إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَعظيمَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – من قائلٍ في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۩ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ۩ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۩ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
قال الله وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، يجبُ على أهل العلم أن يصدعوا بالحق في وجه العُصاة وفي وجه الظلمة والجورة والفسقة والمُتسلِّطين على عباد الله بغير الحق وإن غلب على ظنهم بل وأن قطعوا وأيقنوا أن موعظتهم لن تُصلِح من هؤلاء ولن تُصلِح من حالهم، تقول الآية الكريمة لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۩، إن مصيرهم لائح وإن نهايتهم واضحة ومع ذلكم ليس يُعذَر أهل العلم وأهل الحق الذين يطلبون رضوان الله – تبارك وتعالى – ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا هو، وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ ۩، أي إلا إياه، فعلى هؤلاء أن يقولوا كلمة الحق حتى لا يتسع الخرقُ على الراتق وحتى يعلم الذين اشتبهت عليهم الأمور الحق من الباطل و حتى تبقى الحاسة النقدية فعَّالة ومُرهَفة عند الناس وحتى لا تدلهم الظلمات فلا يُميَّز بين حقٍ وباطل وبين نورٍ وظلام، وإن من السهل السهولة النسبية على المرء أن يكون عالماً أو مُفكِّراً غير ديني أو في غير علوم الإسلام، هذا من السهل إذا كان يُريد هذا، فيُجهِد نفسه ويدأب في طلبه ويتحصَّل على ما قُدِّرَ له، ولكن أن تصير عالماً دينياً فالمسألة صعبة جداً، ليس لأن علوم الدين صعبة، فهى أسهل من غيرها حقيقةً، ونحن الآن نرى العاطلة تتكلَّم في الدين، فمَن يُحسِن ومَن لا يُحسِن، ولذا ما أكثر المشائخ وما أكثر المُتكلِّمين في الدين في عالم العرب والإسلام، فهم بمئات الألوف، خرّيجون وغير خرّيجين وبشهادات وبغير شهادات وبعمائم ومن غير عمائم وبلحى ومن غير لحى، ولكن ما أقل أن يكون المرء نابغة في علم من علوم الدنيا، فهذه العلوم أصعب وأشق بلا شك، أما علوم الدين سهلة وليست بتلكم الصعوبة، صحيح صعبٌ جداً أن تصير إماماً من أئمة العلم وليس مُجرَّد شيخ أو مُتمشيخ تُسوِّد البياض وتدّعي أنك مُؤلِّف ومُصنِّف وإنما أن تُصبِح إماماً حقيقياً، فالإمامة ليست بالعلم وحده وإنما بالعلم وبالمواقف كما نقول دائماً، أي بالعلم وبالذي تفعله بهذا العلم وبما تُوظِّف العلم في سبيله ومن أجله وبما تقوله بهذا العلم، فماذا تقول ولمَن وفي أي وقت لأن الشجاعة في غير وقتها انتهازية، فبعد أن تنجح الثورات كلهم يُؤيِّدون الثورات، رجال دين ورجال غير دين وعلماء ومُفكِّرون وصحفيون مُثقَّفون وحتى العامة، فالكل يسير في ركب الثورة المُظفَّر ويدّعي أنه من الذين ساهموا في هذه الثورة، بل ربما يرى عند نفسهِ لأنه مُختَّل العقلية والشخصية أنه مِمَن أسهم فيها بحظٍ عظيم لأنخ ربما شارك في مُظاهَرة وربما تكلَّم كلمة مُزدوَجة ويظن أن الأمر توقَّف عليه، وهذه حالة جنونية كحالة أكثر حكامنا اليوم، وللأسف حتى العوام والنُخبة لا تخلو من أمثال هؤلاء أصحاب الرقاعات الفكرية، ولذا الشجاعة في غير وقتها انتهازية، فاحفظوا هذا جيداً لكي تُميِّزوا الانتهازيين من علماء الدين ومن المُثقَّفين والصحفيين والساسة والعامة الذين تطول ألسنتهم بعد أن تنجح الثورات أما قبل ذلك فإما أنهم ابتعلوها وإما أنهم أطالوها وسلَّطوها ألسنة حداد بالتعبير القرآني ولكن على أهل الثورة، فقالوا عنهم أنهم من المدفوع لهم ومن المُنافِقين والكذبة وبُغاة الفتنة وبُغاة كذا وكذا وكذا وكذا.
لا يُوجَد دين من الأديان ولا يُوجَد نص من النصوص المُقدَّسة كالقرآن والسُنة دمدم على الظلم والظالمين وحرَّج على أهل العلم والبيان أن يفضحوا الظلم والظالمين، وذلك في تحريج شديد، لأن هذا ليس حقاً من حقوقنا بل هو واجب مفروض علينا وسنُسأل عنه، ولذا النبي المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه – يقول “مَن رأى سُلطاناً جائراً لا يعمل بكتاب الله – جائراً كذَّاباً ظالماً فاسقاً عن أمر الله – ثم لم ينُكِر عليه إلا كان حقاً على الله أن يُدخِله يوم القيامة مُدخَله”، أي ستُحشَر معه يوم القيامة، وابحث بعد ذلك في حسنات صلاتك وعُمرك وحجاتك لكي تنفعك، فالنبي يقول “إلا كان حقاً على الله أن يُدخِله يوم القيامة مُدخَله” أي ستُحشَر معه، فاليوم أنت تُدافِع عنه وتظن أنه باقٍ لك لكنه لن يبيت.
فهذا هو الميثاق الذي واثق اللهُ عليه أهل العلم والبيان والذي غلَّظه الله وأكَّده على أهل العلم والعرفان، وهو أن يُبيِّنوا الحق للناس ولا يكتموه، فيجب أن يُبيِّنوه وممنوع أن يكتموه، وأنا سأتحدَّث لا عن عنوان عالم أو فقيه أو إمام أو شيخ أو داعية أو صحفي أو مُثقَّف أو أكاديمي أو غير ذلك من هذه الألفاظ وإنما سأستخدم لفظة مُثقَّف وهى تعني ذلك كله على الأقل في سياقنا هذا، ونريد بالمُثقَّف صاحب البيان الذي له منبر في جريدة أو في تلفزيون Television أو منبر كهذا المنبر أو منبر بين الناس أو كلمة مسموعة، فمن النُخبة مَن يتكلَّم ويُسمَع قوله أياً كان، سواء كان عالم دين أو دنيا، فسنُعنّوِن لهؤلاء بالمُثقَّفين حتى لا نضطر أن نستخدم كلمات كثيرة.
المُثقَّف واجبه يتعيَّن بأداء دورين وهما دور الشاهد ودور القاضي، دور الشاهد هو ليس دوراً سلبياً كما يظن بعض الناس لأن الشهادة ليست عملاً سلبياً، هى بحد ذاتها عمل إيجابي، فالشهادة لابد أن تُؤدَّى إلى وجهها، وقبل ذلك يُحرِّج في كتمها، فممنوع أن تُكتَم، قال الله وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ ۩ ولم يقل لسانه لأن القرآن دقيق وهو كلام رب العالمين، فالله يقول أن هذه علة هذا الكاتم الذي بلع لسانه وسكت وادّعى أن الأمر قد لا يعنيه وأنه غير مُقتِدر أن يشهد، فالشهادة تقرير، وأنت حين تشهد فإنك تُقدِّم تقريراً عن ما حدث وعن ما يحدث، تُقدِّم تقريراً موضوعياً كما هو بلا زيادة وبلا نقصان وبلا أحكام، سواء أحكام قيمة أو أحكام شريعة، فلا تتحدَّث ولا تقل هذا ظلم وهذا عدل، وإنما تكلَّم عن ما حدث وعن ما يحدث كما هو بغير زيادة وبغير تنقص أو نقصان، وهذا العمل خطير، فالشهادة عمل خطير وأجرها عظيم عند الله تبارك وتعالى، فيجب
أن تكون صادقاً في شهادتك ولا تنحاز إلى فئة دون فئة، فحتى إن كانت العامة ظالمة لا تنحاز إلى العامة ضد الخاصة من أجل أنها عامة، لأن علينا أن نحكي الحق كما هو في كل الأوقات، ولكن طبعاً حكاية هذا الحق عملية سهلة على المنبر هكذا وفي العموم فنتواصى ونتنادى إلى أن نحكي الحق ولكن في أوضاع مُعيَّنة كما في بلاد العرب والمسلمين تكون هذه الحكاية صعبة جداً، بل قد تكون انتحاراً وقد تكون استشهاداً!
جورج أورويل George Orwell وهو أحسن تقريباً مُفكِّر في الغرب المُعاصِر أو الحديث حلَّل النظم الشمولية في ديباجة وفي شكل أدبي في كلتا روايتيه “مزرع الحيوان و1984″، فهو أحسن مَن تكلَّم في هذا الباب بشكل أدبي مُثير وعجيب، لذا يقول “في زمن الخديعة وزمن الاستبداد والقهر والتزييف – تزييف كل شيئ – يغدو قول الحقيقة عملاً ثورياً” وذلك لأنه عاش في إنجلترا، فلو عاش في بلاد العُرب اليوم لقال عملاً انتحارياً وليس ثورياً، أي سوف يغدو قول الحقيقة عملاً ثورياً انتحارياً أو استشهادياً بلغتنا، فسوف تقول وتمضي مُباشَرةً، بل قد يكون السيف إلى رأسك أسرع منك إذ تُريد إكمال جُملتك.
المُثقَّف العالمي المُحترَم إدوارد سعيد Edward Said لخَّص دور المُثقَّف الرئيس في جُملة واحدة، فأن تتدعي أنك مُثقَّف وأنك تفهم وأنك تدرس وأنك واعٍ فهذا يدل على أن لك دور يُكثَّف ويُركَّز في شيئٍ واحد وهو Speaking Truth To Power”” أي النطق بالحق و قول الحقيقة في وجه القوة – ToPower – وفي وجه السُلطة، فأن تُجابِه السُلطة بالحقيقة مهما كلَّفك ذلك فأنت مُثقَّف، وإن لم تفعل هذا فأنت البعيد دجَّال ومُرتزِق ومُتمعيش كأكثر مَن نرى من المُثقَّفين الدينيين وغير الدينيين المُتمعيشين، فهم مُوظَّفون – والله -ومُرتزِقة وليسوا أكثر من مُرتزِقة يطلبون الرزق المهين غير الكريم.
إذن هذا دور المُثقَّف، فإذا كنت تبحث عن دور فهذا دورك ولا دور لك غيره ولا دور لك بدونه إلا أن يكون دور عميل السُلطة أو حذاء السُلطان أو دور المهين الخسيس الرذل الذي يُسارِع إليه كثيرون وأحياناً حتى لا يجدونه، فلماذا؟ لأن أمثال هذا الخسيس كُثر وهم بمئات الألوف من الذين يطلبون الأرزاق!
الإمام محمد أبور زهرة – رحمة الله تعالى عليه – عزَّ زمانه في هذا النظير لأنه كان قوَّالاً بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم، وقد أغضب ناصر في زمنه فجعله – أي عبد الناصر – في الإقامة الجبرية إلى أن لقيَ الله، وهو أغضب السادات أيضاً في زمنه وقيل هو الذي دسَّ له السُم أو جيهان السادات وحزبها وزُمرتها فمات الإمام – إمام الإسلام – مسموماً، لأنه لم يكن يسكت وكان يتكلَّم بالحق، وهو الذي كتب يقول أنه لولا النفاق والمُنافِقون ما ضاعت بلاد الإسلام وما جرى على الإسلام وأهله الذي جرى.
أبو زهرة – قدَّس الله روحه الكريمة الطاهرة – يقول لولا ذلكم المُنافِق الذي وقف بين يدي مُعاوية بن أبي سُفيان – أبو زهرة من الناقمين على مُعاوية حتى نكون عالمين، فلا يُوجَد عالم يحترم نفسه ويُحِب مُعاوية ويحرق له البخاخير، هذا مُستحيل – يقول أمير المُؤمِنين هذا – يُشير إلى مُعاوية – فإن هلك فهذا – يُشير إلى ابنه – ومن أبى فهذا – وأشار إلى السيف ففرح بها مُعاوية وقال اجلس وأنت أخطب القوم – ما قدر مُعاوية على تحويل الحكم الشوري إلى حكم وراثي استبدادي، ولكن ضاع الإسلام وضاعت الأمة وضاعت السياسة بأمثال هؤلاء المُنافِقين وما أكثرهم في كل زمان ومكان، فهؤلاء المُنافِقون كثر!
خطر لي أن أحد الباحثين أو أحد الدارسين – في رسالة ماجستير أو دكتوراة – سيكون مُوفَّقاً إذا وقفها على مسألة جمع – فقط جمع – شعر النفاق والدهان والملق الذي ارتزق به هؤلاء المُتملِّون على أبواب السلاطين، فسوف يجتمع عنده مُجلَّدات طويلة عريضة، وليُسمها ديوان المُنافِقين من مدَّاحي السلاطين، فهناك آلاف الصفحات وعشرات آلاف الأبيات في هذا، وأنتم تعلمون أكثر من عشرة من خُلفاء بني العباس لقوا حتفهم قتلاً وخنقاً وسحلاً وبالسُم وأحياناً على أيدي أبنائهم أو زوجاتهم أو أقرب المُقرَّبين إليهم، ومن هؤلاء المُتوكِّل على الله إمام أهل السُنة والجماعة الذي أبرأ إلى الله منه ومن أفعاله، فبعضهم يُحِب المُتوكِّل فقط لأنه ناصر أهل السُنة على المُعتزِلة في مسألة خلق القرآن، والمُتوكِّل الظالم كان عنده ابنه محمد المُنتصِر بالله وابنه المُعتز بالله وابنه إبراهيم المُؤيَّد بالله وهكذا كلها ألقاب ومملكة في غير موضعها، كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ، فهذا مُتوكِّل وهذا مُنتصِر وهذا مُعتز وهذا مُؤيَّد، فسأل هذا المُتوكِّل العلَّامة الكبير – علَّامة البلاغة والأدب – ابن السكيت قائلاً مَن خير: ابناي محمد المُنتصِر والمُعتز أم الحسن والحسين؟ فقال له ماذا؟ وغضب الإمامُ الجليل، وهو رجل مُؤدِّب ولديه وعنده بقية من ضمير وبقية من احترام النفس، لكن هل بلغ بك الهبل أن تجعل نفسك بمثابة عليّ بن أبي طالب وبولديك هؤلاء الحقيرين المحقورين ندين للحسنين؟ الله أكبر، فقال له ماذا؟ماذا تقول؟ القياس غير وارد يا أمير المُؤمِنين، فقال له ماذا؟ ثم غضب واستلَّ لسانه.
المُتوكِّل إمام أهل السُنة والجماعة أمر باستلال لسانه، فأُخرِجَ لسان الإمام ابن السكيت واختُلِع ثم ديس في بطنه ومات الرجل من فوره، والمُتوكِّل هذا هو الذي هدم قبر الحسين بالعراق وسوَّى به الأرض أو سوَّاه بالأرض، ومع ذلك يقولون عنه أنه إمام أهل السُنة ورضيَ الله عنه.
فهو يُفضِّل ولديه ويدور في خاطره أنهما أفضل من الحسن والحسين، فلماذا؟ لأنه قرَّ في ذهنه المُعتَّل المُلتاث أنه أفضل من عليّ، فهو ابن عم الرسول أيضاً، لأنه عباسي فلماذا لا إذن؟ ما عليّ هذا مُقارَنةً به؟
هذا جنون وهذه حالة جنونية، وسوف نرى ماذا فعل به حسنه – الحسن ابن المُتوكِّل – محمد المُنتصِر – هو المُنتصِر محمد بن جعفر بن المُعتصِم، لأن المُتوكِل إسمه جعفر بن المُعتصِم، فهذه سلسلة – فيما بعد.
ابنه الحسن – أي محمد المنتصر – هو الذي قتله أباه، فمحمد المُنتصِر قتل أباه بالخنجر وأزهق روحه استعجالاً للملك، لأنه كان يُريد الملك، وكان المُتوكِّل الأحمق – إمام أهل السُنة في وقته أو الذي جعلناه إماماً كما نجعل الآن بعض الخونة وعملاء الاستعمار أئمتنا والناطقين بإسمنا هنا وهناك، وهذا شيئ لا يُصدَّق، هذا عار علينا كما كان عاراً في التاريخ – قد أخذ البيعة والعهد على الناس – طبعاً بقوة السيف وبالأصفر اللمَّاع، أي بالذهب، لأن هناك مِن الناس مَن يُغرى بالإغراءات، وهناك مِن ناس مَن يأتي بالسيف – على أنه بعد عمر طويل – عمر النشمي – حين يهلك المُتوكِّل يكون الخليفة عليكم ابني محمد المُنتصِر، وبعد عمر طويل حين يهلك محمد المُنتصِر تكون الخلافة لابني المُعنز بالله، وبعد عمر طويل إذا هلك المُعتز بالله يكون الخليفة عليكم ابني إبراهيم المُؤيَّد بالله.
