نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الثامنة عشرة
التطور الصُغروي – الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أحبتي في الله: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أستكمل معكم في هذه الحلقة بعض الأدلة على التطور الصغير أو الصُغروي، ومن هذه الأدلة أُذكِركم بالبكتيريا التي تحدَّثنا عنها وهى البكتيريا القولونية الإشريكية Escherichia Coli، فقد تحدَّثنا عنها ربما قبل حلقتين، وهناك تجربة أخرى أيضاً رائعة على هذه الإشريكية القولونية Escherichia Coli، وهى تجربة قام بها العالم بيري هول Barry Hall من جامعة روتشستر Rochester، حيث أراد هول Hall أن يختبر هل بإمكان هذه البكتيريا أن تعيش في ظروفها الطبيعية – أخذنا طبعاً في حلقة سابقة تجربة لينسكي Lenski أنها تتغذى عموماً على المادة السكرية المعروفة بالجلوكوز Glucose – إذا نزعنا من هذه البكتيريا – أي من جينومها Genome – الجين Gene المسؤول عن إنتاج خميرة أو Enzyme يُكسِّر اللاكتوز Lactose حتى يجعله قابلاً للتغذية، فهل يُمكِن لها أن تعيش؟ طبعاً سيُجيب أيٌ مِنكم بأنه لا يُمكِن لها أن تعيش، لأنها تعيش على اللاكتوز Lactose مثلاً، والآن لا تستطيع، لكن فرضية نظرية التطور تقول يُمكِن أن تقع طفرة بالخطأ وبالعشوائية، فتقع طفرة تُمكِّنها من أن تعتاش منزوعة هذا الجين Gene، لكن كيف؟ هذه الطفرة ربما تُنتِج جيناً
Gene جديداً أو تركيباً وراثياً جديداً يسمح بتكوين Enzyme جديد يُكسِّر اللاكتوز Lactose غير الـ Enzyme القديم أيضاً، لكن هل هذا يحدث؟ بالضبط هذا ما حدث، وهذا شئ عجيب، فهذه تجربة قصيرة وجميلة وأيضاً مُذهِلة، وهى تجربة العالم بيري هول Barry Hall، فهذا فعلاً ما حدث، في البداية حين قام بنزع هذا الجين Gene وأصبحت هذه البكتيريا عاطلة لا تستطيع أن تتغذى على اللاكتوز Lactose لأن ال Enzyme أو الخميرة التي تُكسِّر هذا اللاكتوز Lactose غير موجودة أصابها جوع شديد ولم تتكاثر واقتربت من الفناء، وفجأة لاحظ بيري هول Barry Hall أنها بدأت تتكاثر، فما الذي حدث؟ هذه بكتيريا منزوعة الجين Gene كيف تتكاثر؟ بدأت تتغذى على اللاكتوز Lactose، ثم فحص ودرس فوجد أن طفرة Mutation وقعت وسمحت بتكوين Enzyme جديد غير الـ Enzyme القديم المفقود، أي Enzyme آخر، وأيضاً يُكسِّر اللاكتوز Lactose، لكن ليس هذا هو المُثير، ففي الحقيقة لم تكن طفرة مُفرَدة واحدة مثل التجربة السابقة وإنما ثلاث طفرات، الطفرة الأولى لا تُفيد، وانضمت إليها الثانية التي لا تُفيد، إلى أن أتت الثالثة، ومع الثالثة حدث التغير النوعي وتم انتاج هذا الـ Enzyme الجديد الذي مكنها من أن تُكسِّر اللاكتوز Lactose وتعيش عليه وتتكاثر، وهذه تجربة خطيرة، ومثل هذه التجارب بالذات إذا أردنا أن ندرس التضمينات العقدية والميتافيزيقية لها ولهذه المسائل سنجد أنها تُمثِّل التجارب الأخطر، لأنهم دائماً سيحتجون بها وسيعولون عليها ويُحيلون إليها في أن مثل هذه السبل الكيموحيوية – هذه أشياء كيميو حيوية مُعقَّدة جداً جداً – أو المسارات – Paths – الكيمو – أي الكيميائية – حيوية مُعقَّدة جداً، وأنتم رأيتم أنه لم يتسن حدوث ما حدث إلا بتضافر ثلاث طفرات عشوائية، فكل واحدة وقعت أيها وحدها من غير ارتباط بالثانية ولكن رغم هذه العشوائية وهذه الاعتباطية وهذه الصدفية أمكن أن يحدث شيئ أشبه بالمُعجِزة أو بالشيئ الذي لا يحدث ولكنه حدث، واستطاعت أن تعيش هذه البكتيريا من جديد بفضل ثلاث طفرات عشوائية، فتعاضدت ثلاثتها ورسمت سبيلاً كيميوحيوياً جديداً للبكتيريا المُختبَرة، وهذا من أعجب ما يكون، وهذه تجربة مُوثَّقة وعلمية، فإذن هذه الأشياء تحصل، وهذا يُذكِّر أو يحيل على البكتيريا المعروفة بالمُكوَرة العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus، علماً بأن كلمة Aureus تعني ذهبي، وهذه بكتيريا مشهورة جداً تُسبِب Syndrome أو مُتلازِمة تُسمى بمُتلازِمة الصدمة التسممية Toxic Shock Syndrome، وهذا مرض قاتل، فقد يقتل في ساعات وقد يقتل في أسابيع إذا لم يُعالَج، فهو خطير جداً، وتُسبِبه هذه المُكوَرة العنقودية الذهبية، وقد تحدثنا عنها دون أن نُسميها قبل ذلك، فهذه البكتيريا تقريباً إلى سنة ألف وتسعمائة وإحدى وأربعين تم القضاء عليها وتم اختفاء هذا المرض بفضل المُضاد الحيوي الأكثر شهرة في التاريخ البنسلين Penicillin، فهذا المُضاد يعمل بخبث ومكر واحتيال شديد، لكن كيف يقضي على هذه المُكوَرة العنقودية الذهبية؟ كالتالي: هذه البكتيريا وكل البكتيريات – هناك السبحيات أيضاً – وهذه المُكوَرات يقضي عليها بنفس الآلية، فهى إذا كانت تمتص كمية من الماء ولا تُعيد تعديل جدارها بالطريقة المطلوبة كما تفعل فإنها تنفجر، لكنها لا تنفجر في العادة، لأنها تقوم على تعديل الجدار بإفراز مواد ليفية شُعيرية تسد بها فتحات الجدار المُعدَّل وبالتالي لا تنفجر، والمُضاد الحيوي يعمل على إتلاف الـ Enzyme الذي يُسهِّل عملية بناء هذه الألياف الشُعيرية وبالتالي حين تمتص هذه البكتيريا – المُكوَرة العنقودية الذهبية – الماء تبقى تتضخم ثم تنفجر، فهذه آلية عمل البنسلين Penicillin في القضاء على هذا النوع الخبيث من البكتيريا.
إلى سنة ألف وتسعمائة واحد وأربعين تقريباً سجل العلماء انتهاء هذا الخطر، وبعد سبعين سنة في ألفين وأحد عشر – أي قبل ثلاث سنوات – عاد أكثر من خمسة عشر في المائة من سلالات المُكوَرة الذهبية إلى الحياة، وطبعاً نحن الآن في خطر للأسف، ففي الوقت الماضي الأمر كان آمناً – Safe – تماماً، لكن في ألفين وأحد عشر بدأ الخطر يُطِل بقرنه من جديد، فنسبة خمسة عشر في المائة نسبة عالية جداً، حيث بدأ يعود إلى الحياة خمسة عشر في المائة من المُكوَرة العنقودية الذهبية وبدأ يُمارِس آثاره الإمراضية والإخماجية القاتلة، فلماذا إذن وما الذي حصل؟ البنسلين Penicillin موجود والطفرات موجودة، والطفرات – كما قلنا – جزء مُهِم من عملية التطور وإعادة التكيف ونشوء الأنواع كما يقولون، لكن للأسف هذه المرة الطفرات لم تعمل لصالح البشر ولكنها عملت لصالح المُكوَرة العنقودية الذهبية، فهى لم تعمل لصالحنا وإنما عملت لصالح العدو وهو البكتيريا، وقد فعلت طبعاً مئات ألوف ألوف الأجيال من هذه التجارب طبعاً الإصحاحية، وتعاطي البنسلين Penicillin كمُضاد حيوي، فالناس يُسرِفون في تعاطي المُضادات الحيوية، وحدثت طفرة مكنت هذه البكتيريا من تكوين ما تقضي به على البنسلين Penicillin، وهذا إسمه بنسلينيز Penicillinase، فهذا صار يقضي على البنسلين Penicillin ويُدمِّره، فتفوز البكتيريا وتتكاثر، وطبعاً الإنسان لا يستسلم أمام هذا الكائن الدقيق القوي والمُتكيف أيضاً، وأنتم تعرفون أن البكتيريا أكثر خطورة حتى من الفيروسات Viruses، فالفيرس Virus ليس خطراً كالبكتيريا، وعلاجه دائماً أسهل من من البكتيريا، فأي تسمم بكتيري أص%9 الطيور، فلابد أن تتكيف بشكل مُختلِف في حال الخصب عنها في حال الجدب والجفاف، وهذا ما حدث، فمثلاً في سنة ألف وتس%5 تيأس والبشر لا ييأسون، وتستمر طبعاً شركات إنتاج الأدوية والحجماها الصغيرة وبالكميات الضئيلة جداً فيها من النداوة والرطوبة والماء فإن البراقش تموت، والبراقش مُعظمها الأسهل لها أن تعيش على البذور الصغيرة، فإذا كانت هذه البذور الصغيرة غير موجودة سوف تموت هذه البراقش، إذن الصنف الذ9لى الميثيسيلين Methicillin وتستمر المسألة، وهذا صراع – سبحان الله – كالصراع بين النور والظلام وبين الحق والباطل وبين العلم والجهل، فهذا صراع ولا أحد يستسلم إلا أن يفنى بالكامل، فهذا يُذكِّرنا بهذه التجارب العجيبة على أنواع من البكتيريا.
سمعنا أكثر من مرة بذبابة الفاكهة Fruit Fly المعروفة بالدروسوفيلا ميلانو جاستر Drosophila melanogaster، فذبابة الفاكهة السوداء البطن الإسم العلمي لها هو الدروسوفيلا ميلانو جاستر Drosophila melanogaster، وهى ذبابة مُرتبِطة تماماً بأبحاث الجينات Genes، وعلماء الوراثة دائماً يُجرون عليها التجارب، فلماذا إذن؟ يُوجَد فيها ثمانية كروموسومات Chromosomes وجينوم Genome بسيط وليس ستة وأربعين، وإنما ثمانية، وواضح حتى البساطة في بنيتها وهيكلها وعيونها وأجنحتها، فحتى الشعر على البطن – Bristles Abdominal – يُمكِن عده، فهو يُعَد بسهولة، لذا هى جيدة جداً وهى مُصمَمة لإجراء التجارب، فهناك تجارب على هذا الشعر الموجود على كلا جانبي البطن – Bristles Abdominal – كثيرة، علماً بأن كلمة Abdomen تعني البطن أو الأحشاء عموماً وكلمة Bristles يُراد بها الشعر الخشن على كلا جانبي البطن، وهو يوجد بأعداد مُحدَدة دائماً ومُتوارَث أيضاً، لكن هل يُمكِن أن يزيد؟ وهل يُمكِن أن ينقص؟ يُمكِن بتجارب مُعينة، تجارب استنسالية وانتخاب صناعي، وهذا الذي حدث في أكثر من تجربة، وأنا سأُعطيكم الآن إسم مقالة لعالم اشتُهِر كثيراً في هذا الباب إسمه B. H. Yoo، علماً بأن B. H. Yoo من جامعة سيدني بأستراليا وله مقالة مُهِمة لمن أحب أن يعود إليها إسمها Long-term selection for a quantitativ character in large replicate populations of Drosophila melanogaster أي الانتخاب طويل الأمد – أو الانتخاب على المدى الطويل – للصفات الكمية في عشائر مُستنسَلة أو مُستوFناخ الحار، ففي أوروبا المناخ يُعتبَر بارداً بشكل عام، لكن في أستراليا المناخ يُعتبَر جافاً وحاراً، 9أبحاث الوراثية – في سنة ألف وتسعمائة وثمانين في العدد الخامس والثلاثين من الصفحة الواحدة إلى السابعة عشرة، فهذه كانت أول مقالة ولديه فيها أربع مقالات مُتوالية، وهذا الرجل أجرى تجارب على أكثر من تسعين جيلاً من الأجيال قبل أن تتوقف التجرب اختيارياً وبالفعل أثبت أنه يُمكِن زيادة عدد هذه الشُعيرات أو إنقاصها، وقال “هذه أيضاً خُطوة تُؤكِد إمكانية التطور، فالتطور يحصل على الأعضاء وما له علاقة بهذه الأعضاء”.
نأتي الآن إلى إحدى أيقونات – Icons – التطور كما تُسمى، فهى من أشهر أيقونات – Icons – التطور على الإطلاق وهى البراقش أو الفنشيز Finches التي حد9جرانت Grant قال ” أنا مُتأكِد من هذا، فأ%راشير أو شراشير داروين Darwin أو حساسين داروين Darwin أو براقش داروين Darwin، فهناك ترجمات كثيرة للفنشيز Finches – كما قلنا – وتُسمى أيضاً بطيور داروين Darwin أو عصافير داروين Darwin، لأنه تقريباً أول مَن تحدث عنها وأتى بعينات منها وإن لم يذكر من أي الجُزر من جُزر جالاباجوس Galápagos أتى بها طبعاً، لكنه قال أنها من جالاباجوس Galápagos وفقط للأسف، وسوف نرى الآن كيف تطورت هذه البراقش أمام أعيننا وليس أمام أعين داروين Darwin ، وإنما أمام أعين العلماء في القرن العشرين، وتحديداً في النصف الثاني من القرن العشرين، فهذه القصة قصة جميلة وقد أُلِفَت فيها كُتب، ومن أشهر هذه الكُتب كتاب إسمه منقار البرقش The 9ى اختلاف حجم الرأس وسعة اٴ، والإسم الفرعي له هو A Story of Evolution in Our Time، أي قصة أو حكاية تطور في زماننا، يُريد أن يقول أمام أعيننا أو في وقتنا أو في حياتنا نستطيع أن نرى كيف تتطور هذه الفنشيز Finches، وهذا الكتاب أخذ جائزة بوليتزر Pulitzer Prize، فكتاب منقار البرقش يحكي بالتفصيل قصة زوجين عالمين قاما بتجربة في سنوات طويلة على برقش الجالاباجوس Galápagos، حيث ذهبا إلى جُزر الجالاباجوس Galápagos المشهورة – جُزر داروين Darwin – وأجريا هذه التجارب في سنوات، وهما Peter and Rosemary Grant، أي بيتر جرانت وزوجته روزماري جرانت، فإذن بيتر جرانت وروزماري جرانت Peter Grant and Rosemary Grant هما زوجان وعملا في معاً في هذا المجال، وطبعاً لهما كتاب، وبيتر جرانت Peter Grant كتب عدة مقالات في Scientific American وهو عالم أمريكي وله أيضاً مع زوجته كتاب في هذه المسألة، لكن كتاب منقار البرقش كان الأشهر لأنه مكتوب بطريقة فنية ومُحبَبة وقريبة للجماهير.
القصة تبدأ بأن هذين الزوجين العالمين ذهبا إلى الجالاباجوس Galápagos في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين – أي في أول عقد الثمانينيات، وأنتم تعرفون كيف يبدأ العقد طبعاً، ففي سنة أحد وسبعين كنا قد دخلنا في العقد الثامن وليس السابع، فالعقد السابع يكون من أحد وستين واثنين وستين وهكذا، لكن هذا كان في أوائل عقد الثمانينيات – ومن سبعة جُزر اصطادا أعداداً من البراقش، وقاما بأخذ بيانات دقيقة ومعلومات مُفصَّلة عن كُلٍ منها، مثل الوزن والحجم وطول المنقار وعمق المنقار، علماً بأن عمق المنقار يُعتبَر مُهِماً، لكن ما هو العمق؟ عمق – Deep – المنقار هو المسافة بين قمة المنقار وأسفل المنقار عند القاعدة، فهذه المسافة تُسمى عمق المنقار، فمُهِم جداً أن نقيس عمق المنقار هذا، ولذا هما قاما بقياس عمق المناقير وكل الأشياء المطلوبة، وذلك في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين، أما في سنة ألف وتسعمائة وخمس وسبعين ركزا أبحاثهما وتجاربهما على جزيرة محصورة، لأنها مساحة محدودة إلى حد ما، فيُمكِن أن تجعل التجربة أكثر انضباطاً وإحكاماً، وهى جزيرة تُسمى دافني ميجور Daphne Major، علماً بأن دافني Daphne تعني الرئيس أو الرئيسة، وذلك في سنة ألف وتسعمائة وخمس وسبعين، وفي عقد الثمانينيات وخاصة بعد سنة ألف وتسعمائة وخمس وسبعين شهدت الجزيرة مواسم من الجفاف تلت مواسم من الخصب والأمطار الغزيرة، والآن التطور يتقدم بفرضية أن هذا من شأنه أن يُؤثِّر على تكيف هذه الطيور، فلابد أن تتكيف بشكل مُختلِف في حال الخصب عنها في حال الجدب والجفاف، وهذا ما حدث، فمثلاً في سنة ألف وتسعمائة وست وسبعين كان الموسم موسماً خصباً، حيث ارتفع منسوب المياه ووصل إلى خمس إنشات، أي إلى اثني عشر سنتيمتراً تقريباً، فالإنش يُساوي اثنين ونصف سنتيمتر، لكن بعد ذلك مُباشَرةً في سنة ألف وتسعمائة وسبع وسبعين نزل الماء واحد إنش، وهذا شيئ عجيب، فكان الجفاف شديداً، ولقيَ هذا تعبيره المُباشِر في انخفاض براقش الجزيرة إلى خمسة عشر في المائة، ولكن أن تتخيَّل هذا، فإذا كان لدينا مائة طائر – مثلاً – سوف يكون لدينا الآن خمسة عشر طيراً، أما الباقي مات، لكن لماذا حدث هذا؟ لأن في مواسم الجفاف لا يبقى على الجزيرة إلا البذور الكبيرة، فمن خلال البذور الكبيرة بأحجامها تستطيع أن تواجه الجفاف لأن فيها كمية مياه أكثر، أما إذا كانت البذور صغيرة بأحجماها الصغيرة وبالكميات الضئيلة جداً فيها من النداوة والرطوبة والماء فإن البراقش تموت، والبراقش مُعظمها الأسهل لها أن تعيش على البذور الصغيرة، فإذا كانت هذه البذور الصغيرة غير موجودة سوف تموت هذه البراقش، إذن الصنف الذي بقيَ هو الذي يعيش على البذور الكبيرة الموجودة، والبذور الكبيرة تحتاج إلى مناقير قوية ومناقير أطول وأعمق، ونحن رأينا عمق المنقار، وهو المسافة بين القمة وأسفله عند القاعدة، وهذا جميل جداً، وإلى الآن كل شيئ واضح، وبالفعل هذا ما حصل، فوجد الزوجان أن هذه البراقش في الدافني ميجور Daphne Major قد زاد عمق مناقيرها بنسبة خمسة في المائة، وهذه نسبة تُعتبَر دراماتيكية، فأن تقع نسبة خمسة في المائة تقريباً في سنة أو في سنتين شيئ لا يكاد يُصدَّق، وخمسة في المائة تُساوي نصف ملليمتر، فلك أن تتخيَّل هذا، أي واحد على عشرين من السنتيمتر، وهذا بالنسبة لعصفور – كما قلت لكم في سنة أو سنتين أو حتى في بضع سنوات – يُعتبَر حدثاً غير طبيعي بالمرة، فهذا كثير جداً، والعلم الآن يقول لك الأرض تتحرك، وهى فعلاً تتحرك، لكن كم تتحرك؟ تتحرَّك كل عشر سنوات أو كل مائة سنة – مثلاً – أجزاء من الملليمتر، وهذا يحدث مع القارات، لكن هذا في مائة ألف سنة أو في ملايين السنين يُؤثِّر كثيراً جداً، وكذلك الحال مع مخ الإنسان، فكيف تطور مخ الإنسان مثلاً؟ تطور مخ الإنسان تطور ربما في ملايين السنين، بنسبة واحد على ألف للجيل فقط ولك أن تتخيَّل هذا، وليس بنسبة خمسة في المائة، والآن هنشوف سوف نرى شيئاً أكثر من خمسة في المائة، فهذه النسبة سوف تزيد أيضاً، لكن على كل حال هم لاحظوا أن أعماق هذه المناقير ازدادت بنسبة خمسة في المائة، وهذا يُساوي نصف ملليمتر، وهذا كان الجيل الأول، أما في الجيل التالي زادت الأعماق بنسبة عشرة في المائة، ولك أن تتخيَّل هذا، وهذه أيضاً – كما قلنا لكم وأنتم الآن أخذتم فكرة طبعاً – نسبة غير طبيعية بالمرة، فهى نسبة هائلة جداً، فطبعاً أدركت روزماري Rosemary وزوجها بيتر جرانت Peter Grant أن الانتخاب الطبيعي الآن فعلاً يشتغل ويعمل ويُلاحِق الظروف، ففي ظروف الجفاف يشتغل بطريقة، وفي ظروف الخصب يعود ويشتغل بالطريقة الرئيسة الأولى، ولو افترضنا أن الجفاف تواصل سوف يتواصل عمق المناقير في الازدياد، فهذا من المُفترَض أن يحدث بشكل مُؤكَّد بعد أجيال مُعينة، ومن هنا يقول بيتر جرانت Peter Grant في لقاء مع Scientific American “أنا أفترض لو تمت العملية بشكل تراكمي – أي أن يبقى الجفاف مُتواصِلاً مع وجود حبوب – سوف تبقى أعداد ضئيلة من العصافير لا بأس بها، وسوف تتكاثر ويزداد عمق المنقار وتزداد الحبوب قسوة، وأنا أعتقد في ظرف مائتي سنة فقط سوف نكون أمام نوع جديد من البرقش” فهو لن يكون البرقش نفسه وإنما سيكون نوعاً آخراً وسيُصبِح طيراً آخراً، وهذا أتى تأكيداً لحدس وفرضية داروين Darwin، فداروين Darwin افترض هذا، وجرانت Grant قال ” أنا مُتأكِد من هذا، فأنا قمت وزوجتي بهذه التجربة ورأينا هذا حدث بنسبة خمسة في المائة وعشرة في المائة”، وقد يقول لي أحدكم الآن “لكن البرقش بقيَ برقشاً” وهذا صحيح طبعاً، لكن جرانت Grant يقول “بعد مائتي سنة سوف يكون طائراً آخراً، أي سيكون نوعاً آخراً من الطيور”، وطبعاً هذا يُذكِّر بأمثلة كثيرة سأذكرها سرداً دون أن أشرحها، وهى مشهورة جداً في كتب علم الأحياء التطورية.
الأرانب البرية التي جُلِبَت من أوروبا إلى أستراليا عاشت في أستراليا بيئة جديدة، فاختلفت صفات كثيرة في الأرانب البرية المجلوبة من حيث حجم الآذان ومن حيث الأوزان والأبعاد حتى بين الأذنين، وهذا يُشير طبعاً إلى اختلاف حجم الرأس وسعة الجمجمة، وكذلك اختلف تكيفها مع المُناخ الحار، ففي أوروبا المناخ يُعتبَر بارداً بشكل عام، لكن في أستراليا المناخ يُعتبَر جافاً وحاراً، وهذا أثر على الأرانب من جهات كثيرة.
لدينا طائر إسمه Scarlet honeycreeper، أي مُتسلِق العسل القرمزي، وبعض العرب يسمونه داب العسل ولا أعرف لماذا، لكن المُهِم هو أن كلمة Scarlet تعني القرمزي وكلمة Creeper تعني مُتسلِق أو مُتعشِش، فهو مُعشِش أو مُتسلِق العسل القرمزي، وهو طائر جميل ولذا يُمكِنكم أن ترونه في الـ Wallpaper الخاصة باللكمبيوتر Computer أحياناً لأنهم يستخدمون صورته في هذا، وهو طائر رجلاه حمروان – ساقاه حمروان – ولونه أزرق، فهو جميل جداً، وهو قرمزي بسبب لون الرجلين وليس الجسم، فالجسم أزرق لكن الساقان قرمزيتان Scarlet، أي لونهما قرمزي، وهذا الطائر يُوجَد في هاواي Hawaii، وفي مواسم مُعينة في هاواي Hawaii تلاشى مصدر هذا الطائر المُفضَل للرحيق – للنكتار Nectar – فاعتمد هو على مصدر آخر، لأنه كان يأخذ هذا النكتار Nectar من زهور مُعينة لكن هذه النباتات ربما تلاشت وفنيت، فبدأ يأخذ الرحيق من نباتات أخرى، فما الذي حدث إذن؟ منقاره أصبح أصغر حجماً، أي تصاغر المنقار واختلف حجمه وشكله، فهذا تكيف وتطور، إذن هذا يحدث!
لدينا الحلزون البحري في نيو إنجلاند New Engalnd، والحلزون البحري في نيو إنجلاند New Engalnd فيما يُرجِح علماء التطور تحت تأثير المُفترِسات – الحيوانات التي تفترسه – وخاصة السراطين – Crabs – والسلطعونات – حدث له تكيف تطوري بحيث أن الدَّرَقة أو الصدفة الخاصة به أصبحت أكثر سماكة وزاد حجمها حتى لا يُمكِن افتراسه بسهولة، وهذا شيئ عجيب، وهذا له صور تُؤكِّد فعلاً أن شكلها وحجمها اختلف، وهذا تطور يحدث أيضاً.
هناك تطور أعجب من هذا كله على كائن دقيق إسمه بقة شجرة التوت الصابوني Soapberry Bug، وهذه الكائنات توجد في أمريكا في مكانين مُختلِفين، وهى تعيش على أشجار مُتوطِّنة، وشُجيرة التوت الصابوني هذه موجودة في شمالي ووسط أمريكا، ويقوم البق Bug باستعمارها، وعندنا شجرة ثانية إسمها Perennial Balloon Vine، أي الكرمة المُنتفِخة – البالونية – المُعمَّرة، علماً بأن كلمة Vine تعني الكرمة، أي كرمة العنب، وهذه موجودة في جنوبي فلوريدا Florida، ويعيش عليها هذا البق Bug، وهذا البق له مناقير طبعاً، لكنها مناقير مُخصَّصة للبق وليست مناقيراً للعصافير، ولكنها تُسمى Beaks بالإنجليزية كما لو كانت منقاراً مثل منقار العصفور من حيث الإسم، فنفس الإسم يُستعمَل هنا وهناك، لكن هذا منقار خاص بالبق، وعلى كل حال هذه البق لها مناقيرBeaks، وهى تخترق بهذه المناقير الصغيرة جداً طبعاً البذور إلى أن تصل إلى النواة، فهى تسيخها وتُذيبها ثم تمتصها، وهذه هى طريقتها في التغذية، فلو عندنا فواكه تحت الأشجار وفيها بذور فإنها تدخل منقارها وتُذيب هذه البذور ثم تمتصها، أي أنها تعيش بهذه الطريقة، لكن ما الذي حصل؟ في هذه البلاد استعمرت هذه البقة أو هذا البق ثلاثة أنواع من الأشجار جديدة غير الشجرتين المذكورتين، نوعان من هاته الأنواع الثلاثة فاكهتها وبالتالي بذورها أكبر بكثير من فاكهة وبذور الشجرتين المذكورتين، والنوع الثالث فاكهته وبالتالي بذوره أصغر بكثير من الشجرتين المذكورتين، والآن سوف يتدخل التطور، فهم يقولون الآن تُوجَد فرضية أو نبؤة، فما هى إذن؟ على البقة أن تتكيف بتطوير مناقيرها بالزيادة والنقصان بحسب المُستعمَرات الجديدة لها، ونحن نُريد أن نختبر الفرضية طبعاً وهى كانت صحيحة، بمعنى أن البق الذي يستعمر الأشجار التي هى أكبر حجماً في الفاكهة والبذور من الأشجار الأصلية عليه أن يُطوِّر مناقير أطول، وعلى البق الذي استعمر الشجرة الأصغر بالفاكهة والبذور أن يُطوِّر ارتدادياً منقاره لكي يُصبِح أصغر حجماً، وبالضبط هذا ما حصل، فالعلماء يقولون “هذا ما حصل” بعد أن درسوا هذا، لكن كيف هذا؟ في الأشجار الأكبر فاكهة ً وبذوراً طوَّرت مناقيرها فأصبحت أكبر بنسبة خمسة وعشرين في المائة، وطبعاً هذا الرقم الآن أكيد له دلالة عندكم، فأن تصل النسبة إلى خمسة وعشرين في المائة في ظرف يسير لا يتجاوز ربما عدة سنوات يُعَد شيئاً هائلاً جداً جداً، ولو أردنا أن نُعبِّر عنه نسبياً وقلنا – مثلاً – في عشرة آلاف جيل من البق سوف يبقى التطوير هذا بشكل تراكمي وسوف يزيد باستمرار – علماً بأن جيل البق يكون كل سنتين، فهو ليس كالبكتيريا كل أربع ساعات وإنما كل سنتين، أي عشرة آلاف جيل في خمسة آلاف – وبالتالي لو بقيَ البق تراكمياً يُطوِّر منقاره بهذه الطريقة في خمسة آلاف سنة وبقيَ يطور حجمه أيضاً – طبعاً هذا افتراض لا يُمكِن أن يحصل، لكنه افتراض لكي تعرف قيمة الخمسة والعشرين في المائة، فهذا معناه أنه تطور بشكل غير طبيعي بالمرة، هذا تطور جذري – فسوف يكون هذا المنقار بطول ألف وثمانمائة ميل Miles، أي سوف يُصبِح طول المنقار قُرابة ثلاثة آلاف كيلو متر، وسوف يكون قادراً على تسييخ وامتصاص بذور فاكهة بحجم القمر، أي ربع الأرض، فلو عندك فاكهة بحجم القمر سوف يستطيع أن يُدخِل منقاره فيها ويُسيخ البذرة ثم يمتصها، إذن خمسة وعشرون في المائة في فترة أجيال يسيرة تُعتبَر تطوراً جذرياً دراماتيكياً مُثيراً جداً، فهذا أمر غير طبيعي ولكنه طوَّره بالفعل بنسبة خمسة وعشرين في المائة نحو الأكثر.
هناك تجربة أخرى أيضاً، وقد حدثتكم عن أسماك الجوبي Guppy – Guppies – وكيف أنها حين أمِنت الموت والفناء كانت تنضج جنسياً في وقتٍ مُتأخِر، وكانت وتيرة تكاثرها وتعداد بيوضها أقل، وقلت لكم أن حجم الأسماك بعد ذلك سيكون أكبر، وهذه الفرضية أو هذه الحقيقة ينبغي أن تتكرر نُطق أخرى مُختلِفة كثيراً، حتى في حق النباتات أيضاً وليس فقط الحيوانات، ولك أن تتخيَّل هذا، بمعنى أن نباتاً مُعيناً يعيش في بيئة تتعرض للجفاف من المفروض الآن تطورياً أن يكون إزهاره أكثر تبكيراً، والإزهار هو أهم شيئ في عملية التكاثر، فالمفروض الآن تطورياً أن يكون إزهاره أكثر تبكيراً وليس أكثر تأخيراً، فعليه أن يفعل هذا بسرعة، وطبعاً التبكير يكون قبل خمسة أيام أو قبل أسبوع أو قبل عشرة أيام بحسب اختلاف النباتات، والعكس صحيح طبعاً، فحين يكون هناك خصب ورفاه فإنه يتأخر إزهاره، وهذا كله نوع من التكيف أو أنواع من التكيفات، وهذا يحدث في كل أفراد العشيرة بعد ذلك، وهنا يشتغل أيضاً الانتخاب، وهذا الذي حدث فعلاً مع نبات إسمه نبات الخردل البري Brassica Rapa، فنبات الخردل البري Brassica Rapa جُلِبَ إلى ولاية كاليفورنيا California من حوالي ثلاثمائة سنة مضت، ومن سنة ألفين ميلادياً – أي قبل أربع عشرة سنة – عانى جنوب كاليفورنيا California الجفاف لمُدة خمس سنوات مُتوالية، فمن ألفين إلى ألفين وخمسة كان يُوجَد الجفاف الشديد لعدم وجود كميات من الأمطار الهاطلة بالقدر المُعتاد، والآن سيتم اختبار هذه الفرضية على النباتات، أي على نبات الخردل البري الذي يعيش في هذه البيئة،
فالعالم آرثر فايس Arthur Weiss – علماً بأن في اللغة الإنجليزية يقولون وايس ولا يقولون فايس، فهناك طبعاً مُشكِلة في نطق الأسماء الإنجليزية من أصل ألماني، فحتى إلى الآن تُوجَد مُشكِلة، فهم لا يعرفون هل يُنطَق بالأصل الأماني أو يُنطَق بالإنجليزية، فلا ندري هل نقول وايسمان Weismann – مثلاً – أم نقول فايزمان، وكذلك الحال مع إسم Werner ، يُمكِن أن يُنطَق ويرنر ويُمكِن أن يُنطَق فيرنر، مثل ويرنر Werner هايزنبرج Heisenberg، فحتى الآن يُوجَد اختلاف، والمُتعصِّبون يقولون يُنطَق بالـ Accent الإنجليزي وليس لنا علاقة بالنطق الألماني، لكن هناك مَن يقول يجب أن يُنطَق بالألمانية وليس بالإنجليزية، أي يُوجَد اختلاف على كل حال – وزملاؤه من جامعة كاليفورنيا درسوا هذه النبتة في هذه الفترة المُحدَدة النموذجية – أي من ألفين لألفين وخمسة – ووجدوا أن الانتخاب الطبيعي فعلاً يشتغل كما توقعوا في الاتجاه السليم، لماذا؟ لأن زهور الخردل البري تزهر قبل موعدها المعروف الاعتيادي بأسبوع كامل في الجفاف، فهى تُزهِر قبل ميعادها مُسابَقةً إلى استبقاء الحياة وإلى درء الفناء.
الآن سأذكر بعض الأشياء التي لها علاقة بالانتخاب الصناعي أو الاستيلاد الصناعي لكن بفضل وسائل غير بشرية، فنحن البشر ليس لنا علاقة بها، فسوف نرى كيف يتم في الطبيعة هذا الشيئ بوسائل غير بشرية، ولذلك هو أقرب إلى أن يكون حليفاً للانتخاب الطبيعي، لكن هو ليس انتخاباً طبيعياً، هو في الحقيقة استيلاد أو نوع من الاستيلاد الانتخابي، ويكون بين مخلوقين وأكثر، وأشهر الأمثلة على ذلك الزهور والحشرات، ومن هنا يقول علماء التطور “الحشرات هى أول المُدجِّنات The First Domesticators”، فأول المُدجِّنات ليست هى الإنسان وإنما الحشرات، أي أن الذي مارس التدجين لأول مرة ليس هو الإنسان وإنما الحشرات، فهى أوائل المُدجِّنات Domesticators، لكن كيف هذا؟ وتُدجِّن ماذا؟ تُدجِّن البناتات وتُدجِّن الزهور، فالحشرات تفعل هذا على أساس الألوان وعلى أساس الروائح وعلى أساس الرحيق والطعم والغذاء والطاقة Energy، لأن هذا الرحيق – النكتار Nectar – في نهاية المطاف هو غذاء سكري أو هو رحيق سكري، وهو يُعطي الحشرات الساقطة على الزهور المُمتصة لهذا الرحيق طاقة، فهى تتزود بالطاقة من خلاله، إذن نحن عندنا الطاقة أو الرحيق وعندنا الروائح وما إلى ذلك، لكن طبعاً ليست كل الروائح جميلة دائماً، وهذا أمر يجب أن ننتبه إليه، فهناك بعض الحشرات التي تُحِب الروائح القذرة مثل ذباب اللحم مثلاً Flesh Fly، فهو يُحِب الرائحة القذرة، وهناك – سبحان الله – نباتات تُزهِر بزهور روائحها قذرة جداً، فهناك نبات يُزهِر بزهرة إسمها بنجامين المُنتِن Stinking Benjamin، أي بنيامين الناتن، وهذه تحط عليها ذبابة اللحم، وهناك زهرة إسمها زهرة الجيفة Corpse Flower، والـ Corpse
تعني الـ Leiche وهى الجثة حين تتعفن وتتفسخ، فيتم تسميتها Corpse، فهذه الزهرة إسمها زهرة الجيفة Corpse Flower، وهى تحط عليها مثل هذه الأشياء، لكن هذه الأشياء قليلة، لأن مُعظم الزهور رائحتها – سبحان الله – طيبة، كأن مُعظم الحشرات تُحِب ما يُحِبه الإنسان، فتُحِب الروائح الطيبة، ولكن يُوجَد منها مَن يُحبون الأشياء الخبيثة، مثل بعض البشر سبحان الله، فهذا موجود حتى في الطير والحشرات، هذا موجود وهذا موجود، فكله موجود لكي يعيش ولكي يتوافق.
نأتي الآن إلى موضوعنا مرة أُخرى، فنحن الآن في بداية القضية، فكيف تحتال هذه النباتات المُزهِرة على الطبيعة التي فصلت بينها – أي بين ذكورها وإناثها مثلاً بالتعبير السهل – بفواصل فيزيقية؟ أي بفواصل مادية بين هذه وهذه قد تصل إلى واحد كيلو أو خمسمائة متر أو اثنين كيلو أو عشرين كيلو، فكيف يتم التلقيح رغم هذه الفواصل الفيزيقية؟ أول وسيلة هى التلقيح بالرياح، وهم يقولون أنها أول وسيلة ابتدعها النبات ودعمها الانتخاب الطبيعي ولا يقولون أي تعبيرات دينية أخرى، وعلى كل حال أول وسيلة هى التلقيح بالرياح Wind Pollination، وكلمة Pollination تعني التلقيح ومنها كلمة Pollen التي تعني حبوب اللقاح، فالتلقيح بالرياح Wind Pollination كان وسيلة أولية وبدائية، وهذه الوسيلة موجودة إلى اليوم طبعاً لكنها مُكلِفة، فلكي يُنتِج النبات حبوب اللقاح سوف يسرق طاقة كبيرة طبعاً، وأصلاً هذه الطاقة مُخزَّنة في الأوراق الخضراء ومأخوذة من الشمس، فهو لن يستخدم هذه الطاقة في بناء الجذوع أو حتى في بناء الأوراق أو في بناء المخازن الخاصة به – عنده مخازن تحت الأرض تتعلَّق بالدرنات والبصلات المُتدرِنة – أو في بناء مثل هذه الأشياء وإنما سيضطر أن يستخدم جزءاً مُهِماً منها في بناء حبوب اللقاح، وحبوب اللقاح التي ينقلها أو تنقلها الرياح لابد أن تكون كثيرة جداً، فيجب أن يُنتِجها النبات بإسراف، حتى يضمن أنها تقع في الموقع المُناسِب، بمعنى أنها لا تعمل كالطلقة السحرية، وأنتم تعرفون تعبير الطلقة السحرية ـ Magic Bullet – طبعاً، والطلقة السحرية هى التي تُصيب الهدف تماماً، فعندما يُصاب هدف واحد بطلقة واحدة فإن هذه الطلقة تكون طلقة سحرية، لكن طبعاً التلقيح بالرياح ليس له علاقة بالطلقات السحرية بالمرة، فهو عنده طلقات عبثية أبعد ما تكون عن السحر، بدليل أن الرياح تأتي وتحمل ملايين الملايين من حبوب اللقاح وتضع مُعظمها على الإطلاق في الأماكن الغلط، وبدليل الذي نُعانيه أو يُعانيه كثيرٌ منا من حمى القش Hay Fever، وحمى القش هذه عبارة عن وقوع حبوب اللقاح في أنوفنا، فهى لا تقع في أماكنها السليمة وإنما تقع في آنافنا، فنستنشقها ويبدأ لدينا التحسس – Allergy – والمعاناة طبعاً منها، ومن ثم زيارة الأطباء للتخلص من فرك العيون ومن التحسس ومن كل المتاعب المُتعلِّقة بالحساسية، وعلى كل حال أجزاء بسيطة جداً منها هى التي تُصيب الهدف، ولذلك قالت النباتات قالت هذه المسألة لا طائل من ورائها وبالتالي يجب أن نبحث عن حيلة ثانية نحتال بها وأن نستخدم وسائل مُواصَلات أُخرى، فالرياح ليست وسيلة جيدة، نعم تؤدي الغرض ولكن بتكلفة كبيرة، فما هى الوسيلة الثانية؟ سوف نرى وسائل مُواصَلات مُتحرِكة مثل الخفافيش والنحل والذباب والطيور وسائر الحشرات، فهذه كلها وسائل مُواصَلات تستخدمها النباتات، لكن لابد أن تدفع لها الأجرة، فهذه لا يُمكِن أن تخدمها إلا أن تدفع لها الثمن، فما هو الثمن الذي تُقدِّمه هذه الزهور؟ الثمن هو الرحيق أو النكتار Nectar، فهى تُعطي لها الرحيق لكي تجلبها، وطبعاً في مُعظم الحالات الرحيق يدعو إلى نفسه عبر المظهر الجميل والألوان الجذّابة الحسنة، فيأتي الحيوان ويقع عليها ويمتص الرحيق ثم يذهب إلى زهرة أخرى، ويتفق في كثير من الأحيان أن تكون هذه هى الزهرة المطلوبة، فتكون من نفس النوعية المطلوبة ويتم التلقيح بين الذكر والأنثى، وهذا عمل جميل جداً، وهو الآن يُذكِّرني بزهرة السحلبية أو
الأوركيد Dendrobium Orchid، وهذه الأوركيد Orchid حدثتكم عنها في أول الحلقات حين ترجمت لتشارلز داروين Charles Darwin وقلت لكم أنه نشر في عام ألف وثمانمائة واثنتين وستين كتاباً عن الأوركيد Orchid وعن وسيائلها المُخادِعة في التلقيح، والرجل طبعاً أطلق نبؤة خاصة به، فهو سمع – سمع ولم ير هذا وإنما سمع به من العلماء والزائرين وربما السائحين – بوجود نوع من الأوركيد Orchid في مدغشقر يُسمى Angraecum Sesquipedale، فهذا هو الاسم العلمي لهذه الزهرة باللاتيني، وهى زهرة أوركيد Orchid كبيرة ويصل طول المسار الذي ينتهي بالرحيق إلى قريب من ثلاثين سنتيمتراً، وهذا شيئ عجيب ونادر جداً في الزهور في العالم أن يكون طول المسار قُرابة هذا الطول، فتنبأ داروين Darwin إذن وأطلق نبوءة مع ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace – شريكه في ابتداع مفهوم الانتخاب الطبيعي – بضرورة وجود حشرة أو فراشة بالأحرى – أكثر كائن عنده هذا الخرطوم الطويل هو الفراشة – لها خرطوم يبلغ طوله ثلاثين سنتيمتراً، وهذه الفراشة لم يرها أحد،فهى فراشة بخرطوم يصل إلى ثلاثين سنتيمتراً مثل مسطرة، أين يُمكِن أن تُوجَد مثل هذه الفراشة؟ لكن الآن حين تذهب إلى النت Net وتكتب فراشة
داروين Darwin’s Moth سوف تظهر لك وسوف تستغرب منها، وطبعاً هناك مقطع فيديو Video لعالم أحياء قد أفلح في تصويرها في الليل وهو يهتف فرحاً لأنه استطاع أن يُصوِّرها فعلاً، فهذا شيئ لا يكاد يُصدَق، وعلى كل حال هى موجودة وفعلاً تستطيع أن ترى هذا الخرطوم الطويل والملفوف أحياناً والذي هو بطول ثلاثين سنتيمتراً، وهذه الفراشة لم يرها داروين Darwin ولم يرها أحد، لكنه قال “هذه الفراشة لابد أن تكون موجودة”، ويموت داروين Darwin ويعيش والاس Wallace حياة أطول، وفي حياة والاس Wallace الطويلة في ألف وتسعمائة وثلاث تُكتشَف هذه الفراشة لأول مرة، ويصل الخرطوم فعلاً إلى زُهاء ثلاثين سنتيمتراً، وهو الذي يقوم بامتصاص الرحيق، وينقل طبعاً هذا الفراش حبوب اللقاح من هذه الزهرة إلى الزهور الأخرى المطلوبة، وتخليداً لداروين Darwin ونبؤة داروين Darwin أُطلِق على هذه الفراشة إسم النبؤة Predicta، فهى إسمها فراشة النبؤة Predicta Moth أو تُسمى فراشة داروين Darwin’s Moth، وهذا شيئ عجيب لكنه من الفصول الجميلة في تاريخ هذه المسألة.
سأُحدثك الآن عن شئ لطيف جداً – من ألطف ما يكون – يتعلَّق أيضاً بالأوركيد Orchid وحيل الأوركيد Orchid في التلقيح وفي إيصال حبوب لقاحه، فهناك أشياء غريبة جداً جداً من ضمنها أن بعض هذه الأوركيد Orchid تُشبِه إناث النحل، فهذه الزهرة طورت شكلها بحيث تُشبِه أنثى النحل أو أنثى الدبور- Wasp – أو أنثى الذبابة، فهناك أنواع كثيرة، منها ما يُشبِه أنثى النحل، ومنها ما يُشبِه أنثى الدبور Wasp، ومنها مايُشبِه أنثى الذباب، وهذا شيئ عجيب، وطبعاً هنا سيأتي ذكر الفائدة، فالفائدة أنها تفعل هذا الآن مجاناً بغير ثمن، فهى غير مُضطَرة أن تُفرِز رحيقاً، وسوف توفر الرحيق – كما قلت لكم – لأنه قد يُستخدَم في بناء الجذع أو في بناء الدرنات والبُصيلات أو في بناء الأوراق أو في بناء أي شيئ آخر، فكأنها تقول لن أصنع رحيقاً وسأخدع هذه الحشرات أو الطيور أو غيرها وسوف تقوم بالتلقيح لي مجانياً، وهذا شيئ عجيب وشيئ غريب، ومع ذلك يقولون لك هذا انتخاب طبيعي، فكل هذا انتخاب طبيعي، أي أن كلمة السر عندهم هى الانتخاب الطبيعي الذي يفعل كل هذه الأعاجيب، وهذا شيئ عجيب، وعلى كل حال هى تأخذ شكل أنثى هذا أو هذا أو هذا وفعلاً تأتي الحشرة المخدوعة بالمظهر المُناسِب، وتحط عليها لأنها تُريد أن تُجامِعها، وهنا ينتقل اللاقوح Pollenia، لكن ما معنى اللاقوح Pollenia؟ اللاقوح هو كمية كبيرة من حبوب اللقاح تكون مع بعضها البعض، وكل كمية تُسمى باللاقوح Pollenia، فهذه اللواقيح – جمع لاقوح – تتعلَّق بأرجل هذا الكائن المخدوع، ثم يحط على زهرة أخرى مُناسِبة فيقع التلقيح مجاناً، فهنا لن تُفرِز الزهرة أي رحيق ومع ذلك سيقع التلقيح.
هناك أيضاً زهرة من الأوركيد Orchid تُسمى عنكبوت الأوركيد Spider Orchid، وعنكبوت الأوركيد Spider Orchid إسمها العلمي باللاتيني هو براسيا Brasia، وهى زهرة غريبة، وهناك دبور إسمه الدبور المُتفرِد أو المُتوحِد Solitary، وزهرة الأوركيد Orchid تُشبِه – كما قلنا – العنكبوت، وأنثى الدبور المُتوحِد – Solitary – طريقتها في الغذاء تمثل في أنها تقع على العنكبوت الحقيقي فتلدغه وتشله في مواضع مُعينة – عندنا دراسة في علم الأعصاب تُفيد بأنها تلدغه وتشله – ثم تضع بقها أو بيوضها عليه، فحتى إذا فقس يجد لحماً طازجاً، فهذه هى طريقتها إذن، والآن تأتي أنثى الدبور المُتوحِد وتُخدَع بعنكبوت الأوركيد Orchid، فهى تظن أن هذه الزهرة عنكبوتاً، فتقع عليها وتبدأ في لدغها حتى تتركها لحماً ظازجاً لبيوضها، لكنها في الحقيقة مُجرَد زهرة وليست حشرة أو عنكبوتاً، وهنا يحدث نفس الشيئ، حيث تتعلَّق بها حبوب اللقاح، ويتم التلقيح بنفس الطريقة مجاناً.
هذه خدع غريب من أغرب ما يكون، لكن مَن يفعل هذا؟ قالوا الانتخاب الطبيعي، فهم مُقتنِعون بأن الانتخاب الطبيعي هو الذي يفعل هذا وهو الذي يُعطي هذه الزهور هذه الأشكال لكي يخدع هذه المخلوقات، لكن – كما قلت لكم – لا السمك يعرف هذا ولا العصافير تعرف هذا ولا الحشرات عندها القدرة أن تُفكِّر فيما يُفكِّر فيه الآخر، فهل يظن أحد أن الزهور تُدرِّك أن أنثى الدبور المُتوحِد ترى أن شكلها على شكل العنكبوت التى تفعل كذا؟ هل هى تُدرِك أن شكلها شكل عنكبوت؟ هذا الكلام غير موجود بالمرة، ومع ذلك قالوا أن هذا يحدث بالانتخاب الطبيعي، لكن كل هذا سنُعيد تفسيره وتأويله في السلسلة الثانية وسوف نُحاكِمه بشكل فلسفي دقيق جداً لكي
نفهم ما الذي يحصل، وطبعاً على ذكر هذا العنكبوت وأنثى الدبور المُتوحِد قال ريتشارد دوكنز Richard Dawkins في أحد كتبه “أنا عند هذه المرحلة لا أستطيع أن أُقاوِم إغراء أن أذكر لكم شيئاً مُقابِلاً – وفعلاً كان شيئاً جميلاً جداً ومُثيراً إلى حد فعلاً الإذهال – لهذه الحالة”، فما هو إذن؟ قال “هناك حالة عكسية تماماً – نحن ذكرنا الآن أن زهرة أوركيد Orchid تأخذ شكل العنكبوت لكي تخدع أنثى الدبور المُتفرِد والآن سوف يقول لك العكس تماماً – حيث يُوجَد عنكبوت يأخذ شكل زهرة الأوركيد Orchid – ولك أن تتخيَّل هذا قكأنه يُجازيها بسوء صنيعها – وهذا العنكبوت إسمه Epicadus heterogaster”، فالـ Epicadus heterogaster يُقلِّد – كما قلت – شكل زهرة الأوركيد Orchid – أي كأنه زهرة – فتأتي الحشرات إلى تلك الزهرة على أمل أن تمتص رحيقها فتُلتَهم، وهذا شكل مُناظِر ومُقابِل تماماً لموضوع زهرة الأوركيد Orchid التي تأخذ شكل العنكبوت، فكأنه يقول لها أنا في هذه المرة سوف آخذ شكلكِ، فأنا عنكبوت حقيقي وسوف آخذ شكل زهرة الأوركيد Orchid وأقوم بحماية نفسي.
لم يبق لدينا إلا ربما دقائق معدودة ومن ثم سوف أختم هذه الحلقة بمثال عن زهرة الأوركيد المطرقة Orchid Hammer، هذه الزهرة – باختصار – لها ذراع Arm، وهذا الذراع ينتهي بكوع وبمفصل مرن مُتحرِك، أي أنك الآن عندك شيئ أشبه بالمطرقة، حيث يُوجَد ذراع فيه كوع ومفصل مُتحرِك، وعندك جزء آخر من الزهرة يُمكِن أن يُقال أنه السندان، فهذه هى المطرقة وهذا هو السندان، فيأتي نوع من الدبابير – Wasps – ويحط على على الطرف – طرف الذراع عند الكوع المُتحرِك – لحيلة ما جديدة الآن، وذلك لأن هذا الطرف المُتحرِك يُشبِه الأنثى الخاصة به، فهو شكله مُتحوِر كأنثى الدبور، وطبعاً أنتم تعلمون أن الحشرات تملك عيوناً مُركَبة، لأن عيونها ليست كعيون الإنسان، ففي موضوع الحدة – Sharpness – في النظر نحن نتميز عنها ونرى بأعين أشبه بالكاميرا، لكن الحشرات لا ترى الأشياء كما نراها نحن بهذا الوضوح أبداً، لأن العيون مُركَبة من ألوف العيون والأجزاء، فأي مُشابَهة إلى حد ما هى تُدرِكها على أن مُشابَهة تقريباً تامة، فنحن نرى شيئاً من مُشابَة، أي أننا نرى أنها تُشبِه تقريباً أنثى الدبور، لكن ذكر هذه الحشرة يراها مثل أنثاه تماماً، فيُخدَع بها خداعاً كافياً أن يقع في المصيدة، وعلى كل حال يأتي الدبور ويقع على هذا الجزء الذي يحسبه أنثاه مُحاوِلاً الاتصال به جنسياً – أي أن يُجامِعه جماع الأنثى – طبعاً،والدبور يتحرك حركة خافقة طبعاً – كما تعرفون – مثل كل الحشرات والطيور،وهذه الحركة الخافقة تكفي لأن يتحرك هذا الذي يحسبه أنثاه، فيلطمه – أي يلطم الدبور – بالسندان حيث تقع حبوب اللقاح، علماً بأنك تستطيع أن ترى هذا مُصوَراً في الفيديو Video، فهذا مشهد من أعجب المشاهد، وهكذا يُضطَر رغماً عنه أن يحمل ببدنه وأيضاً ربما بأرجله إذا حركها شيئاً من حبوب اللقاح، ثم يقع على زهرة أخرى من نفس الصنف – أوركيد المطرقة Orchid Hammer – فيُلقِّحها بهذه الطريقة.
انتهى الوقت للأسف الشديد، أعتقد أننا أكتفينا في هذه الحلقات الثلاث بالعرض لنماذج من التطور الصغير أو الصُغروي، فلن نعود إليه – إن شاء الله – في الحلقات الأخرى، سندخل في قسم آخر أو في صنف آخر من الأدلة على نظرية التطور، لكن على التطور الكبير أو الكُبروي.
إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق