إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
يا إخواني وأخواتي:
القرآن العظيم كتابٌ عجيب ولا أعجب، قال الله لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، فهل القلوب الغضة الطرية من عضلٍ ولحمٍ ودمٍ وعصب تشعر بهذا الجلال وتستشعر هذه الخشية وتتصدع ولو قليلاً أم أنها ليست هناك؟!
ما الذي يحصل؟!
الذي يحصل أننا نقرأ القرآن ونكر عليه من أوله إلى آخره مراتٍ عدة ولا نكاد نعي منه إلا القليل إن وعينا، لا نكاد نتدبره فلم نتعوَّد ولم نتمرَّس ولم نكتسب لياقة أن نتدبر القرآن، كم حجمُ الضياع وكم حجمُ الهدر الذي يفوت والذي تُمنى به هذه الأمة؟!
لكم أن تتخيَّلوا ما يُمكِن أن يحدث لو أن كل تالٍ حول العالم لكتاب الله – تبارك وتعالى – تلاه بتدبر كما أراد مُنزِله سبحانه وتعالى، قال الله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۩وقال الله أيضاً أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا ۩ فضلاً عن أنه قال لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ۩، والتدبر أمرٌ يقع حتى وراء وفيما بعد التحليل اللغوي الذي يُدمِنه بعض علماء التفسير وبعض المُتحدِّثين في كتاب الله وهو لابد منه، فالتحليل اللغوي في المُستوى اللغوي لابد منه ولكنه البداية، أما النهاية فهى مُتعلِّقة بالتدبر أي النظر في أدبارِ الآي، أي في أدبارها وفيما تُخفيه، النظر فيما لا يظهر باديء الرأي وبادهه وإنما لا يظهر إلا بعد أن تستغرق في كتاب الله – تبارك وتعالى – مُتسلِّحاً بصفاءٍ نفساني وعلو روحاني وبخلفيةٍ معرفيةٍ مُحترَمة، وأمتنا للأسف أمة لا تقرأ ولا تُحِب المعرفة ولا تُريد المعرفة، فنحن نقرأ القرآن حين نقرأه اكتساباً للأجر، نحن نُريد الأجر ونُريد الحسنات فقط، أما أننا نُريد أن نفهمه وأن نتدبره وأن نعود منه بجديد يُحسِّن حياتنا ويُحسِّن شخصياتنا ويُحسِّن مُجتمَعاتنا بطريقة غير مُبتذَلة وبطريقة ليست تلكم الطريقة المُبتذَلة الصبيانية التي ترى أن كل شيئ واضح وبسيط وبديه كما هو الظاهر – وهكذا القرآن يقول هذا في الظاهر – فلا، القرآن لا يُمكِن أن يُعطي امْرَأً شيئاً من عوائده وأثماره دون أن يتدبره وأن يُجِله، وإجلاله جزءٌ منه يكمن في تدبره وليس فقط بكتابته وبخطه بماء الذهب وكتابته في أصفى وأرقى المهارق ووضعه على الرؤوس وفوق الأرفف، وهذا كله مما ينبغي له لا شك ولا ريب ولكن ليس هذا قُصارى الأجلال والتوقير الذي ينبغي لكتاب الله، ورأس هذا الإجلال التدبر والعمل، أن نتدبر وأن نعمل وأن نبخع للقرآن وأن نخشع للقرآن وأن نمتح من القرآن، فنتزوَّد ونتعلَّم أن يكون هو رائدنا وإمامنا الأول والأكبر.
الإمام عبد الكريم أبو القاسم القشيري – رضوان الله تعالى عليه – صاحب الرسالة الشهيرة وصاحب لطائف التفسير على طريقة أهل الإشارة قال في أوائل تفسيره “إني لعلى يقين أن كلام الله – تبارك وتعالى – كذاته مُطلَقٌ لا حدود له”وهذا بديهي ، ولكن بعض الناس غائبٌ عن هذا، صدِّقوني كثيرٌ أو كثيرون من علمائنا غائبون عن تقرير هذا المعنى البسيط وعن تلمح هذا المعنى اليسير، فلو سألت أي عالمٍ بل أي عامي من عوام المسلمين أو المسلمات ما قولك في علم الله بلحاظ المحدودية والإطلاق؟ سيقول لك “محدود، فالله كلي العلم ومُطلَق العلم، وسع كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، ولا يعزب عن علمه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ۩” وكذاك القول في المشيئة الإلهية إذا سألته عن رأيه فيها، فهى مشيئةٌ كلية مُحيطةٌ مُطلَقة مُهيمنة على كل شيئ، ولو سألته في سائر الصفات لحار بنفس الجوابِ، وهذا صحيح ولكن ما بالنا مع كتاب الله ومع كلام الله ومع كلمات الله؟!
لم نظن أن كتاب الله ألقى بكظائمه وأفضى بسرائره وألقى أثقاله للسلف الصالحين؟!
لم نظن هذا؟!
هذا الظن خطيئة في حق كتاب الله تبارك وتعالى، مَن كان يظن أن أبا بكر وعمر وعليّاً وعثمان وسعيد بن المُسيب والثوري وأبا حنيفة والشافعي ومالك وابن تيمية وإلى آخره من الأسلاف والأخلاف الصالحين – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – قد احتازوا المعاني النهائية الآخرة لكتاب الله فقد أخطأ أعظم الخطأ ووقع في خطيئةٍ كُبرى في حق الله – تبارك وتعالى – وفي حق كلام الله – تبارك وتعالى – طبعاً، فمَن الذي يقول هذا؟!
لكن الآن يُوجَد نمطٌ يُمثِّله غير قليل وغير يسير من العلماء والدُعاة يريدوننا على هذا الاعتقاد، يريدوننا أن نعتقد أن السلف بحُجة أنهم أوعى منا وأحسن منا أنهم أفقه في كتاب الله من كل وجه، وبلا شك هم أحسن منا وأتقى ولكن لا يستطيع أحد أن يقول أنهم أفقه في كتاب الله ومن كل وجهٍ منا، هذا غير صحيح بالمرة، وأنا قلت في الخُطبة السابقة لو بُعِث أبو بكر الصدّيق – صدّيق الأمة رضوان الله تعالى عليه – من قبره وطُلِب إليه أن يُحدِّثنا عن فهمه في بعض الآيات الكونية في كتاب الله فسوف يعود إلينا بفهم صبياني وسوف نرى هذا الفهم سخيفاً، وهكذا أقولها بوضوح، لأن الله حين أنزل آياً تتحدَّث عن السماوات – السماء والسماوات ألفاظ لغوية، فاللغة بلغة طبيعتها كما أشرت غير مرة رمزية دالة ولها وظيفة تأشير فقط، فهى تُؤشِّر أو اللفظ يُؤشِّر إلى الواقعة ويُؤشِّر إلى المعنى ويُؤشِّر إلى محموله ويُؤشِّر إلى مُؤشَّره – ما الذي كان يفهمه العرب وفيهم أبو بكر الصدّيق – رضوان الله تعالى عليه – من لفظ السماء؟!
ما هى الحدود العلمية عندهم للسماء؟!
