إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۩ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ۩ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۩ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۩ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ۩ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين.

إخواني وأخواتي:

فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۩، جعلني الله وإياكم من الآمنين في الدنيا والآخرة، فالأمن والأمان نعمةٌ جليلة من نعم الله – تبارك وتعالى – على عباده تُطلَب في الدنيا وأكثر من ذلك في الآخرة، وهي أسٌ من أسس الحاجات البشرية، قال الله الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ۩، امتن الله – تبارك وتعالى – في أكثر من موضع على عباده – حتى على الكفار منهم – بأنه بسط عليهم نعمة الأمن وعاقبهم حين نكصوا وتنكَّبوا سواء السبيل بأن قبض عنهم ظل الأمن وأذاقهم لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ۩ والعياذ بالله تبارك وتعالى، إذا تمهَّد هذا فلا يمتري اثنان أن أمتنا المسلمة في أيامها هذه من أبعد الأمم قاطبةً عن الأمن، إنها أمة مُروَّعة وأمة مُفزَّعة وأمة تسلَّط بعضها على بعض وأذاق بعضها البعض الآخر البأس الشديد، وهذا البعض المُجرِم العادي أيضاً موعودٌ ببأسِ أشد، سُنة الله في عباده، سُنة الله في الخلق:

بِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا                       أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَجْرَامَ فِي قَرَنِ.

فكل مَن أخذ مأخذ المُجرِمين وسلك سبيل الجريمة لابد أن يعيش وأن يموت في خوفٍ وفي فزعٍ وفي رعبٍ والعياذ بالله تبارك وتعالى، هذا واضح أحسب الجميع بل معيش، إنه ليس قضية معرفية، إنه قضية معيشية، قضية تجربة مُرة طاحنة نعيشها الآن في هذا الوقت القاتم القابض والعصيب، لكن حريٌ بنا أن نتساءل وأن نُغلغِل النظر وأن نُعيد السؤال مرةً ومرةً ومرات عن جذر هذه الحالة التي انتهينا إليها، وواضح أننا صرنا مُضطَرين لكي نتساءل ولكي نُنظِّر، كما قلت في خطبة سابقة لم تعد وظيفة ومُهِمة الفهم وطرح السؤال بالروح النقدية وبالتقصي النقدي وليس بالتقصي المُؤدلَج الهادف فقط إلى تعبئة ناس ضد ناس وتجييش مُعسكَر ضد معسكر، انتهى هذا بنا إلى كوارث فكفى، هذا دمَّرنا، هذه الأدلجة وهذه الروح التجيشية الغبية العمياء البكماء والصماء دمَّرتنا، الآن حقت ومست الحاجة إلى روح علمية نقدية بعيدة قدر الإمكان وجُهد الإمكان عن كل تحيز، عن عمى العصبيات والتعصبات، لم يعد هذا خياراً، لم يعد هذا ترفاً، صار ضرورةً تُملي نفسها بألف شكل وشكل ولألف سبب وسبب، نُغلغِل النظر ونُبدئ ونُعيد في السؤال أو التساؤل عن جذر الحالة التي صرنا إليها فثمن الجهل فادحٌ جداً، ربما إلى وقتٍ قريب لم نكن نُدرِك أن الجهل له أثمان فادحة جداً، كنا نظن أن الفكر والعلم والفهم والتقصي الموضوعي لحقائق والبحث عن مكامن وجذور الأشياء كما أشرت آنفاً للتو نوعٌ من الترف لا نحتاج إليه، فإذا بنا نكتشف أن هذا الجهل الذي ران علينا يُكلِّفنا أكلافاً وأثماناً باهظة جداً، ليس أقلها الحيوات المُهدَرة وأنهار الدماء الفوارة واستقرار البلاد الذي يذوب ويتلاشى ويتزعزع وتفرّق هذه الأمة وتمزّق هذه الأمة، وربما أهم من هذا كله المصير العاصف الذي ينتظر الدين والذي ينتظر مُستقبَل الدين، وهو مصيرٌ عاصف بكل معنى الكلمة، مَن شاء أن يرى هذا رآه، ومَن لم يشأ أن يراه فهذا سيزيد في الطنبور نغماً كما يُقال وفي الشطرنج بغلاً، هذا سيزيدنا بهذا التعامي وبهذا الإصرار الغبي خبالاً على خبال وعنتاً على عنت.

اليوم أستمع إلى شيخ فاضل قبل أن آتيكم يتحدَّث عن نصرة الله لعباده وأن النصر آتٍ لا محالة، شيئ عجيب، هذا الشيخ الفاضل لا يزال يُمارِس منطق الهروب ومنطق القفز إلى الأمام والهروب إلى المُستقبَل وهو لا يدري أن المُستقبَل عدمي، إذا استمرت الحالة كما هي الآن فالمُستقبَل عدمي، المُستقبَل ملعون، المُستقبَل ليس غولاً واحداً وإنما غيلان وأفواه وأفاغرة تأتي على البقية الباقية من أجمل ما في حياتنا، تأتي على البقية الباقية مما هو جميل وطيب وحقيق في حياتنا، لماذا تهرب إلى المُستقبَل؟ لا يزال هذا الشيخ وأمثاله مُستقطَباً، لدينا قطبان أو لدينا مُعسكَران رئيسان هما سبب أيضاً في الكارثة أو تجلٍ من تجليات الكارثة التي نعيشها، مُعسكَر – وهو المُعسكَر الحقيق بمزيد من الملامة وبمزيد من الإدانة والتجريم لأنه مُعسكَر جريمة – يرى نفسه حفيظاً على دين الله، قبل شهور يسيرة ربما حدَّثتكم عن أن القرآن العظيم إذا استقريناه بدقة وبوعيٍ غير مصبوب في قالب – الوعي المصبوب في قالب يعمى عن مُلاحَظة هذه الحقيقة القرآنية السافرة، وهي سافرة جداً – خرجنا بنتيجة صادمة لأنها غير مأنوسة – كما قلت لكم – ولا تندرج في قالب، وهي أن مُهِمة حفظ الدين غير موكولة إلى أحد من البشر ولا حتى الأنبياء، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ۩،مُهِمة حراسة الدين لا يقوم بها أحد، أما حراسة التدين الفعلي وترجمة الدين الإلهي المعصوم المُقدَّس والمحفوظ إلى واقع عملي معيش يقوم بها كلٌ بنفسه بعيداً عن كل صور الإكراهات والإلجاءات، كأن تُصلي بالقوة أو تصوم بالقوة أو تتحجبين بالقوة، هذا كلام فارغ، هذا ليس ديناً، هذا نفاق، هذا دجل، هذا تجييش، هذه إيديولوجيا، الدين ليس كذلك، الدين ليس إيديولوجية ماركسية أو فاشية أو نازية ويُراهن على المجموع وعلى الكثرة وعلى تجييش الناس، هذا لا يُمكِن، بطبيعته ليس كذلك، إذا كنت تُحِب أن تجيش الناس لديك إرادة هيمنة ولديك أفكار سلطوية افعل هذا – لا بأس – وأنت مُعرَّض للنجاح كما للفشل أيضاً وربما بأقدار غير مُتساوية ولكن بعيداً من الدين، افعل هذا باسم أي شيئ آخر، ليس باسم الدين، الكارثة أن هذا يُفعَل باسم الدين، طبعاً الطريق الأقصر لفعله في أمة فقدت وعيها وغُيِّبَت بأُميتها – أُمية الخط وأُمية الثقافة، انتبهوا فهذا ينطبق حتى على الذين يكتبون، مُعظَم هذه الأمة لا يقرأ ولا يفقه – والطريق الأقصر للتعبئة والتجييش ولصنع قطعان ومُعسكَرات من قطعان البشرية الخطاب الديني.

في يوم من الأيام تساءل فرانسوا فولتير François Voltaire متى نشأ الكهنوت؟ ولعله تساءل حتى بصدد اللاهوت، قال في تلك اللحظة – أي في أول لحظة – التقى فيها أول رجل دين بأول مُغفَّل، طبعاً لأن المُغفَّلين هم الذين يعطون شيكاً على بياض لرجال الدين أيها الإخوة ، الثقة الهيولانية كما أسميها – من الهيولى – التي نُوليها لرجال الدين حاسبين أننا نُترجِم إيماننا ونُؤكِّد ثقتنا بالدين هي جذر من جذر الفواجع، نُسلِّم مقاداتنا لرجال الدين، لماذا؟ لأنه يتكلَّم باسم السماء، هناك لحية وهناك عمامة وهناك جلباب وهناك مَن يُصفِّق، فمُباشَرةً نُسلِّم مقاداتنا إليه، مُشكلِة الإنسان ومأساة الإنسان أنه حيوان مُقلِّد أكثر مما يظن، وقد حدَّثتكم عن هذا في خُطب بحيالها وأثبتناه من جهات علمية، وكان الرائع وكان العبقري – عبقري الدنيا ربما في وقته وفي أوقات كثيرة – أرسطو Aristotle قد التفت إلى هذا في لحظة تبصر نافذة مُتعجِّباً أن الإنسان الذي من المفروض أن يكون شأنه الاستقلال والفردية لأنه صاحب الناطقية وصاحب التفكير وصاحب الوعي وصاحب التعقل أبعد من التقليد، أبعد حيوان عن هذا، قطعاً يُفترَض أن أكون أبعد من القرد ومن الببغاء ومن شتى الحيوانات من التقليد، لكنه قال لك الإنسان مُتميِّز جداً في التقليد، من أكثر الحيوانات تقليداً، ولذلك الذين يصنعون الفكر ويبنون النظريات ويقودون مسير التاريخ والمجتمع دائماً قلة على الأصابع من مئات الملايين أو من الملايير، ماذا تفعل الملايين؟ ماذا تفعل هذه الملايير؟ تُقاد وتُقطَّع وتقبل أن تكون قطيعاً تُقطعن، هي تقبل هذا، قال الأديب الأمريكي الساخر مارك توين Mark Twain الإنسان يتجافى عن مُهِمة – يكره هذه المهمة – أن يعكف على تكوين رأيه بنفسه، كأن أفعل هذا وحدي بعيداً عن ضجة الإعلام وضوضاء الفضائيات وزعيق المشايخ وصراخ وتزييف وكذب وتدجيل الصحفيين والكتاب وأصحاب الأقلام، أفعل هذا وحدي، أقرأ وأطلع على كل هذا لكن أُحاوِل أن أبني رأيي وحدي مُلتزِماً بالحقيقة قدر ما تُكرِمني بأن تتجلى لي وبأن تُجلي نفسها أمامي على عرشها المُقدَّس، فقط مُلتزِماً بهذا، لكن مارك توين Mark Twain قال لا أحد يفعل هذا، قال الناس غير مُهتَمين بهذا – أن يعكف أحدهم على تكوين رأيه بنفسه – وإنما يجتهدون بحماس في تقليد جيرانهم، يُقال هو يفعل هذا وسأفعل مثله، هكذا نحن قطعان دون أن ندري، وطبعاً حين نُمارِس الدور الزائف الذي يتعلَّق بالاستقلاقية نكون نكذب، كأن تقول أُخالِفك ومن حقي أن أُخالِفك ودعنى يا أخي هذا رأيي، أنت تكذب، هذا ليس رأيك يا رجل، أنت تُردِّد رأياً حُشيَ في رأسك، متى كان رأيك؟ كم بذلت في بناء هذا الرأي؟ كيف سوَّغت هذا الرأي؟ ماذا لديك من مُبرِّرات هذا الرأي طبعاً بعيداً عن تحيزاتك المذهبية والطائفية والمصلحية وبعيداً عن روح القطيع التي تغتالك؟ قل لي كيف؟ هذا غير موجود، ونحن نعلم هذا تماماً، يقول أحدهم رأيي يا أخي ويفرح هذا المسكين حين يلعب هذا الدور الزائف، المفروض أن تلعبه لكن لا بزيف وإنما بصدق وبحقانية، لكن هذا سيُكلِّفك، يُكلِّفك أن تودع الكثير، وداعاً للكسل ووداعاً للنوم ووداعاً للاستهبال والاستغفال، لن يستهبلني أحد، لن يستغفلني أحد، لن يقطع أحدٌ لساني، لن يعبث أحد بضميري، سأفعل هذا بحرية التي يرضاها الله تبارك وتعالى.

هل تعلمون يا أحبابي – إخواني وأخواتي – ما هو أهم من التزام الإنسان بالبحث عن الحق ومُطالَعة وجه الحقيقة والتعرف على وجهتها؟ الالتزام بالبحث عن الحقيقة بصدق، بعد مُطالَعة وجهها يتم التعرف على وجهتها ومعرفة أين ستذهب بي هذه الحقيقة، وينبغي أن يلتزم الإنسان بهذا كله وأن يُبشِّر بهذا ويُدافِع عنه دون أن يلغي حق أيٍ كان من البشر ومن الآخرين في أن يفعل هذا أيضاً بنفسه وعلى طريقته، لا تتحوَّل إلى طاغوت باسم التزام الحقيقة، هذا يفعله كل رجال الدين، يتحوَّلون إلى طواغيت لأنهم ظنوا أنهم امتلكوا الحقيقة، نحن لا نُريد هذا، نحن ما زلنا إلى الآن بصدد الحديث عن البحث وعن التعرف وعن مُعاناة البحث عن الحقيقة، لكن الأهم من هذا والأهم صدِّقوني حتى من أن أصل إلى الحقيقة – هناك شيئ أهم من غاية أن أصل إلى الحقيقة – أن ألتزم بصدق – بصدق حقيقي – بالبحث عنها، وبالتالي حين أتعرَّف على وجهتها وأُطالِع وجهها أُماشيها مُباشَرةً وأُسلِم قيادي لها، أي الحقيقة وليس للزيف وليس للباطل، هل تعلمون أن في هذا يكمن معنى الإيمان الحق؟ هذا هو الإيمان، الإيمان ليس الطقوس وليس الأشكال وليس العبادات وليس قال الله وقال رسوله وقال المسيح وقال موسى وقال فلان، ليس هذا الإيمان، هذا الالتزام الحقيقي والواعي والصادق واللاهب والمُتألِّق هو ترجمة الإيمان وبرهان الإيمان، بماذا؟ بالله، أي الإيمان بالله، لماذا؟ لأن الله هو الحق، قال الله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ۩، من أسمائه الحق والحق المُبين، وحين تلتزم بالحقيقة أنت تلتزم بالإيمان بالله، هل نفهم هذا؟ هل رُبّينا عليه؟ لا، أنا أقول لكم نحن أجيال رُبّيت على أنه من الجائز بل من المندب إن لم يكن من الواجب أن تكذب وتكذب وتكذب وتُزيِّف وتنتهك وتجترح كل المُحرمَات في حق الآخرين وفي حق عراضهم وفي حق سمعتهم وفي حق حيثياتهم من أجل أن تنصر حزبك وطائفتك وجهتك وقطبك لأنك صاحب الحق المُطلَق، نفعل هذا ولا نعلم أننا حتى لو كنا أصحاب الحق والحق المُطلَق – وهذا مستحيل لأننا لسنا آلهة – أننا بهذا الفعل أو بهذه الفعلة الشنعاء انقلبنا مُباشَرةً لنكون مُبطِلين، نعمل في إتجاه مضاد لاتجاه الحقيقة مُباشَرةً، الله لا يقبل بهذا، حاشا لله أن يكون هو العدل ويرضى ويُسوِّغ في شرعه وفي وحيه وفي هدايته للبشر الضعفاء المساكين المُلتاثين المدكوكين في عالم النسبية والمصلحة والخوف والحسابات الكبيرة أن يدعو – تبارك وتعالى – إلى العدل ويُسوِّغ ذلك بظلم، حاشاه أن يدعو إلى الحق ويجعل سبيل ذلك توسّل الباطل، أعوذ بالله، ليس ضعيفاً إلى هذه الدرجة الله – تبارك وتعالى – وليس فقيراً وليس محتاجاً، هل تعرفون مَن الذي يفعل هذا؟ الفقير المُحتاج النسبي الضعيف والخائف، يُريد أن يصل إلى حقه الذي يراه حقه لكن حتى بالباطل، يُريد أن ينصر قضيته العادلة وقد تكون بلا شك عادلة لكن بظلم، وهنا ينقلب العدل ظلماً، انتبه إلى أنهما لا يتعياشان ولا يتزاملان، أعني الحق والباطل، إذا جاء الليل فر النهار، مُستحيل أن يبقى، وإذا اكتسح الليل ذهب النهار، فهما لا يتعياشان، قال الله فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ ۩، هذا مُستحيل فهما لا يتعايشان، لكن نحن نفعل هذا، ومن هنا قول الله فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، وسيكون لي وقفة الآن مع هذه الآية الجليلة لأن لي منظوراً قد يكون فيه نوع من الاختلاف عن منظور جماهير المُفسِّرين في الحديث وفي القديم لهذه الآية الجليلة وما ولاها أو الآية التي والتها بالذات، انظروا إلى إبراهيم – عليه السلام – وإلى الإيمان الإبراهيمي، قال الله إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، لا يُوجَد منطق أيديولوجي هنا، لا يُوجَد منطق التجييش، الله قال لك أنه أمة، كيف يا رب يكون أمة وهو واحد؟ قال لك بغض النظر النظر عن أي شيئ هو أمة، رجل التزم بالحق والحقيقة هو أمة، عند الله في ميزان الحق هو أمة، ولا يزال يوحي ويُلهِم هذا الإبراهيم العظيم – عليه السلام – أصحاب الحق إلى يوم الدين، لذلك من أبنائه وأتباعه السائرين في معيهه الواضح اللاحب موسى وعيسى ومحمد، قال الله إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ ۩، قال لك هو معيارStandard، إبراهيم أصبح معياراً، لماذا؟ لأنه لم يغتن ولم يكتف بإيمان دعوي ادّعائي طقوسي شكلاني يتحالف بعد قليل مع كل صور الباطل باسم الإيمان، الإيمان هنا مُفرَغ ولا معنى له أبداً، ولذلك إبراهيم يتساءل أمام قومه المُشرِكين الذين فارقهم بالتوحيد ويقول لهم فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، ثم مُباشَرةً استتلى مُجيباً، قول جماهير المُفسِّرين أن هذا من حكاية قول إبراهيم، هذا الجواب حكاه الله،هو ليس كلام الله ولكن الله صادق عليه، في قول طائفة بإزاء جمهور هذا من كلام الله استُنئف استئنافاً ابتدائياً، كما يقول العلماء لتقرير حكم، وهذا لا بأس، لكن قول الجماهير أنه من تتمة حكاية كلام إبراهيم، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، وذلك في سورة الأنعام، ثم يجيب – عليه السلام – الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۩، طبعاً هناك طريقتان مُتقابِلتان، أي مُتعارِضتان، فالتقابل هو التعارض طبعاً، هناك طريقتان مُتقابِلتان مُتعارِضتان وهما طريقة أهل السنة وطريقة المُعتزِلة في تفسير هذه الآية، أعني آية لبس الإيمان بالظلم التي فيها الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ۩، أهل السنة قالوا الظلم هنا مع أنه ظلم عام سيتم تخصيصه، وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ۩، فهي كلمة مُنَكَرة، وهذه النكرة جاءت في سياق النفي، ولذا هي عامة، تعم كل ظلم، وهكذا فهمها الصحابة – أي أنها تعم كل ظلم – فشقَّ الأمر عليهم كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، قال لما نزلت – أي هذه الآية التي تقول الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۩ – شقَّ ذلك على الصحابة وقالوا يا رسول الله وأينا لم بيلبس إيمانه بظلم؟ قال إنه ليس كما تظنون، أخرجهم من مشقة العموم إلى فرج التخصيص، قال لهم هذاالظلم ليس على عمومه، يُراد به لونٌ من ألوان الظلم، وهو الظلم الأبشع، أعني ظلم الإنسان لنفسه بالشرك بالله، قال ليس كما تظنون لكنه كقول لقمان – وفي رواية العبد الصالح – إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩، أهل السنة خصصوا هذا الظلم الموجود في الآية بخصوص ظلم الشرك أو الإشراك، المُعتزِلة على طريقتهم كما تعرفون قريبون جداً من الخوارج في هذه المسائل، لديهم غلاظ وفواحش وكبائر الذنوب تُخلِّد في نار جهنم، الخوارج أيضاً يقولون بالتخليد بكبار المعاصي إن لم يمت تائباً منها في نار جهنم، تخليد بمعنى أنه لا يخرج، فيُصبح في الآخر مصير هذا المسلم الذي احتقب الكبائر ومات غير تائبٍ كمصير الكافر المُشرِك التام المحض، باختلاف أن الخوارج أكفروهم في الدنيا، قالوا وهو كافر، يكفر بهذه الكبيرة، الكبائر تُكفِّر، أما المُعتزِلة فلم يُكفِّروا، قالوا هو بالمنزلة بين المنزلتين، قالوا ليس بكافر وليس بمُؤمِن، لا هو كافر محض لأنه يقول “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” ولكنه ليس بمُؤمِن محض، لأن العمل داخل في صلب الإيمان عندهم، أعني في منظور المُعتزِلة، لكن المُهِم في النتيجة الأخروية أنه نفس الشيئ، هو مُخلَّد عند الخوارج ومُخلَّد عند المُعتزِلة، لا يهمه كثيراً أن يكون في منزلة بين المنزلتين، لا يهمه أن يأخذ هذه اليافطة لأنه مُخلَّد في نار جهنم، الإمام الزمخشري – جار الله الزمخشري – في كشافه حمل الظلم على عمومه، أي ظلم المعصية، ظلم الإنسان لنفسه بالمعصية أو بالمعاصي وهي طبعاً يُراد بها الكبائر بالذات – كما قنا – وليس الصغائر، وأهل السنة ذهبوا إلى ما رأيتم، لكن في الحقيقة الآية تقول شيئاً مختلفاً لا يُوافِق مذهب المُعتزِلة ولا يتلاءم بالكامل مع مذهب أهل السنة، ومجموع النصوص من خلال قراءة القرآن والسنة مقاصدياً يُعطي هذه الوجهة الثالثة، أولاً العموم هنا فيه شائبة مقصودية، كأن الله أراده وقصد إليه، أي أن يبقى على عمومه، لماذا يُعبِّر عن الشرك بالظلم؟ بلا شك أن الشرك مصداقٌ قبيح من مصاديق الظلم، هو أفظع وأفحش مصداق للظلم، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف يُقال أنه ظلم؟ لأن الظلم في الأصل هو العدوان على حق صاحب الحق، وأي عدوان أفشح من العدوان على حق الله تبارك وتعالى؟ في حديث مُعاذ أتدري يا مُعاذ ما حق الله على العباد؟ قال له حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئاً، هذا حق الله، أنت اعتديت وفحش اعتداؤك على حق الله حين جعلت له نداً ومعه شريكاً، هذا ظلم لأنه اعتداء على حق ذي الحق، وهو هنا اعتداء على حق أعظم صاحب حق لا إله إلا هو، أي على حق رب العالمين وإله السماوات والأراضين جلَّ مجده في علاه، فهذا ظلمٌ بلا شك، لكن الآية كما قلت جعلت الظلم عاماً، فيعم إذن أيضاً ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عدا الشرك، قال الله فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۩، وقال أيضاً فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۩، القرآن يُصرِّح بهذا، وهذا شيئ جديد وعجيب، الإنسان يظلم نفسه بالتقصير وبالمعصية وبالعدوان، كما أيضاً يعم ظلم الغير وهو أفحش، أيهما أفحش في المنظور الديني: أن تظلم نفسك أو تظلم غيرك؟ أن تظلم غيرك طبعاً وقد استثنينا الشرك الآن، أيهما أفحش: ظلم النفس أو ظلم الغير؟ ظلم الغير، فظلم النفس يكون – مثلاً – بترك صلاة أو بإفطار يوم أو بارتكاب معصية ما ليس فيها عدوان على حقوق الناس، هذا ظلم وهو ظلم نفسك، لكن ورد في الآثار والأخبار عن رسول الله ما يُفيد بل ما هو صريحٌ في أن الله لا يعبأ كثيراً بهذا الباب، الله يتساهل مع عبده، قال الله وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، فهو يعلم أن الإنسان ضعيف ويُخطيء ولذا يتساهل هنا، لكن الله لا يتساهل كما في حديث النسائي مع حقوق العباد، هذا الديوان الذي لا يغادر الله منه شيئاً، وطبعاً ديوان الشرك لا يغفر الله منه شيئاً، هذا مستحيل، قال الله إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ ۩ وقال أيضاً وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩ فضلاً عن أنه قال وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ۩.

