– ألقى مُدير الجلسة مشكوراً كلمة ثم قام الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم بإلقاء مُحاضَرته:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۩، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ورُسله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، أود أن أبداً بتحية أصحاب المعالي والفضيلة مع حفظ الألقاب والمراتب للجميع، كما أود أيضاً أن أُزجي شكري الجزيل لجناب السيد مُدير جامعة السُلطان قابوس – حفظه الله تعالى – ومَن دونه من الأساتيذ والعاملين على تسيير وتيسير هذا اللقاء الذي أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُبارِكه وأن تجدوا فيه ولو شيئاً يسيراً كفاء تجشمكم عناء الحضور في هذه الليلة المُبارَكة.
قبل أن أشرع في حديثي إليكم أحبتي – إخواني وأخواتي – أود أن أُعبِّر عما يعتلج في صدري مُنذ يوم أمس تجاه هذا البلد الحبيب الذي يشهد الله أنني أحببته حُباً جماً عن بُعد، أحببته للقائي بعد العُمانيين والعُمانيات هناك في أوروبا، ولمست منهم طيب الخُلق وطهارة المسلك وعفة اللسان وجانباً لا يخفى من الحكمة والرزانة والهدوء وحالة عامة من الرضا، وما إن وطأت قدماي هذا البلد الكريم حتى مار هذا الشعور موراً ثم انداح وانبسط لأجدني أُعبِّر بهذه الكلمة وأسأل الله أن أكون مُنصِفاً فيها مُقتصِداً، قلت كأن الله – تبارك وتعالى – وضع يده على عُمان، وأسأله بعزته وجلاله وقُدسه ألا يرفعها عنكم، هذه البلدة – إخواني وأخواتي – بلدة فريدة بلا شك بأشياء كثيرة، أفهم وأتفهَّم أن مُعظَمكم ربما لا يشعر بها لقُربه – مسيس قربه – لأنه يعيشها، حالة معيشة، أما الذين هم أمثالنا مِمَن يردون على هذه البلدة المُبارَكة من خارجها فيجدون شيئاً مُتميِّزاً إلى الغاية، فضلاً عن حالة المُواطَنة التامة بين كل أطياف هذا المُجتمَع على اختلاف خلفياتهم، سواء أكانت عرقية أم دينية أم مذهبية وإلى آخره، فإن هناك حالةً – كما قلت – من السكينة والرضا والهدوء تعم كل مَن رأيت، كل مَن رأيت إن في مُؤسَّسات أو في المساجد أو حتى في الشوارع من المُشاة، وهذا من فضل الله – تبارك وتعالى – عليكم جميعاً، والفضل طبعاً أيضاً يُشكَر لأصحابه وفي رأسهم على ما أنا مُوقِنٌ به حكمة جلالة السُلطان – أمتع الله بطول عُمره في خيرٍ وعافية – التي قضت بأن يُدار الاجتماع الديني والاجتماع السياسي أيضاً على أحسن طريقة مُمكِنة في هذا البلد العظيم الذي لا أزال أعجب ولم أقض عجبي كيف لا يستلهم التجربة العُمانية إخوانه من العرب وخاصة القريبين منه، لا أزال أعجب من هذا ولكن أسأل الله – تبارك وتعالى – أن ترتفع الأصوات المُنادية باستلهام التجربة العُمانية التي أخبرني نفرٌ من الأساتيذ والأشياخ المُبارَكين أنها تجربة مُمتَدة مُنذ مئات السنين، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، وهذا شيئٌ بلا شك يُذكَر فيُقدَر ويُشكَر بحمد الله تبارك وتعالى، ثم أنت مُنعَمٌ عليكم بسماحة المُفتي، الرجل الذي ضرب أروع الأمثلة في العلم والتحقيق مع الزُهد والتواضع والربانية وبُعد النظر والحكمة – أيها الإخوة – في التعاطي مع الأمور كلها التي يتصل بها من قريب أو من بعيد ومَن دونه أيضاً من أهل العلم المُبارَكين في هذه البلدة الذين لم ألمس فيمَن اتصل سببي بأسبابهم إلا التواضع والربانية، هم صورةٌ أو صورٌ أيضاً من سماحة المُفتي، فرضيَ الله – تعالى – عنه وعنكم أجمعين وأدام عليكم النعمة.
إخواني وأخواتي:
المُحاضَرة التي طُلِبَ إليّ أن أتكلَّم فيها عن الحضارة الإسلامية ودورها في تعزيز القيم، وطبعاً لابد – إنصافاً لنفسي وإنصافاً لكم – أن أبوح إليكم بما لن يعود سراً بُعيد قليل، أنني لأول مرة – ولست أدري لماذا – أُدعى إلى مُحاضَرة كبيرة ومُهيأ لها أحسن تهيئة ولكني لم أحتشد لها، كأن مانعاً منعني أن أحتشد لها على غير طبعي وطريقتي وعادتي، فأسأل – الله تبارك وتعالى – أن يُلهِمني وأن يُوفِّقني كما قلت في صدر الكلام لبعض ما يُمكِن أن تجدوا فيه كفاء ما تجشمتم وكفاء ما تحملتموه من عناء الحضور.
الحضارة الإسلامية والقيم:
لابد في البداية أن نُعرِّف الحضارة، ونحن إذ نُعرِّف الحضارة أنما نتعانى أمراً بالغ المشقة وبعيد الصعوبة، لماذا؟ لأن الحضارة ليست مفهوماً ثابتاً وليست حالة من الحالات، رالف بيري Ralph Perry في كتابه العظيم آفاق القيمة قال من الصعب جداً ومن غير الميسور أن تُعرَّف الحضارة، أن يُعرَّف هذا المفهوم، لأن كلاً من الناس يُريد به شيئاً في سياق مُختلِف، وبالفعل في الواقع في المدرسة السكسونية أو الإنجليزية – إن شئتم – يستخدمون لفظ Civilization بمعنى الحضارات العُليا، كالسومرية والبابلية والإغريقية والإسلامية والغربية بشقيها المُعاصِرة، وأما Culture فيستخدمونها بمعنى الحضارات البدائية، هذا في السياق الإنجليزي، الألمان ومَن ورائهم الأمريكان في العالم الجديد يستخدمون كلمة أو لفظة حضارة – هكذا ترجمناها – أو مدنية Culture بمعنى عام شامل لكل هذا المنتوج والجُهد البشري بشقيه المادي والروحي، فهم يستخدمون Culture – بالألمانية Kultur – بهذا المعنى، لكنهم يستخدمون Civilization استخداماً قدحياً، يُوشِك أن يكون استخداماً تبخيثياً أو قدحياً، يُشيرون به إلى الجانب المادي فقط، والذي إذا ظهر واستبد بالمشهد فإنه مُؤذٌ بأفول حالة التمدن لدى الإنسان، طبعاً نجد تفصيلاً وإسهاباً واسعاً جداً لدى المُؤرَّخ الألماني الشهير أوسفالد شبينغلر Oswald Spengler في كتابه أفول الغرب.
هذه طريقة الألمان ومن ورائهم الأمريكان، بقيَ الفرنسيون Français، يستخدمون لفظة Civilisation بمعنى Kultur عند الألمان، أي الحضارة أو المدنية بجميع جوانبها المادية والروحية، طبعاً الترجمات العربية نحت مناحي مُختلِفة بحسب قناعة المُترجِم، إذا أردنا أن نُعرِّف الحضارة – إخواني وأخواتي – تعريفاً ننتقيه من عشرات التعريفات ففي الحقيقة عالم الأناسة الأنثروبولوجي الألماني الأمريكي بعد ذلك ألفريد كروبر Alfred Kroeber ذكر مائةً وواحداً وستين تعريفاً للحضارة، التعريفات كثيرة جداً جداً، تختلف في أشياء وتتفق في أشياء، من رأيي – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – أنه يُمكِن أن تُعرَّف الحضارة بأنها الجهود الإنسانية أو البشرية التي يخلق بها الإنسان مسافة بين الاستجابة الغرزية وبين الاستجابة العقلية المُرشَّدة، الاستجابة الغرزية لتحديات الخارج ومُتطلبات الباطن الإنساني لا يخرج بها الإنسان ولا يمتاز أو ينماز – إن شئتم – من سائر أنواع الحيوانات، الحيوان إذا جاع أو عطش – مثلاً – فإنه يتناول ما يُلائمه مما يتيسر أمامه دون طهوٍ، دون طبخٍ، ودون أي افتنان في ذلك، الإنسان البدائي كان كذلك أيضاً، يتناول ما تيسر مما ثبت لديه بالتجربة البسيطة والاستقراء الناقص أنه يُلائمه وينفعه ولا يضره دون ما ذُكِر أيضاً، هذه استجابة لا تصنع حضارة، استجابة بدائية تماماً!
أيضاً الحيوان – وفي هذا الإنسان شأنه شأن الحيوان – إذا أحس بلسع البرد – مثلاً – فإنه يتقي ربما باللجوء وبالإيواء إلى مغارةٍ أو كهفٍ، وربما يعتلي شجرة من عصف الريح، وكذلكم تفعل سائر صنوف الحيوانات!
أيضاً يُقدَّر أن الإنسان البدائي إزاء المظاهر الطبيعية المُختلِفة – المظاهر المُوقَننة أو السُننية إن شئتم كتعاقب الجديدين، الليل والنهار، الشمس والقمر، النجوم في مصامها أو في مسالكها في السماء، الزلازل، الطوفانات، البراكين، الرياح إذا عصفت وقصفت – كان له موقف أشبه بالصمت، أشبه بالغفلة، يغلب عليه ربما الاندهاش أو التأنس الغافل، كذلكم لا يُتوقَع أن الحيوانات تُطوِّر استجابة من نوعٍ ما فكرية أو روحية إزاء تلكم أو أولئكم المظاهر المُختلِفة، الذي حدث بعد ذلك أن الإنسان لم يكتف – ولنأخذ في باب ما يُشبِع نهمتي جوعه وعطشه – بما ذُكِر من الاستجابة الغرزية الساذجة، وإنما طوَّرها حتى رأينا الإنسان يفتن افتناناً بعيداً في صنوف المآكل والمشارب وآداب المائدة وآداب السُفرة، في الحضارة الإسلامية – ونحن بصدد الحضارة الإسلامية – على ما أذكر أنني قرأت قبل زُهاء ثلاثين سنة كتاباً لمُصنِّف للأسف سقط اسمه من الذاكرة بمرور الأيام والسنين ذكر مائتي أدب من آداب المائدة، هكذا كانت الحضارة الإسلامية في أوجها، آداب المائدة، الإنسان صار يأكل في أطباق على سُفرة ويستخدم أداوت مُعيَّنة لينال بها طعامه وشرابه أيضاً، ربما يستخدم فنيات يُزوِّق ويُزخرِف بها المشهد – مشهد الطعام – ويقول أيضاً مُتمثِّلاً بأن العين تأكل قبل الفم، كل هذا دخولٌ وإمعانٌ في التحضر، اتسعت الهوة وبعدت الشُقة والمسافة بين الاستجابة الغرزية الساذجة وبين هذا المُستوى الذي بلغه الإنسان والمدى الذي ذهب إليه.
كذلكم حتى لا نُطوِّل – الأمثلة بعد ذلك سهلة وميسورة والتنويع عليها مقدور ومُمكِن إن شاء الله تعالى – إزاء المظاهر الطبيعية والكونية المُختلِفة الإنسان لم يقف ساذجاً، لم يقف غافلاً، لم يقف مشدوهاً أو مُتأنِساً بل بدأ يستخدم قدراته وإمكاناته العقلية مُستخدِماً ما يُعرَف بقوانين العقل كمبدأ الهوية ومبدأ السببية وإدراك أن النقيضين لا يجتمعان كما أنهما لا يرتفعان كما أن الثالث غير مُتصوَّر وغير موجود – قانون الثالث المرفوع – ليصل إلى آفاق بعيدة جداً جداً في تأسيس تأملاته الميتافيزيقية، بدأ يُدرِك الوجود بما هو، جرَّده من أشياء كثيرة جداً جداً ليُدرِك لُبه وجوهره ونواة معناه ودلالاته، وهكذا نشأ التفكير الفلسفي، طبعاً الدين نفسه هو أساسٌ للتفكير الفلسفي، لا يُمكِن أن يُقال إن الفلسفة سبقت الدين، هذا غير صحيح، الدين هو الذي كان سابقاً، لأن وفق المنظور الإيماني أو المنظور القرآني الدين فطرة إلهية، حتى إذا ذكرنا فطرة الله فإن الفطرة يُراد بها أساساً وفق الآية الشهيرة من سورة الروم الاستعداد الجبلي للنفس الإنسانية لتلقي موضوعة الإيمان، البحث عن الله والإذعان لهذا الإيمان بالله، هذه الفطرة أساساً وإن توسَّع المُفكِّر الإسلامي المُعاصِر جداً بطريقة عليها مآخذ ومُلاحَظات كثيرة في استخدام الفطرة بمعنى الغرائز، يقول لك إن الفطرة كذا وكذا، هذا عليه ملاحظ كثيرة.
على كل حال الإنسان طوَّر هذه المواقف، لكن لم يُطوِّرها أيضاً مرة واحدة وبضربة واحدة، لنا هنا مُلاحَظات طبعاً على الثلاثية الشهيرة لمُؤسِّس الوضعية أوجست كونت Auguste Comte، مُلاحَظات ينبغي أن تُؤخَذ بعين الاعتبار، لاحظها أكثر من فيلسوف ومن عالم اجتماع في الشرق والغرب حتى من عصر كونت Comte نفسه، في الحقبة الواحدة أو في العصر الواحد قد تتزامل وتتزامن المراحل الثلاث، وليس كما ظن كونت Comte أنها مُتعاقِبة وأن الثانية نسخت الأولى وعفت على آثارها لتأتي الثالثة – وهي المرحلة الوضعية العلمية – وتقتعد سُدة الحكم على كل مراحل التأمل الإنساني، هذا غير صحيح، لا تزال هذه المراحل ربما إلى الآن في بعض الشعوب لا نقول البدائية لأن هذا المُصطلَح أصبح أيضاً قدحياً وصار يُتحرَّج منه وإنما نقول بعض الشعوب في بعض القارات لا تزال المراحل تلك موجودة عندها ومعيشة أيضاً ويُتعاطى معها كمنظور رؤيوي أو رؤية كونية، أي Big picture أو Weltanschauung.
على كل حال أقول هذا لم يحصل بضربة واحدة وإنما حصل بتدرج، لكن هذا التدرج لم يكن على التوالي، إنما كان على التوالي وعلى التوازي بحسب النُطق الحضارية والنُطق الثقافية المُختلِفة، بمعنى ماذا؟ بمعنى أن الإنسان أو بعض بني الإنسان مروا بفترة تُعرَف – مثلاً – بفترة الإحيائية Anilism، الإحيائية هي اعتقاد أن هذا العالم كله مُروحَن، تسكنه روح مُعيَّنة، هذا العالم كالإنسان له روح، له وعي، وله إدراك، ولذلك هذه الإحيائية كما لاحظ المُؤرِّخ الإنجليزي الشهير والنبيل – النبيل بمعنى الشهير طبعاً هنا – آرنولد توينبي Arnold Toynbee شلت قدرة الإنسان على بناء الحضارة، لماذا؟ هذه مُلاحَظة من أذكى المُلاحَظات وتهمنا كمُسلِمين، قال لأن المنظور الإحيائي أودى بالإنسان في مراحل أو في مُناسَبات كثيرة إلى التعبد للطبيعة، فنشأت عبادة المظاهر الطبيعية المُختلِفة، توينبي Toynbee نفسه تأسيساً على ذلك حين ذهب أو حين راح يُعلِّل لنبوغ الحضارة الإسلامية وحرقها للمراحل تحدَّث عن التوحيد، الحضارة نشأت وترعرعت وأعينت وأثمرت في أقل من قرنين في الزمان، ظاهرة إعجازية كما أنقل دائماً عن مُؤرِّخ العلم الأمريكي من أصل مجري سارتون Sarton، جورج سارتون George Sarton في تاريخه العظيم للعلم فعلاً وصفها بأنها حضارة يُمكِن أن تُوصَف وأن يُمثَّل لمُنجَزاتها لكن لا يُمكِن أن تُفسَّر تفسيراً مفهوماً، أي أنه نظر إليها نظرة إعجازية، أنها مُعجِزة، توينبي Toynbee كان أذكى من ذلك، قال أنا أظن أن التوحيد – توحيد الله تبارك وتعالى – هو الذي ساهم بالقسط الأكبر في تفجير قدرة الإنسان المُسلِم على أن يبني حضارة، سنعود إلى هذا حين نتكلَّم عن القيم ونتكلَّم عن قيمة التسخير، قيمة التسخير إحدى القيم الحضارية في الفكر الإسلامي.
