إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ۩ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ۩ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ۩ وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ۩ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۩ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ۩ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ۩ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ۩ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ۩ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ۩ وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
إحدى ثمرات وفوائد وعوائد تنبيء الأنبياء وإرسال الرسل وضع الحد الفاصل بين ما يجوز لدعاة الخير والمُبشِّرين بالفضيلة والقيم الرفيعة العالية على الناس وما لا يجوز لهم، بمعنى أن الله – تبارك وتعالى – لو لم يصطف من عباده خيرهم وأفضلهم وأشرفهم ألا وهم الأنبياء والرسل ويحد لهم حدود مهامهم ويُعيِّن لهم فوارق وظائفهم لجاز لكل داعية من دعاة الخير ولكل مُبشِّر بالفضيلة ولكل ناطقٍ عن الروح وعن عالم الغيب أن يرى لنفسه من السُلطة على الناس وحق الهيمنة والتسيير والوكالة والوصاية والحفظ ما يغتال ربما مُعظَم حريات الناس، وسينطلق كثيرون إن لم يكن أكثر هؤلاء ليقولوا لمدعويهم ولمُخاطَبيهم نحن لكم ومنكم بمنزلة الوالد من أولاده الصغار الذين لا يعرفون أو لا يزالون جاهلين بما يُصلِحهم وما يُفسِدهم، أما نحن العقلاء الألباء الرشداء فنعرف هذا، فعليكم أن تتبعونا وأن تُرسِلوا وتُطلِقوا مقادتكم بأيدينا نُسيِّركم كيف شئنا، وقد يُسارِع بعضكم أو بعضكن إلى القول بأنهم أوصياء، في كل دين – ليس الإسلام فقط وإنما كل دين – يُصدِرون عن مثل هذا المنطق، حقيقةً يتكلَّمون مع الناس كأن الناس غير رشدة، كأنهم أطفال صغار، كأنهم أطفال في روضة لا يعرفون ما يُصلِحهم مما يُفسِدهم، ولذلك يُطالِبون الناس بألف وسيلة ووسيلة فعلاً بأن يُطلِقوا مقادتهم مُرسَلةً بين أيديهم ليتصرَّفوا فيهم ويحتجون بأشياء وأخطر ما يحتجون به حال الأنبياء والرسل – وفي الحقيقة ليس هو من الاحتجاج في شيئ ولا حتى من الاستئناس الذي يُسوِّغه المقام والسياق، لكنهم يحتجون فيما يزعون بحال الأنبياء والرسل – ومن هنا الكلمات الكبيرة ذات الرنين الصاخب الصادح كالرسالية، يقول لك الواحد منهم الرسالية أو مُهمتنا الرسالية، هل أنتم رسل؟ لستم رسلاً، حين تتحدَّث عن رسالية فهذا يختص بالأنبياء والرسل، لماذا تنتزع أنت هذه الصلاحيات؟ تدور أدمغتهم من هذه المُصطلَحات لأنهم يحبونها جداً، مثل الرسالية ومهامنا الرسالية ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، وهذا حقٌ يُراد به باطل، ويكتبون ويُدبِّجون ويتكلَّمون إلا ما استُثني كأنهم الرسول وأمامه أصحابه، ولذلك مَن أطاعنا فقد اهتدى ورشد، هم يكتبون هذا، مَن أطاعنا ومَن سلك خُطتنا ومَن أخذ مأخذنا ومَن أتبعنا ومَن قال بقولنا فقد اهتدى، والله يكتبون هذا بالنص والفصل في كتبهم وهي منشورة، ولكن الناس لغلبة التغييب عليهم واغتيال عقولهم واجتياح عقولهم وملكة النقد والتحسس لا يعرفون، لأننا لسنا ضنينين بحرياتنا، حرياتنا تقريباً مُغتالة أو بالحري ربما أكثرها غير موجود، نحن لسنا أحراراً حقيقيين، لم نترب تربيةً حرة، لا في بيوتنا على أيدي والدينا ولا في الرياض أو المدارس ولا حتى في المساجد، نحن دائماً مُوصى علينا، من أكثر الكلمات التي يُحِبها العرب والمُسلِمون كلمة ولي الأمر، وليس طاعة ولي الأمر الرئيس أو الزعيم فقط وإنما دائماً هناك ولي أمر، أينما تذهب هناك ولي أمر، المرأة الراشدة البالغة العاقلة تتزوَّج وعندها أولاد وبنات ويتزوَّجون وتُحفِد إن جاز التعبير – أي يصير لها حفدة أو أحفاد – ويُقال ولي أمرها زوجها، كيف يكون ولي أمرها؟ مَن قال هذا؟ حلقات مُتلفَزة ويُستضَاف فيها علماء ودكاترة مُحترَمون ومشائخ ولا أحد يتنبَّه منهم إلى الفخ أو لعله يُحِب هذه الفخاخ وهذه الشِباك والمصائد ليسأل نفسه كفقيه قائلاً أنت تحمل دكتوراة في الفقه فما هي ولاية الأمر؟ ما هي الولاية أصلاً؟ الولاية إنفاذ القول والفعل على الغير شاء هذا الغير أم أبى، هذه هي الولاية، فالمُولى عليه إنما يكون مُولىً عليه مِن عجزٍ أو قصور، عجز بسبب الصغر أو قلة العقل والبلاهة والحمق أو سفه في التصرف أو غير ذلك، لكن العاقل البالغ الراشد مَن الذي يكون ولياً عليه؟ هو ولي نفسه، يا أخي هو مسؤول أمام الله – لا إله إلا الله – عن نفسه، كيف لا يكون مسؤولاً عن نفسه أمام المُجتمَع أو أمام المُؤسَّسات المُختلِفة للمُجتمَع حتى يكون أحدهم ولي أمره؟ كل أحد في المُجتمَع ولي أمر عليه، وهذا عجيب جداً، دائماً ما يُقال ائتني بولي أمرك أو بإمضاء ولي أمرك، دائماً أنت غير راشد مهما كنت راشداً، وهناك مَن يلي أمرك ويُنفِّذ القول والفعل عليك شئت أم أبيت، وهذا اغتيال للحرية، المسألة ليست فقط مسألة فكرية وثقافية وإنما تربوية، طبعاً هي ثقافية بلا شك لكن الجذر تربوي بمثل هذه التربية ومثل هذه المقولات، حركات وتنظيمات إسلامية تُعلِّم أبناءها وأتباعها من غير تزيد قائلة ممنوع أن تتحرَّك لأكثر من عشرين أو ثلاثين كيلو متر إلا بإذن، ينبغي أن نعرف أين تتنقل، ينبغي أن أين تُقيم وأين تحل وترتحل، وهذا أمرٌ عجيب، هل لا أستطيع أن أسافر أكثر من ثلاثين كيلو متر إلا بإذن؟ نعم، لابد من إذن، ممنوع أن تتزوج إلا بعد أن تستأذن وتعرض عليهم السيرة الذاتية – C.V – الخاصة بالزوجة لكي يعرفوا أنها فلانة بنت فلان ثم يُقال لك لا، هذه من عائلة غير مرضية، هذه تنحدر من عائلة مُنظَمة في التنظيم المُخالِف لنا، ومن ثم هذا ممنوع، هل هذا حتى في الزواج؟ نعم، حتى في الزواج، وطبعاً تستطيع أن تتزوَّج دون أن تستأذن وستدفع الثمن، إن تزوجت دون أن تعود إليهم – إلى التنظيم أو إلى ولي الأمر – لن تُرقى بعد ذلك، بل سيطالك تخفيض وتضعيف – أي إضعاف – فتُنزَل من الدرجة الخامسة إلى الرابعة أو الثالثة وهكذا، لن ترتقي السُلم، لا كانت هذه السلالم التي تغتال الحريات وتطمس الشخصيات، هذا شيئ عجيب، وإذا أردت أن تُطلِّق لأنك تزوَّجت عن أمرهم وعن إذنهم – تزوَّجت من أخت ما شاء الله مُلتزِمة ومُمتازة، وأبوها شيخ أو داعية – لابد أن تستأذن، لابد أن يسمحوا لك، وهذا أمرٌ عجيب، ماذا أملك من أمر نفسي؟ ما هذه التربية العجيبة الغريبة؟ هل هذا الدين؟ قالوا هذا الدين، وطاعة الأمير طاعة للرسول وطاعة الرسول طاعة لله، والمعصية معصية معصية، وهذا شيئ عجيب، يضحكون على الناس بهذا، لذلك نفشل ونجتر الفشل باستمرار ونحن – والله – جُدراء أحقاء قمينون بالفشل، مثل هذه التربية ومثل هذه العقلية لا يُمكِن إلا أن تُولِّد مُتواليات ومُتسلسِلات من الفشل المُستمِر الذي يعمل على التغذية الذاتية، يُغذِّي نفسه بنفسه، حلقة شيطانية ملعونة.
