إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ۩ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ۩ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۩ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ۩ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۩ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۩ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ۩ قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ۩ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ۩ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ۩ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
هذه الآيات الكريمات من سورة الأعراف ولها نظائرُ كثيرة في كتاب الله – تبارك وتعالى – تُلحُ على تكرار مشهدٍ من قصةٍ رائعة، قصة تروع ذوي الألباب لما فيها من توترات مواقفية وشعورية وجدانية ولما فيها من إيقاظات وإلفاتات ذواتِ بال، ما نُريد أن نُعرِّج عليه في هذا المقام هو ذلكم التحالف الذي لن يُفكَّك بالقدر الكافي وبالكيفية المُلائمة بين الطُغيان وبين الخُرافة وبين الطُغيان وبين السحر وبين الطُغيان وبين التنجيم، السحر والخرافة والتنجيم أشياء كلها تتجارى في مجرى واحد، مجرى يُعزِّز تغييب العقل الإنساني واستبعاد الوعي واستنزافه، وهذا التحالف قديم، القرآن بهذا الإلحاح يُريد أن يلفت إليه النظر بشكلٍ فاقع وصارخ، هذا التحالف قديم تقريباً عرفته الثقافات وكلها والحضارات وكلها في الشرق الأقصى وفي الشرق الأدنى وفي أوروبا القديمة إلى غير ذلكم، مثلاً في بلاد الصين القديمة كان العامي – أحد الرعية – يُعرِّض نفسه لعقوبة الإعدام إذا تعاطى مع أحد المُنجِّمين، كذلكم المُنجِّم يُعرِّض نفسه لمثل هذه العقوبة، لماذا؟ لأن التنجيم والتعاطي مع ذوي هذه الصناعة حكرٌ على الملوك وعلى السُلطة – على السُلطة السياسية – فقط، لماذا؟ ما الهدف؟ إنها أنجع وسيلة في ضبط الناس، هى أنجع الوسائل في الضبط وفي التحكم وفي السيطرة، أي أن أبواب الغيب ومفاتيح الغيب هى بيد السُلطان عبر هؤلاء العرَّافين المُنجِّمين الكهنة السحرة، ومن هنا أيضاً التحالف الدنس والتحالف النكد عبر العصوروفي كل الثقافات والحضارات بين رجال الدين – على الأقل في قطاع كبير منهم – وبين السُلطة الحاكمة، ولم يخل دين من هذا التحالف اللعين فهذا أمر ضروري، وهناك أيضاً نوعٌ من التحالف الخفي بين الدين وبين الخُرافة وإن زعم رجال الدين غير ذاك للأسف الشديد، الدين يُمكِن في لحظات كثيرة وفي غفلة من وعي الرجال الأيقاظ الذين يقومون على حراسة الدين – والدين لابد له من حرّاس أيقاظ وأعين صاحين ومُخلِصين صادقن – أن ينزلق ويُمكِن أن يُوظَّف ويُمكِن أن يُستثمَر لخدمة الخُرافة التي تُوظَّف أبداً في خدمة الطُغيان، يكفي أن تصير سُلطة حتى تُفرِز الخُرافات المُناسِبة لك، كل سُلطة معرفية أو سُلطة سياسية لها خُرافاتها ولها أساطيرها ولها برنامجها في تغييب العقل من أجل ماذا؟ من أجل مزيد من السيطرة، تقول الآية الكريمة مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ۩، أنتم مُجرَّد قطيع يُمكِن تحريككم بالريموت كنترول Remote Control كما يُقال، تقول الآية الكريمة فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ ۩، من بين آليات ووسائل الاستخفاف السحرة والكهنة، لعل أنجع الوسائل التي توسَّلها فرعون هى هذه، أعني السحر والكهانة في تحقيق مزيد من السيطرة ومزيد من التحكم في شعبه – الشعب المصري – في وقته، قال الله فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ۩، فالحس العام إن شئتم لدى العوام حتى في البلاد العربية الآن – مثلاً – يُدرِك ولا يُدرِك، ولكن يُدرِك ولو في هامش الشعور أن هناك تحالفاً بين الدين والخُرافة، بدليل الاشتراك الذي تجده وتقع عليه في كل البلاد العربية في إسم شيخ بين صنفين من الناس، مُصطلَح أو لفظة شيخ لفظة مُشترَكة كما يقول العلماء – علماء الأصول أو علماء اللغة معلماء البلاغة – بين ماذا؟ بين صنفين من الناس، بين شيخ العلم والفقه وبين شيخ الدجل والشعوذة طبعاً، فهذا سيدي الشيخ وهذا سيدي الشيخ،من أين أتيتِ؟ من عند الشيخ، مَن الشيخ؟ الذي يكتب الأعمال – كما يُقال – والذي يحل والذي يربط والذي يفعل السحر، هل هذا شيخ؟ طبعاً شيخ ولابد أن يكون شيخاً، وشيخ له اعتبار كبير في نفوس العامة ومهابة وخطر، ويُخشى ربما أكثر مما يُخشى السُلطان أحياناً، وهناك الشيخ بمعنى شيخ المنبر وشيخ العلم وشيخ الفقه، وفي أحيان قليلة يجتمع الشيخان في شيخ واحد، ليكون فقهياً ودجَّالاً في نفس الوقت، يُمارِس الدجّل وبإسم النص وبإسم الفقه وبإسم التأويل ويكتب للناس أشياء بسيطة وربما على الجبين وربما على مكان آخر وربما في ورقة، وهو عالم وله مُؤلَّفات وأكاديمي ويُدرِّس في الجامعة، ويأخذ النقود للأسف الشديد، فهذا شيخ وهذا شيخ وهذا الشيخ مُزدوَج، والعامة تشعر بهذا، هناك إذن جسر واصل بين الدين والخُرافة، وأعني بالدين هنا رجال الدين، وأرجو أن تكون الأمور واضحة، لا يستطيع أحد أن يتكلَّم عن الدين المُجرَّد، أحدٌ ما لا يستطيع ذلك، مَن الذي يتكلَّم عن الدين المُجرَّد؟ كيف هذا؟ مُستحيل، الدين دائماً إذا تُكلِّم عنه فإنما بتوسط واسطة مُعيَّنة كالشيخ والإمام والفقيه والمُفسِّر والمُؤوِّل، فهو الذي يأتي يتكلَّم ويقول لك قال الله ومعنى قوله كيت وكيت وقال رسول الله ومعنى قوله كذا وكذا، أي أنه واسطة، فالدين المُجرَّد عند الله تبارك وتعالى، أما الدين الذي يتعاطى معه الناس هو الدين كما يفهمه هذا وهذا وهذا وتلك وتانك وهلم جرا، هو هذا ولذلك لابد أن نكون مُتنبِّهين جداً إلى كل ما يعمل في اتجاه كشف العقل، أي جعل العقل مكشوفاً غير مُغطَّىً إزاء الخُرافة وإزاء الشعوذة وإزاء الدجّل، بغض النظر عن السُلطة الحارسة لهذه العملية الدنسة المنكودة، أكانت سُلطة معرفية علمية أم سُلطة سياسية تنفذية، وللأسف الشديد في أحيان كثيرة السُلطتان تعملان في الاتجاه ذاته، خُرافات – كما قلت لك – كثيرة، وكل سُلطة لها خُرافاتها، وهناك أحياناً تبادل منافع وتبادل مصالح، أن أُعطي السُلطان ما يُريد واُعزِّز الخُرافات التي تُعزِّز سُلطانه وهو يُعزِّز جيبي بمزيد من النقود.
في الحقيقة الذي بعثني على هذه الخُطبة هو ما قرأته أو بالأحرى في البداية سمعته من أُناس ذوي اختصاص ثم بعد ذلك تأكَّدت منه فإذا هو فضيحة كُبرى مكتوبة في كل المواقع وبطرق مُتشابِهة، في دولة عربية تم التحقيق مع قاضٍ شرعي – أي عالم ديني للأسف الشديد – ضمن شبكة ولكن هو الشخصية الرئيسة، اختلسوا مليارات من عقارات الناس أو جهات مُختلِفة ومن أموال الناس، مليارات بعملة ذلك البلد تُساوي مئات الملايين من الدولارات أو اليوروات، وهذا القاضي وحده وجدوا في حسابه البنكي أزيد من مائة وعشرين مليون دولار، مائة وعشرون مليون مُختلَسة من أموال الناس، يحصل في أحسن المُجتمَعات ويحصل في كل الأزمان الاختلاس والنصب وتغول أموال الناس أو الأموال العامة، فهذا يحدث دائماً، لكن مثل هذا هو الذي لا يحدث تقريباً الآن إلا في بلادنا والبلاد المُتخلِفة مثلها، لأن هذه علامة من العلامات الفاقعة على التخلف وعلى أننا حقاً نعيش كأننا نعيش خارج التاريخ، كما نقول دائماً كرونولوجياً نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ثقافياً وحضارياً وعلى مُستوى الوعي وعلى مُستوى العقل والفهم نحن نعيش في القرون الوسطى الأوروبية ليس الإسلامية، فالإسلامية كانت مُمتازة – من ناحية ثقافية وعلمية كانت قرون التحضير والتمدين – ولكن نعيش فعلاً وبشكل مُشابِه إلى حد لافت جداً في العصور الوسطى الأوروبية، هذه نفس الطريقة، وهذا معروف خاصة لمَن قرأ تاريخ العصور الوسطى، كأن لنا الآن العصور الوسطى الإسلامية وفي العصور الحديثة والأكثر حداثة الأوروبية الغربية، وهذا شيئ غريب جداً، هذا القاضي يبدو أنه فلت ونفد بجلده ، لماذا؟ ادُعيَ أنه مسحور وأنه اختلس هذه الأموال وغير هذه الأموال تحت تأثير الشياطين والجان، فالرجل ضحية والرجل غير مسئول، وهذا يحدث في القرن الحادي والعشرين في بلاد العرب والمسلمين، في بلاد يُقرأ فيها القرآن في المحاريب والمساجد، فماذا أفاد القرآن إذن؟ بالعكس القرآن والسُنة الصحيحة المنسوبة إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يُؤتى بهما ويُستدعيان ويُستشفَع بهما لتعزيز الخُرافة، هذا القاضي يخضع للرقية الشرعية، وحين تم رقيته أكثر من مرة وبحضور رجال دين – لا أقول علماء لأنني لا أُعطيهم هذه الصفة ولكن يبدو أنهم رجال دين فعلاً بالمعنى الكنسي وبالمعنى الأوروبي الوسيط – أكَّدوا أنه مسكون، فالرجل مُحتَّل، هو أرض مُحتَّلة للجان، الرجل مُحتَّل ومسكون ونطق الجن على لسانه واعترف بأشياء لا يُباح بها للجرائد السيَّارة طبعاً، ولكن بحضور علماء أو جهات مُختَّصة ثبت ذلك فالرجل بريء، هكذا الشياطين يتم تسخيرها في اتجاهين مُتضادين، وفي أوروبا الوسيطة كان يتم تسخير الشيطان والاشتباه في التعاون مع الشيطان أو حتى مُضاجَعة الشيطان، كان يُتهَم الناس أن منهم مَن يُضاجِع الشياطين، وطبعاً إلى الآن لدى المسلمين كثيرون يعتقدون بهذا، أي أن الجني ينكح الإنسية والجنية ينكحها إنسي، وهذا الكلام الفارغ لكنهم يعتقدون بهذا، وفي أوروبا كانوا يعتقدون بهذا بشكل صارم.
هنري مور Henry Moore مع أنه فعلاً رجل سابق لعصره لكنه فيلسوف من أفلاطوني كامبريدج Cambridge وكتب كتابه “ترياق الإلحاد” الذي تحدَّث فيه أن الذين يُنكِرون حقيقة المُضاجَعة بين الإنسِ والجن وحقيقة أن السواحر – الساحرات – قد يُحدِثن عواصف وزلازل وطوفانات مائية بتعزيمات مُعيَّنة وقد يركبن الهواء على مكنسة، وقال الذين يُنكِرون هذا هم مُهرطِقون مُنحرِفون عن الدين، مع أنه – أي هنري مور Henry Moore – فيلسوف مشهور وله نظرية في الحاسة الخُلقية وهى نظرية قوية ومُحكَمة إلى حد بعيد ولكنه في هذه القضايا عامي – عامي تماماً -ولا يتميَّز من العامة فلا تستغربوا، الأمر الصعب أن تجد فيلسوفاً أو مُفكِّراً أو مُثقَّفاً غربياً يعتقد بهذه الأشياء الفارغة السخيفة، ولكن من السهل جداً أن تجد مُفتي بلد إسلامي أو عالماً شرعياً كبيراً يعتقد بهذه الأشياء ويُبرِّرها وينبي عليها لوازم وتوالي مُعيَّنة، هذا نفس الشيئ، والأمور – سبحان الله – والتاريخ يُعيد نفسه، هذا تاريخ أوروبا الوسيطة في العالم الإسلامي المُحدَث المُعاصِر للأسف، وكانوا يُسمّون الجني الذي يُضاجِع الإنسية Incubus وأما الجنية التي تُضاجِع الإنسي يُسمونها Succubus، والبابا إينوسنت – البريء – الثامن Pope Innocent VIII أصدر مرسومه الذي بمُوجَبه أُلِّف الكتاب الفظيع مطرقة الساحرات، ألَّفه ألمانيان مشهوران هما شبرنغر Sprenger وكرامر Kramer بسبب هذه المسألة، قال لما تناهى إلى سمعي من مُضاجَعة الشياطين لبني وبنات البشر، وهذا لابد أن يُوقَف، وتم قتل عشرات بل مئات ألوف من الناس خاصة من النساء بإسم أنهم يُضاجِعون الشياطين وأنهم سحرة وأن لهم علاقة مع العالم المُظلِم السُفي أو السُفلاني، وهكذا تم استخدام الشياطين للقضاء على أُناس غير مرغوب في وجودهم لمائة سبب وسبب اجتماعي وسياسي، واليوم في بلاد الإسلام يتم استخدام الشياطين لتبرئة الدجاجلة والنصابين وسرّاق المال العام والخاص طبعاً، وهذا أمر عجيب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ولابد أن يطرحه كل إنسان يعني عنده حس النقد وشيئ من وعي: مَن الذي سخَّر مَن؟ ومَن الذي احتَّل مَن؟ إذا كان الجني فعلاً سخَّر هذا الإنسي – القاضي الشرعي ذا اللحية الكبيرة – فلماذا رأينا النقود التي تصل لمئات الملايين تُصَب في حساب الشيخ؟ لماذا؟ أليس كذلك؟ إذن واضح أن الإنسي هو الذي ركب الجني وأن الإنسي هو الذي استغل الشيطان، وطبعاً القضية كلها كذب في كذب وكلام فارغ، ليس لدينا إمكانية أن نُصدِّق هذا الهُراء أصلاً منذ البداية، هذا كلام فارغ وواضح أنه فارغ، وواضح جداً أن القاضي رجل ذكي جداً، استطاع أن يلعب على هذا النمط الخُرافي في التفكير، لماذا؟ لأن مُفتي هذه البلدة – رحمة الله تعالى عليه – أفتى في يوم من الأيام بهذا وقال نعم هذا موجود والجني يُمكِن أن يدخل في بدن الإنسي وإذا تسبَّب في استعمال الإنسي في جريمة مُعيَّنة فلابد من استحضاره واستنطاقه، وحين ينطق يُعامِل كمُجرِم ثم يُؤخَّذ بأقواله، فلأول مرة نسمع عن أخذ أقوال الجن، وهذا ما يحدث حالياً في هذا الوقت، أُخِذَت أقوال الجن وبحضور جماعة من رجال الدين ووُثِقَّت لأن المُفتي العام للبلد قبل سنوات طويلة أفتى بهذا رحمة الله عليه، وهذا أمر عجيب، ماذا سيقول عنا العالم المُتقدِّم لو سمع هذه الأشياء؟ حتماً هم يسمعونها ويقفون عليها لكن انتبهوا إلى أن القاضي ذكي، والأذكى منه في نظري السُلطة، أي السُلطة الحاكمة، وهذا أمر عجيب، مُستحيل أن يكون رجال السُلطة والمُتنفِّذون الكبار على درجة من البلاهة أو السذاجة بحيث يُصدِّقون هذه الأشياء، هذا مُستحيل وهم يعلمون أنها اشياء باطلة، ولكن من مصلحتهم أن يستمر هذا النمط الخُرافي في التفكير طبعاً، لأن شعباً لا يملك القدرة واللياقة على التفكير العقلي والعلمي والنقدي الصحيح سهلٌ جداً جداً جداً جداً أن يُستغنَم أو يُستخرَف، أي يُتخَذ منه قطيع غنم أو قطيع خراف، وبالتالي يسهل جداً أن نُواصِل مزيد التحكم فيه وعليه، ولذلك هذه ليست مُشكِلة، ستمائة مليون أو ست مليارات ثمنٌ زهيد في مُقابِل أن يبقى الشعب مُغيّباً وغائباً عن الوعي ومُغتال الوعي، فالسُلطة أذكى من هذا القاضي والقاضي أذكى من الذين حاكموه وأذكى من شعب لا يود أن يتحرَّك حقيقةً وأن يتساءل ما الذي يحدث؟ وكما كتب مرة كارل ساغان Carl Sagan العالم الفلكي الأمريكي الشهير يجب على الشعوب دائماً أن تطرح سؤال مَن المُستفيد مِن وراء تجهيلها وتغييبها؟ وهذا سؤال خطير وكبير جداً، حين يُراد تغييبي عن طريق المشائخ أو غير المشائخ مَن المُستفيد؟ بلا شك أن هؤلاء أيضاً يستفيدون لكنهم وسائل فمَن المُستفيد الأكبر مَن تغييبي؟
قلت لكم قبل أسابيع أنني لست مُطمئناً على العقل المسلم، لست مُطمئناً بالمرة، حين أسمع الخطاب الذي يتغذّى عليه هذا العقل المسلم أشعر بكارثة قائمة ليست كارة مُقبِلة وإنما كارثة قائمة وحقيقية، لذلك تحت تأثير وربما أتفه الأسباب يُمكِن أن تشتعل حرب أهلية ويُمكِن أن تبرز لك عشرات الجماعات التكفيرية والإرهابية والتفجيرية بأسباب فارغة، يُمكِن صناعة هذا الشيئ بسهولة في عالمنا، هذا عالم صار تقريباً يُوشِك أن يكون لا عقل له، لماذا؟ نمط التفكير غير علمي وغير عقلاني وغير نقدي وغير مُستقِل، لماذا؟ لأنها شعوب في المُجمَل وفي العموم مُؤدلَّجه، هناك أيدولوجيات مُعيَّنة تغتالها، ويُراد لها أن تبقى كذلك، ماكس هوركهايمر Max Horkheimer الفيلسوف الألماني الشهير كتب في كتابه كسوف العقل قائلاً كل عقل مُؤدلَّج اغتاله وحش الأيدولوجية يفقد استقلاله ويفقد قدرته على الشغل وعلى العمل ولا يبقى منه إلا الوظائف الإجرائية التي تسمح بالسيطرة على الطبيعة وعلى المُجتمَع فقط، يبقى منه محض عقل إجرائي يسمح باستمرار عملية التحكم في الشعب، وحتى التحكم في الطبيعة – على مُستوى الطبيعة – لا بأس، لكنه ليس عقلاً إنسانياً، ولذلك أقول لك كل مَن يُخاطِبك بلا عقلانية يُهين إنسانيتك، كنا نقول دائماً يُهين ذكائي، أي أن الذي يُخاطِبني بلا عقلانية يُهين ذكائي، لكن ما معنى أنه يُهين ذكائي؟ يُهين إنسانيتي، لأنني في نهاية المطاف كائن مُفكِّر، الإنسان ما هو؟ أرسطو Aristotle يقول هو حيوان ناطق، وهذه ترجمة خاطئة طبعاً، فكلمة ناطق خاطئة لأنه يُريد مُفكِّر، لكن العرب ترجموها ناطق، ثم ذهبوا يقولون النطق هو تكوين المعقولات، إذن كل مُفكِّر عاقل – كائن عاقل يعقل – ولا تقل ناطق، فالإنسان كائن – بدل أن نقول حيوان – مُفكِّر عاقل، لذا الذي يُخاطِبني خارج قوانين الفكر وخارج مباديء العقلانية يُهين إنسانيتي، لأنني لستُ إنساناً ولم أكن ولا أصير ولا أُصبِح إنساناً إلا بالعقل، إذا خاطبتني خارج العقل فقد أهنت إنسانيتي، كأنني بلا عقل، كأنني قطعة من رُخام أو حتى قطعة من خشب مُسوِّس، لكن هذا ما يحدث!
قبل أيام رفع أحدهم مقطعاً لأحد المشائخ وهو يتحدَّث أو يُحدِّث الناس عن حلم مُعاوية بن أبي سفيان، وقد أضحكني جداً لكن سأستخدمه هنا لأقول لكم كيف يُغتال الوعي في مسائل بسيطة قد لا تخطر على بال الناس، أتى أحدهم ويبدو أنه كان قليل العقل فعلاً إلى معاوية وهو ملك أو خليفة فضربه على عجيزته – على مُؤخِّرته – وهو في صلاته فاستغرب الناس، قال انظروا إلى حلم مُعاوية، مُعاوية حليم وهو صاحب الشعرة المشهورة التي إن شدها الناس أرخاها وإن رخوا أو وأرخوا شدها، وهذا كلام غير صحيح، هذه أسطورة من الأساطير وهى أسطورة كاذبة طبعاً، مُعاوية لم يكن حليماً أصلاً، هو طاغية من الطُغاة وهذا واضح، الذي يقتل أصحاب رسول الله هو طاغية ولا يُسامِح ولا يصفح، وعلى كل حال بعد أن سلَّم مُعاوية قال له ما أراك إلا مُراهِناً، على كم راهنت؟ قال على كذا وكذا، فأمر بدفع مائة دينار تقريباً له ثم قال ألا أدلك على مَن إذا فعلت به مثل ما فعلت بي أعطاك أكثر وأحسن مني؟ قال بلى يا أمير المُؤمِنين، قال زياد، إنه زياد بن أبي سفيان أخوه الذي استلحقه، قال هذا الشيخ بلحيته المُحترَمة وهو يعلم أنه لن ينجو، فانظروا إلى حلم مُعاوية، قال وهو يعلم أنه لن ينجو، فذهب إلى زياد وفعل به مثل ذلك فمُباشَرةً أمر بقطع رأس الرجل فقُطِعَت رأسه، وطبعاً لا تتحدَّث عن دولة إسلامية، أي دولة إسلامية؟ بأي قانون وبأي شرع وبأي دين يُمكِن هذا؟ هل لمُجرَّد أنه ضربك تقتله؟ هذا قانون بني أمية، وهذا شيئ غريب، هل يُمكِن أو يسوغ أن نُسمّي الإجرام والخديعة والتغرير بالناس مما يُؤدِّي بهم إلى الهلكة وقطع رؤوسهم حلماً؟ هل هذا إسمه حلم؟ الشيخ يقول حلم، وعليكم أن تُصدِّقوه فقط لأنه شيخ وعنده شهادة وعنده لحية، فما هذا؟ أنا أشعر كأنه يبصق في وجهي، هكذا أشعر فعلاً لأن هذه إهانة حقيقية لإنسانيتي، يا أخي لا تقل لي عن الخديعة والدجّل والإجرام إنه حلم، ما هذا؟ ألم تجد إلا هذا المثال؟ لكن بما أنني سُلطة معرفية وأنا شيخ فلي أن أُسمّي الأشياء بما أشاء، نيتشه Nietzsche كان يقول التسمية سُلطة، مَن الذي يضع الأسماء والمُلصَقات Stickers؟ السُلطة، انتبهوا إلى أن السُلطة السياسية تفعل هذا، تُسمّي خراب الديار وخراب البلاد والعباد رخاءً وتقدّماً، وتُسمّي الخيانة والاستخزاء والنوام العام تصدياً ومُقاوَمة، فلها الحق في هذا، السُلطة السياسية تُعطي الأسماء كما تشاء، وهى أسماء مُناقِضة تماماً لمُسمياتها، وكذلك السُلطة المعرفية والسُلطة العلمية، أنا شيخ وعندي شهادة عُليا فمن حقي أن أُسمّي ما شئت بما شئت وأن أُسمّيه بنقيضه، وهذا أمر غريب، هل هذا حلم؟ تماماً كما سمّى ابن تيمية سم مُعاوية للحسن على فرض وقوعه أمراً من باب المُقايسة، وقال هو من باب قتال بعضهم بعضاً وسب بعضهم بعضاً، فالقتل بالخديعة وبالسُم لمَن تنازل لك عن الخلافة يُسمّى اجتهاداً وله فيه أجر، أي هذا عقل يا ابن تيمية؟ أي عقلية هذه؟ ولذلك – كما أقول لكم – نشعر كأنهم يبصقون في وجوهنا، لا نُريد أن نكون مُؤدلَّجين بهذه الطريقة، نُريد أن نتحرَّر من أوهاق هذه السُلط أو السُلطات المعرفية قبل السياسية لأن هذه مخدومة بهذه، ولكن لماذا تميل الشعوب ولسنا بدعاً من الشعوب إلى الخُرافات؟ إلى اليوم أوروبا غاصة بالخُرافات، هم لديهم خُرافات كثيرة وتفكير خُرافي يتعلَّق بالفأل الحسن والفأل السيء Good and Bad Omens، فهذا موجود وهو كثير جداً جداً جداً، لكن انتبهوا إلى أنه إذا قيس إلى التقدّم الذي عندهم والعلم الذي عندهم يغدو قليلاً، أما نحن لا علم لدينا ولا تقدّم ولا عقلانية، ولدينا خُرافات كثيرة، فالمشهد مُخيف، لابد أن يكون مشهداً قاتماً أسود مرفوضاً، نحن لا نحتاج إلى أي مزيد من الخُرافات، نحتاج أن نتخفَّف من الخُرافات وأن نزداد من العلم والعقلانية، ولكن لماذا تميل الشعوب والجماعات إلى التفكير الخُرافي؟
أولاً ما هى الخُرافة؟ حتى نُحارِب الخُرافة لابد أن نعرف ما هى ولابد أن نُحدِّدها، يقولون الخُرافة هى التنميط الزائف، فالنمط الزائف والنمط الخاطيء هو خُرافة، لكننا لم نفهم، ما هو التنميط أولاً؟ حتى نفهم هذا التعريف لابد أن نفهم التنميط Patternicity، ما هو التنميط؟ التنميط باختصار حتى أُوضِّح لكم هو ربط شيئ بشيئ وإحالة شيئ على شيئ لمُجرَّد المُزامَلة، إذا اقترن به وزامله في مرة ومرتين وثلاث مرات نستطيع أن نقول هذا نمط مُعيَّن، رأينا ألفاً تعقبها باء في مرة ومرتين فإن هذا يُعَد أمراً عجيباً، إذن هناك علاقة علية، وقد لا يكون، قد تكون محض مُزامَلة ظاهرية، قد تكون مسألة صدفية بالصدفة، لكن الإنسان يميل – سبحان الله – إلى النمط بسرعة، والحيوانات أشد ميلاً من الإنسان إلى التنميط، لكن الإنسان للأسف – وهذا جزء أيضاً من مأساته – يميل إلى التنميط وسأُوضِّح هذا، لماذا؟ لأن من ضمن الغرائز أو العادات العقلية الحاكمة على عقل الإنسان – عقل النوع الإنساني – التصديق الساذج للأسف، نحن نُصدِّق بسذاجة ونميل إلى التصديق بسرعة كالحيوانات فانتبهوا، الحيوان يُمكِن أن تُغرِّر به، تُشير إليه إشارة كأنك تُعطيه طعاماً فيلحقك المسكين مُباشَرةً ويُصدِّقك أن في يدك طعاماً، كذلك الإنسان أيضاً يميل إلى التصديق الساذج، التشكيك والارتياب والنقد وطرح التساؤلات وطلب التبرير العقلي والعلمي أو حتى الاعتيادي عملة كاسدة وعملة غير رائجة، البشر لا يُحِبون هذه العملة، يُحِبون التصديق فيُصدِّقون بسرعة وسنثبت لكم لماذا أو نشرح لكم لماذا نميل أيضاً إلى التصديق الساذج السريع وبالتالي نميل إلى التنميط، لأننا حين كنا قبل عشرات ألوف السنين نعيش في الأحراش وفي الإستبس وفي الغابات كان التنميط يُفيدنا لئلا نهلك، كان يسمع ذلكم الإنسان البدائي حفيفاً – مثلاً – بين الأشجار، وهناك احتمال أن يكون بسبب مُفترِس – Predator – مُتربِّص – وقد يكون السبب هو الرياح التي حرَّكت الأشجار والأغصان والأوراق، فقد يكون هذا وقد يكون هذا، ولكن إن افترضنا أنه بسبب الرياح – وهذا يحدث دائماً لأن الرياح موجودة – ولم يكن الأمر كذلك وكان المُفترِس مُتربِّصاً هلكنا وقُضيَ الأمر وقُضيَ علينا، لذلك كان يميل الإنسان الأول إلى أن يقول هذا الحفيف بسبب المُفترِس فعلىّ أن أتهَّب وأن أحتاط وربما أن أسلك سبيلاً أخرى، فكان ينجو وهكذا بلغنا إلى القرن الحادي والعشرين، فنجونا وتكاثرنا كنوع، وهذا هو التنميط، يقول العلماء وخاصة علماء النفس المعرفي المُشكِلة أن الإنسان كلما مال إلى التنميط – أي ربط شيئ بشيئ وتفسير شيئ بشيئ وتعليل شيئ بشيئ – عرَّض نفسه لارتكاب نوعين من الأخطاء، أخطاء سلبية تُسمّى الخطأ السلبي الزائف وأخطاء إيجابية تُسمى الخطأ الإيجابي الزائف، سنُسمّي الأول (T1) وسنُسمّي الثاني (T2)، ما هو الخطأ السلبي الزائف؟ هو الاعتقاد بوجود نمط – Pattern – وفي الحقيقة النمط غير موجود، أنت ظننت ذلك لكن النمط غير موجود، هو نمط زائف، وهذاهذا ما يُسمّى بالخُرافة Superstition، هذه هى الخُرافة، فالخُرافة هى توليد نمط زائف، أي الوقوع في خطأ سلبي زائف، هذه هى الخُرافة – Superstition – تماماً وهذا هو التعريف العلمي الدقيق، فهذه تُسمّى خُرافة، والخطأ الإيجابي الزائف هو عدم التصديق بوجود النمط، وفي الحقيقة يكون النمط موجوداً، ما المُشكِلة؟ المُشكِلة أنك هنا قد تدفع ثمناًوهنا قد تدفع ثمناً، فالمُقارَنة بين الأثمان – ثمن هذا الخطأ وثمن هذا الخطأ – ليست سهلة وتُشكِّل أحياناً مُعضِلة، وهذا يجعل الإنسان أميل إلى إلى أن يعتبر ويعتد بكل نمط، يقول سأؤمِن بهذا وسأؤمِن بهذا، وهكذا تتسلَّل الخُرافة، هذه أنماط صحيحة وبينها أنماط فاسدة، وهذا يُعبَّر عنه بصيغة رياضية، يقولون Patternicity أو التنميط (P) متى يحدث؟ لما الـ Cost (C) الخاص بالخطأ واحد يكون أصغر من الـ Cost (C) الخاص بالخطأ الثاني، هو هذا، ولكن تقدير الفروق – كما قلت لكم – صعب، فماذا نفعل؟ نميل إلى التنميط دائماً، لذلك يُلاحَظ أنه كلما قلَّ تحكمنا وقلَّت السيطرة التي نمتلكها على الظاهرة أو الحدث أو الواقع مال الميزان لدينا لصالح التنميط، أي لصالح الخُرافة، لأن مُعظم هذه الأنماط ستكون زائفة وغير صحيحة، لا تُوجَد أنماط من باب الخطأ الأول لكن لا بأس، كيف؟ يضربون مثلاً بلاعبي البيسبول Baseball، فلاعبو البيسبول Baseball دائماً يميلون إلى الخُرافات ويحدقون بالحظ والفأل الحسن ويقول الواحد منهم لو لبست كذا وكذا ولو وقفت بالطريقة الفلانية في يوم كذا وساعة كذا وبعد كذا فإنه سيكون أفضل، هم يميلون إلى هذا بشكل عام، لماذا؟ لأنه من بين كل عشر ضربات يُخطئون في سبع ضربات، لا يُوجَد تحكم، فيميلون إلى الخُرافة وإلى التنميط، فعند هؤلاء المساكين أنماط في التفكير لعدم وجود تحكم، بخلاف العدّاء الذي يعدو في الميدان، العدّائون ينجحون في توقعاتهم من تسعين إلى خمس وتسعين في المائة، لذلك هم بعيدون عن التنميط، ولنأخذ الحرف المشهورة الآن، البحَّارة مُنمِّطون جيدون ومُنمِّطون بشكل نموذجي – Typical أو Typisch- أيضاً، الزرَّاع مُنمِّطون، أي خُرافيون، عمال المناجم خاصة في العهود السابقة مُنمِّطون جيدون، لكن الساسة ليسوا مُنمِّطين، وهذا أمر غريب، لماذا؟ لا تشيع الخُرافات كثيراً بين الساسة، نبدأ بهؤلاء البرءاء وهم ليسوا برءاء – هم دائماً مُتورِّطون – الآن، الساسة يعتمدون في مُعظم شغلهم وعملهم على العلاقات العامة – Public relations – وعلى أمور محسوبة ومعروفة، السياسي يحسب خطواته وينجح في أكثر حساباته مثل العدّاء في الميدان، ولذلك لا يميل إلى التنميط، لكن البحَّارة وخاصة في الأعصار السابقة يميلون إلى التنميط، لأن حركة الرياح والعواصف البحرية والأمواج وإلى آخره كلها ليست بأيديهم وإنما بيد القدر، كذلك المُزارِع تُواجِهه الجوائح التي يُمكِن أن تُصيب زرعه سواء من أمطار طوفانية أو من ريحٍ قرَ صرصر عاتم قد يُدمِّر زرعه أو جراد فضلاً أشكال الوباء المُختلِفة والديدان وإلى آخره، فهذه كلها أشياء ليست بيده وإنما بيد القدر، ولذا يميل إلى التنميط، في أوروبا إلى وقت قريب وربما إلى الآن بعض الأشياء لا تزال باقية كانت بعض هذه الأشياء لا تزال باقية، فالبحَّارة – مثلاً – يتشاءمون إذا صادفوا وهم في طريقهم إلى السفينة مُحامياً أو خيَّاطاً أو قسيساً، والعلاقة واضحة طبعاً، لأن المُحامي هو الذي يتولَّى تنفيذ وصية الميت لذا يتشاءمون بهم ويقولون Bad Omen، أي فأل سيء أو فأل أسود والعياذ بالله، وأما الخيَّاط فهو الذي يخيط الكفن، وأما القسيس فهو الذي يُصلي على الروح الغارقة، ولذلك يتشاءمون منهم، وطبعاً بالحري يتشاءمون من الحانوتي الذي يصنع توابيت الموتى، فمن المُؤكَّد أنهم يتشاءمون منه وهذا مفهوم لماذا، ويتشاءمون أيضاً من يوم الجُمعة، فلا يُبحِرون في يوم جمعة، ولا يُحِبون الإبحار في أول اثنين في كل شهر، ولا في أول اثنين بالذات من شهر إبريل – April – أيضاً، أي شهر أربعة، لا يُحِبون أبداً، وطبعاً أوروبا كلها تقريباً تكره الرقم الثالث عشر، ولا يُحِبون الإبحار في سفينة تغيَّر إسمها، لماذا تغيَّر إسمها؟ من المُؤكَّد وجود شؤم حلَّ بالأولى فغيَّروا الإسم، وهناك أشياء كثيرة غير هذه، والمُزارِعون كذلك لديهم أساطيرهم، وعمال المُناجم لديهم أساطيرهم، فيتشاءمون بالقطط في المناجم إذا رأوها ويتشاءمون بالصفير، عمال المناجم لا يُحِبون أن يصفر أي أحد، ويتشاءمون بإزهار نبتة بالبازلاء، إذا أزهرت هذه النبتة في أوروبا إذن ستحدث مُصيبة لعمال المناجم، وطبعاً من المُمكِن أن تكون هناك مُصيبة كبيرة حدثت في هذا الوقت فحدث تنميط Patternicity، أي عملوا تنميطاً بسب هذه المرة، لكن كم من موسم مر ولم يحدث شيئاً؟ الذهن الإنساني لا يلتفت إلي هذا، هو يلتفت إلى التنميط، يُريد أن يخلق علاقة علّية زائفة خيالية غير موجودة، فهذه العلاقة غير موجودة أصلاً، وولذلك أنا إذا قلت لكم الآن كم من مرة وقع فيها مُختلِسون ودجَّالون نصابون تحت سيف أو تحت حكم العدالة مِمَن اختلسوا أموال الناس أو الأموال العامة ولم يكن لهم علاقة بالجن؟ مرات كثيرة جداً جداً، لم نُصدِّق هذه المرة فعلاً أن هذا الرجل ضحية للجن وللشياطين؟ بسبب التنميط، فنحن نميل إلى التنميط، والنمط طبعاً يتبع الثقافة الشائعة في المُجتمَع، هذا مُجتمَع يُؤمِن بالجن وبقدرة الجن وبقدرة الشياطين على التلبس وعلى الاحتلال وعلى الاستعمار، وعلى ذكر الاستعمار أقول أن الاستعمار لم يُغفِل استثمار هذه الحقائق الخطيرة والحسَّاسة في تطويع الناس، الآن الحديث ليس عن الشعب وليس عن الرعية وإنما عن المُستعمَّر المسكين المُحتَّل في أرضه ورزقه وعرضه وماله، لم يُغفِل تطويع هذه الثقافة الخُرافية والبدائية والتنميطية لكي يُحكِم قبضته على هذا المُستعمَر، وهناك كتب مطبوعة هنا في أوروبا وفي أمريكا تتحدَّث عن هذا الموضوع، وهذا شيئ غريب، يُوجَد كتاب يتحدَّث عن الاستعمار في أفريقيا من ألف وثمانمائة وسبعين إلى ألف وتسعمائة وستين وهو مطبوع في كامبريدج Cambridge، في الطبعة الأولى يتحدَّث عن كيف أن الهيئات الاستعمارية الفرنسية البريطانية البُرتغالية الإلمانية كلها أو أربعتها عملت في أفريقيا وخاصة أفريقيا الغربية التي واجه فيها المُستعمِرون مُقاوَمة بسبب الإسلام على استثمار الثقافات البدائية والأديان البدائية والتعاطي مع السحرة وشيوخ القبائل من أجل تطويع هؤلاء المُستعمَرين المساكين بالخُرافات، فكانوا يُشيعون أشياء يقبل الشعب الاعتقاد بها وهكذا نجحوا واعتمدوا هذا، والكتاب يتحدَّث عن هذه المسألة بإسهاب، هناك ضابط أمريكي ترقَّى من رُتبة ضابط إلى رُتبة جنرال عام – Major-general – إسمه إدوارد لانسدل Edward G. Lansdale، وإدوارد Edward هذا قصته عجيبة جداً، في الخمسينيات بعثته حكومته في أمريكا إلى الفلبين، فرأس – أي كان على رأس – فريق عمل ميداني مُهمَته أن يبحث وأن يُنقِّب في العقائد الشائعة والخُرافات الفاعلة في أذهان الفلبينيين، فكان أن وجد اعتقاداً شائعاً في مصاصي الدماء، يعتقدون في مصاصي الدماء الذين يظهرون عند غروب الشمس وينشطون إلى فجر اليوم التالي ويختطفون ضحاياهم، ومصاص الدماء يكون أخذ شكل خفاش كبير بجناحين عظيمين بحيث يستطيع أن يختطف إنساناً تاماً وأن يمتص دماءه، فإدوارد Edward قال هذا مُمتاز جداً، وأشاع عن طريق المُشعوِذين وبعض الكهنة المدفوع لهم ظهور مصاصي الدماء أو أقنعهم حتى بأنهم فعلاً عاودوا الظهور وقالوا الآن بدأوا يظهرون، ثم ترك فاصلة زمنية ومسافة تصل إلى شهر أو شهرين حتى أخذت هذه الدعاية مداها والكل تسامع بها وهذه هى الخُطوة الثانية، أما الخُطوة الثالثة فكانت نصب كميناً، قال هذا الجنرال العام – Major-general – لقد نصبنا كميناً لدورية من دوريات الثوار واختطفنا من آخرها أحد هؤلاء الثوار ثم أحدثنا في عنقه ثقبين كما يُحدِث مصاص الدماء الخُرافي الأسطوري وذلكم عند غروب الشمس ثم علَّقناه من رجليه حتى نُزِف دمه ثم ألقينا به على قارعة الطريق، والنتيجة سحرية، إن هى إلا بضعة أيام وخلت المنطقة كلها – قرية أو مدينة صغيرة – من الثوار – ثوار الهوك – ومن السكان، فحتى السكان غادروا المنطقة، وهكذا تُكسَب الحروب باللعب على الخُرافات وعلى التفكير البدائي والتفكير غير العقلاني .
هذا حديث مُهِم جداً جداً لنا كمسلمين ومسلمات في هذه اللحظة من حياتنا وفي هذه اللحظة من تاريخنا، لحظة نتحدَّث فيها عن ثورات وثورات عربية ومُستقبل زاهر لكنه ملغوم ملغوم ملغوم، يُمكِن أن ينفجر فينا بألف سبب وسبب، فعليكم أن تفتحوا أعينكم جيداً، يقولون لكم لماذا يتحدَّث هذا الشيخ عن علماء أهل السُنة؟ وكأنني من علماء أهل البدعة، أنا سُني، كنت ولا أزال، ولا أقول هذا بالذات مُجامَلة لهؤلاء بالذات ولا خوفاً منهم، فنحن لا نخاف منكم ولا نعتبركم، بالعكس نحن نرى أنكم تُطِلّون على الأمة ككارثة واقعية وربما تُمزِّقون هذه الأمة شر مُمزَّق ونعلم هذا يقيناً، فنسأل الله أن يكفينا شركم وأن يكفي هذه الأمة المرحومة شركم، هؤلاء يقفون دائماً ضد الشعوب وضد مصالح الشعوب بإسم السُنة والجماعة وكأننا من أهل البدعة والفرقة، لا والله لسنا كذلك، يُقال أيضاً لماذا لا يتكلَّم عن علماء الشيعة؟ هم يظنون أننا نتكلَّم لكي نتكلَّم، يا أخي نحن لا نتكلَّم لأجل أن نتكلَّم وإنما نتكلَّم لأجل أن نُصلِح، أنا الذي أرنو إليه وأُريده وأتغياه أن أُصلِح في هذه الأمة، أي أُصلِح أُمتي التي قضيت عمري وأنفاسي من أجلها وأجل عزها وكرامتها، وحياتي كلها أقضيها من أجل هذه الأُمة لا من أجل نفسي كفرد، فأنا أُريد أن أُصلِح، كيف أُصلِح؟ هل أسب الشيعة؟ أستطيع أن أسبهم – كما تفعلون – ليل نهار والنتيجة مزيد من التوتير ومزيد من الأحقاد ومزيد من الألغام التي ستنفجر فينا، لذلك لا أُريد هذا، وقلت مرات – لن أقول عشرات ولكن مرات ومرات – أني أرتقب من إخواني الشيعة وأُريد أن أرى علماء ودُعاة ومُفكِّرين شيعة أيقاظاً يُحدِّثون جماهيرهم أيضاً عن أخطائهم وعن خُرافاتهم وعن بدعهم وعن ضلالاتهم كما أفعل أنا مع أهل سُنتي، ألم أقل هذا؟ قلته مرات ومرات بفضل الله تبارك وتعالى،أُريد شيعياً – وفيهم الحمد لله مَن يفعل هذا – يُصلِح، وأُريد سُنياً يُصلِح، الإصلاح لا يكون بأن أسب غيري، كأن أسب الشيعة، ما الذي يحصل؟ هذا ليس إصلاحاً، هذا كذب، وتُريد مني في نفس الوقت أن أُكحِّل لك جبين السُنة وأقول نحن ما شاء الله كاملون – Perfect – ومعصومون، فما هذا المنطق البليد الأحمق؟ هذا منطق أحمق، الحديث عن أنه ينتقد علماء أهل السُنة أحمق، يقولون كيف يتحدَّث عن علماء أهل السُنة؟ أنت خُذ خُطبة واحدة لي – أي خُطبة – أو درساً أو جزءً من خُطبة وسوف تستنبط مُباشَرةً أن هذا الرجل سُني، هو سُني حتى النُخاع، مصادره سُنية و لغته سُنية وشواهده سُنية وعقائده سُنية، هو سُني تماماً، ولكن ما الذي يحدث؟ هم يُريدون لك إن أردت أن تكون سُنياً بزعمهم أن تأخذ المسألة بقدها وقديدها وبضلالات السُنة وحماقات السُنة وبدع السُنة وخُرافات السُنة إلى الحق الكثير الذي أيضاً عند السُنة وإنما تأخذ هذا مرةً واحدة، ولذلك إذا انتقدت عالماً أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة من علماء السُنة يثورون كأن العالم شيئ ينزل من عند الله، كأنه ملك معصوم ينزل من عند الله فممنوع أن يتعرَّض للنقد، وهذه نفس الطريقة الحمقاء التي يتعاطون بها مع الصحابة فيقولون انظروا لقد انتقدت عثمان، وطبعاً انتقدت عثمان، ما المُشكِلة؟ يُمكِن أن أنتقد أبا بكر وعمر، لأنني لم أُؤمِن لحظة في حياتي أنهم معصومون أو أنهم أنبياء، لقد أخطأوا، ما المُشكِلة؟ لك أن تنتقد علىّ حين أقول لك أنا أُريد أن أُحطِمهم أو أزعم أنني سأُحطِمهم بهذه الأخطاء اليسيرة التي وقعوا فيها، حين إذن سأكون أنا أحمق وسأكون أحد الحمقى، لكنني لست ذلك الأحمق، عجيب جداً أنهم يُقرِّرون من جهة أنه لا عصمة للأنبياء وعملياً يتعاملون مع الصحابة والآن مع علماء أهل السُنة أيضاً على أنهم معصومون، ويُثرِّبون علىّ أنن أنتقد، لكن لماذا لا أنتقد؟ لماذا لا أنتقد عالماً حين يُخطيء؟ أنا لا أقول كل العلماء أهل السُنة عبر العصور، إنني إذن لأحمق لو قلت هذا، كيف يُقال كل العلماء؟ مَن الذي يُعمِّم؟ مَن يفعل هذا أحمق، وأنا رجل أُحاوِل أن أكون صاحب تفكير عقلاني وعلمي بفضل الله تبارك وتعالى، لذا لا أفعل هذا، لم أفعله مرة ولن أفعله، ومُحال أن يفعله عاقل، لكنهم يقولون ينتقد علماء لأنك انتقدت عالمين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو عشرين من بين عشرات الألوف الذين استفدت منهم واستشهدت بهم وهم مصادرك، لكن هذا ممنوع، ممنوع أن تنتقد أي أحد، لا تنتقد صحابياً ولا تنتقد عالماً، ويبدو أن عيونهم على أنفسهم حتى لا يطالهم النقد، لقد جمعتم الحمق إلى الفجور والعياذ بالله، فنسأل الله أن يُريح منكم هذه الأمة – والله العظيم – وأن يُريح منكم لا بتكفيركم وقتلكم كما تدّعون وتدعون وإنما بأن تجلسوا في بيوتكم، لا يُمكِن أن يكون أمثالكم مُؤهَّلين ولائقين بأن يُكلِّموا الجماهير، أنتم سمَّمتم أرواح هذه الجماهير وزيَّفتم عقولها – والله العظيم – واستنزفتم وعيها ودمَّرتموها، أصبحت جماهير غير طبيعية، وهذه الجماهير – كما قلت لكم – مُستعِدة أن تفتعل حرباً أهلية من أجل مسألة فرعية، من أجل ختان النساء – مثلاً – يُمكِن أن تقوم حرب في بلد، فهذا عادي ومُمكِن جداً، وأنا أقول لكم لو أرادت سُلطة مُعيَّنة ولو أرادت جهات شيطانية إبليسية مُعيَّنة أن تُفجِّر بلداً عربياً إسلامياً بسبب ختان البنات قد تنجح وهذه مُصيبة، هذه مُصيبة حقيقية، هذه نُكتة ولكن نُكتة سوداء، هذه كوميديا سوداء، هذا لا يُمكِن ولا يصلح مُبرِّراً أن يعترك فيه اثنان حتى بالأيدي وليس أن تقوم حرب أهلية من أجل ختان البنات، أي عقلية هذه؟ ولكن أنا أقول لكم هؤلاء يعلمون ويعلمون جيداً – والله – أن خدمة العقل وخدمة الوعي وخدمة النقد وخدمة الشك وخدمة التساؤل وإعادة النظر كلها تعمل على كشفهم وتعريتهم، إنها تتعارض على طول الخط مع مصالحهم ومصالح أسيادهم المُتنفِّذين، لذلك يرتجفون ويرتعدون من أي خطاب كخطابي هذا، يشمون فيه رائحة العقلانية ورائحة التساؤل ورائحة العقل والعلم، والعقل عندهم – وهذا ليس كشفاً لسر – مُتهَم ومُدان، يقولون لك هذا عقلاني، أي أن هذه تُهمَة, أن تستخدم عقلك هذه تُهمَة، وللأسف الجماهير تُصدِّق وتقول عقلاني نعوذ بالله منه، وأنت ماذا؟ هل أنت جهلاني أو خُرافاتي؟ أنت سعيد بأنك جهلاني، يُقال هذا عقلاني كتُهمة، وطبعاً يُفهِمون الناس أن هناك العقل وهناك النص، وكأن النص يعمل وحده بمعزل عن العقل، كأن العقل لا دور له في تصديق النص أولاً والإيمان به وثانياً في فهمه وثالثاً في تأويله، أي فتح آفاق لمعاني مُتعدِّدة للنص، فهذا إسمه التأويل، ويُوجَد مُصطلَح النص والظاهر، نحن عندنا نص قطعي غير قابل للتأويل وعندنا ظاهر وعندنا نصوص كانت نصوصاً ثم استبان أو بان ووضح بعد ذلك أنها ظواهر وليست نصوصاً، أنت تعتد بها نصوصاً وهى عند غيرك مُجرَّد ظواهر قابلة للتأويل قابلة لقولين وثلاثة وأربعة فيها يا رجل، لكن لا يتكلَّمون هم، لا يُمكِن أن تسمع منهم مثل هذه التأصيلات العلمية والعقلية للمسائل أبداً، كلام خُرافي عجيب جداً وربط خُرافي بين الموضوعات.
بما أن المقام ربما يقتضي هذا الإيضاح كنت أُريد في الخُطبة الثانية أن أُوضِّح لأن بعض الناس – وطبعاً أنا أعذرهم – لا يُدرِكون هذا، ليس كل الناس مُثقَّفين وليس كل الناس يقرأون ويُتابِعون وليس كل الناس لديهم الوقت أن يسمعوا كل ما يقول عدنان وكل ما يقول غير عدنان، هذا مُستحيل طبعاً، فيُحِبون أن يأخذوا بياناً، يُريدون بياناً فيقولون هل يا عدنان أنت شيعي أم سُني؟ وأنا أقول لكم أنني أحترم جميع الطوائف الإسلامية، أحترم إخواني الشيعة الإمامية وإخواني الشيعة الزيدية وإخواني الإباضية في عُمان وأحترم كل المسلمين والمسلمات – بفضل الله تبارك وتعالى – وفي نهاية المطاف وفي البداية والنهاية أنا سُني من أهل السُنة والجماعة، وأقول هذا بشكل واضح، لماذا؟ لا يُمكِن أن أكون إمامياً وأنا غير مُقتنِع، مع العلم بأنني لو كنت إمامياً فإن هذه ليست كارثة وليست معرة وليس عيباً، وإلا كارثة ومعرة وعيب أن هناك مئات الألوف بل الملايين من هؤلاء الإمامية، فلماذا أنت تُهين هؤلاء؟ لماذا تبصق عليهم؟ ليس هذا أسلوب التوحيد ولا أسلوب النقاش ولا أسلوب التقريب إن زعمتم الرغبة في التقريب والرغبة في التوحيد وتجسير الهوة كما يُقال بسب الناس بالجُملة والتفصيل، هذه ليست كارثة وليست معرة أبداً، ولكنني لن أكذب على نفسي وعلى الناس وعلى جمهوري، فأنا لست شيعياً، لا زيدي ولا إمامي، أنا سُني، وأتساءل كيف يُمكِن أن أكون شيعياً إمامياً – رافضياً يقولون – وأنا لا أُؤمِن بنظرية الأئمة الاثني عشر؟ أنا لا أُؤمِن بها ولا أُؤمِن بالمهدي الموعود – مهدي الشيعة – ولم أُؤمِن به يوماً، فكيف أكون إمامياً؟ انتهى الأمر فهذا مُستحيل، هذا وحده كفيل أن يُخرِجني مُباشَرةً من دائرة الشيعة الإمامية، ولكن يُقال شيعي رافضي، وهذا أمر عجيب، كيف أكون شيعياً إمامياً وأنا لا أُؤمِن بالرجعة؟ عقيدة الرجعة عند الشيعة الإمامية لا أُؤمِن بها بالمرة، لا أُريد أن أُهين هؤلاء الناس لكنني لا أُؤمِن بها بالمرة، لا أُؤمِن بعصمة الأئمة، أي أنهم معصومون لا يرتكبون أخطاء لا كبيرة ولا صغيرة، لا أُؤمِن بهذا، لا أُؤمِن لأن الدليل لم يقم عندي على صحة هذه العقيدة ومن ثم لا أؤمِن بها، لا أُؤمِن بأن مُعظم الصحابة ارتَدوا وانحرفوا بعد رسول الله، هذه أسطورة وخُرافة شخيفة جداً جداً جداً ومفضوحة وغير صحيحة بالمرة، ومع ذلك يُقال أنت قلت الصحابة الاستثنائيون بالعشرات، فيا رجل عُد إلى الخُطبة، علماً بأن الخُطبة كانت عن النمط – Pattern – أيضاً، فأنا أذكر أن الخُطبة – لم أُعد إليها – كانت عن النمط، وأنا تحدَّثت عن الصحابة الذين تركوا دين آبائهم وأجدادهم في مكة واتبعوا الرسول يوم كان اتباعه يُساوي القتل والتعذيب، وقلت هؤلاء استثنائيون، فاقتطعوا هذه الجُملة كأنني أتحدَّث أن الصحابة بعد الرسول وفي كل وقت وزمان وكأنني قلت الاستثانئيون كانوا عشرات، ما هذا الكذب؟ جمعتم الفجور إلى الكذب، الله حسيبكم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ماذا تُريدون أن تُفهِموا الناس؟ هذه حماقات وأكاذيب باردة سخيفة، أنا لا أُؤمِن بهذا الاعتقاد السخيف أبداً، وأقول الذين انحرفوا من الصحابة وغيَّروا وبدَّلوا على أصابع اليدين، ونحن نتناولهم بسلاسل وفي رأسهم مُعاوية الطاغية، طاغية طواغيت أمة محمد، ولا أرتاب فيه لحظة إلا أن تُقنِعوني، فقط أقنعوني لكنكم لم تُجيبوا مرة واحدة عن حُجة قوية أتيت بها وسكتم، فقط تقولون شيعي ورافضي، قولوا لنا معاوية ليس طاغيةوبرهنوا هذا، وأنا – والله العظيم – سأكون أول الراجعين إلى الحق، لأن ديني يهمني أكثر منكم ومن وجهة أنظاركم وأنظار غيركم، أنتم لا تهمونني لا في كثير ولا في قليل، ثم يقولون شيعي رافضي، شيعي رافضي يتحدَّث عن نظرية الإمامة بين السُنة والشيعة في خُطبة جمعية ويُرجِّح فيها نظرية أهل السُنة ومع ذلك هو إمامي، لقد افتُضِحتم، وأنا أقول هذا كبيان فقط من أجل أن يعود به مَن في قلبه شكٌ وريب، يُقال الآن أصبحنا مُرتابين في عدنان إبراهيم هل هو شيعي أم سُني؟ لتكن مُطمئناً أنا سُني، سُني في البداية وسُني في النهاية وبشكل واضح مع احترمي لجميع الفرق الإسلامية، أما حبي لأهل بيت رسول الله – صلى الله على محمد وآل محمد وسلم تسليماً كثيراً – فهذا فخري وهذا تاج رأسي وهذه وسيلتي إلى الله في الدنيا والآخرة، أعيش وأموت عليه وإن كلَّفني حياتي، فلا والله الذي لا إله إلا هو ما أنا براجع عن حبي لرسول الله – طبعاً وأنتم وهؤلاء أيضاً – ولا عن حبي لأهل بيت رسول الله الذي يغيظ هؤلاء الحمقى للأسف الشديد، نسبة بعض الفضائل وإلا فضائلهم أشهر من أن تُذكَر وأكثر مِن أن تُحصَر يغيظهم، لكن انظروا إلى هذا العقل الخُرافاتي، يقول قضية أن عليّاً وُلِداً في جوف الكعبة ماذا فيها من فضيلة أو ميزة لعليّ؟ هذه ليس فيها مزية، كيف يا مولانا؟ انظروا إلى هذا العقل الكبير وهذا الفيلسوف، يردون علىّ ويجعلون معرة أنني أرد على بعض الملاحدة والفلاسفة والعلماء مثل استيفنج هوبنج – أي ستيفن هوكينغ Stephen Hawking – كما يقولون، فاستحوا على أنفسكم، موسوعيتي هذه بعض فخري، أفخر بأنني راجل واسع الإطلاع والثقافة وأرفع رأسي بهذا بفضل الله تبارك وتعالى، وهذا من فضل الله وأسأل الله المزيد، أما أيها التائه استيفنج هوبنج هذا لم يخلقه الله، لا يُوجَد رجل إسمه استيفنج هوبنج، أنت لا تعرف كيف تنطق كلمة بالإنجليزي وترد علىّ وتسخر، وهذا شيئ غريب، حقيقةً الأحمق حين يتكلَم يفضح نفسه، كل أحمق حين يتكلَّم يفضح نفسه، يقول لك لا تُوجَد مزية لعليّ أنه وُلِدَ في جوف الكعبة، كيف يا مولانا؟ كيف يا أرسطو Aristotle المسلمين؟ قال لأن الكعبة كانت غاصة بالأصنام، في باطنها أصنام وكانت محوطة بالأصنام، هذا – ما شاء الله – بُرهان مُسدَّد كالرصاصة إلى هدفها، هذا أمر عجيب، لكن لم يقل لنا هذا الأرسطو Aristotle الكبير والفيلسوف الخارق الذي هو من جماعة هوبينج كيف طاف بها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وعظَّمها وشرَّفها وقدَّسها وظل يطوف بها ويُصلي إليها طيلة الفترة المكية والأصنام في بطنها والأصنام حولها وفوقها، وظل يفعل هذا كل مَن أُتيحَ له في نُهز للأسف قليلة جداً جداً جداً في الفترة المدنية وأنتم تعرفونها في السيرة، حتى في عمرة القضاء طافوا بها وهى غاصة بالأصنام، لم يُخلها الرسول من أصنامها إلا يوم فتح مكة، فهل نقصت قدسية الكعبة أو شرف الكعبة أو كرامة الكعبة يا أرسطو Aristotle – يا أرسطو Aristotle السلفيين – لأنها كانت غاصة بالأصنام؟ ما هذا؟ أي عقلية هذه؟ ولذلك أنا أقول لكم يا إخواني وأُعيدها للمرة المائة كما قال كانط Kant تجرأوا على استخدام عقولكم وأُقسِم بالله على هذا، كونوا مُستقِلين، لكن الكهنة – لا أقول علماء الدين لأن هؤلاء كهنة – لا يُريدون هذا، الكهنة في كل الأديان وفي كل المُؤسَّسات الدينية – ومُعظَم المُؤسَّسات الدينية مُؤسَّسات كهانة – أكثر ما يُهدِّدهم ويُحرِجهم أن يستقل الناس في فهمهم للدين وجوهر الدين، فهم لا يُحِبون هذا، ولكن الحمد لله هذا قرآنٌ عربي غير ذي عوج، كل شخص يستطيع أن يفتح المُصحَف وأن يقرأ وأن يتساءل وأن يفهم – بإذن الله تعالى – على قدر ما فتح الله وأن يجتهد وأن يُصيب وأن يُخطيء، وهذا أمر طبيعي، لكن هم لا يُحِبون هذا، ويغضبون جداً إذا تكلَّم إنسان وليس ينتمي إلى السلك الكهنوتي، هذا ممنوع لأنه حكر علينا، مَن أنت؟ يرون كل أحد غيرهم نكرة لا قيمة له ولا وزن له، مع أنهم يرتعدون من مُجرَّد طلب أن يُناظِروه ويعلمون لماذا، فيرفضون بالذات أن يُناظِروه ويرتعدون ارتعاداً حقيقياً، حالة رعب تسحقهم إذا قيل ناظروه، لكنه نكرة ودعي ولا يفهم شيئاً، يُريدون فقط أن يحتكروا هم الكلام في الدين، في القرن السادس عشر عاشت البشرية في عصر جوتنبرج Gutenberg وأتت المطبعة وضاعت على المُؤسَّسة الكهنوتية – الكليروس κλῆρος – هذه الفرصة، لأن أصبحت الأفكار تُطبَّع وتُوزَّع بكميات كبيرة، فعصر المطبعة أنشأ عالماً حديثاً حقيقياً، وهؤلاء لا يستوعبون أننا لسنا في عصر المطبعة بل في عصر النت Net، نحن في عصر النت Net الذي أسقط رؤوساً عن عروشها، قال أحدهم قتلني النت Net، شيئ ملعون إسمه النت Net لا هو سُم ولا هو رصاصة، النت Net هذا كأنه حشرة صغيرة قتلت هذه الطاغية وأسقطته، فنحن نعيش في عصر النت Net ويستطيع أي شاب وأي شابة وأي مُراهِق أو مُراهِقة أن يدخل في لحظة وأن يُطالِع في الموضوع الواحد عشرات ألوف ربما الصحائف أو الصفحات وأن يُقارِن، وهذه المُطالَعة وهذه المُقارَنة تُعطيه قدرة على أن يتحرَّر وعلى أن يفهم أن الموضوع أكثر اشتباكاً وأكثر تعقيداً وأكثر تنوعاً وهو ليس ما يقوله مولانا، ولكن نحن نعيش في العالم الإسلامي الوسيط، مثلما حدث في أوروبا الوسطى، هذا نفس الشيئ.
حين حاول العالم الكبير ورجل الدين الورع التقي تيندال Tyndale أن يُترجِم الكتاب المُقدَّس – Bible أو Bibel – من اللاتينية إلى الإنجليزية اعتبروا هذه جريمة كُبرى، والمسكين طبعاً خُزِقَ وأُحرِقَ على الخازوق، لماذا يا أخي؟ لأنه يتيح للناس أن تتعبَّد بكلام الله، لأن معنى ذلك أن الناس لن يحتاجوننا بعد اليوم في فهم الكتاب المُقدَّس، نحن فقط نتكلَّم بإسم الرب، نحن نقول للناس ماذا في الكتاب المُقدَّس ونُفسِّر لهم ما نُريد، نقول لهم فقط في حدود ما نُريد أن نقول وما نُفسِّر، ولكن حين تُترجِم بالإنجليزي وتُتيح الكتاب في كل بيت فهذه تكون مُصيبة، وظلوا يُطارِدون المسكين بضع سنوات إلى أن وقع في قبضتهم وعلى الخازوق كان حريقه، فهو خُوزِقَ وأُحرِقَ، وترجمته الحمد لله أنجزها ونُشرِت، وبعد بضع سنوات أُحرِقت مئات ألوف النُسخ، لكن نجت بعض النُسخ، إحدى هذه النُسخ هى التي اعتمدها أول ملوك أسرة ستيوارت Stuart في بريطانيا وهو جيمس James، أي الملك جيمس King James، ولذلك يُقال نُسخة الملك جيمس King James، هى هذه النُسخة، هذه نُسخة تيندال Tyndale التي أخذها الملك جيمس King James مُباشَرةً واعتمدها النُسخة الأصلية للكتاب المُقدَّس لأول مرة بالإنجليزية، ترجمة المحروق المُخوزَق تيندال Tyndale الذي أراد أن يرفع الوسائط بين العباد وبين ربهم وبين العباد وبين كتابهم المُقدَّس، فكان جزاؤه أن خُوزِقَ وأُحرِقَ، والمُناسَبة بما أننا ذكرنا الملك جيمس King James وترجمة الملك جيمس King Jamesنقول أن الملك جيمس King James عنده كتاب ألَّفه في أواخر القرن السادس عشر إسمه Demonology، أي علم الشياطين، كان يُؤمِن بالشياطين على طريقة علمائنا اليوم وعلى طريقة مَن يُبرِّر للقضاة المُختلِسين لمئات الملايين لأنهم ضحايا للجن، لكن ليت شعري، إذا كان تسخير الجن بهذه السهولة وبهذه الإمكانية ونأتي من خلالها بمئات الملايين فلماذا لم يُسخِّرهم رسول الله ومنهم مَن كانوا مسلمين وأتباعاً للرسول – سورة الجن وسورة الأحقاف – وهم طوع بنانه؟ لو أمكن تسخيرهم بهذه الطريقة لماذا لم يُسخر النبي جنياً مسلماً واحداً ليلة الأحزاب؟ أنتم تعرفون ليلة الأحزاب والحديث في صحيح مسلم، قال أي رجل منكم يقوم فيأتي القوم ويرى حالهم – أي يستطلع، فهذه مُهمَة استطلاعية – جعله الله معي في الجنة يوم القيامة، يقول حذيفة بن اليمان فما أجابه منا أحد، صعب جداً أن نذهب إلى هناك، يُوجَد خوف شديد وظُلمة وبرد وأعداء، هؤلاء الأحزاب بألوف، تسعة آلاف ومن ثم سوف أُقتَل، قال فكرَّر ذلك ثلاث مرات، مَن يذهب يأتينا بخبرهم جعله الله معي في الجنة يوم القيامة، ولم يذهب أحد من الصحابة، والآن سوف يُقال أرأيتم كيف يسب عدنان الصحابة؟ لكن هذا في صحيح مسلم، سوف يُقال انظروا إلى هذا الخبيث الذي يتهمهم بأنهم جبناء، لكن هذا في صحيح مسلم وهو حديث حذيفة بن اليمان، ثلاث مرات لم يُلبه أحد، قال فلم يُجبه منا أحد، فقال يا حُذيفة بن اليمان قم فأت القوم، قال فلما ذكرني بالاسم لم أجد بُداً من أن أذهب وهكذا إلى آخر الحديث، وأنا أتساءل يا مولانا ويا قاضي ويا راقي ويا مُحامي كيف تقبلون هذا؟ علماً بأن المُحامي كان مُتورِّطاً، فالمُحامي صدَّق وكان يتعامل مع الراقي ويطلب حضور الجن في المحكمة، المُحامي طلب حضور الجن الذي اختلس مئات الملايين في المحكمة، لكن ليت شعري، في أي عصر نعيش؟ شر البلية ما يُضحِك، وكم ذا بالعالم الإسلامي من مُضحِكات ولكنه ضحكٌ كالبكاء، كم ذا بعالمنا من مُضحِكات ولكنه ضحكٌ كالبكاء، لماذا لم يستعن النبي بجني ويأته بالخبر وانتهت المُشكِلة بدل أن يُعرِّض أصحابه للهلاك وللهلكة؟ هذا لم يحدث.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
نُكمِل قصة الملك جيمس King James وكتاب Demonology – علم الشياطين – الآن، فالرجل ألَّف كتاباً في علم الشياطين والأبالسة وكيف يحتلون الأبدان وكيف يُطوِّعون الإنس للجان وإلى آخره، ولكن هذا الرجل بسبب هذا الكتاب وهذه القناعات في سنة ألف وستمائة وثماني وعشرين استحال تقريباً إلى الشك التام، فالملك جيمس King James صار من الشكوكيين وصار عنده إشكالات في قضية الإيمان بالدين كله المسيحي، هل تعرفون من أجل ماذا؟ لما اكتشف بالتواتر مجموعة من الشباب الصغار أقرب إلى المُراهَقة – ليسوا رجالاً كباراً أو كهولاً في الأربعين وإنما شباباً صغاراً أقرب إلى المُراهَقة وأكثر من مرة تواتر هذا – أفلحوا تماماً في افتعال الخضوع لآثار تلبس الشياطين والجان وقادوا إلى المحرقة وإلى المشنقة عشرات الأشخاص بتُهمتهم أنهم وراء هذا، ويُشنَق الناس وتُقتَل الناس،والآن الحمد لله لا يُوجَد شنق ولا يُوجَد قتل لكن تُوجَد أموال تتسرَّب إلى الجيوب وأموال تُتغوَّل بمئات الملايين والمليارات، قيل هناك عقارات وأشياء بالمليارات ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وقتل الناس في أرزاقها كقتلها في أعناقها كما يُقال، فاكتشف الملك جيمس King James أن هذه ألعوبة وأن هؤلاء مُجرَّد شباب مُمثِّلون شطّار مثل القاضي الشاطر – وهو فعلاً شاطر، أشطر من حسن الشاطر – وأنهم شباب صغار شطّار يلعبون هذه اللعبة لينتقموا من بعض أعدائهم أو أعداء أهليهم ووالديهم، ولما اكتشف الملك هذا جُنَّ جنونه وشكَّ في القضية كلها، شك في الدين وفي الكتاب المُقدَّس وفي العقائد وفي الخُرافات، وأصبح الملك جيمس King James أول ملوك أسرة ستيوارت Stuart رجلاً شكوكياً، أرأيتم ما حدث؟ هذا هو!
أختم بكلمة لأنه طُلِب مني أن أتكلَّم في هذا الموضوع وأقول أن هذه الطريقة في التفكير وهذه الطريقة في عرض الدين وهذا الإصرار على عرض الدين من هذا المنظور البؤبؤي الصغير الأنبوبي للأسف – سأقولها ربما الآن للمرة المائة وأنا أقول هذا من عشرات السنين، فمن حوالي عشرين سنة ومن البدايات وأنا أقول هذا – تُشجِّع الإلحاد وفقد الثقة بالدين وفي الدين وفي الله وفي الرسول وفي الكتاب، وهذا ما يحدث طبعاً، والآن جُنَّ جنونهم من أجل شاب إسمه حمزة كاشغري، وأنا أقول لكم هذا شاب – والله – مسكين ومريض، فأسأل الله له الهداية والشفاء، هذا الشاب – أسأل الله أن يشفيه – مهزول جداً جداً جداً جداً كأنه مسلول، أنا رأيته ويغلب أن يكون هذا المسكين مريضاً عُصابياً أو عقلياً، نحن لا ندري، لكن لابد أول شيئ ألا نقول هو كافر ومُرتَد وافعلوا به وافعلوا وانتقم الله منه وما إلى ذلك، هذا أمر عجيب، ما هذا الحقد؟ما هذا الحرص على التكفير؟ هل الإسلام الآن سيختل من مُجرَّد شاب خاطب الرسول بعبارة مثل التي قالها؟ أنا لا أقول هذه عبارة غير لائقة فحسب بل أن هذه العبارة أضحكتني، أنا حين قرأتها ضحكت، قرأت ماذا كتب في تغريداته وجعلت أضحك، مَن أنت يا حمزة؟ أمه تقول أنه لا يُحسِن اللغة الإنجليزية، أي أن هذا الرجل ثقافته ضحلة جداً جداً جداً جداً، وأنا اقول لك إذا كنت لا تُحسِن إلى العربية لغة أجنبية سوف يكون من المُستحيل أن تُكوِّن ثقافة عميقة في هذا العصر، هذا مُستحيل لأن العلم أكثر مما تتخيَّل ولابد أن تُتابِع العلوم الحديثة، هناك أشياء كثيرة أنا أُتابِعها وبعد عشر سنين – والله – تقرأ فيها كتاباً بالعربية والآن بالإنجليزية تقرأ فيها مئات الكتب، لابد أن تعرف لغة عالمية لكي تكون مُثقَّفاً حقيقياً، قالت أمه هو لا يعرف الإنجليزية، معرفته بسيطة جداً جداً جداً جداً وأحب أن يعمل دورة في الإنجليزية، فهو رجل غلبان؟ مَن هو حمزة كاشغري؟ الله يهديك يا حمزة، أنا أدعو له بالهداية – والله العظيم – من كل قلبي وأنا – والله – مُشفِق عليه، وأسأل الله أن يتوب وأن يهتدي، لكن لا أن يتوب تحت تأثير القتل وإنما أن يتوب بالنقاش، يا ليت يُمكِن أن ألتقي بأخي حمزة وأن أُناقِشه، يا ليت والله العظيم، لكن أنا من غد – إن شاء الله – سوف أفتتح سلسلة مُطوَّلة جداً عن الإلحاد، هى سلسلة علمية فلسفية منطقية ودينية في النهاية، وسأُسميها مطرقة البرهان وزجاج الإلحاد، وعلى كل حال أنا ضحكت، لماذا؟ حين يأتيني هذا الشاب ابن الثانية والعشرين ربيعاً – عمره ثنتان وعشرون سنة فقط – ويقول هذا أضحك، هذا شاب صغير مسكين في أول حياته لكنهم يُريدون إعدامه وقطع رأسه مُباشَرةً حتى يشفو غيظهم، شيوخ كبار وصغار يُريدون هذا، فما هذه الحالة العجيبة؟ في أي عصر نعيش؟ هو يقول أنا لو رأيت محمداً سأقول له مع حبي واحترامي لك – هو يعترف بأنه يُحِبه ويحترمه – لن أُقبِّل يدك، لن أركع عند قدمك، أنا سأُصافِحك مُصافَحة الند للند، وأنا جعلت أضحك، هذه الكلمة لو قالها عمر سأضحك عليه، لو قالها أبو بكر أو بسمارك Bismarck أو نابليون Napoléon أو خالد أو ڤولتير Voltaire أو ديدرو Diderot أو أينشتاين Einstein سأضحك عليه، مَن أنتم جميعاً؟ مَن أنتم إذا قسناكم برسول الله؟ حتى عمر وأبي بكر لا شيئ، وهنا قد يقول أحدهم هل رأيتم ماذا يقول؟ لا لم نر ولا نُريد أن نرى هذا، أنا أعرف أن في الحديث الصحيح قالت الملائكة لو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، هذا هو محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – فلا تُحدِّثني عن أبي بكر وعمر وعليّ وعثمان وعن بلايين غيرهم، هذا الرسول وليس حمزة كاشغري، فأنا سأضحك من عمر ومن نابليون Napoléon ومن خالد ومن أينشتاين Einstein إذا قال أحدهم أنا ند لمحمد، سوف أقول له العب غيرها يا حبيبي، ند لمَن يا بابا؟ هل أنت أتيت بقرآن؟ هل بنيت أمة؟ هل أخرجت أمة من عدم؟ ماذا فعلت أنت؟ هذا كلام فارغ !
نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte حين قيل له أن ڤولتير Voltaire كان يكتب كذا كذا ونال من محمد وقال مَن محمد؟ – وطبعاً ڤولتير Voltaire كان سابق عليه – ضحك ضحكة استهتار واستخفاف بڤولتير Voltaire – بفرنسوا ڤولتير Voltaire François – وقال وما عساه ينال من رجل التاريخ؟ نابليون Napoléon يعرف محمداً، قال هذا الرجل بنى أمة وأخرج أمة، فلما يأتيني أخي المسكين حمزة كاشغري – الله يهديك يا حمزة – ويقول لي أنا سأُصافِح الرسول محمداً مُصافَحة الند للند أقول له يا أخي أنت لست نداً لي أنا، أنا أقول لك أنت لا يُمكِن أن تكون نداً لواحد مثلي علمياً وفلسفياً، فكيف تُريد أن تكون نداً لرسول الله؟ هل أنت يا حمزة بالله عليك – الله يهديك – ند لأينشتاين Einstein؟ سوف يقول لا، هذا أينشتاين Einstein، هل أنت ند للمُلحِد ريتشارد دوكينز Richard Dawkins؟هذا عالم البيولوجيا ومُلحِد فهل أنت ند له؟ سوف يقول لا، هذا فيلسوف مُلحِد خطير، فكيف تُصبِح نداً لمحمد؟ فهمني يا ابني بماذا أنت ند له يا حبيبي؟ فأدركت أن الشاب مريض والله العظيم، لكن أنا أقول لكم طريقة بعض المشائخ استئصالية إقصائية تكفيرية وأنا بدأت أستاء جداً جداً جداً من هذا الأسلوب، تجد أحدهم يقول لك وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ۩، لكن هذا في مَن؟ هل يُقال هذا في كفار؟ هذا رجل مسلم وابن مسلمين وأمه مسلمة تقية وأبوه مسلم، لكن هذا مريض، في البداية اعرضوه على طبيب نفساني، وأنا أقول لكم بنسبة أكثر من خمسة وتسعين في المائة سوف يتضح أن هذا الرجل ليس سوياً، هذا الشاب المسكين – والله – ليس سوياً ويحتاج أن يأكل جيداً وأن يتغذّى في البداية، هذه الحالة المهزولية التي عنده تُؤذِن بأن دماغه – كما يقول ابن سينا – نشفت، تُوجَد حالة تجفف في دماغ هذا المسكين، ويقول أنا ند لمحمد، لكن هؤلاء أسرع شيئ عندهم القتل على طريقة الكهنة ورجال الكنيسة في أوروبا الوسيطة الذين كانوا يقولون أسهل وأقصر طريق للقضاء على الوثني ونُصرة الحق قتل الوثني، فهذا نفس الشيئ وهذه نفس العقلية، نحن نعيش العصر الوسيط الإسلامي الآن في القرن الحادي والعشرين.
اعرضوا الأخ حمزة على طبيب نفسي، وأنا أدعوه الآن أن نتحاور – إن شاء الله – إذا كان عنده شُهبات في الدين وفي الاعتقاد وفي الألوهية وفي النبوة وفي أي شيئ، أنا سأفتح له قلبي – والله – وأُعطيه من وقتي، لأنني أشعر أن هذا المسكين ضحية والله العظيم، هو ضحية للمُجتمَع وضحية لنمط مُعيَّن في فهم الدين أو أنماط، وأنا أقول لكم عجيب ألا نجد مَن يُجاهِر الآن بالإلحاد وبالهرطقة – إن جاز التعبير – كالذين نجدهم في المملكة السعودية، هل تعرفون ما هو السبب؟ السبب هذه الطريقة في فهم الدين وهذا الإصرار المشائخي العجيب على عرض الدين بهذه الطريقة المرذولة، أنا أقول لكم هذه طريقة أقل ما يُقال فيها أنها مرذولة، هذه ليست محمودة وليست مقدورة ولا مشكورة، فأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا وأن يهديهم وأن يهدي بنا وبهم.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 24/02/2012
أضف تعليق