يصفوا معابد الآخرين، وأحياناً أوصافاً مُسهَبة تدل على المأخوذية، على الانبهار، على الإعجاب، لكن بالناحية المعمارية العمرانية، فابن رسته في الأعلاق النفيسة – وابن رسته مُتقدِّم ومُتوفى نحو أو زُهاء ثلاثمائة للهجرة – يصف كنيستين:
كنيسة القسطنطينة – لكن ينقل الوصف عن مسلم وقع أسيراً، وهو وصف عجيب جداً جداً ومُفصَّل، ويدل على الانبهار كما قلت لكم – ثم يصف بعد ذلك كنيسة رومية – والتي يقول عن ملكها ال Pope أي البابا – وصفاً دقيقاً.
ويختم هذا الوصف أيضاً بذكر عجيبة من العجائب – وهو وصف غرائبي بل عجائبي خوارقي – لكنيسة في دير مُعين في إحدى قرى مصر- مصر الكنانة – وفي هذه الكنيسة في المذبح باطية، وهذه الباطية فيها فتيل من نحاس، يُوضَع فيه فتيل عادي ، ثم يأتي القيّم على الكنيسة يصب الزيت – زيت قليل جداً، ربما ربع لتر – فإذا صبه بعد ذلك جعل هذا الزيت يفيض يفيض يفيض حتى يملأ الباطية ، فيأخذ منه – يقول ابن رسته – ويبيع، وطبعاً يُوقِد كل شموع وسروج الكنيسة، وتحت المذبح رجلٌ ميت – كأنه قديس من قديسيهم -، فيقول ابن رسته ” حدثني الذي رأى هذا الأمر أنه جرب هذا – سُمِح له بهذا – فسحب هذا الرجل الميت فتوقف كل شيئ، وإذا أعاده عادت المُعجِزة”، أي أنه يصف شيئاً أقرب إلى الإعجاز والخوارق، وطبعاً الأمر قد يكون فيه حيلة وهذا معروف، فأمثال هاته القصص والحكايا كثيرة ثم بعد ذلك تتكشف عن حيلة ما، ولكن على كل حال الرجل لا يجد حرجاً أن يصف هذه العجيبة دون أن يُعلِّق عليها بما علقت أو بشبيه ما علقت به أي دون أن يُشكِّك فيها أبداً، بل وصفها كما هى، فكان يُوجَد نوع من الشعور بالقوة ، فهذا يُشعِرنا بأن المسلمين كانوا يشعرون بالقوة، ولذلك أيضاً لم يكونوا يتحرجون أن تكون لهم صداقات من النصارى، من اليهود، من المجوس .
في ظني – والله أعلم – حديث الإمام مسلم في صحيحه أن النبي كان له جاراً فارسياً أن الرواة ما ألحوا على هذا الوصف – أنه كان فارسياَ – إلا للدلالة والتأشير ولو من طرفٍ خفي – من وراء وراء كما يُقال – على أنه كان غير مسلم، وإلا لماذا يُقال فارسي، فنحن نقول رومي أو فارسي إلا إذا أشارنا إلى المُنتحَل، إلى الديانة؟!
فهذا الحديث في صحيح مسلم وهو عن أن النبي كان له جارٌ فارسي وكان طيب المرق – يصنع حساءً طيباً Soup – فدعى النبي، فقال له “وعائشة”، قال “لأ، بغير عائشة” لأن يبدو أن الطعام كان قليلاً، فالنبي قال له “لأ”، وهكذا تكرر الأمر ثلاث مِرار – ثلاث مرات – حتى وافق الفارسي، فخرج النبي وعائشة يتدافعان.
طبعاً المنظور المُعتاد أنهم ينظرون إلى ذلك من زاوية أن هذا قبل الحجاب – قبل نزول آيات الحجاب -، ولكن ليس ما يعنينا الآن زاوية الحجاب، وإنما زاوية التعاطي الملي، فكما قلنا مرة بعضهم يقول لك ” النبي قال لا تبدأوهم بالسلام”، وهذا أمرٌ عجيب، فكيف لا أبدأهم بالسلام وهو الذي علَّمنا أن نزور جيراننا من اليهود وغير اليهود؟!
والنبي زار جاره اليهودي – الولد الذي أسلم بفضل الله على يديه -، فهل كان يزوره ولا يُسلِّم عليه؟!
فكيف هذا؟!
هذا غير معقول، ولكن على كل حال هذا ما حصل.