شيئ أبسط بكثير مما يُقرِّره علم الفلك والكونيات الحديث، أصغر بكثير وأبسط بكثير مما نظن، وهذا أمر طبيعي وليس خطيئةً ولا خطأً حتى في حق أبي بكر الصدّيق، فهذه هى خلفيته المعرفية، ونحن اليوم نستطيع أن نتحدَّث باقتدارٍ مُبهِر كان سيبهر بلا شك أبا بكر وعمر وعليّاً لو سمعوه وبُعِثوا حين نتحدَّث عن الكون – مثلاً – كما بهرنا العلم والعلم بهر البشرية كلها بلا شك، وهذا العلم قرَّبنا من الله ودلَّنا على الله مزيد دلالة بلا شك، وهذا الذي يُريده الله تبارك وتعالى، لكن للأسف الشديد هذا النمط من العلماء يُريد لنا أن نجمد مع ما قرَّر الأسلاف ومع ما وعوا ومع ما فهموا وكأنهم أوفوا على الغاية، لكن هذا غير صحيح، وهذا من جهة مدحٌ للسلف ومن جهةٍ أخرى تنقّص لكتاب الله، فلا تجوز دعوى أن كتاب الله ألقى أثقاله وانتهى كل شيئ وأنه قال كلمته الأخيرة واستنفذ أغراضه وأن هذا قُصارى ما يُمكِن أن يُفهَم منه، هذا مُستحيل، فكيف يُقال هذا؟!
إذا كان يُمكِن لنا أن نُحيط بالله – أستغفر الله، معاذ الله – ذات لا كالذوات – لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩ – إذن يُمكِّننا أن نُحيط بكلام الله وبقُصارى معانيه، وهذا مُستحيل ولو عشنا بليون بليون سنة لن تصل البشرية إلى آخر أمداء كلمات الله تبارك وتعالى – أقصد معنىً ودلالات – حيث قال مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩ وقال الله – تبارك وتعالى – أيضاً تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ۩، ولابد أن نتلمَّح مثل هاته الأمور، لكن بعض الناس يقول “كتاب الله لا يحتاج إلى هذا التلمح الغامض وإلى هذا التلمح المُلغَز، فكتاب الله واضح بيّن، قال الله آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ۩”، لكن نحن نقول له أكمل الآية، قال الله بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا – ليس الجهل والكبرياء والاستكبار والدعاوى الفارغة والبطالة العلمية، فيضع أحدهم رجلاً على رجل ويتكلَّم في كتاب الله بجهل – الْعِلْمَ ۚ ۩، والعلم قرآنياً أيضاً مُؤشِّر إلى آفاق ليست تُحد، ليس العلم الشرعي فقط ولا حتى العلم الكوني ولا علم الظاهر أو الباطن وحده بل هو كل أولئكم وما تجاوز أولئكم كله، قال الله الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ ۩، فهذا هو العلم على إطلاقه، ولذلك القرآن لا يفتأ كل زمن وكل حين يرسمُ آفاقاً جديدة لمُفسِّريه ولمُتلمِّحه ولمُتدبِّره.
أعجبني قول أحد المُفسِّرين المُعاصِرين وهو لوذعي من عباقرة التفسير الأفذاذ في عصرنا – رحمة الله تعالى عليه – حين قال بكل تواضع “كتبت تفسيراً في عشرين مُجلَّداً ما يعود إلىّ منه قد لا يتجاوز المُجلَّدين والباقي اقتباسات”، ولكن عنده ما يعود إليه لأنه مُبدِع، فهذا المُفسِّر يفقه ماذا يقول وماذا يكتب، وله كلمة ثانية قال فيها “والتفسير يحتاج إلى تجديدٍ مُتواصِل، فالقرآن يحتاج على الأقل كل عامين إلى تفسيرٍ جديد”،وهذا صحيح فلابد أن نُعيد التفسير في آيات كثيرة كل عامين، فهذا مُفسِّر يفقه ويُجِل كلام الله تبارك وتعالى، وكلام الله ليس يخلق على كثرة الرد ولا تبلى جدته وما ينبغي أن يبقى مطوياً على غرته، لكن القرآن لا يزال إلا ما رحم الله مطوياً على غرته، فلو تلمَّحنا سنجد العجب، ولكن لابد أن نُريد أولاً وأن تصفو منا النوايا وأن نتسلَّح بخلفيات معرفية مُحترَمة ثم نذهب نتلقى الذكر ونتعلَّم على مائدة كلام الله – تبارك وتعالى – وبالتالي سوف نجد العجب.
خطر لي مرة أن أتساءل عن بعض تعقيبات الله في القرآن الكريم بعد أن كنت قد قرأت لغير مُستشرِق – لن أساميهم لأنهم كثيرون للأسف – كلاماً اتهموا فيه القرآن الكريم بأنه فرُط، فقالوا: هو كتابٌ فرُط، فهذه مُجرَّد هُتامات وشذرات ليس ينتظمها ناظم – هكذا زعموا وأفكوا – ومن ثم تلقاه بين هو يتحدَّث في قصة آدم إذ يقفز إلى بني إسرائيل ويتحدَّث عن بني إسرائيل وعن جرائمهم وجرائرهم وما احتقبوه على طول العهدِ وما شُنِّع به عليهم وما لاقوه من سوء المصير وإلى آخره، فما الرابط بين هاته الموضوعات؟!
طبعاً لا رابط لمَن لا يتدبر، وحاشا لله – تبارك وتعالى – الذي أبى إلا أن ينظم الآيات في سلكٍ واحد ثم تنتظم مجموعةٌ منها في سورةٍ واحدة أن يكون قرآنه هكذا، فالقرآن ليس كتاباً غير مُفصَّل بل هو مُصاغ في سور، والله يقول فَصَّلْنَاهُ ۩، ومن تفصيله نظمه في شكل سور تطول وتقصر وتتوسَّط لحكمة إلهية، وهذا لم يكن شأناً لرسول الله، ولكن الله كان يُوحي إليه عن طريق جبريل ويقول له “ضع الآية الفلانية التي فيها كذا في السورة التي فيها ذكر كذا، مثل ضع الآية الفلانية في السورة التي فيها ذكر النحل، فيضعونها فيها حتى وإن كانت قد نزلت بعد أربع سنين أو خمس سنين أو ثلاث سنين بل وأحياناً أكثر من ذلك ولكن لا بأس ويقول ليس موضعها آخر سورة نزلت بل سورة مُتقدِّمة النزول، فهكذا يُوحى إليه لكن طبعاً هذا يحتاج في حد ذاته إلى توسع في الدرس، وربما – إن شاء الله – نعود إليه في فرصة قريبة جداً، لكن لم ترتيب المُصحَف غير ترتيب النزول؟!
هناك حكم كثيرة جداً جداً، فالله – تبارك وتعالى – بهذه الإشارات أفهمنا أن القرآن منظوم وأن نظمه ليس اعتباطياً ولا تعسفياً، فهو ليس هكذا بالمرة، وفكِّروا بالله عليكم كم مرةً قرأنا سورة البقرة؟!
أكثركم يحفظ سورة البقرة، لأن الذي يبدأ في الحفظ يبدأ إما من جزء عم وإما من البقرة، وقد تحفظون نصفها وإلى آخره، فكم مرةً إذن قرأنا القرآن وقرأنا السورة الثانية في المُصحَف الشريف وهى سورة البقرة؟!
وفعلاً بعد أن يفرغ رب العالمين من حكايةِ أمر آدم وخبره مُباشَرةً يعمد إلى ذكر بني إسرائيل – يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩ – مُباشَرةً، ثم يأخذ في الإسهاب في ذكر بعض أحوالهم وماجرياتهم، أي في ذكر الذي جرى منهم وجرى عليهم ولهم، فلماذا هذا إذن؟!
فكَّرت طويلاً ثم تلمَّحت أشياء عجيبة، أولاً بالنسبة لآدم يقول الله – تبارك وتعالى – في حقه إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ۩، فهو أول مُستخلَف من هذا الجنس الآدمي لأنه أبوه وأُسه، وبالنسبة لهؤلاء القوم تقول الآية الكريمة على لسان موسى قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩،فإذن هناك تناظر، وليس هذا فحسب بل أن هذا هو أول التناظر وأول الغيث، وسوف نرى كيف يكون الانتظام العجيب المُدهِش المُحيِّر وليس الاعتباطي التعسفي.
وآدم – عليه السلام – أُخِذ منه العهد، قال الله وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ ۩، وبنو إسرائيل وُثِّق عليهم العهد غيرة مرة، قال الله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ۩، لكن هم فرَّطوا ونقضوا العهود مع رب العالمين ومع أنبيائه ورسله، إذن نفس الشيئ، فهذا عهدٌ هنا وهذا عهدٌ هناك، فيُوجَد تناظر في أخذ المواثيق وفي التفريط، ولكن هنا بطريق النسيان وهنا بطريق الإباء والعند والاستكبار والظلم للنفس.
آدم أُمِرَت الملائكة أن تسجد له فسجدت إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۩، وهم أُمِروا أن يدخلوا الباب سجداً وأن يقولوا حطةً، قال الله وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا۩، فهؤلاء ظلموا وكفروا – والعياذ بالله – بتحريف كلم الله والعند عن أمره وإباء البخوع له والنزول عليه، هم كفروا بذلك، وإبليس كان من الكافرين وهم أيضاً كانوا من الكافرين بتكذيب أمر الله، قال الله يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۩وقد كانوا فكفروا به، إذن الشيئ نفسه يتكرَّر.
ظلم آدم وحواء نفسيهما، وظلموا أنفسهم، قال الله فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۩ وذلك بالمُخالَفة، فهم ظلموا وهؤلاء أيضاً ظلموا، قال الله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۩، وهذا شيئ عجيب.
آدم خُلِق وسُويَ على عين الله وبيد القدرة وأُسكِنَ الجنة وقيل له ولزوجه حواء – عليها السلام – أمنا، قال الله وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ۩،
فأي مكان هو رغد، علماً بأنه لم يقل حيث شئتما رغداً كما في حالة بني إسرائيل وإنما قال رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ۩، وقيل لبني إسرائيل نفس الشيئ، قال الله وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ۩، وهذا تناظر عجيب، كأنها جنتهم كجنة آدم ولكن آدم أبى إلا أن يُخالِف وأُهبِطَ منها وهم أبوا إلا أن يُخالِفوا وأُهِبطوا.
قال لهم موسى اهْبِطُوا مِصْرًا ۩ وكذلك آدم هبط من الجنة، إذذن هبوط وسقوط – Falling – هنا وهبوط هناك، وذلك لما هبط آدم وسقط من علياء النعيم ، قال الله إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ۩، إذن بمفهوم المُخالَفة سوف تنزل إلى عالم تجوع فيه وتعرى وتظمأ فيه وتضحى ويأكل بعض ذراريك بعضاً – بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۩ – وتنشأ الحروب والمعارك والإمبراطوريات والهيمنات والعلاقات غير المُتكافئة بلغة العصر، وهناك نفس الشيئ يتكرَّر، قال الله اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ۩، فمزَّق الله وحدتهم ومزَّق شملهم ودبَّت العداوات بينهم، قال الله هنا ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ۩، وهناك قيل بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۗ ۗ ۩، فصار بعض بني إسرائيل لبعضٍ عدواً، يُقتِّل بعضهم بعضاً ويستبيح بعضهم بعضاً ويُخرِج بعضهم بعضاً من أرضه وموطنه، وهذا شيئ عجيب وهذه تناظرات مُحيِّرة ومُدهِشة، لكن قد يقول قائل: هذا واضح فلماذا لم نتلمَّحه؟!
كما أقول لكم دائماً ولا أمل من تكرار هذا القول لأننا لم نكتسب لياقةً نقدية ولم نتعلَّم ولم نترب لا في البيت ولا في المدرسة ولا في المسجد ولا حتى في علاقاتنا الشخصية على أن نتحاور وعلى أن نتساءل وعلى أن نختلف ومع ذلك نبقى إخواناً مُتحابين، فلماذا لأ؟!
لماذا لا يكون ولائي للحقيقة؟!
لماذا لا يكون مُدخَل الحقيقة هو السؤال والمُحاوَرة والشك والارتياب وطرح الشُهبات؟!
لم نُريد كل شيئ جاهزاً كأن هذا الجاهز يُسعِفنا ويُرقينا في حين أنه يُفقِرنا ويجعلنا مُضمحِلين وسخفاء وبُسطاء وصبيانيين؟!
هذا هو التلمح، ولذلك الآن لو يأتي أكبر رأس مُستشرِق ويسمع هذا القيل أو هذا الكلام سيقول “هذا عجب، فحتى أنا لم ألحظ هذا”، إذن القرآن تقصَّد ولم يعتبط ولم يعتسف الطريق وإنما تقصَّد أن يجعل حكاية بني إسرائيل على الولي من حكاية آدم، فجعلها بعقبها دون فاصلة مُباشَرةً!
التناظرات كثيرة، ونستطيع أن نعد تناظرات أخرى، ولكن هل هناك من محور للتناظر؟!
نعم، يُوجَد محور واحد يُفسِّر كل هذه التناظرات وهو الاستخلاف، فهذا الخليفة امتُحِن قبل أن يُعمَّد ويُدشَّن خليفة فكعَّ في الامتحان ورسب وأخطأ – المقصود هو آدم – بلا شك وربما تغيَّر مشوار الخلافة بطريقةٍ أو بأخرى، وهم امتُحِنوا وكان ينبغي أن يُستخلَفوا في الأرض المُقدَّسة لكنهم كعَّوا ونكصوا وفشلوا في الامتحان، أُهبِطَ آدم ودُلي وحُرِّمَت عليه الجنة أن يمكث فيها إلى حين لكن له إليها عودة بإذن الله، قال الله في سورة البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ۗ ۩ وقال أيضاً في سورة طه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۩، وهم أيضاً حُرِّمَت عليهم الأرض المُقدَّسة كما حُرِّمَت الجنة على آدم، تقول في الآية الكريمة قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ ۩ إذن نفس الشيئ يتكرَّر، فهذا تحريمٌ هنا وهذا تحريمٌ هناك، وهذا تدلِ وهبوط هنا وهذا تدلٍ وهبوط هناك، إذن يُوجَد وجوه عجيبة من التناظر فعلاً، فهذا هو الاستخلاف والامتحان المُهيّيء للاستخلاف، وبعد ذلك يأتي نموذج فردي ونموذج آخر أممي، وهكذا يتناظر القرآن حيث أنه يُعطيك هنا المعنى عبر إنموذجاً وعبر تجربة عملت في المُستوى الفردي “آدم وزوجه” وهناك يُعطيك نفس المعنى ولكن عبر إنموذج أممي شُغِّل واشتغل وعمل في مُستوى أمة و جماعة كبيرة من الناس وليس في مُستوى فرد.
ولعلكم تذكرون قبل سنين يسيرة ربما لا تتجاوز الأربع أو الثلاث سنين أنني سجَّلت مُلاحَظات عجيبة ثم قيل لي “الشيخ كشك – رحمه الله – سبق إلى ذلك”، فتعجَّبت وقلت “لم أسمع هذا ولم أقرأه ولكن لعله صادق وهذا يكون من فتح الله عليه”، فهذا شيئ عجيب، علماً بأننا سنذهب خُطوات أبعد إلى التناظرات المخفية، لكن على كل حال الآن موضع العبرة هو: هل هذه التناظرات المخفية وهذه المحورية كانت بادية بذاتها؟!
ليست بادية بذاتها، فلو كانت بادية بذاتها لظهرت لي ولكم قبل عشرين أو قبل ثلاثين سنة، ولظهرت لكل مُفسِّر، فهى ليست بادية لكن يجب أن نعلم كيف تُنال وكيف يُمكِن أن نصطاد هذه اللطائف، فهذه ليست لطائف تعمل في حدود الترف الفكري والتفسيري، هى ليست ترفاً بل إنها إحدى نتائج التدبر، قال الله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ ۩، وهذه النتيجة بذاتها تخدم نظامية القرآن، فالقرآن كتابٌ منظوم ومُفصَّل وليس كتاباً إعتباطياً وليس هُتاماتٍ وشذراتٍ لا ينتظمها ناظم كما يدعي الأفاكون، كلا هو كتابٌ دقيق، ورب العالمين الكون فعله ونحن من فعله، والقرآن قوله وهو كلامه، وفي فعله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، إذن بالحتم أيضاً في قوله وكلامه أن كل حرف مُقدَّرٌ في مكانه، ولا أقول كل آية أو كل كلمة وإنما كل حرف – والله – مُقدَّر في مكانه، وهذا شيئ لابد منه لأنه الله – تبارك وتعالى – لا يُمكِن أن يُترّجِم في فعله هذا التقدير المُذهِل الذي يتجاوز الخيال بدقته وسطوته على كل شيئ وفي كلامه يعتسف ويعتبط، حاشاه رب العالمين لا إله إلا هو، علماً بأنه لا يصح أن نقول أنه كامل كما يقول بعض الناس الكمال لله، فهذا ليس من أوصافه الثابتة شرعاً لأنه قد يوحي بأصل النقص ثم بالاستكمال، ومن ثم لا يُقال هذا، ولو ثبت شرعاً لقلنا به، لكنه هو المُطلَق – لا إله إلا هو – من كل قيد.
على كلٍ نعود :
قد كنت سجلت قبل بضع سنين التناظر الخفي المُستكِن المُستسِر في قصة موسى مع العبد الصالح وكان من أعجب ما يكون، فهو بلا شك أكثر إدهاشاً من تناظر بني إسرائيل مع نبأ آدم، فلماذا النبي قال في حديث ابن عباس في الصحيحين – حديث نوف البكالي – لوددتُ أن موسى كان صبر ليقص الله علينا من نبأئهما أو كما قال؟!
النبي يود هذا ونحن نود هذا لكن ما فعله الله هو المُقدَّر، فالله قدَّر أن تقع ثلاث حوادث تستلفت النظر وهى حوادث مُدهِشة ومُحيِّرة، فهم سيركبون سفينة أولاً وسوف تُخرَق، والنبي قال هذا في الصحيح، قال “وأركبوهم بغير نولٍ”، ومعنى بغير نوال أي بغير أجرة، فهم عرفوا العبد الصالح “الخضر” وقالوا له أهلاً وسهلاً، عليك أن تتفضَّل يا أبا العباس من غير أجرة، لكنه نقض لهم سفينتهم وخرَّب فيها أحد الألواح وجعل الماء يتسرَّب إليها، فموسى طبعاً مُباشَرةً اعترض، فهو خالف الشرط وقال أنه نسيَ، وفي المرة الثانية سوف يقتل غلاماً، وهذه أفظع ولذلك وصف موسى هذه الفعلة بأنها أمرٌ نُكر، فهو يُستنكَر مثله والعياذ بالله، فكيف تقتل نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ۩، فهذا الشخص لم يقتل أحداً هذا ولم يُفسِد فلماذا تقتله إذن؟!
فهذه هى الحادثة الثانية، وهنا موسى لم ينس ولكنه لم يستطيع أن يحتمل، أما الحادثة الثالثة فكانت في قرية اللئام ، فالذين لم يُضيِّفوهم ولم يُطعَموهم ولم يسقوهم لئام بخلاء والعياذ بالله، علماً بأن اللئيم هو البخيل طبعاً وليس المكار الخبيث، فاللئيم في أصل اللغة، وفي أصل الوضع اللؤم هو البخل ، وهذا شيئ يجب أن ننتبه إليه لكن العامة تستخدمه بمعنى المكر والدهاء، وهذا غير صحيح فاللؤم هو البخل.
في قرية اللئام أو اللؤماء وجدوا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ ۩بيده الخضر حسبما يقول الرسول، فموسى أيضاً هنا استفزه هذا الفعل، كأنه يقول له “مع الناس الذين أكرمونا ولم يأخذوا منا أجراً نقبت لهم السفينة، ومع الذين عاملونا بلؤم وببخل لهم المعروف – ما شاء الله – بغير أجر.
فهذه ثلاث قضايا إذن، والنبي يود أنها تكون ثلاثين أو حتى ثلاث عشرة قضية لكنها ثلاث بالضبط، وإذا بالثلاث تُناظِر ثلاثاً قصَّها القرآن في مواضع أُخرى تتعلَّق بموسى وبمسيرة موسى الحياتية قبل أن يستنبيء، وهذا ما ينبغي أيضاً مُلاحَظته لأنه كان بهذا بالترتيب المُدهِش المُعجِز الذي لم يُسفِر عن نفسه بطريق التصريح، فكان الله يستطيع أن يُجري على لسان الخضرجواباتٍ من نوع: يا موسى ألم يتفق لك كذا كذا كذا كذا ويُقدَّر عليك كذا كذا وكانت العاقبة حسنة؟!
لم يُذكِّره والقرآن سكت هنا وترك هذا ليناله المُتدبِّر بحيلة التدبر والتفكر، ومن هنا أمرنا القرآن أن نتدبَّر وأمرنا أن نتفكَّر وليس أن فقط نفتكِر، ومن ثم يجب علينا أن ننتبه إلى هذا، فالأصل هو افتكر لكن القرآن لا تُعجِبه هذه الصيغة، فلم يقل ولو لمرة واحدة كلمة يفتكرون، ففي كل مرة يقول يتفكَّرون، وصيغة يتفعَّل من صيغ المُبالَغة الواضحة فهى على وزن يتفعَّلون!