هل كان الرسول يُعطي نفسه هذه الصلاحيات؟ هل الغيب أعطى النبي هذه الصلاحيات؟ القرآن هنا أكثر من واضح وأكثر من صريح وأكثر من كريم، فعلاً كتابٌ كريم، فيه كرامة الإنسان، النبي قد يضيق صدره شيئاً ما، وهذا يحدث للبشر لأنه في نهاية المطاف بشر، البشر يُخامره أحياناً شيئ من يأس، قال الله حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ۩، وهذا اليأس ليس من رحمة الله وإنما هو يأس من هؤلاء القوم ومن هؤلاء الناس كما يأس يونس منهم وخرج دون أن يستأذن من الغيب ومن الله – تبارك وتعالى – فعاقبه الله تبارك وتعالى، لست أنت مَن يقول هؤلاء لا خير فيهم، بالعكس الله قال له فيهم الخير، وحين عاد إليهم وجدهم آمنا من عند آخرهم، تقول الآية الكريمة فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ۩، فهذا هو، قال له لست أنت الذي يقول، بل أنت مُجرَّد مُوظَف عند الغيب، أنت مُوظَّف عند الله – تبارك وتعالى – ولك حدود وفوارق تُحدِّد وتُعيِّن مُهمّتك وتُميِّزها من مهام غيرك، حدود دقيقة جداً، فالنبي قد يتخوله شيئٌ من يأس، قد يُخامِره شيئٌ من غضب داخلي يفور، فالله – تبارك وتعالى – مُباشرَةً يقول له لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩، لست أنت الذي تقول هؤلاء مصيرهم إلى الجنة أو إلى النار، لست أنت أبداً، قال الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۩، قال له لست أنت، أنا الذي أُحدِّد مصائر البشر، مصائر البشر ليست بيد محمد، هل تعرفون لماذا؟ لأن دائماً رب البشر – لا إله إلا هو – يكون أرحم من محمد، وهو بلا شك أكبر من محمد وأكثر من محمد وأصبر من محمد، لذلك قال – لا إله إلا الله – الله أكثر، قال الله أكبر، إذن نستكثر ولذا قال الله أكثر، أكثر خيراً وأكثر عطاءً وأكثر شكراً لا إله إلا هو، مَن ذا الذي يُجاريه؟ لا أحد يستطيع أن يُجاري الله – لا إله إلا هو – في حلمه وصبره وشكره على الخير أيضاً، الذي يكون منك الخير القليل يجزيك عليك بالكثير الكثير الدائب الدائم غير المُنقطِع، ولذلك ما أرحم أن تكون مصائرنا بيد الله لا إله إلا هو، أجمل شيئ أن تكون مصائرنا بيده هو، لا بيد حتى رسول الله وهو أرحم الخلق بالخلق وهو الرؤوف الرحيم، قال الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۩، لكن أين هذا الرؤوف الرحيم مِن رب الرأفة والرحمة لا إله إلا هو؟ هو الذي أودعهما في قلبه وجعله رؤوفاً رحيماً، ولو شاء لنزعهما، أليس كذلك؟ الله هو الذي جعله – عليه الصلاة وأفضل السلام – كذلك، ولذلك الله – تبارك وتعالى – بحسب القرآن الكريم يُريد أن تُحترَم حريات الناس، القرآن الكريم يُظهِر حساسية شديدة ونفوراً من كل ما مِن شأنه أن يتجاوز على حريات الناس وعلى اختيارات البشر، ليس هذا لأحد ولا للأنبياء، لكن المُشكِلة يا إخواني أننا نقرأ القرآن تقريباً ولا نكاد نفقه له حديثاً، نقرأ ونتحفَّظ ونُرتِّل ونُردِّد دون أن نفقه، آيات كثيرة – غير آية في كتاب الله – تنص بشكلٍ واضح أن الله – تبارك وتعالى – ما جعل محمداً حفيظاً على قومه وما أرسله عليهم حفيظاً وهو ليس بحفيظ، ما معنى الحفيظ؟ ما معنى أن ينفي الله هذه الحافظية عن رسول الله؟ نفى هذا عن الرؤوف الرحيم فانتبهوا، نفاه عن أعرف الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، هذا لم يُنف عن أي إنسان، ليس عن داعية أو عالم وإنما عن رسولالله، نحن بشر لنا أهواؤنا ولنا تفضيلاتنا ولنا تحيزاتنا ولنا مصالحنا، وهذا واضح جداً جداً، لنا انتماءتنا الضيقة، كالقومية والوطنية والطائفية والمذهبية والحزبية، وهذا أمرٌ معروف، لكن الرسول كان فوق كل هذه الأشياء، الرسول لم يُذعِن لشيئٍ منها، ما رأيكم؟ وطبعاً جدير وحقيق ألا يُذعِن لشيئٍ منها وهو الذي أرسله الله رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، فضلاً عن أنه أرسله كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۩ أرسله الله لكل الناس، لم يُميِّز بين هذا الرومي وهذا الفارسي وهذا الأبيض وهذا الأحمر وهذا الأسود أبداً، قال الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، وكان عنده صدقٍ مُتألِق وصدقٍ حقيقي، النبي لم يكن يعتمل أو يتفعَّل هذا أو يتكلَّف هذا هذه هي حقيقته، الله صاغه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – هذه الصياغة، ما معنى أنه ليس حفيظاً علينا؟ هو لم يُجعَل حفيظاً فما معنى هذا؟ ما هو الحفظ؟ الحفظ في اللغة العربية مُعجمياً هو الحراسة، الحفيظ هو الذي يحرس، يحرس القوم ومتاع القوم أيضاً، فهو أعم من الوكيل، وفي كتاب الله غير آية نفت عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – الوكالة، أي أن يكون وكيلاً على الناس ووكيلاً على العباد، هو ليس بوكيل، ما معنى الوكيل؟ نفس الشيئ ولكن هذه اللفظة أخص من الحفيظ، لأن الحفظ الذي في الوكالة مُختصٌ بحفظِ الأمتعة والأشياء دون مواليها، أما الحفظ الذي في الحفظ يعم الأشياء والأمتعة وأصحابها، أي مواليها، الله يقول له أنت لست حارساً على الناس، لست حارساً على العقائد، لعنة الأديان وسرطان الأديان – والإسلام ليست استثناءً – في مَن يرون أنهم حرّاساً للدين، حين تأتي طبقة وترى نفسها حارسة للدين، وهذه الطبقة سمها كهنوتاً أو سمها طبقة العلماء أو طبقة الدعاة أو طبقة التنظيمات أو الأحزاب أو الجماعات، هذا لا يعنيني، لكنها طبقة أو جماعة من الناس أو أفراداً أفذاذاً من غير تنظيم ومن غير حركية يرون أنهم حرّاس على الدين، هذا ممنوع، ولذلك ليت شعري مِن أين تطرَّق إلينا هذا المعنى اللعين؟ هذا معنى لعين، لا يُمكِن أن يُقال نحن نحرس الدين، لا أحد يحرس الدين، هل تعرفون مَن يحرس الدين؟ الله وحده لا إلا هو، القائل – سبحانه وتعالى – قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ۩، ما معنى هذا؟ معنى هذا باللزوم لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يبطلوا هذا القرآن وعلى أن يُطفئوا نوره وعلى أن يكسفوا شمسه لن يستطيعوا.
هل تعرفون ما الذي حيَّر أعداء الإسلام؟ الإسلام له أعداء طبعاً في الشرق والغرب، فما الذي حيَّرهم؟ الذي حيَّرهم وجنَّنهم أن هذا الدين خلافاً للأديان التي يدينون والتي يعرفون لا رأس له، نيكسون Nixon – ريتشارد نيكسون Richard Nixon رئيس أمريكا الأسبق – دعا إلى قطع رأس الإسلام واصفاً الإسلام بالحية الرقطاء، الحية إذا ضربتها وقطعت شيئاً من طولها ولم يتسلَّط عليها بعض هوام الأرض تعود، ينحسم هذا الشيئ وتعيش، لو تركت لها رأسها أو شيئاً قليلاً من بدنها تعيش، ينحسم وتعيش وتبقى هكذا زعراء خطيرة شديدة السُمية، فهو قال الإسلام حية رقطاء ولذلك لابد من قطع رأسه، لابد من ضرب رأسه، لكن الإسلام لا رأس له، ليس عندنا بابا Pope، وأي أحد يُحِب أن يلعب دور بابا ودور كهنوت وأنه أبو الإسلام وأمه – وطبعاً بأسماء مُختلِفة، يعملون تنظيمات وأشياء وجماعات وجمعيات واتحادات وهيئات – لا يُلزِمنا، اعمل مليون مُؤسَّسة ولن تُلزِمنا، الأزهر لا يُلزِمنا، نحترمه على الرأس والعين لكنه لا يُلزِمنا، لا يُوجَد عندنا شيئ اسمه رأس الإسلام وبابا الإسلام أو أم الإسلام بحيث إذا ضربته أو شوَّهت سُمعته أو خيَّبت مسعاه خاب الإسلام وانتهى، وبحيث إذا ضربت هذه الرأس مات الإسلام بدناً ورأساً بعد ذلك، هذا مُستحيل، لا يُوجَد هذا الكلام، لكن عندهم هذا موجود طبعاً، يتحسسون جداً من هذا، وهي أبو المحظورات وأبو التابوهات Taboos، أعني هذه الرأس، ولذلك هذه يعطونها جلالة خاصة وإن كفروا حتى بمعنى الدين، وهذا شيئ غريب، الإسلام حيَّر غير واحد من المُؤرِّخين خاصة الغربيين، ليس الشرقيين المُسلِمين والمسيحيين وإنما الغربيين، حيرهم تماماً أنه يُبدي أحياناً علاقةً معكوسة بين انحطاطه سياسياً وعسكرياً – أي انحطاط دولته – ورقي دعوته، يقولون هذا الشيئ يُجنِّن، الدولة انحلت والدولة تفككت والدولة اُغتيلت مثل أيام المغول ولم يتأثَّر الإسلام، أليس كذلك؟ حين دمَّروا لنا بغداد ودمَّروا طبعاً خوارزم – أي المملكة الخوارزمية أو الإمبراطورية الخوارزمية كلها – وكثيراً من بلاد فارس واجتاحوا جزءاً من الشرق العربي الإسلامي وانتصروا نصراً مُبيناً على المُسلمين السادرين في غيهم وفي طغيانهم للأسف وعبثهم ولهوهم، ما الذي حدث؟ المفروض بمنطق التاريخ ومنطق صراع القوى أن ينتهي الإسلام، بعد سبعين أو ثمانين أو مائة سنة من المفروض أن ينتهي الإسلام بالكامل، لأن ضُرِبت دولته في الجيش والقوة والعسكر والهيبة والمنعة على مستوى العالم ومستوى الكوكب في عالم لم يكن فيه أي قانون دولي مثل اليوم، هذا لم يكن موجوداً، كان القوي يأكل الضعيف، لا يُوجَد مفهوم السيادة الموجود الآن، لا تُوجَد سيادة، السيادة للقوي ويفرضها، والعجيب أن الشعوب تقبلها دون أي مُشكِلة، الشعوب تقبل سيادة القوي حتى وإن كان على غير دينها وعلى غير ملتها، يُقال هو غلب فماذا نفعل؟