الشاعر المُفلِق والمُترسِّل والبليغ والأديب والعلّامة الكبير الشريف الرضي لعلكم سمعتم به – من قرأ أمالي الشريف الرضي وهى مطبوعة في أجزاء علم مكانته من العلم والنفوذ والبصر فيه – كان له صديق هو من أعز وأغلى وأحب وأمس أصدقائه علقةً به – كما يُقال – وهو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ – يعني الصابئي، من الصابئة، رجل صابئي، علماً بأن الوزارة عُرِضت عليه فأبى لأن عنده نوع من الزهد في الدُنيا، ولكنه تقلد ديوان الرسائل في أيام بني بويه، وكتب حتى للخليفة رسائله فكان الرجل حسن التودد للمسلمين فيصوم شهر رمضان كله ويحفظ القرآن أحسن حفظاً ويستعمله في رسائله وإنشاءاته، حيث كان يُوجَد تعايش حقيقي، وهو أديب مشهور جداً – كما قلنا – ومُترسِّل بليغ، وهذا الرجل لما مات فُجِع به الشريف الرضي وبكاه بالدمع السخين، وظل يبكيه كلما ذكره أو مر على قبره، وبعد سنين مر على قبره فأنشأ قصيدةً – أنا قرأتها كلها وهى من أعجب ما يكون – مُبكية من أربعةٍ وثلاثين بيتاً وأوردها ياقوت وغير ياقوت، لكن هذا أشهر ما رثى الشريف الرضي – رحمة الله عليه – انتبهوا فهذا ليس مُجرَّد عالم وهو نقيب الهاشميين أي شخصية لها اعتبارها، لها حيثيتها العالية الباذخة لأنه نقيب العلويين – فقال فيه وهو يصف جنازته تفجعاً:
أعَلمْتَ مَنْ حَمَلُوا عَلى الأعْوَادِ أرَأيْتَ كَيْفَ خَبَا ضِيَاءُ النّادِي
جَبَلٌ هَوَى لوْ خَرّ في البَحرِ اغتَدى مِنْ وَقْعِهِ مُتَتَابِعَ الإزْبَادِ
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى أن الثرى يعلو على الأطواد
بعداً ليومك في الزمان فأنه اقذى العيون وفت في الأعضاد
شيئ تقشعر له الأبدان!
يقول المُؤرِّخون: فعُتِبَ فيه.
كيف ترثي أنت صابئياً، ترثي رجلاً غير مسلم، غير مُوحِّد؟!
فقال ” إنما رثيت فضله” .
من اللطيف والطريف أن الجاحظ في الحيوان يعقد فُصيلاً صغيراً – شبه فُصيل – يُورِد فيه إنموذجات ورُتفاً – هُتامات وشذرات – مما مدح بعض المسلمين – بعض شعراء المسلمين طبعاً – النصارى واليهود والمجوس، فيقول الجاحظ مُعلِقاً بذكائه البارع المشهود له به ” وبعض ذلك المدح على سبيل أو على وجه الرغبة، وبعضه على وجه الإحماد”، فما معنى الإحماد؟!
يُقال ” اختبره فحمد حاله” ، فعلى وجه الإحماد تعني على وجه الاستحقاق، أي مدح حقيقي.
وأتى بأبيات مدح بها أو فيها مسلمٌ يهوداً:
لقد وجدنا في اليهود رجال صدقٍ على ما كانَ من دينٍ يريبُ
لعمركَ إنني وابنيْ عـريضٍ لمثل الماء خالطه الحليبُ
خليلان اكتسبتهما وإني لخلة ماجدٍ أبداً كسوبُ
وهذا أُمرٌ عجيب، قال” نعم، هؤلاء فعلاً يهود ودينهم فيه علامات استفهام – على ما كانَ من دينٍ يريبُ – لكن الاثنان من أحسن الناس، فأنا أُحِبهم كثيراً وبيننا خُلّة!
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلا
وألطف ذلك ما ختم به الجاحظ هذا الفُصيل الصغير العاجل فختم بشعر ابن عبدل – أو لغيره حسبما قال – قال ولابن عبدل أو لغيره – في مجوسيٍ ساق إليه صداقاً – أي دفع عنه صداق زوجته، مهر زوجته – ، فماذا يقول ابن عبدل في المجوسي؟!
يقول:
كَفاني المَجوسِيُّ مَهرَ الرَباب فِدىً لِلمَجوسِيِّ خالٌ وَعَم
شهدْتُ عَلَيْكَ بِطِيب المُشَاشِ وأَنَّكَ بَحْرٌ جَوَادٌ خِضَمْ
وأَنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الجَحِيمِ إذَا مَا تَرَدَّيْتَ فِيمَنْ ظَلَمْ
أي أنه يقول ” أنت رجل مُمتاز، ولكن طبعاً لكونك غير مسلم هذا يعني أن مصيرك النار ولكن لا بأس فأنت ستكون أكبر مَن في النار:
وأَنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الجَحِيمِ إذَا مَا تَرَدَّيْتَ فِيمَنْ ظَلَمْ
وقال:
قَرينٌ لِهَامَانَ في قَعْرِهَا وفِرْعَوْنَ والمُكْتَنى بالحَكَمْ
ويقصد بقوله:
كَفاني المَجوسِيُّ مَهرَ الرَباب فِدىً لِلمَجوسِيِّ خالٌ وَعَم
أي أفديه بخالي وعمي لأنه دفع عني مهر رباب زوجتي، فقال له المجوسي وقد أزعجه الوصف :
أجعلتني من أهل الجحيم؟!
قال :
أما كفاك أني جعلتك مع مَن سميتهم، فأنت مع هامان ومع فرعون ومع الحكم؟!
قال:
وماذا عنيت أو مَن عنيت بالحكم؟!
قال:أبا جهل.
في ظَرف، هذا اسمه الظَرف واللُطف، فهكذا كانوا مُتسامِحين، وكما نقول ” سُقياً لتلك الأزمان ” ، فيا ليت يتعلم المسلمون ويا ليت يسمعون.
ولكن قد يسألني أحدهم: هل هذه خُطبة؟!
نعم، هذه خُطبة ولها أغراضها ولها وسائلها، فيا ليت نتعلم هذا ونُدمِن سماعه لأننا إذا وصلنا إلى هذا المصاف العالي بالحتم والحري تكون كثير من مُشكِلاتنا وإشكالتنا في التعاطي مع بعضنا البعض ضمن الدائرة الواحدة – إن شاء الله – قد تُجوِزَت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (11/1/2013)
أضف تعليق