إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى من قائلٍ – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۩ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ۩ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ۩ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ۩ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ۩ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ۩ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ۩ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ۩ وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩، لماذا؟ عَلَلَ فقال جل من قائل إِنَّ الشَّيْطَانَ – أي لأن الشيطان – يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۩، إذن عَلَلَ تبارك وتعالى من مُعلِل لأمره بقول الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بقوله لأن الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۩، والنزغ في الأصل هو الطعن والضرب بسرعة، ثم استُعير لما يحصل به إفساد العامر خاصة في العلاقات بين البشر كما قال الكريم ابن الكرماء يوسف – عليه وعلى آبائه الصلوات والتسليمات – مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ ۩ أي أفسد ما بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۩، فهذا هو النزغ، ثم قال تبارك وتعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، فعَلَلَ للعلة، لماذا ينزغ الشيطان؟ لماذا يحرص اللعين على أن ينزغ بين عباد الله؟ علل للعلة بعلة، وعلة العلة علة كما في قواعد الأصول، فعلة العلة علة، وكأن هذا الأمر وهذا الإلطاف الرباني الجليل بنا وهذه الدعوة إلى أن نقول الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩ مُعلَلة بعليتين لا بعلةٍ واحدة، لأن علة العلة علة، فإذا أردت أن تحافظ على ما بينك وبين أحبائك وأودائك ومعارفك وزملائك عليك أن تسير في هذه الخطة الإلهية، أن تقول الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩،لماذا؟ لأن الشيطان عدو لك، لأن الشيطان عدو مُبين ظاهر بيّن جلي العداوة لك، ومن مصلحته التي جعل وكده من أجلها أن يُفسِد بينك وبين أودائك وأحبابك وإخوانك وبينك وبين أهلك وبين الزوج وزوجته وبين الأب وأولاده وبين الأم وأولادها وهلم جرا، طريقته – لعنة الله تعالى عليه – التي يجري على سننها قائمة على الإفساد والتخريب والتدمير، بخلاف طريقة المؤمنين وطريقة النبيين والمُصلِحين من ورائهم التي تقوم على الإصلاح وعمل الصالحات، فكم في المرء من حظ للشيطان وكم فيه من حظ للرحمن؟ هذا السؤال يُجيب عنه كلٌ في نفسه، مهما عظمت داعية الصلاح والإصلاح في نفسه فهو رحماني نبوي، ومهما غلب عليه الأبعد – والعياذ بالله – الإفساد والرغبة في الإفساد والتخريب فهو شيطاني شاء أم أبى وعرف أم لم يعرف، فهذان سبيلان لا يلتقيان وخطتان متوازيتان على ما يُقال، إذن قال الله إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۩ وقال أيضاً إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، فنسأل الله أن يكفينا شره وشر شيطانين الإنس والجن جميعاً؟
إخواني وأخواتي:
هذه الخُطبة صلة بالخُطبة الماضية، وقد عدتكم أن أواصل الحديث فيها عن التواصل وخاصة التواصل الناجح الصالح العاطفي كما يُسمى في علم النفس بين البشر، أي بينك وبين الآخرين، والتواصل عموماً بين الناس في مُجمله ليس بناجح وليس بجيد، ومن هنا المشاكل الكثيرة، وحين ينعدم هذا التواصل العاطفي الجيد الناجح بين الأزواج يحدث الطلاق، وقد أشرت في الخُطبة السابقة إلى أن انعدام التواصل الناجح الفعال يقف في قائمة بل في رأس الأسباب وراء الطلاق، ففي رأسها عدم التواصل،وأحياناً يكون السبب الأوحد، فيما عدا هذا السبب كل شيئ على ما يرام، الزوج ليس فيه ما يُعاب في دينه وخلقه وجماله وربما في حالته المادية، والزوجة طيبة وفية دينة جميلة وصينة، وبينهما أولاد فلماذا الطلاق؟ بسبب التواصل ومُشكِلة التواصل، وفي الأعمال – الـ Business كما يُقال – وفي التجارة أيضاً في رأس الأسباب وراء إخفاق وإفلاس الشركات وتدني دخولاتها عدم التواصل الجيد بين المُدير والمُوظَّفين والعمال وبين المُوظَّفين وبين الجمهور وبين الزبائن كما يُقال، فهذا كله بسبب عدم التواصل الجيد.
في تجربة لافتة ولطيفة جداً صممها مجموعة من علم النفس وأجروها تبيَّن أن النُدل – أي الـ Waiters أو الـ Kellner، جمع نادل وهو الذي يُخدم على الناس في المطاعم والفنادق وما إلى ذلك – الذين يتواصلون جيداً مع الزبائن ومع العملاء كما يُقال – كلمة العملاء طبعاً في الحس العربي المعاصر سمعتها سيئة، فالعميل تعني لديهم Spy، أي الجاسوس، لكن العملاء هنا يُراد بها Clients، أي الزبائن – زاد بقشيشهم بنسبة خمسين في المائة، لكن كيف؟ بسبب سر بسيط وكلمة مفتاحية بسيطة، فهذا النادل – أي الـ Waiters أو الـ Kellner – يُحاكي طلبات الزبون وتعليقاته فقط، لكنه يكون مُتبسِماً طبعاً ولطيفاً، فمُهِم جداً التبسم في وجوه الناس، ثم يُحاكي طلباتهم وتعليقاتهم، فالزبون يقول – مثلاً – فراخ مشوية، فيقول له نعم فراخ مشوية، وحين يُقال له هل صحيح الفراخ مشوية جيدة؟ يقول جيدة جيد جداً يا سيدي، أي أنه يُحاكي تعليقات الزبون، وإذا علق بعد ذلك وقال كان هذا ممتازاً، فإنه يقول له بالفعل يا سيدي كان ممتازاً، أليس كذلك؟ أنا سعيد بها، أي حين تُعلِّق وتُكرِّر يزيد البقشيش بنسبة خمسين في المائة، وهذا أمر عجيب، إذن من المُمكِن أن يفلح هذا أيضاً مع الأستاذ في الجامعة وبين الزوجين وبين الأصدقاء!
أحد علماء النفس وهو في الحقيقة الشريك لأندريو نيوبرغ Andrew Newberg في تأليف كتابه الذي ذكرته في الخُطبة السابقة – Words Can Change Your Brain – لأن هذا الكتاب طبعاً مُشترَك يقول كلما أتيت إلى ناشري -My publisher – بكتاب أو مسودة كتاب يثني علي يقول ممتاز، هذا التقسيم ممتاز جداً، فكل شيئ ممتاز لكن أقترح لتحسينه كذا وكذا، ثم قال دائماً أنا ألقي إليهم مقادتي، وأقول هذا صحيح سوف نفعل هذا، ثم خطر لي أمراً فسألته مرة قائلاً يا فلان هل تعني بجد ما تقول؟ قال لا أدري، لكنه أسلوب ذكي من راجل ليس عالماً في علم النفس لكنه ينشر لعلماء النفس، فمن الأفضل دائماً أن تُجامِل الناس وأن تُلاطِف الناس وأن تُحاكي ثقتهم بأنفسهم وأن تُحاكي مزاجهم، فمن المُؤكَّد أن الذي ألف كتاباً وضع فيه جهده كله تقريباً، خاصة الأجانب حقيقةً، لأن عندهم مصداقية وخاصة – مثلاً – العلماء الكبار على مستوى العالم الآن، فالواحد منهم لا يضع كتاباً هكذا ولا يضع سمعته على المحك كما يُقال، هذا مستحيل وإنما يُفرغ تقريباً كل جهده في كتابه، فإذن هو عنده تحيز يُعرَف بتحيز الإيجابية positivity Bias، وتحيز الإيجابية يعني أن ينظر المرء إلى نفسه نظرة إيجابية، فيقول أسلوبي جيد وتأليفي ممتاز وخُطبتي جيدة، ونحن كلنا تقريباً لدينا هذا التحيز الإيجابي إلا طبعاً المصابون بعقد النقص والمشاكل، فهذا شيئ ثانٍ، لكن عموماً الإنسان لكي يتعايش مع نفسه ويعيش لابد أن يكون لديه تحيز الإيجابي، فانتبهوا إلى أن هذا التحيز وإن كان فطرياً فينا وللثقافة طبعاً دور فيه كبير إلا أنه جيد وخطير أيضاً، فمثلاً أن تخرج وتقول بعد هذه الخُطبة أنا لا أحتاج إلى موعظة من هذه الخُطبة لأنني مُتواصِل جيد يعني أنك ستفشل،عليك أن تكون دقيقاً ومُستبصِراً وتقول هذا لم أكن أعرفه وهذا لا أُطبِّقه، أنا أُطبِّق العكس تماماً ومن ثم سأستفيد، فهكذا تتقدَّم وتزدهر، لكن إذا كان يغلب عليك تحيز الإيجابية وكنت أستاذاً في كل شيئ لن تتعلم أي شيئ، من لم يرى من نفسه النقصان فكل أوقاته نقصان، فانتبهوا إذن إلى هذا، ولذلك يقول إمامنا الشافعي – رضوان الله عليه – ما جادلت أحد فقبل الحق مني إلا اعتقدت مهابته، هذا رجل يُهاب، لأنه رجل يزدهر باستمرار ويتقدَّم، لن تجده بعد عام كما هو الآن، سوف تجده أكبر بكثير لأنه متواضع للحقائق، فهو يتعلَّم ويعرف قدر نفسه، رحم الله امرءً عرف قدر نفسه، فجميل جداً أن نُدرِك النقص فينا أيضاً وأن نعترف بهذا وأن نستبصر به بشكل واضح من غير تردد ومن غير جمجمة حتى نتقدَّم إن شاء الله تعالى، ولن نصل إلى الكمال – الكمال لصاحب الكمال على كل حال وإن كان كَمُلَ من الرجال الكثير، فاللهم كملنا بما تُحسن به إلينا في الدنيا وفي العقبة، اللهم آمين – إلا بذلك.