على كل حال يُمكِن أن يُقال هذا تعريف مُبسَّط وسهل وقريب للحضارة، قد أُناقَش فيه، لكن ما الفرق بين الحضارة والثقافة إذا أردنا ان نقول أن هناك حضارة وهناك ثقافة؟ الآن بعض الناس يقول نحن نتساهل مع المظاهر الحضارية ولا نتسامح مع المظاهر الثقافية للآخر، فما الفرق إذن؟ هل هما مُتعادِلان مُترادِفان أم ماذا؟ هل بينهما علاقة عموم وخصوص؟ هل الثقافة تنويعات على الحضارة؟ أيضاً لي مُقارَبة خاصة ولا أُريد أن أستعرض المُقارَبات الكثيرة جداً، صاحب الكلمات المفاتيح – The key words – ذكر أن مُصطلَح الثقافة بالذات هو واحد من أربعة مُصطلَحات الأصعب والأعصى على التعريف بالإطلاق في اللغة الإنجليزية، وCulture هي الأكثر مُشكِلةً من Civilization، لكن باختصار عن لي أو خطر لي – وقد أكون مُخطئاً في هذا – أن الثقافة – سيداتي وساداتي، إخواني وأخواتي – هي الصور المُختلِفة من الإنتاج الحضاري الإنساني التي يبرز فيها المنظور العقدي أو الرؤيوي للإنسان، بمعنى أنه يُمكِن للإنسان أن يُنتِج منتوجاً مادياً، إلى الآن نحن في إطار الحضارة، فإن ألقى عليه طابعاً أو ظلاً من منظوره الرؤيوي استحال إلى ثقافة، إذن مظهر حضاري يتلبَّس بطابع ثقافي، كما قلنا – مثلاً – المُسلِم الآن يأتي ويجلس على المائدة، لا يبدأ الطعام أو تناول الطعام حتى يبدأ الأكبر، يُقال كبِّر كبِّر مثلاً، هذه ثقافة، ولا تُوجَد عند الحيوان، ثم لا يبدأ هذا الأكبر ومَن دونه إلا بعد أن يُبسمِل، يقول بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار وزِدنا خيراً منه، هذه ثقافة، طبعاً لها أصل ديني، وهناك ثقافات لها أصول أُخرى غير دينية، بغض النظر عن ذلك هذه ثقافة، نفس الشيئ يحدث حين ينظر المُسلِم إلى الشمس أو إلى القمر، حين يرى القمر بدراً تماً ويدعو بالدعاء المعروف: ربي وربك الله، هذه ثقافة، ثقافة تتجاوز حتى الموقف الميتافيزيقي البحت، ثقافة دينية، طبعاً الحضارة هنا غير موجودة، الحضارة إزاء النجوم والشموس والأقمار تتمثَّل في ماذا؟ في التلسكوب Telescope الذي صنعه الإنسان مُحاوِلاً تقريب هذه الكائنات أو الأجرام البعيدة، هذه حضارة، لكن حين ينظر المُسلِم عبر هذا التلسكوب Telescope ويُسبِّح الله – تبارك وتعالى – وربما تحفزه فكرة أن يُوفِّق بين نص قرآني وبين هذه السابحات أو الثوابت في السماء فإنه يُمارِس الثقافة هنا مُعتمِداً على منتوج حضاري، والأمثلة أيضاً هنا كثيرةٌ جداً ولا تنتهي، أعتقد أن الثقافة هي هذه، منتوج حضاري أو خُلاصة حضارية يُلقي عليها الإنسان ظلاً أو طابعاً من رؤيته الكونية، هذه الرؤية الكونية قد تكون رؤية توحيدية بفضل الله كما في الحالة الإسلامية، في أصلها رؤية توحيدية، فنخرج إذن من الحضارة إلى الثقافة، هل يُقال أن الثقافة تنويع على الحضارة؟ ليست تنويعاً وإنما تلوين، هي تلوين وتلوين من زاوية مخصوصة هي المذكورة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
نأتي الآن إلى القيم، فرغنا من مُصطلَح الحضارة ونأتي إلى القيم، طبعاً الحضارة الإسلامية معروفة، والأفضل أن تُسمى الحضارة الإسلامية، طبعاً يُصِر بعض العلماء والدارسين – هذه وجهتهم، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۩ – على أن تُسمى الحضارة العربية مُتزرِعين بأن الذين ساهموا فيها ولهم نتاجات مُختلِفة إنما ساهموا عبر اللسان العربي، وهذا صحيح في الجُملة، لكنه ليس صحيحاً في الأفراد، لأن هناك آداباً إسلامية أيضاً فارسية وآدباً إسلامية أردية كُتِبَت بلُغات أُخرى وآداباً إسلامية تُركية وإن استخدمت الحرف العربي كما في التُركية وحتى في الفارسية والأردية، على كل حال الحضارة الإسلامية هي حضارة المُسلِمين عرباً وغير عرب، ساهم فيها كل المُسلِمين بفضل الله تبارك وتعالى، وإذا أردنا أن نكون مُصنِفين ينبغي أن نقول باستثناء الجيل الأول الذي حرَّك هذا المشوار الحضاري أو قام بعامل ما يُعرَف بالمُحفِّز أو المُشغِّل – Trigger – الحضاري وهو جيل رسول الله وأصحابه البررة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – أعظم الناس أثراً في الحضارة كانوا من غير العرب، لكنهم كانوا مُسلِمين بفضل الله تبارك وتعالى، نأتي الآن إلى موضوع القيم، ما هي القيم؟ هذا مُصطلَح أقل تعقيداً بلا شك وغموضاً وخفاءً من مُصطلَح الحضارة والثقافة، لكنه أيضاً مُصطلَح اختلافي والتعريفات بالعشرات، يُمكِن أن نُلخِّص ونختزل هذه التعريفات في اثنين أو ثلاثة، ثمة تعريفات – إخواني وأخواتي – تنطلق من أن القيم هي معايير – Standards – أو مقاييس، بمُوجِب ومُقتضى هذه المعايير والمقاييس نُصدِر أحكاماً، هذه الطريقة أعتقد أنها الطريقة الأقوم، هناك مَن يعكس ويقول القيم هي أحكام تُطلَق على الموضوعات والأشياء والمعاني وحتى على المفاهيم، أحكام تُطلَق عليها كما يُمكِن أن نُطلِق على أي مفهوم من المفاهيم حُكماً ما، أنه – مثلاً – مفهوم مُدمِّر أو مفهوم ميت أو مفهوم مُميت أو نقول فكرة ميتة على طريقة مالك بن نبي رحمة الله تعالى، فهي أحكام مُعيَّنة وليست مباديء، هذا تعريف أكثر قصوراً، ومنهم مَن يجعلها الاثنين معاً، يقول هي أحكام ومعايير تستهدي برؤية كونية، هذا اتجاه ثالث وهو أقرب إلى الأول، على كل حال الأول أعتقد أنه أكثر ضبطاً وانضباطاً، القيم هي معايير أو مقاييس بمُقتضاها يُمكِن أن نُصدِر أحكاماً نُعبِّر بها – أي بهذه الأحكام – عن موقفنا وعن رأينا إزاء ظاهرة ما أو إزاء فكرة أو إزاء مفهوم أو إزاء شخص أو إزاء أشياء وأيضاً نُعبِّر بها عما نُريد وعما لا نُريد وعما نرغب فيه وعما لا نرغب فيه، هذه هي القيم، وعلى كل حال موضوع القيم بهذا التحديد هو موضوع حديث إلى حدٍ ما وإن لم يكن مُعاصِراً، يعود إلى القرن التاسع عشر وأول مَن أثاره أحد المُفكِّرين الألمان، وهم يستخدمون كلمة Werte ليُطلِقوها على القيم المُختلِفة.
في القديم تحدَّث الفلاسفة عن أنواع من القيم لكن لم تُصنَّف إلا في الفلسفة الحديثة، فذكروا ثلاثة قيم شهيرة رئيسة: الحق، الخير، والجمال، الآن الفيلسوف والمُفكِّر والمُثقَّف المُعاصِر لا يقف عند حدود هذه الثلاثة، بل يزيد عليها قيمة الحرية، قيمة العدل أو العدالة، قيمة المُساواة، وقيمة الكرامة الإنسانية، هناك مفاهيم كثيرة تُعتبَر قيماً كُلية وفق ما يُعبِّرون، قيمة الحق كان يُزعَم أن المنطق الأرسطي – Formal logic – هو الذي يتولى تحديدها وتبيينها ويُمكِن تمييز الحق من الباطل عبر هذا المنطق، وهذا منظور قاصر جداً وفيه مُغالاة غير مقبولة، الآن صار مُتسالَماً على أن الحق إنما يُعتمَد في تبيينه وفي الوصول إليه وإصابته على المناهج المُختلِفة، مناهج الفكر ومناهج العلوم على اختلافها، والمنهج الذي يصلح هنا قد لا يصلح هناك، وهكذا يُمكِن أن نُميِّز الحق في باب من الأبواب بالاضطلاع بمنهج مُعيَّن وليس فقط بالمنطق الصوري كما كان يُعتقَد.
الحق والخير، الخير هو المبحث الأخلاقي، أي مبحث علم الأخلاق وهذا واضح، ثم الجمال وله مبحث علم الجمال، صحيح أن هناك من المُفكِّرين مَن ربط القيمتين الأوليين ببعضهما البعض فقال الحق والخير يتعادلان كثيراً ويرتبطان في مُعظَم الموارد إن لم يكن في كلها لكن منهم مَن قال لا، بل الخير يرتبط بالجمال مثل أفلاطوني كامبردج Cambridge، وأعتقد أيضاً ديكارت Descartes إلى حدٍ ما يُمكِن أن يُفهَم من كلامه شيئ قريب من هذا، على كل حال الفيلسوف هربرت Herbert مُؤسِّس علم الجمال أو الاستطيقا Aesthetics هو الذي قال بأن الأخلاق فرعٌ من فروع علم الجمال وليس العكس، طبعاً هذه مُغالاة مهنية لأنه مُؤسِّس علم الجمال، في المنظور الإسلامي أعتقد – وهذا يحتاج إلى مُدارَسة ومُثقَافة – بلا شك أن هذه الدوائر الثلاثة أو القيم الثلاث إن لم تتعادل – وهي غير مُتعادِلة بلا شك – لا تتعارض أو لا تتناقض، لا يتناقض بعضها من بعض، الآن طبعاً مبحث تناقض القيم أو التناقض القيمي أو التعدد القيمي يُعَد مسألة فلسفية مطروحة بقوة في الفلسفة العالمية، ومن العجيب واللطيف أن بعض المُفكِّرين المُسلِمين قديماً وحديثاً أيضاً من المُعاصِرين لهم إلماعات وإيقاظات في هذا الباب في مُنتهى الجمال، بعض الناس يتكئون على أسطورة أنتيغون Antigone مثلاً، قضية أنتيغون Antigone مع أخيها والولاء يكون لمَن: يكون للوطن والعام والشامل أم يكون للأخ واللحم والدم؟ القضية طبعاً مُثِّلت في المسرح اليوناني القديم وولدت هذه المُفارَقة، القرآن الكريم – مثلاً – يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ ۩، يُعطينا مثالاً لتحديد معيار يُمكِن أن نُرجِّح به عند تعارض القيم، هناك – مثلاً – قيمة البر، البر بالوالدين رأس البر، ينبغي أن أكون باراً بوالدي لكن ما العمل وما الحيلة إذا كان أحد والدي ظالماً مثلاً؟ ظلم أحد الناس حقاً من حقوقه مادياً أو معنوياً، ما العمل؟ القرآن هنا واضح تماماً ولا يرى أن المسألة فيها تعارض مُقلِق، هذا التعارض غير مُقلِق للمُؤمِن الحقيقي، يقول الله كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ ۩، هذا التعارض محلول، الانحياز يكون لماذا؟ للعدل، إذا انحزت للعدل في المنظور القرآني هذا لا يُعتبَر اهداراً لقيمة بر الوالدين، المُسلِمون صغيرهم ككبيرهم يُردِّدون – بفضل الله تبارك وتعالى – لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، الخالق غير مُتحيِّز، الخالق لا يتحيَّز للآباء أو للأمهات ضد الأغارب، لا يتحيَّز للمُوحِّدين ضد المُشرِكين، لا يتحيَّز للمُؤمِنين ضد الكافرين، الخالق هو ربٌ للجميع، عدله مبسوطٌ مأمورٌ به الجميع، وطبعاً ينبغي أن يصدع بهذا أول مَن يصدع المُسلِم المُؤمِن المُوحِّد حتى في حق الكافر وفي حق غير المُوحِّد، على كل حال هذا بالنسبة لموضوع تعارض القيم أو تداخل هذه الدوائر!
نأتي الآن يا إخواني إلى مسألة القيم الحضارية في الإسلام، هل هناك ثمة قيم حضارية؟ طبعاً بلا شك، بعض المُفكِّرين يتحدَّث عن ثُلاثية من القيم الإسلامية، يقول هناك قيم كُلية وهي أعلى القيم في منظومة القيم، بلا شك يأتي في رأسها توحيد الله تبارك وتعالى، أعلى القيم، هذه قيمة كُلية، بعد ذلك قيمة العبادة، والعبادة – إخواني وأخواتي – مُقتضى العبودية، كونك عبداً لله – تبارك وتعالى – يقتضي أن تكون عابداً لله، كونك عبداً يعني أنك مربوب مُتعبَّد بمقتضى الخلق والتكوين لله شئت هذا أم أبيت كسائر المُحدَثات وسائر المخلوقات، طَوْعًا وَكَرْهًا ۩ الله يقول، كله مُتعبَّد لله ومربوب في قبضته سبحانه وتعالى، العبادة أبلغ من العبودية، لماذا؟ لأن العبودية هي التذلل أما العبادة غاية التذلل، وغاية التذلل لا تكون إلا لمَن له مُنتهى وأقصى أمد الإنعام والإفضال لا إله إلا هو وجل مجده في عليائه وهو الله تبارك وتعالى، هذه قيم – إخواني واخواتي – كُلية عُلية، بعد ذلك تأتي القيم الحضارية – وهي موضوع إن شاء الله تبارك وتعالى – ثم القيم الخُلقية، القيم الخُلقية أكثر ما تُنظِّم سلوكات المرء إزاء الآخرين، مثل العدالة، الصدق، الأمانة، النزاهة، المحبة، الرحمة، الإغضاء، الكرم، وإلى آخره، هذه قيم خُلقية، نأتي إلى القيم الحضارية، القيم الحضارية يُمكِن أن نُحدِّدها بمعيار بسيط جداً، ننظر ونُفكِّر في منظومة القيم الإسلامية – يُمكِن أن نُرتِّبها طبعاً، أنا لم أفعل هذا لكن يُجتهَد في هذا من غير واحد من أهل الفكر والذكر بإذن الله تبارك وتعالى – أو في مجموعة القيم الإسلامية لنرى ما هي القيم التي يُمكِن أن تُؤثِّر وتفعل فعلها في تحفيز الطاقة الحضارية، في تحفيز الفاعلية الحضارية، ما هي القيم التي يُمكِن لو فعلتها الأمة في نفسها – بإذن الله تبارك وتعالى – أن تبني بها حضارة وأن تُقلِع بها حضارياً من جديد؟ هذه هي القيم الحضارية، طبعاً – كما قلت – في رأس هذه القيم تأتي القيمة الكُلية التوحيد، وهذا ما لحظه توينبي Toynbee، أنت حين تُوحِّد الله – تبارك وتعالى – تكون تماماً على حد ما قال المُفتي المُجتهد محمد عبده عبداً لله وحده وسيداً لكل شيئٍ بعده، أنت تتحلَّل بضربة واحدة من العبودية للمظاهر الكونية أو الطبيعة ومن الخوف من بعض هذه المظاهر، لكنك لا تدخل أيضاً في حالة صراعية مع هذه المظاهر، هذا مزلق الفكر الغربي، مزلق المشوار الحضاري الغربي الذي الآن بات يُهدِّد مصير الكوكب، وللأسف يبدو أن خط الرجعة غير مُتاح، غير مُتاح وغير مُراد أيضاً، وهذا يتعلَّق بقيم أُخرى ببُناة هذه الحضارة ورُعاة هذه الحضارة، لكن في المنظور الإسلامي العلاقة مع الطبيعة ومع الوجود ليست علاقة صراعية، يُقال لك غزو الفضاء وغزو الطبيعة، لماذا يُقال غزو؟ ليس غزواً وليس فتحاً، إنما هو ارتفاق وانتفاع بهذه الموجودات وبهذه الكائنات التي تشركنا وتشترك معنا في العبودية لله وحده لا إله إلا هو، أخوات لنا، كل موجودات هذا الكون إخوة وأخوات لنا، المُؤمِن يشعر بحالة من التناغم المُطلَق في هذا الوجود، عُبِّرَ عنها قرآنياً بقول الله – تبارك وتعالى – يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۩، حالة من التناغم والمطواعية والتآزر عجيبة جداً، كان إذا سبَّح نبي الله داود – عليه الصلاة وأفضل السلام – الله أو ذكره أوَّبت – أي ردَّدت ورجَّعت من ورائه – الجبال – شيئ عجيب جداً – والطير أيضاً، حالة عجيبة، قال الله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ ۩، حالة الشذوذ فقط – الانكسار – في هذا التناغم – Harmony – الكوني المُطلَق تأتي من الإنسان وحده، لماذا؟ لأنه عالم من الحرية، وهذه قيمة أيضاً من القيم الحضارية – حرية الإنسان – وهي مُتقضَى الابتلاء – قيمة الابتلاء – ويُؤسَّس عليها المُساءلة أو المسئولية، الجزء الدُنيوي والأُخروي على كل حال، فالإنسان المُسلِم لا يرى أنه في حالة صراعية مع الوجود، بالعكس في حالة ارتفاق عُبِّر عنه بمفهوم – وهذه قيمة أيضاً حضارية – التسخير، الله سخَّر لنا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، في مُحاضَرة قديمة لي قبل أكثر من عشرين سنة تقريباً عن تأسيس القرآن للعلوم التجريبية وجدت العجب بتأمل كتاب الله في مواضع، طبعاً الباب مفتوح للجميع، وأنا مُتأكِّد أنه لم يقل في هذا الباب إلا أقل ما يُمكِن أن يُقال، القرآن الكريم بإشارات بعيدة الغور ذهب يُرشِد المُفكِّر المُسلِم والمُتأمِّل المُستبصِر المُسلِم إلى طريقة أو سبيل إدراك أن ثمة قوانين قوننها الله – تبارك وتعالى – حاكمة في هذا الوجود، بإدراك هذه القوانين واستنباطها يُمكِن أن نستكمل خُطة ارتفاق الوجود فنستفيد منه إلى آخر مدى مُمكِن بإذن الله تبارك وتعالى، والحديث عن الوجود العُلوي والسُفلي ، قال الله وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، تنويع على هذه الآية العجيبة في الجاثية – آية التسخير العجيبة والجامعة هذه – قال الله – تبارك وتعالى – إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ۩، يطرح إمكانية والإمكانية واردة وقد رأينا بعض مصاديقها، ويقول – تبارك وتعالى – في العنكبوت وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۩، يطرح إمكانية تنبَّه لها الفخر الرازي رحمة الله تعالى عليه، أن الإنسان في يوم من الأيام قد يُقدَّر له أن يعلو في السماء، أن يعيش في السماء، أن يعمر السماوات، أي الأجرام العُليا من الكواكب مثلاً، ولكن الله يلفته إلى أنه لا يزال في قبضة الله، لأن الله يقول لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ۩، فهذا تنويع على آية التسخير: لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩.
نعود إلى ما كنا فيه، إذن التوحيد – إخواني وأخواتي – بلا شك يُعتبَر مُطلِقاً للفاعلية الحضارية لدى الإنسان المُسلِم لأنه دفعه أن يرتفق هذا الكون كله ويعتبر هذا الكون مجالاً ليس لسيطرته وليس لغزوه وإنما لانتفاعه، هناك طبعاً الجانب الآيوي إن جاز التعبير، كل ما في الكون أيضاً مادة مُحترَمة جداً ليُقيم المُسلِم على أساسها ويشيد على أساسٍ منها أبنيةً من الاستدلالات العقلية الفلسفية والتأملية يُقارِب بها مسألة الألوهية ومسألة القدرة الربانية، مثل بداعية الصنعة والحكمة، هناك أشياء كثيرة، الكون كله مُرصَد أيضاً لهذا الغرض من جهة، ومن جهةٍ أُخرى مُرصَد لغرض الارتفاق والانتفاع بحيث يُطوِّر الإنسان من إمكاناته المُختلِفة، وهذا جميل.
التوحيد يُمكِن أن يُقال فيه الكثير، أنصح في هذا الباب بكتاب العلّامة الشهيد إسماعيل راجي الفاروقي التوحيد، والذي تُرجِم قبل فترة ليست بالبعيدة وهو من أجود ما كُتِب في هذا الباب، رحمة الله – تعالى – على العلّامة الشهيد، ويُمكِن أن يُضيف آخرون أيضاً أبعاداً أُخرى للتوحيد من منظورٍ حضاري.
إذن لدينا البداية مع مفهوم أو قيمة التوحيد، هناك بعد التوحيد الاستخلاف، أي مفهوم الاستخلاف، هذا الرب الواحد الإله القدير الحكيم الخبير شاء أن يستخلف الإنسان في الأرض لعمارتها، قال الله هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩، ما معنى خليفة؟ خليفة – إخواني واخواتي كما تعلمون وتعلمن – هو فعيلة بمعنى فاعل أي خالف، إن أردنا أن الخليفة هو الذي يخلف مَن سبقه فيأتي بمعنى فاعل، وقد يأتي بمعنى مفعول، خليفة كذبيحة بمعنى شيئ مذبوح أو قتيل بمعنى مقتول، هناك فعيلة بمعنى مفعول وهنا فعيلة بمعنى مفعول أي مخلوف، قال الله في الآية الكريمة وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، هذا هو بلا شك، هذا أقرب وهو أيضاً من إبداع ومن إعجاز القرآن الكريم، يستخدم كلمة خليفة على وزن فعيلة التي تعني مرةً الخالف كما تعني المخلوف، والحقيقة كل خالف مخلوف، قال الله وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ۩، كلمة واحدة دلت على هذه المعاني المُترابِطة، كل خالف مخلوف، قال الله وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ۩، كون الإنسان – إخواني وأخواتي – يُدرِك أنه مُستخلَف من رب العزة في هذا الوجود شيئ لا أدري كيف أُعبِّر عنه، لعل أحسن مَن عبَّر الشاعر الفيلسوف المُؤمِن والمُبدِع محمد إقبال رحمة الله تعالى عليهن خاصة في ديوانه أسرار خودي، أي أسرار الذات، وفلسفته كلها أصلاً فلسفة الذاتية، محمد إقبال كان من الجرأة – رحمة الله تعالى عليه – على أن يفوه بأن الإنسان بمعنى ما من المعاني شريك – على كل حال هذه جراءة شاعر، لا أُحِب أن أقول شريك، يعظم هذا اللفظ على لساني لكن هو عبَّر بهذا المعنى – لله تبارك وتعالى في هذا العالم بمنطق وبمُقتضى الاستخلاف، فذهب يقول – رحمة الله تعالى عليه – إلهي أنت خلقت الدُغل وأنا خلقت البُستان، يقول خلقت، قال الله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، وقال أيضاً وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ۩، فالخلق بمعنى التقدير وليس بمعنى الإبداع من لا شيئ، هذا المعنى للخلق مُختَص بالله تبارك وتعالى، لكن معنى التقدير ثم فري ما قدَّرت وخططت أمر مُمكِن وتعرفه العربية وحتى لُغة القرآن، يقول إلهي أنت خلقت الدُغل وأنا خلقت البُستان، وهذا حق، أنت لا تجد بُستاناً في الطبيعة، تجد أحراجاً وتجد أدغالاً، أما البستة فهذه صنعة إنسانية تقوم على التهذيب والتشذيب وفق خُطة جمالية استطيقية ما، يقول إلهي أنت خلقت الظلام – وليس في كل الليالي المُظلِمة أقمار – وأنا خلقت المصباح، يقول المصباح أنا خلقته، إلى هذه الدرجة ثقة هذا الخليفة بنفسه على هُدىً من الله تبارك وتعالى، وذهب أيضاً أو مضى يضرب أمثلةً أُخرى لهذه الفاعلية الاستخلافية أو فاعلية الخليفة المُؤمِن، ولذلك محمد إقبال كان يُؤذيه وكان يُزعِجه كثيراً هذه السلبية التي يعيشها المُسلِم في الأعصار المُتأخِّرة هذه، كما يُقال مُسلِمو عصر الانحطاط، كان يُؤذيه هذا جداً، ويرى أن المُؤمِن القرآني الذي بحث عنه جلال الدين الرومي إذ ذهب بمصباحه كديوجين Diogenes اليوناني يبحث في الشارع في رابعة النهار هو الرجل الكامل، قيل له عن ماذا تبحث؟ عن مَن تبحث؟ يقول أبحث عن الرجل الكامل، محمد إقبال يقول له الرجل الكامل هو المُؤمِن، المُؤمِن القرآني هو الرجل الكامل، هو الإنسان الكامل، كل مُؤمِن أن يكون إنساناً كاملاً إذا خضع لـ وصدر عن وأفرغ عن منطق القرآن العظيم، إذا أحسن فهمه وحذقه إن شاء الله تبارك وتعالى.
إذن هذا منطق الاستخلاف، طبعاً كما ترون هذه مُجرَّد إلماعات فقط، نُحِب أن نُعدِّد بعض القيم لكن لا نُريد أن نُمعِن في شرحها وإلا الوقت طبعاً يستطيل معنا جداً، لكن أُحِب أن أُشير قبل أن أُغادِر إلى أنه في قضية الاستخلاف – إخواني وأخواتي – هناك عامل مُهِم وهو عامل الاهتداء بالشرع الكريم، قال الله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۩، بعد ذلك تم إهباط آدم إلى هذا العالم الذي سيُمارِس فيه دوره الخلافي لكن على هُدىً من الله، قال الله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۩، هذه لفتة قرآنية في مُنتهى الروعة، لماذا؟ كأنها تقول نهاية وبداية المسار شيئ واحد: التسليم للإلهي في القضية، الآن مأزق الحضارة الغربية أنها كفرت بهذا الأصل الإلهي وأرادت أن تستعيض منه بالعقل، فلسفة الأنوار أو عصر التنوير، استعاضوا بالعقل والعقل وحده، وهذا باطل من أبطل البواطيل أو الأباطيل، لماذا؟ لأن العقل لا يقوم إلا على إيمان، كيف؟ ما هذه الأُحجية؟ هذه ليست أُحجية، بالعكس أعتقد هذه فكرة جميلة نوَّرها فيلسوف المغرب العلّامة الكبير – وأدعوكم حقيقةً إلى أن تُتابِعوا أعمال هذا الفيلسوف والمُفكِّر الكبير الذي تفخر به أمة العرب والإسلام – طه عبد الرحمن مد الله في عمره وأمته به، فيلسوف من طراز فريد ومُفكِّر عظيم ونبيل، بارك الله فيه وفي سائر علمائنا ومُفكِّرينا، لماذا؟ العقل يا إخواني حتى نُوليه كل هذا الاعتبار ونعتد به كل ذاك الاعتداد لابد أن يكون يسبق ذلك إيمانٌ بجدواه وأجدريته، إذن هناك الإيمان، إذن العقل لا ينطلق من نفسه وإنما ينطلق من قضية إيمانية، قضية مُسلَّمة تُؤخَذ كما هي على علاتها، وقد يكون لها أكثر من علة، قبل أن تعتمد العقل أنت تُسلِّم بأجدرية العقل، بمعنى أنك تُؤمِن بأجدرية العقل ولياقة العقل، أن يكون المرجعية المُطلَقة والمرجعية الأولى، هذا إيمان، في الحقيقة المشوار البشري يدل على أن العقل لا يُمكِن أن يتسم بهذه الأجدرية المُطلَقة، في قضية آدم والاستخلاف واضح جداً أن المرجعية المُطلَقة والأجدرية الكاملة للشرع الإلهي، قال الله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ۩، طبعاً أشعر بالأسى والحسرة من أجل أننا كمُسلِمين للأسف صامتون الآن في هذا العصر، العصر الذي تقف فيه البشرية موقف المُحتار وموقف القلق وموقف المأزوم، والمُسلِم صامت ساكت وغير مُتمكِّن من أن يُطوِّر هذه المفاهيم بلُغة عصرية وأيضاً ضمن سياقات فكرية أوسع واستبصارات أعمق ليُصدِّرها للعالم كترياق، فنحن صامتون وهذا الصمت إثم، لذلك من هذا المنبر في هذا البلد المُبارَك أدعو إخواني وأخواتي جميعاً – وما شاء الله يبدو أن مُعظَمهم من طلّاب الجامعات – إلى أن يستعيدوا الثقة بأنفسهم ويُؤمِنوا بدورهم الحضاري كمُسلِمين ليكونوا رُسل هداية وتنوير – تنوير إسلامي – للعالم.
ذكرت في خُطبة أخيرة أن المُؤرِّخ الأمريكي الذي مات تقريباً في شرخ شبابه مارشال هودسون Marshall Hodgson في كتابه مُغامَرة الإسلام في آخر فقرة من المُجلَّد الثالث – الكتاب لم يُترجَم إلى العربية للأسف على أنه كتاب مُهِم جداً – قال في حال تبيَّن أن الإسلام كدين قادر على تنوير – هكذا استخدم عبارة تنوير – الضمير العالمي – وعينه بلا شك على الضمير الغربي بالذات لأنه غربي أمريكي – فإنه سيكون لجميع البشر – لجميع بني الإنسان – مصلحة في هذه النتيجة – سيكون هذا مُفيداً للبشر جميعاً -، حتى أولئكم الذين لا يُؤمِنون بالأديان ويُناضِلون ضدها نضالاً مُسلَّحاً سيكون لهم مصلحة في هذا، وهذا استبصار عجيب من هذا الرجل الذي درس التاريخ الحضاري للإسلام وللمُسلِمين بطريقة جميلة جداً في كتابه ذي الثلاثة الأجزاء، فأجدر بالمُسلِمين – أجدر ببناتنا، بأبنائنا، بأخواتنا، وبإخواننا إن شاء الله – أن يُحقِّقوا هذا الحلم اليوسفي ليخرج على العالم – بإذن الله – بترياقات جديدة وبتنويرات جديدة، لعلنا نستفتح بها عصر تنوير إسلامي عالمي.
أعلم أن بعض الناس الذين فقدوا ثقتهم في الدين وفي المُتدينين قد يسخر من حلمي هذا، قد يسخر سُخرية مُرة، على كل حال أعتقد أم منبع ومثار هذه السُخرية فقدان الحس التاريخي، لو أن مثل هؤلاء فقط درسوا تاريخ الأمم والحضارات وتاريخ الشعوب وتاريخ الأفكار لما أمكن أن يتشاءموا كل هذا التشاؤم وأن يُحقِّروا ويُبخِّسوا ويُسخِّفوا من أنفسهم كل هذا التحقير والتبخيس والتسخيف، بالعكس أنتم لها بإذن الله تبارك وتعالى، وعسى الله أن يُحقِّق هذا قريباً في أبنائنا وبناتنا.
في مسألة الاستخلاف – إخواني وأخواتي – أيضاً أُعرِّج على نُقطة مُهِمة، الاستخلاف لم يحدث إلا بعد المعصية، بعد أن عصى آدم ربه وأكل من الشجرة المحظورة، تم بعد ذلك ماذا؟ إهباطه إلى الأرض ليُستخلَف فيها، جميل جداً فما دلالة هذا في المواقف العقدية بين مُؤمِن وكافر ومُشكِّك ومُتردِّد وبين جاحد آمن قلبه وجحد لسانه؟ قال الله وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ ۩، القرآن يُشير إلى مسألة أيضاً في غاية الأهمية، يقول مسألة الإيمان والكفر الجانب الأعظم فيها نفسي، وهذا يُفيد بناتنا وأبناءنا الذين يتعانون مسألة جدال الملاحدة، خُذوا في اعتباركم وضعوا في حسابكم أن الجانب الأعظم الذي يُعزى إليه تشكك المُشكِّكين وتشكيك المُتشكِّكين وإلحاد المُلحِدين وتلحيد المُلحِّدين – إن جاز التعبير – في مُعظَمه نفسي وليس معرفياً فكرياً، في مُعظَمه نفسي، القرآن يقول هذا في عشرات المواضع، ربما قبل سبع سنوات خطبت خُطبة عن ألوان من الكفر، وكان من توفيق الله أنه حين نزلت في تلك الليلة – ونزلت مُترجَمة بالإنجليزية – اطلع عليها مُهندِس أمريكي مُلحِد فاتصل بنا مُعلِناً إسلامه، قال كتاب فيه مثل هذه الفلسفة لهذا الموضوع المُعقَّد جداً لا يُمكِن إلا أن يكون كتاباً إلهياً، وفعلاً طرح غريب جداً جداً، القرآن يُؤكِّد هذا، هذا أذكرني الآن بموضوع هام، أنا – كما قلت لكم – لم أحتشد ولم أُرتِّب نفسي وحتى لم أكتب رؤوس أقلام، فحتى لا أنسى – هذه علامات السن والكبر – سأذكره الآن ونحن لا نزال بصدد الاستخلاف والابتلاء، الاستخلاف في القرآن يأتي دائماً باستثناء آية إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ۩ – طبعاً هذا أبو البشر، أول النوع الإنساني، أي الهومو سابينس Homo sapiens، الإنسان العاقل – دائماً الخطاب يأتي للجماعة، أي مجموعياً، قال الله هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩، وقال أيضاً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ۩ فضلاً عن أنه قال آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ ۩، باستمرار يأتي الخطاب للجماعة، لم يقل آمن يا أيها الإنسان بالله ورسوله وأنفق مما جعلك مُستخلَف فيه، لماذا؟ طبعاً لأن الاستخلاف ناظر مُتلمِّح إلى العمارة، قال الله وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩، الله يُريد من الاستخلاف أن تُعمَر هذه الأرض وأن يتحقَّق هذا النوع أيضاً بالعبودية لله والعبادة، قال الله إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩، فلابد من العبادة، وهذا لا يُمكِن أن يتم إلا بجهود مجموعية، الحضارات لا يبنيها أفراد، الحضارات تبنيها المجموعات، قبائل الناس!
من بدائع القرآن أنه حين تحدَّث عن هذا الباب أوقفنا واطلعنا ربما لأول مرة – هذا غير مأنوس طبعاً في الفكر الإنساني وخاصة الإلهي – وتحدَّث عن الجماعات كشخصيات لا أقول اعتبارية – أيها الإخوة – وإنما كشخصيات حقيقية، الجماعة شخصية حقيقية، فالجماعة كجماعة لها شخصية، والفرد كفرد له شخصية، ينحل داخل شخصية الجماعة شخصيات فردية إفرادية كثيرة جداً لا تُعادِل ولا تُرادِف شخصية الجماعة، بالعكس ولعلها تختلف عنها من حيثيات كثيرة، خُذ هذا الفرد وضعه في جماعته وسوف يحدث تغير حتى في سلوكه وفي تصوّره وفي استجاباته للأشياء، تأثَّر بشخصية الجماعة، أين فعل القرآن هذا؟ تحدَّث – إخواني وأخواتي – عن الأمم والجماعات وقبائل الناس أن لهم عملاً، لو قال لأعمالاً لكانت طريقة إفرادية، لكنه قال لهم عملاً، قال الله فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ ۩، الله يقول عَمَلُكُمْ ۖ ۩، أي عمل واحد، وهذا العمل – أيها الإخوة – قد يتجسد في موقف فكري أو موقف مسلكي ما، موقف فكري – مثلاً – كالوثنية ومُحارَبة عقيدة التوحيد، هذا عمل واحد فكري عقدي، وقد يتجسد في شن الحرب – مثلاً – على مُعسكَر المُوحِّدين، يتواطؤون ويتسالمون على هذا، مع أنك لو سألت آحادهم أو أفرادهم ربما أنفوا من هذا ورأوا فيه صيالاً وعدواناً وبغياً لكن ضمن الجماعة هذا عمل مُبارَك، والأعجب من هذا أن القرآن يُحدِّثنا عن ذوق الجماعة مثلما يُحدِّثنا عن شخصية الجماعة، هذه الجماعة لها شخصية ولها ذوق، لها ذائقة، لها مزاج، قال الله وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، الله يقول زَيَّنَّا ۩ ولذلك كل أهل مِلة وكل أتباع أي ديانة يرون مِلتهم وديانتهم هي الأحسن والأفضل ويعجبون جداً كيف تسنى وكيف سهل على الآخرين أن يتديَّنوا بتلك الديانة الكذائية مثلاً؟ فهم يعجبون، وكلٌ يعجب من صاحبه، أبو حامد الغزالي اعتبر هذا من أعظم الابتلاء، أي من أعظم ابتلاء الله للبشر، الإنسان لو ذهب يُفكِّر بهذه الطريقة لقال لم أعتقد كمُسلِم أنني وحدي على الحق؟ ها هم النصارى وربما أربوا على الميارين، ها هم الهندوس، ها هم البوذيون، ها هم، ها هم، هذه محنة، هنا يأتي دور ماذا؟ دور العقل المُستبصِر ودور التجربة الإيمانية، هذا موضوع آخر على كل حال، إذن هذه الجماعة ذات الشخصية الواحدة لها أيضاً ذائقة ومزاج، لها ذوق واحد، الأعجب من هذا أن هذه الجماعة أو هذه الشخصية المجموعية لها أجل – قال الله وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ ۩ – كما للحضارات وللأمم آجال، ليس على طريقة ابن خلدون المُحدَّدة بثلاثة أجيال والجيل من عشرين سنة، هذا غير صحيح، بالعكس مُعمَّر دولة أو حضارة أو مدنية أو مُجتمَع ألف سنة، على كل حال يقول الله وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩، ويقول أيضاً وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ ۩، بعد ذلك الأُمم تُبعَث كما يُبعَث الأفراد، نتقبَّل ونفهم أن الأفراد يُبعَثون لكن هل تُبعَث الأمم؟ تُبعَث، ويبدو أننا سنُبعَث لا أقول على مرتين وإنما على مُستويين، سنُبعَث أفراداً ونُحاقَق ونُحاسَب ونُناقَش الحساب – نسأل الله ألا نُناقَش الحساب وأن يُيسِّر حسابنا ويُيمِّن كتابنا – كما سنُحاسَب جماعاتٍ وأجيالاً، قال الله يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۩، طبعاً نعرف المخارج البلاغية، يقولون لك هذه سهلة، المقصود بأئمتهم سواءٌ أُريد بالإمام النبي أو الرسول – كما قال بعض المُفسِّرين – أو أُريد بالإمام الكتاب – كتاب الأعمال، أي كتب الأعمال قالوا – أو أُريد غير هذا، لكن نحن نُرجِّح أن الآية تُريد منا أن نتلمَّح هذا الملحظ: لكل أمة ولكل جيل من الأجيال كتاب، هذا الجيل – مثلاً نفترض – أو هذا النطاق البشري الذي قد يشترك فيه أكثر من جيل – ثلاثة أجيال مُتزامِنين – تُعصَب بأجبنة كل مَن فيه مهام مُعيَّنة، تُناط بهم مهام مُحدَّدة، إن لم يُنجِزوها سيُسألون عنها يوم القيامة كجيل، لن يُسأل الفرد كفرد لأنه لا يُمكِن أن يُنجِز هذه المهام، هذا مُستحيل، وما كان يتيسَّر إنجازها إلا بجهود الجماعة في حال اجتماعها كجماعة، إذن هناك سؤال، ولذلك هناك كتاب عمل لهذا الجيل أو لهذه الأمة، يُوجَد كتاب واحد، وكل منا له كتابه الخاص، سيُحاسَب هنا وسيُحاسَب هناك، مثل هذه الطريقة أعتقد ستكون طريقة مُجدية جداً في شحذ الفاعلية الحضارية لدى المُسلِم، بل في شحذ إيجابية المُسلِم، بل في إنقاذ وشفاء وإبراء المُسلِم من مرض الفردية القاتل هذا، طبعاً كل الأمم حين تنحط وتتأخَّر – سبحان الله – تغدو أفراداً وأوزاعاً مُتفرِّقين، إن أحسنوا أحسنوا أفراداً لكنهم يعجزون مُجتمِعين، وهذه علامة تخلف وانحطاط، وهي واضحة الآن للأسف في المُسلِمين، لا يُحسِنون أن يعملوا مجموعياً أو جماعياً، يعملون أفراداً حين يعملون، إذن لهم كتابٌ واحد، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ۩ في سورة الجاثية.
إذن – إخواني وأخواتي – في موضوع الاستخلاف وفي موضوع الابتلاء لابد أن نُشدِّد أيضاً على هذه المسألة وعلى هذه المفاهيم: مفهوم الأمة الواحدة، الجيل الواحد، المسئولية الواحدة.
نأتي الآن إلى مفهوم التسخير، نحن تناولناه بسرعة وأيضاً هنا لن نُطيل الوقوف عنده، مفهوم التسخير أو قيمة التسخير قيمة من أهم القيم على الإطلاق كقيمة حضارية، أنا أشرت أن القرآن الكريم دل المُسلِم المُفكِّر الذي غلغل النظر إلى أن هذا الكون مُقونَن ومُدستَر، أي محكوم بقوانين ودساتير، طبعاً هناك آيات ناطقة بوضوح بهذا المعنى، قال الله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩، وقال أيضاً وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، الميزان هو القانون، القانون الذي يحكم هذه العوالم، ولذلك هي عوالم موزونة ومُتزِنة، أي في حالة اتزان، قال الله مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ۩، لو حصل التفاوت لحصل انهيار المعمار الكوني، القرآن يذكر في آيات أن الله – تبارك وتعالى – سخَّر لنا البحار، قال الله عن البحر اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ۩، في آية من سورة الحج يذكر – تبارك وتعالى – أنه سخَّر لنا الفلك لتجري في البحر، قال الله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ ۩، عجيب، ما المُسخَّر؟ الاثنان، البحر مُسخَّر ولولا مُسخَّرية البحر ما سُخِّر الفُلك، هذا واضح، كيف؟ تسخير البحر – إخواني وأخواتي – حظ الإنسان منه تقريباً معدوم، تسخير إلهي تام، الله خلق الماء وحكمه بقوانين مُحدَّدة مُعيَّنة حين حذقها الإنسان أمكنه أن يصنع الفلك، قال الله وَاصْنَعْ الْفُلْك ۩، نعود إلى محمد إقبال، الذي صنع البحر الله والذي صنع الفُلك لتجري في البحر الإنسان بهُدى الله – تبارك وتعالى – طبعاً وبإلهام الله عز وجل، فالإنسان الذي صنع الفُلك، هذه الفُلك – والفُلك يستوي فيه الجمع والواحد والاثنان طبعاً – مُسخَّرة أيضاً ، كيف هي مُسخَّرة؟ مَن الذي سخَّرها؟ هل الإنسان سخَّرها؟ لا، الله سخَّرها، مع أن الإنسان صنعها، كيف أمكن ذلك؟ بالقانون، ما كان للإنسان أن ينتفع بالفُلك لولا وجود القانون، قانون الطفو مثلاً، فقضية التسخير هذه أيضاً تفتح مجالاً جديداً وهامشاً مُستجِداً للإنسان لكي يُشارِك أيضاً في قضية ارتفاق الكون عبر التسخير، حتى في التسخير للإنسان مُدخَلية، دائماً ما نقرأ قول الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۩، والآن هم محمولون أين؟ في الجو أيضاً، محمولون بفضل قانون التسخير، بحذق وفهم واستيعاب هذا القانون أمكن للإنسان أن يحمل نفسه في السماء أو في أجواء السماء، وهذا جميل.
يبدو أنني عييت أو تعبت وبدأ الوقت يتضيَّق، لعلي أختم بقيمة – طبعاً القيم كثيرة، القيم الحضارية كثيرة لكن هذه أشهرها – التعارف، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، وقيمة التعارف تنويع وتفريع على قيمة أعم منها وأشمل وهي قيمة وحدة النوع، أننا جميعاً ننتمي إلى نوع واحد، هذه من بديهيات عقائد المُسلِم الفكرية إن جاز التعبير – إن جاز أن نقول عقائد فكرية – لكنها إلى الآن في الغرب – إخواني وأخواتي – مثار نزاع، ما رأيكم؟ أهذا إلى الآن؟ إلى الآن وإلى اليوم، قبل صعود المُعسكَر النازي وابتلاء البشرية به كان مُعظَم علماء البيولوجيا Biology أو الأحياء يقولون التفاوت العرقي والعنصري وبالتالي تفاوت القابليات لدي البشر حقيقة علمية، هذه حقيقة علمية، بحسب مُقتضيات علم الأحياء وبالذات علم الوارثة أو الوراثيات Genetics، لكن بعد الابتلاء بالنازية والفاشية تردَّد هؤلاء العلماء، تردَّدوا لا لأسباب علمية والآن عادو ليقولوا التردد لم يكن لأسباب علمية، كان لأسباب سياسية وأيديولوجية، من ناحية علمية قالوا التفاوت حاصل، يُعيدونها جذعة لكي يُثيروا هذه النزعات العنصرية والعياذ بالله، ولذلك في هذا السياق أُذكِّر بأن توينبي Toynbee – ذكرت هذا المُؤرِّخ اليوم تقريباً مرة أو مرتين – حين زار القاهرة سنة خمس وأربعين – تقريباً في آخر سنة من سنوات الحرب العالمية الثانية – ألقى مُحاضَرة في جامعة القاهرة طُبِعَت باسم ماذا يُقدِّم الإسلام للبشرية؟ مُحاضَرة صغيرة وجميلة جداً لتوينبي Toynbee، ذكر فيها أن المُشكِلة العنصرية لم تجد لها حلاً ولا حل لها إلا في الإسلام، يقول هذا الدين قادر على حل المُشكِلة العنصرية، وقد حلها من أول يوم، الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أحاط نفسه بطائفة من بررة أصحابه كان منهم الرومي صهيب وكان منهم الحبشي بلال وكان منهم الفارسي سلمان وكان منهم مَن هو مِن أراضي العراق العتيقة خبّاب بن الأرت فضلاً عن سائر أبناء القبائل العربية، صحيح أن بعد ذلك بدأت الحضارة الإسلامية تُعاني بفضل إعلاء النزعة العروبية على يد خلفاء وحكّام بني أُمية، مما ولَّد مُشكِلة جديدة هي مُشكِلة الموالي الذين شعروا بأنهم مُضطهَدون في حقوقهم المادية والمعنوية، وبدأت النزعات التي ظهرت في الحركات الشعوبية في أواخر العصر الأُموي واستمرت واستحصدت في العصر العباسي أيها الإخوة، نزعات عجيبة جداً، لا نُحِب أن نُذكِّر بهذا الفصل الأسود، لكن الإسلام كإسلام على مُستوى النص وعلى مُستوى السُنة وعلى مُستوى السيرة يحل المُشكِل العنصري بضربة واحدة من أقصر طريق لأن الرب واحد والأب واحد وإذن فلا جرم أن نكون مُتحِدين ومُتساوين من حيث الأصل، المُشكِلة إذن العرقية أو المُشكِلة العنصرية لا وجود لها في التفكير الإسلامي الصافي في صحيح فهم الدين والفهم الصحيح للدين.
إذن قيمة الإنسانية – كما قلت – يتفرَّع عليها قيمة أُخرى وهي قيمة التعارف، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ ۩، طبعاً بعض الناس هنا قد يُخالِف في تفسير التقوى، فهنا قد يستحضر بعضنا رأي الشيخ حسن فرحان المالكي حفظه الله ونفع به، لكن فعلاً تأمل هذه اللفظة الإلهية الجليلة في مواردها في كتاب الله يُفهَم منه – من هذا التأمل – أن التقوى تدور فعلاً على لزوم حد الله أو حدود الله حتى في الشأن الأُسري، بمعنى أنها كف اليد عن سائر صور وصنوف العدوان فعلاً، إن في باب الحقوق المعنوية أو في باب الحقوق المادية، في حق الأفراد وفي حق الجماعات والشعوب أيضاً، هذا معنى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ ۩، أي ألزمكم لحدود الله، أبعدكم من العدوان والبغي، قال الله لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، الله يتحدَّث عن ماذا؟ يتحدَّث هنا عن النوع الإنساني، أبناء الذكر الواحد والأنثى الواحدة، أبناء النفس الواحدة في نهاية المطاف، أبناء حواء وآدم، قال الله لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، قيمة التعارف – إخواني وأخواتي – حفزت المُسلِمين لأول خُطواتهم في بناء حضارتهم المجيدة العريقة على أن يثاقفوا مع الحضارات الأُخرى في غير تجرح لكن وفق منظور ذكي ومدروس، انفتحوا بوعي إلى حدٍ ما – إلى حدٍ ما لأن كانت لهم بعض الأخطاء – وأجابوا عن سؤال التعارف عبر قناة الترجمة، نفس التصرف أو نفس المسلك الذي سلكته أيضاً النهضة الأوروبية، أجابوا عن سؤال التثاقف والتحاضر عبر الترجمة أيضاً، المُسلِمون المُعاصِرون لا يفعلون هذا للأسف الشديد، صحيح نحذق كثيراً من اللغات وأبناؤنا – ما شاء الله – يرطنون أحياناً كأهلها وربما أفضل – الخطيب الأول بالإنجليزية في العالم سعودي ما شاء الله، ليس إنجليزياً أو كندياً وإنما سعودي، يرطن أحسن منهم بلغتهم – لكن أين الترجمة؟ هنا قد يقول لي أحدكم تُوجَد ترجمات، تُوجَد ترجمات في الإمارات وفي عُمان وفي مصر بالذات وفي الكويت لكن كل هذه المشاريع لا تُعتبَر شيئاً، لا تُعتبَر شيئاً أبداً، شيئ يسير جداً جداً، بلا شك مشكور ولكنه شيئ يسير جداً، العرب هم آخر الأمم في الترجمة الآن للأسف الشديد، نحن تقريباً لا ندري ماذا يدور في العالم من أفكار ونظريات ونُظم ومفاهيم جديدة ومُستجِدة، نحن مقطوعون عن العالم، فبالحري أننا نفشل في أداء الشهادة على العالم، آباؤنا وأجدادنا انفتحوا عبر الترجمة وأنجزوا الكثير في فترة يسيرة.
إخواني وأخواتي:
أختم بهذه النُقطة – نُقطة الانفتاح على الآخر والتعارف – وربما نُشير إلى بعض الضوابط، كيف يُمكِن أن ننفتح دون أن نذوب؟ هذا هو السؤال، كيف يُمكِن أن ننفتح دون أن نذوب؟ كيف يُمكِن أن نستفيد من الآخر أيضاً وأن ننتقي وأن نقتبس وأن نُحاوِر الآخر دون أن تُبهِظنا ودون أن تهزمنا وتكسرنا عُقدة النقص، أيضاً هذا مُهِم، لأن هذا الآخر ليس يعني شيئاً ضئيلاً، هذا الآخر شيئ كبير، شيئ مُستفحِل ومُستبحِر في العلوم والفلسفات والأفكار والتقنيات بالذات، ونحن لا نزال نحبو، فهل تُبهِظنا وهل تقعد بنا عُقدة النقص وعُقدة الوضاعة Inferiority complex؟ أنا أعتقد أن الإيمان هنا وهذه الصحائف الإلهية المحفوظة بحفظ الله التي بين أيدينا لا أقول يُمكِن بل بالعكس بالضرورة أن تُنقِذنا وتُعطينا الثقة الكاملة بأننا قادرون على أن نفعل، ربما تمت الإشارة من قبل في مُناسَبات كثيرة لدى تأمل سورة البروج التي تحدَّثت عن قتل الطُغاة للمُوحِّدين والمُوحِّدات بخد الأخاديد وتحريقهم بنيرانها أن هذه السورة خُتِمَت بآيتين قد تبدوان عجيبتان عن هذا الجو، قال الله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ۩ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ۩، ما علاقة هذا بقضية أصحاب الأخدود؟ العلاقة أكثر من واضحة، القرآن يقول كل سور الابتلاء والإنكسار والمحن ومُحاوَلات أيضاً الإجهاز والشطب والإقصاء ستبوء بالفشل ما دامت هذه الصحائف الإلهية تُشكِّل مصدراً للاستلهام ومصدراً للاستعراف ومصدراً للإيمان في هذه الأمة بإذن الله تبارك وتعالى.
إذن اعتماداً على القرآن العظيم يُمكِن أن ننفتح على الآخرين لأن لدينا ما نقول إخواني وأخواتي، انفتاحنا على الآخرين سيُمكِّننا من تطوير مناظير للرؤية للمُشكِلات على اختلافها جديدة، ربما لا تأنس لنا بها، سنستفيد هذا من الآخرين أولاً، ثانياً انفتاحنا على الآخرين سيُمكِّننا من صقل كثير من المُقارَبات التي قد تكون لدينا لكنها غير مصقولة أو غير مُكتمِلة، عن طريق أيضاً التحاور والتثاقف، وهذا مُفيد بإذن الله تبارك وتعالى، ثالثاً – إخواني وأخواتي – ليس بالضرورة مَن يتفوَّق عليك علمياً بالمعنى المُعاصِر للعلم – أي Science – ومن ثم تقنياً أن يكون مُتفوِّقاً عليك روحياً، ليس بالضرورة بالمرة، لكن حتى استناداً إلى القرآن الكريم على مُستوى التداعي النفسي أو الأثر النفسي لهذا أثر، فلابد أن نكون حذرين من هذا الأثر.
لاحظت مرة شيئاً هاماً عن بلقيس ملكة سبأ حين رأت الصرح المُمرَّد من قوارير ورأت عرشها وقد أُوتيَ به في طرفة عين دون أن ترى ذلك هي لكن رأته أمامها وقالت: كَأَنَّهُ هُوَ ۚ ۩، ما الذي حدث؟ هي أذعنت مُباشَرةً وأقرت بأنها ظلمت نفسها ثم استعلنت بإسلامها لله مع سُليمان، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، هذه الصياغة أو هذا الترتيب القرآني كأنه يقول التفوق والتبريز التقني أو التبريز المادي جعل هذه المرأة تستخزي أمام هذا الاقتدار، حدث مرةً حين كنت أُدرِّس في الأكاديمية أن أحد تلاميذي كان إيرانياً وكان شيعياً اثنا عشرياً، وطبعاً نحترم بعضنا البعض على طريقتي من غير أي نكير ومن غير أي حريجة أو تحسس، وكان دائماً يأتي ويُريد أن يُسجِّل انتقادات على المذهب الاثني عشري، وأنا أقول له اربع على ظلعك، ليس بالضرورة أن تفعل هذا، المُهِم أن تكون مُسلِماً صالحاً، الذي يعني أن تكون مُسلِماً صالحاً في نهاية المطاف، يستوي في هذا أن تكون اثنا عشرياً أو سُنياً أو غير ذلك، لكن في يوم من الأيام جاء هذا الشاب – وكان إذا صلى في مسجدنا يضع يمينه على يساره كما يفعل أهل السُنة – وقبل أن يُصلي قال لي هل سمعت بنبأ الصاروخ – الصاروخ الباليستي – الذي أطلقته إيران؟ قلت له نعم سمعت هذا، قلت له هذا شيئ عظيم، شيئ عظيم ومُفرِح، قال نعم نعم وكان مُتهلِّلاً ثم أقبل على صلاته ولم يتكتف، فقلت أطلقت إيران صاروخاً فأطلق يديه، فالأثر النفسي بلا شك يحدث لكن أعتقد هذا يكون ربما لأول صدمة، أنا قد أعذر جيل رفاعة الطهطاوي وأمثاله لأن هذه الصدمة الأولى أو الأولية بحضارة الغرب، أما نحن الآن تخفَّفنا أعتقد من أبهاظ ومن أوهاق هذه الصدمة بعد زُهاء قرنين من الزمن بلقائنا بالغرب، نجاح بعض المُسلِمين هام، وهذا الذي يُبشِّر بفضل الله تبارك وتعالى، نجاح بعض المُسلِمين من الرجال ومن النساء ومن الشباب ومن الشابات أن يتحصَّلوا على أعلى الدرجات وعلى أعلى الجوائز أيضاً على مُستوى ربما القارة أو القارات أو العالم في ميادين علمية مُختلِفة جعل المُسلِم يستعيد الثقة بنفسه وأنه قادر، لم لا؟ ليسوا أحسن منا في أي شيئ لو أردنا ولو صح منا العزم بإذن الله تبارك وتعالى، والأهم من هذا طبعاً أن تُرفَد هذه العزائم الصحاح بالإرادة السياسية الصادقة بإذن الله تبارك وتعالى، هذا مُهِم جداً جداً.
أختم بكلمة للعلّامة المرحوم النوبلي أحمد زويل رحمة الله عليه وطيَّب الله ذكره وثراه، أحمد زويل حين زار ماليزيا طبعاً بدعوة من رئيس الحكومة ماهتير مهاتير محمد Mahathir Mohamad – بارك الله فيه – قال لاحظت أنه اصطحبني إلى زيارة البُرجين المشهورين هناك – أعلى طبعاً برجين في ماليزيا – فقلت له سيادة رئيس الحكومة لم تجشمت ماليزيا بناء هذين البُرجين الشاهقين المُكلِفين جداً وهي في بداية طريقها للنهضة؟ فقال لي بروفيسور Professor زويل الذي حصل كالتالي – انظروا إلى هذا فهم لديهم رؤية -، المُواطِن الماليزي أو الفرد الماليزي لعقود طويلة مُتمادية ظل ينظر أسفل قدميه – أي تحت قدميه، فقد الثقة بنفسه، ظن أنه عاجز، أنه أفشل من أن يستطيع أن يلحق بالآخرين -، فنحن رأينا – إذن كانت رؤية مدروسة – أن نبني هذين البُرجين لكي يتعوَّد أن يرمي ببصره إلى السماء، إلى الأعلى، إن تعوَّد أن يفعل هذا هذا ينعكس عليه سيكولوجياً ويشعر أننا يُمكِن أن نفعل، شيئ قريب من هذا حدث أيضاً في دبي، وليس فقط لأهل دبي أو الإمارات، حتى للعرب عموماً الذين يزورون الإمارات، يُمكِن إذن أن نفعل، لم لا نفعلها؟ رحمة الله على مُجدِّد الفكر الإسلامي ونابغة الفكر الإسلامي مالك بن نبي حين قال مرةً – أعتقد في مُذكّرات شاهد للقرن التي قرأتها قبل مُدة طويلة – لو قيل لي كمُسلِم هل يُمكِن أن تصل إلى السماء؟ لقلت مُستلهِماً تجربة الإسراء والمعراج سأضع السلم على الحائط، سأفعل ما بوسعي الآن ثم بعد ذلك استجيب للتحديات الأُخرى، التحدي الآن أن أصعد ثلاثة أمتار فقط، لدي سلم يُمكِّنني من هذا، سأفعل هذا، لكن كيف أبلغ أسباب السماء التي بلغها محمد بن عبد الله وفق منظور مالك بن نبي؟ يبدو أنه هو عين المنظور الذي أعرب عنه العلّامة المُجدِّد الرجل الصالح والولي الكبير بديع الزمان النورسي في إشارات الإعجاز وهو تفسير سورة الفاتحة، العلّامة النورسي كان يرى في كل معاجز الأنبياء رسالة إلهية، رسالة قدرية للبشر وخاصة للمُؤمِنين المُوحِّدين: أن بوسعكم أن تفعلوا مثل هذا، نحن فعلنا هذا لأنبيائنا ورُسلنا إعجازياً – هذه معاجز وآيات – وأنتم يُمكِن أن تفعلوها ولكن بالسُنن المُسخَّرة لكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله.
– ختم مُدير الجلسة قائلاً: نشكر شيخنا الدكتور على هذه الاستفاضة، وماذا عساي أن أقول مُختصِراً لهذا الحديث؟ ولكن سأقول أنه حديثٌ يستحق التأمل والنقاش والتمعن قبل التعقيب والرد والحكم عليه.
أدعو الآن الدكتور يوسف بن سالم الهنائي عميد شؤون الطلبة لتقديم إهداء جامعة السُلطان قابوس لضيفنا الكريم لاهجين بكل عبارات الشكر والثناء للدكتور عدنان إبراهيم على تفضله بهذه المُحاضَرة وداعين الله له بالتوفيق في زيارته وفي حياته وأن يعم النفع بعلمه وفهمه الأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء، تفضَّل يا دكتور.
– تم تكريم الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم ثم قال: بارك الله فيكم وحياكم، جزاكم الله خيراً، بارك الله فيكم، والشكر لكم جميعاً على هذه المُناسَبة الطيبة.
– قال مُدير الجلسة بدوره شكراً لكم جمهورنا الكريم ونسأل الله – تعالى – لكم الحفظ في حلكم وترحالكم، ونرجو لضيفنا الجليل برنامجاً ماتعاً مُمتِعاً في بلده الثاني سلطنة عُمان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(تمت المحاضرة بحمد الله)
مسقط – سلطنة عمان 07/02/2017
أضف تعليق