الآن خطر لي معنى لطيف جداً وحتى لا أنساه اسمحوا لي بإيراده وبإلقائه عليكم، في القرآن الكريم شيئٌ واحد وحيد يُحبِط صالح العمل من أصله، كل أعمالك الصالحة يُحبِطها هذا الشيئ، ما معنى يُحبِطها؟ يُبطِلها، يجعلها كأن لم تكن، يُصفِّرها، أي يجعلها صفراً Zero، يجتاحها ويمحوها ويجعلها هباءً منثوراً، شيئٌ واحد فقط يفعل هذا، وهو الشرك بالله والكفر بعد الإيمان، تكون آمنت وبعد ذلك كفرت وأشركت، طبعاً لأنك ما أردت بالعمل الصالح إلا وجه الله وأنت الآن تُعلِن عن كفرك بهذا الإله فانتهى الآن كل شيئ، وفعلاً هذا منطق فيه عدل هنا، أنت أحبطت عملك بيديك، من غير المعقول طبعاً وتفاهة وسخافة أن نقول هذا ليس فيه عدل وينبغي ألا يحبط العمل، عمل ماذا؟ عند مَن لا يحبط؟ أعند الله الذي تكفر به؟ أصلاً هو كافر به، فهل أنت تُريد أن تُلزِمه من رغماً عنه وضداً عليه أن يعتقد ببقاء ثواب أو أثوبة أو جزية عمله أو أعماله الصالحة لدى إله لا يُؤمن به؟ هذا كلام فارغ وهو مُتناقِض، يُوجَد عدل هنا، فشيئٌ وحيد فقط يتسبَّب في هذا، وهذا من عدل الله، هذا من عدل القرآن الكريم، انتبه إلى أن عند المُتعصِّبين وعند مجانين المُتدينين – التعصب جنون – يحبط عملك كله بما فيه إيمانك الذي لا يزال، انتبه إلى هذا، الشرك يعني أن الإيمان ذهب واجتيح واضمحل وذوى، ذاب وانتهى وتلاشى وانعدم الإيمان، لكن هنا الإيمان موجود، أنا وأنت نُعلِن بإيماننا وبإسلامنا ونتمسَّك بأهداب العبادة وكل شيئ واضح، لكن عند هذا المجنون وعند الأصولي المُتعصِّب المُتزمِّت أشياء كثيرة لا تخطر على بالك أحياناً تحبط كل عملك وتُوجِب تكفيرك عنده استباحة دمك، انتبه إلى أن مفهوم الحبوط عند هؤلاء المُتألِّهين الزائفين هو مفهوم فظيع جداً جداً يُمارِسونه عملياً، أعلم أن أكثركم لا يعلم أن في أدبيات الجماعات التكفيرية – طبعاً منشأها كان في مصر للأسف الشديد، هذه الجماعات نشأت في فترة معلومة في السبعينيات – بعض الأدبيات المكتوبة والتي كانوا يُصرِّحون بها ويتبجَّحون بها، يقولون أن من بلغته دعوتنا – دعوة الجماعة، ليس الإسلام والقرآن والنبي وإنما دعوتهم هم ومفاهيمهم، كتاب شيخهم أو كُتيب شيخهم بالأحرى، هذه كُتيبات كلها وأحياناً تكون أشرطة كاسيتات Cassettes – ولم تنضم إليها – لم يقولوا ولم تقتنع، إذا قلت لم أقتنع يا سيدي فإنه يُقال لك لا مجال لأن تقول لم أقتنع، نحن مُلاك الحقيقة المُطلَقة وانتهى الأمر، وأنت إلى الآن مأخوذ على إنك مُسلِم، أنت الآن مفروض مُسلِماً إلى الآن فقط، أي قبل أن تبلغك دعوتنا – ولم تُصبِح عنصراً فيها فأنت كافر، هل حلال الدم أم لست حلال الدم؟ قالوا اختلف فلان وعلان اختلافات مُؤقَّتة لكن استحلال الدم جاء جاء، هو مُقبِل مُقبِل، آت آت سواء اليوم أو غداً أو بعد خمس سنين، سوف يستحل دمك لا محالة في مرحلة مُعيَّنة لأنهم أكفروك وأخروجك من الملة، لكن أنا مُسلِم وأحج وأعتمر وأُصلي وأصوم وأبكي من خشية الله وأرغب وأرهب، إيماني عميق – مثلاً – بالله، قالوا هذا كله لن يُجدي نفعاً، وهذا يعني أن هؤلاء لم يُعادِلوا أنفسهم بالله بل جعلوا أنفسهم شيئاً فوق الله نفسه، أستغفر الله العظيم، فعلوا هذا – والله العظيم – في حين أن الله قال لك أنا أُحبِط عملك بشيئ واحد فقط وهو الشرك، أرأيت العدل؟ أرأيت الربانية؟ أرأيت الرحمانية الإلهية؟ قال الشرك فقط، وقلنا يُوجَد هنا شيئ معقول تماماً، لكن هم قالوا لا، أنت تكفر إذا كنت تُخالِفنا في تأويلنا للإسلام وفي طريقة عملنا السياسي، هذا كله دين سياسي، ما هذا؟ هو دين سياسي، يبحث عن سياسة، بالذات الجماعات التكفيرية المصرية تُريد السُلطة وتُريد الكرسي من أجل حكم إسلامي وحاكمية وتحكيم شرع الله وكل هذا الكلام الذي صدَّعوا رؤوسنا به، يُقال لك حين تختلف معنا في هذه الأطروحات السياسية – أطروحات الهيمنة والسُلطة والتسلّط – تُصبِح كافراً، لا نعترف لك بإيمان ويحبط عملك كله، وكما قلنا يُباح دمك، وهذا ظلم شديد فظيع، جعلوا لأنفسهم ما لم يجعل الله لنفسه لا إله إلا هو، أليس كذلك؟ وهنا القرآن يقول خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ۩، هم مُرجَون لرحمة الله، أرأيت؟ الله قال يُوجَد هذا ويُوجَد هذا، والنبي قال القلوب أربعة، ومنها قلب فيه إيمان وفيه نفاق، طبعاً يُوجَد من الناس مَن هو ليس مُنافِقاً خالصاً لكنه ليس مُؤمِناً خالصاً، فالنبي قال هذا فيه وفيه بحسب ما يغلب عليه، إذا غلب وانتصر النفاق في النهاية يكون صاحبه مُنافِقاً والعكس صحيح، مثل علامات الامتحان، أي أنه على الطرف كما يُقال، إذا غلب الفشل بعد ذلك يكون فاشلاً راسباً، أما إذا غلب النجاح ينجح ولو بدرجة، يُوجَد عدل إلهي هنا، قال الله هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ ۩، يُوجَد عدل هنا، تُوجَد قياسات ربانية، قال هم لم يكفروا بالكامل، ما زالوا يتمسَّكون ببقية إيمان لكن بصراحة المسافة من الإيمان بعيدة والمسافة إلى الكفر أصبحت أقرب، قال الله هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ ۩، يا سلام على العدل الإلهي، لكن هؤلاء الأصوليين المجانين ليس عندهم هذا الكلام كله، عندهم إذا خالفتنا تُصبِح كافراً وينتهي الأمر، ومن ثم يحبط عملك، يُلغون كل جهادك في سبيل الله، كجهاد النفس وجهاد الإصلاح وجهاد العمل وجهاد البناء، كل هذا مُلغى، لا قيمة له ولا اعتبار له، لكن القرآن يقول الحبوط فقط مشروط بعامل واحد، يا رحمة الله انزلى علينا – والله – وعلى هذه العقول الصدئة والقلوب المُلتاثة التائهة الضالة والحائرة يا رحمة الله!