إذن على المستوى العائلي وعلى مستوى التجارة وعلى مستوى العلاقات دائماً التواصل السيء هو سبب الإخفاق وسبب النكبات وسبب الخيبات، وله أسباب كثيرة ربما ذكرت أو ألمعت بإشارة سريعة في الخُطبة السابقة إلى عددٍ منها، مثل الإنهاك أو الإجهاد أو التعب – كما قلت – ومثل المرض ومثل النشوء أو النشأة في عائلة مهارات التواصل فيها رديئة وضعيفة، وأيضاً التقدم في السن له دور، فأحياناً يلحظ المرء أن كبيراً في عائلته ربما يكون هو أباه أو عمه أو جده كان قبل عشر أو عشرين سنة أكثر لطفاً وأحسن تواصلاً وأكثر مجاملةً لكنه الآن ينفعل على أشياء بسيطة وينفجر أحياناً ويصرخ، وكما نقول بالعامية يُحدث لنا الكسوف، أي أنه يكسفنا ويكسر بخاطرنا، وهذا طبيعي لأن هذا من نتائج التقدّم في السن، والتقدّم في السن طبعاً له أضرار إتلافية وإعطابية حتى على مستوى الشبكات العصبية في الدماغ، فهو له أضرار إتلافية ومن ثم تُضرَب هذه الشبكات شيئاً فشيئاً، فتصبح مقدرة الشيخ الكبير على التواصل ضعيفة وتتراجع للأسف الشديد، لذلك يُصبِح نزقاً ويندفع أحياناً ويطيش فيثور ثورات إنفعالية غير مُبرَرة، لكن المسألة هنا دماغية عصبية، وأيضاً من الأسباب المهمة غير التقدم في السن والمرض والإنهاك والنشوء في العائلة بمهارات تواصل ضعيفة أو رديئة أن كلاً منا مُتفرِّد Unique، فكلٌ منا نُسخة ليس لها ضريع من كل الوجوه، لكن من بعض الوجوه قد يحدث هذا طبعاً، فنحن بشر ونتشابه كثيراً مع بعضنا، لكن من كل الوجوه أنا مُتفرِّد وهو مُتفرِّد وهى مُتفرِّدة، وكل واحد فينا عالم قائم بحياله، حتى التوأمان المتطابقان سينفصلان بعد ذلك ليكتسب كل منهما شخصية مُتفّرِدة، هل تعرفون لماذا؟ لأننا أبناء معمار تواصلي بدرجة مُخيفة وهو الدماغ، فالدماغ أصلاً بنية أو معامر تواصلي مُدهِش مُكوَن من خمسة وثمانين بليون خلية عصبية – عصبونات Neurons – بمعنى أنه مُكوَّن من خمسة وثمانين مليار كما يُقال هنا بالألماني، والمليار عشرة أس تسعة، وهذا شيئ مُذهِل، وهو مُكوَّن من خمسة وثمانين مليار خلية دِبْقيّة أيضاً، وهذا أمر عجيب، يعني يُوجَد ما يقرب من مائة وسبعين مليار خلية في الدماغ، ويقول علماء الأعصاب أن كل خلية من هذه الخلايا بمثابة عقل قائم بحياله، وهو طبعاً عقل مُصغَر، أي عقل نووي صغير جداً، لكنها عقل في نهاية المطاف على مستواها، وهذا أمر عجيب، وترتبط وتنفصل على الدوام ببعضها البعض – هذه بهذه – ثم تنفصل لترتبط بأخرى في كل دقيقة، فما هذا؟ ولذلك يقول علماء الأعصاب لا يوجد في العالم فردان على الإطلاق -البتة – يتطابقان في التشبيه العصبي الدماغي من كل وجه، هذا مستحيل، كل منا بنية مُختلِفة مُتفرِّدة، ثم يقول العلماء أيضاً – هذا الخبر السار – أن هذا هو أحد أسباب وأسس الإبداع، لماذا الإبداع؟ لماذا خطر لنيوتن Newton ما لم يخطر لكل علماء عصره؟ لأنه بنية مُتفرِّدة فقط، هذا حظه – نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ۩ – فكل مُيسَّر لما خُلِق له، هنا المسألة فيها خلقية وفيها فطرة، كيف فُطِر؟ كيف خُلِق؟ كيف رُكِّب؟ كيف بُنيَ؟ هذا الخبر السار المُتعلِّق بالإبداع، لو كان كل منا كالآخر تماماً لما وُجِدَ الإبداع، لأن الذي تُفكِّر فيه سأُفكِّر فيه والذي تعرفه سأعرفه والذي تصل إليه سأصل إليه، فلن يكون هناك أي إبداع والحياة تصبح غير جميلة ومُنمَطة، أي حياة واحدية ليس فيها إبداع، لكن الخبر السيء أن هذا التشبيك العصبي المُتفرِّد وهذه البنية المعمارية العصبية المُتفرِدة أيضاً هى سبب الفشل والأفشال التواصلية بيننا، لماذا؟ لأن كلاً منا يُدرِك الأشياء ويفهم الأشياء نسبياً من منظور مُختلِف وبطريقة مُختلِفة، فكيف إذا اختلفت الثقافات؟ كيف إذا تباعدت وتناءات الدارات أو الدوائر الحضارية؟ هذه مُشكِلة كبيرة ولذلك يُقال نحن نُنمذِج العالم لغوياً، لكن في الوقت نفسه نحن نعيد اكتشاف العالم ونتعامل مع العالم بطريقة مُتفرِدة تبعاً لهذه النمذجة اللغوية، ونحن ذكرنا بجملة واحدة فقط – وهذا إخلال كبير – العلاقة بين الفكر واللغة في صدر الخُطبة السابقة، ولذلك سوف نأخذ – مثلاً – شيئاً يتعلَّق بالأخلاق، حيث كانت هناك فكرة انطباعية مُضلِلّلة وزائفة إلى حد بعيد لدى العرب – لا أدري هل سائر المسلمين كذلك أم لا لكن على الأقل هذا لدى جماهير العرب وخاصة في العقود السابقة، الآن ربما اختلف الأمر بحكم التواصل وبحكم التثاقف وبحكم السفر وبحكم الشبكة العنكبوتية و بحكم أشياء كثيرة، فمن المُؤكَّد أن الوضع اختلف وحدث انزياح في هذا الانطباع المُضلِل الزائف – عن أن الغربيين كالأوروبيين أو الأمريكان أو الأستراليين شعوب غير أخلاقية، أليس كذلك؟ حتى في كتابات المُفكِّرين الإسلاميين كان يُقال عنهم أنهم ليس لديهم الروح كما ليس لديهم الأخلاق، لكن نحن لدينا الروح ولدينا الأخلاق، هم لديهم العلم المادي والمادة فقط والتقنيات، ونحن ليس لدينا هذا لكن لدينا الأخلاق، وهذا أمر عجيب، فكيف هذا؟ لأننا نفهم الأخلاق فهماً يخصنا، والعالم كله يعرف الأخلاق ويتكلَّم عن الأخلاق، وأكثر الناس الذين كتبوا في فلسفة الأخلاق الآن هم الغربيون وليس المُسلِمين، وكتبوا كتابات عميقة جداً جداً وشديدة التعقيد وشديدة العمق وبعيدة الغور، فالغربيون فعلوا هذا وخاصة رجال الفلسفة ورجال اللاهوت أيضاً، وعلى كل حال كيف هم غير أخلاقيين؟ لأننا لدينا منظور خاص بالأخلاق يكاد يحصرها في العلاقة بين الجنسين، تماماً كمفهوم الشرف، فالشرف ليس شرف الكلمة وليس شرف الموقف، لكن يُراد بالشرف شرف العرض فقط بالمعنى الحسي المعروف، فهذا هو الشرف ولذلك هذه هى الأخلاق، والحمد لله ليس لدينا شذوذ وليس لدينا زنا ولا نُمارِس هذه العلاقة خارج مؤسسة الزواج ومن ثم نحن أخلاقيون، لكن أين الأمانة؟ حين تأتي في الغرب تندهش، أين النظافة؟ حين تأتي في الغرب تندهش، أين الدقة في الموعد واحترام المواعيد؟ أين اتقان العمل؟ أين الرحمة بالضعفاء؟ طبعاً أجدني مُبهظَاً مُثقلاً إن لم أفه بالتعليق الذي سوف أقوله الآن مع أن لا مناسبة له، وهذا من سيئاتي في الحديث لكن تغلبني هذه الطبيعة أو هذا التطبع، فالنمسا نحن نحييها والعالم كله يحييها الآن، النمسا من بين الدول الأوروبية فضلاً عن غيرها ضربت مثالاً يُحتذى به، وهو مثال مُشرِف جداً جداً جداً لكنه كان مُخزياً لأناس ومُحزِناً، وكان مُفرِحاً أيضاً لنا ولأمثالنا الذين نعيش هنا في النمسا، حيث تُوجَد حالة من التعاطف ومن الدعم ومن المُساعَدة مع اللاجئين السوريين – فك الله غربتهم وأعاد إليهم بلادهم مُوحدَةً عزيزة آمنة مُطمئنة – وهذا شيئ مُذهِل ومُحير ومُبكي والله، وهو – كما قلت لكم – مُخزِنٍ لأناس آخرين، شيئ عجيب ما قدَّمه النمساويون هنا من غير المسلمين، أكثر بكثير فيما يبدو لنا وفيما نلاحظ ونراقب مما قدَّمه المسلمون، وطبعاً المُحزِن أن من هؤلاء اللاجئين مَن يُبَزنِس باللاجئين أنفسهم، فيشتري التذكرة -Ticket – مثلاً بمائة يورو Euro ويبيعها لهم بألف – مثلاً – لوجود زحمة وعدم وجود أمان، وهذا أمر عجيب جداً جداً ، وهو مُهاجِر مثلهم في حين أن النمساويين يقتطعون من أفواههم ومن أرزاقهم ومن أوقاتهم من أجل السوريين، ومنهم الأطباء والممرضون بل ورأينا رجال فن ومزارعين وإلى آخره من جميع الطبقات، والآن -والله – وأنا أتكلَّم شعر بدني وقف وأقسم بالله على هذا، أليست هذه أخلاق؟ أليست هذه إنسانية؟ أليست هذه رحمة؟ هذا كله غير داخل في منظور المسلم العربي للأخلاق ، يقول لك هم يحتضنون بعضهم في الشوارع وربما فعلوا ما هو أسوأ من هذا فإذن هم غير أخلاقيين، فمنظورنا للأخلاق حين نتكلَّم عن الأخلاق هو منظور حصري ومنظور مُقزَّم ومُقزِّم، ولذلك حين يأتي العربي لأول مرة إلى أوروبا لا يرى شيئاً يسره، يقول أناس لا أخلاقيون وأعوذ بالله يا أخي منهم، هم يحتضون أنفسهم وربما فعلوا أشياء عجيبة فأعوذ بالله، لأنه يرى الموضوع من هذه الزاوية فقط ولا يرى مظاهر اللطف مثلاً، فالناس هنا ليسوا عصبيين وليسوا في حالة نرفزة وإنما في حالة هدوء ولديهم دائماً الابتسامة، فمَن نظر إليك يتبسم في وجهك مثلاً، حيث يُوجَد هدوء ويُوجَد أدب ويُوجَد احترام، وتندهش كيف يرتادون وكيف يختلفون إلى أماكن مختلفة وكيف يستقلون – مثلاً – وسائل المواصلات بنظام وبهدوء وبترتيب، فيُقدِّمون الضعفاء والحامل والشيخ الكبير ويُساعدونهم، حتى المرأة المُحجَبة يحملون معها عربة الطفل، وهذه مظاهر جيدة جداً لكن هذا كله لا يراه، لأنه يرى العالم من خلال زاوية ضيقة فقط.
حين تقول مثلاً لفتاة أنتِ جميلة، في الغرب الأوروبي هنا هذه تعتبر جملة من جمل المجاملة Compliment، وهى جملة مُحبَبة، أليس كذلك؟ فهذا لطف حين تقول أنتِ جميلة، لكن ربما في ثقافات أخرى تُعتبَر نفس الجملة ونفس العبارة انتهاكاً للشخصية، في حالات مُعيَّنة حتى في الغرب قد تعتبر انتهاكاً وخاصة من طرف سيدة تعرضت لمحاولات انتهاك جنسي، فهى تكره هذه الكلمات وتكره من يبادرها بمثل هذه الكلمات، وهذا شيئ طبيعي، لأن هنا الظرف الخاص.
في الثقافة الكونفوشيوسية الصينية الآن – في الصين – انتبهوا وحاذروا، فأقول للرجال ممنوع أن تقولوا لأي امرأة أنتِ جميلة أو أنتِ حسنة، هذا ممنوع لأن هذه تُعتبَر عبارة غير بالغة في التهذيب، أي عبارة وقحة لأن الثقافة مُختلِفة، فإذن المسألة لا تتعلَّق بالكلمات فقط، لكن الكلمات والثقافة، الكلمات والدلالات العميقة، والدلالات ليست معجمية وهذه هى المُشكِلة، فالآن طبعاً واضح أن ليس لدينا مُعجمات – Dictionaries – ثقافية تأتي بالعبارات ثم بدلالتها الثقافية، وهذه ستكون طبعاً مُعجمات ضخمة جداً جداً، لكن الدراسات الأنثروبولوجية تقوم بهذا الدور، فعلينا أن نلجأ إليها وأن نستنجد بها، لكن المُعجمات غير موجودة، طالما أنت فقط اعتمدت على المُعجم وعلى خلفية ثقافتك لابد وأنك ستفشل، إذن ستفشل مع الآخرين مرةً ومرة حين تتواصل معهم، لذلك التواصل ليس فقط مسألة كلامية، والعجيب أن العلماء المُتخصصين في هذا الحقل ينبهون على أن دور الكلمات محدود في التواصل بغض النظر مهما كانت جميلة ولطيفة، فهو محدود جداً، وما هو أثقل وأرجح في الميزان من الكلمات الكيفية التي تُقال بها الكلمات والسياق والتلميحات غير اللفظية Non-Verbal Cues، ومن هنا مثلاً قد تُقال عبارة لطيفة لكن ضمن تلميحات عنيفة فيحدث إرتباك لدى المُستمِع، مثل شخص قطب جبينه كما يُقال وضغط على عضلات وجهه فشدها يقول لك أنا أحبك جداً وأحترمك، هنا يحدث لديك إرباك عصبي، وهذا يُسمونه Neural dissonance، فكلمة Dissonance تعني إرباك أو تنافر، ولذا هذا إسمه التنافر العصبي، وفي دوائر الاستخبارات العالم ثالثية طبعاً وليس هنا في الغرب يحدث هذا، ونرى هذا في الأفلام المصرية وغيرها، حين يغضب طبعاً رجل المباحث المُحقِق ماذا يقول للضحية – المقبوض عليهم دائماً ضحايا مساكين طبعاً، وحتى لو كانوا مُجرمين هم ضحايا لأن كم العقاب والأساليب في استخراج المعلومات تُعَد شيئاً مُخيفاً ومُرعِباً ولا يتناسب مع الخطأ – إذن؟ يقول له وهو يضحك ويفتر عن ابتسامة لئيمة جداً “يا روح أمك إذا لم تقل لنا الشيئ الذي نُريد أن نسمعه والحقيقة سوف ترى يا روح أمك شيئاً حلواً جداً وشيئاً فظيعاً جداً”، فهو يقول له سوف ترى شيئاً فظيعاً جداً- مثلاً – لكنه يتبسم، وهذا يُحدِث للإنسان حالة من التنافر العصبي Neural dissonance، ولذلك قال الحكماء لدينا في التراث الإسلامي البسيط الفطري الإنساني مَن كان آمراً بالمعروف فليكن أمره بمعروف، فإذا تكلَّمت عن الحب لابد أن تتكلَّم بحبٍ عن الحب، لا تتكلَّم بكره وأنت تتكلَّم عن الحب؟ ولذا أنا سجلت ذات مرة ملاحظة وسأعيدها من باب النصح لإخواني المسلمين لأنني أحب كل المسلمين، فقد قلت ذات مرة لإخواني الشيعة أنني لا أستوعب وأحس بتنافر – الآن وجدنا المصطلح العلمي وهو التنافر العصبي حيث يُوجَد شيئ مُتنافِر وشيئ غير مُتسِق – أن تُحدِّثني عن أخلاق البيت عليهم السلام -ونحن من أشد المُعجَبين والمُحِبين لهم عليهم السلام جميعاً – وأخلاق البيت في قمتها كالحب والرحمة والتسامح والإغضاء والكرم – وهذا معروف ما شاء الله من تاريخهم – لكنك تُحدِّثني عن هذا بكره شديد وأنت تلعن الآخرين وتسب الآخرين وتُحرِّض على الآخرين وتتحدَّث بلغة الثأر، هذا أمر عجيب، عن ماذا تتحدَّث؟ أنت تتحدَّث عن الحب وعن أخلاق أهل البيت، وهذا الحديث لا يليق بأهل البيت ولا بأخلاق أهل البيت، هذا الحديث من الناحية التواصلية فاشل وخائب، هو يُغذي فقط مَن نشأ عليه وانضوى على هذه المشاعر مِن الكره واللعن والانفصال عن الآخرين، لكن لا يُمكِن أن أستفيد منه أنا السني أو هو السني أو هى السنية، لن نستفيد من هذا بل سيغضبنا وسيُحزِننا.
إذن مَن تكلَّم ليأمر بمعروف ليكن أمره بمعروف، فلابد من الانتبها إلى الكيفية حتى لا أطول عليكم والموضوع مُشتبِك جداً وفيه عناصر كثيرة ولا نُريد أن نُطوِّل، فنبدأ نُلملم أطراف هذا الموضوع، حيث يدخل في الكيفية أشياء تمهيدية، يقول ابن عباس لجليسي علي ثلاث، وأول الثلاث قال أن أرمقه ببصري إذا أقبل، فأي إنسان يُريد أن يزورك أو يُريد أن يسألك أو يُريد أن يُفضي إليك بشيئ عليك أولاً قبل أن يأتي وقبل حتى أن يُسَلِم ويطرح السلام أن تستقبله بالنظر إليه، كأنك تقول له أنا مُبتهِج وأنتظر هذا اللقاء لذا أنا سعيد به، ولك أن تتخيَّل هذا، لكن مِن أين تعلَّم ابن عباس هذا؟ من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – طبعاً، والرسول كان أكثر من هذا، حين كان يأتيه أحدهم ليصافحه لا يدع يده، فالنبي يُعطيه يده ولا يدعها حتى يكون الآخر هو الذي يدع يده من يد رسول الله، أرأيت وصل الأمر إلى أي درجة؟ وهذه بداية جميلة جداً جداً جداً، بعد ذلك يأتي التبسم، حين تتكلَّم معي وأتكلَّم معك تتبسم في وجهي من بداية السلام، وأثناء الحديث تتبسم أيضاً، فالنبي كان يفعل هذا، وهذا الآن من أعلى ومن أهم الأشياء في المهارات التواصلية، وهذا أصبح علماً الآن، علماً بأن الموعظة اليوم لم تعد حكراً على رجال الدين وعلى علماء الدين، ألا ترون أن المواعظ أيضاً لها جانبها العلمي؟ هى لها جانب علمي تجريبي وهذا يعطيها مصداقية أكثر، إن صح أن تُسمى طبعاً بالمواعظ، وبالمناسبة حتى كلمة Cues – أي تلميحات – معناها موعظة ، هكذا ككلمة واحدة، فكلمة Cue تعني تلميحة وكلمة Cues تعني تلميحات، لكن Cues وحدها تعني موعظة، فهناك مواعظ علمية وهى مواعظ تستند إلى أبحاث وتجارب علمية وهذا يعطيها مصداقية، وهذا الآن سيعطي هذه الآداب النبوية مصداقية أعلى عند مَن يُؤمِن كثيراً بالعلم ويثق كثيراً بالعلم، وحُقَ له فالعلم مصدر موثوق عموماً، هو مصدر موثوق بلا شك وغير مُتحيز وغير أهوائي، وعلى كل حال النبي – عليه الصلاة والسلام – كان كثير التبسم، فكان يستقبل الناس بالابتسامة الحانية اللطيفة الودودة، وسوف نرى هذه الابتسامة الآن، وهى تُسمى ابتسامة المليون دولار، فالنبي كان ماهراً جداً فيها، وهذه فطرة عن صدق ومن ثم كان يفعل هذا بحرارة، لأنه صادق – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حبه للناس.
