عدنان هنا ليس شخصا بالتحديد بل هو رمز لأي تيار إصلاحي شق عليه ما وصلت إليه “خير أمة أخرجت للناس” من هوان وشقاق فشمر الأردان وخاطر بالرقبة والأهل والولدان في صفقة طرفها الأضعف في الأرض، والآخر الملك الديان “السجع الوارد لم أسعَ إليه حثيثا “. وفي حال كهذه ليس مهما أن يكون الإسم عليا أوعدنان أو حسنا، المهم هو المشروع الذي يحمله حاملو هذه الأسماء.
بدءاً أراني مضطرا للتنويه إلى أن المخاطب في عنوان المقال أولئك النفر الذين وجدوا في حركة عدنان إبراهيم مهربا لهم من طخية عمياء و متنفسا من كتلة دخان سوداء راكمها في أنوفهم رهط من جميع المذاهب -بلا إستثناء- خطفوا المبادىء السمحاء لأشرف دين ختم الله به رسالاته السماوية على يد أشرف خلقه “محمد صلى الله عليه وآله”. فالتفوا عليه كعرف الضبع، ينثالون من كل جانب مجندين كل ما أتاح لهم عصرهم من وسائل إتصال كانت إلى وقت أقرب أشبه بالنكتة السمجة، فجزاهم الله خير ما يجزي به المحسنين على هذا الإلتفاف والإنثيال المباركَين.
باعتباري واحدا ممن يتابعون هذا المشهد الحركي من أعلى التل أرى أن الكثير -وأقولها بمرارة لاذعة- من هؤلاء، وجدوا في طروحات عدنان تعبيرا عن مكبوتات نقمتهم من مذهب محدد من مذاهب المسلمين، حتى إذا أبدى الدكتور جانبا مما يراه هنات في مذهبهم ابتلعوا ريقهم بمرارة وربما أغلقوا الخطبة أو المحاضرة وقد لا يكلفون أنفسهم حتى عناء النقر على خيار الـ”لايك” إستنكارا. فما عدا مما بدا؟ ألا يُفهم من ذلك أننا مع الدكتور ما كان معنا، متماشيا مع أفكارنا؟ لكن عندما يمس معتقدنا من قريب أو بعيد بطرح علمي مبين ننقلب على أعقابنا بانتظار خطبة أخرى يضع فيها أفكار وأشخاص المذهب الآخر على منصة النطع لنتشفى بذلك؟
ما هكذا –والله- تورد الإبل. لأننا لو فعلنا ذلك فسنكون دواهيم وخماميس ونوافيف آخرين، ضُربت أفكارهم في الصميم فانبروا منافحين ولو أتيحت لنا فرصة كفرصهم لفعلنا الذي فعلوا وربما أكثر من ذلك. ساءلتكم الله ونفسي الأمارة أولا، كم واحدا منكم مهيأ ليخوض العباب الذي يخوضه الآن عدنان إبراهيم المُخاطِر بكل شيء من أجل إنجاح صفقته مع رب العالمين؟ من أراد –حقا وصدقا- أن ينصر هذا التحرك المبارك فأشرفُ عمل يقوم به هو أن يبدأ بنفسه أولا ليرى كم يتسع صدره لقبول أفكار تتعارض، بل أحيانا تنسف الكثير من معتقداته المتوارثة من الجذور.
ولكي لا أتحدث بابن عم الكلام، أسأل أعزائي من الشيعة، ماذا كان شعوركم عندما نفى الدكتور نفيا قاطعا فكرتي عصمة الأئمة الإثني عشر والإمام المهدي وما بينهما وفق المنظور الشيعي؟ أكاد أجزم أن الكثير منا شعر بالمرارة القاتلة. وهؤلاء الكثير يريدون من عدنان فقط أن يسفّه المذهب الوهابي وينتقد خروج عائشة على علي “ع” ويلعن يزيد بن معاوية على ما إقترفه بحق المسلمين، أما أن يقترب من أسوارنا فهذا خط أحمر على الدكتور تجنبه ما إستطاع إلى ذلك سبيلا.
إذن نحن نريد من عدنان أن يكون مفصّلا على مقاييسنا، وليس المقاييس التي يريدها هو. لو ثـُنيت لي الوسادة لتوسعت أكثر في هذه النقطة لكن في جعبتي الكثير مما أريد قوله كي أوفي عنوان المقال حقه قبل أن تتفرق بي السبل.
أعزائي الكرام، الإخلاص لحركة عدنان ليس أن ننتظر إنتهاء خطبته الغراء أو محاضرته العصماء لنكتب له عبر الفيسبوك أو التويتر سطري إطراء وكلمتي إستحسان و “لا فض فوك” و” لقد اسمعت لو ناديت حيا” و هذا الإستحسان والإطراء يتناسب طرديا مع تماشي خطبة الدكتور مع متبنياتنا العقدية. أرجو أن لا يفهم من كلامي هذا أنني لا أشجع على التعبير عن الإطراء أو أشكك بصدقيته، أبدا والله، لأنني فعلت أبعد من ذلك مع الدكتور عدنان، بل أنا واثق من أنه يدخل السرور إلى قلبه، لأنه من خلال ذلك فقط سيتيقن من أن رسالته سمعها المئون وربما الآلاف داخل وخارج النمسا.
لكن المسألة الأهم هي مردود هذه الملاحظات الجميلة على مجمل تحرك الدكتور؟ من كان منا يرى في نفسه الإخلاص لهذه الحركة المباركة عليه أن يحاكي شغف الدكتور الجارف للبحث ومطاردة الحقائق، لا يعنيه إن كان الوقت ليلا أم نهارا. الإخلاص لهذه الحركة يعني التسلح بأدب الحوار المبني على أساس متين من الوعي والخزين المعرفي والأدلة الدامغة، لأن الآخر هو أيضا مسلح بما يدحض حججنا. إخلاصنا لهذا التحرك هو التسلح بلغة عربية رصينة لا تدع مجالا للآخر ليتهمنا -عن وجه حق طبعا- بتجاهل جمال لغة القرآن وفنونها الساحرة.
إخلاصنا لهذا التحرك المبارك يفرض علينا جميعا -بدءا من كاتب السطور- إعادة النظر في كل ما نتبناه من أفكار ولا نرسل الأشياء إرسال المسلمات. قبل أسبوع تشرفت بترجمة “باقة من روضة المفكر علي شريعتي رحمه الله” يقول الدكتور في واحدة من عباراته المحلقة ما معناه: إلهي … أشعلْ نار الشك المقدسة في داخلي لتأتي على كل يقين إستقرت إليه نفسي، لتبزغ من ركام الرماد إبتسامة مشرقة على شفاه صبح يقيني الخالي من الغبار” أتمنى على كل منّا أن يتأمل في هذا الدعاء الرائع الذي أرجو أنْ قد أحسنت نقله للعربية.
الوفاء لمشروع الدكتور عدنان هو أن نسعى جميعا لأن يكون كل واحد منا “عدنانا” آخر بأسلوبه الخاص به لكي لا يستفرد به في الساحة. الوفاء لحركة عدنان هو أن لا نحول الأشخاص في القديم والحديث إلى قديسين مبرئين من الخطأ وبالنتيجة هم مبرّؤون من الشبهات لا تقترب منهم سهام النقد مهما كان صنيعهم. الوفاء للدكتور يعني أن نسعى جميعا إلى عدم الإكتفاء بالنشوة عندما يتعرض لمن نظنهم أعداؤنا في الفكر والعقيدة.
الوفاء لحركة الدكتور يعني أن لا نكون كفرق كرة القدم التي تنتظر خسارة منافسها لتتصدر هي جدول النقاط. الوفاء لعدنان لا يعني بالضرورة أن نكتفي بإرسال محاضراته لمن نحب، بل الوفاء كل الوفاء يعني نشر طريقته المحايدة المتجردة من الإرثيات في الإمساك ما أمكن بتلابيب الحقيقة والإقرار بالخطأ عند وقوعه.
وفاؤنا لهذه الحركة يملي علينا أن نسعى لنكون –كالدكتور- موسوعيين في ثقافتنا، وهذا لا يتعارض مع التخصص إطلاقا بل يعززه. الوفاء الحقيقي أن نكون باحثين عن الحقيقة حتى الرمق الأخير وعدم الركون إلى أن ما عندنا هو الحق المطلق وأن ما عند غيرنا هو الباطل المطلق، فنكونن من الأخسرين أعمالا الذين ظل سعيهم … وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
الوفاء الحقيقي هو أن نجد أنفسنا مدافعين عن مبدأ عند غيرنا كنا نظنه بالأمس القريب باطلا فثبت لنا صوابه بالدليل، ونتخلى بشجاعة عن فكرة كنا نتبناها وراثيا فتكشّف لنا بالبحث بطلانها. الوفاء يعني أن نؤمن بأن أي أمر “خلا لا إله إلا الله محمد رسول الله الذي لا يجد الباطل إليه سبيلا ” هو أمر خاضع للنقاش ولا يطعن بإيماننا، طالما أن الحقيقة والحقيقة وحدها هي وجهتنا.
قبل بضعة أيام أرسلت وصلة إحدى خطب الدكتور عدنان لصديق عزيز علي يبدي حرصا كبيرا على متابعة أنشطة الدكتور قديما وحديثا. وعندما التقيته لأناقشه في بعض ما ورد في الخطبة فاجأني بأنه لم يستمع لها فحسبت أن الأمر لا يعدو كونه ناجما عن ضيق الوقت. لكنه كان شجاعا عندما صارحني بالقول: لا أطيق سماع أي خطبة لعدنان إبراهيم لأنه لا يؤمن بالامام المهدي … فتصوّر.
أخيرا، لعل البعض لاحظ أنني أتجنب إستخدام لقب “الشيخ” مع الدكتور عدنان لأن هذا اللقب فقد عندي شخصيا معناه الذي جاء من أجله بسبب الشيوع وسوء الإستخدام. أعتذر عن الإطالة والعذر عند كرام الناس مقبول.
بقلم: أ/حميد آل جوبير
أضف تعليق