برنامج آفاق
الآراء المتطرفة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، وافتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين.
إخواني وأخواتي:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، إدارة الإسلام للاجتماع الديني إدارة مُتميِّزة وناجعة وناجحة إلى حد ومدى بعيدين جداً، لكن من أسف بعض العلماء والمشايخ يجنحون أو يميلون إلى تبني الآراء المُتطرِّفة أو المُتشدِّدة في كل وقت وفي وقتنا هذا بالذات الذي يتطلَّب قدراً أكبر من المرونة الفقهية وقدراً أكبر من الحرص على التعايش ومُلاينة ومُحاسَنة غير المُسلِمين الذين يشركوننا في أوطاننا وفي بلادنا، لهم الحق فيها كما لنا على قدم سواء، خاصة أنهم كانوا سكانها وقطانها وأبناءها من قديم، ليسوا طارئين عليها ولا غاصبين لها، لكن – إخواني وأخواتي – يُلاحَظ من بعض العلماء والدُعاة أنهم يجنحون أو يميلون إلى تبني الآراء المُتطرِّفة أو المُتشدِّدة، التي تعمل على توتير الأوضاع وتشنج العلاقات بين المُسلِمين وبين إخوانهم في الوطن.
قرأت عن أحد العلماء الأفاضل وقد انتقل إلى رحمة الله تبارك وتعالى أنه سُئل مرة لِمَ لا تزور الشخصية الدينية الفلانية – من دين آخر، وهو الدين المسيحي أو النصراني -؟ فأجاب العالم – رحمة الله تعالى عليه – بقوله يا أخي لا أستطيع أن أقعد مع – أي أجلس – مَن يقول إن عيسى هو ربه، منطق غريب كما يبدو لكم إخواني وأخواتي، لأن الرسول نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد جلس مع هؤلاء، جلس مع النصارى، وليس مُجرَّد مجلس لساعة أو ساعتين، بل استقبلهم في المشهور – عليه الصلاة وأفضل السلام – في مسجده الشريف في المدينة المُنوَّرة، وباتوا فيه، أكلوا وشربوا وباتوا واستقبلوا قبلتهم في أوقات صلواتهم، النبي لم يجد أدنى حريجة وأدنى حرج أو تحسس من هذا الوضع، ثم كتب لهم – عليه الصلاة وأفضل السلام، والحديث كما تعلمون عن وفد نجران، أي عن وفد نصارى نجران – بعد ذلك الكتاب المعروف المشهور، وقصة هذا الوفد تجدونها مُفصَّلة في كُتب التفسير، لدى تفسير الآيات الأولى من سورة آل عمران، أول سبعين أو أول تسعين آية في قول، فإذا كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يتحرَّج من هذا الوضع لم يتحرَّج منه عالم من علماء هذه الأمة.
أيضاً – إخواني وأخواتي – مما يجري هذا المجرى مُناداة بعض الدُعاة والعلماء بوجوب وضرورة إعادة ضرب الجزية على غير المُسلِمين الذين يعيشون بين المُسلِمين في ديارهم وأوطانهم، وهو مطلب غريب جداً، آمل أن أتمكَّن – إن شاء الله – من أن أخصه بالكلام في حلقة بحيالها، أي حلقة أقف الكلام فيها على هذا الموضوع الحسّاس الحرج، لأن بعض الناس يظن أن موضوع الجزية هو موضوع قطعي، دائم، لا يتخلَّف، ينبغي أن يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا غير صحيح، حتى تصرفات الصحابة تُؤكِّد عدم صحة هذا الفهم، ولكن – إن شاء الله – نُرجئ الكلام في هذا الموضوع إلى حلقة مُستقِلة.
بعضهم أيضاً يُصرِّح بأن غير المُسلِمين ليس لهم الحق في خدمة الجيش، خدمة العلم! أي الالتحاق بالجيش، لأنهم لا يُؤمَنون، لأنهم لا يُؤمَنون على هذا، وطبعاً الذي يلتزم القول بوجوب ضرب الجزية أو إعادة ضرب الجزية عليهم بلا شك يستنبط أو يستخرج أو يبني على هذا أنهم ليس لهم الحق أو ليس مطلوباً منهم أن يخدموا العلم أو يلتحقوا بالجيش، يكفي أن نأخذ منهم الجزية، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، وهذا الشيئ غريب جداً أيضاً، مع أننا وجدنا في القرن المُنصرِم (العشرين) شيخ الإسلام ومُفتي مصر العلّامة الفقيه الأصولي النظّار محمد بخيت المُطيعي – رحمة الله تعالى عليه – يُجوِّز لغير المُسلِم أن تُسنَد إليه الرئاسة، رئاسة الدولة! يُمكِن أن يكون رئيس الدولة غير مُسلِم في رأي مُفتي مصر والعلّامة الكبير المعروف محمد بخيث المُطيعي – ليس محمد نجيب المُطيعي، وإنما محمد بخيث المُطيعي، رحمة الله تعالى عليه -، جوَّز أن تُسنَد هذه المُهِمة الأعلى على الإطلاق من مهام الدولة إلى غير المُسلِم، وبعض هؤلاء يقول لك لا يصح ولا يسوغ حتى أن يخدموا في الجيش، في الجيش الذي غالبيته طبعاً من المُسلِمين، آراء غريبة وعجيبة! كما قلت تعمل على توتير الأوضاع وتشنج المواقف، ولا تخدم في النهاية الوطن، ولا تخدم التعايش، ولا تخدم استقلال بلادنا، ولذلك لابد أن يُقال فيها، وأن يُعاد فيها النظر بجراءة وبشجاعة وبمرونة وتفتح – إخواني وأخواتي -، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩.
يبدو لي – والله تبارك وتعالى أعلم – أن بعض هؤلاء العلماء الأفاضل يستصحبون على الدوام الظروف والأجواء العسكرية، التي أملت بعض الأحكام، التي أملت وقضت ببعض الأحكام! لكن هذه الأحكام المُملاة وهذه الأحكام المقضية إنما جاءت لتستجيب لظروف تحدٍ يا إخواني، كان يكتنف الأمة ويُهدِّد ربما وجودها ظروف تحدٍ عسكري، وإلا إذا استثنينا هذه الظروف وهذه الأجواء فالقرآن ملآن بالآيات التي تحث على حُسن المُعامَلة وعلى قبول الآخر وعلى المُعايشة السليمة، مثل قوله – تبارك وتعالى – لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ۩… الآية من سورة المُمتحَنة!
واضح جداً أن الله فتح لنا باباً واسعاً لإحسان المُعامَلة والتواصل الودود الرحيم الأخلاقي العالي مع سائر غير المُسلِمين، بغض النظر وبصرف النظر عن أديانهم وعقائدهم، ما كفوا عنا وسالمونا، لابد من هذا بما أنهم كافون عنا ويُسالِموننا، وهم في الحقيقة ليسوا كافين عنا ومُسالِمين، هم إخواننا وشركاؤنا في الوطن، ويحرصون على الوطن واستقلاله وسلامته وأمنه وتقدمه وسعادته، مثلنا! سواء بسواء، لا نستطيع أن نُشكِّك في هذا، لسنا مهجوسين ولا مُوسوَسين لكي نُشكِّك في كل غير مُسلِم، طبعاً والمُسلِم لا يحتكر الوطنية أو القومية أو الشرف أبداً، في المُسلِمين كغيرهم أيضاً وهم أكثرهم طبعاً بلا شك – أكثر الشعوب وأكثر الناس – مُخلِصون لأوطانهم ومُحِبون لها، والأقل هم الذين – والعياذ بالله – يتورَّطون في خيانتها والممالأة عليها والائتمار بها، الأقل الأقل! وبغض النظر عن أديانهم، هذه شريحة نحيفة جداً وقليلة ولا تتوقَّف على دين أو عقيدة، لا تتوقَّف على دين أو عقيدة!
إذا أحبننا أن نكون حتى صرحاء وأمناء مع ضمائرنا فسنقول إنك تجد من بين الملاحدة واللا دينيين مَن هو صادق تماماً وأصدق من بعض المُتديِّنين، بغض النظر عن ماهية الدين، كان إسلاماً أو نصرانيةً أو غير ذلك، تجد هذا المُلحِد أو هذا اللا ديني أكثر صدقاً في حُب وطنه والانتماء إليه من هذا المُتديِّن، مُمكِن! هذه حالة موجودة، وهذا ليس دائماً طبعاً، هذه ليست قاعدة، لكن هذا موجود أيضاً، فهذه مسائل لا تتوقَّف على موضوع الاعتقاد والدين، هذه مسائل تنتمي إلى مقولات أُخرى، تنتمي إلى مقولات وحقول أُخرى، المفروض طبعاً أن الدين يا إخواني والتربية الدينية السليمة القويمة تُعزِّز هذه المشاعر، الدين لا يُمكِن إلا أن يُؤكِّد ويُعزِّز ويعمل في اتجاه دفع المشاعر والقيم النبيلة الراقية، وهذه من أنبل القيم ومن أعلى وأشرف المشاعر، مشاعر الإنسان نحو وطنه، حرصه على استقلال الوطن وعلى أمان الوطن، ومن هذا الحرص يا إخواني أن الوطن لا يُمكِن أن يستقل بشكل جيد ولا يُمكِن أن يأمن إلا بأن يأمن قاطنوه، ساكنوه، المُواطِنون فيه! وهم لا يأمنون إذا حُرِّش بعضهم ببعض أو تحرَّش بعضهم ببعض ودُفِع بعضهم إلى مُعاداة بعض من طرف خفي ومن طرف غير خفي، هذا لا يجوز!
على كل حال من المسائل الحسّاسة والحرجة والتي لم يُحسَن فيها القول بطريقة تُنهي فيها النزاع وتشقيق الكلام وكثرة القيل والقال مسألة حق غير المُسلِمين في اتخاذ معابد لهم، في ترميم معابدهم – تجديدها وتحسينها – وفي أيضاً إنشاء وابتناء معابد جديدة لهم، هذه المسألة للأسف الشديد لا تزال إلى يومنا هذا محل نزاع، يتنازع فيها العلماء.
قبل أسابيع يسيرة حدَّثني رجل نابه من رجال الفكر والعلم، حدَّثني عن حوار جرى بينه وبين رجل عالم أيضاً آخر، قال فصُدِمت، وكنت أظنه مُتفتِّحاً، صُدِمت به يتبنى الرأي السائد الشائع، الذي يقضي بأنه لا يحق لغير المُسلِمين في بلاد المُسلِمين أن يبنوا معابد جديدة لهم، وما قدم وتداعى واقترب من السقوط أو آل إلى السقوط من معابدهم لا يجوز لهم أيضاً تجديده ولا ترميمه، قال فأُسقط في يدي، غير معقول! قال فحاولت أن أُناقِشه، لكن الرجل مُتصلِّب على رأيه ومُصمِّم عليه، يقول هذه القضية لم يختلف فيها العلماء.
قلت له في الحقيقة يبدو أنه غير مُطلِع بدقة على أقوال العلماء، العلماء لهم أقوال، نعم في الجُملة للأسف أقوال مُشدِّدة، ليست مرنة، وأيضاً لا تستند إلى أدلة صحيحة للأسف الشديد كما سنرى، فهذا تقريباً هو موضوع حلقتنا هذه – بإذن الله تبارك وتعالى -، قلت له العلماء لهم آراء كثيرة في هذا الموضوعات، ولهم تشعيبات وتشقيقات وتفصيلات، فصاحبك يبدو أنه غير مُطلِع عليها، ذكر شيئاً واحداً، وعمَّمه على كل الحالات، على أنه صالح لكل الحالات، وليس كذلك! المسألة ليست كذلك.
حتى لا نُطوِّل أُحِب – وربما يكون هذا الجُزء مُمِلاً قليلاً في المُحاضَرة، لكنه للتوثيق العلمي، لمَن يُحِب أن يعود وليس لديه الصبر على استشارة الكُتب، وربما لا يعرف، غير المُتخصِّص ربما لا يعرف كيف يعود إلى المظان وكيف يصل إلى الآراء ويستخلصها ثم يُصنِّفها التصنيف العلمي اللائق، فالحلقة تتكفَّل بهذا إن شاء الله بقدر الإمكان على جهة الإيجاز، دون ذكر طبعاً المصادر والتوثيقات، ولكن نعزو كل قول إلى القائل به من المذاهب المشهورة المتبوعة – أن أقول الآتي.
علماء المذاهب – السادة العلماء والفقهاء – ميَّزوا – أحبتي في الله، إخواني وأخواتي – بين الأمصار وبين القُرى، مبدئياً هناك أمصار، ويُراد بالأمصار المُدن، هذا معناها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تُسمى الأمصار، فالقاهرة مصر – مثلاً – وبغداد وقرطبة وإشبيلية والبصرة والكوفة وواسط ودمشق، هذه كلها أمصار! وهناك القُرى، القُرى التي ليست بأمصار، فأعطوا القُرى أو تعاملوا وتعاطوا مع القُرى بطريقة، وتعاملوا مع الأمصار بطريقة مُختلِفة إلى حد ما، هذا أول شيئ.
ثم أنهم بعد ذلك قصدوا إلى تقسيم الأمصار إلى ثلاثة أقسام، قسَّموا وصنَّفوا الأمصار إلى ثلاثة أقسام: أمصار مصَّرها المُسلِمون، ومعنى مصَّرها المُسلِمون أي اختطوها أصالةً، لم تكن موجودة، لم تكن موجودة وإنما هم الذين اختطوها، فالكوفة والبصرة – مثلاً – هذه من اختطاط المُسلِمين، بغداد وأبو جعفر المنصور، مدينة السلام لم تكن موجودة، هم الذين اختطوا هذه المدينة، ودعوها في البداية بمدينة السلام، وواسط أيضاً، واسط هذه من أمصار المُسلِمين، على كل حال الأمصار كثيرة، عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – كان يُلقَّب أبا المُدن، لقَّبوه بأبي المُدن في الإسلام، لأنه كان مسؤولاً عن اختطاط سبع مُدن جديدة، أما المُدن التي اختطها المُسلِمون في فترة ازدهار حضارتهم فيُقال إنها تزيد على السبعين مدينة.
ولذلك بحق المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير هربرت ويلز Herbert Wells المعروف بـ إتش. جي. ويلز H. G. Wells قال كان المُسلِمون إذا دخلوا بلدة أو فتحوا بلداً لا تسير فيها المدنية – فماذا إذن؟ هل تتوقَّف؟ لا -، وإنما تقفز فيها قفزاً، وتعدو عدواً، تدخلها المدنية بشكل سريع جداً، فالمُسلِمون كانوا – إخواني وأخواتي – مُعمِّرين، لم يكونوا مُخرِّبين، لم يكونوا مُخرِّبين وإنما كانوا فعلاً مُعمِّرين، بدليل أنهم اختطوا هذه المُدن الكثيرة جداً، وجعلوها مراكز للعلم والتمدين، للعلم والتمدين والإشعاع الحضاري! حتى قُصِدت من جميع أطراف وجنبات الأرض، يُطلَب فيها العلم والنور.
على كل حال إذن أمصار مصَّرها المُسلِمون، مثل بغداد، قبل ذلك البصرة والكوفة وواسط، أمصار افتتحها المُسلِمون عنوة، ومعنى الفتح عنوة؟ أي بالقوة، بقوة الجحافل، بقوة القتال، بالسيف! وهذه لها حُكم، لها مُعالَجة مُختلِفة، وأمصار فتحها المُسلِمون صلحاً.
إذن ثلاثة أمصار لدينا، كل مصر له كلام خاص، ثم بعد ذلك يتكلَّمون في القُرى التي ليست بأمصار، وبعضهم آثر أيضاً التفصيل كما ستسمعون بُعيد قليل.
إذن نأتي إلى القسم الأول، تحدَّثوا عن الأمصار التي مصَّرها المُسلِمون – أي هناك بلاد هم أنشأوها، هم أوجدها، لم تكن موجودة -، واتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز لغير المُسلِمين إحداث معبد أو معابد لهم فيها، وهذه المسألة لم يختلفوا فيها تقريباً، هذا عند المذهب الأربعة المتبوعة على الأقل، قالوا لا يجوز، إلا المذهب الزيدي، المذهب الزيدي معمول به الآن في اليمن كما تعلمون، الذي ينتسب إلى الإمام الجليل زيد بن عليّ – عليهما السلام، زيد بن عليّ، وعليّ هو زين العابدين طبعاً، وليس عليّ بن أبي طالب، عليهم السلام أجمعين -، يُعمَل به في اليمن كما تعرفون، وهو مذهب وسيع ومذهب ذكي ومذهب مُعتدِل.
المذهب الزيدي – إخواني وأخواتي – شكَّل استثناءً، إذ ذهب السادة الزيدية إلى جواز أن يُحدِث غير المُسلِمين معابد لهم في الأمصار التي مصَّرها المُسلِمون، لكن بشرط أن يأذن لهم الإمام إذا رأى المصلحة في ذلك، أي لم يسدوا الباب بالكامل، تركوه مفتوحاً، تركوه موارباً، قالوا المسألة تتوقف على إذن الإمام، إذا أذن الإمام ووافق فأهلاً وسهلاً، يا حيهلاً، يستطيعون عندها أن يُنشئوا وأن يبتنوا معابد جديدة لهم، كثير من المُعاصِرين نحى منحى الزيدية.
طبعاً العلماء ليس لديهم ربما الشجاعة أو الإرادة في أن يُخالِفوا، لا يُريدون أن يُخالِفوا المذاهب الأربعة أو الخمسة أو الستة، وأن يُرجِّحوا رأياً يُخالِف ما اتفقت عليه المذاهب، يخافون منذ هذا، ويخافون من التفرد، مع أننا لو نظرنا في أدلة المذاهب لعلمنا أنه ليس هناك دليل واحد صحيح، نُريد دليلاً، نُريد آية من كتاب الله، هل لا تُوجَد آية تُفيد هذا؟ إذن نُريد حديثاً، نُريد حديثاً واحداً صحيحاً على الأقل لكي يمنع، لكن ليس هناك ما يمنع، أي لم يصح هذا عن رسول الله كما ستسمعون – إن شاء الله – بُعيد قليل، فيُمكِن أن نُخالِف حتى هذه المذاهب، وأن نأخذ بظاهر القرآن الكريم الذي يُساعِد، الذي يُساعِد على ترجيح الرآي القائل بجواز أن يُنشئوا معابدهم، كيف نقرهم على أديانهم ثم لا نسمح لهم أن يبتنوا معابد يتعبَّدون فيها؟! يُوجَد نوع من التناقض هنا، أي الإسلام أقرهم على أديانهم، ومنعنا من أن نُكرِههم على ديننا، فكيف بعد الإسلام يمنعهم ولا يأذن لهم في أن يبتنوا وأن يُنشئوا دور عبادة يتعبَّدون فيها؟! هذا غير معقول، أي كلام لا يدخل العقل كما نقول.
على كل حال هذا هو القول الأول في الأمصار التي مصَّرها المُسلِمون، أما ما فتحه المُسلِمون عنوة – أي بالقوة كما قلنا لكم – فنفس الشيئ، قالوا ما فُتِح عنوة فلا يجوز لهم أن يبتنوا فيه معابد لهم، أي معابد جديدة، انتبهوا! اتفقوا على هذا أيضاً، لكن اختلفوا في مسألة ثانية، هناك مسألة ثانية مُختلِفة، وهي ما وُجِد في هذه الأمصار التي فتحها المُسلِمون عنوة – موجودة بالأول وفتحوها بالقوى – من دور عبادة، فيها دور عبادة، سواء مُصليات لليهود، سواء أديرة وكنائس للنصارى، وسواء بيوت للنار للمجوس، إلى غير ذلك! موجودة قبل الفتح الإسلامي، قبل أن يفتح المُسلِمون بالقوة هذه البلاد، ما حُكم هذه المعابد؟ هل يجب أن نهدمها أم نتركها؟ هو هذا! أي هل يُؤذَن لهم في أن يتعبَّدوا فيها ولذلك لا يُسمَح لنا أن نهدمها أم يجب أن نهدمها؟
وهنا السادة المالكية – وهذا وجه عند السادة الحنابلة – قالوا لا يجب هدمها، لا يجب هدمها! تُترَك كما هي، لكن في وجه آخر عند الحنابلة وهو الأصح في المذهب الشافعي يجب هدمها أيضاً، شيئ غريب! أي هذه الأقوال مُتشدِّدة جداً، فيها نوع من التشدد البادي أو الظاهر، إذن ماذا قال السادة الحنفية – أتباع الإمام الأعظم أبي حنيفة -؟ فأما الحنفية فقالوا لا يجب هدمها، بل تُترَك بين أيدي أصحابها، ولكن لم يكتفوا بهذا، يا ليتهم اكتفوا بهذا! زادوا زيادة عجيبة، قالوا لا يجب هدمها، وتُترَك بين أيدي أصحابها، لكن على ألا يتخذوها معابد، فإذن ماذا يتخذوها وهي دور عبادة؟ قالوا لا، تكون كالمساكن لهم، يسكنون فيها، يُمارِسون فيها مناشط حياتية عادية، لكن لا تُتخَذ كدور عبادة، لا يُسمَح لهم أن يتعبَّدوا، غريب!
واضح يا إخواني الآن لو وقفنا مع جُملة الأقوال هنا، باستثناء المالكية ووجه عند الحنابلة، أن هذا المنطق وأن هذا الفقه هو فقه يعكس نشوة الانتصار، نشوة القوة، أي هذه بلادكم، ونحن افتتحناها وكسرناكم فيها بالقوة، بقوة السيف! فلن نُعطيكم حق أن تتعبَّدوا فيها بأديانكم، شيئ غريب! لماذا؟ ما علاقة هذا بهذا؟ هذا المنطق الكامن والمنطق الثاوي خلف هذه الآراء الفقهية، هو هذا، أي هذا ما يبدو لنا، مع أن الله – تبارك وتعالى – حكى العكس تماماً يا إخواني، وسوف أذكر هذا في آخر هذه الحلقة، الله حكى العكس تماماً، وجعل من مهام المُؤمِنين ومن مهام المُسلِمين أن يُقاتِلوا – أي يُقاتِلوا وتُراق دماؤهم، وربما تزهق أنفسهم ويُستشهَدون -، ومن ضمن المقاصد لهذا القتال وهذا الجهاد الكريم هل تعرفون ماذا؟ أن يُدافَع عن بيوت العبادة لغير المُسلِمين، الآن يُوجَد جهاد وقتال، هذا هو الإسلام، هذا هو القرآن! ولذلك حقيقةً أحياناً – ولنقلها واضحة جهيرة – يلمس الإنسان تفاوتاً بعيداً بين اتجاه القرآن وبين اتجاه الفقهاء أو بعض الفقهاء، هو يسير في جهة وهم يسيرون في جهة أحياناً مُخالِفة تماماً.
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وسِرْتُ مُغَـرِّباً شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ ومُغَـرِّبِ.
وواضح أن هناك تعارضاً، لكن هذا منطق السُلطة، منطق الهيمنة، منطق إمبراطوري! نحن كنا الأقوى، ونحن الذين ظفرنا وكسبنا المعركة، إذن لا شيئ لكم، ويجب حتى هدم المعابد القديمة، لكن الأحناف قالوا لكم لا، لا يجب الهدم، ولكن يتخذونها مساكن، ممنوع أن يتخذوها معابد لهم، شيئ غريب!
إذن بقيَ الآن ما فتحه المُسلِمون صلحاً، بلاد كانت لغير المُسلِمين، حاصرها المُسلِمون، ثم صالحوا أهلها عليها، فهنا أيضاً لدينا تفصيل مُهِم، على ماذا وقع الصلح؟ قد يكون الصلح وقع يا إخواني على أن الأرض لهم، تبقى الأرض لهم، لكن مُقابِل ماذا؟ مُقابِل جزية، تُدفَع على هذه الأرض، وجزية الأرض تُسمى ماذا؟ بالخراج، جزية الرؤوس أو ضريبة الرؤوس التي يدفعها الأفراد هي الخراج، هذه الجزية تُسمى ماذا؟ الخراج، وطبعاً في الحقيقة الجزية يدفعها القادر على حمل السلاح، الجزية يدفعها القادر على حمل السلاح! فالمفروض أن الصغار لا يدفعون جزية ولا النساء ولا الشيوخ والعجزة الكبار، وهذا يُؤكِّد أنها بدل عسكرية، وعلى كل حال جزية الرؤوس تُسمى جزية، وأما الجزية المضروبة على الأرض لا تُسمى في المُصطلَح جزية، ويُمكِن طبعاً أن تُسمى جزية، وسماها بعضهم جزية، هي جزية الأرض، ولكن بعد ذلك جرى الاصطلاح على أن تُسمى بالخراج، فيُمكِن أن يكون وقع الصلح حين فُتِحت هذه الأرض صلحاً وليس حرباً بالسيف والقوة على أن الأرض تبقى لهم ويدفعون خراجها، إذن الخراج لنا والأرض لهم، في هذه الحالة يُمكِن يا إخواني أن يُحدِثوا فيها ما يحتاجون إليه من دور العبادة، لأن الأرض لهم، أي على أساس أن هنا يوُجَد منطق، وهو أن الأرض لهم، بما أنها لهم فإذن يُمكِن أن يبتنوا فيها ما تمس حاجتهم إليه من دور عبادتهم.
في حالة أُخرى يُمكِن أن يكون وقع الصلح على العكس، أن الأرض لنا يا إخواني، أن الأرض لنا وليست لهم، لكن أيضاً حتى وهي لنا يُمكِن أن نُبقيها، يزرعونها ويدفعون أيضاً ضريبة، فهنا اختلف الوضع، اختلف الوضع! كيف؟ ما الحُكم إذن؟ إذا كانت الأرض لنا وليست لهم فهل يجوز لهم أن يبنوا فيها معابد أم لا يجوز؟
هذا ما سنُجيب عنه – بحول الله تبارك وتعالى ومنّه -، ولكن بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.
وقفنا عند مسألة إذا وقع الصلح على أن الأرض للمُسلِمين، ليست لأهل الأرض الأصليين، والجزية عليهم، في هذه الحالة ماذا؟ قال السادة الفقهاء مسألة بناء المعابد بحسب ما وقع عليه الصلح، إن شرط لهم الإمام أن لهم أن يبنوا معابدهم فلهم، وإن اشترط عليهم ألا يبنوا فليس لهم أن يبنوا، إذن وفق ما يقع عليه الصلح، في أي حالة؟ في حالة إذا كان الصلح وقع على أن الأرض للمُسلِمين والجزية عليهم.
وهناك حالة ثالثة أيضاً في الأرض التي فُتِحت – أي الأمصار التي فُتِحت – صلحاً، وهي حالة أنها فُتِحت صلحاً مُطلَقاً، وقع الصلح عليها بالمُطلَق، ما معنى بالمُطلَق؟ غير مُقيَّد، لم يُذكَر في وثيقة الصلح أن الأرض لهم – مثلاً – أو الأرض لنا، لم يُذكَر هذا، وسُكِت عن هذه المسألة، فما الحُكم في هذه الحالة؟ ما الحُكم في هذه الحالة؟
الجماهير – جماهير الفقهاء، باستثناء المالكية – قالوا ليس لهم أن يبنوا معابد جديدة فيها، المالكية خالفوا، قالوا هذه البلد التي فُتِحت صلحاً – والصلح مُطلَق، والصلح مُطلَق غير مُقيَّد بكون الأرض لنا أو لهم – إذا كان مَن فيها ليس من المُسلِمين – أي ليس فيها أحد من المُسلِمين، كلها على دين آخر – أو غالبية مَن فيها كذلك فيجوز لهم في هذه الحالة أن يُحدِثوا معابد، أما ما وُجِد من معابد قديمة فيها – ما وُجِد فيها من معابد قديمة، التي فُتِحت بالصلح المُطلَق – فالجمهور على أنها تبقى، لا يجب هدمها، للأسف السادة الشافعية قالوا وحتى هذه يُمنَع من إبقائها معابد، عجيب! كأنهم قالوا يجب هدمها، أو – أقل من ذلك – تبقى ولكن لا يُتعبَّد فيها، تُتخَذ لأي شيئ آخر، تُتخَذ لأي وظيفة أُخرى، هذا رأي الشافعية، تشدَّدوا في هذه المسألة.
الآن قبل أن ننتقل إلى مسألة القُرى وقد فرغنا من مسألة الأمصار – التي مصَّرها المُسلِمون، التي فتحوها عنوةً، والتي فتحوها صلحاً – وفيها ثلاثة تفريعات أتساءل ما الفرق بين الأمصار التي فُتِحت عنوةً والتي فُتِحت صلحاً؟ أنتم رأيتم، مَن الأشد؟ الأشد أن تُفتَح عنوةً، تشدَّد الفقهاء، قالوا لا يجوز لهم أن يُحدِثوا فيها أي معبد، هذا انتهى، لأن الفقهاء رأوا أن التي فُتِحت عنوةً صارت ملكاً للمُسلِمين، قالوا هذه أرضنا وبلادنا، فلا نسمح لهم أن يُحدِثوا فيها معبداً لهم، أما التي فُتِحت صلحاً فشأنها يختلف، وبلا شك فتح أي بلد صُلحاً يُجنِّبة المُسلِمين مزيد سقوط شهداء وضحايا، فهذا أسهل بكثير وأفضل للمُسلِمين، تُفتَح دون أن نُواصِل القتال أو نستمر في القتال، وهذه الحالة طبعاً أقل من حالة ما فُتِح عنوةً أو قوةً، فكأن ملك المُسلِمين منقوص لها، فتكون بحسب ما وقع من وجوه الصلح، هل الأرض لهم؟ هل الأرض لنا؟ أو هل هو صلح مُطلَق؟
فنأتي الآن إلى القُرى يا إخواني، انتهينا من المُدن – أي الأمصار – وسنأتي إلى القُرى، الجمهور على أنه يجوز لهم – أي لغير المُسلِمين – أن يُحدِثوا ما شاءوا من المعابد في قُراهم، إلا الشافعية مرةً أُخرى، أتوا وتشدَّدوا وقالوا حتى في القُرى، حتى في القُرى – أي التي فتحها المُسلِمون – لا يجوز لهم أن يُحدِثوا فيها معابد لهم.
السادة الحنفية اختلفوا، فالعلاء الكاساني – رحمة الله تعالى عليه – قال لا يُمنَعون من إحداثها، شمس الأئمة السرخسي – صاحب المبسوط – قال بشرط، لا يُمنَعون من إحداث دور عبادة في القُرى بشرط أن يكونوا هم الأكثر، يكون المُسلِمون أقلية، والأكثر من أهل الذمة، فيجوز! هل هذا واضح؟
إذن إذا كان أكثر سكانها ذميين فيجوز لهم أن يُحدِثوا هذا، أما إذا كان الأكثر مُسلِمينفلا يجوز أن يُحدِثوا هذا، حتى لو كان قرية، وصححه العلّامة محمد الأمين بن عابدين، صاحب الحاشية المشهورة، الشيخ الجليل – رحمة الله تعالى عليه – قال هذا هو الصحيح في المذهب.
إذن فرغنا الآن من استعراض الأقوال في هذه المسألة، وواضح أنها أقوال كثيرة وتفريعات وتفصيلات وتقسيمات، قصة! قصة طويلة، لكن ما الأدلة؟ هل هناك أدلة على هذه التقسيمات والتفصيلات والأحكام والتفريقات؟ لا تُوجَد أدلة، لا تُوجَد أدلة على المسألة أصلاً يا إخواني، كيف لا تُوجَد أدلة والعلماء لهم كُتب ورسائل جمَّعوا فيها الأحاديث والأخبار والآثار؟! كله ضعيف، العلماء يقولون ثبِّت العرش ثم انقش، لابد في البداية أن نُؤسِّس على أساس قوي، والأساس القوي هو الأدلة النصية، أي قال الله، وقال رسول الله، وليس بين أيدينا دليل يشهد إلى شيئ مما ذهبوا إليه في هذه التقسيمات والتفريعات والأحكام المُختلِفة، التي بنوها وفرَّعوها على تقسيماتهم وتفريقاتهم.
طبعاً كما قلت لكم – وذكرت هذا الآن للتو – هناك أحاديث أو هناك أخبار وهناك آثار عن الصحابة، لكن هذه الأخبار في الجُملة قسمان: قسم منها صريح، صريح بماذا؟ صريح بالمنع، أنه لا يجوز وممنوع ولا يُحدِثوا ولا يبنوا، ولكنها ضعيفة، أي الآن المضمون واضح، ويقول نعم، تمنع، لكن هل هي أحاديث صحيحة؟ هل صحَّحها العلماء؟ هل ثبتت عن رسول الله؟ لا، ولا حديث واحد منها صح عن رسول الله حتى نستند إليه، والقسم الآخر العكس، قسم صحيح، أحاديث صحيحة، لكنها ليست في موضع النزاع، لا تتحدَّث عن موضوعنا، تتحدَّث عن شيئ أخص منه كثيراً، إذن هناك قسم آخر، أحاديث صحيحة، غير صريحة، والقسم الأول أحاديث صريحة، لكنها غير صحيحة، وبهذا يجد الفقيه نفسه في ساحة وسيعة، يُمكِن أن يتخيَّر من الرأي ومن وجوه الرأي في هذه المسألة ما يتفق مع الاتجاه العام للإسلام، ومع الروح السائد الشائع المبثوث في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وهو روح التسامح، وروح نفي الإكراه، وروح تأكيد حريات الضمير والاعتقاد والعبادة للمُسلِمين وغير المُسلِمين، هذا هو الروح السائد في كتاب الله – تبارك وتعالى -، فيجد الفقيه نفسه عنده مندوحة، وهو في سعة – بإذن الله تبارك وتعالى -، أن ينزع هذا المنزع دون تحرج، دون تحرج أو تأثم، لا يشعر لا بحرج ولا بإثم، كأنه خالف الله وخالف رسول الله!
فأُريد أن أقص عليكم أو أذكر لكم بعض هذه الأخبار والآثار التي رووها وذكروها في كُتبهم واحتجوا بها في المسألة، وليس فيها موضع للاحتجاج، ليست تصلح للاحتجاج! منها الحديث الذي رواه أبو الشيخ بن حبان – يُوجَد عندنا أبو حاتم بن حبان، ويُوجَد عندنا أبو الشيخ، فهذا مُختلِف – عن أنس مرفوعاً، أي قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – اهدموا الصوامع واهدموا البيع، هناك الإمام تقي الدين، عليّ بن عبد الكافي، أبو الحسن السُبكي – رحمة الله تعالى عليه -، هذا الإمام الجليل يُقال بلغ رُتبة الاجتهاد في المذهب الشافعي في وقته – رحمة الله تعالى عليه -، وعنده رسالة، رسالة في ترميم الكنائس، مَن أحب أن يقف عليها يُمكِن أن يعود إليها في مجموه فتاواه، وفتاواه طُبِعت في مُجلَّدين، وهو مُشتمِل أو مُشتمِلة – أي هذه الفتاوى – على هذه الرسالة في ترميم الكنائس، قال هذا الخبر ضعيف، ثم بيَّن وجه الضعف فيه، خبر ضعيف! من جهة الإسناد لا يصح، ولو صح أن النبي يقول اهدموا الصوامع واهدموا البيع لكان حُجة في هدمها كلها، يقول الإمام التقي السُبكي لو صح هذا الخبر لكان حُجة في ماذا؟ حُجة ليس في التفريق بين ما بُنيَ قبل الفتح وما بُنيَ بعد الفتح وما إلى ذلك أبداً أبداً! وإنما لكان حُجة في هدمها كلها، ما بُنيَ قبل وما بُنيَ بعد، انتهى! يمنع تماماً، هذا ممنوع، لا تبقى دار عبادة لغير المُسلِمين في أرض فيها مُسلِمون، أي فتحها المُسلِمون ولهم سُلطة عليها، لكن – بحمد الله – الحديث غير صحيح، وطبعاً – كما قلنا قُبيل قليل – مُخالِف لاتجاه الإسلام العام، مُخالِف لروح القرآن قولاً واحداً كما سيبدو لكم – إن شاء الله – في آخر الحلقة.
عن عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تُحدِثوا كنيسة في الإسلام، وطبعاً هذا غريب، حتى الصياغة فيها كلام، قال لا تُحدِثوا، والمُسلِم لا يُحدِث كنيسة، الكنيسة يبنيها النصراني – مثلاً -، لكنه قال لكم لا، هذا مجاز، والمقصود لا تسمحوا بإحداث كنيسة، مُمكِن! لا تسمحوا بإحداث كنيسة، فخاطب المُسلِمين كأنه يقول لهم امنعوا غير المُسلِمين أو امنعوا النصارى أن يُحدِثوا كنائس في الإسلام، لا تُحدِثوا كنيسةً في الإسلام، ولا تُجدِّدوا ما ذهب منها، أي هذا مُفصَّل تفصيلاً، فالذي قال هذا الخبر أو وضعه أو نسبه إلى رسول الله – سُبحان الله – فصَّله على قد – أي على قدر – الغرض، هكذا هو المطلوب، ممنوع أن تُبتنى كنائس جديدة، والذي يرث ويؤول بحُكم الزمن والتقادم إلى السقوط ويتداعى المفروض ألا يُجدَّد، أي لابد أن نتركه حتى ينهدم، فما هذا؟ تأليف هذا، وواضح أنه مُؤلَّف هذا، مُؤلَّف بطريقة – كما قلنا – تخدم الأغراض.
هذا الحديث أيضاً رواه أبو الشيخ بن حبان، وعلى كل حال أبو الشيخ – صاحب كتاب العظمة وعنده كُتب أخرى في الترغيب والترهيب – عموماً ليس من مظان الصحيح، كُتبه في العموم مثل مُسنَد الفردوس وتاريخ ابن عساكر ليست من مظان الصحيح، ولا من مظان الأحاديث المقبولة، عامة ما فيها ضعيف، عامة ما فيها أحاديث ضعيفة! ومن طريقه بسنده رواه الإمام التقي السُبكي في الرسالة المُنوَّه بها قُبيل قليل، وتكلَّم السُبكي على إسناده وأن تصحيفاً مُعيَّناً في اسم أحد الرواة – ابن بشار هذا، أي عُبيد بن بشار – وقع، وقع فيه هذا، ثم نقل بعد ذلك عن الإمام ابن عدي، وكتاب ابن عدي مطبوع وموجود وهو الكامل، الكامل في الضعفاء، الإمام ابن عدي الجرجاني ذكر هذا الحديث ووسمه بالضعف، قال فيه سعيد بن سنان، ضعَّفه الأكثرون، وهذا الحديث أيضاً اخرجه الديلمي في مُسنَد الفردوس وأبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق، وكما قلت لكم ليس من مظان الأحاديث المقبولة.
وهناك أثر ثالث أو خبر في الحقيقة ثالث عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يرويه ابن عباس، ماذا يقول الرسول؟ لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة، لا خصاء في الإسلام، فما معنى لا خصاء؟ والمقصود هنا خصاء الرجال، ليس خصاء البهائم وكذا، خصاء الرجال! لأن الذين كانوا يترهبنون كانوا يختصون، والنبي نهى عن الاختصاء في الإسلام، لأنه لا رهبانية في الإسلام، لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة، هذا أخرجه الإمام أبو عُبيد القاسم بن سلام – صاحب كتاب الأموال – في الأموال، كما أخرجه أيضاً الإمام ابن عدي في الكامل في الضعفاء، وأعله بالرجل ذاته، أي سعيد بن سنان، المذكور في الحديث الذي قبله، وقال سعيد بن سنان هذا ضعَّفه أحمد وابن معين، وقال ابن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ.
إذن فالحديث ضعيف، ومِمَن ضعَّفه أيضاً الإمام أبو بكر البيهقي – رحمة الله تعالى عليه – في السُنن الكُبرى، رواه وضعَّفه، يعلم أنه خبر ضعيف، ومِمَن ضعَّفه الإمام الجليل أبو الحسن بن القطّان، صاحب كتاب بيان الوهم والإيهام، وأعله بعلل، وقال فيه من الضعفاء غير سعيد بن سنان محمد بن جامع، أبو عبد الله العطّار، وسعيد بن عبد الجبّار، وهو متروك، فالحديث واضح أنه لا يصح بأي طريق ولا بأي سبيل.
وهناك أيضاً حديث آخر، عن ابن عباس، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تكون قبلتان في بلد واحد، وهذا الحديث رواه أبو داود في السُنن والإمام الترمذي، وسبق إلى تخريجه الإمام أحمد بن حنبل، لكن بلفظ لا تصلح قبلتان في بلد واحد، قال لا تصلح قبلتان! غريب جداً، مع أن في مسجد رسول الله صلى النصارى إلى قبلتهم، ولم يُصلوا إلى قبلتنا، أي هل صلح هذا في مسجد رسول الله في حين أنه لا تصلح قبلتان في بلد واسع كبير؟ من أين؟ مُحال أن نبي الرحمة قال هذا، مُحال أن الرسول قال هذا الحديث، لكن هكذا للأسف هناك أخبار – كما قلنا – تخدم نزعات مُعيَّنة، نزعات إقصائية ونزعات هيمنية، وهذا أضر بالمُسلِمين.
الآن بعض الناس يسمع كلامي هذا وربما يشمئز أو يقشعر بدنه منه، كيف تقول هذا؟ هذه أحاديث! يا أخي أحاديث ضعيفة، وبالحري هي مكذوبة أيضاً على رسول الله، ليست فقط ضعيفة، ومكذوبة! هذه أكاذيب وكلام فارغ مُخالِفة لروح الإسلام، هذه أضرت بنا، أضرت بخُطة القرآن نفسها وبخُطة القرآن ذاتها في إدارة الاجتماع الديني، كان يُمكِن أن تُجنِّبنا الكثير من المشاكل – أي هذه الخُطة – لو أننا سرنا فيها، لكننا تركنا الجادة وتركنا الصراط المُستقيم وأخذنا بهذه الأخبار والآثار، وأخرج فلان وذكر فلان وعن فلان وعن هيان بن بيان، واغتررنا! وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، وعجيب أن العلماء إلى اليوم تقريباً يأخذون بهذه الأشياء ويأخذون بالأحكام التي بناها واشتقها الأئمة والفقهاء بناءً على هذه الأخبار والآثار دون أن يُراجِعوا أمرها، ودون أن يقولوا العلماء أنفسهم بيَّنوا ضعفها، إذن فلِمَ لا نأخذ بها؟ لِمَ لا نعود إليها؟ لا! الإنسان عموماً يا إخواني للأسف الشديد – وواضح أن الإنسان عموماً هكذا – يبدو أنه كائن غير مُتسامِح، لا يميل إلى التسامح بطبعه، التسامح يحتاج إلى مجهود، لابد أن نُشيع ثقافة التسامح ونتكلَّم عن التسامح ونُبدئ ونُعيد في التسامح.
قد يقول لي أحدهم نعم، هذا لأنك مُتسامِح مع النصارى، واضح أنك مُتسامِح، تعقد لي حلقة كاملة عن بناء الكنائس، فتسامح مع المُسلِمين! بالعكس يا أخي، نحن مُتسامِحون مع الدنيا كلها والله، وأكثر ما نطلبه من تسامح مع أنفسنا كمُسلِمين، ونُحارِب الاتجاهات التعصبية والإرهابية والتطرفية والتكفيرية والتبديعية والتشريكية والحصرية أبداً، نُريد التسامح للجميع، لكن أصحاب النظرة الضيقة والتعصبية لا يُحِبون منطق التسامح، يكفرون به، يرونه كأنه عكس الإسلام يا إخواني، مما يُوحي بأن الإسلام الذي فهموه هو إسلام تعصبي، إسلام مُغلَق، إسلام كاره للآخر، وحتى كاره لنفسه، لأن المُشكِلة أنك لا تجد مُتعصِّباً يقتصر أو يقف في تعصبه عند حدود التعصب ضد غير المُسلِمين، مُستحيل! وأنا أستطيع أن أحلف على هذا يا إخواني، مُستحيل! المُتعصِّب – أنا أقول لكم – مُتعصِّب ضد الكل، إلا إزاء مَن؟ وحيال مَن؟ حيال مَن يتطابق معه، هكذا كما تتطابق الكفان، تماماً! بلا زيادة وبلا نقصان، مَن يتطابق معه تماماً هو يرى أنه طيب، هذا طيب، هذا جيد، هذا (عال العال)، تمام ولا تُوجَد مُشكِلة، أما الذي يختلف معه ولو قيد أُنملة – قيد أُنملة، هذه الأُنملة! أي بقدر أُنملة هكذا – فشأنه مُختلِف، هذا يختلف تماماً، ويبدأ الآن يُطل التعصب بقرونه، يبدأ يُطل التعصب بقرونه! ومن هنا الآن أكثر مَن يُعاني مِن تعصب بعض المُتديِّنين وبعض المُسلِمين هم المُسلِمون أنفسهم، المُسلِمون هم أكثر مَن يُعاني، وهم ضحايا والله لهذا التعصب يا إخواني، فنحتاج إلى التسامح، نحتاج إلى أقدار زائدة من التسامح، نحتاج أن نُعيد النظر في هذه الثقافة، التي جعلتنا نتآكل ولا نتكامل، نتفانى ولا ندعو إلى حياة ولا إلى بناء وإنجاز وعمار يا إخواني، الله المُستعان – إن شاء الله -، هدانا الله جميعاً إلى ما يُحِبه ويرضاه.
إذن هذا الحديث – كما قلت لكم – أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد في مُسنَده، لكن بلفظ لا تصلح قبلتان في أرض واحدة، وليس على المُسلِمين جزية، غريب جداً! وليس على المُسلِمين جزية، وأصلاً متى كانت على المُسلِم جزية؟ فواضح أن الذي كذب هذا الكذب ووضع هذا الحديث وضعه لكي يرد على طواغيت بني أُمية، الذين فرضوا الجزية على مَن أسلم مِن أهل الكتاب ومِن غير أهل الكتاب، فطبعاً قال لكم سنُؤلِّف حديثاً لكي نُحارِب به هذه النزعة اللعينة، كيف مُسلِم يدفع جزية؟ وإلا لماذا؟ ما الذي لز وما الذي اضطر النبي إلى أن يقول ليس على المُسلِمين جزية؟ فهل المُسلِم يدفع جزية؟ غير معقول، واضح أن هذه أشياء مكذوبة، هذه أشياء مكذوبة لكن يُعالِجون بها جانباً، ويُسيئون بها في جانب آخر، أي يُسيئون إلى أهل الكتاب وإلى أهل الذمة، ويُحاوِلون أن يُحسِنوا إلى إخوانهم المُسلِمين، وليس على المُسلِمين جزية، لكن لا تصلح قبلتان في أرض واحدة.
هذا الحديث قال فيه مُحقِّق مُسنَد أحمد بن حنبل الشيخ المرحوم شُعيب الأرناؤوط، قال هذا الحديث ضعيف، ضعَّفه! إسناده ضعيف، إذن حتى هذا الحديث لا يصح، ولدينا أثر عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، ماذا يقول ابن عباس؟ ويكثر دوران هذا الأثر في كُتب الفقه، تجدونه هنا وهناك في كُتب الفقه، أيما مصر – وفهمتم ما معنى المصر الآن – مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً، أهذا حديث نبوي؟ هل النبي يتحدَّث بهذه اللُغة؟ ولُغة تفصيلية تقييدية، تقييد بحبال! ممنوع لا هذا ولا هذا ولا هذا ولا هذا، عجيب! وبعد ذلك نجد أئمة مثل الإمام أبي محمد بن حزم – رحمة الله تعالى عليه – يقول لكم الآتي عن مُسلِم أراق لنصراني خمراً، أي كسر له قارورة خمر، أو أتلف له مالاً مُحرَّماً في دين المُسلِم، لكنه حلال في دين النصراني، كالخنزير، وقد ذكر الخنزير، إذا قتلت خنزيراً له أو كسرت له قارورة خمر يجب أن تُعوِّضه عما أتلفت من ماله، لأن هذا المال مُتقوَّم، مال مُحترَم في حق هذا النصراني، في حقك أنت مال مُحرَّم، في حقك أنت! لكن هذا مال مُتقوَّم، فإذا أفسدت خمره أو قتلت خنزيره يجب أن تُعوِّضه عنه، يجب أن تُعوِّضه عنه! هذا مضمون – أي مال مضمون – عند ابن حزم، وهذا الصحيح، هذه سماحة الإسلام، لكن لا تقل لي أيما مصر مصَّرته العرب لم يجز فيه للعجم كذا وكذا، أي حتى هذا معمول على قد ماذا؟ على قد النزعة الشعوبية، أي هم عجم ونحن عرب، لا! النبي لا يتكلَّم بهذا، النبي يتكلَّم بلُغة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، النبي يتكلَّم بلُغة بلال منا أهل البيت، صُهيب منا أهل البيت، وسلمان منا أهل البيت، أي سلمان الفارسي، وهكذا! ليس عنده لُغة عرب وعجم، فالمسألة لم تُصغ هنا حتى صياغة عقدية، صيغة صياغة ماذا؟ عرقية، تعصب عرقي الآن! أيما مصر فتحته العرب، لكن العرب فيهم نصارى وفيهم يهود وفيهم مُسلِمون، فكيف هذا؟ لكنهم قالوا لكم لا، يقصد بالعرب المُسلِمين، هكذا! يقصد بالعرب المُسلِمين، نزعة عروبية، ضد النزعة الشعوبية، روّاد الشعوبية طبعاً وأعلام الشعوبية هم من الأعاجم، فأيما مصر مصَّرته العرب لم يجز فيه للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً، قال الشيخ الألباني – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه إرواء الغليل ضعيف، نسبوه إلى أحمد في المُسنَد، وقال لم أره في المُسنَد، على كل حال ورواه أبو عُبيد القاسم بن سلام في الأموال، والبيهقي في الكُبرى، لكن الشيخ الألباني حكم بضعف هذا، وحري أو أحري به أن يكون ضعيفاً، وواضح أنه ضعيف، بل واضح أنه مكذوب.
الآن ننتقل قبل أن يُدرِكنا الوقت – أحبتي في الله – إلى الحديث الصحيح، لكنه ليس بالصريح، يُوجَد حديث صحيح، لكنه ليس صريحاً في الغرض، ما هو الغرض؟ حُكم بناء المعابد في البلاد التي فتحها المُسلِمون، سواء فتحوها عنوةً أو صلحاً أو مصَّروها، فمصَّروها هذه غير فتوحها، هذه أمصار مصَّرها المُسلِمون، قالوا لكم هناك حديث صحيح عن رسول الله، ماذا قال؟ قال أخرجوا المُشرِكين من جزيرة العرب، أخرجوا المُشرِكين من جزيرة العرب! حديث في البخاري ومُسلِم، حديث صحيح، لا يُترَك دينان في جزيرة العرب، هذا حديث رواه الإمام أحمد في المُسنَد، وتقريباً مقبول، صحيح لغيره، الأول في الصحيحين، وهذا في المُسنَد، وهو صحيح لغيره، لا يُترَك دينان في جزيرة العرب! لكن هذان الحديثان وأمثالهما – لهما أمثال، نفس المعنى – ليسا في موضع النزاع، لا يتحدَّثنا عن المسألة، المسألة أوسع بكثير من جزيرة العرب، نتحدَّث عن كل الأراضي التي فيها – كما قلنا – سُلطان للمُسلِمين، هذا هو موضع النزاع، وليس جزيرة العرب فقط، ثم إن جزيرة العرب مُختلَف أيضاً في تحديدها، تُطلَق على ماذا؟ الإمام الشافعي كان من رأيه – رحمة الله تعالى عليه – أن جزيرة العرب تعني فقط الحجاز، أي مكة والمدينة واليمامة، دون ما سواها، كاليمن – مثلاً -، قال لكم لا، لا يدخل في جزيرة العرب، جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة، مكة والمدينة واليمامة وأعمال اليمامة، أي ما حولها، دون سائر ما يُعرَف بأنه من جزيرة العرب، فهذا حُكم خاص بجزيرة العرب لو أخذنا به، وطبعاً هذه المسألة حتى تحتاج إلى نقاش، وفيها نقاش، ولكن نترك هذه المسائل الآن، الكلام فيما عدا جزيرة العرب، فكيف اتخذتم هذين الخبرين دليلاً وحُجةً احتججتم بهما في مسألة بناء المعابد في ديار الإسلام كلها؟ شيئ غريب جداً، هذا شيئ غريب ولا نستوعبه.
ولذلك – إخواني وأخواتي – بعض المُعاصِرين – بحمد الله تبارك وتعالى – سلك طريقاً وسطاً، خيراً من هذه الطريق التي تقريباً سلكها أرباب المذاهب المتبوعة المشهورة، منهم العلّامة الكبير الفقيه عبد الكريم زيدان، الذي تُوفيَ إلى رحمة الله قبل أسابيع يسيرة – رحمة الله عليه رحمة واسعة، وجزاه الله عن الأمة وعن العلم الشرعي خير ما جزى عالماً عاملاً، وطيَّب الله ثراه -، العلّامة عبد الكريم زيدان في رسالته للدكتوراة – اسمها أحكام الذميين والمُستأمَنين والمُعاهَدين – جنح إلى رأي الزيدية الذي تلوته على مسامعكم، الزيدية قالوا يجوز في الأمصار التي مصَّرها المُسلِمون، يجوز لغير المُسلِمين أن يتخذوا دوراً للعبادة، لكن بشرط أن يأذن لهم الإمام في ذلك، ورجَّح رأي المالكية الذي ذكرناه في موضع آخر، المُهِم بشكل عام كان مُتسامِحاً أكثر من الاتجاه، وطبعاً استدل بأشياء، استدل بأشياء منها أدلة، نعم أنت تقول هذا دليل عقلي، لكن هذا دليل عقلي مُستنِد إلى النقل، مُستنِد إلى كتاب الله، قال العلّامة زيدان من البعيد جداً بل من غير المعقول والمقبول أن الإسلام يُقِرهم على عقائدهم، لأن الخوف في ماذا؟ ما الذي نُنكِره نحن أكثر؟ ما الأهم دائماً: العمل أو الاعتقاد؟ الاعتقاد هو أهم شيئ، فيا أخي الإسلام أقرهم على عقائدهم، أي النصارى يقولون – مثلاً – بالتثليث، يقولون بالفداء – بالكفارة وبالفداء -، ويقولون بأن عيسى ابن الله وبأن عيسى كذا وكذا، والإسلام قال هذا دينهم، نحن نتركهم وما دانوا، إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۩، حسابهم في الآخرة، ليس علينا ولا إلينا، انتهى! إذن إذا الإسلام أقرهم على ذلك فكيف نأتي نحن الآن ونقول ليس لهم الحق في اتخاذ دور عبادة؟!
للأسف أدركنا الوقت، لكن قبل أن أمضي لابد أن أُذكِّر يا إخواني بالآية الجليلة من سورة الحج، قال الله – تبارك وتعالى – وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ۩… هذه الآية فيها مذهبان مشهوران من مذاهب التفسير، رجَّح الإمام العلّامة ابن قيم الجوزية مذهب الحسن البِصري، قال وهو الرواية عن ابن عباس، وهو ظاهر لفظ الآية، وليس فيه ما يُنكَر، وليس فيه ما يُرَد، ماذا تقول الآية؟ تقول كما قال الحسن البِصري يدفع الله – تبارك وتعالى – عن مُتعبَّدات – أي معابد – غير المُسلِمين بالمُؤمِنين، لأن المُؤمِنين يُجاهِدون يا إخواني لكي يضمنوا لغير المُسلِمين حرية أن تكون لهم دور عبادة وأن يتعبَّدوا فيها موفورين آمنين سالمين.
لا يُوجَد بعد ذلك من تسامح، ولا يُوجَد بعد ذلك يا إخواني من عظمة وسعة صدر، هذا الذي رجَّحه الإمام ابن قيم الجوزية، وقال هو ظاهر الآية، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
إلى أن ألقاكم في حلقة جديدة من (آفاق) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أضف تعليق