إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۩ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ۩ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۩ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۩ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ۩ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ۩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ۩ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۩ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ۩ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۩ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ۩ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ۩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ۩ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ۩ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ۩ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۩ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ۩ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۩ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ۩ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ۩ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۩ وَادْخُلِي جَنَّتِي ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
مُذ كنا صغاراً ونحن نتحفظ هذه الطُرفة التي يبدو أنها شرَّقت وغرَّبت فلم تخل منها أمة، طُرفة النحوي المُتحذلِق وربان السفينة الصغيرة، يسأل النحوي المُدِل بعلمه ربان السفينة بعد أن أنس به قليلاً هل لك درايةٌ بعلم النحو؟ قال في الحقيقة أسمع به ولكن لا دراية لي به البتة، فقال النحوي باستخفاف وبمهانة – يُشعِر الآخر بالمهانة – لقد ضيَّعت نصف عمرك، حزن الرجل وانكسر إلا أنه كظم على غيظ ومضى إلى عمله، وبعد بُرهة لم تطل كثيراً اغتلمت الأمواج إذ هبت ريحٌ عاصفٌ زعزعٌ قلبت بعد حين السفينة وإذا بهذا اللوذعي النحوي يصرخ وهو يعالج الموت مُستلهِفاً مُستنجِداً مُستغيثاً، فأجابه ربان السفينة وهو أيضاً يتدبَّر أمره لكن بسلاسة وسهولة إذ كان خبيراً بالسباحة قائلاً أيها النحوي هل تعلم شيئاً عن السباحة؟ فقال لا والله كما ترى، قال إذن يا مسكين ضاع عمرك كله.
عبرة الحكاية أن المعارف تقريباً والعلوم والفنون على اختلافها وتبيانها نسبية، ما يُجدي منها في موقف قد لا يُجدي في موقف آخر، وما تحق الحاجة إليه في وضع قد لا تمس إليه في وضع آخر، لكن حتى نمضي مع عبرة الحكاية إلى مُنتهاها نتساءل هل ثمة معرفة تُجدي في كل وضع وتحق إليها الحاجة وتمس في كل حالة؟ المفروض أن يكون الجواب بأن نعم، المعرفة بالله تبارك وتعالى، ليس بالطب وليس بالحساب وليس بالفلسفة وليس بالفقه وإنما المعرفة بالله تبارك وتعالى، ولا يعني أنك عالم دين أو فقيه أو عالم حتى في العقيدة أنك عارف بالله أو عالم حتى بالله، هذا لا يعني ذاك البتة، المعرفة بالله شيئٌ آخر وأفقٌ آخر، لماذا جعلنا هذه المعرفة نافعةً في كل حال وتمس الحاجة إليها في كل وضع وتحت كل شرط؟ لماذا؟ أظن أن الجواب بسيط وقريب منكم، لأن الإنسان في نهاية الأحوال مخلوق وليس خالقاً، والمخلوق دائماً تتناوشه المصائب والمكروبات والحاجات والضعف والقصور وهناك الموت، ثم بعد الموت هناك البعث والحساب، هذا لمَن آمن، ونحن في كل هاته الأحوال وفي كل هاته الظروف نحتاج عونه – لا إله إلا هو – ونحتاج مدده ونحتاج صحبته – إن جاز التعبير – وخلته، قال النبي ولكن صاحبكم خليل الرحمن، أي أنه قال أنا صاحبي وخليلي الله تبارك وتعالى، كما قال مولانا الرومي – قدَّس الله سره – حتى صحبة الوالدين وهم سبب هذا الوجود المادي الداثر السريع تزول وتنقضي، أين أبواك؟ يقول حيان، سيموتان عما قريب، قد تموت قبلهما لكن الأرجح بحسب سُنة الله أنهما يموتان في مُعظَم الأحوال قبل الأولاد، سيأتي يوم وقد درجا وقد ذهبا، انقضت الصحبة وانتهى كل شيئ، الحائط الذي كنت تستند إليه ليس فقط مال بل زال، ليس فقط مال هذا الحائط بل زال، انتهى هذا الحائط، حتى صحبة الوالدين يأتي عليها يوم من الأيام تنتهي وتزول ، لكن صحبة المولى وخلة المولى والعلاقة مع المولى – لا إله إلا هو – نحتاجها في السلم والحرب، نحتاجها في الرخاء ونحتاجها في الضراء، نحتاجها ونحن في السجن والحبس ونحتاجها ونحن مُطلَقي السراح، نحتاجها في الحياة وعند الموت وبعد الموت ويوم القيامة، نحتاجها في كل أحوالنا إن كنا مُؤمِنين به لا إله إلا هو.
لماذا يا أحبابي – إخواني وأخواتي – قدَّمت بهذه المُقدَّمة ومهَّدت بهذا التمهيد وهو على كل حال من صُلب الموضوع؟ لأننا في عصر أصبح من أعظم ما يُضلِّلنا فيه كثرة العلوم والمعارف والفنون، كثرة كاثرة، هذا يُضلِّلنا ولم يعد للأسف يُجدي مُعظَم الناس الجدوى المطلوبة بل إنه يفعل الضد تماماً، كثرة المعلومات وكثرة الأراء وكثرة النظريات وكثرة الاجتهادات والتأويلات والتفسيرات والحذلقات والفذلكات ضلَّل الناس وجعلهم مُحتارَين تائهين، ولذلك نحتاج ليس إلى المعلومات وإنما نحتاج إلى الحكمة،قليلٌ من الحكمة يكفينا، لقد نعى الله – تبارك وتعالى – وثرَّب على الكافرين حيث وصفهم بأنهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، هم طبعاً شطّار حذّاق في التجارات وفي الصنائع وفي شتى المهارات وفي تحصيل أموال وتثميرها وتكثيرها وكنزها وادخارها، هم شطّار بلا شك لأنهم يعلمون، عندهم علم بهذا الشيئ، ومن ثم هم أساتذة وأساتيذ، للأسف كثير من الشباب المُسلِم ومَن يُسمى بالدعاة – تعلمون موقفي من لفظتي الدعوة والدعاة، الدعوة للكفار والدعاة للكفار وليس للمُسلِمين، وهذا ضلَّلنا أيضاً، هذا الاستخدام الخاطيء ضلَّلنا للأسف – من تقريباً زُهاء عقدين وهم يخبون ويضعون في هذه السبيل، سبيل ماذا؟ تعليم أنفسهم وتعليم الشباب والقواعد الجماهيرية كيف يكونون مُدراء ناجحين أو رأسماليين ناجحين أو تجاراً شاطرين، لماذا؟ هذا يُدرَّس في الجامعات، لا يُدرَّس على المنابر، يُدرَّس في دورات مُختَصة، ليس من الضروري أن يأتي شيخ أو داعية يدّعي أنه يعلم هذا، هذا له أهله، هناك مُدراء مارسوا الإدارة بنجاح عالمي فاذهب وخُذ دورات عندهم، ليس من المطلوب من الدين وليس هذا مطلوب من العلماء والدعاة، أن يُعلِّمونا كيف نحتاز الأموال وكيف نكنز الأموال و كيف نكون شطّاراً في الدنيا، الدنيا لها سُبلها ولها أساتيذها ولها فلاسفتها وهم موجودون، ونحن لا نُزهِّد الناس في الدنيا وإنما نُحاوِل أن نعطيهم ما أعطاهم الوحي الإلهي حكمةً يُديرون بها دنياهم لكي تعمر هذه الدنيا وتًضمن تلك الآخرة – بإذن الله تعالى – وإلا ضاعت الاثنتان، الأحمق يا أحبتي في الله – وحاشاكم وحاشاكن – هو الذي تستطيل وتعرض وتعمق معرفته بأشياء قد لا تكون هى المحور والجوهر والمُرتكَز، وتضمحل وترق وربما تختفي معرفته بما هو أس الحكمة، جوهر الموضوع لا يعلمه، وهذا شيئ غريب، لأنه فاقد للحكمة.