نستأسر له وما إلى ذلك، وأكثر ما نطلب ونتمنى نوعاً من العدل ونوعاً من الانصاف، هذا كان في كل العالم، هذا العالم الوسيط هكذا كان يعيش، لذلك الذين يحتجون حتى على الفتوحات الإسلامية لا يفهمون هذا المنطق، يُحاكِمون تلك العصور إلى منطق العصر الحديث وإلى هذا العصر المُعاصَر المعيش أيضاً، وهذا غلط، من الناحية العلمية هذا غلط ، لكن ما حدث العكس، أن الإسلام عادت شمسه لتُشرِق من جديد مُتألِّقة ساطعة، غزالة من جديد بإسلام المغول أنفسهم، دخل المغول الإسلام، وهذا غير معقول، توماس آرنولد Thomas Arnold يقول مُستحيل، فيليب حتي – المُستغرِب اللبناني، عاش ومات في أمريكا، وهو مُؤرِّخ كبير – يقول هذا عجيب، كُسِرَ سيف الإسلام، ولما كُسِرَ سيفه علا نجمه من جديد، ما هذه العلاقة يا أخي؟ شيئ يُجنِّن، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا إسلام محمد، دين محمد الذي ليس حارساً على الدين، قال أنا لست حارساً، أنا لست وكيلاً، أنا لست حفيظاً، أنا لست مُهيمناً، لست مُسيطِراً، لست جبّاراً، أنا مُجرَّد مُبلِّغ مُعتمِد على الله أولاً وأخيراً وعلى قوة الحق المُستمَد من كلمات الله، الآن تجري انتخابات وهذه قاعدة خذوها، وهي ليست من عندي وإنما من علم السياسة، أنا تعلَّمتها في علم السياسة، وهي في الكتب المرجعية العلمية، تحدث انتخابات وعندك شخصيات مُتكافئة تقريباً، يُقدَر أن يفوز هذا بخمسين في المائة وهذا بخمسين في المائة إذا لدينا فقط حزبان، أنا من الآن اقول لك تعرف مَن الذي سيفوز منهما، إذا فعلاً هناك لعبة ديمقراطية بأصولها وحملات انتخابية وشروط مُتكافئة – كل الشروط مُتكافئة – ما إلى ذلك ما عدا ماعدا عوامل النجاح الذاتية التي تبرز في كاريزما Charisma الشخص المُرشَّح وأيضاً في برنامجه المُقدَّم للجمهور الناخب، فقط هذه العوامل المُؤثِّرة، هذه المُتغيرات المُؤثِرة، أنا من الآن أعطيك طلسم لتستطيع أن تعرف مَن سيفوز، هكذا يقول علماء السياسة، هل تعرفون مَن؟ الذي يتملَّق الجمهور أكثر، إذا رأيتم مُرشَّحاً يتحدَّث كثيراً عن ذكائه وعن قوته وعن قوة حزبه وعن برامجه وعن وعن وعن سيخسر، إذا رأيتم مُرشَّحاً يتحدَّث في هذه النُطق باقتصاد ويتحدَّث بإفعام ومُبالَغة عن الجمهور وعن الناس العُظماء والشعب العظيم والشعب الكريم والتحدي الذي يحمله الشعب وسيحمله الشعب وأنتم وأنتم وأنتم وأنتم سيفوز، لا يُمكِن أن يُقال أمام الجمهور أن تقول أنا، فأنا عُدت إلى سيرة المُصطفى الميمون – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لم أجده يوماً تملَّق الناس، وهذا شيئ غريب، النبي يختلف عن كل القيادات، ما رأيكم؟ يختلف عن كل القيادت الروحية والفكرية والسياسية والعسكرية، انظروا إلى خطابه، ما عنوان خطاب النبي للناس دائماً؟ أيها الناس، يقول دائماً أيها الناس، يا سلام، هذه أعم الكلمات، ما رأيكم؟ أعم الكلمات كلمة إنسان أو كلمة الناس – هذه للجمع من غير جنسه – أيضاً، فكان يقول يا إنسان، وكان يقول يا بني آدم، مثلما يقول القرآن أيضاً، فكان يقول أيها الناس وفي مرات أقل يقول يا عباد الله، وكلنا عباد الله، كله عباد الله، الصالح والطالح والقريب والبعيد والعالم والجاهل، كله عباد الله، كله ناس، ولذا يقول أيها الناس، ولا يكذبهم ولا يستغل عواطفهم ولا يلعب على وتر العواطف أبداً، وأنا أقول لكم يسلك سلوكاً جديرٌ بأي قيادة روحية أو فكرية أو سياسية إذا سلكته كما هو بهذه العقلية والثقافات عند البشر أن تفشل فشلاً ذريعاً، النبي كما يسلك وهو في حجرته وهو في مجلس مُضيَّق جداً من أصحابه يسلك في مسجده ويسلك أمام الجماء الغفير من الناس، نفس السلوك، وربما ألقى رأسه وكذا ونام ونفخ ونام أمام الناس، يُقدَم له طعام ويجلس كما تعرفون كيف كان يجلس، يجلس على رُكبة ونصف ويبدأ يأكل، أي كما يجلس العبيد، هذه جلسة العبيد، ليست جلسة الكبار المُفخَّمين طبعاً، وبعض الصحابة كأنه لا يُعجِبه هذا لأن هذا نبي وهذا يٌقلِّل من قيمته في نظر الحمقى من الناس وكذا، فقال إنما أنا عبد، ما الذي أثارك؟ أنا عبد، هذه جلسة عبد وأنا عبد، أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد، لن أُمثِّل على الناس، لن أتملَّقهم، لن أقول ما لست مُقتنِعاً بهم من أجل أن يرضوا عني ويعطوني أصواتهم، هذا هو النبي محمد، على ماذا تعتمد أنت يا سيد الخلق؟ يقول أعتمد على الله أولاً وأخيراً فأنا عبده ورسوله، وعلى الحق الذي مِن لدنه، أنا أريد أن أُخرِج أمة حقيقية ليست أمة من الرجال الجوف Hollow men، ليست أمة من الشكلانيين المُتدينين طقوسياً من أصحاب الرياء الاجتماعي، لا أحب أن أُخرِج من تحت يدي وبيدي أمة من الغنم باسم الدين، يقول لا أفعل هذا أبداً، ولذلك النبي كان يُناقَش ويُرَد عليه مرة ومرتين وثلاث مرات ولا يغضب وخاصة في شأن ليس للوحي علاقة به، أي شأن دنيوي مثل تدبير سياسي أو عسكري أو أي شأن، يأخذ ويعطي تماماً دون أي مُشكِلة، يُحِب هذا ويُشجِّعهم على هذا، أنا أقول لكم كل قائد يفعل هذا يفشل ما لم تتغيَّر الثقافة، لذلك هذه ثقافة فشل، حين تتغيَّر هذه الثقافة هذا القائد المُتملِّق النصّاب الدجّال سيفشل مع قوم ناجحين، نجحوا في أن يتمتعوا بحرياتهم الحقيقية التي ما عرفوها من قبل، فقط تكلَّموا وتغزَّلوا بها وهم لا يعرفونها، أرأيتم؟ هذه فائدة من أكبر فوائد النبوة، إذا النبي وهو النبي ليس مثل هذه الصلاحيات فبالله لا تُحدثني لا عن شيخ ولا إمام ولا مُجدِّد ولا صوفي ولا ولي لله ولا صحابي ولا تابعي لكي يغتال حريتي وعقليتي وشخصيتي باسم أنه يُصلحني ويهديني، لا يا حبيبي، لن نُسلِّم بهذا، انتهى الأمر، سنعيش أحراراً كُرماء بشراً، لأن الله يغار على هذه الحرية التي كرَّم الإنسان بها، يغار عليها حتى من محمد أن يتغوَّل ويتجوَّز شيئاً عليها، هذا ممنوع، يقول له حتى أنت ليس لك الحق أن تتجاوز على هذه الحرية، لأنني خلقت هذا العبد وجعلته حراً بإزائي أنا، يا الله، يا أخي نحن أحرار أمام الله – تبارك وتعالى – فلماذا نكون عبيداً أمام أي أحد من بشر الله ومن خلق الله؟ لا، ولذلك نتحدَّث عن الحرية، هنا قد يقول لي أحدكم كيف نحن أحرار إزاء الله؟ طبعاً نحن أحرار إزاء الله، حين تتحدَّث عن الحرية لا تملك إلا أن تتحدَّث عن هذه الحرية الميتافيزيقة الحرية الأنطولوجية الوجودية، وهي حريتك إزاء الله – لا إله هو – وإزاء القدر وإزاء الغيب، هذه قضية القضاء والقدر ومُجبَر ومُسيَّر، أليس كذلك؟ وهذا في كل الفلسفات والأديان والملل والنحل اللي تُقِرّ بوجود الله تبارك وتعالى وجل وعز، هذه حريتنا نُطالِب بها، نغار عليها ونُريدها لأننا قلقون بشأنها، ثم نتحدَّث بعد ذلك عن حريتنا إزاء المُجتمَع ومُؤسسَّات المُجتمَع المُختلِفة وإزاء ثقافة المُجتمَع، يا أخي نحن نتحدَّث عن حريتنا حتى إزاء تكويننا العصبي وأجهزته، كيف تتفاعل هذه الأجهزة؟ هناك أبحاث علمية والآن يُوجَد علم كامل يتحدَّث في هذا الباب، وبما أن الدين هو خيار خطير في حياة الإنسان ويخضع للاختيار وللانتخاب – آخذ هذا الدين أو هذا أو ذاك أو ذلك – قالوا هذا له مهاد عصبي وله أساس عصبي، فظهر عندك علم جديد مُحترَم عجيب من أروع ما يقرأ فيه الباحث والقاريء، اسمه علم اللاهوت العصبي Neuropsychology، وهذا شيئ غير معقول، هذا الإنسان يغار على حريته، يبحث عنها في كل شيئ وعلى جميع المُستويات والمِهادات، يُريد دائماً أن يُبرهِن هذه الحرية، هل هي موجودة؟ موجودة، لن أسمح أن تُغتال، هذا الإنسان عبد الله، ليس عبد الطائفة وعبد المذهب وعبد الحزب وعبد الجماعة وعبد الدولة وعبد القومية وعبد الوطن، هذا عبد الله فقط، هذا الإنسان الحر، النبي ربى هذه التربية تماماً، لكن من أين؟ كما قلت لكم على أسس قرآنية، الله قال له أنت لست عليهم بحفيظ، قال الله وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ۩، لا حفيظ ولا وكيل، ما معنى حفيظ حتى نحفظ هذا الكلام العلوي؟ الحفيظ هو الحارس الذي يحرسنا وأشياءنا ومصالحنا، هذا اسمه حفيظ، الله قال له أنت لست حفيظاً، لا تحفظهم، أنت لا تحرسهم ولا تحرس دينهم، مَن الذي يحفظ الدين؟ الله قال له أنا، لست أنت ولست هم وإنما أنا، إذن نرجع للسؤال، ليت شعري من أين أتى هذا التعريف العجيب؟ هذه الكلمة الساقطة هل سقطت هكذا سهواً لما عرَّفوا الإمامة والخلافة في السياسية الإسلامية؟ كل الكتب الإسلامية قالت الخلافةٌ نيابةٌ عن صاحب الشريعة – صلى الله عليه وسلم، الخليفة هو الذي يأتي بعد الرسول، أليس كذلك؟ يخلف الرسول أو يخلف من خلف الرسول وهكذا – في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، يا سلام على حراسة الدين، هذا ضد القرآن تماماً، هذا منطق الدول يا حبيبي، هذا منطق القوة Power, هذا منطق السُلطة Authority، هذا منطق الهيمنة، يُريد أن يُفهِمنا أن هناك حرّاساً للدين، مَن؟ مَن حارس الدين؟ هل هو خليفة أو صحابي أو تابعي أو عالم أو صوفي أو مُتروحِن؟ هذا كله كذب، لا أحد فيكم عنده هذه الصلاحية، لأنها لم تُعطَ لمحمد، صلى الله على محمد، لكننا ما قرأنا القرآن ولا أُفهِمناه ولا قيل لنا ما معنى الحفيظ ، فقط نسمع كلمة حفيظ باستمرار ونمشي، لكن ما معنى الحفيظ؟ الله أعلم يحفظ ماذا، الحفيظ هو الحارس، الله قال له أنت لست حارساً، يا سلام على عظمة القرآن الكريم، كما قلت لكم سرطان الأديان ولعنة الأديان تنبع من هنا، من مفهوم حراسة الدين، أي دين الناس!
هل تعرف ما الذي يحرس دينك؟ أنت فقط، الدين خيار شخصي أولاً وأخيراً، هذا ديني، ومعنى ديني أنه ضميري وقلبي وروحي وعلاقتي بالله وتوقيري لله وخشيتي لله وحبي لله وتوجهي إلى الله وطبيعة علاقتي بالله، هذا لي أنا، صحيح هناك المُخوَّلون وهم كثر وفي رأسهم الدولة وأجهزتها المُختلِفة بحراسة دُنيانا، يحفظ لي بيتي ويحفظ لي أمني ويحفظ لي سيارتي في الكراج Garage وغير الكراج Garage ويحفظ لي صوتي حتى لا يُزوَّر في الانتخابات ويُضحك علىَ ويحفظ لي مصالحي ويحفظ لي المال العام الذي لي جزء فيه، قال الله وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ۩، كل مال هو مال للأمة في نهاية المطاف، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، مع أن هذا يملك وهذا يملك لكن في النهاية المال مال الأمة، لذلك يخضع الكل للمساءلة، من أين لك هذا؟ لا يُمكِن يا حبيبي أن تُتاجِر في الأدوية المضروبة أو المُخدِرات كالهيروين والمُدمِّرات أو المُعلبات الفاسدة، لا يا بابا تعال هنا، أنت تعيش في مُجتمع، لا تعيش في غابة، أليس كذلك؟ هناك من يحرس هذه الأشياء، يحرس دُنيا الناس، فنعم لهذا وأهلاً وسهلاً، لابد أن تُحرَس الدُنيا لأن الدُنيا ليست خياراً فردياً على النحو الذي عليه الدين، الدين خيار فردي، علاقة حقيقية جمالها في هذا الجوهر تماماً، والدين خارج هذا الجوهر – بدون هذا الجوهر – لن يكون أكثر من نفاق ومن رياء ومن انتهازية مفضوحة طبعاً، الدين حين يكون مظهر دين واسم دين وعنوان دين بغير جوهر الدين – كما قلنا المعرفة والتقوى والإحسان والمحبة والخشية والتوقير ومُراعاة الله حقاً لا إله هو – فهذا دجل كبير جداً جداً جداً نتغوَّل به أصوات الناس وأموال الناس وحب الناس وتقبيل الناس للأيدي والأرجل وإلى آخره، نرفع به خسائسنا باسم الدين، وبعد ذلك الناس تُصدَم بنا، تُصدَم صدمة كبيرة، يقولون لك هل هذا الدين؟ يُجَن جنونهم، وكما قلت لكم غير مرة الناس يغتفرون لغير المُتدين ما لا يغتفرون للمُتدين، لأن الدين عندهم – كما قلت – تقوى، هو عنوان هذه الأشياء التي هي الأنبل والأشرف والأكرم في حياة الناس، فحين تُعتبَر هي كلها فخاخ ومصائد لمصالح الناس يُجَن جنون الناس، فاجعلوا الدين بعيداً عن هذه الأشياء، إذن هذا جوهر الدين، هذا يحرسه بعد الله تبارك وتعالى، أنت تستحفظ الله دينك وإيمانك وأماناتك، طبعاً وهو خير من حفظ الودائع، أنت بعد الله وبالله وبتوفيق الله تحرس دينك، تستطيع أن تقول للمُخوَلين بحراسة دُنياك أين مالي؟ أين سيارتي التي سُرِقَت؟ أين مالي؟ مَن الذي أهدر دم ابني؟ مَن الذي اعتدى علىّ في بيتي؟ مَن الذي اعتدى على كذا؟ مَن الذي كتب هذا عني وشوَّه سُمعتي؟ هناك مُخوَلون، ولابد أن يُؤخذ لك بحقك في مُجتمَع عادل، وسنُعطيكم علامة بسيطة ولطيفة يا إخواني، كيف نعرف أن مُجتمعاتنا تعافت؟ هي لم تتعاف الآن ولا قريبة من أن تتعافى للأسف الشديد، لكن كيف نعرف أنها تعافت؟ كيف نعرف أنها أصبحت مُجتمَعات فعلاً مُعافة؟ طبعاً يُوجَد أكثر من خمسين معيار، لكن من المعايير اللطيفة والمُهِمة أننا نعرف هذا حين تزول وتتلاشى وتنعدم فيها ظاهرة التهديد بغير القضاء، ما رأيك؟ أي مُجتمع التهديد يقع فيه فقط وفقط بالقضاء هو مُجتمَع مُعافىً ومُجتمَع سليم ومُجتمَع مُوفَّق وناجح، أكبر واحد يُهدِّد أصغر واحد بالقضاء، يقول له سأجرك على القضاء، هذا مُجتمَع عظيم، لكن أي مُجتمَع حتى لو كان مُجتمَعاً من الملائكة المُزيَّفين يقول لك فيه أحد سأفعل بك وأفعل لأنك فعلت كذا وسأقول لفلان وسأتصل بفلان هو مُجتمَع منخور مُسوِّس مريض، لا ينبغي أن يُهدَّد المُواطِن بأي شيئ خلاف القضاء، يُهدَّد فقط بالقضاء، أي تجاوز يحسمه القضاء، هذا مُجتمَع سليم، لا يُوجَد تهديد بالمُخابَرات وبرجل الأمن وبالوزير وبفلان وعلان، هذا الكلام غير موجود، هل في أوروبا يحصل هذا؟ لا يُمكِن أن يحصل، بالعكس أقل شرطي هنا كشرطي مرور يُوقِف رئيس حكومة، وقد حدثت عدة مرات في بريطانيا وفي فرنسا، يُوقِف رئيس حكومة إذا كان خارجاً في مُهِمة شخصية ولا تُوجَد حراسة وما إلى ذلك، من العادي أن يُوقِفه ويُخالِفه أيضاً، ولا يقدر على أن يعترض، وإذا اعترض يُبهدَل، تُبهدِله الصحافة والناس وحتى الجهات المعنية أيضاً، حدث أيام ديجول De Gaulle هذا الشيئ تماماً، وديجول De Gaulle رقَّى هذا الشرطي وبهدل الوزير، هذه مُجتمَعات مُعافة، هذه مُجتمَعات حقيقية، والنبي كان مُجتمَعه أكثر من هذا بمراحل، كان يأتي الأعرابي – أعرابي صدئ وليس له أي شيئ عند رسول الله – ويأخذ الرسول من ملابسه ويُتلبِبه قائلاً أعطني من مال الله، يا أخي قلها بأدب، هو سيُعطيك لأن لا يُوجَد مَم هو أكرم منه عليه السلام، يقول له ليس مالك ولا مال أبيك وأمك، يحدث هذا عادي، ويغضب النبي إذا ثار أحد، لا يحب من أيٍ من الصحابة – لا عمر ولا غير عمر – أن يثور بسبب هذا الأعرابي، يقول له اجلس واسكت، ما علاقتك؟ اتركه يطلب، هو يُريد أن يُطالِب بحقه فدعه يُطالِب، والنبي يعطيه ويستألفه، يعطيه مرة ومرتين وثلاثة حتى يرضى، يقول له الآن قد رضيت يا محمد، ثم يخرج هذا الأعرابي المريض، هذا مُجتمَع النبي، هذا مُجتمَع الحرية الحقيقي، لأن النبي عرف دوره وعرف حدود مُهمته العظيمة، إذن ما مُهِمة النبي؟ انتبهوا إلى هذا، هم قالوا لك مُهِمتنا رسالية، نحن نريد أن نخرج البشر وأن نعمل كذا وكذا، وهذا غير صحيح، هذه أيديولوجيا، ما رأيكم؟ هذه أيديولوجيا لكن الإسلام ليس أيديولوجيا، طبعاً حتى لا نُعقِّد الأمور قد يقول لي أحدكم ماذا تعني أيديولوجيا؟ ماذا أفهم من أيديولوجيا وعلم الأفكار؟ ما المُراد بأيديولوجيا؟ طبعاً هذا موضوع مُعقَّد وطويل، لكن باختصار أقول لك كل إنسان يحمل فكرة مُتماسِكة نسقية مُغلَقة ويزعم أنها تُفسِّر كل شيئ – تُفسِّر الاجتماع والاقتصاد والثقافة والفن والآداب و و و و – وأنها صالحة أن تُثوِّر المُجتمَع كله وأن تقلبه رأساً على عقب وأن تخلق الناس خلقاً جديداً يُقال أنه يحمل أيديولوجيا، فالأيديولوجيا مُغلَقة والأيديولوجيا بطبيعتها تقطع مع المعرفة، لا تُحِب المعرفة، لا تُحِب الأسئلة الكثيرة فانتبهوا، لا تُحِب الاعتراضات، لا تُحِبالزيادة والنقصان، تقول لك أنا كاملة Perfect، أنا كما أنا، خُذني كما أنا، وفقط تحتاج إلى سواعد وحناجر ومِداد يكتب وخُطباء يخطبون أربع وعشرين ساعة مثل هتلر Hitler وموسوليني Mussolini وستالين Stalin ولينين Lenin قبله طبعاً، لأن هذا هوى وهذه أيديولوجيا، وتحتاج أيضاً إلى سواعد ضاربة، فلا تُوجَد أيديولوجيا تبرأ من استعمال العنف والقوة طبعاً، لأن في لحظة مُعيَّنة ستصطدم بأيديولوجيات أخرى وباتجاهات فكرية أخرى، ومن ثم ستقول أنا وفقط، وماذا تُريد؟ الأيديولوجيا ما مُهِمتها؟ هل مُهِمتها أن تُثقِّفنا وتُعلِّمنا وتُنوِّرنا؟ لا، مُهِمتها أن تُغيِّرنا، الأيديولوجي مهجوس بهاجس التغيير، هو فكري ثوري، عنده ثورة في عالم الفكر، لكن هل كان النبي أيديولوجياً؟ طبعاً رأيتم أن في فترة مُعيَّنة الكُتّاب الإسلامي ونشيعةً وسنة كلهم قالوا الأيديولوجيا الإسلامية ومعالم الأيديولوجيا الإسلامية، وردَّدوا كلمة الأيديولوجيا كثيراً، ونحن صدَّقنا وفرحنا بالأيديولوجيا، وهذا غير صحيح يا أخي، الإسلام أكبر وأكرم وأجل وأعظم وأكثر توقيراً لكرامات وحريات البشر من أن يكون أيديولوجيا،
لماذا هو ليس أيديولوجيا؟ أنا أقول لك هل النبي كان يرى نفسه مُكلَّفاً بتغيير العالم؟ لا، لم يحدث هذا أبداً، لماذا؟ كيف والله بعثه وأرسله وقال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩؟ أليس كذلك؟ ألم يبعثه الله ليهدي الناس وقال لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ۩ وبعثه بكتاب هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۩ وفيه هُدًى لِلنَّاسِ ۩ ومن ثم لابد أن يُغيِّر؟ هذا غير صحيح، انتبهوا ولا تخلطوا، هنا صار الخلط الكبير الذي وقع فيه الكُتّاب الإسلاميون الكبار وسمَّموا لنا فكرنا، ونحن الآن لا نعيش الإسلام الحقيقي وإنما نعيش إسلام الأيديولوجيا، وهذا الإسلام هو الذي يحرقنا الآن وهو الذي يُفرِّقنا وهو المنوط به بشكل أو بآخر دري أو لم يدر تدمير البلاد وفد فعل، سأرجع وأقول وقد قلت هذا مائة مرة أن هذا الإسلام الحديث وهذا الإسلام الحركي المُسيَس لم نر منه إلا التدمير، هل عن حُسن نية؟ أكيد عن حُسن نية، بنسبة تسعة وتسعين في المائة كان عن حُسن نية، وطبعاً هذا لا يعني أنه لا يُوجَد من هؤلاء الإسلاميين الكبار أو الصغار مَن هو مُتعامِل، يُوجَد مُتعامِلون مع الغرب ومع أعداء الأمة تماماً، ومُتعامِلون بشكل تعاقدي، وهذا ثابت على بعضهم، لكننا لا نُريد هذا لأننا لسنا محكمة هنا، لكن مُعظمهم ليسوا كذلك أبداً، وخاصة القواعد والشباب من أمثالنا الذين لا يفهمون هذه اللعبة هذه، لكن ليس عندهم الوقت بصدق، كأنها لم تحن ساعة الحقيقة وقد حانت مائة مرة مع كل مجزرة ومذبحة وتكفير وتفجير وكره ومشاكل مما نقع فيه في عالمنا العربي، دقت ساعة الحقيقة مائة مرة لكي يقفوا ويتساءلوا ما الذي قدَّمناه؟ ما هو الوعد الذي بأيدينا؟ ماذا فعلنا وماذا نفعل بأمتنا وديننا؟ لا يُريدون هذا ويُكبِّرون رؤوسهم ويقولون سنواصل، واصلوا، واصلوا مشوار الخيبة والله العظيم، أقسم بالله هذا مشوار الفشل، النجاح في العكس تماماً، ليس في هذا الاتجاه.
أستطيع أن أتفهَّم يا إخواني كما يتفهَّم أي منكم أن في العصور السابقة وخاصة في العالم الإسلامي طبعاً الوسيط لم يكن هناك ما يُسمى بمفهوم الحزب السياسي، هل كان يُوجَد هذا؟ أصلاً هذه بدعة غربية، وهي بدعة مُمتازة حسنة، عندها سيئاتها طبعاً لكن حسناتها أكثر من سيئاتها، لذلك كان طبيعياً أن يُطلَب من العالم أن يكون ناطقاً بضمير الناس وبحال الناس وأن يكون أيضاً مُدافِعاً مُحامياً عن مصالح الناس وعن أوضاع الناس وعن عيش الناس، أليس كذلك؟ يستشهدون بالعز بن عبد السلام، لكن هذا كان في العصور الوسيطة، اليوم اختلفت الأمور، تبدَّلت الأمور تبدّلاً كبيراً جداً جداً، الذي يقوم بهذا وهو قادر على أن يقوم به – أنا أقول لكم وهو المفروض فقط أن يقوم به – الأحزاب السياسية، أحزاب تُمارِس السياسة وتعرف أبجدياتها وأعماقها، ومارستها مُمارَسة طويلة، في يوم من الأيام يكتب الأستاذ العملاق عباس العقاد – رحمة الله تعالى عليه – قائلاً ما سر خيبة العرب ونجاح الإنجليز والغربيين؟ قال القوم إذا أراد أحدهم أمراً آتاه من بابه وتوسَّل إليه بأسبابه، فلا ترى فيهم سياسياً إلا وقد عرك السياسة وعجم عيدانها وحلبها أشطرها حلوها ومرها منذ نعومة الأظفار حتى ولو لم يكن دارساً للعلوم السياسية، هذا الغربي دخل من أيام سنة أولى جامعة في حزب ما، أليس كذلك؟ ويُمارِس السياسة باستمرار، تجده بعد عشرين سنة أو خمس وعشرين سنة وقد أصبح سياسياً كبيراً يعرف ما هي السياسة، والسياسة عالم مسحور، عالم طلاسم وألغاز، عالم كبير، ولا يُمكِن لشيخ مثلي أو مثلك أو مثلها غلبان يضع رأسه في الكتب الصفراء والحمراء والبيضاء حتى الحديثة أن يعرف هذه السياسة ، وحين يأتوا لكي يدفعوا لي – وقد لا يدفعوا لي – مادياً أو معنوياً ويُكبِّروني وينفخوني لكي ألعب دوراً سياسياً سوف ألعب خيبة، أليس كذلك؟ وسوف أكون مُستغَل، ومع ذلك يُقال لابد أن تتكلَّم في السياسة لأنك عالم مُسلِم، يا رجل أنا لا أعيش في القرن الوسيط، يا أخي أنا لا أعيش في العصور الوسطى، أعيش في العصر الحديث، ليفعل هذا السياسي، أنت تنظيم إسلامي وأنا كفرت بفكرة التنظيم الإسلامي، الدين لا يُمكِن أن يكون بيد تنظيمات، هذا خطأ كبير جداً جداً، وأيضاً هو خطأ مُجتلَب وليس – كما قلت لكم – أصيلاً، وكما قلت لكم غيرة مرة في تاريخنا الإسلامي فقط الذين تكلَّموا باسم الدين وصاروا جماعات وجمعيات وتنظيمات مُغلَقة هم الباطنية مِن قتلة الأمة وأعداء الأمة، أي مَن كانوا يضربون ويطعنون في الأمة باستمرار، أما الإسلام المُنفتِح وإسلام المدارس والمذاهب العلمية والفكرية لم يكن كذلك أبداً، هل تتخيَّل أن الشافعي كان رئيس تنظيم؟ هل تتخيَّل أن أبا حنيفة أو فلان أو علان كان منهم مَن هو رئيس تنظيم؟ مُستحيل، لم يحدث هذا أبداً، كانوا علماء يبثون الخير، يأخذ هذا الخير يبلغ به أمداء تطول تقرب أو تبعد من شاء من عباد الله، على غير تنظيم وعلى غير تحزب وعلى غير موالاة، إنما فقط الحقيقة وفقط، هذا هو الشيئ المطلوب، هذا الدين، الدين بُعد للحياة، ما رأيكم؟ ليس مُكوِّناً من مُكوِّنات الحياة وإنما هو بُعد، لا تقدر الآن أن تقول سنأخذ المكان ونضعه في مكان آخر، هذا لا يُمكِن، المكان بُعد Dimension، كل شيئ لابد أن يتموقع في مكان وأن يتمكَّن في مكان، لأن المكان بُعد، والمكان لا يتمكَّن في شيئ آخر، هو بُعد، وكذلك الحال مع الزمان، أنا آتيك بعد ساعة أو أذهب بعد ساعة أو حصل كذا وكذا قبل ساعة أو سيحدث شيئ ما بعد ساعة وهكذا، كل الأحداث تنظرف وتنطوي في الزمان، الزمان بُعد، لا يُمكِن أن تقول نُريد أن نبحث عن الزمان في الساعة كذا كذا، ساعة ماذا؟ هذا الزمان نفسه، كذلك الدين أيضاً، الدين بُعد في الحياة، مثل الهواء الذي نتنسمه ونستنشقه، يُقال هذا علماني، لكنه مُسلِم وعنده معرفة بالدين واهتمام بالدين، ويختلف معي في النظرية السياسية وهذا من حقه يا سيدي، ومع ذلك يقول الواحد منهم أنا إسلامي وأنا أحمل الدعوة، دعوة ماذا؟ علماً بأن كلمة دعوة تأتي مع غير المُسلِمين وقد نبهت قبل ذلك على هذا لكن ربما هذا لا تسمعونه كثيراً، اقرأوا كتاب الله من أوله إلى آخره وسوف تجدون أن كلمة دعوة كُلما ذُكِرت يُراد بها دعوة غير المُسلِمين، المُسلِم لا أدعوه، المُسلِم أّذكِّره وأنصح له وأُعلِّمه وهكذا، لكن كلمة الدعوة تكون في حق غير المُسلِم، في حق إنسان ما عرف الحق، هذا يُدعا إلى الله، فلا نُكبِّر الأمور ونأخذ – كما قلت كلم – صلاحيات الأنبياء وما إلى ذلك شيلة بيلة – كما يُقال – ونقول هذه مُهِمتنا الرسالية، يُوجَد خلط معيب للأمور ندفع ثمنه مُراً، ندفع ثمنه علقماً وصبراً وحنظلاً .
إذن نرجع يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – إلى موضوعنا، لا يُمكِن لأحد أن يقول الخلافة حراسة الدين، الدين لا أحد يحرسه، الله – لا إله إلا هو – هو الذي يحفظه، وقد تكفَّل بحفظه وقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩، الله قال له أنا الحافظ وليس أنت، أنا الذي أحفظ، وكذلك الحال حتى مع التمكين، يُقال نعمل على التمكين، هذه مرحلة التمكين، ويتحدَّث الواحد منهم باستمرار عن التمكين، يا رجل لماذا تتحدَّث عن شيئ ليس لك؟ ائتني بآية واحدة من كتاب الله تقول التمكين لنا، التمكين لمَن؟ التمكين من أعمال مَن؟ رب العزة لا إله إلا هو، الله هو الذي يُمكِّن، نحن لا نُمكِّن أنفسنا أبداً، وغير مطلوب منا أن نُمكِّن لأنفسنا، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لم يُطلَب حتى من محمد أن يُدخِل الناس في الدين، الله قال له إياك، هذه ليست مُهِمتك، إياك تُفكِّر أنه مُهِمتك أن تُدخِل الناس في الدين أو أن تجرهم جراً إلى الحق وتُكرِههم على الإيمان، وسأقول أمر هام حتى لا تشوَّشوا، قد تقولون يُوجَد شيئ مُشوَّش فعلاً، نحن أُصيبنا الآن بتشوش فكري، هناك آيات كثيرة في كتاب الله تُؤكِّد أن من مهام الرسل هداية الناس، هذه هداية إذن، قال الله وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ۩، أليس كذلك؟ فالرسول هاد أيضاً مثل سائر الأنبياء والرسل، وأيضاً من مهامهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال الله لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩، أليس كذلك؟ وهنا قد تقول لي كيف تقول ليس من ضمن مهام النبي أن يُدخِل الناس في الدين؟ هذا الكلام فيه لعب بالألفاظ، لكن أنا أقول لك لا، أنت فقط الأمور غير واضحة عندك فانتبه، هل النبي يرغب في هذا؟ هل النبي يرغب في أن يهتدي الناس؟ طبعاً، أعظم الناس صدقاً في رغبته في هداية الناس هو النبي، وأنا أقول لكم هناك بعض المُتدينين – لن نقول كثير وسنكتفي بقول بعض ولن نحلف بالله لأن المسألة لا تستأهل يميناً وهى واضحة تماماً، لكن الله عليم وشهيد على هذا – وبعض الدعاة يُحِبون الضلال للآخرين ويُحِبون الكفر للآخرين، ليس للعوام وليس للناس غير المعروفين وإنما للدعاة من أمثالهم، فهم يُسمون أنفسهم دعاة، يُحِبون لهم أن يكفروا وأن يضلوا، وعندهم حرص محموم وحرص مجنون أن يُثبِتوا أن هؤلاء الدعاة كفار وزنادقة وأعداء للإسلام وأعداء للنبي وأعداء لدينه، هل تعرفون لماذا؟ لأن النزاع ليس على الحق والباطل، النزاع على المصالح وعلى الدُنيا، وجاء هذا وخرج لهم من الطريق وأخذ منهم شيئ من الدُنيا فجُنَّ جنونهم، ويُقال هذا من أجل الدين، ولذلك اجعل دائماً المعيار الحقيقي هو الرسول عليه السلام، الله – تبارك وتعالى – قال لك الأنبياء كلهم والرسل لم يُسمَح لأي أحد منهم أن يأخذ أجراً من الناس، النبي لا يأخذ أجراً، يعطي فقط ولا يأخذ هو، هل النبي كان يأخذ أجراً؟ لم يحدث هذا أبداً، قال لهم لا أريد أجراً منكم، وقيل له الصفو لنا – كما قال النبي في الحديث – والكدر عليك، فالبهدلة والهجرة والتعذيب والحروب والمشاكل كلها في رأس النبي ومَن صدق من أتباعه، والنبي كان يتحمَّل هذا، والله قال فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ ۩، ماذا حُمِّلَ النبي؟التبليغ، النبي ما حُمِّلَ إلا التبليغ، هو وظيفته التبليغ، وأنتم عليكم ما حُمِّلتم، قال الله فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ۩ وكان المفروض أن يقول وعليهم لكنه قال وَعَلَيْكُم ۩، وهذا اسمه التفات في علم البلاغة، قال الله وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ ۩، أي ما حُمِّلتم من تبعة التكاليف الشرعية، إن تابعتموه وصدقتموه عُصِبت بجبينكم، فعليكم تبعة التكاليف، وهو عليه مُهِمة التبليغن أي أنه حُمِّلَ مُهِمة التبليغ عليه الصلاة وأفضل السلام، فالنبي أصدق الناس رغبة في أن يدخل الناس في دين الله وأن يهتدوا بهدي الله تبارك وتعالى، يُحِب هذا ويُريد هذا ويقصد إليه ويتوسَّل كل الوسائل الطيبة الكريمة إليه، لكن النبي لم يفهم مرةً والقرآن يُؤكِّد هذا أن مُهِمته لا تُنجَز ولا تكون إلا بأن يحصل هذا، بمعنى أن تُؤمِن الناس أو تُسلِم الناس أو تدخل في الدين، الله قال له هذا ليس لك، يا سلام، هذا أمرٌ عجيب، فقط أنت تُحِب هذا الشيئ مثل أي إنسان نبيل، تُحِب هذا الشئ وتدعو إليه، ما هي وسائلك؟ قال الوسيلة الرئيسة التي تنطوي فيها كل الوسائل – كل وسائل النبي والرسول – التبليغ، فقط يُبلِّغ، قيل له بلِّغ كلمات الله، قال الله مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ۩، وقال أيضاً فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ ۩، عندنا آيات كثيرة تُعبِّر عن هذا المُهِم بصيغة الحصر، وصيغة الحصر تأتي بطريق وبأسلوب إنما، مثل قول الله فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ۩ وقوله فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ۩، هذه صيغة الحصر، كأنه يقول فقط عليهم البلاغ، هذا هو، هذه الوسيلة الكُبرى التي تنطوي فيها كل الوسائل، وهنا قد يقول لي أحدكم هناك البشارة والنذارة والوعظ والتذكير، لكن كل هذا داخل في البلاغ، كله يدخل في البلاغ، هذه عظمة القرآن، وهناك أسلوب النفي والاستثناء، مثل (إن …إلا)، هذه إن النافية وأتى بعدها استثناء، وهذا يعني حدوث الحصر والقصر أيضاً، فقط هذه المُهِمة، أعني التبليغ، لكن – كما قلت لكم – أن يُمارِس النبي مُهِمة حراسة الدين وحراسة العقيدة مرفوض، الله حذّره من هذا وأمَّننا من هذا، قال لا، هو ليس حارساً على دينكم أبداً، أنا لم أبعث النبي ليكون حارساً على أديان الناس، يا الله، لماذا؟ الله – لا إله هو – يعرف السبب ويرى تاريخ الأديان وتاريخ البشرية وتاريخ الحق والباطل ويعلم إن سرطان الأديان كل الأديان يأتي من مفهوم حراسة الدين، يُقال نحرس الدين، إذا قلتم نحرس الدين سوف نذهب في ستين داهية، لأنكم سوف تتحكمون في حياتنا، سوف تتحكمون في أذواقنا، سوف تتحكمون في كل شيئ، وسوف نتحوَّل إلى جماعة من المُنافِقين – والله العظيم – تماماً، لأننا نخاف ومن ثم سنفعل الطاعات رُغماً عنا لأنهم يحرسون الدين، وهذا غير مقبول يا أخي، الدين لا يحرسه إلا صاحبه، فأنا أقول لك – كما قلت – أعد إليّ مالي المسروق أو أعد إليّ ابني المخطوف، لكن لا يُمكِن أن أقول لك ولا يليق ولا يسوغ وليس له معنى أن أقول أعد إليّ ضميري أو أعد إليّ تقواي لله – تبارك وتعالى – التي فقدتها، هذا لا يُمكِن أبداً، هذه لا يُعيدها إلا أنت، أنت رمِّم دينك، ارجع تُب واستغفر، وأرجِع الحقوق إلى اصحابها، وانقطع وانزع عن الغي والظلم والمعصية، عُد إلى الله تبارك وتعالى، هكذا أنت تحرس دينك وتسترد دينك، لا تُوجَد قوة تستطيع أن تسترد لك دينك، نعم تسترد لك سيارتك وتسترد أموالك وابنك المخطوف لكنها لا تسترد دينك، حراسة الدنيا نعم، حراسة الدين لا، لابد أن يُمارَس الدين كتجربة روحية صادقة لأنها ذات طابع فردي أساساً، أنا أقول لكم كل الطوابع الاجتماعية للتدين هي عرَضية وليست أساسية، الأساسي هو الفردي فيه، ولذلك أنا أقول لكم كل الطوابع والمهام الاجتماعية للدين ما لم تُرفَد بـ وتستمد من هذه التجارب الروحية الفردية الصادقة تستحيل – والله العظيم – إلى دجل أيضاً وتغول لحقوق الناس وضحك على الناس باسم الدين مرةً أخرى.
إخواني وأخواتي:
لعل الذي بعثني على هذه الخطبة ما ذكره لي أحد أحبابي، لا أدري هل علَّقت على هذا من قبل – كأنني علقت – لكن هذا آلمني، قال لي يا أخي أحد أبنائنا هنا في فيينا – في أوروبا الحرة – تدين، وطبعاً معنى أنه تدين أنه التحق بمسجد، وما شاء الله على المساجد والخطابات التي فيها والمنابر والأفكار التي تُبث، هناك من أولادنا مَن مات في سوريا، ذهب يُجاهِد في سوريا، ولا نعرف هل قتل داحش أم داعش أم النُصرة أم جماعة بشار أم مَن، لا نعرف شيئاً لكنه مات، وكان يعيش هنا في فيينا، على كل حال قال لي طلب من أبيه – وأبوه ما شاء الله يسير في نفس الإطار إلى حدٍ ما لكنه صُدِم قليلاً لأن هذه زوجته – أن يُطلِّق أمه، مُتدين ما شاء الله عليه وعنده الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله فأبغض أمه في الله، ربما هي لا تُصلي، وربما لا تكون مُحجَّبة، وقد تكون مُحجَّبة لكنها غير مُنتقِبة، فهذا ولد زميت، قال له طلق أمي، فأثارني هذا، ساعات طويلة وأنا أفكر في هذا الموضوع، أقلقني وزلزلني وتساءلت أول سؤال ثار في وجهي، قلت سبحان الله هذا الولد أو هذا الشاب المسكين قد يكون من معدن طيب جداً لكن أُسيء تشكيله، هذه الطينة أو هذا المعدن شُكِّلَ بطريقة سيئة، بدل أن يُشكَّل تحفة فنية إنسانية شُكِّل سكيناً تذبح وتقطع الأوداج، يريد أن يقطع أوداج أمه، أمه التي حملته، لكن يا ولد، يا ابني، يا حبيبي أما قرأت أو ما قُرِأ على مسامعك قول الحق – لا إله إلا هو – وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۩؟ أنت مأمور بحُسن صحابة أبيك وأمك وإن أرادا حملك وإكراهك على الشرك بالله، الموضوع ليس عن أن يحملوا أفكارك – ما شاء الله – العظيمة الإنسانية المُتفتِحة الرهيبة العبقرية وإنما عن الشرك يا رجل، أما قرأت القرآن مرة؟ أما قُرأ عليك القرآن؟ أما فهمت هذا الشيئ؟ لم يفهم، فهم ولاء وبراء فقط، يقول دائماً ولاء وبراء، أن تُحِب في الله وأن تُبغِض في الله، فأبغضتك يا أمي في الله، وهذا شيئ رهيب، مِن أين؟ فأنا أول ما ثار السؤال – ليس هذا هو السؤال طبعاً – في ذهني قلت سبحان الله أما تساءل هذا الولد أو أبوه أو شيخه إذا بلغته الحكاية أن ما الذي يبقى ليُحترَم في دينٍ يقطع تماماً ويتناقض مع أسس الأخلاق؟ من أبجديات الأخلاق بر الوالدين، كيف نُبرِّر بر الوالدين في أبجديات الأخلاق؟ بأبجدية أو بشيئ أعمق من هذا وهو أن تُحسِن إلى مَن أحسن إليك، وأنا أقول لك بالله الذي خلقك وسواك وعدلك ما أحسن إليك أحد بعد الله – تبارك وتعالى – كالوالدين، ولذلك قال الله وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ ۩، وقال أيضاً أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۩، قال أنا الأحق بالشكر- رقم واحد رب العزة لا إله إلا هو – بعدي مباشرةً يأتي الوالدان، لكنه لم يفهم هذا ولم يُفهَّم هذا، أتدين بتدين مُمتاز ومن المُمكِن أن أذهب أُقاتل وأُستشهَد في سبيل الله زعموا ولكن أكون لعنة على أبي وأمي، وخاصة لعنة على أمي التي أوصاني بها الخليل – خليل الرحمن – ثلاث مرات قائلاً أمك أمك أمك، حين قيل له مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قالثم مَن؟ قال أمك، قال ثم مَن؟ قال أمك، قال ثم مَن؟ قال أبوك، لكن هذا الكلام لم يفهمه، ألم يقرأ هذا الولد أو أبوه الذي سلكه في هذا المسلك الوبيء الرديء أو الشيخ الذي علَّمه سورة هود؟ ألم يقرأوا عن واحد من أعظم الأنبياء الخمسة – خامس أولي العزم الخمسة من الرسل – اسمه نوح؟ هذا شيخ الأنبياء، ظل يدعو في تسعمائة وخمسين سنة إلى الله, ثم يقولون ولاء وبراء، ما شاء الله على الولاء والبراء، ظل في تسعمائة وخمسين سنة في الدعوة إلى الله، ما كع ولا نكص ولا غضب ولا تذمر حتى تأذن الله بالفرج كما تعلمون ولكن في تلك اللحظة ماذا قال؟ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ۩، هذا ابني يا رب، هذه هي الفطرة، أي دين هذا الذي يقتل فيك الفطرة؟ كيف يجعلك لعنة على أمك؟ هذه الأم، وفي المُقابِل أقرأ لأحد الإخوة تعليقاً جميلاً، كم أعجبني هذا التعليق – والله – رُغم أن فيه رائحة الهرطقة ورائحة الإلحاد، لكنه أعجبني من زاوية ثانية طبعاً وليس من إلحاديته، الرجل يتساءل – وهذا من حقه – قائلاً لم خلقنا الله على هذه الطريقة وقضى الله بموت الأمهات؟ أعجبني فيه أنه يعشق أمه، هذا أحدث له قلقاً وجودياً، هذا إنسان بار بأمه، فعلاً عنده الحق والله، هذه أم يا أخي، هل يُوجَد مَن هو أعز من الأم؟ منبع الحنان ومُحيط الرحمات هي الأم، وهذا يقول له طلِّق أمي، طلِّقها وارمها في الشارع إلى الجحيم، أي دين هذا؟ ألم تقرأ قصة نوح؟ هذه الفطرة، دعك من الأم يا سيدي وانظر إلى ما هو أقل، ألم تقرأ قصة أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضوان الله عليهما؟ قالت له يا رسول الله – الحديث في الصحيحين وذكرناه حتى قبل أسابيع على المنبر – إن أمي قد أتتني وهي راغبة أفأصلها يا رسول الله؟ وطبعاً أسماء – ما شاء الله – مُسلِمة مُوحِدة زوجة الزُبير، وأمها – زوجة أبي بكر – كانت كافرة، وجاءت على المدينة وهى راغبة، أي راغبة في النوال، تُحِب أن تُعطيها بعض المال كمُساعَدة، قالت له هي ما زالت كافرة ولا تُريد أن تدخل في الإسلام، أفأصلها يا رسول الله؟ قال نعم، صلي أمك يا أسماء، وهذا مُخرَّج في الصحيحيين، صليها فنحن ليس عندنا أي مُشكِلة، لأنها لا تُعلِن الحرب علينا ول تُؤلِّب علينا ومنطوية على كفرها وطغيانها، ومن ثم ليس مُشكِلة، تظل أمك فصليها، لم لا؟ صلي أمك، انظر إلى الرسول، هذا رسولي، هذا نبيي، اجعله شيخك، هو شيخ الشيوخ، ليس شيخك صاحب المنبر الذي يُعلِّمك أن تطلب طلاق أمك، ليس هذا الشيخ، ليس له علاقة بالنبي لا من قريب ولا من بعيد،