ليس يصلح فقط أن تأخذ المُصحَف تنشره وتقرأ أو حتى تعود إلى تفسير الطبري والقرطبي والشعراوي وابن عاشور، هذا ليس كافياً بالمرة، هو جميل ومُمتاز ولابد منه ولكنه ليس كافياً.
فيجب أن تنظر إلى ما عندك إذا كنت طبيباً أو مُهندِساً أو مُؤرِّخاً أو فيلسوفاً ،أو عالم لغويات وإلى آخره، أليس عندك جديد؟!
لماذا لا تتفكَّر أنت كما تفكَّروا أيضاً لعلك تعود علينا وإلينا بجديد؟!
ما الذي تفعله ؟!
لماذا أنت عالة ؟!
لابد أن تتفكَّر، فالتفكّر يكون بأن تذهب وتعود وفي كل مرة من طريقٍ جديدة ومن زوايا جديدة، فأنت تذهب في العمق ولا تكتفي بالسطح أو بالسطوح وإنما لابد أن تذهب إلى الأعماق وإلى التحوت كما يقولون.
وقلت لكم مرة يُعجِبني جداً أن اللغات الإنسانية عموماً أحياناً تتلمَّح هذه المعاني اللطيفة جداً جداً جداً، فماذا يُسمّون الفهم والإدراك بالإنجليزية؟!
Understanding، وهذا شيئ جميل جداً، فمعنى Understan يفهم، أما Understanding فتعني ما تحت الموقف وما تحت الظاهر، فإذا وقفت مع الموقف الظاهر لن تفهم شيئاً وبالتالي لابد أن تغوص!
القرآن واللغة العربية يُسمّيان العقل باللُب، لأن هذا اللُب يصل إلى اللُباب، فهو يكسر القشور وينفذ إلى الأعماق، لكن إن لم يفعل الإنسان هذا فلن يكون لُباً، سيكون فقط دماغاً أومُخً – Gehirn أو Brain فقط – وليس أكثر من هذا، فحتى البهائم عندها مثل هذا المُخ – Gehirn Brainm, ولكن طبعاً بما يُناسِب رُتبتها.
على كل حال نأتي الآن لقصة موسى وسوف نجد – علماً بأن ما وجدناه كان عجباً – أن موسى حين كان رضيعاً وخشيت عليه أمه الذبحَ ألقى الله في روعها ونفث في روعها ما أحدثها علماً ضرورياً تجده في نفسها، قال الله أَنِ اقْذِفِيهِ ۩، أي ضعيه في سفط أو في مهاده واقذفيه في النيل، والله – لا إله إلا الله – لم يقل سرّحيه أو ضعيه وإنما قال اقذفيه ، أي ارمه رأساً على عقب وسوف ينجو، فهذا شيئ يقشعر البدن لكن الله يقول ليس السفط الذي سيُنجيه وليس النيل وليس شيئاً آخراً وإنما هى مشيئتي فقط فوق كل شيئ، ولكن هل مشيئتك يا رب العالمين تُنقِذ بالمخوف وتُنقِذ بالمُهلِك؟!
أن أضعاً طفلاً رضيعاً يُعَد أمراً مُهلِكاً ومخوفاً، ولم يكن هناك ثمة رضَّاعة صناعية أو حليب صناعي مُجفَّف أو Babysitter أو أي شيئ، فأنا لا يُمكِن أن أسمع هذا الطفل الرضيع ولا أدري ماذا حصل ومع ذلك سأقذفه في الماء المُغتلِم المُعتلِج قذفاً، قال الله أَنِ اقْذِفِيهِ ۩، أي اقذفيه قذفاً ولن ينجو فقط بل سيُقوِّض مُلك هذا المُجرِم الذي انحط إلى وهاد تذبيح الأطفال البرءاء بيض الصحائف الذين لم يحتقبوا جريمةً ولم يستوزروا وزراً ولم يحملوا إثماً، فالله قال أنه سيجعل نهاية هذا الطاغية على يد هذا الطفل، وهذا المذهب حدَّثتكم مرة عنه في خُطبة بحيالها وهو مذهبٌ يُشكِّل فلسفةً في تفسير التاريخ أنا اُسمّيها بفلسفة رأس الإبرة، فيُمكِن لرأس إبرة أن تُغيِّر التاريخ، ليس قوات الجحافل الأمريكية وليس جيش تيمورلنك Tamerlan أو جنكيز خان Dschingis Khan أو يوليوس قيصر Julius Caesar أو الأباطرة أو الخلفاء بل إرادة الله من قبل ومن بعد.
ظل الإنسان بعنجهيته وغطرسته يظن أنه حين يتحكَّم في المُعطيات الأولية يستطيع أن يُفضي بوثاقة إلى النهايات المُتأخِّرة حتى في العلوم الطبيعية، وحين جاء العالم الإيطالي العظيم وأبو العلم الحديث بمعنى من المعاني جاليليو جاليلي Galileo Galilei ووضع مُعادَلاته الشهيرة التي أراد أن تنضبط بها حركة النوّاس والبندول – رقَّاص الساعة – لاحظ – علماً بأنه كان ذكياً جداً – أن هناك ضمن الشروط الأولية ما ينتمي إلى ما لا يُحدَّد، فمن الصعب أن ينضبط لأنه نوع من الفوضى Chaos ومن ثم تجاهله باعترافه، فهو كتب قائلاً “لقد تجاهلته”، وظل العلماء عبر أربعة قرون يظنون أن مثل هذه الاهتزازات والشذوذات البسيطة في العناصر في الشروط الأولية لا تُؤثِّر على النتائج وادّعوا أنهم سيعرفون النتائج بحتمية واثقة إلى أن فوجئوا مع عالم المُناخ الشهير لورانس Lawrence – علماً بأن هذه القصة طويلة فلن أذكرها كلها – أن هذا غير صحيح بالمرة وأن الطبيعة تُعرِب وتُترّجِم عن ما يُعرَف في الفيزياء الآن – فيزياء الفوضى والشواش – بالحساسية المُفرِطة إزاء الظروف الأولية، حيث تتراكم وتتراكم بعض هذه الشذوذات البسيطة وإذا بالنتيجة في نهاية المطاف شيئ غير ما نتوقَّعه بالكُلية، فتكون النتيجة في زاوية مُختلِفة تماماً، ولذلك يُقال إلى اليوم في علم الطقس والمُناخ أن التنبؤات الطقسية في حدود يوم أو يومين أو ثلاثة أيام تكون جيدة، لكن إذا تعدت خمسة أيامٍ أو أسبوعٍ ستكون كلاماً فارغاً، وإذا تعدت شهراً فسوف تكون مُجرَّد تخمينات فارغة تماماً، فهذا مُستحيل أن يكون صحيحاً علماً بأن هذا ليس له علاقة بضعف الأدوات أو ضعف الميكانيزمات والآليات، ومن هنا يقول علماء المُناخ الآن في القرن الحادي والعشرين “لو غرسنا كل ثلاثين سنتيمتر (cm) في كل قدم حساساً – جهاز حساس – يُعطي المعلومات الأولية من الضغط والحرارة والرياح والرطوبة والظُلمة والضوء وكل ما يلزم فلن يُفيد، حيث ستتراكم عناصر أولية ثم نرى أنفسنا في نهاية المطاف في كارثة وأمام شيئ مُختلِف تماماً”، إذن هذا علم مُعقَّد جداً جداً، قال الله – لا إله إلا هو – في كتابه الكريم يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ۩، وهذا ما يُعرَف بظاهرة تأثير جناح الفراشة – Butterfly Effect – في علم الفيزياء، وهنا خفَّف الإنسان من غلوائه وجلس وتنفَّس الصعُداء وأدرك أنه ليس رب هذا الكون، فليس هو الذي يُمكِن أن يُدير الكون لأنه لا يستطيع أن يفهمه جيداً وبالتالي لا يستطيع أن يتحكَّم في كل شيئ، وفي هذا المضمار تُعجِبني أُغنية شعبية أمريكية رائعة جداً، فيبدو اأن لحدس البشري يكون أحياناً أذكى من المناهج العلمية، بل أنه أحياناً يُثبِت أنه أذكى حتى من العلم المُقنَّن الرياضياتي الدقيق الذي يتوسَّل لغة الرياضيات لضبط نتائجه ومناهجه، والأغنية هى أغنية أمريكية شعبية ظهرت قبل علم الفوضى Chaos الذي لم يعرف النور قبل السبعينيات من القرن المُنصرِم العشرين، فقبل ذلك لم يكن هناك أي علم يُسمى بالـ Chaos Science، لكن الآن هذا العلم أصبح رهيباً، ادخل على الإنترنت Internet واشتر الكتب من الأمازون Amazon واقرأ عنه، فهناك آلاف الكتب عن الفوضى Chaos فضلاً عن وجود روايات – Roman Novels – عن الفوضى Chaos، فالعلم مُعقَّد جداً جداً جداً ودخل في كل شيئ مثل الطب والتشريح وعلم البيولوجي Biology والتاريخ وفي كل شيئ لأن الأمر لا يقتصر على الفيزياء فقط، والـ Chaos يقول لك “المُدبِّر هو الله، هو الفاعل الأوحد والسبب الأبسط لتفسير كل شيئ والهيمنة على كل شيئ المشيئة الإلهية”،هذا هو السبب الوحيد، أما بخلاف ذلك فيُعَد كلاماً فارغاً.