أحد السلاطين أتعبه أن ابنه أحمق لا يستطيع أن يُميِّز الصالح من الطالح والصحيح من الغالط والحق من الباطل والنافع من الضار، فهيَّأ له جماعةً عظيمة من كبار العلماء والحكماء لكي يخلقوا له دماغاً جديداً، وهكذا علَّموه سنوات طوال حتى فرغوا منه، استدعاه والده – السلطان الحكيم – يوماً وخبأ له شيئاً في راحة يده – أي في كف يده – وقال له ما هو هذا الشيئ الذي خبأته لك؟ تحرَّك بقليل من الذكاء وقال شيئٌ مُدوَّر، فقال صحيح، أحسنت، علماً بأنه خبأ خاتمه الذهبي، ثم قال شيئ مُدوَّر ومُجوَّف، فقال صحيح، فما هو يا بني بعد أن ذكرته بدقة؟ قال المُنخل، قال يا حمقك، تباً لك، ذكرت كل هذه الصفات وعرفت كل تلك الصفات بدقة وغاب عنك أن راحة اليد لا تتسع للمُنخل، إن الحماقة أعيت مَن يُداويها، نصاب الحكمة غير موجود، لا يستطيع أن يعقد مُقارَنات دقيقة وجيدة حتى أخر الشوط، يعرف مُعطيات لكن لا يذهب بها إلى آخر شوطها، أنا أقول لكم إذا كان هذا الأمير حقيقاً بأن يُضرَب به المثل في الحمق فإن اليوم مُعظَم المُسلِمين – كثير من المُسلِمين – هم الأجدر أن يكونوا أحمق البشر على وجه الأرض، أي نحن، هل تعرفون لماذا؟ لأن بين أيدينا نوراً إلهياً وكتاباً محفوظاً آية آية وكلمة كلمة وحرفاً حرفاً وهو دستور التوحيد، هو دستور التوحيد الخالص الصافي، أقصر طريق لمعرفة الرب – لا إله إلا هو – وآمن وأضمن طريق على الإطلاق القرآن العظيم، إلا أننا نخر عليه صُماً وعُمياناً، لم نستطع أن نستفيد من كتاب الله – تبارك وتعالى – في أن نبني عقيدة حقيقية في الله – تبارك وتعالى – تعكس الله كما يعكسه القرآن، لم نفعل هذا، نحن نفعل العكس تماماً، ما رأيكم؟ نفعل العكس تماماً، نحن لا نعمل لكي نُكيِّف أنفسنا وأفكارنا ومواجيدنا وعقولنا وأهواءنا وفق القرآن العظيم، بل نفعل العكس تماماً، نُكيِّفه وفقنا نحن، نحن لا نتكيَّف معه بل نُكيِّفه وفق أهوائنا، أهواؤنا ثأرية لأننا نُحِب الثأر، نُحِب أن نثأر من هذه الطائفة أو من هذه الفئة أو من هذه الأمة، نفعل هذا بإسم الله، وندّعي أن الله يرضى بهذا ويُحِب هذا، لكن هذا كذب، لا يسأل أحدنا نفسه سؤالاً بسيطاً وسهلاً: ما هى أولوية الله في القرآن الكريم؟ الله يُريد أن يعرض نفسه بدرجة أولى على أنه ماذا؟ طبعاً الأولوية واضحة جداً لكل مَن قرأ كتاب الله، والله وتالله وبالله لو قرأ القرآن مُلحِد لا يُؤمِن حتى بإلهية مصدره ولكنه قرأه لكي يتكلَّم فيه بكلام علمي مُحايد موضوعي لقال صاحب هذا الكلام واضح أن أولويته أن يعرض نفسه على أنه منبع الرحمات، مائة وأربع عشرة سورة باستثناء التوبة نجد في كل سورة – في رأس كل سورة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ باستمرار، أكثر الاسماء بعد إسم الله وروداً في كتاب الله (الرحمن الرحيم)، واضح أن صاحب هذا الوحي وصاحب هذا الكلام هو رحمن رحيم، أولويته أن يكون رحمن رحيم، يعرض نفسه على أنه الرحمن الرحيم، لماذا تعرض له على أنه نقمة وعلى أنه عذاب وعلى أنه كراهية وعلى أنه حرب ودم وقتل؟ كيف؟ لأنك في الحقيقة لم تُرِد يوماً أن تتعرَّف على الله، أنت أردت أن تتخذ الله وكلمات الله فقط ذريعةً ومسوغاً لأهوائك ولثأرياتك ولاختلالك النفسي والمواجيدي والعاطفي، وتزعم أن هذا كلام الله وهذا ما أراده الله، ويُصدِّقونك مَن هم أمثالك أيضاً، أنا أُصدِّق وأُوافِق وأُصادِق على أن أكثر هؤلاء الأتباع فعلاً إنما تهوَّروا وتورَّطوا لأنهم صدَّقوا ما لُقِّنوا وما أُلقيَ إليهم، لكن هذا لا يكفي، هذه ليست نهاية القصة، نهاية القصة تقول هذا ثمن تعطيل ملكة العقل، حين تُعطِّل هذه الجوهرة الإلهية التي أعطاك الله – تبارك وتعالى – فهذا هو الثمن، الثمن هو أنك تتحوَّل إلى مُجرِم وإلى وثني وإلى مُصنِّم وإلى قاتل لأنك عطَّلت هذا – أي العقل – ولن يكون لك من هذا حُجة تشهد لك وتدفع عنك بين يدي الله يوم القيامة، الله سيقول لك لماذا أعطيتك هذا العقل إذن؟ لو كنت أريد أن تتبعهم على عقولهم وأرائهم لما أعطيتك عقلاً، لأعطيتك قوة أخرى أسميها القوة المُقلِّدة، جهاز مغناطيسي ينجذب لآراء الأخرين، كأن ينجذب لرأي القائد الفكري والروحي، وهذا سيكون واحداً، من كل مليون أخلق واحداً، هذا لا يُعجِز الله لكنه لم يفعل هذا، لم يفعل هذا، أعطى كلاً منا هذه الجوهرة لكي يستعملها، لكنها عطَّلتها بإرادتك، لماذا؟ لأنك صنَّمت البشر وزعمت أنهم قديسون وأنهم أشباه الأنبياء وأشباه الملائكة وأنهم تقريباً معصومون ولا يُخطئون ويفهمون ما لا أفهم ويُدرِكون ما لا أُدرِك وإلى آخره، يا رجل أنت عندك العقل وعندك الفطرة وعندك الإنسانية، تذكَّروا دائماً – وهذا ما أكَّدته أكثر من مرة – أن آخر ما يُمكِن أن يُزوَّر الإنسانية، الدين يُزوَّر قبل الإنسانية، وهذا لا يعني أن الدين أقل أهمية من الإنسانية، ليس هذا طبعاً، ولكن المُرتكَز والأرض الصُلبة التي يُشاد عليها بناء الدين وخطاب الدين وخطاب التكليف هى الإنسانية، إذا أمكن أن تُزوَّر إنسانيتك فكل شيئ بعد ذلك لا جدوى منه، كل شيئ يُزوَّر، كل شيئ قيد التزوير وقيد التزييف، الإنسانية مهاد قوي جداً، هل تعرفون ما الذي يحصل؟ يُعلِّمون أنفسهم ويُلقِّنون أتباعهم بأن من المُمكِن جداً أن تُؤمِن بأن الله هو الرحمة وأن محمداً – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – هو رحمة العالمين وفي الوقت ذاته تُؤمِن بما يُؤكِّد كل إخوانك من البشر – من بني آدم، من الناس – أنه جحمة ونقمة ولعنة تُنسبَ إلى الله وأكثر من هذا إلى رسول الله، يُقال الرسول فعل والرسول عمل أشياء كلها نقمة وكلها جرائم، هذه تُنسَب إلى رسول الله وحاشاه، أنا أُصدِّق ماذا؟ هل أُصدِّق رواية – أين تكن هذه الرواية؟ لا يهمني، لا تقل لي في البخاري أو مسلم، هذه رواية، هذه رواية بشر، فلان عن فلان عن علان عن زيد عن عثمان، هؤلاء بشر يُخطئون ويُصيبون ويكذبون، هؤلاء بشر – أم أُصدِّق كتاب الله الذي قال وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩؟ فإذا قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، كيف أُصدِّق أنه كان جزّاراً ذبّاحاً وكان نقمة يا أخي؟ قالوا هذه رواية، عليك أن تحوط الدين من كل جوانبه، هذا يُمكِن، لكن كيف أفعل هذا؟ تُصدِّق الآية وتُصدِّق الرواية، هل تعرفون ما الذي يحصل؟ طبعاً هم يفعلون هذا، يُصدِّقون الآية طبعاً ويُكفِّرون مَن يردها ويقول لك نعم قال الله إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩ ولكن نُصدِّق أيضاً إلى الآية الرواية، كيف يا أخي؟ هذا معناه شيئٌ واحد وهو تزييف معنى الرحمة، ما يُدرِك البشر كل البشر أنه رحمة هم يُدرِكونه الآن من باب النقمة، يقول لك هذه النقمات رحمات أيضاً، أهذه رحمة؟ هل الذبح والقتل وقتل الأبرياء وقتل مَن لم يزر وازرة بنفسه – وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩ – أصبح رحمة؟ يقول جاءت بها الرواية وصح بها السند، يا رجل أين إنسانيتك؟ ضميرك يهتف بأن هذه عذاب وليس رحمة، ما الذي يحصل الآن إذن؟ لم ينتفعوا لا بالإنسانية ولا بالقرآن، فقدوا الاثنين معاً، الآن القرآن لم يعد يهدي، ماذا يهدي؟ إذا كان هو يُفسِّر الرحمة المُقرَّرة في كتاب الله بالنقمة والعذاب فإذن انتهى الأمر، لا تُوجَد فائدة لأن يتحدَّث القرآن عن الرحمة، لا تُوجَد فائدة، لماذا؟ لأنه زيَّف إنسانيته من أجل ماذا؟ من أجل أن يحتفظ بقدسية زائفة موهومة للروايات والأسانيد، لأن صحت الرواية أن النبي فعل هذا، لكن النبي لا يفعل هذا، لأن الله كَذَّب هذا، ما هو المعيار هنا؟ الإنسانية، يُوجَد معيار الإنسانية، إنسانيتي تعرف هذا، هذه ليست رحمة، حين تسأل أي بشر عن هذا فإنه يقول لك هذا ليس رحمة، هذه الفعلة بالذات لا يُمكِن أن تكون رحمة، هذه عذاب، هذه نقمة، هذه جحمة، هذه من الجحيم، لا تنتمي إلى الرحمة، لكنهم زوَّروا – كما قلت كلم – إنسانيتهم، ففقدوا إنسانيتهم وفقدوا وحي الله تبارك وتعالى، أي أهم فقدوا الله وفقدوا الإنسان ومن ثم ضاعوا، لم يبحثوا عن الله – تبارك وتعالى كما هو – وكما تعرف إلينا – لا إله إلا هو – أبداً، ولذلك ترون هذا السيل العرمرم من الغطرسة والقسوة والخيلاء والغرور والكبر والالتذاذ بإطلاق الأحكام على البشر – على عباد الله تبارك وتعالى – وتصنيفهم فيُقال هذا في الجنة وهذا في النار، وهذا بالظبط عكس سجايا الأنبياء والرسل وعكس خلال وصفات وسمات وشيات العارفين وأولياء الله تبارك وتعالى، العارفون بالله – عز وجل – على الضد منها تماماً على طول الخط، والله على طول الخط.
أتذكر كلمة للمُستشِرق الإنجليزي الكبير آرثر جون آربري Arthur John Arberry، هذا المُستشِرق قال مرة سأُنفِق ما بقيَ من عمري في دراسة أعمال مولانا جلال الدين الرومي، ما هذا؟ هل هو بروتستانتي؟ هل هو إنجيلي؟ هل هو كاثوليكي؟ هل هو أرثوذوكسي؟ هو مُسلِم، هذا عارف بالله وشاعر وفقيه وعالم مُسلِم، لكن أنت مسيحي إنجليزي ابن بريطانيا العظمى، ما القصة؟ قال سأُنفق ما بقيَ من عمري – طبعاً هو درسه سنوات طويلة – في دراسة أعمال مولانا جلال الدين الرومي، الرجل الذي نجح في أن يُنقِذ أهل بلده في وقته قبل سبعة قرون من فساد كبير وعذاب عظيم أما أوروبا اليوم المُنقسِمة وأوروبا المتعفِنة فليس لها ما يُمكِن أن يُنقِذها غير أعمال مولانا جلال الدين الرومي، شيئ تقشعر له الأبدان، هذا غير معقول، هذا مُفكِّر كبير ودارس عظيم مثل آربريArberry ويقول هذا، ما الذي وجده عند جلال الدين الرومي؟ ماذا يُوجَد عند الرومي؟ يا سلام، هل جلال الدين الرومي مُسلِم واليوم قتلة اليوم ومُكفِّراتية اليوم وصنّاع الكراهية والأحقاد والصورة السوداء عن الله والرسول والقرآن والمُسلِمين اليوم مُسلِمون أيضاً؟ نعم للأسف، يقولون لك هذه مسألة تفسير، هكذا فسَّروا الدين وهكذا فسَّره الرومي، كيف فسَّره الرومي؟ كيف فهمه؟ لا يُمكِن أن تبقى المسألة يا أحبتي في الله قيد النسبية، كأن يُقال هذه مسألة تفسير ومسألة تأويل وأن الإسلام يقبل أن يكون هكذا ويقبل أن يكون هكذا ويقبل أن يكون بين بين، هذا غير صحيح، هذه عدمية في التفسير، هذه عدمية في التأويل، هذه عدمية في الفهم، المسألة ليست هكذا، لابد أن نعود إلى دستور هذا الدين، كما قلنا ما هى أولوية الله في القرآن؟ واضح أنها الرحمة رغماً عنا، هذه مسألة إحصائية، الله يذكر الرحمة مائتي مرة ويذكر العذاب سبع عشرة مرة، وهذا أمرٌ عجيب، فالمسألة إحصائية، إذن الأولوية هى الرحمة وليس العذاب رغماً عني وعنك، لا تُوجَد نسبية هنا، هذا موجود رغماً عني وعنك، هذه أولوية الله، ثم أن الله – تبارك وتعالى – لا يخوض معارك بذاته لأنه لا أحد يقوم لله ولا أحد يبلغ من الله أن يضره فيضره، لا أحد ولا العالمون، أليس كذلك؟ نحن الذين نخوض المعارك ونحن الذين يُعتدى علينا أولولية الله ليست خوض المعارك، أولوية الله رحمة العباد وهداية العباد والحدب، قال الله مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ۩، لا إله إلا الله، هذه هى أولويته، لكن نحن لنا أولويات مُتحرِّكة، حين يُعتدى علينا تُصبِح الأولوية أن ندفع عن أنفسنا فقط، إياك أن تجعل أولويتك المُتحرِّكة النسبية الظرفية المشروطة أولوية لله كرب للعالمين وتقول هذا دين وهذا هو الله، هذا غلط، هذا إلحاد في الله، سميته مرة إلحاد المُؤمِنين، هذا إلحاد المُؤمِنين، أنت تحمل الناس على أن يكفروا بهذا الرب بهذه الطريقة لأنك أناني وأناني صغير، حوَّلت نفسك إلى إله زائف، جعلت أولويتك المُتحرِّكة المظروفة أولوية رب ثابت مطلق لا إله إلا هو، أي فقه في الدين هذا؟ أي طريقة في الفهم هذه؟ لكن طريقة بعض الفقهاء هكذا للأسف وكثير من هؤلاء المُتنطِّعين، فالمسألة ليست قيد النسبية الفضفاضة العدمية، هذا غير صحيح، وهى – كما قلت لكم – تخضع أحياناً حتى لمنطق إحصائي، أحصوا الآيات فضلاً عن القراءة المُعمَّقة والتأويلات، فنأتي إلى كتاب الله، ما الهدف وما المقصد الأعظم من الدين أصلاً ومن إرسال الرسل وتنبأة الأنبياء وإنزال الوحي؟ ما الهدف من هذا؟ هل أراد الله – تبارك وتعالى – من هذا كله أن يكون الدين فخاً وشَرَكاً نقع فيه فإذا وقعنا فيه تدهورنا في جهنم إلى أبد الأبدين؟ هل هو شَرَك؟ هل هو نوع من الشَرَك؟ هل هو أنزل التكاليف وأنزل الشرائع وخاطبنا بها كنوع من الفخ لأنه يعرف أننا لن نستجيب أو لن نستجيب بالشكل الصحيح وسنرسب في الامتحان ومن ثم هو أراد لنا هذا حتى يستدرجنا إلى جهنم وهذا يعني أنه إله – أستغفر الله العظيم – سادي؟ حاشا لله، كيف إذن؟ هذا التأويل وهذا الفهم مجنون، بعض الناس هكذا فانتبهوا، هذا الكلام ليس تخيّلاً، بعض الناس فهمه للدين تماماً على أنه هكذا، أي أحد يقول لك أنا أستوعب تماماً ولا يُؤرِّق ضميري ومرتاح ولا أرتاح إلا لهذا الاعتقاد وهذا الفهم وهو أن مُعظَم هؤلاء الخلق في نار جهمنم يوم القيامة سيُحشَرون إليها ويتدهورن فيها خالدين مُخلَّدين هو يُؤمِن بإله سادي، هو يُؤمِن بفلسفة للدين على أن الدين شَرَك وفخ – Falle – نقع فيه ونتدهور في جهنم إلى أبد الأبدين، ويقول هذا هو الدين، حاشا لله، هذا – كما قلنا – يتناقض مع أولوية الرحمة لله ويتناقض مع قول الله مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ۩ ويتناقض مع حقيقة أن الله – أستغفر الله اللهم غفراً، لكن أقول هذا للتقريب، أي لتقريب المعنى – تقريباً لا أُحِب أن أقول يتملَّقنا – الأنبياء يتملَّقوننا وحُقَّ لهم وسأقول لماذا – وإنما يتحبَّب إلينا ويتلطف بنا، ولذلك – كما قلت لكم – غير مرة هو لا يكتفي بإصدار أوامر ونواهٍ، وإنما يضرب الأمثال ويحكي الحكايا ويقص القصص – لا إله إلا هو – ويأتي بالترغيب وإلى جانب الترغيب الترهيب والوعد والوعيد، لماذا هذا كله؟ من أجل ماذا؟ ملك مُسلَّط لا يفعل هذا، مُدير مُسلَّط في إدارته – والله – لا يفعل هذا، يُعطي أوامر وينهى عن نواهٍ، مَن التزم فهو وذاك وإلا مُباشَرةً طُرِدَ وعوقب، أليس كذلك؟ ويترَّصد لك، لكن الله مالك الملك – لا إله إلا هو – يفعل هذا، لماذا يفعل هذا؟ لأنه حريص الحرص كله على أن تسعد وأن تهنأ في الدنيا والآخرة، لكن أنت لا تريد أن تفهم هذا، تُريد أن تُصوِّره على أنه – كما قلت – يترصَّدنا لكي يُوقِع بنا، حاشا لله، هذا إلحاد في الله، هذا إلحاد وخلق صورة مُزيَّفة لله، هذا معنى الإلحاد، هو خلق صورة مُزيّفة.
إذن هذا لا يصح، قد يكون الأمر أهون من هذا لكنه قريبٌ منه، كأن يُقال هو دينٌ للإعنات، أراد أن يُعنِتنا وأن يُقيِّدنا، أليس هناك تقييدات؟ أليس هناك تابوهات ومُحرَّمات؟ هو هذا، الدين للإعنات والإرهاق والإتعاب، أي لكي نتعب، لكن أين قول الله طه ۩ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ۩ هذه كلمة واضحة، قال هذا الدين ليس من أجل أن تشقوا، قال الله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۩ وقال أيضاً يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ۩،هذا كذب أيضاً، إذن أي دين وأي فقه وأي معنى يُصدَّر لنا ويُصوَّر لنا للدين على أنه فعلاً للتقييد والإرهاق والإعنات في كل شئ غير صحيح، سل نفسك أنت الدين الذي تفهمه من منظور الفقه طبعاً بالذات – من زاوية الفقه – هل هو دين ترتاح معه وتشعر بآدميتك وبإنسانيتك وبأنك أنك مُرتاح حقيقةً أم أنه دين مثل جاكيت Jacket من جبس؟ دين جاكيت Jacket الجبس ليس دين محمد ولا دين القرآن وإنما هو دين الفقهاء، ما رأيك؟ هذا هو فقط مباشرةً، هو دين المُتنطِّعين المُتطِّرفين والمُتزمِّتين، كما قلنا لا يُوجَد خط سريع High Way، طريق كله أزقة وعلامات توقف – Stop – وأولويات باستمرار، لا تستطيع أن تقود سيارتك كالناس، ما هذا الدين؟ هذا مُستحيل، الدين ليس كذلك، الدين القرآني عكس هذا تماماً، إذن ما هو الدين، إذا لم يكن هكذا ولا هكذا فما هو؟ هو خُطة إلهية ومنهج إلهي للإسعاد ولاستقطار الحكمة، تستطيع أن تستقطر منه الحكمة الوجودية – والله – التي تجعلك أكثر عمقاً في شأن الوجود والحياة والسلوك – والله وأنا أحلف على منبر رسول الله – من أكبر فيلسوف لو فهمته، انتبه إلى هذا، وهذا الذي كانه – مثلاً – مولانا جلال الدين الرومي، شاعر عالم ولم يتعلم الفلسفة الأرسطية المشّائية ولا الأفلاطونية ولا الأفلوطونية، لم يدرس في أوروبا أبداً، درس العلوم الإسلامية التقليدية العادية ، لكنه لم يكن تقليدياً ولا عادياً بالمرة، لماذا؟ لأنه كان عارفاً بالله، أخذ الدين من باب الرحمة والحب فتعرَّف على الله حقيقةً وأنتج خطاباً إلى اليوم لا يزال خطاباً كونياً عالمياً يبخع له اليهود والنصارى والبوذيون واالهندوس وطبعاً مَن فهمه مِن المُسلِمين، وأقل ناس يفهمونه ويتبعونه العرب بالذات، العرب بالذات لا يعرفون من هو جلال الدين الرومي للأسف الشديد، لأن هكذا رُبينا، ونحن الأكثر تبجحاً طبعاً ونقول نحن عندنا مفاتيح الجنة والنار بالذات، النبي عربي وبالتالي نحن بالذات عندنا مفاتيح الجنة والنار، نحن أبو الإسلام وأمه ومن ثم نُدخِل الناس الجنة ونُدخِل الناس النار، وأنا أقول لكم هذا تبجح مُقرِف ومُقزِّز حتى، هذا الرجل يقول صرت كالفرجار – هل تعرفون الفرجار؟ الذي يستخدمه المُهندِسون وله رجلان – فبين رجلٌ من رجلي الثنتين تقف ثابتة في أرض الشريعة لا تزول – كان يقول الرومي أنا ترابٌ بل غبار تراب في سبيل محمد صلى الله عليه وسلم، يقول أنا عبد القرآن وغبار تراب في سبيل محمد، أنا لست أكثر من هذا – دارت الأخرى على ثنتين وسبعين ملة، إذن هو يقول بين رجلي ثابتة في أرض الشريعة لا تزول دارت الأخرى على ثنتين وسبعين ملة، فكيف هذا؟ هل يُمكِن لمسلم أن يكون كذلك بهذه السعة؟ هل يُمكِن أن يسع العالمين؟ طبعاً لأنه ابن دين يقول إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩ وابن دين يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، ليس رب الطائفة أو رب المذهب أو رب أمة محمد وإنما رب العالمين، وحين سمع سراج الدين القونوي – ليس صدر الدين وإنما سراج الدين، صدر الدين كان مُحِباً جداً للشيخ جلال الدين وهو تلميذ مُحي الدين، لكن هذا سراج الدين – بهذه العبارة استُطيرَغضباً وأرسل أحد مُقرَّبيه إلى الشيخ جلال الدين – قدَّس الله سره – يتحقَّق ويستجوبه في محضر من الناس كيما يُحرِجه، قال له يا شيخ هل قلت أنت كذا وكذا؟ هل تحدَّثت عنفرجار وثنتين وسبعين ملة؟ قال نعم قلت هذا، قال الله أكبر، تباً لك أيها الكافر، أيها الزنديق خرجت من ملة محمد، وجعل يشتم ويسب ويُكفِّر في الشيخ، والشيخ لا يزيد على التبسم، وبعد أن انفتأت حدة غضب المُقرَّب من سراج الدين القونوي قال له الشيخ أمام الناس ومع ذلك أنت منهم أيضاً، أنت مِن الذين أدور عليهم وأسعهم، أنت واحد منهم فأسعك بشكل عادي، أسع المُتطرِّفين والمُتنطِّعين والمُكفرّاتية والذين يُريدون دمي ورأسي، قال أنا أسعهم وأنت منهم، والرجل مُتعجِّب، ما هذا الرجل؟ هذا هو، هذا الإسلام بلغة الرحمة، الإسلام بلغة المحبة، الإسلام الكوني، والله العظيم لن ينتشر الإسلام ولن يعم كما وعدنا الله ورسوله إلا بهذه المُقارَبة الرحمانية المُحِبة وليس بمُقارَبة السيف والدم والقتل والكره والتكفير التي يُعاني منها المُسلِمون الآن أكثر من غيرهم – أكثر من كل غير المسلمين – ويدفعون ثمنها صباح مساء، ويُقال هذا الإسلام، لا ليس هذا الإسلام، الإسلام هو إسلام المحبة وإسلام الرحمة.
الشاعر الألماني العظيم – الذي درس أدب ألماني يعرف هذا الشاعر الألماني الكبير – فريدريك روكـرْت Friedrich Rückert – ترجم أشياء من الأدب العاربي والفارسي نظماً إلى الألمانية – مُقتدِر – في القرن التاسع عشر وقد تُوفيَ في آخر التاسع عشر، فريدريك روكـرت Friedrich Rückert يقول أين ذاك النجم الذي هبط على الأرض وإلىّ وصل نوره، أين مولانا جلال الدين؟ أعظم العارفين وأقدس المُقدَّسين في كل الأمم، الشاعر الألماني روكـرْت Rückert الذي ترجم مقامات الحريري وسماها أطوار أبي زيد Verwandlungen des Abu Zeid، أطوار أبي زيد هى مقامات الحريري، الشاعر روكـرت Rückert فعل هذا، يقول أقدس المُقدَّسين – أكبر قديس قال في كل الأمم – جلال الدين الرومي، هذا أمرٌ عجيب، لماذا؟ كيف؟ هذا شيئ مُحيَّر، لماذا يكون شاعر مُسلِم وعارف مسلم باعتراف غير المُسلِمين أقدس المُقدَّسين؟ وهذا طبعاً باستثناء الأنبياء والمُرسَلين، لماذا هو أقدس الأولياء والقدّسين؟ أنا أقول لكم لكونية اللغة عنده، يتحدَّث بلغة كونية ولغة إنسانية أوسع مِن كل ما هو أضيق، افهموا هذا، لكن من أين أخذها؟ هو دائماً يُؤكِّد ويقول هذا من القرآن، أنا منبع القرآن والسُنة، ويقول رسالتي كلها التوحيد، يقول هل تريد هدف عرفاني وهدف دواويني وخاصة مثل المثنوي؟ التوحيد، الدلالة على توحيد الله، أن نُوحِّده حقاً، قال وكل ما ليس من التوحيد هو صنم.