في مُسنَد الإمام أحمد تقول أم الدرداء – رضيَ الله تعالى عنها وعن زوجها الصحابي الجليل – كان أبو الدرداء إذا حدث احداً بحديث لا يزال يتبسم، أي أنه طوال الحديث يتبسَّم، قالت فقلت له ليقول الناس عنك أنك أحمق، أي أنها قالت له ما هذا؟ هل حالتك الدائمة هى التبسم؟ سوف يظن الناس أنك أُصيبت بالهبل، لماذا تفعل هذا دائماً؟ افعل هذا مرة واتركه مرة، وهى قالت هذا لأن عربية، فالعادات العربية مُختلِفة، العرب عندهم توقر ورزانة وعندهم أشياء مُعيَّنة خاصة بهم، والنبي قطع مع أشياء كثيرة وقال لهم لا، لأن النبي عنده شخصية ربانية و الله صاغه صياغة غير طبيعية، فالله صانه وأدبه من هذا، وهذا معنى أدَّبني ربي فأحسن تأديبي، وإلا مِن أين أتى بهذه الأشياء؟ مَن الذي علَّمه هذا في هذا المُجتمَع الصحراوي الجلف الغيظ الجافي والمُخيف؟ هذا مُجتمَع أبي لهب وأبي جهل لكنه مُجتمَع أيضاً أبي بكر وعليّ وعثمان وعمر، فقال كلا لا تقولي هذا، ما رأيت – يقول الراوي أو قال ما سمعت – رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يُحدِّث حديثاً إلا تبسم، أي أنه قال لها هذا أدب تعلَّمته من نبيي، فهو كان دائماً ما يتبسم، فالآن هل هو يضحك أم يتبسم؟ يتبسم وليس يضحك، يُوجَد فرق كبير بينهما، وفي الحديث المشهور وكان جُلُّ ضحكه التبسم، فالنبي من النادر أن تراه ضاحكاً بحيث تبدو أنيابه ويخرج له صوت، هذا نادر جداً، من المُؤكَّد أن هذا حصل إذا وُجِدَ موقف مُعيَّن أو نكتة كبيرة تستحق هذا وطبعاً الناس يستريبون، فهذا يحدث إذا أُطلِقتَ نكتة كبيرة من الحجم الثقيل والعيار الثقيل فتُضحِك، وأحياناً هذه النكتة تُسخسِخ الإنسان كما يُقال بل منهم مَن يُغمى عليه فلا يُمكِن أن يكتفي في هذه الحالة بالتبسم لأن الناس سوف يشكون فيه، سوف يقولون ما له؟ هل هو خلف خلاف؟ هل هو غير كل العالم كله؟ كلنا ضحكنا وقهقنا وهو يبتسم فقط، لماذا؟ أهو مُعقَد؟ فالنبي أحياناً كان يضحك وتبدو لهواته وتبدو نواجزه وأنيابه، لكن معظم ضحكه اتبسم، وهذه خلفها سر لطيف الآن سأكشف عنه النقاب، علماء النفس الذين يتحدَّثون في هذه الموضوعات بالذات يقولون البسمة الحانية التي ترسل رسالة ودودة إلى الآخرين وتعظم لديهم الثقة فيك وتفهمهم أنه لا ضرر منك والمُنتظَر منك خير وسلام هى الابتسامة التي تكون نصف ابتسامة، أي لا تظهر الأسنان، وهى ليست الابتسامة العريضة، باختصار مثل ابتسامة الموناليزا Mona Lisa، فهذه ابتسامة لديها القدرة على تعزيز اللطف في نظرة العينيين، أما الابتسامة العريضة التي تُبرِز الأسنان فهذه يقول عنها العلماء المُختصون أنها في الغالب تُخفي وراءها إما مشاعر خوف أو غضب، وفعلاً يُقال هذا يضحك قهراً أو هذه ضحكة مقهور فعلاً، فالإنسان يبكي من القهر ويضحك من القهر، ومن ثم هذه تُخوِّف ولذا هى ليست جيدة في التواصل، ولذا يقول العلماء أن ابتسامة المليون دولار هى نصف ابتسامة، لا تظهر النواجز وتكون صادقة، وانتبه إلى أن إذا لم تكن صادقة سوف يظهر هذا حول العينيين وسوف نعرف أنها مُتكلَفة وأنها ابتسامة صفراء، مثل ابتسامة المُضيفات في الطيران، فهى ابتسامة صفراء مُصطنَعة لأنها تبتسم للكل، لكننا نُريد ابتسامة حقيقية عن حب وعن تأثر وعن حميمية وعن إحساس بالآخرين، والنبي كان لديه هذه الابتسامة، وهم يقولون أن هذه الابتسامة سر كبير من أسرار النجاح في العلاقات وفي العمل – Business – وفي أي شيئ، وهذه الابتسامة هى نصف ابتسامة – كما قلنا – وليست الكشرة وما إلى ذلك وليست أيضاً الابتسامة الصارخة العريضة، وإنما نصف ابتسامة فقط، فهى ابتسامة ودودة تسمح وتُعزِّز نظرة اللطف في العينين، مثل الموناليزا Mona Lisa التي يُوجَد لديها فعلاً ود في العينين وابتسامة مُستحية – على استحياء – أيضاً، والنبي مارس هذا، كيف؟ لأنه – كما قلنا – شخصية كاملة، الله خلقه وكمله وأعطاه جهازاً روحياً وجهازاً نفسياً كاملاً من غير علم ومن غير تدرب ومن غير أي شيئ، وحده هكذا – سبحان الله العظيم – لأنه شخص الفطرة عليه الصلاة وأفضل السلام، ومن هنا حب الناس العجيب لهذا الإنسان العظيم، كانوا يُحِبونه حباً غير طبيعي ولا يصبرون على البعد عنه، يتركونه ساعة أو سويعة ويعودون إلى أزواجهم وما إلى ذلك ومباشرة يحدوهم الشوك ليعودوا إليه، ويُقسِمون أنه أحب إليهم من أنفسهم ومن أموالهم ومن أولادهم ومن كل شيئ، لماذا؟ لأنه شخص تواصلي عظيم، فانتبهوا إلى أن ما يُخطيء فيه ربما بعض الدعاة والعلماء – أصلحني الله وإياهم جميعاً – في فهمه هو المُراهَنة على صحة المضمون وصحة الدعوة وصحة الرسالة وصحة الكلمات فقط، يقول الواحد منهم أنا أتكلَّم بإسم الله وبإسم الرسول وآتي بآيات، لكن هذا لا يكفي، حتى وإن أتيت بآيات فليس هذا المهم وحده، المهم الآن كيف تأتي بهذه الآيات وفي أي سياق تأتي بهذه الآيات وكيف تُعلِّمها للناس وكيف تتحدَّث عنها وكيف تُفسِّرها، أنت مُخطيء إذا أتيت بهذه الآيات في سياق مُعيَّن تنتهك فيه حرمات الناس وتفحش فيه على الناس – خطبة شرعنة الفحش – وتُسميهم بالأسماء وتتحدَّث في أعراضهم وتقول الله قال كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۩ والله قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩ وتشرعن وتقول قال أبو بكر كذا وكذا، فحتى الحديث أنا أخجل أن أقوله وأخجل أن أقول أنه قال مُص كذا وكأن النبي سكت، فما هذا؟ انتبه لأن هؤلاء – أصلحنا الله جميعاً وإياهم – لم يفهموا السر العجيب في قوله تبارك وتعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ ۩، فالله يقول لنا سر النجاح الرسالي لمحمد ليس عظمة الرسالة في ذاتها وحدها وهى عظيمة بل هى الأعظم وليس صدق المقول المُبلَغ والمُخبَر به وهو كذلك صادق صدقاً مُطلَقاً لكن يُوجَد أمر آخر، فهذا وحده في سياق خاطيء مع مهارات تواصلية خائبة فاشلة يفشل، وهذه مسألة كبيرة الآن في فشل الدعوة وفي فشل الإسلام المُعاصِر الذي نراه الآن، ومن ثم تُوجَد ردة عند كثير من الناس، ونسأل الله لهم العود الحميد إلى الدين والإيمان واليقين ونحن جميعاً إن شاء الله تعالى، فالله قال له السر يعود إليك وهو سر أنا أودعته فيك ومننته عليك، تقول الآية الكريمة فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۩، ولما استفادوا بهذه الرسالة، كانوا قالوا اجعلها عندك والعب بها لأننا لا نُريدها، وهذا أمر عجيب، فالله هنا يكشف عن قانون نفسي جوهري خطير جداً في النفس الإنسانية، ما هو هذا القانون؟ أننا نتعاطى مع القيم والمبادئ والعقائد في المُعظَم – أي مُعظَم التعاطي – سيكولوجياً وليس عقلياً، فنفسياً إذا أحببنا السياق الذي تُوضَع فيه هذه العقائد وأحببنا المُبشِّر بها وأحببنا المُبلِّغ لها وطريقته وأسلوبه وتواضعه ورحمته وليانه ولطفه فإننا سنُحِبها وسنقتنع بها وسنشعر أنها تصلح، علماً بأن هذا الكلام فيه جنبة منطقية هنا، هل تعرفون كيف؟الشيئ المنطقي هو بما أن هذا الكلام خير وصدق وحق فإن من الواضح أن هذا الذي يُبلغهم مُتأثِر به، قما أحلاه وما أحسنه وما أجمل أخلاقه وكرمه وتسامحه، إذن يُوجَد شيئ منطقي هنا، وبالمنطق أيضاً لو كان هذا الكلام خيراً وحقاً وصدقاً وجمالاً لماذا هو بشع لهذه الدرجة؟ أسلوبه بشع وطريقته بشعة و كلامه بشع وحكمه على الناس بشع، وهذا يعني وجود شك في صحة ما يبلِّغنا إياه، وليس جميع الناس فلاسفة وليس عندعم ذكاء الأنبياء وذكاء الصديقين لكي يُمِّيزوا، فقط العقول الضخمة التي تفعل وهى نادرة، فنادرة جداً التي تميز الحق وحده بذاته والباطل كذلك بغض النظر عن السياقات، أما مُعظَم الناس يتأثَّرون بالسياقات، لذلك الكلمات بذاتها ليست هى الأرجح في المسألة التواصلية وإنما السياق.
نرجع إلى سيد الخق ومُعلِمّ الخلق وحبيب الحق عليه الصلاة وأفضل السلام وآله، أيضاً كان إذا أقبل عليه أحدهم رحب به، إذن يُوجَد ترحيب فلا يُقال ائذنوا له وحين يدخل ينتظر في المكتب لساعة أو ساعتين أو ثلاثة لكي يخرج ويقول له مرحباً، النبي لم يكن كذلك، بل بالعكس كان يُرحِّب بالناس، وفي سنن الترمذي وابن ماجة عن الإمام عليّ – عليه السلام وكرم الله وجهه – قال استأذن عمار بن ياسر على رسول الله فقال مرحباً بالطيب المُطيَّب، يا سلام، انظروا إلى الأخلاق، لم يقل له تفضَّل أو ادخل وما إلى ذلك، بل قام بالترحيب أولاً وقال له مرحباً بالطيب المُطيَّب، وفي الصحيحيين من حديث عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – لما جاء وفد عبد القيس من بلاد اليمن ماذا قال النبي – عليه الصلاة والسلام وآله – لهم؟ قال مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامة، إذن لابد الترحيب، فرحِّب بمَن يأتي، لأن النبي كان عنده هذا الخلق، فهو يُرحِّب بالناس في البداية قبل أن يدخل في أي حديث وقبل أن يتكلَّم رغم أن الحديث مُهم جداً لأنه عن الدين والإيمان واليقين والآخرة والسعادة والنجاة، لكن لابد من احترام الناس وتقدير الناس وإظهار المودة واللطف والليان والاعتبار للناس، وإذا كان هذا الآتي سيداً أو إنساناً مُحترَماً لا يُعامَل كالسوقة ولا يُعامَل كعامة الناس، فالنبي يحترم الكل ولكن يولي بعض الناس وهم كرام الناس مزيد اعتبارٍ واحترامٍ، وكان يقول إذا آتاكم كريم قوم فأكرموه، أي أظهروا له الكرم الزائد طبعاً، فنحن مأمورون بأن نُكرِم جميع الناس ولكن نُزيد مع كريم القوم، أي رجل كبير في السن أو كبير في القدر أو رجل من علية القوم كما يُقال، فلابد أن يُحترَم مزيد احترام، لكن بعض الناس هنا سوف يأخذ لعبة القيم بطريقة خاطئة ويقول الناس سواسية، وهم سواسية من حيث النظر إلى الحقوق الأصلية، بمعنى أن هذا الكبير لو قتل يُقتَل دون أي كلام، وكذلك لو سرق يُقطَع ولو ظلم يُنتصف منه، فهنا نقول الناس سواسية، لكنهم ليسوا سواسية في القدر، قال الله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۩، هل تُسوِّي بين عالم وبين جاهل؟ هذا عالم كبير وذاك رجل جاهل، ومن ثم يُوجَد فرق، هذا غني من أغنياء الناس وهو مُحسِن – أي من الأغنياء المُحسِنيين – فلا نسوي بينه وبين غني بخيل أو فقير مُعدِم، هذا له اعتبار، هذا له سلطة والنبي قال احترام السلطان من إجلال الله فلا تقل لي أنا سوف أنتقده وعلى رؤوس الخلائق ومن على قلل المنابر وأسبه، ثم تقول لي هذه شجاعة وهذا قول الحق، هذا غير صحيح، هذه قلة أدب، ينبغي أن تحترم السلطان الذي هو رأس الدولة ورأس الناس، لكن للأسف بعض الناس لا يفهم هذه القضية، لأن من المسائل التي تُشكِّل تحدياً وصعوبات خاصة في علم الأخلاق والسلوك مسائل التضارب القيمي،لكن التضارب القيمي بمعنى ماذا؟ يعني – مثلاً – أنا أحب وطني، وحب الوطن قيمة عظيمة جداً جداً، فهذه قيمة وطنية هامة، لكن طبعاً القيم منها القيم الاجتماعية والقيم العائلية والقيم المُنظَّمتية – كأن تشتغل في مُنظَمة مُعيَّنة – والقيم الدينية والقيم الفلسفية والقيم العلمية والقيم السياسية والقيم الاقتصادية والقيم الصحية والقيم النظرية والقيم العملية وإلى آخره، فتصنيف القيم في فلسفة الأخلاق تصنيف طويل جداً جداً ومُعقَد، لكن نحن فقط نأخذ القدر المُشترَك، والقيم هى ماذا؟ مفاهيم معيارية – Normative – لها علاقة بالعمل ولها علاقة بالواقع، فإذن هى ضوابط وتعليمات ومبادئ يرعاها الإنسان، وهى تُوجِّه سلوكه وتدله على الطريقة المُثلى لأداء دوره وواجبه في المجتمع، ومن شرطها أن تكون مُعتمَدة لدي المجتمع، فالناس يعتمدونها ويُوافِقون عليها ويكتسبها الإنسان عبر التنشئة والثقافة في بيئته الخاصة، فقط هذا هو التعريف الأشهر والأبسط تقريباً للقيم، لكن قد يحدث تضارب ما، فأنا أُحِب وطني وأفديه بنفسي وهذه قيمة وطنية عظيمة جداً لكنني أكره الظلم وألعن الظالمين بلعنة كتاب الله لهم وهذا جميل جداً، فحين يُصبِح وطني ظالماً ماذا أفعل؟ أنا أُحِب الوطن وأكره الظلم، لكن وطني ظالم، وكذلك مع بر الوالدين، فهذه قيمة لها أساس ديني ولها طبعاً أسس غير دينية أيضاً، فبر الوالدين قيمة مُهِمة جداً جداً، لكن إذا أحد الوالدين أمر بمعصية وأمر بما لا يرضي الله أو ظلم سيحدث تضارب لأنني أكره الظلم، فأنا أكره الظلم وأُحِب والدي ومن ثم ماذا أفعل؟ هذه تحديات وصعوبات في مجال الأخلاق، الإسلام أعطانا أيضاً كلمة مفتاحية بسيطة لكن تحتها تفاصيل كثيرة مُعقَدة وهى لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال الله وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۩، فهذا حل مبدئي لكنه يحتاج إلى تفصيل.
إذن لموضوع تضارب القيم علاقة بموضوع التواصل، كيف؟ بعض الناس يقول أنا قيمتي الشخصية التي أعطيها الأولوية المُطلَقة الصدق، وهذا جميل لأنه من أحسن القيم، فهذه قيمة شخصية إسمها الصدق، أن أكون صادقاً في قولي وفي نيتي وعزمي وفي عملي وأن ظاهري يُواطيء باطني فلا تُوجَد مسافة بينهما، وهذا جميل جداً لذا هو من أحسن القيم، لكن هذه القيمة قد تُسبِّب له مشاكل في التواصل مع الآخرين،لماذا؟ لأنه إن كان صادقاً يرى نفسه أحياناً مدفوعاً يقول للكذّاب أنت كذّاب وللص أنت لص وللغشاش أنت غاش أو غشاش وهلم جرا، أليس كذلك؟ وهكذا تقريباً ستسوء علاقاته مع معظم الناس، وفي كل موقف يلتزم فيه الصدق سيحدث لها إشكال صغير أو كبير، وفي المواقف حتى الصغيرة الجزئية ستحدث مُشكِلة هنا، فكيف يحلها علماء التواصل؟ هم حلوها علماً بأن هذه المشكلة من المُمكِن أن تُسبِّب أيضاً اختلاطات كثيرة في الحياة العائلية الأسرية، وسأعطكم نموذجاً الآن، أحد المُعالِجين يسأل الزوج ويقول له ما هى قيمتك الشخصية الأعمق؟ فقال له الصدق، قال جميل وممتاز جداً ونحن نُشجِّع هذا ونحترمه، لكن ما قيمتك الأعمق تواصلياً في العلاقة مع الآخرين مثل مع زوجتك ومع زملائك ومع أصدقائك ،ومع رؤسائك ومع مرؤوسيك؟ قال الاحترام، فقال هذا جميل، ألا ترى أن أسلوبك وطريقتك هذه في التواصل مع زوجتك ينقصها الاحترام وإن لم يعوزها الصدق؟ هى صادقة فعلاً وأنتَ تقول لها أنتِ كذا وكذا وكذا وكذا وهذا كله صدق لكن هل هذا احترام؟ فدُهِشَ الرجل، وكلنا تقريباً نقع في هذه الورطة فعلاً، إذن يُوجَد تضارب بين قيمتي الصدق والاحترام، وأنا أعتبر على المستوى الشخصي أن الصدق له أولوية لكن على مستوى التواصل الاحترام له أولوية عندي، لكن وقع تضارب بين القيمتين فما الحل إذن؟ الحل أن تتواصل مع الطرف الآخر بصدقٍ لكن بما لا ينتهك احترامه، كيف؟ يتحدَّثون عن النقد ويقولون حين تُوجِّه للآخر نقداً وتقول له أنت كذا وفعلت كذا أو أنتِ كذا وفعلتِ كذا فإن هذا النقد قد يكون نقداً سلبياً، وهذا يُسمونه النقد الهدّام Destructive criticism أو النقد السلبي Negative criticism، والنقد السلبي يشجب ويدين ويدمغ وجه الآخر بالأخطاء دون أن يقول شيئاً إيجابياً أو مفيداً، فقط أنت تُنفِّس عن نفسك وتقول له أنتَ البعيد كذا وكذا وأنتَ فعلت كذا وكذا وانتهى كل شيئ، وهذا نقد سلبي والعلماء يُحذِّرون منه، فهم قالوا هذا نقد هدّام وهو إسم على مُسمى لأنه يهدم ولا يبني ولا يُرتجى من ورائه الخير، فنستعيض عنه بالنقد البنّاء Constructive criticism أو النقد الإيجابي Positive criticism، لكن ما هو النقد البنّاء؟ ألا تقل كلمات سلبية، فمثلاً بعضهم عرض عليك رأياً وهذا الرأي أنت تسخطه وتكفر به فينبغي أن تقول له أحترم وجهة نظرك جداً – لأنك بالطبع تحترم الآخر وتحترم ما يقوله – ويُمكِن أن أتشارك معك في تطوير هذا الشيئ، وسيقول لك في الأغلب نعم ويا حيهلاً، هلم إلى هذا، وأنت ستأتي بشيئ سينقد في النهاية رأيه، وهذا إسمه نقد أيضاً، لكنه نقد إيجابي ذكي، دون أن تقول له رأيك خطأً ورأيك كذا وكذا أبداً، بل قل له أنا أحترم وجهة نظرك وأحترم موقفك واسمح لي أنا أتشارك معك في تطويرها، وأنا حتى هنا توقفت قليلاً أثناء حديثي، لماذا؟ لأنني أحببت أن أصوغ العبارة دون أن آتي بكلمة (لكن) لأنني حذَّرت قبل ذلك من أبناء (لكن) وابن لكن، فهؤلاء مُخيفون، لماذا؟ يقول الناس الظرفاء كل ما قبل (لكن) ليس له قيمة، فأكثر ما نكره كلمة لكن، وهى أقل قليلاً من كلمة (لا)، لكننا نكره مُباشَرةً بعد (لا) كلمة (لكن)، فقد يقول لك أحدهم يا أخي أنا – والله – أقول لك الصدق، أنتَ كذا وكذا وكذا وماشاء الله عليك لكن، فتبدأ ترتعد لأنه قال لكن، إذن كل ما قبل (لكن) ليس له قيمة، فأنت هدمته كله بكلمة (لكن)، وحتى في النقد الإيجابي حاول ألا تستعمل كلمة (لكن)، لا تقل أنا أحترم وجهة نظرك لكن، اترك كلمة (لكن)، وقل اسمح لي أو استميحك عذراً، فهذا ما يساوي كلمة (لكن)، وهذا مُهِم جداً في النقد الإيجابي، وعلى ذكر كلمة (لكن) هناك تجربة مُثيرة جداً عن (لا)، حيث عملوا تفريساً أو مسحاً – Scanning – للدماغ- fMRI – لأشخاص فقط عُرِضتَ عليهم لوحة أو ورق مُقوى مكتوب عليه كلمة (No)، أي (لا)، فوجدوا مُباشَرةً دفقة من هرمونات الإجهاد – مثل الكورتيزول Cortisol وأمثال هذا – تُؤثِّر على الدماغ، وهذه الدفقة تتلف الدماغ على المدي البعيد طبعاً بعد عشرات السنوات وتُؤثِّر على الجهاز القلبي الوعائي، علماً بأن الكورتيزول Cortisol معروف ومعروف تأثيره, لكن هذا حدث لأن الواحد منهم فقط رأى كلمة (No)، أي (لا)، لذا هذه الكلمة غير مُحبَّبة، فحين يُقال لك (لا) وأنت تترقب شيئاً أو تأمل في شيئ أو تريد مباحثة شيئ تشعر أن هذه الكلمة مُزعِجة جداً جداً، لذلك – كما قلت في الخُطبة السابقة – مُعظَم كلام رسول الله لمن آتاه (لبيك) و(نعم)، فهويُنعِم ويُلبّي دائماً، يندر أن تسمع منه كلمة (لا)، لا تُوجَد كلمة (لا) عند رسول الله وإنما يُوجَد إنعام مُستمِر.
إذن نعود إلى ما كنا فيه لأن للأسف أدركنا الوقت ومازلنا في البداية وقد نحتاج إلى جزء ثالث – إن شاء الله – لأنه موضوع مهم جداً جداً جداً، وأعتقد أن مهاراتنا التواصلية في العالم العربي والإسلامي ضعيفة فعلاً، ونحن نرى أن هذا يُسبِّب مُشكِلات كثيرة، فهؤلاء علمانيون وهؤلاء ليبراليون وهؤلاء إسلاميون والإسلاميون تشكيلات وطيف وطوائف والكل ضد الآخر، حدة عجيبة جداً في النقد وحدة في التقويم و حدة في الكلام، وهذا شيئ فظيع، وطبعاً تُنتهَك الحُرمات الشخصية بالإسم ما شاء الله، فعندنا النقد بالإسم حيث يُقال فلان الفلاني كذا وكذا بالإسم، وأحياناً بالأب وبالأم ونراه وضعاً طبيعياً، لكن هذا وضع غير طبيعي، هذا وضع مرضي ولا ينبغي أن يستمر لأنه وضع غير صحي، علماً بأنه وضع يخسر معه الكل، الناقد والمنقود والساب والمسبوب والغاش والمغشوش عليه، فالكل يخسر معه.
من لطيف التجارب بكلية طب جامعة أوهايو Ohio – بالمناسبة في الأسبوع الماضي كان لدينا هنا أخ مسلم كان مُتفاعِلاً مع الخُطبة ويفتح المُصحَف وبعد الخُطبة إذا به مسلم أمريكي من أوهايو Ohio، فهو كان لدينا هنا في البداية – أنهم آتوا باثنين وأربعين زوجاً من الأزواج – أي Forty two couples، ينبغي أن نقول باثنين وأربعين زوجاً من الأزواج وليس باثنين وأربعين زوجاً فقط، لكي يكون عددهم أربعة وثمانين، نصفهم رجال ونصفهم إناث – وأحدثوا في أيديهم جروحاً تقرحية بسيطة، ثم بعد أسابيع اختبروا مسار هذا التقرح أو هذا الجرح التقرحي، فوجدوا أن الازواج الذين يتواصلون بشكل حميم وجيد محكوم بالعقل وبالمنطق وليس بالانفعالات وبالغضب بل ومحكوم أيضاً بالحب والحميمة والتحسس للآخر والتقمص الوجداني – Empathy – استغرقهم الأمر نصف المدة التي استغرقت الأزواج المُنغَّصين لكي يشفوا من هذه الجراح، أي الضعف علاجياً، فعلى مستوى العلاج – Healing – يُوجَد فرق كبير وصل إلى الضعف، ففعلاً إذن حين تكون هادئاً ومُحِباً وودوداً ومُتسامِحاً تكون أقرب إلى الصحة على جميع النواحي النفسية والعقلية والعصبية.