نعود إذن يا أحبابي – إخواني وأخواتي – إلى ما كنا فيه، إذن الظلم هنا كما قلنا متروك على عمومه إلى الآن، ظلم النفس الله لا يعبأ به كثيراً لا إله إلا هو، ظلم الغير الله لا يُغادِر منه شيئاً، إنسان أخذت منه يورواً أو أخذت منه خمسين سنتاً لن يُغادِره الله حتى لو حججت مليون حجة – الآن عشرة ذي الحجة – فالأمر انتهى، ستُطالب بهذا يوم القيامة، سيُقال لك أدفع خمسين سنتاً، لا تُوجَد سنتات يا ربي، ادفع من حسناتك إذن، أعطينا هذا حقه لكن يُوجَد آخر يُطالِب بخمسين يورو وثالث بخمسين ألفاً ورابع بخمسة مليون وهكذا، الكل يقول لك ادفع، لكن يا رب انتهت حسناتي ماذا أفعل؟ لا تُوجَد مُشكِلة لأننا سنضع من سيئاتهم عليك، وأنتم تعرفون حديث المُفلِس، هذا اختصار حديث المُفلِس، لا يُمكِن أن تقول أنا مُؤمِن مُوحِّد وشيخ وعالم وداعية، هذه كلها عند الله مُجرَّد عناوين فارغة، حقوق العباد لا تضيع، قال إني حرَّمت الظلم، هل يُمكِن أن يُحرِّم الله – تبارك وتعالى – شيئاً على نفسه ويُبيحه لك؟ هو نفسه – عز وجل – حرَّم هذا على نفسه وهو الخالق، هو الذي خلقنا وهو الذي أوجدنا من عَدَم ويمدنا من عُدُم لا إله إلا هو، أوجدنا وأعدنا وأمدنا ومع ذلك قال إني حرمت الظلم على نفسي، لا تخافوا يا عبادي، وعزتي لن يُظلَم أحدٌ منكم عندي، لا إله إلا الله، لا تخف أبداً، لأنه وسع كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، هو عالم بك وبظروفك وبشروطك وبكل شيئ مما لا يعلمه كل الناس تقريباً، هو يعلمه وسيضعه في الحساب وفي الميزان، قال الله وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ۩، لا إله إلا هو، إذن هو حرَّم الظلم على نفسه، فهل يُبيحه لك؟ الآن أنت شيخ أو أنت صحابي أو أنت تابعي أو أنت إمام أو أنت داعية أو أنت مُحِب للصحابة أو أنت مُحِب لأهل البيت أو أنت نصير للإسلام، لكن هذا – والله – كله كلام فارغ عند الله، أنا أحلف على منبر رسول الله، هذا – والله – كله كلام فارغ، حين تظلم الناس أقسم بالله كل هذا لا ينفعك، أقسم بالله لن ينفعك، لن ينفعك أبداً، سيُؤخَذ منك بمقدار ما ظلمت، انتبه إلى أن الآية على كل حال تقول شيئاً أبعد من هذا، لماذا؟ الآية تقول الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم ۩، يأتي عالم مُستسهِل ومُستخِف بالأشياء ويقول لك لم يُشَب أيمانهم، وهذا غلط، الآية لم تقل لم يُشَب، الله لا يُعجِزه أن ولم يشوبوا، من شاب الشيئ بمعنى خلطه خلطاً خفيفاً، كأن يُقطِّر عليه، لكن الله قال وَلَمْ يَلْبِسُوا ۩، هل تعرف كيف يلبسون؟ تُحكم السفن والأشياء والأبنية العظيمة بهذا التلبيس، اللَبس هو الخلط والمزج، إذن القضية ليست فقط في لفظة ظلم وأنها نكرة في سياق النفي، القضية قبل أن تكون في هذا هي في لفظة اللَبس، قال الله يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم ۩، أي لم يخلطوا إيمانهم ولم يمزجوا إيمانهم، إيمانهم مزيج، نحن أمام مزيج من إيمان وظلم أو من ظلم وإيمان، ليسا متزاملين كما عبَّرت أو مترافقين وإنما مُمتزِجين، خلطة ملعونة وخلطة كريهة، هذه خلطة مُزيِّفي الأديان وآكلي أموال الناس بالباطل والصادين عن سبيل الله وخاصة من الكهنة والرهبان والدعاة ورجال الدين عموماً، هذه خلطة لعينة امتزج فيها الإيمان بالمظالم وبالظلم فبَّررها، يُعطيك تبريراً، والذي برَّر قتلك هل لا يُبرِّر ما هو أقل من هذا؟ عادي جداً، لذلك رأينا هذه الجماعات التكفيرية تُبرِّر السرقة، سرقة المحال وسرقة الحكومات وسرقة أشياء الناس الذين حكموا بأنهم ليسوا مُسلِمين، يُقال دائماً اسرق وانهب، هذا نهب طبعاً ويُبرِّرون كل شيئ باسم الإيمان وباسم الدين وباسم الله، طبعاً لم يستاءل هؤلاء – وليتهم يتساءلون مرة على الأقل، كأن يقفوا في لحظة صفاء ويتساءلوا، وهذا أصعب شيئ، أصعب شيئ أن يكونوا في لحظة صفاء، هذا صعب جداً مع هذه الخلطة، من أين يأتي الصفاء؟ من أين يأتيهم الصفاء؟ ومن أين ياتوا بالصفاء؟ ومن ثم سنقول في لحظة صفاء افتراضية لكي يتساءلوا – ما هو الامتحان والاختبار الحرج والحسّاس جداً الذي وضعنا فيه دين الله تبارك وتعالى؟ نحن وضعنا دين الله في لحظة اختبار – ماذا أقول؟ – لعينة، لحظة اختبار لعينة حقيقية، كيف؟ سأُبسِّط المسألة بضرب مثل، يرى الناس – أتحدث عنا نحن – في هذا الزمن مُلحِداً – مثلاً – مثل نعوم تشومسكي Noam Chomsky اليهودي الأمريكي المُلحِد Atheist، لا يُؤمِن بالآلهة ولا بالأديان، جعل حياته بطولها لنصرة المظلومين، وهي حياة عالم كبير وبروفيسور Professor في علم اللغويات على مُستوى الدنيا، وهو صاحب نظرية في النحو التوليدي، الرجل كان يستطيع أن يعيش ويأكل الذهب من علمه ومن شهرته العالمية وينتهي الأمر، لكنه أبى إلا أن يجعل من حياته على مدار تقريباً نصف قرن جهاداً ونضالاً مُستمِرين لامعين من أجل قضايا المُستضعَفين والمظلومين والقضايا العادلة وفي رأسها قضية الشعب الفلسطيني وهو يهودي، ليس مُسلِماً وليس مسيحياً وإنما يهودي أمريكي، دائماً يُعرّي اسرائيل ويُعرّي أمريكا ويفضح أمريكا حتى أنه يُقال -كما حدَّثتكم مرة عنه – في أمريكا هناك ألعن لحظة وأتعس لحظة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية هي يوم أو تاريخ ميلاد نوام تشومسكي Noam Chomsky، يوم وُلِد هذه اللعنة، لأنه أكبر إنسان يفضح هذه الإمبراطورية ويفضح الظلم حول العالم، وهو يلتزم بقضايا مَن؟ بقضايا المُسلِمين وهم الآن أصحاب الدين الأكثر مكروهية في العالم، أكثر دين مكروه في العالم الإسلام اليوم، وبالتالي نحن اليوم الأمة رقم واحد المكروهة في العالم، انتبهوا إلى هذا، ليس الغرب فقط مَن يكرهنا وإنما من المُؤكَّد أن الهندوس والبوذيين بل والعالم كله يكره هذه الامة الآن، يكره شيئ اسمه إسلام ويكره المُسلِمين مما يفعل بعض – وهم بعض قليل كما نقول دائماً، ونُؤكِّد أنهم قليل بفضل الله – المُسلِمين، لكن مسئولية الكثيرين الآخرين موجودة، مسئوليتهم غير مرفوعة، وخاضة مسئولية العلماء الذين سكتوا وسمحوا بأن تتناسل وتتوالد مثل هذه العقول المُلوَثة والمُلتاثة قائمة، وينبغي … ماذا أقول؟ هل أقول ينبغي أن يُساءلوا؟ هل نُسائل هؤلاء العلماء؟ في الآخرة سيُساءلون حتماً، لكن نحن نعيش في العالم العربي، انتبه واحذر فأنت هنا في العالم الإسلامي، ما معنى هذا؟ معنى هذا أنك في عالم المُفارَقات، إذا عشت بين العرب فأنت في عالم المُفارَقات وفي عالم فيه قدر من الزيف فظيع وهو غير ممكن الاحتمال، اللغة العربية لغة عبقرية تقول مسؤول والشخص المسؤول، من ماذا أُخِذَ هذا اللفظ وهذا العنوان؟ من السؤال، وهذا يعني أن الذي يتنفَّذ والذي يأخذ مُهِماً مُعيَّناً ويضطلع بأعبائه لابد أن يخضع للسؤال مباشرةً، لو أردنا أن نُكمِل نظرية سياسية إسلامية أو نظرية إدارية إسلامية أو نظرية تربوية إسلامية فاللغة هنا تقطع لنا نصف المرحلة، تقول لك أنت تقول أنه مسؤول، إذا كان مسؤولاً فمباشرةً دون نقاش لابد من وجود جهاز رقابة ومُتابَعة ومُحاسَبة دون أي كلام، لا تُناقِش في هذه المسألة، اللغة تقول هذا، لغتك تقول هذا، لكن في العالم الإسلامي بالذات – سبحان الله – المسؤول بالذات هو الذي لا يُسأل، أنا وأنت نُسأل والله العظيم، ونُسأل عن تقصيرات وعن فشل وعن كوارث المسؤولين، يُدمِّرون كل شيئ ويُصبِح الشعب هو المسؤول ويدفع الثمن ويُلام، لكن المسؤول لا يُسأل، المسؤول بالذات لا يُسأل، ونحن نقول أننا حين نقول كلمة مسؤول يتبادر إلينا عاطفياً مباشرةً أنه فوق المساءلة، كيف هو مسؤول ولا يُسأل؟ فلماذا سُميَ مسؤولاً؟ طبيعي جداً لأنك تعيش في عالم المُسلِمين وعالم الكذب وعالم المفارقات وعالم النفاق وعالم الفُصام Schizophrenia، نحن مفصومون على جميع المُستويات، هذا عالم المُفارَقات وهو عالم سريالي فعلاً وغير معقول وعبثي، لم يعتدل أمره إلى الآن، واضح أنه لم يتبيَّن رشده، لا يزال يتخبَّط هذا العالم المسكين، فهؤلاء مسؤولون أيضاً عن هذه القلة القليلة وهذه الشريحة الضيقة الرفيعة أو غير الثخينة، العلماء مسؤولون، وكما قلت لكم في خطبة سابقة هذا ينطبق حتى الآباء والأمهات، كارثة أن يخرج ابنك ويلتحق بإحدى هذه الجماعات المجنونة، أين كنت أنت؟ كأن من بطن الغيب فجأة أصبح ابنه داعشياً وأصبح مجنوناً يُقطِّع الرؤوس، لا يا حبيبي، ابنك هذا من عشر سنوات يرتاد – كما قلت مرة – مساجد مشبوهة موبوءة، أنت تعرف أنهم موبؤون، أنت تعرف أن هذه المساجد تُعلِّم الناس فقط الكره، يُعلِّمونه كيف يكره الآخرين وكيف يلعن الآخرين وكيف يُشكِّك في الآخرين وكيف يُعادي الآخرين كل الآخرين بما فيهم الآخرون المِليون – من نفس الدين والملة – وكيف يحتقر ويستخف ويُسخِّف الآخرين، خطاب فظيع لعين، أنت تعلم أن ابنك يرتاد هذه الأوكار، لماذا لم تمنعه؟ لماذا لم تنصح له؟ لماذا لم تُتابِعه؟ لماذا لم تُعاقِبه؟ ماذا كنت تفعل؟ لعلك كنت تلعب أو كنت تُمارِس شهوات غريبة عجيبة في سنك هذا وتترك أولادك، وبعد ذلك فجأة تُفاجأ أن ابنك أصبح تكفيرياً داعشياً مُجرِماً ومجنوناً وقد تفقده، وليست هذه الكارثة، فالكارثة في سؤال مصيري يوم القيامة عند الله إذا تورَّط في قتل الناس وقتل الأبرياء والنفوس المعصومة، ذهب ابنك وقد خسر الدنيا والآخرة، أنت مسؤول أيضاً تماماً على قدم سواء مثل أمه ومثل أخيه الأكبر ومثل إمام المسجد الذي سمَّمه وسمَّم روحه وعقله بهذه الأفكار الملعونة التي لا علاقة لها بدين الله الحق وبدين الرحمة وبدين الرب العادل لا إله إلا هو.

نعود إلى ما كنا فيه إذن، فالآية تتحدَّث عن ماذا؟ عن خلط وعن مزج، وليس عن شوب، هذا مزج والعياذ بالله، وهذا يتعلَّق بمصير هؤلاء الذين نشاهد الآن ونخبر في حياتنا المُضطرِبة المجنونة والمُنفلِتة العقال ، مصير هؤلاء الذين يتبجَّحون بالدين وباسم الدين وعناوين الدين يُمارِسون أبشع أنواع الظلم – كما قلت لكم – من انتهاك أعراض الاخرين بالكلام والتكفير والسب والشتائم وهتك الأسرار وهتك الأعراض، هل يُوجَد رجل مُتدين يفعل هذا؟ أنا لا أُكاد أصدِّق ماذا يحدث في أمتنا وأُقسِم بالله على هذا، قسماً بالله هذا وضع غير طبيعي، أنا أقول لكم من كثرة ما زكمت أنوفُكم به لم تعودوا تشعرون كم هو ناتن، أنتم من عشرين سنة تشمون هذه الروائح الكريهة ومن ثم صار من العادي جداً أن يظهر شيخ دين ويسب الناس بالاسم، يظهر شيخ دين ويسب الأعراض، أعراض النساء والرجال، هذا أصبح عادياً، يظهر شيخ دين ويفضح الأسرار ويقول لأنه رأى كذا وكذا، كيف؟ المُؤمِن ستّير لأن الله ستّير يُحِب الستر لا إله إلا هو، ونسأل الله أن يستر علينا، حتى لو رأيت بعينيك ومعك أربعون وليس أربعة ينبغي أن تلتزم بالستر، بالذات المُتدين أكثر إنسان يُتوقَّع منه الستر، أليس كذلك؟ المُتدين خصوصاً هو الذي يعلم معنى قول النبي فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أليس كذلك؟ هو اليوم زنا ولعلي أزني غداً، من أين لي أن أعرف؟ فأسأل الله أن يستر عليه وعلىّ، اليوم هذا سرق ولا أعرف هل سأحتاج غداً وأُضطَر وأسرق والعياذ بالله، فأسأل الله أن يستر عليه وعلينا إذا أبتُلينا، هكذا يكون رجل الدين بالذات، هكذا عالم الدين يُفكِّر، عالم الدين ليس أكبر فضّاح وأكبر أنهّاك وأكبر مجتاح وأكبر كذاب أيضاً، هناك مَن يكذب ويُؤلِّف للناس أشياء وهو يعلم أنها كذب ويُشجِّع على نشر الأكاذيب، كما قلت لكم يقص الفيديوهات – Videos – والمقاطع فيُصبِح المؤمن كافراً والكافر مُؤمِناً، شيئ عجيب لكنه يفعل هذا وهو مرتاح ويضحك ويُقسِم بالله، هذا من عشرين سنة نحن زكمنا به وتعوَّدنا عليه فأصبح بالنسبة لنا شيئاً عادياً، فهذه الخلطة الملعونة – خلطة دين ممزوج بطلم أو ظلم مُتظاهِر بدين – أصبحت خلطة عادية، ليست هذه الدين، أصحابها غير آمنين لا في الدنيا ولا في الآخرة، اليوم الأمة فقدت آمانها لأن هذه الخلطة هي الفاعلة فينا، هؤلاء هم الذين يُوجِّهون الجيل، طبقة من الظلمه الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم وظلموا أمتهم ودينهم حين جعلوا الإيمان طريقاً لتبرير الظلم والمظالم باسم أيديولوجيات مبتوتة الصلة تماماً بروحانية الدين وبتواضع الدين وبعظمة الدين، هي مبتوتة الصلة تماماً من كل وجه، فيجب أن نفهم هذا .

أعود مُنبِّهاً على الثقة الهولانية التي نُوليها لعلماء الدين ولرجال الدين لأُخالِف فولتير Voltaire الذي اقتبسته واستدعيته، أنا أقول اللحظة التي تنشأ الكهنوتية فيها والتسلط الروحاني على الناس وتزييف أرواح الناس ووعي الناس الديني ليست هي لحظة التقاء أول رجل دين بأول مُغفَّل، تنشأ قبل ذلك، ما هي؟ عودًا على بدء هي لحظة ظن المتدين أو رجل الدين أنه حفيظ وحارس لدين الله، علماً بأنني لم أعد أجد حرجاً من استخدام كلمة رجل دين، انتبهوا إلى هذا، طبعاً حين كنا صغاراً ورُبيّنا في المساجد علَّمونا أن هناك الإسلام وهناك العلمانية وأن ليس في عندنا في الإسلام رجال دين وإنما علماء دين وإذا كان يُوجَد رجال دين فكلنا رجال دين، كل مُسلِم رجل دين، في الغرب الكاثوليكي بالذات في هذه المُؤسَّسة الاكليريكية يُوجَد رجال دين وطبقة الكهنوت أما في الإسلام ليس عندنا هذا، لكن هذا غير صحيح، عندنا رجال دين، هذا كلام فارغ ضُحِكَ علينا به أيضاً، عندنا رجال دين وبنفس الطريقة يُمارِسون كل ما مارس أولئك من صلاحيات رجال الدين الكاذبة المُزيَّفة، نعم هم رجال دين ويتحكَّمون في أخرتي أحياناً، يُقسم الواحد منهم بالله أنك في النار، أنا استمعت إليهم وكانوا مُعمَّمين كباراً وبلحى عظيمة، يُقسِم الواحد منهم بالله أن فلاناً الآن تتلهب عليه النيران في حفرته وأنه غداً سيهوي إلى قعر جهنم، من أين لك هذا يا كذوب؟ يا أثيم من أين لك هذا أيها المتأله الزائف؟ كيف تتحكَّم في مصائر الناس؟ شيئ لا يكاد يُصدَّق يا إخواني، إذن أنا أقول لكم ينشأ الكهنوت وينشأ التزييف من لحظة سابقة هي الأخطر، عوداً على بدء إذن، من لحظة يظن المُتدين أو عالم الدين أو رجال الدين – سموه كما شئتم وكما ترتاحون – أنه حفيظٌ وحارسٌ لدين الله، هذا المسكين الضال – أنا أتحدَّث الآن بصدد المُسلِمين – لم يقرأ سورة المائدة ولم يقرأ سورة الحجر ولم يفهم شيئاً من القرآن الكريم، لم يستطع أن يضع إصبعه على الدلالة الثورية هائلة القدرة على التغيير وتحديد المسار وترشيد الوجهة، لماذا؟ دلالة ماذا؟ دلالة أن الله – تبارك وتعالى – نفى استحفاظ الأمة على دينه وكتابه، قال لا، هذا الطور انتهى، هناك أمم سابقة استحفظناهم على كتابنا وكان منهم ما هو معروف للجميع، هذه الامة لن أستحفظ أحداً منها حتى النبي محمد، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ۩، محمد ليس حفيظاً على أحد وليس حارساً للدين، محمد مُبلِّغ قال كلمته ومضى وانتهى كل شيئ، إذن من الحفيظ؟ قال لك أنا، الله هو الحفيظ، يُوجَد فرق كبير وتُوجَد دلالة تفريقية مُخيفة بين الحالتين، الحالة الأولى هي التي سمحت وكان ينبغي لها أن تسمح بل يجب لها أن تُنتِج حالة الكهنوت، رجال دين يتحدَّثون باسم السماء مباشرةً وبخطوة واحدة، طبعاً لأنهم حفظاء على دين الله، هم الناطقون باسم السماء، لكن في الإسلام قال الله لك لا، السماء نطقت باسمها، ألقت كلمتها وانتهى كل شيئ، أنت لست حفيظاً، لا تخف فالدين لن يهلك إن هلكت، ماذا تظن نفسك؟

في الغرب – مثلاً – حين نرى تاريخ الفاشيات نجد أن كل فاشية مثل فاشية ستالين Stalin وفاشية فرانكو Franko وفاشية موسوليني Mussolini وفاشية هتلر Hitler لا يمكن أن يُولِّدها قائد سياسي مُلتزم بمصلحة الأمة ويعمل وفق قواعد ومبادئ السياسة المعقولة أو المُعقلَنة والمُرشَّدة، كل قائد يُولِّد فاشية لابد أن يكون خاضعاً لاستيهامات مجنونة، بلغة الطب النفسي هو شخص مجنون في نهاية المطاف، هتلر Hitler لا يُمكِن أن يكون شخصاً عادياً ، هتلر Hitler كان يرى أنه يتكلَّم فعلاً باسم الغيب وباسم القدر مثل جنكيز خان، يظن أن القدر أرسله لكي يُؤسِّس للريخ الثالث الذي سيحكم العالم لألف سنة، وآمن به السفهاء من قومه – فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩ – وصدَّقوا أنه رجل الغيب ورجل القدر وانتهى كل شيئ، فكانت الفاجعة وكانت الكارثة، لكن في العالم كله كم موسوليني Mussolini عندنا؟ كم فرانكو Franko عندنا؟ كم ستالين Stalin عندنا؟ كم هتلر Hitler عندنا؟ قلة على أصابع اليد، لكن الفضاء الديني قادر أن يُولِّد أمثال هؤلاء بالألوف، لماذا؟ لأنه – كما قلت – يتكلَّم باسم المُقدَّس، والمُقدَّس عند الناس عالٍ ورفيع ومُثمَّن جداً، وأسهل طريقة أن تستغفل الناس باسم المُقدَّس، باسم الدين وليس باسم السياسة والحسابات والفلسفة والنظريات، وكما قلت لك أنت حتى بمظاهر الدين تستغفل الناس، للأسف كلما قعدت مع إخوان لي ومع سادة مُفكِّرين وأُناس مُبرَّزين أفاضل يعتبون علي، يقولون والله يا عدنان كذا وكذا وكله تمام لكن لو تلبس لباس رجال الدين لكن أفضل، والله سوف يكون تأثيرك أكبر، قلت لهم والله أعلم هذا، أُشهِد الله أنني أعلم هذا جيداً، أُقسِم بالله أنني أعرف نفسياً وسيكولوجياً هذا، يُمكِن ان أن ألبس العُمة – وعندي شهادات شرعية، أنا لست مُتطفِلاً، عندي شهادات شرعية بفضل الله وبامتياز، ليس عندي مُشكِلة فهي من أعلى درجة – وألبس الجبة، ومن حقي أن أفعل هذا، ويعلم الله أنني لا أفعل لأنني لا أُريد أن أختدع الناس وأقسم بالله على هذا، لا أُريد هذا، لا أُريد أن يقتنع الناس بفكرتي من أجل مظهري، لا أريد هذا، لا أريد أن أعبث هذا العبث ولا أُحِبه، لابد أن نكون صادقين، لماذا نستغفل الناس بلباس؟ وهم يعلمون هذا، هذا أقصر طريق للاستغفال، بمُجرَّد لباس تضحك على معظم هؤلاء، لكننا لا نُريد هذا، نُريد للناس أن يتوفَّروا على استخدام عقولهم، لا نُريد قطعاناً، نُريد بشراً مُستقِلين، نحن نُريد أحراراً، والله هو الذي أرادنا كذلك، هل فكَّرتم مرة عن عبرة ودلالة ورمزية خلق الملائكة وخلق الشياطين؟ طبعاً نحن المساكين نظن أننا نُمثِّل كل شيئ وأننا مركز الكون، دائماً يتم الحديث الإنسان، لكن هناك ملائكة وهناك شياطين، وبين الملائكة والشياطين يُوجَد البشر Humans، أي نحن، بنو الإنسان، لماذا؟ انتبه إلى هذا، هذا مُمحَّض للخير وذاك مُمحَّض للشر، أليس كذلك؟ لكن أنت ثانوي، يُمكِن أن تكون كذلك أو كذلك ويُمكِن أن تكون الاثنين معاً، أن تكون ملكاً منقوصاً أو شيطاناً منقوصاً، كما قلنا هناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية تُشير إلى أنك مزيج ثانوي، فيك خير وفيك شر، فيك حق وفيك باطل، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا… هل قال أو تقواها أم قال وتقواها؟ قال وَتَقْوَاهَا ۩، الاثنان فيك، فيك هذا وفيك هذا، ثم أن هذا المُتمحِّض للخير أو ذاك المُتمحِّض للشر بالله حدِّثني عن مدى حريته، هل عنده مدى يتحرَّك فيه للحرية؟ لا تُوجَد حرية، ولذلك في القرآن وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ۩، لم ينتظر ملك في يوم من الأيام ترقية وظيفية، كأن يُقال هذا الملك اليوم رتبته وصلت إلى خمسين وغداً ستصل رتبته إلى سبعين لأنه عبد أكثر، هذا الكلام غير موجود، لأنه – كما أقول دائماً وقد ذكرت هذا عدة مرات – مُبرمَج، هو كائن مُبرمَج، قال الله لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩، وهذا مُتمحِّض للشر بنفس الطريقة، الآن يبرز سؤال، لا يُوجَد مدى للحرية هنا، لكن يُوجَد مدى للعقلانية، والعقلانية حرية فانتبهوا، التعقل حرية وهو يجعل بينك وبين الموضوع المُتعقَل فاصلة تتسلَّط عيله بقوة الوعي والإدراك، أليس كذلك؟ الآن في ميدان الفعل سوف نرى هل تُوجَد فاصل أو لا تُوجَد فاصلة، وهو أمر معروف، هل الملك يتميَّز أو يتوفَّر على الحد الأدنى من العقل أو من التعقل؟ طبعاً أكيد، أكيد الملك يُدرِك أنه مُعبَّد لله وأن الله هو المعبود – لا إله إلا هو – وأنه مأمور، هذا أمرٌ وهذا نهيٌ وانتهى الموضوع، أليس كذلك؟ يُدرِك هذه الأشياء، هذا عقل إجمالي، ليس هذا العقل البشري المُميِّز المُفرِّق، هو شديد النجاعة في التمييز والتفريق، لاحظ أن قدرتنا على التمييز والتفريق هي قدرة تُؤشِّر على مدى العقل نفسه، أي الذي بلغه العقل، كم عقلك عظيم وكبير ومُتسِع، بحسب قدرتك على التمييز، وهنا ستقول لي بضربة واحدة هؤلاء الأصوليون من أضعف الناس في التمييز، وهذا صحيح طبعاً، هم من أضعف الناس، الواحد منهم من المُمكِن أن يضع لك سبعين صنفاً تحت صنف واحد، مع أنهم سبعون ويختلفون في أشياء كثيرة لكنه يضعهم تحت صنف واحد ويُعامِلهم مُعامَلة واحدة، لا يُوجَد تمييز، هذا أشبه – كما قلت لكم – بكائن جامد، لكن الإنسان بما هو إنسان كائن مُميِّز، قادر أن يُميِّز بين الماهيات، مثل هذا إنسان وهذا شجر، وفي الماهيات يُميِّز بين الأفراد والمصاديق، مثل هذا محمد وهذا محمود وهذا سعيد وهذا جون John وهذا لويس Lewis وهذه غادة وهذه سلوى وهكذا، شيئ عجيب، وضمن الأفراد يُميِّز أشياء كثيرة جداً جداً في تواريخهم ومواقفهم وإلى آخره، شيئ غير طبيعي، لماذا؟ لأنه يتعاطى مع الوجود لا بالحواس فقط وإنما بالحواس وبالعقل، وليس بالعقل فقط أيضاً وإنما بالوجدان والبصيرة Insight، يُوجَد شيئ يتعدى العقل اسمه البصيرة، يقول لك أحدهم قلبي يقول لي كذا أو قلبي يُخيفني من كذا، وطبعاً هو جرَّب قلبه من قعل، فعلاً شيئ غريب لا يُفسَّر بالعقل، فهناك البصيرة وهذه القوة الوجدانية الروحية الداخلية الهائلة، ثم أن الإنسان هو سجين الزمان وسجين المكان لكن عنده مدى واسع للحركة في الزمان والمكان، أليس كذلك؟ وهذا بقوة العقل أيضاً والبصيرة، ولذا هو الآن يُقَدِّر أشياء، وهذا ما يفعله المُحلِّلون السياسيون والعباقرة والمُفكِّرون وأصحاب الدراسات المُستقبَلية والمُتنبّئون وأصحاب البصائر الروحية، هو الآن في عام ألفين وأربعة عشر ويقول أنا أُقدِّر أنه على بُعد عشرين سنة من الآن سوف يحدث لهذه الأمة كذا وكذا وكذا، ونجد بعد ذلك أن سبعين في المائة أو ثمانين أو تسعين في المائة من كلامه كان صحيحاً، ما هذه الحرية؟ كيف؟ كيف تصرَّف في الزمان؟ بقوة العقل والبصيرة، فالإنسان لديه قدرة على التمييز هائلة، هذا هو الإنسان، لكن الحيوان ليس عنده هذا، الحيوان لا يُفكِّر في المُستقبَل، انتبهوا إلى هذا، لا يُفكِّر الحيوان في المُستقبَل، والحيوان لا يعرف معنى العدم ومعنى الفناء ومعنى الترحل ومعنى العبور، نحن كائنات عابرة، كلنا – كل الكائنات – كائنات عابرة لكن الإنسان يُغالِب هذا العبور بقوة العقل والبصيرة والأهم من هذا بالتحالف مع الحقيقة ومع الحق ومع الله، انتبهوا إلى هذا، الله – تبارك وتعالى – موجود سرمدي أبدي وأزلي، أليس كذلك؟ متعالٍ على الزمان والمكان لا إله إلا هو، وهو مُطلَق – مُطلَق من كل قيد ومن كل شرط – لكن نحن لسنا كذلك، موجودون هنا والآن ولآنٍ محدود ثم نعبر، ومن ثم ينتهى كل شيئ، لا يُمكِن لأحد أن يعيش لمليون سنة، قال الله وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ۩، نحن كائنات عابرة، لكن لدينا فرصة أن نربط وأن نشبك هذا العبور أو هذه العابرية بالسرمدية الإلهية، وهنا عظمة الإنسان، كيف؟ وبماذا؟بالتزامنا بالحق، نشهد له ونشهد به، نشهد له – من أجله ونشهد به – بما يرضيه – شهادة لله لا إله إلا هو، هنا نكون اكتسبنا الفرصة وانتهزنا الفرصة وربطنا هذه العابرية والغابرية بالسرمدية الدائمة لله تبارك وتعالى، والله وعدنا بهذا، قال لك حين تدل علىّ أحفظك وأدل عليك وحين تعترف بي أعترف بك.

أبو سليمان الداراني – ولي الله والصالح الكبير – كان يقول العارف قلبه لا يموت، قلبه خالد لا يأكله لا تراب ولا زمان، لا الأرض ولا الفضاء ولا الزمان، لماذا؟ لأنه قلبٌ شهد الله وعرف الله، ومَن شهد الله لا يموت، نحن نشهد الله عبر ماذا؟ عبر الالتزام بالحقيقة وعبر الشهادة بالحقيقة وعبر قول ما نقتنع به عن بصيرة بعهيداً عن كل تحيز وإن أضر بنا هذا، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا سهل، لكنه – والله – ليس سهلاً فانتبهوا، وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه، وهذا يفتح على مسألة مُهِمة، كم من أشياء في حياتنا بسيطة وبسيطة جداً – Simple، من البساطة – ولكنها ليست يسيرة، أليس كذلك؟ العلاقة بين البسيط وبين اليسير مُعقَّدة جداً في الشأن الإنسان ، أشياء بسيطة جداً كالخطوات البسيطة – خطوة أو خطوتان وينتهي كل شيئ – لكنها إذا تعلَّق الأمر بالشأن وبالخيار الإنساني وبالشرط الإنساني تُناوِشها وتكتنفها وتُخالِطها النزوات والرغبات والرهبات والحسابات والتحيزات والمصالح، فيصبح هذا الشيئ البسيط صعباً جداً جداً، تقول له يا أخي قل هذا أو اشهد بهذا أو اكتب هذا، لكنه يقول لك كيف أكتب يا أخي؟ كيف أقول؟ هذا صعب وسيكلِّفني الكثير، مع أنه بسيط، المطلوب كلمة تفوه بها وانتهى أمرك إلى الخير بإذن الله، لكنه يقول لك لا أقدر على هذا، فالبسيط هنا ليس سهلاً وليس يسيراً، وهنا انظر إلى عظمة المُصطفى، قال وإنه ليسير – لم يسكت وإنما استتلى – على مَن يسَّره الله عليه، كأن يقول له هذه المسائل لا تُوصَف باليسر بحد ذاتها، ليس المُهِم أن تكون يسيرة في حد ذاتها، المُهِم أن تكون يسيرة عليك، لأنها على مُعظَم الناس لا تكون كذلك.

نُكمِل إن شاء الله ما انقطع من حبل الحديث في الخُطبة الثانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلمياً كثيراً.

أما بعد إخواني:

إذن دلالة أننا لم نُستحفَظ على دين الله ألا نتكلَّم باسم المُطلَق وألا ندعي ذلك وألا نصدر عن هذا المنطق وبالتالي سنكون مُتواضِعين ومُتواضِعين جداً، لا يرى ولا يظن أحدنا فرداً كان أم جماعة أم حزباً أم تنظيماً أم قبيلة أم طائفة أم مذهباً من الناس إلا أن يكون تكفيرياً أنه هو الإسلام وحده وما عداه فهو كافر، هذا شيئ آخر وقد انتهى حتى النقاش معه عند هذه النُقطة، لا يظن أحد من هؤلاء الذين ذكرت أنه بهلاكه أو بغيابه يهلك الحق ويغيب الحق، لن يحدث هذا أبداً، لأنك لست حفيظاً على دين الله، لا تخاف لأنك حين تذهب سيأتي غيرك، وحين يذهب غيرك سيأتي غيره، الحق محفوظ ولذلك – كما ألمعت أكثر من مرة في أكثر من خُطبة – سورة البروج تتحدَّث عن فتنة المُؤمِنين وتخديد الأخاديد وحرق المُؤمِنين بالنار وتُختَم بقول الله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ۩ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ۩، كأن الله يقول لا بأس، الابتلاءات تحدث وتكون وتعترض الطريق ويُقتَل أناس ويُحرقون ويبادون، حدث تطهير عرقي وأمة أُميتت في نجران بالكامل وأُحرِقت، يقول لا بأس يقول فدستور الحق محفوظ وموجود، سيأتي حملة آخرون غيركم، قال الله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ۩، وهذه دلالة خطيرة كان ينبغي أن تحول دون انبثاق العقلية الأصولية في الأمة المُحمَّدية لكنها لم تفعل، لماذا؟ لأنها لم تُفهَم ولم تُدرَّس ولم نترب عليها ولم يُعيَّر بها – لم تُتخَذ معياراً – في التفكير، هل فهمتم؟ بالعكس نحن كالأقوام التي كانت قبلنا نصدر عن منطق أننا الحفظة لدين الله وأننا حرّاس دين الله وحرّاس القرآن، ثم نتبجَّح بهذا، انظروا إلى الخطابات الأصولية، الخطابات تتبجَّح بأننا الحرّاس وتقول نحن نحمل هذه الرسالة، وهذا غير صحيح ، لست حارساً، أنت مُجرَّد مُبلِّغ من وراء المُبلِّغ الأول عليه الصلاة وأفضل السلام، ومن ثم تقول كلمتك ثم تمشي، لكن هذا لم نفهمه وله دلالة كما بان لكم الآن ووضح أخطر مما يُظَن، فنرجع – كما قلنا – عوداً على بدء مرة أخرى بدرجة انزل، الشيخ الفاضل – بارك الله فيه وعفا الله عنا وعنه – الذي يرى – كما قلت لكم – هروباً إلى المُستقَبل أن الدين منصور وأن الإسلام منصور وأن الكل منصور هو طبعاً لا يُدرِك ولا يُحِب أن يُدرِك – كما قلت لكم – مدى المأزق الذي وضع فيه هؤلاء المُتطرِّفون المُتزمِّتون الدين، مأزق مُخيف حرج ملعون كما وصفته، يوم يرى شبابنا مُلحِداً مثل تشومسكي Chomsky – نعود لنُكمل المقصود من المثال – يلتزم بالقضايا العادلة للمُستضعَفين وبقضايا أمة هي الأكثر مكروهية الآن في العالم وبقضية الشعب الفلسطيني ضد شعبه وقوميته – أي ضد اليهود، تشومسكي Chomsky المُلحِد يفعل هذا وهو مُلحِد – ويرى الشباب المُسلِم والشابات المُسلِمات مشائخ وعلماء ودعاة لا يلتزمون بالعدالة ولا بالحقيقة ولا بما فيه مصلحة الأمة والدين ماذا يفعل؟ لذلك سأُبسِّط وأستخلص يا إخواني، حين نذهب نُحدِّث الناس عن الله – ليس فقط عن عن الدين وإنما عن الله لا إله هو الذي هو مصدر كل خير – لا يجدون الله الذي نُحدِّثهم عنه، أعني هذه الصورة التي تُقدَم لهم عبرنا وعبر خطابنا، لا يجدونه الأكثر سعة والأكثر رحمة والأكثر عدالة والأكثر دقة والأبعد عن الحصريات وعن التحيزات وهو ليس إلهاً أقوامياً وليس إلهاً أفراقياً وليس إلهاً طائفياً ومذهبياً أبداً، هو رب العالمين، ليس رب الشيعة أو رب السنة أو رب الإباضية وإلى آخره، هو رب العالمين لا إله إلا هو، أنا أقول لكم حين لا يجدونه كذلك فإننا نكون ندفعهم دفعاً ونركلهم ركلاً ونضطرهم اضطراراً أن يُعلِنوا إباءهم لهذا الإله ورفضهم له وبالتالي كفرهم به، مجمع الفاتيكان Vatican الثاني هنا في أوروبا بين اثنين وستين وخمس وستين كان من ضمن الدستور الذي أعلنه مجمع الفاتيكان Vatican بعد حوالي ثلاث أو أربع سنوات أنه قال لابد من الاعتراف بأن المُؤمِنين يتحمَّلون دوراً أو قسطاً لا بأس به من تعزيز ظاهرة الإلحاد، هم كانوا أكثر صراحة منا، الفاتيكان Vatican أكثر صراحة اليوم من مشائخ المسلمين، هم كانوا صريحين، قالوا نحن نتحمَّل قسطاً كبيراً كمؤمنين لأننا عزَّزنا الإلحاد ونشرنا الإلحاد، أهل الدين فعلوا هذا، كيف؟ قال حين لم يلتزموا بالتعبير السليم والصحيح عن الحقائق الدينية، جعلوها حقائق مذهبية وحقائق ضيقة وحصرية وغير واسعة فكفَّروا الناس، هم يعترفون بهذا، إراسموس Erasmus من روتردام Rotterdam – الأنسني Humanist الكبير في عصره – ماذا قال؟ قال إن الذين يُنكِرون وجود الله -أي الملاحدة – ليسوا ملاحدة بقدر أولئك الذين يُصوِّرونه مُتزمِّتاً، انظروا إلى هذه العبارة العظيمة، قال يُوجَد صنفان من الناس، رجل مُلحِد يقول لك الله غير موجود، أستعفر الله العظيم، فهو يقول الله غير موجود لأنه مُلحِد Atheist، ورجل آخر مُؤمِن – مسيحي طبعاً في السياق الهولندي لأن إراسموس Erasmus كان هولندياً، والحديث عن السياق الغربي عموماً – يُصوِّر الله على أنه موجود لكنه مُتزمِّت وضيق جداً جداً ولا يقبل من كل عباده إلا فئة محدودة بشروط محدودة ضمن الدين الواحد، قال هؤلاء أكثر إلحاداً مِمَن يُنكِر الله نفسه، وهذا صحيح، انظروا إلى هذه العبارة العظيمة، نحن نفعل هذا اليوم دون أن ندري، ونفعل هذا بطرق كثيرة جداً جداً دون أن ندري ودون أن ننقد.

أختم الآن وقد أطلت عليكم، لدينا هؤلاء الذين يهربون إلى المُستقبَل ولا يُحِبون أن يُمارِسوا الوعي الناقد ولا يُحِبون أن يتساءلوا بصدد كل ما نحن فيه ويقولون النصر من عند الله والدين منصور وسنُنصَر إن شاء الله، هؤلاء على ماذا يُعوِّلون؟ طبعاً واضح أن هؤلاء منطقهم ليس أصولياً بالمرة مثل الشيخ الفاضل الذي استمعت إليه اليوم وهو خطيب كبير، فهذا ليس منطقاً أصولياً بالمرة، لكنه منطق استقالي أو استقالاتي، مَن يقول هذا هو مُستقيل، يقول بما أن الله يحفظ الدين فإذن لا دور لنا، سننام ملء أجفاننا وسنكون مرتاحين ولن نخاف على الدين، أي أنه شطب على دور الإنسان ودور الأمة، دوري ودورك غير موجود، فالنصر آتٍآت، والخير آتٍ آت، وطبعاً هو يتغافل عما سيأتي قبل هذا النصر وقبل الخير، ربما عقود وربما قرون من الكفر والإلحاد والردة والتشكيك، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبا كما بدأ، أنا لم أرى في حياتي أن الإسلام فعلاً يعيش غربة حقيقية كالتالي يُطالِع وجهها اليوم ويستشرِفها، وسوف السنوات القادمة غربة حقيقية، سيُصبِح مُستوحِشاً قليلاً هذا الإسلام فانتبهوا، لكن هم لا يرون هذا، فيُوجَد فرق بين الذي ذكرته وبين الأصولي الذي يرى نفسه الحفيظ على دين الله وعلى كتاب الله وعلى وحي الله وعلى هداية السماء ويقتل من أجل ذلك، كما قلت تبعاً للاختلاف في تفصيل هامشي ضئيل جداً ونحيل يقتل أيضاً، نحن ضيعنا كأمة فماذا نفعل الآن؟ بين هذا وهذا نحتاج إلى المُسلِم النقدي الذي ليس أصولياً ولكنه ليس مُستقيلاً، يرى نفسه ليس ملكاً وليس شيطاناً، هذا بالذات ما حدَّده كإنسان وأعطاه هامشاً واسعاً جداً للحركة، لابد من حرية الاختيار وحرية الإرادة وحرية البناء والعمل والإنجاز لأنني إنسان، هذا معنى أن أكون إنساناً، لست ملكاً ولست شيطاناً، هذا هو، عقل الملك – كما قلت – غير كافٍ، الحد الأدنى من عقل الملك لا يُمكِن أن يكون هو عقلي أنا كمُكلَّف، هذا ما يفعله الآن مُسلِمون كثيرون حين يتحدَّثون عن علاقة العقل بالنص والعقل بالشرع، يُريدونك أن تفهم أن العقل دوره يقف عند وينتهي عند حد أن تُؤمِن بأن محمداً رسول وهذا الشرع من عند الله ومن ثم سمعنا وأطعنا، فتأخذ كل شيئ كما هو دون أن تتساءل بصدده ودون أن ترى هل هو مُعلَل أم غير مُعلَل وهل هو تاريخي مُؤقَّت أم غير مُؤقَّت وهل هو مظروف ومشروط أم ليس كذلك، ثم يقولون عنك أنت علماني، هذا تفكير علماني، ومن ثم أنت مُلحِد، إذن يُريدون لنا عقلاً كعقل الملك، لكننا لسنا ملائكة يا رجل، هؤلاء لا يفهمون شيئاً، نحن لسنا ملائكة، هذا الحد الأدنى من العقل ليس العقل الإنساني، العقل الإنساني عقل تعليلي وهو عقل يذهب إلى مديات واسعة وقصية جداً في فهم الأمر وفهم روح النص ومقصد النص وغاية النص وهنا تبرز فردية الإنسان وحرية الإنسان واستقلال الإنسان، هنا لا أكون لا ملكاً ولا شيطاناً، هذا المعنى العقلي الذي نُريده بكلمة، إذن – كما قلت – بين الطرفين لابد أن يأتي هذا العقل ولابد أن تأتي الروح النقدية التي تُدرِك أنها روح إنسانية بشرية، وإن تحدَّثت عن الإلهي تتحدث عنه من خلال الضعف البشري والمحدودية البشرية والنسبية البشرية، هذه الروح النقدية مُتواضِعة، هذه الروح مُتسامِحة جداً، هذه الروح تسع الاختلافات والخلافات، هذه الروح ليست إلغائية وليست إقصائية، وهي أيضاً ليست تسخيفية، هي لا تُسخِّف الآخرين، وهي روح مُتعاوِنة، فضلاً عن أن هذه الروح لا مركزية، نحن – كما تعلمون – نعيش كأمة مُسلِمة الآن لحظة انفراد فيها تشعّل للمركزيات، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، كل حزب وكل تنظيم وكل جماعة وكل شيخ وكل طائفة وكل مذهب وكل مسجد وكل كذا وكذا – شيئ لا يكاد يُصدَّق – يرى نفسه المركز، مركز هذه الأمة ومركز التجديد ومركز الإصلاح ومركز النهضة ومركز الجمع ومركز كذا وكذا، وهذا شيئ غريب، ثم يُريد من الآخرين أن يدورو حوله، لا يُنقِذك من هذه المركزية إلا أمران، لابد من الإيمان بالله وتوحيده، ما معنى الإيمان بالله؟ الواحد هو، المركز هو، كل شيئ عدا الله لا يُمكِن أن يكون مركزاً، ما رأيك؟ حتى الأنبياء لا يُمكِن أن يكونوا كذلك، ولذلك قال الله للنبي ما يُقالُ لَكَ إِلاّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ۩، أنت لست مركزاً أبداً، وهو قال أنا لست مركزاً، أنا حجرة في بناء، حجرة تمَّم الله بها ذلك البناء الجميل المهيب، أنا حجرة فقط، فحتى محمد ليس مركزاً، الأنبياء ليسوا مراكز، فكيف يكون الشيوخ مراكز والدعاة مراكز والمجانين فينا مراكز؟ الكل يظن أنه المركز ويُريد أن يلف العالم كله – والعالم فسطاطان في تقسيمه وتصنيفه – حول هذا المركز، لا ينقذنا من هذه المركزية المجنونة المُفلِتة إلا توحيد الله تبارك وتعالى، هو وحده الإله الواحد، هو المركز والكل يدور حوله، لم نعد مراكز، تحرَّرنا من أنانيتنا الصغيرة الفردية والحزبية والطائفية والمذهبية وإلى آخره – ولك أن تتخيَّل هذا – بروح نقدية تعلم بكل تواضع أنها روح بشرية مُنسَّبة وضعيفة حين تقول شيئاً إنما تقوله من خلال موقعها الضعيف النسبي.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، لا تُسلِّط سفهاءنا علينا ولا تُؤاخِذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء ولا تجعلنا مع القوم الظالمين، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (26/9/2014)

                                                                           (الوسوم)
الأصولية، الإلحاد، الإسلام، رجال الدين، الحرية، الإنسان، الدين، التكفير، الإيمان، التوحيد، داعش، الجماعات الإسلامية، الأحزاب الأمة الإسلامية.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: