الإسلام والنصرانية: صراع سرديات أم لقاء حضارات؟

audio

أزمة الفهم الديني في العصر الحديث

لطالما شكَّلت العلاقة بين الأديان والتاريخ مادة جدلية يتجاذبها الفهم الانتقائي والمصالح السياسية والاجتماعية. في خطبته “من الإسلام إلى النصرانية بحثًا عن التسامح والمحبة”، يتناول الدكتور عدنان إبراهيم هذه الإشكالية من منظور نقدي عميق، مُسلطًا الضوء على التناقضات التي تحكم تصورات البعض حول الإسلام، وخاصةً تلك التي تصوره كدين يتسم بالعنف والتشدد مقارنةً بالمسيحية التي تُطرح كدين الرحمة والسلام.

لكن هل هذا التصور حقيقي أم أنه انعكاس لقراءات مجتزأة للتاريخ والنصوص؟ وكيف يمكن إعادة تقديم الإسلام كما ورد في أصوله، لا كما صاغته النزاعات التاريخية والسياسات المتعاقبة؟ هذا ما يسعى الدكتور عدنان إبراهيم إلى الإجابة عليه من خلال تحليل معمق يجمع بين الدراسة النصية والاستقراء التاريخي، مدعومًا بمقارنات تفضح الانتقائية في التعامل مع التراث الديني.

الإسلام في نصوصه: دين الرحمة والعدالة

ينطلق الدكتور عدنان إبراهيم من النصوص المؤسسة للإسلام، مؤكدًا أن الرحمة تُعد المبدأ المحوري في الشريعة الإسلامية. فالله – كما ورد في القرآن – “الرحمن الرحيم”، والرسول محمد ﷺ وُصف بأنه “رحمة للعالمين”، ما يعكس طبيعة الدين التي تنبذ الظلم والتعصب.

ويبرز في حديثه العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى التسامح، مثل حديث “في كل ذات كبد رطبة أجر”، والذي يوسع دائرة الرحمة لتشمل الإنسان والحيوان على حد سواء. لكن المشكلة تكمن في اختزال الإسلام في نصوص جزئية تُستخدم لخدمة توجهات معينة، دون النظر إلى السياق الكلي للرسالة الإسلامية.

التاريخ بين الواقع والتفسير المسيس

من أكبر الإشكاليات التي يناقشها الدكتور عدنان إبراهيم هي القراءة الانتقائية للتاريخ الديني. فمن السهل على بعض الدارسين والقادة الدينيين تضخيم الحوادث التي يظهر فيها العنف داخل التراث الإسلامي، مقابل إغفال أية جرائم ارتُكبت باسم الديانات الأخرى.

يستشهد الدكتور عدنان بكتاب “الدعوة إلى الإسلام” للمستشرق البريطاني توماس آرنولد، الذي أكد أن الإسلام انتشر في أماكن عديدة بفضل عدله وليس بالقوة. ويقارن ذلك مع تاريخ المسيحية في العصور الوسطى، حيث انتشرت أحيانًا بحد السيف، خاصة خلال محاكم التفتيش والحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت.

كما يعرض كيف مارست الدولة العثمانية تسامحًا مذهلًا مقارنةً بالاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا، حيث سمحت لمختلف الطوائف الدينية بممارسة شعائرها بحرية. هذه المقارنة تُبرز كيف يمكن للتاريخ أن يكون شاهدًا على أن التسامح والتعايش ليسا محصورين في دين معين، بل يعتمدان على الفهم الحقيقي للرسالة الدينية.

إسلام الواقع: الفجوة بين المبادئ والممارسة

يشير الدكتور عدنان إلى أن أحد التحديات التي تواجه الإسلام اليوم هو الفجوة الكبيرة بين مبادئه كما وردت في النصوص وبين طريقة تطبيقها في الواقع. ففي الوقت الذي تتحدث فيه النصوص عن الرحمة والعدالة، نجد أن بعض الممارسات التي تنسب إلى الإسلام تتسم بالقسوة والتشدد.

يرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل، منها التأثيرات الثقافية والاجتماعية، والقراءات الخاطئة للتراث، واستغلال الدين لأغراض سياسية. وهذا يُحتم ضرورة العودة إلى الأصول لفهم الإسلام بعيدًا عن التشويهات التي لحقت به عبر التاريخ.

نحو مراجعة شاملة للفهم الديني

في ختام تحليله، يدعو الدكتور عدنان إبراهيم إلى مراجعة جذرية للفكر الديني، تستند إلى إعادة قراءة النصوص في سياقاتها الصحيحة، وإلى استيعاب التحولات التاريخية التي أثرت على تفسيراتها. كما يشدد على أهمية تقديم الإسلام بصورة تعكس قيمه الحقيقية، لا الصورة المشوهة التي يرسمها خصومه أو بعض أبنائه الذين أساؤوا فهمه.

إن قراءة الإسلام بمنهج علمي عقلاني، والانفتاح على دراسة الأديان الأخرى بمقارنة عادلة، هو الطريق الوحيد لفهم جوهر الرسالة الإلهية. وهنا، يظهر دور المفكرين والعلماء في تصحيح المسارات، واستعادة الصورة المشرقة للإسلام التي تقوم على الرحمة والتسامح والعدالة، بعيدًا عن التطرف والتوظيف السياسي.

بهذه الرؤية، لا تصبح مراجعة التراث خيارًا فكريًا فقط، بل ضرورة ملحة لمستقبل يحقق التعايش الحقيقي بين الأديان والثقافات.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: