إذا كان بعض الذين عاصروا الإمام واستشعروا عظمته قد أحبوه وناصروه وبذلوا مهجهم دونه لأنهم رأوا فيه المثل الخالد المجسد للإسلام وقيمه، وغالى آخرون في حبه وتقديسه حتى عبدوه، فلا عجب في ذلك، إنما العجب أنه يأتي قوم في عصور تفصلها عن عصر الإمام عشرات القرون، ومنهم من يولد ويشب في بيئات أخرى لا تؤمن بدينه ولا تسير على منهجه، ومع ذلك تبهرهم عظمة شخصيته ويشدهم سمو مواقفه وتسحر أفئدتهم حكمته وبلاغة كلماته، فيعشقونه ويشهرون حبهم له على رؤوس الأشهاد من خلال أقوال منصفة ستظل تردد أصداءها ذاكرة التاريخ، وتهتف بها جنبات الكون، وإليك عزيزي القارئ طائفة من أقوال بعض الذين عشوا إلى ضوئه ونهلوا من معين حكمته وبلاغته:
يقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) في كتابه (محمد المثل الأعلى) (ص34) تعريب محمد السباعي: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان) اهـ.
هذه عقيدة الفيلسوف الإنكليزي المسيحي في الإمام علي…
إنه يؤكد أن حب علي أخذ من قلبه كل مأخذ…
ولكن، لماذا؟؟..
لقد أكبره وأحبه لأنه وجد فيه الصفات الرفيعة المتألقة بأقداس الإنسانية…
فعلي قد استوى على قمة العظمة البشرية علماً… ومكارم… وأخلاقاً.. وفضائل.. وعلي يحتل الدرجات العُلى حسباً.. ونسباً.. وشرفاً.. فهو هاشمي أباً وأماً..
والهاشميون ذؤابة المحامد في قريش خاصة والعرب عامة..
وعلي ينطوي على روح الإباء التي ترفض الدنايا رفضاً مطلقاً..
وعلي قد نضجت في نفسه المقدسة، وفي قواها الباطنة سنابل الرحمة، وحب الخير للناس أجمعين، وهو فوق هذه الصفات الباسقة شجاع لم تعرف ميادين الحروب بطلاً أثبت منه قلباً.. ولا أكثر جرأة وإقداماً.. ولا أشد منه قوة، فهو ما نازل بطلاً إلا صرعه.. وهو مع هذه الشجاعة الخارقة يمتاز: بالتواضع.. والحياء.. والحنان الرحيم.. بينما يصف لنا التاريخ أبطال العالم بالقسوة.. والأنانية.. والاستعلاء..
وتتجلى لنا رأفته.. وشعلة من حنانه المقرونة بحب إسعاد الناس.. في عهده للأشتر النخعي الذي بعث به والياً على مصر – ذلك العهد الفذ الرائع.. الذي قال له فيه من جملة ما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم.. ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية…)، ولكي تستقيم له أمور الرعية على الوجه الذي يأمن معه العثار، يقول له: (وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).
ثم يفقهه المسلك الذي فيه سعادته، وصلاح الشعب وهناؤه.. فيقول له: (إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)1هـ.
هذه الكلمات القليلة في عددها.. الواسعة أرحب ما تكون السعة في مضامينها، ومراميها، والكثير غيرها مما عرفه الفيلسوف (كارليل) عن الإمام أثارت إعجابه، وجعلته يقول: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه.. الخ..
ويتحدث الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في كتابه (علي وبنوه) – وقد ذكر ما شمخ أمام علي من مصاعب – فيقول:
(وجد علي نفسه.. صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).
ويقول: (له فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين ويؤمن بها أهل السنة، كما يؤمن له بها شيعته)اهـ (1).
ويقول المؤرخ والمحقق الفرنسي (كاراديفو) في كتابه (مفكرو الإسلام) (ص10):
(وعلي هو ذلك البطل الموجَعُ، المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد، ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي)اهـ.
يرى البحاثة الفرنسي (كاراديفو) في علي فارساً غالباً، ولكنه فارس صوفي، أي إن فروسيته نهلت من معين المعارف الإلهية حتى الارتواء.. فهو لا يرفع سيفه النبيل، ويهوي به إلا ليقتل شيطاناً من طواغيت الاستكبار المشرك، والطبيعة الجاهلية، البطرة، ليعز كلمة الله، ويجعل الناس يعيشون تحت ظلالها جنات الإخاء.. والمحبة، وسلامة الصدور من: الأحقاد، والبغضاء، والمفاسد التي اتخذ منها إبليس جنوداً ليحجب الإنسان عن ربه وإنسانيته…
وعلي إمام رفعه إلى مقام الإمامة الأقدس كفاءاته العلمية.. والدينية.. والأخلاقية.. وسموه الروحاني..
ويرى (كاراديفو) أن علياً يحمل فكراً اجتماعياً ثورياً فاعلاً يرقى في تطوير المجتمع إلى تحقيق ما تحلم به الإنسانية من حياة فاضلة.. كريمة.. وأنه استشهد في سبيل ما كان يريد أن يجعله واقعاً حياً.. لذلك فهو إمام شهيد.. صاحب نفس وضيئة تختزن سراً إلهياً قدوسياً.. هو سر قبول تحمل العذاب حتى الموت لإنقاذ الإنسان من الظلمات إلى النور…
وعن تلك الفروسية التي تحدث عنها (كاراديفو) يقول المفكر الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد تحت عنوان (مفتاح شخصية الإمام علي): (آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما يحتاج إلى تفسير، وقد بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء…
ولقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضى الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها..
ثم يقول: (والإمام علي فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه..).
ويتابع قائلاً: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)اهـ.
ويجعل العقاد الحديث عن علي (البطل، الموجَع، المتألم) فيقول: إن ثقافة الإمام هي: ثقافة العَلَم، المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام…
وإنها هي ثقافة الفارس، المجاهد في سبيل الله،يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه.. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا، مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه..
وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه).
ويقول: (كان علي المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال، إنه طبع على الإسلام… وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه، ولا أعمق نفاذاً فيه) (2).
أما جبران خليل جبران أنبه عباقرة الفكر العربي في هذا العصر فإنه يرى العظمة متألقة في ثلاثة من البشر يمثلون الكمال الإنساني، هم عيسى، محمد، علي..
يقول في علي: (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية..
ثم يقول: مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته…
مات والصلاة بين شفتيه…
مات وفي قلبه شوق إلى ربه…
ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى..
مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض..
مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم)اهـ (3).
لقد رأى جبران الكمال الإنساني بكل معانيه وأبعاده متجلياً في ثلاث من شخصيات العالم هم: عيسى، محمد، علي..
وجبران يعتقد أن علياً هو أول عربي – بعد رسول الله(ص)- عرف الذات الأحدية.. ولم يفارقها في حبه، وإخلاصه، وصدق سريرته، وفي خطبه النورُ الساطع الدليل على ذلك، وفي سلوكه الديني، والاجتماعي.. والإنساني أيضاً..
وجبران يعتقد أن الذين أحبوا علياً قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة..
ويرى جبران أن علياً مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية.. ورقيه الروحاني.. وعقيدته الإسلامية الصافية..
وأنه أغمض عينيه الكريمتين عن هذا العالم، وأنوار الصلاة الرحمانية تسطع على شفتيه بهاء ملكوتياً وأنه ترك هذا العالم قبل أداء رسالته القرآنية بسبب وجوده بين قوم أعشت قلوبهم الأحقاد الجاهلية.. وشهوة حب التسلط، فلم يقدروه حق قدره.. فحاربوه.. وحرموا البشرية من تحقيق أمانيه في: الحرية.. والمحبة.. والإخاء، والمساواة، والعدل الاجتماعي.. والاقتصادي، تلك الأماني التي كان يريد أن يصبها على الناس أجمعين نعيماً فياضاً بالخير.. والمرحمة.. والبركات.. والعيش البهيج الرغيد…
وعلي في عقيدة جبران (جوهرة بين الحصى)، أي أنه تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل…
وحقاً قال نابغة الشرق جبران، فإن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق..
وإنه ليعطينا عن ذلك صورة صافية الظلال، مشرقة الألوان الباحث الإسلامي المصري المعروف الاستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه النفيس (علي بن أبي طالب بقية النبوة).
يقول الخطيب في (ص87): (فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع.. لا يعرف المسلمون سيفاً كسيف علي في إطاحته رؤوس أئمة الكفر، وطواغيت الضلال من سادة قريش وقادتها.. وكان علي فقيه الإسلام.. وعالم الإسلام.. وحكيم الإسلام.. غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه…)اهـ.
ثم يزيدنا أيضاً في أسباب عداوة قريش لعلي، تلك العداوة الحمراء التي ورثها الأبناء عن الآباء فيقول: (ما أردنا تقريره، من أن علياً كان أكثر المسلمين شدة على مشركي قريش، وأكثرهم تنكيلاً بهم، وإفجاعاً لهم في الآباء والأبناء، والأعمام والأخوال، والذي نريده من هذا هو أن نذكر تلك التِّرات، وهذه الإحن التي وقعت في القلوب، وغمرت النفوس في المعارك التي وقعت بين المسلمين ومشركي قريش، وما وقع فيها من صرعى، وأن نذكر أن تلك الإحن وهذه التِّرات قد صادفت من قريش قلباً خالياً من الإيمان بالله، فتمكن الحزن منها، واستمرت الحسرة فيها، على حين أن ما أصاب المسلمين في أنفسهم وفي أهليهم لم يكن ليجد له مقاماً في نفوس آمنت بالله، وآثرت الموت على الحياة، وطلبت الشهادة وتعجيلها في سبيل الله، هذه الإحن، وتلك التِّرات، التي وقعت في نفوس قريش المشركة، قد ظلت حية فيها، بعد أن دخلت في الإسلام، هذا الدخول العام الذي كان عن قهر، أكثر منه عن نظر واقتناع، وسنرى آثار ذلك وشواهده، حين يُمتحن المسلمون بتلك الفتن التي أطلت برؤوسها بعد وفاة النبي(ص)، وحين تقف قريش في وجه بني هاشم، وحين تذودهم عن الخلافة، ثم تنالهم بسيوفها..الخ)
ويجيئنا الأستاذ العقاد ليبرز لنا لوحة أخرى ترينا موقف قريش من علي قد تكون أدق وضوحاً وأرسخ وثاقة فيقول: (إن قريشاً كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة).
ثم يكشف لنا عن سبب ذلك الحقد الدفين فيقول: (فقد بطش علي بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم: عتبة بن أبي ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه يوم بدر.. عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه التِّرات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقداً أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار.. أما وهي تحاربه بعصبيتها، وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي(ص) ولم يكن حزب قط أقوى من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها)اهـ (4).
وعن بلاغة علي التي تكلم عنها جبران يحدثنا علم من أعلام الفكر الإسلامي هو الإمام الشيخ محمد عبده فقيه الديار المصرية سابقاً من خلال مطالعته نهج البلاغة الذي بهرته بلاغته، وحمله إعجابه به على شرحه، يحدثنا فيقول: (فتارة كنت أجدني في عالم يغمرني فيه من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها.
وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدياً، فصل عن المركب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى..) (5).
وهذا باحث ومفكر إسلامي هو الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي يقدم إلينا كتابه (علي إمام المتقين)، ويطلب أن نصغي إليه وهو يتحدث إلينا عن الشهيد الإمام علي بن أبي طالب تحت عنوان (جسد علي النبيل) هوذا يقول: (جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكماً ابتلي بمثل ما ابتلى به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل).
ثم يقول: (قبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن، أنه كلما قيلت كلمة (الإمام)، فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام، وذلك، لأن ما أمتلكه من: علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة، لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن..) أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب، فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الإسلام، ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة، ونبالتها، وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم..
وهكذا كان، فريداً حقاً.. عالماً، وحاكماً.. فسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته: منارات إشعاع.. ومنابع حكمة.. ومثار عزائم.. وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال.. وتشرق به النفس.. ويزهو به العقل.. وكم من الكلمات المشرقة.. والمواقف المضيئة.. خلّفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها.. ودليلاً، ونبراساً..).
ويستمر قائلاً:
(عاش يناضل دفاعاً عن: الشريعة.. والعدل.. والحق.. والمودة.. والإخاء.. والمساواة بين الناس، سلام عليه.. سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه(وآله) الصلاة والسلام: (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار)اهـ.
ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والأهواء)اهـ (6).
ويقول الشرقاوي في مقدمة الكتاب: (تجسدت في الإمام علي، أخلاق الإسلام، ومثله، فقد تعهده الرسول: طفلاً.. ورباه صبياً.. وثقفه فتى.. وقال عنه: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها))اهـ(7).
وهذا الأستاذ جورج جرداق الأديب اللبناني المعروف، الرحب الاطلاع على ثقافات العالم القديم والحديث، يدرس الإمام علياً من المهد إلى اللحد، فتنتشي نفسه إعجاباً بعلي، لقد رأى في تراثه: علماً شاملاً.. ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقاً نقياً تصغر عنده إشراقة الصباح، وإنسانية تتدفق بحراً من الجمال والجلال…
رآه وكأنما هو: قرآن بعد القرآن…
وإنه ليراه (أقرب الخلق إلى المسيح بوداعته، وزهده، وتواضعه، واستقامته، وصلابته مع الحق، وعظمة أخلاقه، وقوة إيمانه، وعمق إنسانيته، وجلال مأساته)اهـ (8).