تعرفون العظمة الكبيرة التي حدثت يوم فتح النبي مكة، وأنا أقول لكم أي أحد يقرأ قصة فتح مكة ولا يبكي ولا يتزلزل هو شخص في إنسانيته قولان، هذا شئ غير طبيعي، وأنا مُتأكِّد من أن الذي لا يتأثَّر بهذا العفو الذي لم يشهد التاريخ مثله – عفو بشكل لا يُصدَّق، قال اذهبوا فأنتم الطُلقاء، ولكم أن تتخيَّلوا هذا – هو رجل لم يُمارِس العفو يوماً، وأنا أقول لكم اختبروا هذا في أنفسكم، لكن كل من ظُلِم ثم مكَّنه الله من خصمه وأقدره عليه من غير تبعات – تصرَّف فيه لأن معك الحق وذله أمام الناس -وقال له اذهب لا تثريب عليك ويغفر الله لي ولك يا أخي هو الذي سيبكي من صنيع محمد ويعرف قيمة محمد – والله العظيم – طبعاً، هو هذا، وقال له بكل بساطة مَن ومَن ومَن ومَن فهو آمن، يأتي عكرمة بن أبي جهل – ابن رأس الشرك والطغيان، ابن فرعون محمد، فرعون هذه الأمة، أعني أبا جهل، عمرو بن هشام بن المُغيرة الذي عُرِف بأبي الحكم وهذا ابنه عكرمة – في جماعة من الفرسان يُصاوِل خيل المُسلِمين، عشرة آلاف من المُلثَمين وما إلى ذلك أتوا وكانوا قوة جبّارة، ومع ذلك النبي قال لهم انتهى الأمر، نحن أمَّننا الناس ومن غير شرط، دون أن نشترط عليهم حتى أن يُسلِموا، لم يقل مَن أسلم فهو آمن، قال حين تقعد في بيتك تكون آمناً، حين تقعد في بيت أبي سفيان تكون آمناً، حين تلتحق بالحرم تكون آمناً، هل هذا من غير إسلام؟ من غير إسلام، لأن الإسلام مسألة دينية، هذا خيار شخصي،وهذه هي العظمة، هذا هو الصحيح، لم يقل لهم أسلموا وأنتم آمنون، النبي لم يقل هذا أبداً، وهذه هي عظمة الرسول الذي صفى الحسابات كلها في دقيقة واحدة، لكنه عكرمة لم يُعجِبه هذا، قال نحن نُريد أن نُبهدِلهم، كيف تُبهدِلهم؟ فطبعاً تصدى له سيف الله المسلول خالد – رضوان الله عليه – فقمعه، وقتل جماعةً ممن كانوا معه وهرب عكرمة، والنبي قال دمه هدر، ألحقه بالجماعة الذين أهدر النبي دمهم وهم أربعة، قيل أربعة في المشهور، قال لهم عكرمة منهم فدمه هدر، لماذا؟ هو الذي أهدر دم نفسه طبعاً، هو رفض أمان الرسول، لم يقعد لا في بيته ولا في الحرم ولا عند أبي سفيان وخرج يُحارِب، فإذن تُقطَع رأسك، وهذا طبيعي جداً بل أقل من طبيعي والله العظيم، النبي قال هذا دمه هدر، فهرب الرجل وجاءت زوجته التي ستُصبِح صحابية جليلة – رضوان الله عليها – إلى النبي، هذه يُضرَب بها المثل، هذه خنساء ثانية، وهي أم حكيم بنت الحارث بن هشام، التي عمها مَن؟ أبو جهل، هذا الحارث بن هشام، وهذاك
عمرو بن هشام بن المُغيرة المخزومي، فجاءت أم حكيم وبايعت الرسول بالقول طبعاً – بيعة النساء – وسبحان الله ذاقت حلاوة الإيمان وخالطت بشاشة الإيمان شغاف قلبها، فأحبت أن يُصيب أصابها من الخير زوجها، هو يظل زوجها، لم تقل هذا ابن أبي جهل والنبي عمل كذا والله يلعنه وما إلى ذلك، لا يا أخي فالفطرة فطرة، هذا زوجي وهذه أمي وهذا ابني بغض النظر عن أي شيئ، هذه الأمور ليس لها علاقة، هذا ديننا وهذا محمدنا عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه إلى أبد الأبدين، أي والله،
قالت له يا رسول الله كذا وكذا وكذا، وجئتك استأمن لعكرمة زوجي، فلعل الله أن يهديه ويُصلِحه، قال قد أمَّناه يا أم حكيم، مُباشَرةً قال هذا، يا حبيبي يا رسول الله، ويُقالون لك عنه أنه دموي، والله ما فقهتم شيئاً – وأُقسِم بالله على هذا – ولا أنصفتم ولا عدلتم، يُقال لك النبي دموي، هو فعلاً رحمة العالمين، قال لها قد أمَّناه يا أم حكيم، له الأمان، فرحت المرأة، استُطيرت فرحاً، وذهبت المسكينة تركب التعاسيف وتضرب في بلاد الله على غير هُدى دون أن تعرف ماذا تفعل وأخذت تسأل القوافل والمُسافِرين هل مَن رأى منكم عكرمة؟ ظلت تنتقل المسكينة من بلد إلى بلد في صحراء مدوية لأيام وليالٍ وحدها، وهى امرأة ضعيفة لكنها قوية، سيدة قوية رضوان الله عليها، هذه خنساء فعلاً، وظلت هكذا لأيام طويلة حتى لقيته بإحدى سواحل تهامه يُريد أن يركب البحر فقالت له يا عكرمة يا ابن عم، قال لها ماذا؟ ما الذي أتى بكِ؟ قالت له يا ابن عم تعال، هلم أقبل، والله لقد أتيتك من عند أبر الناس وأوصل الناس، وخير الناس، قال لها عند محمد؟ قالت له من عند محمد ولقد استأمنته لك، قال وأمنَكِ؟ قالت أي والله لقد أمنني، رجع إلى نفسه وانكسر، هذا غير معقول، ما هذا الرجل؟ وموقف عكرمة في بدر معروف وفي أحد معروف وفي الخندق معروف، هو الذي تقحَّم الخندق مع جماعة، أليس كذلك؟ وهذا موقفه الذي قلته لكم يوم فتح مكة وهو يُصاوِل جيش المُسلِمين، إلى هذه اللحظة كان على طريقة أبيه، وقد مات أبوه طبعاً كما تعرفون في بدر، المُهِم أنه لم يُصدِّق وعاد معها، وظلت تُحدِّثه عن محمد وعن بر محمد وصلة محمد وعظمة محمد ودين محمد وأنه فعلاً خير الأديان، فسبحان الله باشر الإيمان قلبه، أيقن الرجل وجاء وأعطى البيعة لرسول الله، وآل على نفسه أن يُكفِر عن ماضيه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وحَسُنَ وعَظُمَ بلاؤه جداً في حروب الرِدة مع الصدّيق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حيث بعثه على رأس جيش إلى عُمان وقد ارتدت فأعادهم إلى مهيع الحق، ثم ثنَّى بعد ذلك فراح إلى اليمن، اليمن عدة جيوش دهمتها، وكانت تُحارِب المُرتَدين، وخاصة بقايا الأسود وغير الأسود، ثم بعد ذلك ذهي إلى الشام ولقيَ أبا بكر في الطريق وعرض عليه المعونة فقال لا، أنا لا أحتاج معونة، و ذهب إلى الشام، وبعد ذلك في أخر خلافة الصديق إلى اليرموك، وأنتم تعرفون قصته، وهي قصة مُؤثِرة عجيبة، في اليرموك طبعاً تعرفون ماذا حصل مع المُسلِمين وقصة الجمال والشدائد التي أصابتهم، رأى عكرمة شدةً شديدة قد نزلت بالمُسلِمين فآل على نفسه أن يُري الله من نفسه خيراً في ذلكم الموقف، فخرج رضوان الله تعالى عليه واستل سيفه وكسر غِمده – أي القراب، كسر بيت السيف، كأنه يقول أنه ذاهب إلى الموت ولن يعود إلى هذه الدُنيا – وقال مَن يُبايعني على الموت؟ سوف نموت وننصر الله ورسوله اليوم، والرسول تُوفيَ طبعاً، فأتاه خالد – خالد هو القائد الأعلى – وقال له يا عكرمة لا تفعل، بالله لا تفعل، فإنك إن مت كان موتك على المسلمين شديداً، لأن عكرمة كان قائداً مغواراً وفارساً كبيراً، ولذا قال له سوف تُحدِث زلزلة في المُسلِمين، فقال له إليك عني يا خالد، إليك عني يا خالد فإن لك مع رسول الله سابقة ولا سابقة لي، ولقد كنت أنا وأبي من أشد الناس عليه، إلى آخر الأمر – إلى الساعة الرابعة والعشرين – ونحن أشد الناس عليه، فدعني لعلي أُكفِر عن بعض ما بدر مني أو سلف مني، ولأُرين الله خيراً، يا خالد أنا حاربت رسول الله كما علمت، أفأفر اليوم من الروم؟ لا والله لا يكون هذا أبداً، وانغمس هو ومن معه – كان معه عمه وأبو زوجته أم حكيم الحارث بن هشام المخزومي في أربعمائة – في الروم، وأبلوا بلاءً حسناُ فأثخنوا من عند أخرهم، لم يخرج أحد وهو سالم، قُتِلَ من قُتِلَ واستأسر الله بنفوس من استأسر منهم، وطبعاً وُجِدَ في بدن عكرمة الشريف سبعون ما بين ضربة وطعنة ورمية، أي ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم، فأُوتِى به إلى خيمة خالد يجود بأنفاسه وإلى جانبه عمه أبو زوجته – عمه أيضاً أخو أبيه – وهو الحارث بن هشام المخزومي، وأيضاً عياش بن أبي ربيعة، الثلاثة كانوا في خيمة خالد، فطلب الحارث بن هشام الماء فأُوتِى بالماء، فلما قُرِّبَ منه نظر إليه عكرمة، فعمه آثره على نفسه وقال أعطوه لعكرمة، فأخذه عكرمة وأراد خالد أن يُقطِر له قطرات، فإذا بعياش ينظر فقال إلى عياش، وأنتم تعرفون القصة، ماتوا ثلاثتهم رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، هذا هو عكرمة، بسبب ماذا؟ ليس بسبب طلِّق أمي، وإنما بسبب زوجته، قالت يا رسول الله هذا زوجي وأنا أطلب له الأمان، ولن نُكمِل لكم قصة أم حكيم، لكنها طبعاً في هذه المعركة – أي في اليرموك – مات أبوها ومات أخوها أيضاً ومات زوجها، لم تجزع وصبرت واحتسبت، واقرأوا بقية قصتها لأنها عجب من العجب.
يوم بدر يأمر رسول الله بأن تُؤخذ جيف المُشرِكين وأن تُلقى في القليب، أي قليب بدر، انظروا إلى هذه الرحمة، لم يقل اتركوها للعوافي، لم يقل اتركوها لسباع اللحم والطير تنهشها، قال الجثة مُحترَمة، تبقى جثة إنسان، والإنسان مُكرَم بغض النظر عن أي شيئ، أليست نفساً؟ قالوا يا رسول الله هذا يهودي، قال أليست نفساً؟ نقوم احتراماً للجنازة، يا سلام يا مُعلِّم الناس العظمة ويا مُعلِّم الناس الخير، وليس يا مُعلِّم الناس الحقد والكره والشماتة بالناس، اليوم رأيت لقاء مع مُفكِّر سعودي كبير، هذا المُفكِّر المسكين قال عن فلان أنه ليبرالي وكأنه زنديق، هو مُسلِم يُصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويفعل كل شيئ، مات ابنه رحمة الله عليه، فأظهروا – والله العظيم – الشماتة فيه، قالوا يستأهل لأنه ليبرالي، سبحان الله، هل مَن مات له ابن أو زوجة أو أم وما إلى ذلك يكون الله انتقم منه؟ هل علَّمنا النبي أن نشمت بعباد الله بدل أن نذهب إليهم ونؤدي واجب العزاء إذا كان بالإمكان؟ أي دين هذا؟ أي أخلاق هذه؟ أي إنسانية هذه يا إخي، هذا شيئ غريب، فالنبي قال خذوا هذه الجيف وضعوها في قليب بدر، فسُحِبت جيفة أو جثة عتبة بن ربيعة، سبحان الله حانت من النبي التفاتة إلى ابن أبي حذيفة بن عتبة، فإذا وجهه قد تغير، رأى فيه النبي حَماراً وما إلى ذلك فأتاه، انظر إلى الرؤوف الرحيم، لم يقل له أين الولاء والبراء؟ ويلٌ لك يا أبا حذيفة، هذا المُشرِك الذي عاداني وكفر بربي وكتابي وكذا لئن ركنت إليه قليلاً ليمسنك العذاب، لا يُوجَد هذا المنطق السخيف هذا عند رسول الله، ماذا قال له؟ قال له يا أبا حذيفة لعلك دخلك شيئٌ من أمر أبيك، أي رأيتك وأنت لست على بعضك كما نقول، قال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه – أعرف أنه كافر وأعرف أنه مات على الكفر وانتهى إلى حيث ألقت – ولكن يا رسول الله – انظر إلى الابن، هذا منطق الابن، لم يُمثِّل على النبي، لم يقل له في ستين داهية، والله سأدعي عليه، يا رب ضاعف على روحه العذاب في أطباق جهنم، لم يقل هذا أبداً، قال له هذا أبي، أنا ابنه، لحمي ودمي يا أخي، هذه الفطرة، لا كان دين ولا تدين ولا فهم للدين لا يحترم الفطرة يا أخي ولا يحترم طبيعة الإنسان ولا يحترم العواطف الصادقة فينا كبشر، قال طلِّق أمي، ماذا تنتظرون من هذا الفهم؟ شيئ غريب يا إخواني وهو فعلاً مُثير – كان أبي رجلاً ذا رأيٍ وفضلٍ وحلمٍ ورجوت أن يُسلِمه ذلك إلى الخير – أي أن يُسلِم، فهو رجل عاقل، وأنتم تعرفون قصة عتبة بن ربيعة مع النبي وتعرفون سورة فصلت، فهو رجل عاقل حكى كلاماً جميلاً مع النبي وتأثَّر بالقرآن وقالوا عنه صبأ، يا ليته أسلم – ولكن لما رأيت موته على الكفر أدركني اليأس، فهذا الذي أصابني، فأنا حزين لأجله يا رسول الله، مات على الكفر وانتهى الأمر، لن يدخل الجنة، أنا حزين طبعاً، كيف لا أكون حزيناً؟ حزين جداً، هذه قضيتي، لكنني لم أشك في الإسلام ولا في أن هذا الحق وهذا الباطل، أنا هذا كله عندي واضح والحمد لله، يقول الراوي فأثنى عليه الرسول خيراً ودعا له بخير، أي لأبي حذيفة، يا سلام يا رسول الله، ما أعظمك، ما أكرمك، ما أحلمك، ما أجملك، يا سلام يا مُعلِّم الناس الخير، هذا هو، لم يقل له – كما قلت لكم – ولاء وبراء وحب في الله وكره في الله، هذه فطرة، الفطرة هنا هي التي تتكلَّم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
وفي بدرٍ يُؤتى بأبي العاص بن الربيع، مَن هو أبو العاص بن الربيع؟ زوج زينب بنت سيد الخلق – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – التي كانت مُسلِمةً وكان زوجها لا يزال على كفره وشركه وقد وقع في الأسر فأوتى به، فبعثت زينب بنت رسول الله بقلادة هي أعز ما تملك، وسر هذه المعزة أنها ورثتها عن أمها خديجة بنت خويلد، أم المُؤمِنين – عليها السلام – أعطتها إياها هدية ، هي أعز ما تملك، بعثت به ليس إلى الرسول وإنما بعثت بها عن طريق واحد آخر لكن المُهِم أنها قالت هذه أدفعها فدية لزوجي، أي لأبي العاص بن الربيع، أطلقوه لي، لم تقل أنا مُسلِمة وبنت محمد وهذا كافر، زوجي يا حبيبي، هذا زوجي أبو ابنتي أميمة، لماذا؟ يظل زوجها، ولم تنزل تشريعات في ذلك الوقت لكي تُفسَخ هذه العقود أو لتُلغى، هذا لم يكن موجوداً حينها، الحمد لله هذا من رحمة الإسلام ومن عظمة الله الذي يستأني بعباده في التشريع، لا يفضل وينهي كل شيئ من أول يوم، فالنبي لما رأى القلادة تأثر ورق لها رقةً شديدة، أول ما رأى القلادة عرف أن هذه من زينب، وهي لم تقل كما قلت لكم، فوقف في الناس قائلاً أيها الناس – انظر إلى الأدب، يا الله، لم يُعط أمراً، هو فقط يلتمس هذا من الناس، إذا أحببتم وسمحتم كان بها، إذا لم تسمحوا أنتم أحرار، وهي دافعة فدية، لم تقل أبي الرسول وكذا ونُريد أن نُرجِعه، مثلها مثل غيرها، العدل يُطبَّق على الكل – إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرها وأن تردوا عليها الذي لها فعلتم، قالوا نفعل يا رسول الله وكرامة، لم لا؟ نفعل، مباشرةً اطلقوا أبا العاص ثم ردوا إليها القلادة، انظر إلى النبي، قدَّر هذا الموقف النبي عليه الصلاة وأفضل السلام.
نختم إخواني وأخواتي نور الله فؤادي وأفئدتكم بمعرفته وهدانا إلى خُطته التي يرضاهاه عنا ويُسعِدنا بها في الآخرة، الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – عاش ومات ولا يرى أنه مُكلَّفٌ بأكثر من أن يُبلِّغ ويدعو إلى الهدى فقط، فمَن لباه فقد أمِنَ وسَعِد ونجا، ومَن كان منه غير ذلك فقد خاب ورديَ والعياذ بالله، النبي كان يفهم هذا تماماً، وليس عليه حساب الناس لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا يحاسبهم على مواقفهم لا في الدنيا ولا حسابهم أيضاً عليه في الأخرة كما في سورة الأنعام، في صحيح البخاري حديث جميل لطيف، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة لكن هذا من ألطفها، عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – قال عليه الصلاة وأفضل السلام – النبي خرج عليهم مرة مجلس وحدَّثهم بما اتفق له، موقف رباني عجيب من عالم الغيب، الغيب هنا يفتح مع الشهادة ويتلاقح مع الشهادة – إن نبيكم كان نائماً – عن نفسه عليه السلام، أي كنت نائم – فأتته ملائكة – جاءت ملائكة أحاطت به وأحدقت به وهو نائم – فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضٌ العين نائمة والقلب يقظان – الحق مع مَن؟ مع الملائكة صاحبة الرأي الثاني، والنبي في صحيح البخاري من حديث عائشة قال يا عائشة تنام عيناي ولا ينام قلبي، لا إله إلا الله، حالة عجيبة، روح مُتصِلة بالغيب باستمرار، حتى حين ينام يبقى دائماً موصولاً بالله، يُسبِح ويُحمِد ويُقدِس، لا إله إلا هو وسبحانه، سبحان مَن أعطاه، شفَّعه الله فينا يوم القيامة – إن لصاحبكم هذا مثلاً – هذا له مثل – فاضربوا له مثلاً، فضربت له بعض هذه الأملاك الكريمة مثلاً، قالوا إن مثله كمثل رجلٍ بنى داراً وجعل فيها مائدة – وفي رواية مأدبة – ثم أرسل رجلاً يدعو الناس فمن أجاب الداعي – داعي صاحب الدار – دخل الدار ونال من المأدبة، ومَن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يُصِب من المأدبة، أي ضاع عليه الأمر، فقالوا أوِّلوها له – أولوا هذه الحكاية أو هذا التمثيل له – يفقهها، هذا الجواب لوجود معنى شرط، أوِّلوها له يفقهها، فقال بعضٌ منهم إنه نائم، وقال الآخرون العين نائمة والقلب يقظان، حتى هنا يُقال هذا، وهل اتضح أنه نائم أم يقظان؟ والله يقظان يا أخي، والله شيئ يقشعر البدن، وقام وحدَّثنا بكل القصة وهو نائم، هذا شيئ غريب، صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يملأ قلوبنا من حبه والله، والله إننا لنعشقه في الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، وما عرفنا الله إلا به، فلا يجزيه عنا وعلى حُسن بلائه أحسن جزاء إلا الله تبارك وتعالى، فقالوا أوِّلوها له يفقهها، فقالوا الدار الجنة، الله تبارك وتعالى يدعو إلى دار السلام، في القرآن وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ۩، أليس كذلك؟ هذه هي الدار، والذي دعا إلى هذا مَن هو؟ الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام، فمَن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومَن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمدٌ فرق الناسِ، هو الذي فرَّق بين المُصلِح والمُفسِد وبين الصالح والطائح وبين الفائز والخائب الشقي والعياذ بالله، فقط هذه هي مُهِمة الرسول، أن يدعو وأن يُبلِّغ، لا أكثر من هذا.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا فيمَن هدى وأن يُعافينا ويُحسِن عواقبنا وخواتيمنا، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، اغفر لنا ولمَن حضر وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، اللهم اغفر لوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، اللهم جنِّب المُسلِمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 28/02/2014
انا لست طالبة علم ويعجبني المسار الفكري الذي تنتهجه ولكن لا تعجبني طاريقة هجومك عل الصحابي معاوية نقده بشتمه لا تليق بمقام دكتور مثلك