إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ۩ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ۩ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۩ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ۩ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لسنا بحاجة نحن المسلمين ونحن العرب بالذات إلى مَن يُحدِّثنا عن قباحة الظلم وعن ثمن الظلم وعن ضرائب الظلم، فما عشناه وما خبرناه وما بلوناه في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها وغيرها من البلاد درسٌ بالغ ودرسٌ أليم يجعل هذه الأمة هى الأسبق من بين الأمم إلى الكفر بالظلم والظالمين وإلى دمغ كل صور الظلم والجور والإثم والعدوان، فلسنا بحاجة إذن إلى مَن يُحدِّثنا عن قباحة الظلم وعن فداحته ولكننا بحاجة إلى مَن يُحدِّثنا عن الموقف من الظلم والظالمين، ماذا نفعل في هذه الحالات وبإزاء هؤلاء المُتغوِّلين من الظلمة والجورة الذين عدوا حدود الله وحدود الضمير وحدود الحق والعدالة بأي مقياس من المقاييس؟ للأسف لازلنا نقرأ لبعض الكبار ولأنفار من الصغار من عامة الناس ونسمع مَن يتكلَّمون في الفضائيات وفي الشبكة العنكبوتية ويكتبون هنا ويهرفون هناك ويُحادون ويدمغون طلّاب الصلاح والإصلاح وطلّاب التغيير وطلّاب الثورة والثائرين – لأنهم في نظر هؤلاء موصومون – مَن ويتحدَّث هؤلاء حديثاً عجباً ويقول لو كانت الثورةُ حقاً والخروجُ عدلاً لماذا إذن لم يخرج أئمة الإسلام من قبل وقد كانوا يعيشون في الظلم؟ فابن تيمية – مثلاً – لم يعش في عهد الخلافة الراشدة وإنما عاش في عهد حكّام ظالمين وجائرين، وهو نفسه كان ضحيةً لجور هؤلاء فقضى في السجن – رحمة الله عليه – ولكنه لم يخرج ولم يدع لا إلى ثورة ولا إلى خروج، وليس ابن تيمية وحده بل وأيضاً الغزالي – أبو حامد الغزالي – وابن جماعة وسعد التفتازاني والإمام الجويني والفخر الرازي وابن حجر العسقلاني والأئمة كلهم، وتستطيع أن تأتي بأسماء المئين من الأئمة والعلماء الذين لم يثوروا ولم يدعوا إلى ثورة ولا إلى عصيان ولا إلى خروج، سكتوا وصبروا وعملوا بهذه الأحاديث التي لا يُحسِن اليوم هؤلاء الأنفار وأشياعهم إلا تحفظ أمثالها، أعني أحاديث السمع والطاعة والرضا بالجور والجائرين، وإن أخذ مالك وجلد ظهرك، فيقولون بما أنه ليس كافراً ولايزال مسلماً ويقول الشهادتين ويُقِر بهما فإذن لا بأس مهما ظلم ومهما تعدّى ومهما جار ومهما بغى ومهما طغى ومهما تغوَّل وتحوَّش، لا بأس ولابد أن نصبر، إنه مذهب الصبر.
أُريد اليوم في الوقت القصير الذي يتسنى لخُطبة واحدة أن أعرض المذاهب والأقوال المُختلِفة، أي عرضاً بانورامياً – إن جاز التعبير – حتى يعلم هؤلاء الذين يشغبون ويهرفون بما لا يعرفون مواضع أقدامهم وفي ماذا يتكلَّمون، إنهم يتكلَّمون في ما لا يُحسِنون، ثم يأتون ويُكذِّبون الصادقين ويُجوِّرون العادلين ويُصدِّقون الكاذبين، فيُسيئون ولا يُحسِنون، لكن ما موقف الأمة – أنا الآن أتحدَّث عن الأمة، أي أمة محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – من هذا؟ ما موقف الأمة من الظلم والظلمة من الحكّام ومن الخلفاء والأمراء والولاة؟ الأمة ليست طبقاً واحداً وليست فريقاً واحداً وليست حزباً واحداً، إنها فرق مُتعدِّدة وشيع مُختلِفة، فهناك أهل السُنة والجماعة وهناك الشيعة الزيدية وهناك الشيعة الاثنا عشرية وهناك المُرجئة وهناك الخوارج وهناك المُعتزِلة وهناك غير هؤلاء، فلنبدأ بالخوارج لأن إسمهم على مُسماهم، فالخوارج هم الأكثر نفاذاً والأكثر تحمساً لمذهب الخروج ومسألة سل السيف، فهذه إسمها مسألة سل السيف أو مسألة السيف، أي الخروج المُسلَّح على الحكّام الظلمة وعلى الخلفاء الجورة، والخوارج كانوا دعاة مُثل سياسية، ففي عالم السياسة يتبنون دائماً المُثل العُليا، أي إلى حدٍ ما كانوا طوباويين كما يُقال، والخليفة لا يكون منصوصاً عليه عندهم، فهم لا يقولون بالنص كما قال الشيعة الزيدية والشيعة الاثنا عشرية وغير هؤلاء، لا نص وإنما الخليفة من الناس، هو منهم وإليهم، الناس هم الذين يختارونه وليس بشرط أن يكون من قريش، بل ليس بشرط أن يكون حتى عربياً، فقد يكون أعجمياً لكن المُهِم أن يكون مسلماً عدلاً مُتأهِّلاً للخلافة، لقد كانوا ديمقراطيين في نظرتهم إلى موضوع نصب الإمام، فالإمام يُمكِن أن يكون من أي قبيل من الناس ومن أي جماعة من الناس، وطبعاً يبدو أن الأمة ستنتهي في نهاية المطاف بخصوص هذه المسألة بالذات إلى رأي الخوارج، فليس شرطاً أن يكون الخليفة لا قريشاً بل ولا عربياً، يُمكِن أن يكون من أي جنس ومن أي عرق من الناس شريطةً أن يكون مسلماً تقياً مُتأهِّلاً لهذا المنصب المُهِم العظيم، فهذا هو مذهبهم وهذا كان أولاً!
ثانياً قالوا أن الخليفة أو الإمام أو الوالي أو السُلطان وإلى آخر هذه الأسماء إن عدل عن الصراط المستقيم وظلم وجار فلابد أن يُعزَل، فإن انعزل فبها وإلا عُزِلَ بالسيف وبالقوة، فلابد أن نُقاتِله وأن ننصب له الحرب.
ولم ير الخوارج في جُملتهم شروطاً زائدة، بمعنى لا يُشترَط أن يغلب على ظننا أننا ننجح في ثورتنا عليه، نجحنا أم لم ننجح نحن نقوم بما يُريده الله تبارك وتعالى، فلابد أن نُنكِر المُنكَر.
قال الخوارج حتى وإن كان المُنكِر والخارج على الحاكم الظالم رجلاً واحداً بحياله، أي واحد فقط يخرج، ليس شرطاً أن يُجمِّع جماعة بالألوف أو مئات الألوف، حتى لو كان واحداً، وطبعاً كلما كان أكثر يكون أفضل، ولكنهم لم يشترطوا هذا، لكن لابد أن يُخرَج على الظالم، سواء نجحنا أو فشلنا أو قُتِلنا أوانتصرنا لابد أن نفعل هذا، فهذه الأمور غير مُهِمة، لكن المُهِم هو أن نخرج عليه.
هذا رأي الخوارج في الجُملة وقد فعلوا هذا، فهم فعلوا هذا وظلوا يخرجون في مُحاوَلات استبسالية بل انتحارية حتى أُوتيَ عليهم من عند آخرهم، فاستُئصِلَت شأفتهم وأُبيدَت خضراؤهم ولم يبق منهم أحد، فدرس هذا المذهب تقريباً، وهذه الطريقة هى طريقة في الاعتقاد أيضاً، ولهم مذاهب أو مذهب عقدي ولكنها طريقة أكثر في السياسة وفي الشأن السياسي، أي في الشأن العام.
الخوارج كانوا يرون أن مَن ارتكب كبيرة فهو كافر، والكافر لا يُمكِن أن يكون إماماً على المسلمين، والكافر يُستتاب وإلا قُتِل، فكيف يكون إماماً علينا؟ وقد رأوا من كبائر بني أمية وبني العباس الشيئ الكثير جداً، فالخليفة الذي يرتكب كبيرة هو كافر وانتهى الأمر، ولأنه كافر لابد أن يُقتَل، فلابد أن يُعزَل ويُقتَل لأنه كافر، كيف يبقى إماماً علىّ وقد قال تعالى لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩ ؟ علماً بأن كلمة عَهْدِي ۩ هى فاعل طبعاً، وكلمة الظَّالِمِينَ ۩ مفعول به في قوله لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ۩ في سورة البقرة، فكيف إذن؟ هذا عهد وبالتالي لا يُمكِن أن يكون لظالم، وهذا أظلم الظلمة الذي يرتكب الكبائر، وبالتالي الإمام الذي يرتكب الكبائر كافر، وطبعاً كبائر الخلفاء أكثر من أن تُذكَر وأشهر من أن تُحصَر، وهى معروفة طبعاً، مثل هتكهم للأعراض وأخذهم للمال الحرام وسفكهم للدماء وتعذيبهم للعلماء، فكبائر هؤلاء معروفة وكثيرة جداً جداً جداً جداً، ولذلك اتخذ أعداء الخوارج هذا التشدد في موقف الخوارج سبباً ووسيلةً لتمزيق صفوفهم وتشتيتهم وتفريقهم، ففي أيام الوزير المشهور المهلب بن أبي صفرة كان في عسكر أو مُعسكَر أو جيش قطري بن الفجاءة – قطري الشاعر المشهور، فهو شاعر ولكنه كان خارجياً وكان فارساً مغواراً، وكان من الخوارج الأزارقة أتباع الأزرق، أي مع نافع بن الأزرق، فكان من الأزارقة وهم من أشد فرق الخوارج – رجلٌ يصنع السهام – أي النصال – المسمومة، وهى تقتل طبعاً، فمَن وقعت فيه قتلته، وهو كان يُحسِن صُنعها جداً، فأرسل المهلب بن أبي صفرة رجلاً إلى قطري للمُفاوَضة وأمره إذا صار في مُعسكره أن يُلقي بكتاب في الأرض كأنه سقط منه، وكان ذلكم الكتاب مُوجَّهاً إلى صانع النصال المسمومة، ويقول له بعد التحية أما النصال المسمومة فقد بلغتنا وقد أمرنا بإنفاذ ألفي درهمٍ لك والسلام، فوقع الكتاب في يد أحد الخوارج فحمله إلى الأمير – أمير الخوارج وهو قطري بن الفجاءة الشاعر الفارس – فمبُاشَرةً استدعى بصانع السهام فأنكر فقتله، أي أنه قال له بالعكس أنت خائن، وهذه خيانة لأمة المُؤمِنين من الخوارج، فأنت كافر، ومن ثم قتله، فأنكر عليه بعض الخوارج وقالوا لم يثبت عندك هذا، أين البينة؟ فقال الكتاب، علماً بأنها قد تكون دسيسة – وفعلاً هى دسيسة – وقد تكون حيلة، ولكنهم يُسرِعون القتل، وهذه هى لعنة الخوارج، فهم يتسامحون في الدماء، الدماء عندهم رخيصة – والعياذ بالله – فعلاً، لذا هذا من أسوأ المذاهب لأن الدماء عندهم رخيصة، وعلى كل حال أنكر عليه بعض الخوارج ووقع الانقسام، فقتل قطري هذا الذي أنكر عليه، فأنكر عليه آخرون فانشق الصف ثم عزلوا قطرياً وبايعوا عبد ربه الكبير وصاروا جماعةً أخرى وهكذا، المُهِم باختصار هو أنهم كانوا يرون وجوب الخروج على الحاكم الظالم بلا شروط، أي لم يشترطوا العدد، ولم يشترطوا القدرة والتمكن، ولم يشترطوا غلبة الظن، كأن تكون غلبة الظن النجاح، وهذه شروط ثلاثة اشترطها غيرهم وهم لم يشترطوها.
فرقة الإباضية الآن نفوذٌ في سلطنة عُمان، وللأسف أكثر المسلمين يزعمون أنهم من فرق الخوارج، وهم يُنكِرون هذا، ونحن وما ادّعوا فنُنكِر هذا أيضاً، وفي الحقيقة هم يفترقون عن الخوارج في أشياء كثيرة جداً، فلا يُمكِن أن يكونوا من الخوارج، والحق أحق أن يُتبَع، وإن ذكر ابن حزم والشهرستاني وأبو زهرة أنهم من الخوارج لكنهم ليسوا من الخوارج، فرقة الإباضية هم أتباع عبد الله بن إباض، وهم الآن في سُلطنة عُمان، ولهم مذهب في الخروج أيضاً ولكن ذكرناهم لعلاقة الاشتباه بالخوارج فقط فذكرناهم في هذا الموضع.
الإباضية يرون أن الخروج جائز بشروط القدرة والتمكن وتوفر العدد، وطبعاً العدد داخل في القدرة وداخل في التمكن، فهم يستحبون الخروج ولا يوجِبونه، وهكذا نكون انتهينا منهم، فنأتي الآن إلى المُعتزِلة.
المُعتزِلة يرون الخروج لأن أصول مذهب الاعتزال خمسة منها – أي من هذه الخمسة – الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ومن أعظم المناكر المناكر التي يحتقبها ظلمة السلاطين والخلفاء والأئمة طبعاً، لأنها تعم الرعية وتعم الناس، وهم مُتنفِّذون لا سُلطان فوقهم إلا ما كان من سُلطان الشعب إذا هبَّ في وجههم وإلا فلا سُلطان فوقهم، وقد رأينا وعشنا هذا ولانزال نعيشه والعياذ بالله، حيث يفعل الحاكم ما شاء إلا أن يقف الشعب فيحد له حداً ويضع له نهاية، وإلا فلا حد ينتهي إليه في ظلمه – لا حد ينتهي إليه الحاكم الظالم في ظلمه – طبعاً، فيفعل ما يشتهي ويركب ما يشاء – والعياذ بالله – فتعظم الفتنة ويتسع الفساد.
المُعتزِلة قالوا لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وأتوا طبعاً بأدلتهم من الكتاب والسُنة الآمرة بهذا الأصل العظيم والركن الركين من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ولا نُطوِّل بذكر الأدلة لأن المجال لا يتسع وهذا يحتاج إلى مُحاضَرة لكن على كل حال نقول أن المُعتزِلة افترقوا من الخوارج أو عن الخوارج في أنهم اشترطوا العدد، فلابد من وجود عدد، الحد الأدنى أن يتوفَّر عدد يُكافيء – أي يُعادِل ويُساوي – عدد أهل بدر – أصحاب رسول الله في بدر – وهو ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فهم قالوا لابد من هذا، وإذا كان العدد أقل من هذا لا يجوز الخروج، لأنه يُعتبَر ويُعَد انتحاراً، وقطعاً تفشل – أي من المُؤكَّد أنها ستفشل – إذا كان العدد أقل من هذا، وأنا أقول أن قولهم وبهذا العدد قد تفشل هو كلام تحكمي، فأستغرب – والمُعتزِلة أهل عقل وأهل ذكاء وأهل تعمق في المسائل – كيف صاروا إلى هذا القول ظاهر الفساد؟ في نظري هذا قولٌ ظاهر الفساد، فهذه المسألة اتفاقية، حيث اتفق أن الرسول وأصحابه في بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فهم كانوا كذلك، وفي بعض السرايا كانوا أقل من هذا، وفي فتح مكة كانوا عشرة آلاف، إذن هذه المسائل اتفاقية، فلا أدري كيف يبني عليها بعض العلماء وبعض المُفكِّرين أحكاماً شرعية، هم يبنون عليها أحكاماً شرعية، فثلاثمائة وبضعة عشر ومعهم الرسول وقفوا بإزاء زُهاء ألف ونصرهم الله، لكن ترون لو وقفوا بإزاء مائة ألف ربما لا يُنصَرون، ولذلك تقول الآية الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ۩، فصار الأمر أن المسلم لابد أن يقف لاثنين ولا يفر أمامهما، فإن صاروا ثلاثة عنده رُخصة شرعية قرآنية أن يفر، لأنني قد أهلك، فكيف أقف لثلاثة؟ لا أستطيع، فالله قال في البداية تقف لعشرة، وبعد ذلك وقع ضعف فقال الآن انتهينا من هذا، فالمُؤمِن يجب أن يقف لاثنين، إذن ما معنى اشتراط عدة أهل بدر؟ أن تقول لي ثلاثمائة وبضعة عشر هذا كلام غير معقول ، وإلا ثلاثمائة إزاء كم؟ السؤال الذي يطرح نفسه إزاء كم؟ إذا كان إزاء ألف فإنه يكون معقولاً، إذا كان إزاء عشرة آلاف فهذا غير معقول، وكذلك إذا وُجِد جيش من مائة ألف وهكذا، ثم أن هناك التكافؤ في الأسلحة بعد ذلك، والتكافؤ في السلاح لم يذكره المُعتزَلة، هم ذكروا العدد واشترطوه ولكن اشترطوا أيضاً أن يُبدأ تغيير المُنكَر بالنصح، وهذا جانب معقول في تفكيرهم وفي أساليبهم، فتغيير المُنكَر عند المُعتزِلة يُبدأ فيه بالأسهل، أي بالنصح وبالكلام، فنتكلَّم وإن لم يُجد صرنا إلى اليد والسيف بالشروط التي ذُكِرَت، والمُعتزِلة لم يكونوا دعاة ترفٍ فكري كما يظن بعض الناس، بل كانوا دعاة علم وعمل وإصلاح وتغيير وطبعاً هناك مآخذ كبيرة تُؤخَذ عليهم سواء في الاعتقاد أو حتى في السلوك شأنهم شأن سائر الفرق الإسلامية لأنهم ليسوا فرقة كاملة، ولا تُوجَد فرقة كاملة، ولا حتى أهل السُنة والجماعة كما سيأتي أيضاً، فلسنا فرقة كاملة وهناك ما يُؤخَذ علينا كما يُؤخَذ على غيرنا من شيعة ومن إباضية ومن خوارج ومن مُرجئة وإلى آخره، لكن المُعتزِلة لأنهم لم يكونوا فعلاً دعاة ترفٍ فكري فقد خرجوا حقيقةً، خرجوا مع الإمام زيد بن عليّ زين العابدين حين خرج ثائراً على هشام بن عبد الملك واستُشهِد – رضوان الله تعالى عليه – ووُضِعَ على الصليب كما تعلمون، فهم خرجوا معه وخرجوا أيضاً مع القرّاء، مع ثورة العلماء والعبَّاد والزُهَّاد، ومع عبد الرحمن بن الأشعث – رحمة الله عليه – الذي خرج على الحاكم الأموي الظالم عبد الملك بن مروان وواليه الفاسق المُبير الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وكان الذين خرجوا مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورة القرّاء مائة ألف مِمَن يأخذون العطاء، فهم لهم مُرتبات في الدولة ومع ذلك خرجوا عليها لظلمها – دولة بني أمية – طبعاً، ويقول المُؤرِّخون ومعهم مثلهم مِن مواليهم، فصار عدد الثائرين مائتي ألف، أي أن ثورة القرّاء خرج فيها مائتا ألف، فهى ثورة حقيقية، كثير جداً من أئمة التابعين والعلماء ومنهم سعيد بن الجبير خرج معهم، فكثير جداً من أئمة التابعين خرجوا في هذه الثورة ومع ذلك وتقول لي ليسوا هم أهل السُنة والجماعة، فأهل مَن هؤلاء إذن؟ هؤلاء من أهل السُنة بل من جذور أهل السُنة، ولذا خرجوا بل ومنهم مَن قُتِل واستُشهِد ومنهم من أُخِذ وقُتِل بعد ذلك ومنهم مَن عُفيَ عنه، ومذكورة أسماؤهم في كتب الرجال وفي كتب التواريخ، حيث خرج مائتا ألف في ثورة ابن الأشعث، وقد شارك فيها المُعتزِلة أيضاً وخرجوا فيها، وهذا هو مُجمَل رأي أهل الاعتزال!
أما المُرجئة فكان يخرج بعضهم في الثورات على الظلمة، وأكثرهم كان لا يخرج وذلكم أن الإرجاء أيضاً له معنيان، يُوجَد الإرجاء بمعنى تأخير العمل عن عقد القلب، لكن ما معنى تأخير العمل عن عقد القلب؟ أي تأخير العمل عن الإيمان وتأخير العمل عن الاعتقاد وعن العلم، بمعنى أن المثابة والاعتبار والأولوية والتقديم لماذا؟ للعقيدة وللإيمان، فأهم شيئ هو الإيمان، وبعد ذلك يأتي العمل، فالعمل غير مُهِم، أي أنهم يرون أن العمل غير مُهِم، فأهم شيئ هو الإيمان، بمعنى أن هؤلاء نظروا في تعريفهم وتحديدهم للإيمان إلى الأصل اللغوي، فآمن به بمعنى صدَّقه وآمن له، تقول الآية الكريمة وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ۩، أي وما أنت بمُصدِّق لنا، لذا هم قالوا الإيمان هو التصديق، فالإنسان إذا صدَّق بقلبه بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله – وطبعاً يُشترَط أن ينطق هذا بلسانه عند الأكثرين – فهو مُؤمِن، وبعد ذلك صلى أم لم يُصل أو زنا أو سرق أو قتل فلا بأس، ويقولون لا يضرُ مع الإيمان معصية، وهذا مذهب قبيح جداً جداً جداً، فما معنى لا يضرُ مع الإيمان معصية؟ أين نذهب وماذا نفعل بالآيات والأحاديث المُتكاثِرة المُتظاهِرة التي تُدمدِم وتتوعَّد طوائف من مُرتكبي البوائق والكبائر بنار جهنم وبالخلود فيها وبكذا وكذا وكذا؟ كيف لا يضر؟ هذا كلام فارغ، وهذا مذهبٌ ضار وغير صحيح، ولكن هذا هو المذهب وهذا هو الصنف الأول من الإرجاء، وهو تأخير العمل عن عقد القلب، لكن هل ترون مَن الذي تبنَّاه وأعلى شأنه وشايعه ونصره؟ بنو أمية، ولذلك يُسمى الإرجاء الأموي، فهذا هو إرجاء بني أمية ما شاء الله عليهم، وهو يتعلَّق بالجبر، فنحن مُجبَرون ولا تُوجَد أي مسئولية عن الأعمال، وأيضاً في الإيمان والعملن فالعمل غير مُهِم، المُهِم أن يكون الحاكم – هذه القضية وهذه العبرة، أي بيت القصيد – مسلماً، مثل حكّام العرب اليوم ما شاء الله عليهم، فالواحد منهم يكون مسلماً ويُصلي الجُمعة ويحج ويعتمر ويتصور أيضاً وينتهي كل شيئ، فبعد ذلك يزني ويسرق ويقتل ويملأ السجون والزنانزين، ومع ذلك هو مُؤمِن ويظل مُؤمِناً، فهذا هو مذهب الإرجاء، ولذا قالوا لا يضر مع الإيمان معصية ولا كبيرة، ولذلك بنو أمية تبنَّوا هذا المذهب وشايعوه وآزروه وناصروه طبعاً، ولذلك أُرجِّح أن المُرجئة الذين اصطنعوا الإرجاء بهذا المعنى مُحال أن يكونوا ثاروا على الظلمة، فلماذا يثورون على الظالم؟ ظلم لكنه مسلم وبالتالي انتهى كل شيئ ولا تُوجَد مُشكِلة، فحتى لو كان يسرق ويقتل ولكنه مسلم ومُؤمِن لا أثور عليه.
أما الإرجاء بالمعنى الثاني فهو الذي أُرجِّح بأنه أصحابه ثاروا، إذ يُذكَر في كتب التواريخ ثورات عديدة للمُرجئة، فهما كانوا يثورون على بني أمية وبني العباس، لكن أي مُرجئة؟ المُرجئة بالمعنى الثاني للإرجاء، وبالمعنى الثاني للإرجاء كانوا هم الذين يُؤخِّرون الحكم على مُرتكِب الكبيرة إلى يوم القيامة، فقالوا لا شأن لنا نحن بأن نحكم على عليّ وعلى مُعاوية وعلى عمرو وعلى عمَّار، خاصة الذين ارتكبوا الكبائر الواضحة من قتل وهتك أعراض وإراقة دماء وإلى آخره وسلب أموال وإخافة آمنين وقطع سبيل المُؤمِنين، فقالوا الحكم على هؤلاء نتركه لله يوم القيامة، مادموا مسلمين بالظاهر ويُقِرون بكلمة التوحيد نترك الحكم عليهم – أي نُرجيء ونُؤخِّر الحكم عليهم – إلى يوم القيامة، ولكن هؤلاء لم يقولوا بتأخير العمل عن ماذا؟ عن عقد القلب وعن الإيمان، ولم يقولوا بأنه لا يضرُ مع الإيمان معصية، فهى تضر عندهم، ولذلك ثاروا على الظالمين.
إذن تحقيق المسألة أن المُرجئة الذين يرون الخروج هم المُرجئة بالمعنى الثاني للإرجاء وليس الإرجاء الأموي، ومن ثم انتهينا من هؤلاء، فنأتي إلى الشيعة الآن.
الشيعة طبعاً طوائف وشيع كثيرةٌ جداً مُنشعِبة، ولكن نذكر أشهر مذاهبها، الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية الاثنا عشرية أي الجعفرية الذين لهم تواجد ظاهر الآن في إيران وفي العراق وفي بعض البلاد الأخرى، أما الشيعة الزيدية فتواجدهم الأكبر في بلاد اليمن، ويشركهم فيها الشافعية كما تعلمون، وعلى كلٍ نبدأ بكلمة عامة عن الشيعة، فالشيعة عموماً سواء زيدية أو إمامية أو حتى إسماعيلية أو كيسانية – أتباع المُختار – وإلى غير هؤلاء يُؤكّدون جداً على قضية الإمامة، أي الإمام الذي يكون من نسل رسول الله ومن أولاد فاطمة عليها السلام وصلى الله على رسول الله وعلى آله،فهم يُؤكِّدون على هذا، ولكنهم يختلفون في مسائل كثيرة من وراء هذا الذي أكَّدوا عليه اتفاقاً، فمثلاً الشيعة الزيدية يرون أن الأفضل والأمثل أن يتولى خلافة المُؤمِنين وإمامتهم إمامٌ من نسل فاطمة – أي أن يكون فاطمياً – بغض النظر حُسينياً كان أم حسنياً، فهم لا يُفرِّقون كالشيعة الاثنا عشرية، لذا قالوا بغض النظر من نسل الحسن أو من نسل الحسين، كما يُقال سيد أو شريف، فلا فرق عندهم بين سيد وشريف، سواء من نسل الحسين أو من نسل الحسن الأمر سيان على أن تكون فيه صفات مُعيَّنة، أولاً أن يخرج داعياً إلى نفسه بالإمامة، فلابد أن يخرج إذا الزمان خلا عن إمام عادل ومرضي، إذا كان هذا الإمام من غير نسل الرسول لكنه كان عادلاً مرضياً مثل أبي بكر وعمر فلا بأس – كما قالوا – هنا، وبالتالي لا يُوجَد داعٍ للخروج، أما إذا خلا وشغر المنصب أو وُجِدَ إمامٌ ظالم فلابد أن يخرج هذا الإمام الفاطمي الشريف الذي هو من نسل فاطمة ويدعو لنفسه بالإمامة، وهذا الشرط اشترطه زيد بن عليّ وردَّه عليه أخوه الباقر – محمد الباقر كان أخاً له – عليه السلام، وطبعاً كلاهما كانا ابني زين العابدين عليّ بن الحسين، والباقر ابنه جعفر الصادق بعد ذلك، ولذلك الإمام زيد هو عم جعفر الصادق وقد عاصره واختلف مذهبهما، فزيد له طريقة في الخروج وجعفر له طريقة مُختلِفة – عليهما السلام – عنه، فالإمام الباقر قال لأخيه زيد لو كان قولك هذا صحيحاً فإذن أبوك لم يكن إماماً – زين العابدين – وهو عندك إمام وعندي إمام، لكن لماذا؟ لأنه لم يخرج ولم يدع إلى نفسه بالإمامة، ظل قاعداً في بيته مُسالِماً ولم يخرج ولم يُحرِّض ولم يتكلَّم بعد الفجيعة العُظمى التي وقعت في كربلاء بأبيه الحسين وبأهل بيته، فظل مُنطوياً على حزنه، يجتر حزنه وألمه، مُحتسِباً الله في مُصيبته الكُبرى – عليه السلام – التي وقعت، فلم يخرج ولم يدع، وهذه حُجة قوية للباقر، وعلى كل حال اشترط الشيعة الزيدية ما اشترط المُعتزِلة في جُزئية مُعيَّنة، علماً بأن التلاقح والمُباشَرة والقرب بين المُعتزِلة والزيدية كان يُوجَد بشكل ظاهر جداً، حيث يُوجَد تداخل عجيب حتى في المسائل الاعتقادية بالذات، ولذلك اشترط الزيدية أيضاً ما اشترطه المعتزِلة، وقد يكون الأمر معكوساً، أي أن المُعتزِلة تأثَّروا بالزيدية في هذا الأمر، فهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق علمي وبحث دقيق.
اشترطوا أن يكون عدد الخارجين على الأقل على عدة أهلِ بدر، فهم عندهم هذا، إذن هم أهل ثورة، فالزيدية أهل ثورة وقد ثاروا بالفعل، وأكبر ثوارهم هو إمامهم زيد بن عليّ زين العابدين الذي ثار على هشام بن عبد الملك، وأيَّده في ثورته وفي خروجه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وكان يُشبِّه خروجه على هشام بن عبد الملك بخروج رسول الله وأصحابه يوم بدر، فقال أن هذا يُمثِّل نفس الشيئ، فلابد من الخروج على هذا الظلم الشديد جداً جداً جداً، ولا تقل لي أن نصبر وما إلى ذلك، وهذا مَن؟ هذا أبو حنيفة، أليس هذا من أئمة أهل السُنة والجماعة؟ شايعه وكان يجمع الأموال لدعمه بالسلاح ويقول خروجه على هشام كخروج الرسول وأصحابه يوم بدر ضد كفار مكة، فهذا هو الإمام أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – طبعاً، وهذا مقالٌ سريع في الزيدية.
الشيعة الاثنا عشرية أو الجعفرية اختلفوا، فهم على عكس والنقيض من الشيعة الزيدية، حيث قالوا لا خروج على الحاكم الظالم، وخاصة طبعاً إذا الحاكم كان إماماً كما يُريدون، وهم لا يرون الإمامة إلا في رجل من أهل البيت منصوصٌ عليه بنصٍ جلي، فالاثنا عشرية يدّعون أن النص على الأئمة الاثنا عشر نصٌ جلي في حين أن الزيدية قالوا النص على الإمام من ولد فاطمة نصٌ خفي وليس نصاً جلياً، ولذلك قالوا بجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، فأقروا بشرعية إمامة الشيخين أبو بكر وعمر – رضوان الله تعالى عنهما – وقالوا لا تُوجَد مُشكِلة لدينا، أبو بكر مرضي وعمر مرضي، لكن كيف هذا وعليّ موجود؟ قالوا نعم عليّ أفضل – في ظن الزيدية أن عليّاً أفضل منهما – ولكن تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، فلماذا هذا التساهل على عكس الاثنا عشرية؟ لأن النص في فهمهم على إمام الإمام ليس جلياً، بل هو نصٌ خفي، لكن الشيعة الاثنا العشرية ادّعوا أن أن النصوص جلية، تتسلّسَل الإمامة في عليّ ثم الحسن ثم الحسين ثم في تسعة من ولد الحسين يكون آخرهم القائم بالأمر المهدي – عجَّل الله فرجه كما يقولون – الذي تغيَّب في السرداب من القرن الثالث الهجري إلى اليوم وإلى أن يأذن الله، وقالوا ما لم يخرج القائم وهو الإمام المهدي – إمام الزمان – لا يجوز الخروج على إمامٍ ظالم، هذا ممنوع، نعم لا نرضى بظلمه ونلعن هذا ونتبرَّأ منه ولا نتعاون معه ولكن نُقاوِمه مُقاوَمة سلبية وليس مُقاوَمة إيجابية بأن نحتشد ونسل السيف وندخل في مقتل، فلا يُخرَج عليه إلى أن يخرج المهدي – عجَّل الله فرجه – فنُقاتِل من ورائه،
فالشيعة الإمامية الاثنا عشرية الأمر كله عندهم أمر وحي وسماء، فالنبي يُوحى إليه، وعندهم الإمام معصوم، لكن الشعية الزيدية لم تقل بعصمة الأئمة، فهم عندهم أئمة يُقدَّسون ويُكرَّمون ولكنهم ليسوا معصومية، فمن المُمكِن أن يُخطيء الإمام، لكن الشيعة الاثنا عشرية الأئمة – الاثنا عشر – عندهم معصومون لا يُخطئون، ولذلك لا اعتراض عليهم ولا مُساءلة لهم، فهمها قعل الإمام لا مُساءلة لأنه معصوم مثل النبي، فطبعاً لا يُمكِن الخروج عليه أبداً، لكن ماذا عن الإمام الظالم غير الشرعي؟ قالوا أيضاً لا خروج إلا خلف إمام الزمان، أي بوحي حين الله يأذن بهذا، واستدلوا بصلح النبي مع قريشٍ في الحديبية، مع أن النبي كان مأذوناً بقتالهم وكان عنده عدد وعُدة عظيمة طبعاً، ففي السنة السادسة والسابعة كان عنده عدد وعُدة عظيمة وكان مأذوناً بالقتال ولكنه صالح المُشرِكين على ما تعلمون، ولذا قالوا المسألة مسألة سماء, فالوحي ينبغي أن يسمح بهذا، ولذلك لابد أن ننتظر أمر السماء خلف المعصوم، وطبعاً لما جاء الخُميني لم يُعجِبه هذا، فإلى متى هذا سيستمر؟ ظلم رهيب جداً جداً جداً ويقع خلف رؤوسهم، ومن ثم أتى بنظرية ولاية الفقيه – الفقيه الولي – طبعاً، وقال الفقيه الذي يستكمل طبعاً شروطاً مُعيَّنة يُمكِن أن يطلع بأعباء المهام التي سيطلعُ بها إمام الزمان حين يخرج، هذا يُمكِن، فتُجمَّع الجُمعة خلفه مثلاً، لأن في مذهب الاثنا عشرية الجُمعة غير واجبة، لأن مادام المهدي لم يخرج فالجُمعة غير واجبة، إذا أردت أن تُصلي فلتفعل ولكنها غير واجبة، فلا تُجمَّع الجُمعة إلا خلف المهدي .في زمانه، ولا جهاد وسل سيف إلا خلف الإمام، لكن والإمام غير موجود لا يُمكِن، فلا خروج على حكّام ظلمة إلا خلف الإمام، فقال الخميني بهذا المعنى إذن نترك الحكومة ونترك السياسة لأن الإمام غير موجود، فلماذا لا نترك الصلاة أيضاً وسائر فروض الإسلام حتى يخرج الإمام؟ فهو قال هذا غير صحيح، ولذلك أتى بنظرية ولاية الفقيه، أي الفقيه الذي استجمَّع شروطاً مُعيَّنة يُمكِن أن يقوم بالمهام التي يقوم بها الإمام، ومن ضمنها الجهاد والخروج على الحاكم الظالم، وهكذا كانت الثورة الإسلامية في إيران في التسعة وسبعين من خلف نظرية ولاية الفقيه، وطبعاً الكيسانية من وقت مُبكِّر – أتباع المُختار بن أبي عُبيد الثقفي – أرَّقتهم بل أزعجتهم فكرة الانتظار – حتى يأتي المهدي ويخرج المهدي – هذه، فادّعوا المهدية في كيسان، وهو محمد بن الحنفية الذي لقَّبوه بكيسان، ولذلك يُقال لهم الكيسانية، فخرجوا خلف المُختار بن أبي عُبيد وأخذوا بشطر كبير من ثارات الحسين، وطبعاً كانوا من الثوار المشاهير على حكومة بني أمية، وهذه المذاهب كثيرة، لكن هذا أيضاً مُجمل رأي الشيعة الزيدية والاثنا عشرية.
بقيَ الآن أن نتكلَّم في مذاهب أهل السُنة والجماعة، للأسف بعض علمائنا في القديم والحديث ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله تعالى عليه – كما في منهاج السُنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية يعرضون للمسألة وكأنه لا مذهب لأهل السُنة إلا مذهب الصبر، أي نصبر ونسكت ونحن لا نرضى، بل بالعكس نحن نلعن هذا ونتبرَّأ منه بقلوبنا، ويُمكِن أن نٌقدِّم النصح بألسنتنا أيضاً ، ولكن مسألة الخروج والثروة على الحكّام واستحداث فتنة وإزكاء نارها ويحصل فيها ما الله به عليم فلا،فقالوا هؤلاء أن مذهب أهل السُنة يقول عدم الجواز – أي التحريم – إلا أن يكفر الحاكم، فإذا كفر كفراً بواحاً لدينا فيه من الله برهان نخرج عليه، ولكن مادام مسلماً وظلم ما ظلم وجار ما جار فعلينا أن نعتصم بالصبر، وللأسف هذا الآن صرنا نُعيَّر به، حيث يُقال لنا هل هذا مذهبكم يا أهل السُنة والجماعة؟ أنتم هكذا عبيد وخدم للحكّام، لماذا تأففون الآن من زين العابدين ومن بشَّار ومن صالح ومن مُبارَك وعلان؟ لماذا؟ هذا مذهبكم وهذه طريقتكم وعليكم أن ترضوا بهم، وأنتم تُعلِّمون هذا في المنابر وتقرأونه في المساجد وفي الجامعات وفي المعاهد وتُلقِّنونه للأطفال في المدارس وتقولون أن مذهب أهل السُنة هو الصحيح، وهكذا يُقال طبعاً، ولكن هذا ظلمٌ شنيعٌ وبديعٌ – شيئ جديد – لأهل السُنة والجماعة، لكن مَن قال هذا؟ ابن تيمية قال هذا، حيث قال هذا مذهب أهل السُنة، نسبه إلى أهل السُنة وكأنه لا يُعرَف لهم مذهب إلا هذا، وهذا نقصٌ في الكلام، فالكلام فيه نقص، أي أنه غير كامل، وكذلك الإمام الجليل والرجل الصالح وشيخ مشائخ الإسلام والمسلمين الإمام النووي – قدَّس الله سره – للأسف ادّعى الإجماع في المسألة في شرحه على مسلم “المنهاج” وقال أجمع المسلمون على هذاو لذا هو فيه إجماع، وطبعاً أنتم الآن لا يخفى على أحد منكم أن حكاية الإجماع هذه حكاية مدخولة وغير مقبولة من أول الخط، وسوف تقولون أين الشيعة الزيدية وهم مسلمون؟ؤأين الشيعة الاثنا عشرية؟ أين المُعتزِلة؟ أين الخوارج ونحن لا نُكفِّرهم؟ أين المُرجئة؟ ثم أننا سوف نرى بعد ذلك مذهب أهل السُنة، فأين مذهب أهل السُنة أنفسهم؟ ومع ذلك قال لك إجماع، فأي إجماع هذا؟ لكنهم قالوا الخلاف وقع في البداية ثم انعقد الإجماع، وهذا غير صحيح، فالإجماع لم ينعقد إلى اليوم، وإلى اليوم لاتزال طوائف وفرق كُبرى في الأمة تقول بالخروج والثورة على الحكّام الظلمة، إذن حكاية الإجماع هذه في غير موضعها قولاً واحداً حتى وإن قالها النووي – قدَّس الله سره الكريم -أو غير النووي.
فلنأت إلى المسألة الآن، الإمام الجليل ابن حزم – مثلاً – لا يُقارِن أكثر العلماء حتى ابن حزم بابن تيمية، فهم يرون أن ابن حزم أعظم بكثير وأنفذ في العلم وفي الإمامة،ابن حزم شيئ مُخيف وهو نسيج وحده – رحمة الله تعالى عليه – طبعاً، وابن حزم في الفِصَل حين ذكر مسألة السيف كان عنده رأي، ومن الآن إذن لابد ان نُسلِف هذه المعلومة التالية: هناك مذهبان مشهوران يُنسبان إلى أهل السُنة والجماعة، وهما مذهب السيف ومذهب الصبر، وقد فهمنا مذهب الصبر، أما مذهب السيف فيعني الثورة المُسلَّحة، فهذا إسمه السيف أو مذهب السيف الذي يتعلَّق بالثورة المُسلَّحة على الحكّام، وهما مذهبان على كل حال، وابن حزم – رضوان الله عليه قال كلاماً دقيقاً جداً، والأدلة والتواريخ كلها معه وتُسانِده وتُسعِده، حيث نسب مذهب السيف إلى جُملة طائلة من الصحابة، وقد نسبه إلى عليّ بن أبي طالب – صحيح عليّ قاتَل صحابة – ونسبه إلى كل مَن قاتل مع عليّ ولن نذكر مَن، وهو يقول لك أسماء مثل أبي ذر وسلمان والمقداد والأسود وعمَّار بن يسار، فكل مَن كان كذلك وقاتل مع عليّ يقول بالسيف، فأي والي أو أي حاكم أو أي أحد ظالم باغٍ يُقاتَل ويُخرَج عليه، وهذا هو مذهب الصحابة، وخاصة مذهب عليّ وكل مَن قاتل معه، وهو مذهب عائشة – أم المُؤمِنين – التي قاتلت عليّاً وحرَّضت على قتال عثمان لأنه في نظرها ظلم وخرج عن أشياء، فهذا هو مذهب عائشة – رضوان الله عليها – إذن، وهو مذهب طلحة والزبير الذين قاتلا عليّاً في الجمل أيضاً مع عائشة، ومذهب عبد الله بن الزبير الذي خرج على بني أمية واستُشهِد – رضوان الله عليه – في مكة أيام الحجاج – أي على يد الحجاج – طبعاً، وكل هؤلاء قاتلوا وحملوا السيف من أجل أن يقولوا للظالم لا، هذا يكفي، فممنوع أن تستمر، وقد ذكر ابن حزم طائفة عظيمة من هذه الأسماء ثم أتى بطائفة عظيمة من التابعين ثم تابعي التابعين ثم انتهى إلى القول بأن هذا هو الذي تنطق به – علماً بأن هذا معنى قوله – نصوص الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود، واستثنى من الأربعة مَن؟ أحمد، لأن مذهب أحمد فعلاً الثابت عنه والمشهور والنقول عنه كثيرة هو مذهب عامة أهل الحديث الذي يقول لا خروج على الظلمة، فإن قتلوا وإن هتكوا وإن سفكوا ومهما فعلوا لا خروج، فقط ينبغي أن تصبر وتحتسب، وهذا هو مذهب أحمد للأسف المذكور عنه، مذهب أحمد أيضاً أن مَن خرج بالسيف – رجل ظالم – وتغلَّب – تغلَّب على الحكم – وقتل ربما الحاكم حتى العادل أو الظالم نفسه لكنه تغلَّب وسُميَ خليفة أو أمير مُؤمِنين فإنه يُصبِح إماماً، ويقول أحمد بالنص لا يحل لأحدٍ يُؤمِن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليلة وهو لا يراه إماماً له، أعوذ بالله، ما هذا؟ ولذلك الآن ترون أن مذهب الحنابلة موجود في بعض البلاد العربية، فهذا مذهبهم، وابن تيمية هذا مذهبه، ولهم كلام شديد في مسألة الخروج على الحكّام مُتأثِّرين بإمامهم الجليل أحمد بن حنبل – رضيَ الله عنه وأرضاه – طبعاً، ورغم قوله هذا نقول هذا اجتهاد له ونحن لا نُوافِقه عليه، لأنه لم يقل به لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي.
أما أبو حنيفة فكان نسيج وحده في موضوع الموقف من الحكّام الظلمة، وهو – كما قلنا قبيل قليل – الذي أيَّد ثورة زيد بن عليّ زين العابدين، وأيضاً مرة أخرى في أيام بني العباس وقع الظلم، فأبو حنيفة عاش في العهدين الأموي والعباسي، وأبو حنيفة وقف مع ثورة الإمام النفس الزكية – محمد بن عبد الله بن الحسن المُثنى المعروف بالنفس الزكية – طبعاً، ومن أجل موقفه مع النفس الزكية دخل السجن وسُمَّ هناك كما يُقال، فإذن أبو حنيفة ناصره ووقف معه، وأما موقفه من ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وهى ثورة القرّاء التي خرج فيها – كما قلنا – مائتا ألف فكان مُناصِراً لها بقولٍ واضحٍ سديد، فسأله أحدهم فلم لم تخرج؟ قال حبسني – أي حبستني لأنها مُؤنَّث غير حقيقي – ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلة فلم يقبلها، ولو قبلها لخرجت، يُريد أن يقول للأسف الأمانات موجودة ولا أقدر على أن أخرج، فالرجل دقيق ورع، وهذا هو موقف أبي حنيفة!
الإمام الاوزاعي ماذا يقول؟ يقول احتملنا أبا حنيفة على كل شيئ – أي أتانا باجتهادات وأشياء عجيبة لا نعرفها وغريبة مُستغرَبة فاحتملناه وقلنا أنه إمام جليل ومُجتهِد – حتى أتانا بمسألة السيف فلم نحتمله.
مسألة السيف ثابتة قطعاً على أبي حنيفة، أي الخروج المُسلَّح على مَن؟ على الحكّام الظلمة، فهذا هو مذهب أبي حنيفة، والعجيب أن حين تعودوا إلى تهذيب التهذيب وإلى أصوله – إلى أصول تهذيب التهذيب – سوف تجدوا أن ابن حجر يُذكَر فيه أن أبا حنيفة لم يرو عنه فلان – لن أذكر إسم إمام جليل نُقِرّه ونُجِلّه جميعاً ونُقدِّره حتى لا يُساء الظن به – ولا غير فلان، لكن ما العلة؟ هل يكذب أبو حنيفة؟ هل أبو حنيفة غير ضابط وغير عدل؟ ما هى قضيته؟ أبو حنيفة إمام كبير بل هو إمام الأئمة، وقالوا السبب هو أنه كان يرى السيف، فأبو حنيفة كان ثورجي، فقالوا بما أنه ثورجي لن نروي عنه الأحاديث النبوية عن رسول الله، يا سلام، ما شاء الله على هذا الجرح والتعديل، فهذه بعض قواعد الجرح والتعديل لديهم، قالوا الذي يقول بمسألة السيف لا يُروى عنه، وهذا غير صحيح، فهل هذا بالله عليكم جرح وتعديل منَ العلماء أم جرح وتعديل بني أمية وبني العباس؟ هذا جرح السُلطان إذن، ليس جرح العلماء – ليس جرح علماء الديان – وإنما هو جرح فقه السُلطان، فهذا هو الفقه السُلطاني، وبالتالي لابد أن يُحاصَر هؤلاء معنوياً وأدبياً وأن تُسقَط منزلتهم ومثابتهم حتى يتعلَّم الآخرون أن يستنعجوا ويسترنبوا – أي أن يُصبِحوا نعاجاً وأرانب – لأي حاكم ظالم، وإلا تُسقَط عن رتبتك كإمام مُجتهِد جليل، لكن ما أراد الله رفعه لا يُمكِن أن يضعه البشر، فصحيح أن فلاناً وفلاناً لم يرويا عن أبي حنيفة حديثاً واحداً في كتبهم الحديثية لكن أبو حنيفة كان ولازال إلى اليوم – وإن شاء الله إلى يوم الدين – الإمام الأعظم، علماً بأنني لست حنفياً ولكنني أُجِل هذا الرجل المُلقَّب بالإمام الأعظم – قدَّس الله سره – وأُحِبه جداً، وكما أقول دائماً أن أكثر أمة محمد حول العالم يدين الله ويتعبَّده بمذهب أبي حنيفة أبو النعمان، فهناك نسبة وتناسب وعدد أيضاً واضح جداً، فهذا هو أبو حنيفة إذن، فلتذهب لكي تُجرِّح فيه، لكن الذؤ رفعه الله – تبارك وتعالى – لا يُمكِن لأحد أن يخفضه أي أحد؟
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ومسألة السيف مذهبٌ قديمٌ للسلف ثم اندثر، أي أن ابن حجر يعترف بهذا، ولكنه قال السيف مذهب للسلف، فأكثر السلف كان يقول بالسيف، ومَن من السسلف تُريد بعد الصحابة؟ ذكرنا لك الصحابة والتابعين، وقلنا أنهم كانوا يقولون بالسيف، لكن بعد ذلك ضرب الفقه السُلطاني والعلم السُلطاني بجِرانه وشُطِبَ ومُحيَ كل قول يُسانِد مسألة السيف، وصرنا نحكي الإجماع – إجماع الأمة – على الصبر وعلى تبديع وتأثيم ووصم مَن يقول بالسيف وجرح مَن يقول به، وهذا عجيبٌ جداً يا أخي، أين السياقات؟ أين التواريخ؟ أين مثل هذه الأشياء؟ هذا شيئٌ لا يُصدَّق، لكن هذا طبعاً يحتاج بحياله أيضاً إلى مُحاضَرات أو مُحاضَرات، فهذا تأدَّى إلى العبث بأحاديث رسول الله، وسوفسترون هذا لكن للأسف الوقت يُدرِك بسرعة.
هناك طائفتان من الأحاديث، أحاديث صحيحة فعلاً تأمر بنصها بالصبر والطاعة للحاكم الظالم وإن وإن وإن، وهى أحاديث صحيحة – في الصحيحين – طبعاً، وهناك أحاديث صحيحة في الصحيحين وغير الصحيحين تأمر بنصها وفصها بالخروج على هؤلاء وبرفع السيف في وجوههم وعدم الصبر على آذاهم، فما القصة إذن؟ النبي يقول هذا والنبي يقول هذا، والنبي صحَّ عنه هذا وصحَّ عنه هذا، والمسألة طويلة وتحتاج لكشف النقاب عن سرها إلى كلام طويل ومُستطال، ولكن أنا أوقِظ إيقاظات بسرعة وأقول:
أولاً هل روح القرآن الكريم تدعو إلى مُمالأة الظلم والظالمين أم إلى الصراخ والدمدمة على كل ظلم أياً كان؟! الشيئ الثاني طبعاً، واليوم قرأنا في صدر الخُطبة فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ۩ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ۩، فالقرآن الكريم كتاب إصلاح وكتاب ثورة على كل ظلم، قال الله وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ۩، فأين نحن من هذه الآية يا أخي؟ الآية تقول لا تُطِع أمر كل مُفسِد، وأي فساد أعظم وأربى من فساد الحكّام الظلمة في التاريخ وفي الواقع؟ تقول الآية الكريمة ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۩، وهذا ما حدث بأفعال هؤلاء ومصائب ونكبات وبوائق هؤلاء، لكن هذا هو القرآن الكريم إذن، وعلماً بأننا لا نستقصي الآيات لأن الآيات كثيرة جداً، أما الأحاديث فالعجب يا أخي، ففي الصحيح تقرأ حديثاً عن حُذيفة بن اليمان – وهو حديث طويل طبعاً – يقول فيه كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافةً أن يُدرِكني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر، وإلى آخره إلى أن ذكر النبي الدعاة وقال دعاة على أبواب جهنم مَن أطاعهم – والعياذ بالله – قذفوه فيها، أيحكّام الظلم ، مثل حكام العرب اليوم ومن ثم انتبهوا، فالنبي قال حكّام ظلمة إن أطعتهم قذفوك في جهنم، علماً بأن الآية التي تقول وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ۩هى آية عجيبة فلا يجوز حتى مُجرَّد ركون، وأكثر العلماء قالواالركون يكون بالقلب كما فسَّرت في خُطبة سابقة، فحتى بالقلب لا يجوز، فلو بقلبك قلت لماذا تُسبون القذَّافي يا أخي؟ لماذا تُؤلِّبون على فلان وعلان من حكّام الظلمة؟ تكون قد ركنت إليهم وانتهى كل شيئ، فأنت من أهل النار وستمسك نار جهنم، فبعض الناس يقولون لماذا تلعنون الحكّام؟ وبعضهم كتب يستفتي هل يجوز لعن القذَّافي أو لعن فلان؟ يا سلام، ما شاء الله عليك يا أخي، صح نومك يا حبيبي كما يُقال بالعامية، أنت ما شاء الله لم يقشعر بدنك ولم ينطلق لسانك ولم تعترض على رجل دمَّر البلاد والعباد والدين والدنيا بل ودمَّر كل شيئ أربعين سنة ولم تتكلَّم لكن الآن حين لُعِن على المنابر أخذتك ما شاء الله العزة فقلت لماذا يُلعَن مسلم؟ يا ما شاء الله على المسلم، يبدو أنك مسلم من جنس هذا المسلم، لا كثَّر الله في المسلمين من أمثاله إذا هذا مسلم، فهذا الرجل يسأل عن حكم لعن القذَّافي ويقول هل يجوز لعن المُعيَّن؟ فما هذا الاستهبال؟ ما حالة الاستهبال هذه التي تعيش فيها الأمة؟ ما هذا الغباء؟ هل لم تقرأ الآيات والأحاديث التي هى بالعشرات إن لم تكن بالمئات في لعن الظالمين وفي لعن الحكّام الظالمين؟ يقول النبي خير حكّامكم – أمرائكم – الذين تُحِبونهم ويُحِبونكم، وتصلون عليهم ويُصلون عليكم، وشرهم الذين تُبغِضونهم ويُبغِضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم، فالنبي يقول هذا في حديث عوف بن مالك، هل لم تقرأ حديث عوف؟ هل لم تسمعه من إمام؟ لعله لم يسمعه من بعض أئمته الذين يتلقَّى العلم عليهم – علم الاستخزاء والاستنعاج للحكّام الظلمة – فنسأله هل لم تقرأ هذه الأحاديث؟ هل لم تقرأ حديث أبي داود والنسائي بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود مرفوعاً؟ قال صلى الله عليه وسلم أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنهم كان الرجل فيهم يلقى الرجل – أي أخاه وصاحبه – فيقول له يا فلان اتق الله ودع ما أنت فيه فإنه لا يحل لك، لأنه يراه – والعياذ بالله – يحتقب معصية ويجترح إثماً فيقول له اتق الله ودع ما أنت فإنه لا يحل لك، فإذا كان من الغد لم يمنعه ذلك – وهذا لا يتوب ولا يرعوي ولا ينزع – أن يكون جليسه وأكيله وشريبه، أي أنه يقول لنفسه أنا قلت له وانتهى الأمر، فهو أخي وصاحبي في نهاية المطاف، لكن كيف يكون أخاً وصاحباً لك؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؟ لابد أن تنتصر لحدود الله تبارك وتعالى، فلا يكفي أن تقول أنا قلت له، قال صلى الله عليه وسلم فمن أجل ذلك لعنهم الله، فهذه لعنة حاقت بأمة بني إسرائيل من أجل هذا الأسلوب، كيف تسكت على الظلم؟ وهذا الظالم ليس حاكماً يظلم أمة من خمسين ومن ستين ومن سبعين وثمانين مليون وإنما هو رجل ظلم لنفسه بارتكاب بعض المُوبِقات، ومع ذلك هذا ممنوع، فلا ينبغي أن تسكت يا أخي، ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۩ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۩، علماً بأن هذه الآيات من سورة المائدة، فإذن قال الله لُعِنَ ۩، مع أنه النبي فسَّر وقال كان يقول له اتق الله ودع ما أنت فيه فإنه لا يحل لك، أي أنه فسَّر لنا وقال هذا هو التناهي المطلوب، فالتناهي المطلوب أن تضع له حداً، وإذا لم ينزع قل له لست أخي بعد اليوم فلن أُجالِسك ولن أُواكِلك ولن اُشارِبك حتى تتقي الله، هذا أخي دونك، أما أنت فلست أخي!
هذا هو إذن، فينبغي التمعر من أجل حرمات الله ومن أجل حدود الله، يقول ابن مسعود وكان النبي مُتكئاً فجلس ثم قال والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف – الأمر جد وليس لعباً – ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرونه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليلعنكم الله كما لعنهم أو ليضربن قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم.
هذا هو، فلا تقل لي هذه الأحاديث عجيبة، وعلى كل حال نأتي الآن إلى حديث حُذيفة، وقد قلت لكم أن فيه العجب، حيث قال في حديث حُذيفة في الصحيحين فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، لكن المُصيبة هى من إمام المسلمين، لكنه قال له لا مُشكِلة في هذا وكُن معه، فهل النبي يقول هذا؟ هل من المعقول أن النبي يقول هذا؟ وجدنا الحديث مع اختلاف في الألفاظ في مُسنَد أحمد، فعن حُذيفة بن اليمان – أمين سر رسول الله – نفس الشيئ لكنه يقول له يا رسول الله فما تأمرني إن أردكني ذلك؟ بم أعتصم يا رسول الله؟ أي أعتصم بماذا؟ لكن هل تعرفون ماذا كان الجواب في مُسنَد أحمد؟ قال بالسيف، أي أن النبي قال له اعتصم بالسيف، فالنبي مرة يقول بالسيف ومرة يقول له عليك أن تُطيع، إذن يُوجَد لعب هنا، فقد حدث عبث بالأحاديث وحدث تحويل لسكة حديث رسول الله حتى رأينا الرسول بعد ذلك ينحاز لقضية الصبر، وحتى ابن حزم – رحمة الله تعالى عليه – وهو من القائلين بالخروج بشروط مثل أبي حنيفة – ابن حزم مع هذا الرأي – قال مثل هذا، والإمام مالك يروي عنه ابن القاسم وهو من أرجح الرواة عنه وروايته ترجح بغيرها قائلاً قال أبو عبد الله وسُئل عن الخروج عن الحكّام فقال إن خرج على إمامٍ عدل كعمر بن عبد العزيز فلا يُعان ويُدفَع عن الإمام – أي أن هذا لا ينبغي، فكيف تخرج على إمام عادل؟ ومن ثم نحن سوف نقاتلك -، وإن خرج على ظالم فدعه يضرب الله ظالماً بظالم، أي حتى الخارج إن كان ظالماً فلا بأس ودعه يخرج على الظالم كما قال، لكن كيف إن كان الخارج عدلاً ومن الأولياء والأتقياء؟ طبعاً نُناصِره، ولذلك الصحيح من نص مالك أنه مع الخروج بدليل أن الإمام مالك ضُرِبَ على يديه وشُلَّت إحدى يديه ولذلك كان يُرسِل في الصلاة، فهل تعرفون لماذا؟ لأنه أفتى بتأييد ثورة الإمام محمد بن عبد الله بن الحسن المُثنى المعروف بالنفس الزكية، وثار بالمدينة وثار أخوه بالعراق، وثار أخٌ ثالث لهما بعد ذلك – يحيى – باليمن، ومَن الذي أيَّده؟ الإمام الشافعي وكاد يدفع رأسه، حيث جيء بالشافعي وتسعة من الرجال وضُرِبَت أعناق التسعة ونجَّا الله الشافعي بالتُهمة ذاتها وهى مُناصَرة يحيى العلوي وهو أخو النفس الذكية، هذا هو الشافعي وهذا هو مالك وهذا هو أبو حنيفة – رضوان الله تعالى على أئمة أهل السُنة والجماعة – إذن، فهؤلاء هم أهل السُنة والجماعة، وهذا هو مذهبنا وهذه هى طريقتنا.
طبعاً نحن لا نقول بالخروج المُسلَّح، فعلينا أن ننتبه إلى هذا جيداً، نحن لسنا مع الخروج المُسلَّح لأن الأمور اختلفت، ففي هذا العهد وفي هذا العصر سوف يكون الخروج المُسلَّح خسارة واضحة، لكننا نقول بالخروج السلمي والعصيان المدني كما يفعل العُرب اليوم – بفضل الله تبارك وتعالى – وكما فعلوا في مصر وفي تونس، وفي سوريا الآن نفس الشيئ، أي أنه خروج سلمي وليس خروجاً مُسلَّحاً، أما قضية القذَّافي هذه فهى قضية استثنائية وأنتم تعلمون تفاصيلها، وهذا موقف أيضاً الإمام مالك أيضاً كما قلنا، حيث قيل له لما أيَّد النفس الزكية يا أبا عبد الله فإن لأبي جعفر المنصور في أعناقنا بيعة – وكان ذلك سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، أي أيام المنصور، وهم يقولون أنهم بايعوا المنصور – فقال بايعتموه مُكرَهين وليس لمُكرَهٍ بيعة، فبلغت الفتوى المنصور فأخذه وفعل به ما تعلمون، وهذا سر محنة الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – طبعاً.
للأسف أدركنا الوقت، فنكتفي بهذا القدر و أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
إذن – أيها الإخوة – تحصيلاً وتأكيداً نقول:
لسنا مع الخروج المُسلَّح ولسنا مع الخروج العنيف، ولكننا مع الخروج السلمي الذي يُطالِب بتغيير الأوضاع ويُطالِب بإعادة الأمور إلى أنصبائها لتجري المياه في مجاريها، فقد عشَّشت البوم والغربان وعلا نقيق الضفادع في بلادنا وفسد الأمر كله وبالتالي لا إمكانية هناك إلا في حدود هذا، ورحمة الله على ابن حزم الذي أجاب عن هؤلاء المُشاغِبين والمُشغِّبين الذين قالوا الرسول أمر بالصبر وإن أخذ مالك وجلد ظهرك بالقول أن النبي لا يأمر بمُنكَر، وإن صح هذا عن النبي فسوف يكون معناه إن أخذ الإمام مالك بحق – أي غرامة شرعية أو قانونية مثلاً، وإن جلد ظهرك بحق، فيجب أن تصبر وألا تتمرَّد لأنك أنت المُذنِب!
يقول ابن حزم أما إن جلد ظهرك وأخذك مالك بغير حق فلابد أن تعترض ولابد أن تثور ولابد أن تُقاوِم، قال الله وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۩، وأبو بكر بن العربي في أحكام القرآن – رحمة الله تعالى عليه – يقول كلمة البغي لا يجوز ولا يصح ولا يسوغ قصرها على الخروج بغير حق على إمام حق، ولكن كل مَن تعدّى حد الله ولم يستمع إلى نصح الناصحين وأبى الرجوع إلى المعدلة فهو باغٍ ولابد أن يُقاتَل كما يقول ابن العربي، وهذا صحيح فعلاً، سواء راعياً كان أم رعية، فهذا بغي، قال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۩، فالله يتحدَّث هنا عن صفة المُؤمِن، فهل تُريد صفات المُؤمِنين الذين هم من أهل الجنة؟ هذه تُوجَد في سورة الشورى، فإذا أصابك البغي لا تستنعج ولا تخف، بل عليك أن تنتصر يا أخي لنفسك مهما تأدَّى ذلك، فانتصر ولا تستكت، عليك أن تتكلَّم حتى ولو بالصياح، فلو صاح كل أحد ولو نقَّ كل أحد كنقيق الضفادع – والله – لأزعجناهم ولاقتلعناهم ولثللنا عروشهم بإذن الله تعالى، ولكن السكوت لا ينبغي أن يقع.
أحببت أن أُشير إلى شيئ فاتني وسوف أختم به، وهو أن الآية العجيبة – كما قلت لكم – التي تقول وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ۩ الركون فيها مُتوعَّد عليه بمسيس النار والعياذ بالله، لكن هل تعرفون لماذا؟ هذه الثورات أكَّدت لنا العلة تقريباً وكشفت النقاب عن وجه الأمر وعن وجه المعنى، وذلك لأن كل مَن ركن إلى حاكم ظالم فضلاً عن مَن شايعه ووالاه ونافح عنه بلا شك ينتفع به وجه انتفاع، من المُؤكَّد أنه انتفع بشيئ، فيقول الواحد منهم – مثلاً – أنا من الحزب الحاكم أو أنا صديق الاستخبارات التي هى كذا كذا كذا، فهو ينتفع بأي طريقة سواء معنوياً أو مادياً، وبعد ذلك إن حصل تأليب على هذا الحاكم الظالم ترى هذا المُنتفِع – والعياذ بالله – تخذله نفسه، لأنه مُنتفِع وليس عنده القدرة على أن يسعى ضد مصلحة نفسه، وهو دائماً يُنادي قائلاً هذه مصلحتي، فيرى الأمور معكوسة منكوسة – والعياذ بالله – طبعاً، ومن ثم لا يتميَّز له النور من الظلام ولأبيض من الأسود والحق من الباطل، أي يُعمى على بصره.
أقول لكم – وأختم بهذا – أن في حق أحد الناس من أمثالنا البسطاء الغلابة في قضايا شخصية وليس في قضية تتعلَّق حكم حكّام من الصعب – والله – جداً جداً جداً أن يستطيع الواحد منا أن يُميِّز الحق من الباطل إذا كان طرفاً هو في القضية وإذا كان هذا يتعلَّق بمصلحة شخصية له، فسوف يتعمى بصره وبصيرته إلا أن يهديه الله تبارك وتعالى.
(22/4/2011)
أضف تعليق