وفي جلساته المتأملة المتأنية يجري مقارنات بين علي وأنبه عباقرة العالم أمثال: سقراط، أفلاطون، وفولتير.. وغيرهم.. فيراه سباقاً شامخاً في الطليعة، وتلك المقارنة أنبتت في نفسه رغبة جامحة أن يكتب دراسة عن علي، وتحلو له هذه الرغبة.. ويعرض له خاطر سرعان ما لباه، فأمسك بقلمه السيال وشرع يكتب.. ولكن، إلى من؟؟
كتب إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة الأديب.. والبحاثة.. والفيلسوف على المستوى العالمي يستطلع رأيه فيما عقد عليه عزيمته..
وجاء الجواب نفحة غبطة.. وبهجة رضى، وروعة تشجيع…
قال له: (نِعم ما أقدمت عليه في وضع كتاب عن الإمام علي، حالفك التوفيق).
ثم يقول له: (تسألني رأيي في الإمام كرم الله وجهه، ورأيي أنه – بعد النبي – سيد العرب على الإطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنايا.
فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية، متوهجة ببوارق الإيمان الحي، ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز، فكأنها اللآلئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال، وكأنه البحر يقذف بتلك اللآلئ دونما عنت أو عناء.
ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء الإمام علي، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال..
حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتخذت مكانها في أواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها، إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها، فهي كالغلق في القنطرة).
ثم يقول: (إن علياً لمن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومكان)اهـ(9).
ذلكم هو رأي ميخائيل نعيمه في الإمام علي بن أبي طالب…
لقد عرف الكثير من العرب بأنهم جهابذة البلاغة، وأفذاذ الحكمة…
وعرف كثير من المسلمين بفهم الإسلام دين الله، وبالتعصب المر للحق، والترفع عن كل خسيس، ولكن علياً هو الملك المتوج عليهم جميعاً في كل ذلك.. بل هو من السابقين حتى في الحلبة العالمية…
وهو في كل ما نطق به يتدفق سلساً عذباً فراتاً يلقيه بلا ومضة تكلف، ولا إيماءة جهد، وكأنما هو البحر يقذف ما يخبئه في جوفه من لؤلؤ ومرجان… أما ما يقذف به علي من بحر علومه وفصاحته فإنه أكثر نفاسة من اللآلئ والمرجان، ذلك لأنه كلمات محكمات تكسو الإنسان حلل الخير بمعناه الشامل روحياً…ومادياً…
أما اللغة فإنها تأتيه طيعة، تتبين ذلك بما يبدهك به من حذاقة عجيبة في تشقيق المعاني وإلباسها الصور النابضة بأنفاس الحياة، فإذا بك أمام عبقرية باهرة تجعلك تلمس القدرة الفائقة على التعبير الدقيق للمعنى الأبهج دقة..
وينتهي الأستاذ جرداق – الذي وصف قلمه بأنه ساحر دافئ – من كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) فيعصب جبينه الأستاذ نعيمة بمقدمة يتحدث فيها عن الكتاب ومؤلفه، فيقول عن الكتاب:
(إنه مكرس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام، وإلا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان.. فيتصدى لها بالدرس، والتحليل، والتمحيص…)
ثم يتحدث عن الإمام علي فيقول: (وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحروب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق، وهذه البطولات مهما تقادم بها العهد، لا تزال معلماً غنياً نعود إليه اليوم، وفي كل يوم، كلما أشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة).
ثم يتحدث عن الأستاذ جرداق فيقول: (إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك، حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام، كالحقبة التي عاشها.
فالذي فكَّره وتأمله، وقاله، وعمله، ذلك العملاق العربي، بينه وبين نفسه وربه، لمما لم تسمعه أذن، ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير مما عمله بيده، أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة).
ثم يقول: (ويقيني أن مؤلف هذا السّفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في ىز العمال) ج6 ص402، وقال: أخرجه شاذان الفضيلي في رد الشمس، ط/إسلامبول (1285هـ).
وأخرجه عب%Dا الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي) (10).
وهذا شبلي الشميل المشهود له بعمق التفكير، وسعة الاطلاع أدباً.. وفلسفة.. يتصدى لنا ليقول: (الإمام علي بن أبي طالب، عظيم، نسخ%ide_share=
أضف تعليق