شيلر Schiller – مثلاً – قال لك “الذي يُفسِّر كل شيئ في التاريخ الإنساني الحب والجوع”، وهذا كلام فارغ، ماركس Marx قال “بُنى الإنتاج والاقتصاد هو صراع الطبقات”، وهذا كلام فارغ أيضاً لأنه يُفسِّر شيئاً ولا يُفسِّر مائة شيئ، تونبي Toynbee تحدَّث عن التحدي والاستجابة Challenge And Response لكن هذا يُفسِّر أشياء كثيرة ويفشل في أشياء أُخرى، فهكذا إذن كل واحد أتانا بنظرية واحدية ثم أعلن العلماء والفلاسفة على لسان هربرت ماركوزه Herbert Marcuse سقوط زمان التفسير الواحدي وقالوا “لقد سقط زمان التفسير الواحدي، وأصبحنا نحتاج إلى بناء نظريات مُعقَّدة جداً جداً جداً حتى نستطيع أن نُقارِب أي ظاهرة اجتماعية أو تاريخية إنسانية مُقارَبة معقولة نوعاً ما حتى نفهم.
وعلى كل حال الأغنية الأمريكية الشعبية تقول:
For want of a nail the shoe was lost.
أي بسبب فقدان أو ضياع مسمار ضاعت حدوة الحصان.
For want of a shoe the horse was lost.
أي بسبب ضياع حدوة الحصان ضاع الحصان طبعاً، ولم يستطع أن يُواصِل السير.
For want of a horse the rider was lost.
أي بسبب ضياع الحصان ضاع الفارس.
For want of a rider the message was lost.
أي بسبب ضياع الفارس – وهذا الفارس كان فارساً قوياً مثل ريتشارد قلب الأسد Richard the Lionheart – فقدنا الرسالة.
For want of a message the battle was lost.
أي بسبب فقدان الرسالة خُسِرَت المعركة.
For want of a battle the kingdom was lost.
أي بسبب ضياع المعركة ضاعت المملكة.
And all for the want of a horseshoe nail.
أي أن هذا كله حدث بسبب فقدان مسمار حدوة الحصان.
فمَن كان يُصدِّق أن مملكة تضيع بسبب مسمار؟!
يُصدِّق هذا المنطق الإيماني !
خطر لي قبل يومين بالضبط – أيها الإخوة – أن على المُؤمِنين والمليين ونحن – الحمد لله – في مُقدَّمهم – نحن المُوحِّدون ونحن الأمة الوحيدة التي تُوحِّد الله حقاً وتُنزِّهه لأن غيرنا يُوحِّد ويُثلِّث ويقول أن هذا يُعَد توحيداً لكن هم أحرار، أما نحن فنُوحِّد حقيقةً ونقول لا إله إلا هو ولا رب سواه ولا مُدبِّر إلا هو، ونحن حياتنا وموتنا وكسبنا وعملنا وظاهرنا وباطننا لله ربي العالمين وهكذا، فنسأل الله أن يُعمِّق هذه المعاني فينا وأن نحيا وأن نموت عليها أن يبنوا منطقاً – Logik Logic, – خاصاً للإيمان، ويُسمّى هكذا بمنطق الإيمان، لكن لماذا؟!
للأسف لأن بعض المُؤمِنين الآن من ضعاف الإيمان ومن بسطاء وعاديي الإيمان صار يهتز إيمانهم ويترجرج تحت شُبهات تطرأ عليهم وتُعرَض عليهم بإسم العلم وبإسم الفكر وبإسم الفلسفة، لكن ما دخل العلم في القضية الآن؟!
ما هو العلم أصلاً؟!
العلم يتعاطى مع المادة ويتعاطى مع الأشياء البسيطة ومع الأشياء الحسية الظاهرية، فهو لا يتعاطى مع الماوراء ولا يتعاطى مع الغيوب ولا علاقة له بهذه الأشياء، العلم يستطع إلى حد مُتواضِع وبائس – والله – أن يقترب من هذه الأشياء، والذي يقول هذا هو الـ Chaos، لكن العالم الذي لا يعرف الـ Chaos يقول لك “العلم جبَّار والعلم ديناصور Dinosaur والعلم ماموث Mammoth فهو رهيب ومُهيمن” وهذا غير صحيح، والذي درس الـ Chaos يقول لك “العلم أصبح مُتواضِعاً جداً جداً جداً، فهو مُصاب الآن بحالة احباطبسبب الفوضى Chaos هذه”، وطبعاً هذا صحيح لأن فراشة تضرب بجناحها في طوكيو من المُمكِن أن تُحدِث إعصاراً Tornado أو فيضاناً أو طوفاناً في نيويورك، وهذا شيئ لا يُمكِن أن يحسبه العلم أو أن يتحكَّم فيه، فهذه الفراشة وفقاً لـ Chaos من المُمكِن أن تُحدِث لك مُشكِلة في آخر العالم، ولذلك رب الفراش ورب الـ Chaos ورب الـ Tornadoes هو الذي قال وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ۩، لأن هذه حين تسقط مثل المسمار – Nail – الذي سقط قد تُسقِط مملكة.
البروفيسور Professor هرنشو Hernshaw كان أستاذاً كبيراً في النصف الأول من القرن العشرين وتتلمَّذت عليه أجيال في التاريخ وفلسفة التاريخ ومَن قرأ هرنشو Hernshaw يعرف هذا، عنده نظرية في فلسفة التاريخ يُمكِن أن نُسمّيها نظرية رأس الإبرة كما سمّيتها أو نظرية المسمار الساقط، قال هرنشو Hernshaw “بعناصر بسيطة جداً جداً جداً يُمكِن أن تُغيِّر مسيرة التاريخ أساساً وتحرفها تماماً، وهذه العناصر غير داخلة في الحُسبان، لا في حُسبان المُتنبيء ولا المُنجِّم ولا المُؤرِّخ ولا الإمبراطور ولا قائد الجيش ولا أي أحد”، لكن هذه العناصر تبقى في حساب المشيئة الإلهية إذن، قال الله – لا إله إلا هو – في كتابه الكريم وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ۩، فإذا كان هذا العلم وهذا تواضع العلم كيف يُمكِن أن نتوسَّل لغة العلم ومناهج العلم للحديث عن ما ينضبط به تصرّف الله؟!
كيف تُريد أن تضبط تصرّف الله وأنت لا تستطيع أن تضبط تصرّف الريح والطقس؟!
كيف تُريد أن تُلزِمني بإسم العلم الآن بمنطق ينضبط به تصرّف الله وتقول لي “هذا حكيم وهذا غير حكيم، وهذا عادل وهذا غير عادل، وهذا صحيح وهذا غالط ، وهذا أقبله وهذا أرده”؟!
ما هذا الهبل ؟!
هذا استهبال وكلام فارغ لا يقوله لا مَن عرف الفلسفة ولا مَن عرف العلم ولا مَن عرف الدين، ولذلك أنا سأُعطيكم مثالاً بسيطاً لأوضِّح لكم جوهر ما أقول:
الآن بحسب منطق العلم الإمبريقي الاستقرائي – Inductional – نفترض أنك دعوت الله بدعوة عجيبة ولبّاك الله فإنك سوف تقول “الله – لا إله إلا هو – موجود، سبحان الله”، لكن العالم سيمص شفتيه ويهز كتفيه وينُغِض رأسه ويقول لك: ما هذا الكلام؟!
كم مرة دعوت الله؟!
ستقول له “دعوته من المرات آلافاً”، سيقول لك: كم مرة لبّاك يا أهبل؟!
ستقول له “لباني في عشرين أو ثلاثين مرة من مائة ألف مرة”، ومن ثم سيقول لك ” في المنطق العلمي هذا يُعَد كلاماً فارغاً، لأن في المنطق العلمي يُوجَد شيئ إسمه الصُدفة Chance، هناك أشياء تحدث اتفاقاً وبالتالي يُمكِن أن أُفسِّر لك أحياناً ما وقع لك وأُثبِت لك أنه وقع بأسباب معقولة وليس بسبب أن الله في خارج الطبيعة أو فوق الطبيعة هو الذي لبّاك”.
علينا أن ننتبه إلى أن أول مَن أسَّس هذا المنطق الاستقرائي بهذه الأمثلة هو فرانسيس بيكون Francis Bacon صاحب الآلة الجديدة Novum Organum الآلة الجديدة، فبيكون Bacon يُسمّيه في المنطق الاستقرائي أوهام البحر، يقول فرانسيس بيكون Francis Bacon “يستغيثون بالأولياء والقديسين ويزعمون أنهم لبّوهم وأنقذوهم من الغرق، وأنا لا أُكذِّب هذا ولكن أتساءل فقط كم عدد أولئك الذين استغاثوا بيسوع وبالقديسين وبالأولياء والعذراء وابتلعهم الموج؟!
يُجيب بيكون Bacon “أضعافاً مُضعَّفة، ومن ثم المنطق العلمي يفرض علىّ ألا أُصدِّق مثل هذه الاستخلاصات التافهة”، فهو لا يُصدِّق أن يُقال له أن هناك ثمة إله أو أولياء استجابوا لأن هذا حدث مرة في حين أنهم لم يستجيبوا ألف مرة وبالتالي هذه صدفة ومَن يُصدِّق بها هو رجل أهبل، وهذا المنطق الاستقرائي الذي أسسه بيكون Bacon يُزلّزِل إيمان بعض الناس على الرغم من أنه يُعَد كلاماً فارغاً، فمنطق القرآن ومنطق الإيمان يختلفان تماماً عن منطق العلم، فهذا ليس منطق الاستقراء وإنما منطق الله تبارك وتعالى – إن جاز التعبير – ومنطق الإيمان والتسليم، وأنا وأنا سأقول لكم الآن كيف هذا لأن المسائل مُترتِّبة منطقياً.
في البداية هل تُؤمِن بالله أصلاً أو لا تُؤمِن؟!
إن كنت لا تُؤمِن قد كفيتنا التعب وانتهى كل شيئ، فلا مجال للجدال أصلاً.
نحن كمُؤمِنين نُؤمِن بالله، لكن كيف تعرَّفنا على الله؟!
لم نخلق الله ولم نخلق صورته، فهو الذي تعرَّف إلينا حين أنزل الكتب وأرسل الرسل وقال نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ۩، فمَن يقول أن الله مغفرة ومحبة وأنه يغفر حتى لهتلر Hitler وللمُجرِمين وللقتلة وللكفّار دائماً هو يكذب على الله، فالله عنده العذاب أيضاً وإن كان هو رحمة في الأصل، قال الله “إن رحمتي سبقت غضبي” وفي رواية “إن رحمتي تغلب غضبي”، لكن هناك غضب وانتقام، فنحن عرفنا الله إذن بحسب ما أخبر، ووجدناه – تبارك وتعالى – يُخبِر أيضاً أنه لا يُؤاخِذ الناس بظلمهم على سبيل الاستعجال والمُعاجَلة، وأخبرنا أنه لو أراد أن يُعاجِلنا بما كسبنا وأن يُعجِّل لنا الشر استعجالنا بالخير ما ترك ولا ورز عليها من دابة ولأهلكنا أجمعين من عند آخرنا، فهذا هو منطق الإيمان ومع ذلك نجد شخصاً يقف هكذا ويقول – أستغفر الله – كما قال مرة المسرحي الإيرلندي الشهير جداً والمُعمَّر جورج برنارد شو George Bernard Shaw حين كان شاباً مُلحِداً “لا إله، فهذه أسطورة وكلام فارغ، ومن ثم أنا أتحدى هذا الإله الآن أن يكسر يدي على هذه الطاولة، وسأُعطيه مُهلة عشرين ثانية”، وأخذ في العد له ولم يحدث شيئاً، فقلت هذا مسرحي كبير ولكنه أحمق ولا يفقه شيئاً من منطق الإيمان، فهذا المنطق لا يعترف به لا يهودي ولا نصراني ولا مسلم ولا زرادشتي ولا أحد مِمَن له علاقة بالدين، فالله لا يُعاجِل الناس بما كسبوا، لأنه لو عاجلنا بما كسبنا لفسدت واضمحلت حكمة الدين أصلاً وحكمة الخلق، لكن ما هى حكمة الخلق؟!
قال الله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ ۩.