يبقيَ سؤال أطرحه ونجيب عنه – إن شاء الله – بعد الجلسة وهو أن بعض الناس يقترح العكس ويقول أن من الأفضل لصحتي ولأعصابي ولاستقراري النفسي – أي لحالة الاستقرار النفسية – أن أُنفِّس عن غصبي حين أغضب، وطبعاً لن يعوز هذا المُعترِض أو المُتسائل مجموعة من الأدبيات لعلماء النفس وفي رأسهم طبعاً سيجموند فرويد Sigmund Freud وفلاسفة في أولهم أرسطوطاليس Aristotle في كتاب الشعر التي تُؤكِّد هذا المنحى الذي يُشجِّع التنفيس عن الغضب، وسيحتج علينا بمدارس علاجية في أمريكا وكندا وأستراليا وفي أسبانيا مثل العلاج بالتدمير والعلاج الأولي وعلاج الصياح الأولي، وكل هذا له علاقة بالتنفيس، لكن أين هذا مما تقول؟ وأين هذا مما يقول علماء التواصل وعلماء الأعصاب الاجتماعي؟ يُوجَد علم إسمه الأعصاب الاجتماعي Social neuroscience، وهذا علم كامل إسمه علم الأعصاب الاجتماعي Social neuroscience؟ وأين أنت من ما أتى به القرآن وأتت به السنة أيضاً من وجوب كظم الغيظ وكظم الغضب وأن تتوضأ وتجلس وتُصلي وما إلى ذلك؟ ومع ذلك يُقال نُريد أن نُنفِّس، فالتنفيس جيد وبعد التنفيس سنشعر بأننا تحسنا، وهذا غير صحيح، فما الحكاية إذن؟ سُنجيب عن هذا – إن شاء الله – في الخطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلمياً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
ذكرت لكم أرسطو Aristotle، وأرسطو في كتابه فن الشعر زعم أن مُتابَعة الإنسان وارتياد الإنسان للمسارح التي تُمثَل فيها الأدوار العنيفة والأدوار المأساوية أيضاً تُحدِث لديه تنفيساً عن مشاعر الغضب والعدوانية والرغبة في الانتقام والتدمير، وهذه الفكرة استمرت من أيام شعر أرسطو Aristotle إلى اليوم وظهرت قضية التطهير، مع أن هذه القضية في أول درجة من درجات النقاش تتناقض مع حقيقة يعلمها الكبير والصغير وهى أن مُتابَعة الشباب ومُتابَعة الغلمان ثم المُراهِقين بعد ذلك لأفلام العنف سبب رئيس في زيادة نسبة العنف لديهم، وهذا أمر معروف، حتى أن المراهق في هذه الدول كالولايات المتحدة الأمريكية لا يبلغ الثامنة عشرة إلا بعد أن يكون تقريباً قد تابع زُهاء عشرين ألف فيلم عنيف، كالأفلام الأكشن Action وكل هذا الكلام الفارغ، ومعروف أن هذا يُزيد من العنف ويحث عليه، فأين التطهير؟ أين الكلام عن التطهير؟ لو هذا كان يطهر كان من المفروض أن يكون هؤلاء أكثر الناس هدوءاً وأعظم الناس سلاميةً لأنهم رأوا من التدمير ما أشبعهم، لكن بالعكس التدمير يأتي بالتدمير والغضب يأتي بالغضب، وعلى كل حال لن نعمل خُطبة ثانية من أجل هذا وسنقول باختصار أن الآن ضمن الخرافات المنسوخة في علم النفس خرافة أن التنفيس عن الغضب يُحرِّر الإنسان من آثاره السيئة، فهذه خُرافة – Myth – غير صحيحة، ويُوجَد كتاب إسمه أعظم خمسين خرافة في علم النفس الشعبي – Popular psychology – ألَّفه أربعة علماء كبار في العالم الجديد، وهذه الخرافة رقم ثلاثون، فهم قالوا هذه خرافة غير علمية، والأبحاث مُتواصِلة من أربعين سنة وليس الآن بل من أربعين سنة وكلها تُؤكِّد أن التعبير عن الغضب وتنفيس الغضب للأسف يزيد الحالة سوءاً ويجر الإنسان إلى مزيد من الاستياء ومزيد من الغضب، فحين تغضب تغضب أكثر، ولذلك يُقال الغضب نار، كيف؟ النار تشب وتشتعل وبعد ذلك تنطفئ، لكن نار الغضب في الإنسان لا تنطفئ، وهذه الأبحاث العلمية الدقيقة تقول ثبت أن الذين عبَّروا عن غضبهم بإزاء أشخاص معينيين كانوا بعد ذلك ليسوا أقل انتقاداً لهم وأكثر لطفاً بل صاروا أزيد انتقاداً لهم، كأن يقول الواحد منهم أنا اليوم سببته وانتقدته في وجهه وسأظل أفعل هذا إلى ما شاء الله، وهذا يدل على وجود شيئ غلط هنا، إذن هذا تعبير غير صحيح.
في إحدى الجامعات الأمريكية صُمِمَت تجربة، وهذه التجربة مؤداها أن الذين يعفون ويصفحون ويكظمون غيظهم وإذا عاقبوا يكتفون بالحد الأدنى – أي بكلمة أو بنظرة وما إلى ذلك وينتهي الأمر – يفوزون، فهؤلاء محبوبون أكثر، ودائماً عوائدهم المالية في ازدياد وينجحون حتى في العمل عملياً، بخلاف الذين يعاقبون ويُنفِّسون ويثأرون، فهم دائماً يفشلون، ثم ختموا العلماء بحثهم الرائد بعبارة جارحة وصادمة لنا – بعبارة هكذا أطلقوها مطلق المثل – وقالوا الفائزون لا يُعاقِبون، الخاسرون يُعاقِبون ويفنون، أي أنهم ينتهون وترفضهم الحياة، وهذا أمر عجيب، فهم يُعاقِبون ويفنون، وحين قرأت هذه التجرة تذكرت من فوري قول الحق جل مجده وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ۩ لكنه لم يكتف بهذا وقال وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ ۩، لكن أين هذا؟ هل هذا في الدنيا أم في الآخرة؟ الله قال خَيْرٌ ۩ ومن ثم هذا في الدنيا والآخرة، فهذا خير على المستوى العصبي والنفسي والفسيولوجي والمالي والاجتماعي وعلى أي مُستوى، فعلى جميع المستويات هو خير، قال الله وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ۩ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ۩، أي استعن بالله واصبر واكظم الغيظ، فهذه الخرافة لابد أن تُنسَخ وعلينا ألا ناجريها وألا نُراهِن عليها لأنها فاشلة وهى خرافة غير علمية، لكن لماذا تستمر بعد أبحاث نفتها ونسختها على مدي أربعين سنة؟ لماذا هى مستمرة إلى اليوم؟ قال العلماء ربما تأثراً بالأثر الزائف الذي يُحدِثه التنفيس عن الغضب لكنه أثر في المدي القصير فقط، أي أنه يشعر بالراحة فقط لساعة أو لساعتين أو ليوم أو يومين وبعد ذلك تتآكله مشاعر يؤرثها نار الغضب أو نيران الغضب التي لا تزال تشب في قاع نفسه.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم زِدنا ولا تنقصنا وأعطنا ولا تحرمنا وأكرِمنا ولا تُهِنا وانصرنا على مَن بغى علينا برحمتك يا أرحم الراحمين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه ولا حاجةً لنا من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها وأعنت على قضائها ويسَّرتها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (2/10/2015)