إذن الدين أو الإسلام بمنطق الحب والرحمة، لماذا كان هذا المنطق أكثر مقبوليةً عند البشر كل البشر وعند الإنسان بما هو إنسان؟ هذا منطق الحب وليس منطق الكره،ومنطق الرحمة وليس منطق العذاب، لماذا هذا المنطق هو الأكثر مقبولية؟ لأنه يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – منطق يتلاءم ويتسق وينسجم مع حرية الإنسان، حين أنظر إليك من زاوية الرحمة وبعين الحب قطعاً لا يكون لدي أي إرادة للسيطرة عليك أو الهيمنة عليك، أتركك كما خلقك الله – تبارك وتعالى – وكما أرادك الأنبياء والرسل حراً مُختاراً تنتخب دربك وتختار سبيلك وفق قناعاتك، هذا هو الإنسان، وهكذا يرتاح الإنسان، الله – تبارك وتعالى – حين خلقنا كائنات مُفكِّرة عاقلة أعطانا هذه الجوهرة، وأنا أقول لكم الرهان ليس مبدئياً على الصواب والخطأ، لا يُوجَد بشر لا يُخطيء، لا يُوجَد بشر عنده عقل كامل من جميع النواحي فيُصيب الحقائق بضربة واحدة، يستحيل ومن ثم هذا كذب، قد تقول لي وماذا عن الأنبياء؟ الأنبياء يتصرَّفون بوحي، هذا وحي وليس تفكيراً، هذا وحي والوحي معصوم، حتى الأنبياء حين يُفكِّرون ويجتهدون يُخطئون ويُصيبون في الاجتهاد الدنيوي، وهذا أمر طبيعي، أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهذا لا يغض من قدر النبي، للأسف بعض العلماء المسلمين يحب أن ينسب إلى الأنبياء أنهم مُتفوِّقون حتى في الشؤون الدنيوية، هذا غير صحيح، غير مطلوب من النبي أن يكون مُتفوِّقاً في الزراعة والصناعة والتجارة والطبابة، هذا غير مطلوب، النبي غير مبعوث لكي يكون أشطر طبيب ولا يضيره ولا ينقصه أن يكون غيره أحذق منه في الطب، نبينا كان يتطبَّب، أليس كذلك ؟ النبي كان يُوصَف له الأطباء، هو -عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يتطبَّب على أيدي هؤلاء الأطباء، لكن النبي رسالته شيئ مُختلِف عن هذه الأشياء وهى الأسمى والأرقى والأخطر، ليس الرهان على الصواب والخطأ لأن يُمكِن أن نُخطيء لكن الرهان على التفكير وعلى أن نستخدم عقولنا، هذا هو المُهِم، أعطني حرية أن أُفكِّر بحرية، وبعد ذلك الباقي علىّ، أليس كذلك؟ هذه سُنة الله، لكن إذا كان الرهان مُنذ البداية أنك تُريدني أن أفكر على نحو مُعيَّن وبنحو مُعيَّن بحيث أن انتهي إلى نتيجة معينة فأنت اجتحت حريتي، أنت لم تُعطني فرصة أن أُفكِّر بحرية، أليس كذلك؟ قد تقول لي هذا بإسم الدين، لكن الدين لم يأت هكذا، هذا كذب على الدين، انتبهوا إلى أن هذا كذب على الأديان، ومن هنا رسالات الأنبياء، والأنبياء أعظم المُحِبين، لا يُوجَد إنسان أحب البشرية مثل الأنبياء ومثل الرسل، هم أعظم البشر حباً للبشر، أعظم الناس حباً للناس، الأنبياء والرسل فعلوا هذا، وأنتم تسمعون بالحديث الصحيح الذي يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، لماذا؟ لأن الغنم – كما تعلمون – تحتاج إلى الحنان وإلى الحدب وإلى الحياطة الحانية، هى تُحِب هذا، ورعاة الغنم – سبحان الله – فيهم حنان وفيهم لطف ورقة، إذا عاملوا البشر كانوا كذلك، بخلاف رعاة الإبل، فيهم غلظ وفيهم قسوة، والغنم عموماً حين ترعى ترعى دائماً قريباً من محاضر الناس – حيث يحضر الناس – ومن الحاضرة ومن المدن ومن تجمعات الناس، أما الإبل فترعى في أعماق الصحراء حيث النباتات الصحراوية التي لا تُوجد إلا على مبعدة في الأعماق السحيقة من الصحارى، قال النبي ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، والنبي رعاها وموسى رعاها لشعيب في المشهور، وفيما يُروى أن موسي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قبل أن يُنبأ – قُبيل أن يُنبأ – افتقد ذات يومة شاة من شياهه التي كان يرعاها لشعيب أو للرجل الصالح الكبير فجعل يبحث عنها سحابة نهاره حتى دخل الليل أو كاد، ثم أنه وجدها بتوفيق الله، فجعل يمسح بحنان على الشاة ويقول لها انظري لقد تمزَّق حذائي وتمزق شيئ من جلبابي، لقد كلَّفتيني أيتها الشاة مشقةً وعنتاً بالغين، أين الرحمة؟ إذا لم تُريدي أن ترحميني – فيما يُروى – لماذا لم ترحمي نفسك بهذا الضلال الذي كان يُمكِن أن يودي بحياتك؟ يأتي ذئب فيفترص الفرصة، فقال الله – تبارك وتعالى- للملأ الأعلى وللملائكة انظروا إلى عبدي موسى قد تهيَّأ للنبوة، مثل هذا الحنان وهذا الشعور بالمخلوقات وهذا الحدب هو الذي هيَّأ النبي لكي يكون نبياً، طبعاً لا يقولن أحد أننا نقول النبوة تُكتسَب بهذه الطرق، لا نقول هذا، لكن نقول لا يُمكِن أن يُنبَّأ نبي إلا بعد هذه التجربة الروحانية الرحموتية، بعد أن يُبرهِن الرحمة في نفسه والرحمة في ذاته، ومن هنا ما من نبي إلا رعى الغنم، هؤلاء هم الأنبياء، إذن الأنبياء ألطف الناس بالناس وأحن الناس على الناس، ورسالة الأنبياء – كما قلنا مائة مرة وليس مرة أو عشر مرات – تقف عند الوعظ وعند التذكير وعند البلاغ وعند البيان فقط، ولا يُمكِن أن تتعدى إلى الإكراه والإعنات فضلاً عن العقاب، الأنبياء لا يفعلون هذا، هل تعرفون لماذا؟ يُوجَد شيئ آخر من طبيعة التجربة الدينية، هناك شيئ يعود إلى طبيعة التجربة الدينية، وهو أنها لا تكون إلا تجربةً، الدين ليس كلاماً فانتبهوا، وقبل أن أُفصِّل هذه الجملة أُحِب أن أقول نحن اليوم يا أحبابي – إخواني وأخواتي – نُعاني من بلاء عظيم ومن محنة قاسية، وهى كثرة الكلام في الدين، ليس كثرة المُتكلِّمين فحسب بل كثرة الكلام أيضاً، ونحن طبعاً نُعاني من كثرة المُتكلِّمين، كل مَن هب ودب وكل مَن يُحسِن ومَن لا يُحسِن ومَن يعرف ومَن لم يعرف ومَن ذاق ومَن لم يذق يتكلَّم، الكل يتكلَّم، وأيضاً الكلام كثير، هناك – كما نقول دائماً – حالة تضخم، ولعمر الحق هذا لافت للنظر، فالله – تبارك وتعالى – يقول في كتابه العزيز إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ۩، هذا قولٌ ثقيل، هل يُمكِن أن تهضم طعاماً ثقيلاً؟ يستحيل، هل يُمكِن أن تستكثر من طعام ثقيل أو شراب ثقيل؟ هذا يستحيل، أنت تأخذ منه بقدر الحاجة لأنه ثقيل، ومن ثم هذا صعب، فما بالنا نهضم هذا الثقيل بكثرة غير عادية وبوتيرة مُرتفِعة؟ نحن لا نهضمه، نحن نمضغه ثم نلفظه فانتبهوا، الإنسان العادي فينا كم يأكل من الخبز؟ حتى السمين البادن الضخم يأكل كم كيلو من الخبز ؟ يأكل ثم ينتهي إلى حد ما، الإنسان العادي يأكل أقل من هذا، فإذا سمعنا بشخص مُستعِد لأن يأكل عشرين كيلو من الخبز ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو مائة كيلو من الخبز علمنا أنه لا يأكل إنما يمضغ ثم ثم يلفظ، يمضغ ثم يلفظ وهكذا، وهذا ما نفعله بالدين، نحن نمضغ الدين لأنه قولٌ ثقيل، لو كنا نتمثَّله ونهضمه لاجتزأنا منه باليسير، وهذه طريقة رسول الله وأصحابه وأئمة الدين العظام، أليس كذلك؟ كان كلامهم قليلاً، لكن أثر هذا الكلام كان عظيماً جداً في حياتهم وحياة الذين يسمعون، كان القول الثقيل يتحوَّل مُباشَرةً إلى تجربة روحية وتجربة عملية وتجربة مسلكية، هذه طبيعة الدين، فالنبي طبعاً مثل الولي والعارف والمُصلِح والمُبلِّغ والمُذكِّر الكبير ينبغي بحكم طبيعة التجربة الدينية أن تنتهي مهمته عند البلاغ، لماذا؟ لأن الباقي عليك أنت، ها أنت قد سمعت وقد عرفت فاذهب وجرِّب، إذا جرَّبت وانتفعت ورأيت الآثار الحقيقية لما تعلَّمت وسمعت فأنت الآن بدأت تديَّن، الآن بدأت تتديَّن، هذا هو الدين، لكن إن ظننت أن الدين يكون بتكرار الكلام وأخذ المظاهر والطقوسيات الظاهرة خاصة طقوسيات اللباس أو حتى طقوسيات العبادة – أن تركع وتسجد طقوسياً – فهذا ليس من الدين في شيئ أبداً، هذا قشر إذا نحيته لم تر لباً، هذه الصدفة إذا كسرتها لم تر الجوهرة، لم تر شيئاً، نحن هكذا للأسف الشديد، فطبيعي أن تنتهي مُهِمة النبي عند حدود البلاغ، يقول لك هذه هى الوصفة فاذهب وجرِّب، هل تعرفون كيف؟ هناك مَن يُجرِّب وتُزهِر البذار، أي البذور، حديقة الورد في الأصل هى بذور وشتائل صغيرة وأشياء صغيرة يُقال لها بصل الورد، وهذا كله مُمكِن أن يُوضَع في كيس صغير، لكن إذا وُزِعَ وازدُرِع بالطريقة الصحيحة فإنك بعد شهرين ثلاثة ترى حديقة ورد وبستاناً ناضراً بهيجاً مِن أجمل ما يكون فيروق ويلذ للناظرين، لكن آخر لم يفعل هذا – لم يزدرع واكتفى بالبذار والشتائل وبصل الورد وكان يحمله دائماً معه- لن يحظى بحديقة، ومهما حدَّثتك عن حديقتي وعن روعة حديقتي لن تكون حديقتك حتى تزرع ما لديك، عليك أن تزرع وأن تزدرع وأن تستنبت هذه البذار وهذه الشتائل بنفسك، هذا هو الدين، عظمة النبوة ويد النبوة وأمانة النبوة ومُهِمة النبوة هى أن تُعطينا هذه البذار وهذه الشتائل وأن تصف لنا الطريق، لكن الباقي علينا، ومع ذلك نحن لا نفعل، من هنا كانت طريقة الأنبياء طريقة لينة مُحِبة رحيمة بارئة البراءة كلها من الإكراه والإعنات وترهيب الناس وتهديد الناس بالعقاب، هذا لا يكون من طبيعة الدين، هذا كله كذب، هذا دين الفقهاء، هذا دين الرابيين، هذا دين القسس، هذا دين الطبقة الكهنوتية، هذا ليس دين النبوة، انتبه إلى أن هذا ليس من طبيعة الدين بالمرة، في نهاية المطاف أنت حين تعود إلى الله ماذا يُريد الله منك؟ والله إن كنت تظن أنه يُريد منك أن تكون بهذا القلب – بسواده وانغلاقه وفساده ونتنه ولكن مع كذا عشرة آلاف صلاة وكذا شهر رمضان قد صيم وكذا حجة وكذا عمرة فإنك – والله – ما فهمت الدين، وهنا قد تقول لي من أين هذا الكلام؟ هل هذا كلام صوفية؟ هذا ليس كلام صوفية، هذا كلام رب العالمين، قال الله يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ … بماذا؟ هل قال بصلاة وصيام؟ لم يقل هذا، إذن ما العبرة؟ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، لابد من الصلاة طبعاً ومن الصيام ومن الزكاة والحج والمُجاهَدة والذكر والعبادة والتلاوة، هذا كله لابد منه، لكن كل هذا ليس مُراداً لذات، بل هو مُرادٌ لجعل القلب سليماً، حذاري أن تظن يا حبيبي – أياكَ يا أخي وإياكِ يا أختي – أنك تأتي الله يوم القيامة وهو يُطالِبك أو ينتظر منك مالاً أو إرثاً أو لباساً أو لحيةً أو شكلاً أو بلاغة لسان أو فصاحة أو كتباً في العلم الشرعي ألَّفتها، حذاري أن تفهم هذا، إياك أن تفعل، تُوثِّن أنت توحيدك بهذه الطريقة، أنت تُصنِّم وتُوثِّن توحيدك، كل ما يطلبه منك أنت، هو يطلبك أنت، أليس كذلك؟ قال الله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ ۩، ماذا خوَّلك الله؟ خوَّلك مالاً وسلطاناً وعزاً وجمالاً وعزوةً وعشيرةً وأنصاراً وأتباعاً، كل هذا تُرِك في الدنيا، وهو خوَّلك حتى علماً وذكاءً ولساناً وفصاحةً وبلاغةً وشطارة وحذاقة، لكن كل هذا بقيَ في الدنيا، هناك تعود إليه فقط بهذا القلب، تقول له هذا الأمانة يا الله، هذا هو القلب، أنا تعاطيت مع دينك لكي أُصفِّي هذه الجوهرة الإلهية المُسماة بالقلب، مضغة إذا صَلُحت – أو صَلَحت – صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، تفسد العبادات ويفسد الركوع والسجود وكل شيئ، كله فاسد، هذه عبادة فاسدة، إذا صلح هذا صَلُح كل شيئ، هذا موضع أو موطن نظر الله – تبارك وتعالى – منا، هذا هو القلب.
هل تأملتم في قصة سليمان – عليه السلام – وبلقيس؟ ماذا فعلبت بلقيس حين سمعت بهذا النبي الملك المُسلَّط المُمكَّن؟ بعتت له هدايا طائلة، هل نظر فيها سليمان؟ لم ينظر فيها أصلاً، لم يقل افتحوها ولنزنها ولنُقوِّمها – نرى ما هى القيمة – ثم نُقرِّر بعد ذلك، لم يفعل هذا أبداً، تقول الآية الكريمة أنه قال أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ۩، الله يقول لك هل أنت فرحان؟ هل أنت فرحان بلحيتك؟ هل أنت فرحان بلسانك الطويل؟ هل أنت فرحان بكتبك التي ألَّفتها؟ هل أنت فرحان بخطبك؟ هل أنت فرحان بشكلك؟ كل هذا لا يُساوي عندي شيئاً، أنا أريدك أنت، سليمان قال لها يا بلقيس أنتِ المُرادة فجاءته بلقيس بنفسها، هذا المُراد وليس هدايا بقليس، بلقيس المُرادة، وأنت المُراد وليس علمك ولسانك وشكلك وبيانك، المُراد أنت فقط، ومَن أنت في نهاية المطاف؟ قلبك وروحك، أليس كذلك؟ هو هذا، يوسف – عليه الصلاة وأفضل السلام – أجمل عباد الله وأجمل أهل العصر، يأتيه صديقٌ قديمٌ له، يدخل عليه فيُلاطِفه النبي المُمكَّن فيقول له يا صديقي القديم ماذا أحضرت لي اليوم؟ ويخجل الرجل، يغرق في خجله ويبكي مُنكِّساً رأسه ويقول والله يا نبي الله، يا مَن تغار الشمس من جماله، لقد أعياني هذا الأمر، أعياني تطلب ما يُرضيني أن أُقدِّمه هدية بين يديك الكريمتين، وفكَّرت طويلاً وكلما خطر لي شيئ وجدت أنه لا يزيد على أن يكون قطرة في بحرك أو ذرة في منجمك – كل شيئ ذرة في منجمك، كل شيئ قطرة من بحرك – يا أجمل عباد الله، ثم أن الله – تبارك وتعالى – هداني فلم أر أنسب ولا أكثر مُلاءمةً مِن أن أختار مرآة مجلوة صقيلة أُهديها إليك تتأمل فيها حُسنك يا مَن يغار القمر والنجوم والشموس من حُسنه وجماله، فرضيَ يوسف وهذا درسٌ لنا، هل تُريد أن تُعطى الله شيئاً؟ هل تُريد أن تُهدى الله شيئاً؟ هل تُريد أن تعود إلى الله بشيئ؟ لابد من مرآة تعكس جمال الله ومحبة الله ورحمة الله وعظمة الله، ما هى هذه المرآة؟ القلب، هذا القلب المُحِب العارف بالله تبارك وتعالى، نحن لا نتعلَّم يا أحبابي – إخواني وأخواتي – اليوم كيف نُحِب الله لكي نعرف الله، ومن أقصر الطرق إلى معرفة الله طريق الرحمة والمحبة، لكن أيهما أوسع؟ الرحمة كما قلنا مرة، الرحمة أوسع بكثير من طريق المحبة، أنت ترحم مَن لا تُحِب ومَن تُحِب، أنت ترحم عدوك الذي لك معه ثأرٌ قديم، فإذا مُكِّنت منه رحمته، رأيت تصاغره وانكساره وانهضامه فرحمته على أنك تُبغِضه، كيف لا تُبغِضه وقد قتلك أولادك وأهلك؟ تُبغِضه ولكن ترحمه، وهذا أمرٌ عجيب، وترحم مَن تُحِب أيضاً، فالرحمة أوسع طبعاً، قلنا مرة عيسى دينه المحبة ومحمد دينه الرحمة، ولذلك – كما قلت لكم – دين محمد هو دين الكون إذا فُهِم جيداً، دين الرحمة وليس دين المحبة فقط، هو يتجاوز المحبة ويطويها تحت جناحه، المحبة مطوية في الرحمة بلا شك، قطعاً أنت ترحم مَن تُحِب، أليس كذلك؟ لكن ومَن لا تُحِب ترحمه أيضاً، فالمحبة مطوية تحت جناح الرحمة و محمولة على بساط الرحمة، من هنا مَن فهم الإسلام جيداً مثل مولانا وغير مولانا وهم قليل – أين مثله؟ قدَّس الله سره – فعلاً يُطوِّرون خطاباً كونياً يفرض كونيته على مَن تعاطى معه، ستُدرِك أن هذا هو الإسلام العظيم، هذا دين الكون، هذا دين رب العالمين، ستدرك أن هذا رب العالمين وأن هذا دينه.
بما أننا ذكرنا مولانا عدة مرات اليوم – قدَّس الله سره – ولعل أراد شيئاً فإن أفلاكي يحكي في ترجمته قائلاً سمع به راهب من رهبان النصارى الكبار – سمع بوجود رجل مُسلِم عارف بالله وهو مُحِب رحيم وواسع – فأحب أن يتعرف عليه عن كثب، لا عن سماع وكتب، فأتى إلى قونية واندس بين تلاميذه، أخذ مثل هيئتهم وتزيَّ بمثل زيهم واندس بينهم وجعل يرقب الرجل في هديه وسمته ومسلكه، فرأى العجب من ربانية الرجل وتواضعه وجماله ورقته، هذا أمرٌ عجيب، هل يُوجَد رجل هكذا؟ فقام إليه مُسرِعاً لكي يُقبِّل يده، وإذا بمولانا جلال الدين يكون أسرع منه فيأخذ يد الراهب ويُقبِّلها، وإذا بالراهب لا يتمالك نفسه، يسقط على قدمي مولانا ويُقبِّل قدميه، يبكي ويقول له والله إن دينك لهو دين الحق، ودخل في الإسلام وسُرَّ مولانا وسُرَّ الجميع، يقول سلطان ولد – ابن مولانا – فعدت مع والدي – قدَّس الله سره – وكان مُتأثِّراً جداً، قال لي يا بني ما بال هذا الراهب يُريد أن يغلبني في خلق التواضع وديني في جوهره إن هو إلا تواضع؟ لأنه دين عبودية، دين إن هو رب العالمين ونحن عبيده، كلنا عبيد لله، في جوهر الإسلام التواضع، هذه هى العبودية، لابد من التواضع، قال أنا لا أسمح لأحد أن يفوقني كمُسلِم في خلق التواضع، فضلاً عن سائر الأخلاق، هذا الدين كوني يجعل الآخرين يقرون مُباشَرةً بحقنيته وكونيته وعالميته من هذا الباب، لذلك مَن نابه شيئٌ من شك أو ارتياب أو قلق أو حيرة أقول له – صدِّقوني هذه نصيحتي وهى نصيحة أخ مُحِب إن شاء الله ومُشفِق على نفسه وإن شاء الله مُحِب لكم – لا تُطِل كثيراً النظر في مسائل فلسفية وعقلية لعلك تضل فيها مزيد ضلال، أنت الآن تخاف على نفسك، أنا أقول لك جرِّب هذا الطريق، جرِّب طريق الروح وليس طريق العقل، جرِّب طريق القلب والمحبة، على أن لهذا أيضاً سبيله دون أي مُشكِلة وله أربابه، ولكن جرِّب طريق القلب، هذا أضمن لك، العقل كثر ما خذلنا ويخذلنا إذا كان محروماً من نداوة القلب ومن محبة القلب ورحمة الروح، العقل يخذلك، العقل عجيب، مَن منا – كما بدأنا خطبة اليوم – يعرف تماماً ما هى المعرفة التي تفتح له أبواب الحقائق وكنوز الحقائق وتُسعِده وتُنجيه؟ لا أحد، قد تطلب معرفةً فيها هلاكك، أليس كذلك؟ تماماً كما تطلب شيئاً فيه خسارك وبوارك، لا أحد يعرف لكن هذا القلب لغته أفضل بكثير، إذا عاملت الله بلغة القلب وبمنطق القلب ستفهم عن الله أكثر من العقل بكثير، لأن لغة القلب أكثر عمقاً، لكنها أكثر غموضاً أيضاً، اللغة – Sprache أو Language – التي نستخدمها هى لغة العقل، أما القلب نفسه فله لغة لا تسع لها هذه اللغات، شيئ آخر يُحَس لكن لا يُمكِن التعبير عنه، هذه لغة عميقة حقيقية، ستفهم عن الله أشياء كثيرة لا يُمكِن أن تفهمها من كتاب بلغة المحبة، ستعرف لماذا أعطاك ولماذا حرمك، مُعظَم شك الناس وارتياب الناس وضيق الناس بإيمانهم بسبب الحرمان والخذلان، تقول الله حرمني أو الله خذلني أو الله أعطاه ولم يُعطني، لماذا؟ لكنه ليس مُستقيماً مثلي على أن الله أعطاه أكثر ما أعطاني وتبدأ تتكلَّم، أنت مسكين لأنك تُريد أن تحاسب الله – تبارك وتعالى – إلى منطق العقل القاصر ومنطق الحساب الذي يقول واحد زائد واحد يُساويان اثنين، لكن الأمر ليس كذلك، بالقلب ربما ستفهم قريباً مدى الكرم والجود والعطاء والسماحة الإلهية من خلال المنع، هو يتكرَّم عليك بأن يمنعك وليس بأن يمنحك، سوف تفهم هذا، سوف تُدرِك هذا، سوف تعيش هذا، ولن يفهم هذا إلا القلب، لماذا؟ إذا وهبك – لا إله إلا هو – ما لا تحتاجه حقيقةً هل هذا سيُثقِلك أم ستخف به؟ سيُثقِلك، الخيّاط – مثلاً – يحتاج أدوات رهيفة وبسيطة، الخيّاط الذي يخيط الثياب لو أعطيناه أدوات النجّار على أنه لا يُحسِن النجارة فهل هذه الأدوات سوف تُثقِله أم أنه سوف يخف بها؟ سوف تُثقِله وتعوق مسيرته لأنه يحتاجها، فإذا منعه الله هذه الأدوات يكون منعه أم منحه؟ منحه، منحه ما يُساعِده على أداء مُهِمته، هو يعلم أن هذا سيُثقِله، وهكذا المال الذي مُنِعته، الله يعلم أن هذا المال لن يكون طريقاً لك إلى الجنة ومرضاته، بل سيكون مهواة إلى النار وأنت لا تدري، أنت تزعم أنك كذا وكذا وأنت لا تدري لكن هو – لا إله إلا هو – يدري، لو عندك إيمان – كما قلت لك – افعل ما عليك واترك الذي له له لا إله إلا هو، بالإيمان فقط، أليس كذلك؟ أنت عندك إيمان أنه حكيم ورحيم، أنت دعوت بما ظننت أنه الخير وهو فعل لك ما يرى أنه الخير، وأنت سترى هذا بلغة القلب، وطبعاً الملاحدة سوف يقولون لك هذا كلام فارغ، أرأيتم؟ هذا الدين كله ترقيعات، هذه ترقيعات تُبرِّر كل شيئ، تُبرِّر تصرف الله إذا أعطى وإذا منع، لكن هذا غير صحيح، هذا ليس منطقاً أرسطياً، وإنما هذا منطق القلوب ومنطق العشق ومنطق الوله، مولانا يضرب مثلاُ من أروع ما يكون على هذا المعنى وقد شرحت لكم معنى مبدئياً، يقول ذهب جار الصائغ صائغ الذهب – إلى الصائغ وقال له يا جاري العزيز لدي تبر ذهب – أنتم تعرفون الذهب، الذهب في شوائبه وفي تربته – فمن فضلك تفضَّل وأعطني ميزان الذهب، فقال له ليس عندي مكنسة، أي التي تُكنَس بها الأرض، قال يا جاري أقول لك الميزان، أريد الميزان، قال المُنخل ليس لدي، فقال كف عن هذه السخرية بالله، فقد سخرت مني طويلاً، أُكلِّمك في شيئ فتتحدث عن آخر، قال يا جاري لست أصم ولست أبله، أنا سميعٌ ومُدرِكٌ وقد سمعت ووعيت ما قلت، ولكني رأيتك تتحدَّث عن تبر الذهب ويدك ترتجفان، يبدو أنك تشكو من علة، فعلمت أنك إن أخذت الميزان لتزن التبر سيتساقط منك، ومن ثم ستحتاج إلى مكنسة، فقلت لك ليس لدي مكنسة الآن، وعلمت أنك إذا كنست التبر احتجت إلى غُربال صغير دقيق العيون، أي إلى مُنخل لكي تُصفِّي التبر من الشوائب الأخري فقلت لك ليس لدي غربال، كل ما في الأمر يا جاري العزيز أني حدست الأمر أولاً، وهذا شيئ عجيب، هذا الكلام هو كلام مولانا الذي الذي أثَّر في العالمين، هذا أثَّر في اليهود وفي النصارى وفي الهندوس وفي البوذيين وفي غيرهم، هذا الذي أبكاهم، هذا الذي جعلهم يقولون هذا القدّيس فوق كل قدّيسي العالم، كيف يتكلَّم بهذه اللغة؟ هذهلغة بسيطة يفهمها الطفل، أليس كذلك؟ لكنها تفتح لك آفاق النوافذ لمعرفة الله والتفكير في التعامل مع الله والتعاطي مع أقداره في منعه ومنحه بطريقة لم تخطر لك على بال من قبل، أليس كذلك؟ هذا من فتوحات الله عز وجل، قال كل ما في الأمر أني حدست بالأمر أولاً، خاطبتك عن المكنسة أولاً لأنني أعرف ما الذي سيحدث، لا إله إلا الله، هذه لغة القلب، هذه لغة المحبة، أما أننا نُصِر على أن نملك وعلى أن نعرف وعلى أن نفتح كل الأبواب وإذا مُنعنا غضبنا وشككنا وارتبنا فهذا منطق بعيد من الإيمان تماماً وقريب من الحماقة، والإيمان حكمة تصل بين الأطراف المُتناقِضة فيما يبدو من تناقض والأقطار المُتباعِدة فيما يظهر من تباعد، هذا هو الإيمان، حكمة الإيمان – كما قلت كلم – أعظم من حكمة أكبر الفلاسفة، لكن هذا لمَن تحقَّق بحكمة الإيمان.
في الإسرائيليات – ونختم بهذا – أتى رجلٌ إلى موسى – عليه السلام – وقال يا نبي الله بالله علِّمني لغة الحيوان، قال لا تحتاجها، أي لا تحتاج إلى هذه اللغة، علماً بأن هذا قبل سليمان عليه السلام، فهو قال له يا نبي الله بالله علِّمني لغة الحيوان، قال لا تحتاجها، قال سألتك بالله فأنا أهفو إلى هذه المعرفة، قال لا تسعها ولكن كونك سألتني بالله سأُعلِّمك لغة حيوانين مما تُربّي في بيتك، قال ماذا؟ قال لغة الكلب لأن عندك كلب حراسة ولغة الديك لأن عندك دواجن، فدعا الله فتعلَّم الرجل، هكذا علم إلهي، وهذه قصة فيها عبرة، فعاد إلى البيت فرحان لأنه أخذ الآن مفتاح معرفة جديدة قطعاً سيغتني بها، وكثير من الناس يُريدون الدين – كما قلت لكم – للدنيا، يُريدون الله – أستغفر الله العظيم – للدنيا، قال الله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩، لكنهم قالوا وأن إلى دنياك المنتهى، المنتهى عندهم الدنيا وليس الله، الله واسطة في الطريق، يعبدونه ويُحِبون أن يعُطيهم كرامة الدعوة المُستجابة من أجل أن يقنصوا بها الدنيا، وهذا شيئ غريب، ولو دروا وعقلوا لعلموا أن القرب من الله بحد ذاته – مُجرَّد القرب بمعنى أنه قرَّبك وأحبك وأزلفك إليه – خيرٌ ليس من الدنيا فحسب وإنما خيرٌ من الدنيا والآخرة، هذا خيرٌ حتى من الآخرة نفسها بما فيها من جنات ونعيم، هو هذا فقط، أليس كذلك؟ لأن الدنيا والآخرة بما فيها من جنات وعطاء هى محض جوده وكرمه، هذا كله شيئ من جوده وكرمه، لكن أنت قريب منه هو – هو لا إله إلا هو – الآن، لكن مَن يعقل هذا؟ ولذلك حتى علاقات الناس ببعضهم فيها هذا، فإذا وجِدَ عارف بالله أو عالم أو سائر في هذا الدرب فإن مُعظَم مَن يقتربون منه يقتربون منه لا لله وإنما للدنيا أيضاً، وهذا شيئ غريب، شيئ لا يُصدَّق، وإن حسدوه لا يحسدونه على عرفانه بالله وعلى تقواه وعلى ورعه وعلى علمه وإنما يحسدونه على دنيا إن أصابها وأتته راغمة، يحسدونه على هذا فقط، وهذا أمرٌ عجيب، هل أنت لم تحسده على علمه وعلى عرفانه وحسدته على دنيا؟ إذا أنت من بداية الطريق تسير بخطة خاطئة، أليس كذلك؟ هذا حال مُعظَم عباد الله والعياذ بالله، ومن هنا حرمانهم وجفافهم، فعاد إلى البيت الرجل مُبتهِجاً بهذا العلم، أول ما دخل سمع الكلب وهو يُعاتِب الديك، وقد خرج الخادم ونثر بقايا الطعام فجعل الديك يلقط – أي يلتق – ما نُثِرَ، فقال الكلب له ما أشد طمعك وما أعظم حرصك، ما تركت لي من شيئ، لقد تركتني هكذا بجوعي، قال لا تبتئس يا كلب، غداً يموت حصان السيد – حصان سيدنا سيموت – وتحظى إن شاء الله بأكلة طيبة، يأتي الناس يُعزّونه وتحظى ببقايا الأكل، سمع السيد هذا فجُنَّ جنونه، مُباشَرةً أجرى اتصالاته مع بعض الجيران وباع الحصان، وفعلاً بعد يوم مات الحصان، قال الحمد لله لأنني قبضت ثمنه، هذه معرفة جيدة، هذا أمرٌ ممتاز، تعجَّب الديك والكلب، كيف هذا؟ الحصان لم يمت، لقد بيع، لكنه مات في الوقت عند آخر، يتسمع الرجل نفس الشيئ، لم يحصل الكلب على نصيب من الطعام فقال له لليوم الثاني وأنا جائع، أيها الديك الحريص أعطني شيئاً، فقال لا تبتس يا كلبي العزيز، غداً تموت جارية سيدنا وتُصنَع لها وليمة، بالحري تُصنَع لها وليمة لأن هذه جارية وليس حصاناً، فقال ننظر، سمع السيد وكان يُحِب الجارية جداً لكنه تخلَّص منها في أقرب بيعة مُباَشرةً، في نفس الليلة باعها وماتت عند السيد الجديد، ففرح الرجل وقال الحمد لله فهذا علم نافع وهذه معرفة ممتازة، هو طلب ما ينفعه، إلى الآن ما ينفعه، في اليوم الثالث الكلب تضوَّر جوعاً وهزُلَ هزالاً شديداً وجعل يتكلَّم بصوت خفيض فبالكاد سمعه السيد، ويرد الديك قائلاً هذه المرة ستكون كبيرة جداً، قال ما هى؟ قال غداً يموت السيد، السيد سيموت وسيصنعون له مأدبة، جُنَّ جنون الرجل، استُطيَر الرجل خوفاً وفزعاً فأتى نبي الله موسى قائلاً يا كليم الله، يا نبي الله، سألتك بالله خُذ مني هذه المعرفة، هذه المعرفة أتعبتني وأرقتني، قال ما الذي حدث؟ قال كيت وكيت، قال قدر الله كالسهم إذا فارق الوتر لا يعود – مُستحيل أن يعود في فوقه – لكن كل ما بقيَ لديك أن تضرع إليه – تبارك وتعالى – أن يُثبِّت إيمانك، الآن دخلنا في مرحلة المحنة، يقول سوف تموت لا محالة.
عبرة هذه القصة أن الناس حين تسنح لهم فرصة مثل هذه الفرصة الذهبية التي لا تسنح في كل زمان ولا لكل أحد – أن يلتقي بني مُكلَّم وبرسول عظيم – بدل أن يستغل هذه الفرصة لمزيد تقرّب من الله – تبارك وتعالى – وازدلاف إليه يستغلها من أجل الدنياـ هذا ما فعله هذا الأحمق، وكلنا إلا مَن رحم ربي ذلك الأحمق والله العظيم، نُحِب أن نتعلَّم القرآن والسُنن والأدعية والأشياء والأسرار ما يجعلنا فقط مُجابي الدعوة، نُريد شيئاً تُستجاب به دعوتنا، من أجل ماذا؟ هل لنسأل الله رضوانه وقربا؟ ليس من أجل هذا، وإنما من أجل الدنيا، نحن نُريد الدنيا، هل كل هذا من أجل الدنيا؟ هذا غير معقول، الدنيا سريعة التقضي ولا تُساوي كل هذا.
أنا سمعت من إخوة مغاربة – لدينا الآن إخوة مغاربة ما شاء الله – بشيئاً عجباً – أي والله – حدَّثوني به، وقد ذكرت هذا مرة في خُطبة، حدَّثوني عن ولي لله – تبارك وتعالى – لديهم هناك في البلدة أو القرية، وهو رجل درويش مجذوب مُستجاب الدعوة، إذا رفع يديه الله لا يردهما صفراً خائبتين، وطبعاً أنت تسمع هذا وتغبطهم على أن الله جعل بينهم ولياً يعرفونه، لأن يُوجَد الكثير من الأولياء غير معروفين لكن هذا ولي معروف، وهذا جميل جداً، فانتفع به واجعله يدعو لك بأن يُثبِّت الله عليك الإيمان وعلى أولادك وذرياتك وما إلى ذلك ومن ثم تتقرَّب إلى الله، قالوا لي كلا، بالعكس نحن نستغله، إذا أمحلت ولم يأتنا الغيث أخذناه وقلنا له يا فلان قُم ادع لنا لأن الزرع يموت ونُريد المطر، هذه ليست شؤون أخروية، كلها شؤون دنيوية، كلها شؤون مادية، فيقول لا، هذا قدر الله تبارك وتعالى، أنا لا أدعو، فيظلون يُلحِّون عليه حتى يصل الأمر بهم إلى الضرب، أي أنهم يضربونه، فقلت ماذا؟ قالوا نضربه، نحن نضربه ضرباً مُبرِّحاً فيغضب، لكن انظروا إلى هذا الولي العارف بالله، هذا الدرويش إذا غضب لم يدع عليهم، حتى يصرفهم عن نفسه يقول يا رب أسقهم الغيث، فينزل المطر في الساعة والتو، هذا حدَّثني بها مجموعة من الإخوة المغاربة الأفاضل وفيهم رجل كبير، وفي المحضر الآن إخوة يجلسون وقد كانوا معي في البيت، أكثر من رجل مغربي – إن شاء الله – من الناس الطيبيين يعيشون في هذه البلدة ويعرفون هذه الحادثة، فقلت هذا أمرٌ، إلى هذه الدرجة وصلنا؟ هل نحن مُسلِمون؟ مُسلِمون يفعلون هذا، نحن أشبه بالوثنيين، نحن نسلك سلوك الوثنيين، فعلاً نحن نعبد الدنيا ونُحِب الدنيا حباً جماً، كأن لا يُوجَد عندنا رغبة حقيقية في معرفة الرب لا إله إلا هو، ولذلك اعرفوه – عز وجل – وأحِبوه ووقِّروه واعبدوه والهجوا بذكره ولن يفوتكم – والله – شيئاًـ ستحصلون على كل شيئ، ماذا فاته مَن كان الله معه؟ وماذا حصَّل مَن فاته الله؟ لم يُحصِّل شيئاً .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا رحمةً ولا تجعلنا عذاباً واجعلنا محبةً ولا تجعلنا كراهيةً، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
انتهت الخُطبة بحمد الله
فيينا (28/11/2014)
أضف تعليق