والله العظيم من الابتلاء ما نراه الآن، بنو صهيون – مثلاً – يحتلون الأرض المُقدَّسة أكثر من ستين سنة أذاقونا فيها المرائر ولقينا منهم الألاقي وعذَّبونا واضطهدونا وسحقونا وأهانونا وحاصرونا ومنعوا عنا الطعام والشراب والغذاء والدواء، وهذا شيئ مُفظِع وفظيع، والعالم كله بأمم مُتحده ومجلس أمنه يقول “هؤلاء مُحتَلون، هذه أرض حزيران سبعة وستين وهى أرض مُحتَلة بما فيها القدس الشرقية والمسجد الأقصى الذي يُمثِّل مُشكِلة كُبرى اليوم، وما يحدث يُعَد ظلماً”، فالعالم يقول هذا والأمم المُتحدة إلى الآن لم تصدر قراراً إلى اليوم يُفيد بأن هذه أرض غير مُحتَلة ولكن إسرائيل لا تُبالي العالم ولا الأمم المُتحدة ولا مجلس أمن ولا العرب ولا المسلمين فضلاً عن أن تُبالي قانوناً أو أخلاقاً، فهى لا تُبالي أحداً وتفعل الأفاعيل، فكم قتلت من الأطفال الصغار؟!
كم يتَّمت؟!
كم أحرقت؟!
ماذا فعلت إسرائيل في الحرب الأخيرة في غزة؟!
فعلت فظائع ومع ذلك الله يُمهِلهم، وهذه فتنة قد يُلحِد بعض الناس بسببها ويقول لك “الله غير موجود، لأنه لو كان موجوداً لانتقم”، ونحن نقول له “يا أهبل بنو إسرائيل هؤلاء بالذات قتَّلوا الأنبياء والرسل قبل ذلك ولكن الله أمهلهم وعاشوا وطعموا وشربوا، لأن الله لا يستعجل كما تستعجل أنت، فالكل في قبضته ولا يُمكِن لأي أحد أن يهرب، فالسنة أو السنتان أو العشر سنوات أو العشرون أو الستون سنة بالنسبة لك تُعَد شيئاً كثيراً جداً لأن عمرك كله قد لا يتجاوز سبعين أو ثمانين بل وأحياناً لا يتجاوز الستين سنة وينتهى كل شيئ، لكن عند الله ستمائة بليون Billion وسبتليون Sptellon وجوجل Google سنة مثل أقل من الثانية عنده، ولذلك لا يعجل – لا إله إلا هو – وإنما قال لك هناك داران أو نشأتان، والله قال عن هؤلاء الجنس الخبيث وعن هؤلاء القتلة المُجرِمين وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ ۩”، وأنا أقول لنتنياهو Netanyahu وإسرائيل “والله العظيم عذابكم آتٍ بالقرآن الكريم، العذاب آتٍ آتٍ سواء كان سيأتي اليوم أو غداً أو بعد خمسين أو ستين سنة”، لكن أنا أعرف أن هؤلاء الكلام معهم ضائع، فهم ساسةٌ حمقى ومن ثم لا يستهدون بالتاريخ ولا يُؤمِنون بالآلهة، فهم لا يُؤمِنون بالله فقط بل لا يُؤمِنون بأي إله، هم ينظرون مواقع أقدامهم ويُريدون فقط الانتخابات، لأن لديهم عدد من الأوهام الحزبية الفارغة التي ستُغرِق المنطقة في حمام من الدم والعياذ بالله، والعالم ينظر ويسمع دون أي ردة فعل، إذن هذه فتنة وهذا ابتلاء، ولذلك الله لا يُعاجِل حتى تتم الحُجة على الكل وحتى يأخذ الابتلاء مجراه ومساره، قال الله لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۩.
الصحفي المصري أحمد زين ألَّف كُتيباً صغيراً إسمه رأيت الله حكى فيه قصة شاب مُراهِق من الشباب الذين يهتمون بكمال أجسام – Bodybuilding – في جامعة القاهرة وكان ماركسياً مُلحِداً – Atheist – فوقف يوماً في المُدرَّج لاستعراض عضلاته خاصة أمام البنات بالذات طبعاً وخلع قميصه وقال “أنا البطل، أنا القوي، أنا هرقل Hercules، وأنا أتحداك – أستغفر الله العظيم – إذا كنت موجوداً أن تصرعني”فمات من فوره، والله ما أكملها إلا وهو ميت، وجعلت البنات والنساء يصرخن ويصيحن والشباب يبكون ويصيحون الله أكبر، فألَّف الصحفي المصري الشهير رأيت الله وكتب هذه القصة أيضاً في لواء الإسلام، ومع ذلك قد يأتيك أجد الملاحدة ويقول لك “جورج برنارد شو George Bernard Shaw فعلها ولم يحدث شيئاً، إذن سأفعلها مثلما فعلها عشرات الآلاف ولن يحدث لي شيئاً”، لكن نحن نقول له “أنت جاهل بمنطق الإيمان، حين يفعلها الله ويُعاجِله نفهم نحن من هذا وفقاً قواعد ومباديء منطق الإيمان أنها بمثابة إشارة وتحذير وتنبيه من الله، فالله – لا إله إلا هو – يفعلها متى شاء للحكمة التي يشاء، وبالحري يكون قد أعطى هذا الشاب قليل الأدب قبل هذا ألف فرصة ولم يفترصها ولم ينتهزها، لكنه تعدَّى جداً وكان سيكون فتنةً أعظم على بعض مَن أراد الله لهم السعادة فقطع الله شرشه وعرقه كما يقولون”، إذن أنا أفهم هذه الواقعة على أنها تنبيه وأفهمها على أنها تحذير وأعتبر إن كنت من أولي الأبصار والبصائر، وهنا لا أحتكم إلى منطق الاستقراء ومنطق حالة واحدة إزاء عشرة آلاف حالة لأن هذا لا يُفيدني هنا، فهذا المنطق يعمل في المادة ولا يعمل في رب المادة ورب الكون لا إله إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه على آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
ولا ريب أن كلاً منا حين تأتيه منيته وتدهمه ساعته سيُدرِك أن الزمن في منظور كُلي القدرة والقُدر – لا إله إلا هو – ليس كالزمن في منظورنا، ويوم القيامة سوف يتكرَّر الفصل نفسه، تقول الآية الكريمة قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ ۩، وهذه الآية لا تتحدَّث عن المُدة التي لبثت فيها أنا والتي قد تصل إلى سبعين أو ثمانين سنة وإنما عن المدة التي لبث فيها الجنس البشري كله، فنسأل الله ألا نكون من النادمين ونسأل الله ألا نكون من الخاسرين ونسأل الله ألا نكون من الذين يطلبون الإنظار والتأجيل بل من الذين يحرصون على لقاء الله فتأتيهم البُشرى من اللهِ على لسان أملاك الله فيستبشرون، فهم يُحِبون لقاء الله وهو يُحِب لقاءهم، فاللهم اجعلنا منهم. اللهم آمين.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (26/3/2010)
زادك اللة علما
لغة لا تستوي عبارة نفسي الخاطئة ونفسي المخطئة فالخاطئة تعلم الخطأ وتصر على ارتكابه
لغة آسرة ماشاءالله