الله أكبر، النبي يثبت عنه أن مَن جار في وصيته حين احتضاره وقبل احتضاره سوف يهلك، فإذا أوصيت بوصية تذهب إلى جهنم، والنبي يثبت عنه أن العبد قد يُحسِن العمل مثل الصلاة والصوم والحج والعُمرة والزكاة والبكاء والدموع لمدة ستين سنة، فإذا احتُضِر – حضرته الوفاة – جار في الميراث ولم يرض بقسمة الله بين الورثة – فهو جار إذن لأنه ورَّث هؤلاء أكثر من هؤلاء ولذا النبي – وبالتالي سوف يدخل النار كما قال النبي ولن تنفعه عبادة ستين سنة، فالله – تبارك وتعالى – هو الذي قسم التركة – تركتي وتركتك – سواء كانت عشرة آلاف يورو أو خمسة آلاف يورور أو مائة ألف يورو أو مليون يورو، وهذه تركات حقيرة، فكيف تُعامِل الأمة كلها على أنها تركة لك وتحتجن وتحتجز أعصارها وأجيالها إلى ربما ستة أو سبعة أجيال؟ فيحكم هذا لمدة أربعين سنة – هذان جيلان – ولكن هل سيعيش أخوه – لمدة أربعين سنة هو الآخر؟ هؤلاء أُناس مجانين لكنهم احتجزوا الأمة على الأقل لمدة ثلاثة أجيال، ومع ذلك يقوم شاعرٌ مُنافِق ويرضى عن هذا، وأنا مُتأكِّد من أن هذا الشاعر كان على استعداد إن لم يفعل أن يقول كما سمعنا بعض المُتمشيخين اليوم، ويُمكِن أن تسمعوهم في اليوتيوب YouTube،وإن شاء الله – وأسأل الله أن يُعيني – أعدكم من هذه الخُطبة بعد الذي سمعت ورأيت في اليوتيوب YouTube – إن شاء الله – لن أُقسِم بالله على منبر رسول الله، فقد احتقرت نفسي، فإن كنت أُقسِم أنا وأمثالي صدقاً وحُباً في الأمة فلقد استمعتُ ورأيت مَن يُقسِم ويُقسِم بأغلظ الإيمان – ويقول والله الذي لا إله إلا هو -كذباً ودهاناً وملقاً للسُلطان، فهم يُقسِمون بالله إنها لشهادةٌ لوجة الله في حسني مُبارَك والثورة دائرة، وذهب حسني مُبارَك إلى حيث ألقت فإذا بهم يبكون من أجل الثورة والثائرين ومن أجل الشباب الرائع الذي حرَّرنا من الظلم، فاحتقرت نفسي، ولولا أنني أعلم من نفسي ما أعلم لما صعدتُ هذا المنبر ولتركت هذا الدور – دور عالم الدين والمُتكلِّم في الدين – ولكن أقل ما أفعله هو أنني لن أحلف بالله – إن شاء الله – من اليوم حتى صادقاً لئلا نجعل الناس يحتقرون الحلف بالله، فهم يسمعون مشائخ – أنا ليس لي لحية، أنا Modern – بلحى كبيرة ما شاء الله ولكنهم يحلفون في الفضائيات وعلى التلفزيون Television كذباً، علماً بأنني كنت أُحدِّثكم عن النظر في المرآة ولكنني اكتشفت أنني إنسان مُغفَّل فعلاً وبسيط جداً، لأنني لا أستطيع أن أنظر في المرآة وأنا أعلم أنني كذَّاب،لأنني سأحتقر هذه الشكلة وسأحتقر هذه الصورة وسأبصق عليها – سأبصق على صورتي – وأقول أيها الكذَّاب المُنافِق كيف تنظر في وجهك؟ لكنني وجدت هؤلاء لا ينظرون في المرآة بل ينظرون في وجوه ثمانين مليوناً بعد أن أسمعوهم بالأمس القريب العار.
فقبل أيام نطقتم بالعار وبالشنار وبالكذب، واليوم تُواجِهون ثمانين مليوناً وتبكون من أجلهم ومن أجل ثورتهم، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، فعلاً:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَآ لِجُرْحٍ بِمَيّتٍ إيلامُ
لم تشعروا بكرامتنا المُضيَّعة في الليالي الحوالك والأيام البوائد للظلم الغابر لأنكم لا تعلمون للكرامة معنى، ولما طوى الله صفحة هذا الظلم المُخيِّم جئتم تتنادون بمآثر الثورة وفضائل الثوار وتبكون فرحاً بالنصر المُؤزَّر المُظفَّر، والشعوب المسكينة تُصفِّق لكم لأنها تستأهل أمثالكم، فأنتم ترتزقون بها، وبالأمس ارتزقتم من موائد جلَّاديها، لكن الآن ترتزقون بها على الفضائيات من خلال الرسائل القصيرة – SMS – والاتصالات والفتاوى المدفوعة والبرامج والملايين والألوف التي تحصلون عليها.
أنا أتساءل حقيقةً ما الفرق بين هؤلاء وبين الطاغية؟ أنا أُحِب أن أفهم فقط،ما الفرق؟ الفرق في حجم الطمع فقط، فعلينا أن ننتبه إلى أن الفرق ليس في شيئ إلا في حجم الطمع، ودعوكم من الخطاب الذي يقول أن الطاغية يتحدَّث بإسم العلمانية وبإسم أوروبا وأمريكا وهم يتحدَّثون باسم الله والرسول، فهذا كله كلام فارغ، وبالتالي دعوكم من هذه الديباجات الفارغة الكاذبة، لأن في الحقيقة ولدى التحقيق الفرق هو في حجم الطمع، فطمعهم يتمحوَّر على مئات الألوف وبعضهم أصبح طمعهم يتمحور على الملايين الآن، فمُرتباتهم بالملايين ويمضون العقود مع الشركات لكي يأتي يُعلِّمنا ديننا ويُنوِّرنا في دين الله – تبارك وتعالى – حُباً فينا وفي آخرتنا ولكن بالملايين، أما الحاكم فطمعه بحجم دولة من مقياس ثمانين مليون وفيها الكثير من الثروات وعشرات المليارات، فإذن هو قضيته أنجح وبالتالي مُبرَّر له أن يفعل ما يفعل، فالمسألة مسألة أطماع وأرزاق ومعيشة تكفي العالمين، فصدِّقوني هذا هو الفرق فقط لا أكثر ولا أقل، ولكن كما قال النبي إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت.
كنت أقوم بالتفلسف عليكم وأُحدِّثكم عن النظر في المرآة واقول لكم انظروا في المرآة ولكني اتضح أنني كنت مُخطئاً، فقد كسَّرنا المرآي، نحن ننظر في وجوه الملايين الذين بعناهم وكذبنا عليهم وأسمعناهم العار، وأحد هؤلاء لم يبق عليه إلا أنه يحكم بكفرنا وبكفر كل الذين ثاروا وأيَّدوا الثورات، وادخلوا على اليوتيوب YouTube الآن وسوف تجدون نفس هذا الشخص وقد تلوَّن وانقلب، وأنا لا أكاد أُصدِّق حقيقةً ولا أدري كيف يحدث هذا، فهل تستطيعون أن تُصدِّقوا؟ بل أنا أشعر بالعار أنني أنتمي إلى هذه القبيلة – قبيلة مَن يتكلَّم بإسم العلم وبإسم الدين – فضلاً عن أن حق على العربي كعربي أن يشعر بالعار لأن في العُرب أمثال هؤلاء، وعلى كل حال الأمم كلها لا تخلو من أمثال هؤلاء ولكن حين يُصبِح هؤلاء قادة الكلام في الدين وفي الثقافة العامة فهذا شيئ مُخزي – حقيقةً – ومُخجِل، فبعد أيام نفس هذا الشخص يقول “الشباب الرائعون، شباب الثورة الذين حرَّرونا”، ونفس هذا الشخص العجيب الغريب الذي لا أجد ما أصفه به تصله أيام الظلم وأيام النظام البائد شكاية من إخواننا من غير المسلمين الذين يتأذَّون بسماع أذان الفجر – وهل يُوجَد صوت أجمل من الصوت المصري حين يُؤذِّن أو يقرأ القرآن الكريم؟ اسمع إلى الأذان المصري وسوف يقشعر بدنك لأنه جميل جداً جداً جداً – لكن هل تعرفون ماذا قال هذا الشيخ الذي كاد يُكفِّر الثورة والثوار والآن يتمسَّح بالثورة والثوار؟ قال لا يجوز، لكن لماذا يا أخي لا يجوز؟ قال من أين أتينا ببدعة الميكروفون Microphone هذه؟ ثم قال إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ۩، وادخلوا على اليوتيوب YouTube لكي تروا هذا لأنه كان مُسجَّلاً على التلفزيون Television، فهو يقول إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ۩، أي أنه يُشبِّه كلمات “الله أكبر ولا إله إلا الله ومحمد رسول الله “بأصوات الحمير، فكيف هذا؟ ما هذا يا أخي؟ لم تقول هذا؟ أنا لا أكاد أُصدِّق، ما الذي يحدث؟
وهذا الشخص نفسه – كما قلت لكم – سألوه هل حقاً أنك تدفع ببناتك المسلمات – لأنها من صُلب عالم دين كبير يُستفتى على التليفون Telephone ويقول فتاوى مدفوعة لأنه لم يشبع من الفضائيات، كما يقول التوانسة “يفطرون على الدنيا ويُريدون أن يتسحروا على الآخرة أيضاً، فهو لم يشبع حتى الآة ومن ثم اتجه إلى الفتاوى المدفوعة على التليفون Telephone وانتظر لك ساعة وادفع لك مئات الجنيهات لكي تستفي ما شاء الله إلامام أبا حنيفة، فهذا هو الإمام أبو حنيفة ما شاء الله أو العز بن عبد السلام أو ابن تيمية لأنه من مشائخ الإسلام العظام المُجاهِدين ما شاء الله – إلى مدرسة تبشيرية؟ فقال دون أن يستحي نعم طبعاً، فهذا انفتاح ومرونة.
فالرجل ليس ضنيناً بدينه، ودينه لا يُساوي عنده قشرة بصل، فالذي يقول عن الأذان إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ۩ هو يهزأ بالدين وأهله ويهزأ بالشرع والشعائر والشرائع الإلهية، وبالتالي هو قادر على أن يُبدِّل جلده كل يوم مائة ألف مرة من أجل جنيه زائد يُودَع في حسابه، فلا كثَّر الله في المسلمين من أمثال هؤلاء!
أنا ذكرت أبا حنيفة الآن فاسمعوا ما سأقول على ذكر أبي حنيفة، فمَن هو أبو حنيفة؟!
أبو حنيفة هو الإمام الأعظم في الإسلام ومع ذلك بعض الناس يستغرب ويقول لماذا لايزال هذا الإمام هو الإمام الأعظم؟ لماذا لاتزال أوسع رُقعة في العالم الإسلامي وأكبر عديد من المسلمين يعبدون الله بمذهب أبي حنيفة؟ مَن هم أبو حنيفة هذا؟ لكن لكي تعلم مَن هو عليك أن ترى كيف عاش وكيف مات أبو حنيفة، أبو حنيفة ليس مُجرَّد ورق وأقلام وفضائيات وكلام وخطابات منبرية مثل هذه الخطابات، فاسمعوا إلى أبي حنيفة – رضوان الله تعالى عليه – لتعلموا مَن هو، علماً بأننالن نتحدَّث عن علم الإمام وذكاء الإمام وإنما سنتكلَّم عن صدع الإمام بالحق في وجه السُلطة الظالمة.
أبو حنيفة الإمام الأعظم – قدَّس الله سره – في أيام بني أمية يُبتلى ويُمتحَن، حيث أن وزيرهم ابن هبيرة سوف يأتي وزيراً على الكوفة وتثور بعض القلاقل والفتن، فيستدعي العلماء ثم يُوكِل إلى كل عامل طرفاً من أعماله فيُولِّيه ويقول أنت لك هذا العمل وأنت لك هذا العمل وأنت لك هذا العمل وهكذا، أما أبو حنيفة فاستدعاه بخصوصه لرفعة مقامه – معروف أنه شيخ الإسلام وإمام الأمة – وقال له تعال يا أبا حنيفة، أما أنت فأجعل إليك الخاتم، لا يُصرَف درهم ولا ينفذ حكمٌ إلا بختمك، أي أنك سوف تكون أعلى مني، فقال له لا أتولَّى هذا العمل، وذلك لأن أبا حنيفة كان يفهم أنهم يلعبون به طبعاً وأنهم يُريدون أن يُبيِّضوا صورة الظلم الأموي بأبي حنيفة حينما يقولوا “أبو حنيفة مُوظَّف عندنا”، لكن اليوم يتجارى أمثال هؤلاء ويكتبون التقارير في إخوانهم العلماء وفي مُؤسَّساتهم الدينية من أجل أن يأخذوا وظيفة في وزارة الأوقاف، أي أن الواحد منهم يفعل هذا ليس لكي يبقى وزيراً للأوقاف – مثلاً – أو لكي يكون شيخاً لكذا وإنما لمُجرَّد أن يحصل على أي وظيفة، فالرجل يكتب تقارير للاستخبارات ويرتزق من ورائها، عن ماذا أُحدِّثكم؟ هذا ليس بالخرص ولا بالتظني وإنما أنا أتكلَّم عن حقائق أعرفها تفصيلاً، فهناك مشائخ يكتبون التقارير من أجل أن يفوز أحدهم بوظيفة يزداد بها مُرتبه كذا وكذا دولاراً.
نعود إلى أبي حنيفة الذي قال لا، فألح عليه لأنهم كانوا يعتقدون أنه يمزح، فقال له سوف نُعطيك الختم وبالتالي كل كلامي وفعلي وأوامري لن يُنفَّذ منه شيئ إلا إذا وافقت يا أبا حنيفة وختمت، فقال له لا، فقال له سوف أضربك، فقال افعل ما بدا لك ولن أتولَّى لك عملاً، فجاء إليه إخوانه وقالوا يا أبا حنيفة ننشدك الله – تبارك وتعالى – لا تُهلِك نفسك فإنا إخوانك ووالله ما قبلنا هذا العمل إلا مُرغَمين ولسنا نُحِبه ولكننا أُرغِمنا، فقال أما أنا فلا أتولَّى لهم – أي لبني أُمية – عملاً، حاشا لله أن يُكتَب في صحيفتي أنني توليت لبني أمية عملاً، فوالله لو راودني وفاوضني على أن أعد له أبواب مسجد واسط لما فعلت، أي أنه مُستعِد لكي يُقتَل ولكن ليس لديه مُشكِلة في هذا، فلو قال له فقط عد لي عدد أبواب المسجد فلن يعد له ولن يتعاون معه!
يا سلام يا أبا حنيفة، يا سلام يا نعمان، يا سلام يا إمام المسلمين الأعظم فعلاً، علماً بأنه أتى قبل إتين دي لابويسيه Étienne de La Boétie بقرون، فالغرب يفتخر بلابويسيه La Boétie صاحب العبودية المُختارة، فالفرنسي لابويسيه La Boétie قال – وصدق فيما قال وبالحق نطق – في القرن السادس عشر “لستُ أطلب منكم أيها الناس – يُحرِّضهم على الطاغية وعلى الظالم وعلى الديكتاتور آكل الشعوب – ولا أدعوكم إلى أن تواجِهوه وأن تصدموا معه، أعرف ان هذا صعب وشاق عليكم – أي أن تُذبَحوا وأن تُقطَّعوا وأن تُسجَنوا وأن تُنفوا من البلاد يُعتبَر صعباً – لكن كل ما أطلبه منكم – يقول للشعوب لابويسيه La Boétie – فقط ألا تتعاونوا معه، كونوا سلبيين وكفوا أيديكم ولا تتعاونوا معه ولا تلوا له وظيفة ولا تُبيِّضوا له صحيفة ولا تنطقوا بإسمه ولا تحرقوا له باخوراً ولا تمسحوا له جوخاً، فقط اتركوه“، ثم يقول لابويسيه La Boétie مُستتلياً “وهو حتماً كالتمثال العظيم من المعدن الذي سُحِبَت قاعدته من تحته يسقط مُتحطِّماً تحت تأثير وزنه الثقيل، وهذا ما سيحدث مع كل طاغية فقط لو أننا تركناه ولم نتعاون معه”، لكن أبو حنيفة كان يفهم هذه النظرية بكل بساطة من قديم وكان يقول لن أتعاون حتى ولو طلب مني أن أعد أبواب المسجد وإلا قتلني، فسوف أقول له اقتلني ولن أعد لك أبواب مسجد واسط.
فأودعه السجن، وضُرِبَ الإمام مائة من الأسواط وعشرة، ولكم أن تتخيَّلوا أن هذا يحدث مع أبي حنيفة، فهذا ليس شيخاً عادياً أو إنساناً مُنفعِلاً أو إنساناً غلباناً درس كتابين وحفظ شريطين، فهذا هو أبو حنيفة الذي هو إمام الأمة وأستاذ الأساتيذ، ومع ذلك يُجرَّد الشيخ الوقور الجليل والعارف بالله ويُضرَب مائة سوط وعشرة أسواط، لكن لم تلن له قناة، ثم أنهم بعد ذلك ساموه التعذيب من خلال التعذيب اليومي، ففي كل يوم كان يُوجَد التعذيب والشد من الحبال وما إلى هنالك حتى أوشك على الهلاك، فقالوا أنه سوف يموت خاصة أنهم لا يضعون له طعاماً، فجاء السجَّان الضارب لابن هبيرة – عليه من الله ما يستحق – وقال يا أيها الوالي الرجل أوشك أن يهلك – أي أنه قد يموت تحت أيدينا – فماذا نفعل؟ وهذا إمام جليل ومن المُمكِن أن تثور الناس بعد ذلك لأنه ليس شخصاً عادياً، فقال ابن هبيرة مَن يُنصِفني مِن هذا الرجل؟ ماذا أفعل معه؟
عرض عليه مرةً أخرى أن يتولَّى له العمل فردَّ أبو حنيفة الآن – هذا قاله ليس للعلماء وإنما لابن هبيرة – قائلاً “لو فاوضتني على أن أعد لك أبواب المسجد ما فعلت ذلك”، أي اضرب وعذِّب واقتل لكنني لن أفعل ولن أتعاون معك، ثم قال لإخوانه العلماء يا إخواني كيف أدخل في عمل لرجلٍ قد يكتب بإراقة دم بريء أو بسجن مظلوم وأختم عليه؟ كأنه يقول لهم هل أنا مجنون لكي أفعل هذا بنفسي ومن ثم تضيع آخرتي؟
لكن كم بيننا وبين أبي حنيفة؟ احسب إذن، فنحن الآن في سنة ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين، ومتى تُوفيَ هو؟ في مائة وخمسين للهجرة، أي لقد ذهبت مئات السنين وذهب هو، وكذلك نحن سوف نذهب، وسوف يأتي مَن يتحدَّث، وستكر ربما مئات أو ألوف السنين، الله أعلم بعدتها، فالله وحده العليم، لكن الدنيا سريعة، فالدنيا حلم – والله – وخاطر سريع، الدنيا مُجرَّد مسرحية، ولذلك أبو حنيفة أبى، لكن بعد ذلك زادوا عليه العذاب، والرجل ظل مُستعصِماً بموقفه لأنه واثقٌ بربه وضنيٌ بدينه ومُعظِّمُ خشية الله تبارك وتعالى، فهذا هو الدين الذي يُوجَد في القلب، ولذلك الله يقول وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ ۩، فالمسألة مسألة قلب، هل يُوجَد تعظيم لله في القلب أم لا يُوجَد؟ وليست المسألة مسألة إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ ۩ كما قال أحدهم، فمثل هذا يظهرون على الناس ويبكون وهم يخدعونهم، ولذا كم أكره البكاء على المنابر وفي التلفزيون Television، وسأقولها واضحة وإن كنت قد قلتها من قبل: لا تبك أمام الناس وإنما ابك بينك وبين ربك، فكم أحتقر هذه الأساليب التي يستخدمها بعضهم، فهم يتباكون في الفضائيات وعلى المنابر، فهم يبكون للطاغية ويبكون على الطاغية ثم يبكون للجماهير ومن أجل الجماهير، فما هذا؟ لم نعد نفهم أي شيئ.
المُهِم هو أن بعد ذلك قال ابن هبيرة “يُؤجِّلني أو أُؤجِّله”، أي سوف نُعطيه فرصة حتى لا يهلك، فوافق أبو حنيفة بمشورة إخوانه كنوع من الحيلة ومن ثم أطلق سراحه بعد أن قال له أمهلني حتى أستشير إخواني، فتركه فهرب ولم يُعرَف أين، فقد ترك أبو حنيفة الكوفة كلها وهرب، ودالت دولة بني أمية – علماً بأن ذلك كان في سنة مائة اثنين وثلاثين للهجرة – وجاء بنو العباس وتجدَّدت للإمام الأعظم محنةٌ جديدة، فنفس الشيئ حدث له على يدي أبي جعفر المنصور الذي كان بعد أبي العباس السفَّاح، حيث جاءه المنصور وقال له “يا أبا حنيفة تتولَّى القضاء لنا”، لأنهم يُريدون أن يتزيّنوا به وأن يُبيِّضوا صحائفهم السوء وأن يغسلون وجوههم وتاريخهم ومظالمهم به، فيُعيدون تأهيل صورتهم وترميم صورتهم القبيحة في نظر الجماهير الجريحة، لكن أبى أبو حنيفة، فضُرِبَ وسُجِنَ وبقيَ في سجنه إلى أن لقيَ الله.
إذن أبو حنيفة مات في السجن، لم يمت في المسجد ولا بين تلاميذه وإنما مات – رضوان الله تعالى عليه – في سجنه، فهذا هو أبو حنيفة المُثقَّف والذي هو بلغتنا عالم وإمام من أئمة الدين، فهذا أحد المُثقَّفين باللغة العامة، ولكن في المُقابِل سوف نرى مُثقَّفاً آخراً من أصحاب الشعر والمدائح من المُرتزِقة ومن أصحاب الملق والدهان والرياء والنفاق، فماذا يقول هذا الشاعر للمُتوكِّل الذي رهن أجيال الأمة ورهن مُستقبَل الأمة على الأقل لثلاثة أجيال؟!
أثنى على ما فعل وقال له:
فـأمـا مـحـمـد فنور هُدَى يَهْدِي به اللّه من يهـدي
فأما محمدٌ فنورٌ من الله يهدي به الله مَن يهدي، أي أن المُنتصَر عُبارة عن نور إلهي هذا.
وأمـا أبـو عـبـد الإِلـه فـإنـه شبيهك في التقوى وُيجْدِي كما تجدي
أي أن المُعتَز بالله شبيه المُتوكِّل الذي كان عنده تقوى الله عظيمة، فهو ما شاء الله عليه خوَّاض غمرات وقوَّام ليل بالأسحار، فهذا الثاني يُشبِهك في التقوى يا أيها المُتوكِّل، وما شاء الله على تقوى المُتوكِّل الذي سلَّ لسان الرجل لأنه يُحِب الحسن والحسين ولم يقل أن ابنيه أفضل من الحسن والحسين، ومن ثم سلَّ لسانه من التقوى!
ثم يقول الشاعر المُنافِق:
وذو الفضل إبراهيم للناس عصمةٌ تقيٌ وفيٌ بالوعيد وبالوعدِ
الله أكبر، فهنا يتحدَّث عن الثالث وهو المُؤيَّد بالله، فقبَّح الله الثلاثة وأباهم معهم لأنه رابعهم.
ثم قال:
فأولهم نورٌ وثانيهم هُدى وثالثهم رشدٌ وكلهم مهدي
فلتفرح الأمة المنكوبة لقد منَّ الله عليها لا بمهدي موعود واحد ولكن بثلاثة مهادي دُفعةً واحدة، فالحمد لله رب العالمين، هذا فضل من الله، فهو يقول أنكم كنتم تُريدون المهدي الموعود لكن الله أعطاكم ثلاثة، فهذا هو معنى قوله:
فأولهم نورٌ وثانيهم هُدى وثالثهم رشدٌ وكلهم مهدي
يا سلام، ومَن هذا النور؟ الذي قتل أباه، فقاتل أبيه هو نور إلهي.
يقف شاعر مُتملِّق مُنافِق مُداهِن آخر أمام النور الإلهي محمد المُنتصِر الذي أزهق روح أبيه والذي أراد توريثه للملك من بعده ومن ورائه بالخنجر حتى أتى عليه في ليلة ليس فيها قمر وليس فيها بدر الدجى وقال:
لقد طال عهدي بالإمام محمدٍ وما كنت أخشى أن يطول به عهدي
رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمدٍ كَبدْر الدُّجَى بين العِمامةِ والبُرْدِ
يا سلام، هذا اتضح أنه كان شبيهاً بمحمد، فمحمد المُنتصِر قاتل أبيه السفَّاح الطاغية هو شبيه بالنبي محمد وهو بدر الدُجى، فبالله إن كان محمد بن جعفر هو – المُلقَّب بالمُنتصِر – بدر الدُجى فقولوا لنا كيف يكون ليلنا؟ إذا هذا البدر الذي يُضوِّيء لنا فكيف ستكون حلكة الليل العرب والمسلم؟
قال هذا المُداهِن:
رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمدٍ كَبدْر الدُّجَى بين العِمامةِ والبُرْدِ
يا سلام على النفاق!
قبل زُهاء أسبوع استمعت إلى زعيم عربي وكان يقرأ من ورقة، فهو يقرأ كل شيئ بصعوبةٍ بالغة حتى أنه عند آخر كلمة تقريباً كادت تزهق نفسه، فهو بصعوبة يتهجَّى الكلمات، ومن ثم قلت هذا أمرٌ عادي، فهذه ليست أول مرة، ولكن هل تعرفون ماذا كتب موقع شهير جداً عن هذه الخُطبة؟ سوف أقول لكم لكي تعلموا أن النفاق العربي مازال مُتصِلاً، فهناك نفاق في الأمة وفي كل الأمم،فالمُثقَّفون مُنافِقون أو بالأحرى أكثرهم مُنافِق في كل الأمم، فلسنا بدعاً حتى لا نجلد أنفسنا، ولكن عيب على أمة تتلو كتاب ربها وسُنة نبيها أن يزداد فيها النفاق ويستشري ويستفحل ويندلع بهذا الشكل، فهل تعرفون ماذا كتب موقع شهير – موقع كذا نت – جداً جداً جداً؟ كتب يقول “خطاب الزعيم مُمنهَّج”، فقلت هل هو خطب أصلاً؟ هل هو يستطيع أن يخطب؟ هو يستطيع أن يقول؟ يا أخي أعطه فرصة أن يقول في الأول، فهو لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يقول ولا أن يُحدِث شيئاً، ولكن هكذا هو النفاق، ومن هنا أيضاً ألَّف أحد المُنافِقين كتاباً في طاغية مشهور وأنتم تعرفونه جميعاً، وطبعاً هذا الكتاب يُطبَع من أموال الجماهير، ولا نقول من الضرائب وإنما من دمائنا ومن حقوقنا، فهو يُطبَع غصباً عنا ويُوزَّع بقروش زهيدة، فكتب هذا الكاتب المُنافِق قائلاً “قال فصدق”، وهذا شيئ لا يُصدَّق.
هؤلاء المُنافِقون قالوا أن هناك حقيقة لابد أن ننتبه إليها وأن نعرفها وأن نرفع رؤوسنا كعرب بها، وهى أن الزعيم كان يأتيه الزعماء من العالم – ولكم أن تتخيَّلوا هذا – من اليابان وأمريكا والهند والصين وأوروبا وكندا ومن كل أسقاع الأرض الأربعة لكي يتعلَّمون السياسة.
علماً بأن هذا يُكتَب ويُوزَّع في كتب من أموالنا، فهم يزعمون أن حسني مُبارَك هو الذي يُعلِّم زعماء العالم كيف تكون السياسة، في حين أنني فككت لغز سياسة مُبارَك وهى ليست بلغز، فالرجل لم يقل شيئاً إلا وصدق فيه، فقد قال أن أمريكا سوف تخرب بيوتكم وقد أخربت بيوتنا، وقال أن أمريكا سوف تُدمِّر العراق وبالفعل دمَّرت العراق، وقال أن أمريكا سوف تفعل وتُسوي وهذا ما حصل بالفعل، فسياسته كانت واضحة جداً جداً، فهو من أعداء الأمة الأقوياء لأنه يعلم أنه لا حيلة له ولأمثاله، فهم مُنصَّبون بأمرهم وبأمثالهم، ولذلك هو دائماً يُراهِن عليهم ويقول سوف يغلبونكم وسوف ترون هذا، ولكن بمَن يغلبوننا يا أيها الزعيم ويا مُعلِّم السياسة للعالمين؟ يغلبوننا – والله العظيم – بك وبأمثالك، وأستغفر الله لأنني قد حلفت.
فمُبارَك هذا قال أنه هو السياسي وأنه هو أذكى مَن فينا، وألَّف له المُنافِق كُتيب “قال فصدق“، لكي يُذكِّرنا بصديق الأمة اليوم حسني مُبارَك، لأن أبا أبا بكر الصديق قال إن كان محمد قال ذلك فقد صدق، والتشبيه صراحة ليس بالصديق وإنما بمحمد، حيث جاء هذا المُنافِق وقال عنه “قال فصدق” في كُتيب يُطبَع له كما لو كان هو مُستودَع الحكمة، وهو يُصدِّق نفسه وهو يقول مثل هذا الكلام ويُريد منا أن نُصدِّق هذا وأن نُصدِّق أنه فعلاً يُعلِّم الساسة في العالم كيف تكون السياسة، لكن الحقيقة هو أنه ينبطح بالكامل ويجعل المُخطَّط ينجح كما يُريد أعداء الأمة ثم يقول ألم أقل لكم؟ لقد قلت لكم هذا، تعلَّموا وكونوا مُؤدَّبين وارضوا بكل ما تُريد أمريكا وإسرائيل بالكامل، فلا تعترضوا ولا تقولوا ومن ثم سوف تُصيبون المحز.
فهذه هى سياسته، ما شاء الله على السياسة، من أعجب وأغرب أنواع السياسة التي شهدها تاريخ السياسة عبر العصور، ومع ذلك يُعلِّمون الشعب أن العالم يتعلَّم منه السياسة، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.
نعود إلى المُثقَّفين والعلماء، وقف الإمام عبد القادر الجيلاني أمام المُقتفي لأمر الله – ما هذه الألقاب العجيبة؟ يقولون المُستضيء لأمر الله والمُقتفي لأمر الله والمُتقي والمُعتز والمؤيَّد وهكذا، وهذا إسمه المُقتفي لأمر الله – أمام الناس – علماً بأن الإمام عبد القادر الجيلاني كان يحضر خُطبته مائة ألف وأزيد، فهو علم في بغداد، وبغداد كان فيها أكثر من ثلاثة ملايين من البشر، فهى حضارة عظيمة – وقال له يا أمير المُؤمِنين ولَّيت على المسلمين أظلم الظالمين فما أنت قائلٌ غداً لرب العالمين وأسرع الحاسبين؟ فارتعد الخليفة أمام الناس!
أي أنه قال له: أنت ولَّيت يحيى بن سعيد المعروف بابن المزاحم وهو أظلم واحد سمعنا به هنا في بغداد، فكيف تجعله والياً على الناس؟ ولَّيت على المسلمين أظلم الظالمين فما أنت قائلٌ غداً لرب العالمين وأسرع الحاسبين؟
فانتفض أمام الناس – وليس في الخفاء – وعزله مُباشَرةً، في الوقت الذي قرأت فيه لأحمق بالأمس أنه يقول “إذا أردنا أن ننصح لابد أن ننصح بيننا وبين مَن ننصح له”، علماً بأنه يتكلَّم عن الحكام، فقال ” لابد أن تنصح الحاكم مثلما تنصح لأخيك”، فهو يتحدَّث كما لو كنت أستطيع أن أصل له ما شاء الله بسهولة ومن ثم هو سوف يستمع لي، وهذا غير صحيح، فأنا أستطيع أن أصل إلى المريخ قبل أن أصل إليه، ثم أن يقول أن ظلمه مُستخفٍ وليس مُستعلِناً جهيراً، وهذا غير صحيح، فظلم جهير مُستعلِن وبالتالي كما ظلم جهاراً سوف ننصح له جهاراً وسوف نقول الحق جهاراً، وليُبدِّل الباطل والظلم جهاراً وليس في الخفاء، فنحن نسمع عن برامج للإصلاح ولا نرى شيئاً، فأين برامج الإصلاح هذه لأننا نُريد أن نراها؟ فالناس لو رأت هذه البرامج على الأقل دارت عجلتها دورة واحدة لن يثوروا، لأن معنى الثورة أن نموت، وليس سهلاً على الإنسان أن يموت، ومن هنا أنا أشعر بأن هناك مهزلة في الموضوع حين يُشبَّه الثوار بأنهم ناس مُغفَّلة ومُصابة بالهبل، حيث يُدفَع إليهم ويحصلون على وجبات من كنتاكي KFC وما إلى ذلك من أجل أن يموتوا، فما هذا الكلام الفارغ؟ عيب أن يُقال هذا، هذا احتقار لذكائنا وإهانة لذكائنا، هذه إهانة لذكاء كل إنسان يستمع إلى هذا الكلام، فمن العيب أن يُقال مثل هذا الكلام، وإلا مَن هذا الذي عنده استعداد إلى أن يذهب ليموت إن لم يفقد أحد أطرافه أو أكثر من أجل أن يأخذ له وجبة كنتاكي KFC؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ عن مَن تتحدَّث أنت؟ هل تتحدَّث عن قرود؟ ولكن منطق القرود هذا هم الذين يعرفونه، فهذا هو منطق أمثال هؤلاء، وهو منطق ارقص للقرد في دولته، فحتى القرد لو أصبح ذات سُلطة ارقص له وتقردَّن لكي تعيش وترتزق، إذن هذا هو منطقهم وليس منطق الثورة، لأن لابد أن تكون الأمور جهيرة ولابد من أن تكون واضحة!
أبو الفرج بن الجوزي – الإمام الجليل والمُحدِّث والفقيه والحافظ والأديب والواعظ الشهير، فأشهر وعَّاظ الإسلام هو ابن الجوزي، وهو جمال الدين عبد الرحمن المعروف بأبي الفرج بن الجوزي رحمة الله تعالى عليه – لم يُعرَف عنه أنه كان يُقاوِم السلاطين ولكن كان فيه بقية تُقى بلا شك فهو إمام جليل، ومن ثم ذهب لكي يُخاطِب المُستضيء بالله – هذا لقب جديد احفظوه، المُستضيء بالله وبأمر الله – فقال له أمام الناس في مجلس الوعظ “يا أمير المُؤمِنين إن تكلَّمت خفت منك – أي ذا تكلَّمت بما قلبي فسوف أخاف منك لأن هذا لن يعجبك كثيراً، علماً بأن في تلك الأيام كانت هناك مجاعة في بغداد – وإن سكت خفت عليك، فأنا أُقدِّم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي دوام أيامك”، فهذه واحدة وهى تدل على ذكاء الإمام، ثم قال مُستتلياً “يا أمير المُؤمِنين إن مَن يقول لك اتق الله خيرٌ مِمَن يقول أنتم أهل بيت مغفورٌ لكم”، أي لا تستمع إلى مَن يقول أنكم أهل البيت نبي وأنكم العباسيون وأولاد عمه فلا تخافوا من شيئ وافعلو ما تُريدون، فهذا كذب، وهؤلاء يُريدون أن يغشونك، وبالتالي الذي يقول لك اتق الله أحسن لك من الذي يقول لك أنتم أهل بيت مغفورٌ لكم، وطبعاً هذه كانت كلمة عظيمة، ومن الصعب أن تُقال أمام الناس.
ثم قال “يا أمير المُؤمِنين قد بلغني عن أمير المُؤمِنين عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه وأرضاه – أنه قال أيما والٍ ظلم الناس بمظلمة فبلغتني فلم أُغيِّرها فأنا الذي ظلمته”، فلا تقل لقد ضحكوا علىّ ولقد غالطوني، فإذا قلت غالطوني وضحكوا علىّ وأن هناك بطانة سيئة وأنك لم تعرف الحقائق فسوف نرمي في وجهك بقولة عمر الأخرى وهى أنه يقول “والله – يقول عمر – لو أن بغلةً عثرت بشاطيء الفرات لظننت أن الله سائلٌ عمر عنها يوم القيامة لم لم يُعبِّد لها الطريق “، فأنت رضيت أن تكون رئيساً أو سُلطاناً أو شيخاً أو ملكاً وإلى آخره وبالتالي أنت مسؤول عن هذه الرعيةن وطبعاً لا تستطيع أن تكون مسؤولاً بنفسك، فعليك أن تستنفذ الجهد والوسع، فلا تنام الليل ولا النهار، فهناك إدارات ومُوظَّفين وبرامج ونظام مُعقَّد جداً جداً جداً لكي لا يُظلَم أي أحد، فضلاً عن ضرورة أن يكون هناك شفافية في الإدارة.
وانظروا الآن كيف أهانتنا إسرائيل، فهى لم تُوجِّه لنا الإهانة بمثل هذه الغارات التي ذهب فيها زُهاء تسعة شهداء وعشرات الجرحى وإنما أهانتنا بمُحاكَمة رئيسها السابق، فهذه إهانة حقيقية لنا، وطبعاً واضح أن هذه المُحاكَمة أتت في توقيت واضح ومُختار، فهذه رسالة للغرب الأوروبي الديمقراطي ولأمريكا تُريد أن تقول فيها نحن لا نزال واحة الديمقراطية في الشرق، أما هؤلاء فهم برابرة وهمج، وبالتالي لا عليكم منهم لأنهم كذبة ولا يفهمون ما هى الديمقراطية، أما نحن فأهل الديمقراطية.
فرئيس دولة – دولة إسرائيل – يُسجَن سجناً فعلياً، فحُكِمَ عليه بسبع سنوات وبثنتين مع وقف التنفيذ، ومن ثم كان يبكي ويُجهِش بالبكاء كالأطفال لأنه يرى أنه ظُلِمَ، فقالوا له لا يُوجَد ظلم لدينا وسوف تأخذ على رأسك.
وهذا الشيئ حقيقةً يضطرَّنا اضطراراً مُخجِلاً أن نُقارِن ونحن في حالة خجل وخزي، لكن هذا الذي يحصل، وهنا الآن أنتم ترون أيضاً ماذا يحدث في النمسا الآن، فلا أحد معصوم هنا!
صحيح المنصب يُغري وسوء استعمال السُلطة حتى أيام الرسول – كما قصصت عليكم – لكن لابد من ضوابط، وحتى أيام عمر كان يُوجَد سوء استعمال للسُلطة من الصحابة، ومن ثم ضربهم عمر حتى أدماهم وأخذ أموالهم أو نصف أموالهم، وكان شعاره من أين لك هذا؟
فهو يسأل الولاة عن مصدر أموالهم ويقول لهم مِن أين أتيتم بهذا؟ ويسألهم فهو ليس عنده رحمة في هذه المسائل التي تتعلَّق بحقوق الناس، فحتى أولاده حاسبهم، فعمر حاسب ابنه وأنتك تعرفون قصة الجمال، لأن ليس عنده لعب.
إذن هذه طبيعة البشر، ولكن المُهِم هو طبيعة النظام وكيف هو النظام، فنحن – علماً بأنني سأختم بهذه الجُملة وبهذا المعنى – صحيح لانزال نُؤكِّد أننا لا نُراهِن على الفرد ولا نُراهِن على هذا أو هذا أو تلك لكننا نُراهِن أيضاً على النظام وكيف يكون النظام، وفي اعتقادي المُتواضِع وبكل أدب أن الصحابة وقعوا في لبس، ولا أُحِب أن أقول في خطأ ولكن في لبس وفي شيئ لا أُوافِق عليه ولكن كان شيئاً طبيعياً، فالصحابة خرجوا من مُجتمَع بدوي قبلي مُمزَّق مُمزَّع ثم – ما شاء الله – نشأت لهم شبه دولة مُتكامِلة في فترة أقل من عشر سنين، وهذا شيئ لا يُصدَّق، فبلا شك لا ينبغي أن تطلب منهم أن يكون عندهم وعي سياسي مُكتمِل Perfect، هذا مُستحيل لأن هذه هى طبيعة الأمور، ولكن الخطأ الكبير أو اللبس العظيم الذي وقع فيه الصحابة هو أن سؤالهم الذي دشَّنوا به سياستهم الخلافية بعد رسول الله لم يكن كيف يكون نظام الحكم؟ وإنما كان مَن الحاكم؟ وهذا خطأ، فأنا لا يعنيني مَن يكون الحاكم، لا يعنيني أن يكون هذا أو هذا أو هذا لأن هذه المسألة ليست خطيرة، ولكن المسألة فعلاً هى كيف سيكون نظام الحكم وليس مَن الحاكم، علماً بأن إلى اليوم عندنا هذا الوسواس، فنحن دائماً ما نتساءل مَن الحاكم ومَن الذي سيصل، وهذا لا يهمني، فأنا ينبغي أن أستفرغ وسعي في البحث عن الشكل الأمثل والصورة الأنظف لنظام الحكم، وبعد ذلك أياً كان الحاكم سيخضع للشفافية والمُراقَبة والكنترول Control والمُحاسَبة والمُعاقَبة، فإسرائيل ليست أشرف منا ولا أذكى منا، ومن ثم سوف فننجو بذلك، ولكن من وراء هذا الكلام أُحِب أن أقول إن كنا لا نُراهِن على الفرد فلابد أن نُراهِن على تربية الفرد، لأن في اللحظات الحرجة جداً من غير رهان قد يتقدَّم فرد ويختصر الطريق بكيفية تُوفِّر على الأمة آلاف الضحايا وربما عشرات ألوف الضحايا، وقد تُوفِّر على الأمة تدخلاً خارجياً قد يستحيل إلى استعمار أو إلى نكبة جديدة، مثلما حدث في تونس حقيقةً، وهذا ما فعله رشيد عمار، ومن ثم أنا أُؤدِّي له التحية، لأنه رجل مُحترَم ويعمل الآن وهو مُتوارٍ في الظل، وأنا مُتأكِّد من أننا إذا بحثنا عنه – ابحثوا عنه – سوف نجد أنه ابن عائلة شريفة وابن أصول وأنه تلقَّى تربية مُحترَمة، فهذا الرجل مُحترَم في ذاته ولذلك في اللحظة الحرجة قال للطاغية “لا، لن أذبح شعبي من أجل سواد عيونك، كفاك ما طغوت وكفاك ما نهبت، اخرج وإلا قتلناك”، فهكذا بلغنا أنهم هدِّدوه بالقتل وقالو له ستُرمى بالرصاص الآن، فقال له “سوف أخرج ولكن في حماية ليبيا وفي حماية الفرنسيين Françaises” وخرج بالفعل، فلماذا فعلها رشيد عمار؟ لأنه فرد أحسن أهله تربيته، ولم نكن نعرفه ولم يكن عليه أي رهان ولكنه – سبحان الله – أدَّى دوراً مُشرِّفاً، وكذلك العساكر في مصر – وربما حتى رأسهم – عندهم مثل هذا الشرف الباذخ حقيقةً ولذلك هم أخذوا موقفاً أيضاً، أما ليبيا فليس فيها هذا بشكل واضح لعدم وجود جيش هناك، فلو وُجِدَ جيش لكان ربما حدث مثل هذا، لكن أين جيش ليبيا؟. فضلاً عن أن بعض القيادات وُضعِوا من أول يوم في الإقامة الجبرية، وبعضهم عند القذّافي في العزيزية حتى يقتلهم ويموتوا معهم، فلابد أن يعيشوا معه أو أن يموتوا معه.
إذن لابد أن نُراهِن على التربية، ولكن لا نُراهِن على الفرد بعد ذلك وإنماعلى شكل نظام الحكم، ولذلك أُحِب يعني أن أُعلِّق على كلمة قرأتها لمُحامي ورجل قانون بريطاني وهى كلمة عجيبة جداً في مُنتهى الذكاء والفهم، حيث يقول هذا المُحامي النابه اللامع لمَن كان يُحدِّثه كثيراً عن العدالة Justice “العدالة أمرٌ سهل لكن ما هو صعبٌ حقاً أن تفعل الصحيح”، وهذا صحيح، فالعدالة أمرٌ سهل ولكن الشاق والصعب حقاً هو أن تفعل الصحيح، ففكِّروا في هذه الجُملة إلى أن نبدأ الخُطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
لماذا العدالة شيئٌ أو شأنٌ سهل؟!
طبعاً إذا توفَّرت شرائطها وتهيَّأت مُقدِّماتها كانت أمراً سهلاً، ففي الدول الديمقراطية الواعية لابد أن يُحكَم بالقانون، فإذا أخذ القانون مجراه وجرى في طريقه وسبيله ظهرت العدالة وأسفر وجهها، ولكن ما هو صعبٌ أن يُؤدِّي شاهدٌ شهادته بصدق وحق، وما هو صعبٌ وشاق جداً أن يأتي شاهد مُغيَّب لم يأذن له أحد ولا يعلم به أحد ولكنه أتى ليشهد، فهو شاهد على الجريمة المُنكَرة وشهادته قد تُكلِّفه حياته أو حياة أولاده وزوجته، ولكنه يأتي – وهذا صعبٌ جداً أن يأتي – لكي يُؤدِّي الشهادة ويُغامِر بأمنه وأمن أهله وأولاده، فهذا صعبٌ جداً جداً جداً ولكن بغيره لا تتحدَّثوا عن الشهادة، لذلك يجب أن تُوجَد في الأمة النزاهة والعفة والشجاعة والالتزام بالحق، علماً بأن الالتزام المقصود هو الالتزام بالمعنى الإنجليزي للكلمة Commitment، وليس المقصود بالالتزام أن نُطبِّق الشيئ، وإنما يُقصَد بالالتزام الالتزام الحقيقي الداخلي في ضمير كل منا، وبالتالي يجب علىّ أن أحكي الحق وأن أقول الحق – كما قلت لكم – ليس في وجه السُلطة وحدها بل أحياناً إذا اقتضت الظروف في وجه الجماهير أيضاً، ومن هنا نعود إلى أورويل Orwell مرة أُخرى حيث أنه يقول “التحرّر أحياناً يعني أن تُسمِع الجماهير ما لا تُحِب سماعه”، فيجب أن تتحرَّر حتى من رهبة الجمهور وليس من سطوة السُلطة فقط وإنما من الجمهور أيضاً، فلأنني مُلتزِم بالحق سأقول الحق سواء أرضى أو أغضب وأياً كان مَن يرضى وأياً كان من يغضب.
ولذلك أختم بالمُثقَّف الذي يُؤدِّي دوراً مُزدوَجاً، فقد ذكرت لكم الدور الأول – الدور الأول هو دور الشهادة – وهو أن يُؤدِّي الشهادة وأن لا يكتم هذه الشهادة، أما الدور الثاني فهو دور الحاكم، فمطلوب منك كمُثقَّف ما هو أكثر من مُخبِر في قناة فضائية وما هو أكثر من مُراسِل، فمطلوب منك الآن أن تُصدِر حكماً فتقول ما الذي يحدث؟ وهل هذا عدل أو ظلم؟ وهل هذا يجوز أو لا يجوز؟ وما الذي علينا فعله؟ فكمُثقَّف مطلوب منك الآن أن تكون قاضياً، فكنت قبل الآن شاهداً وأنت الآن لابد أن تكون قاضياً، وستخضع في كلا دوريك وفي المرتين الثنتين للتقويم والمُراقَبة والبحث والتنقيب، فسوف يُقال هل أديت الشهادة بصدق؟ هل حكمت بالعدل؟ هل أنت شاهد صدق؟ هل أنت حكم عدل أم لا؟
لكن هل يُمكِن أن يُكثَّف الدوران في كلمة واحدة؟ نعم، وهى الالتزام بالحق، فيحدث الالتزام بالحق حين أؤدِّي الشهادة وحين أُصدِر حكمي على الواقع.
هذا هو المُثقَّف، وبلغتنا هذا هو الإمام وهذا هو العالم، فهذا هو عالم الدين صاحب الضمير اليقظ الحي الذي يحترم نفسه ولا يسعى فقط لمصلحته.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من الدُعاة إلى الحق والمُلتزِمين به والمُبشِّرين به، فنتنادى إليه ونسعى إليه ونشرف به ونُجاهِد في سبيله.
(26/3/2011)
أضف تعليق