إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ * لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخواني وأخواتي/
لا زلنا مع قضية الحق؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *. اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ *، أكّد هذا المعنى الذي هو أعظم الحقانيات وأعظم الحق وأهم الحق وأحق الحق، بضمير الفصل؛ هُوَ الْحَقُّ *، ولم يقل ذلك بأن الله الحق، وإنما هُوَ الْحَقُّ *.
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ *، أكّد بطلانه، بطلان كل ما يُدعا من دون الله تبارك وتعالى، يُدعا على أي نحو! يُدعا على نحو الخالقية والربوبية، على نحو الإلهية، على نحو التدبير المُستقل، على نحو الفاعلية المُستقلة، السببية العلية المُستقلة تماما، كل هذا بطلان مُبين، هُوَ الْبَاطِلُ *، أكّده مرة أخرى بضمير الفصل.
أحبتي؛ إخوتي وأخواتي/
قضية الحق والباطل قضية لعلها أعظم ما عُنيَ به الإنسان في قديم أزمانه وفي حديثها على سواء! الإنسان ليس مخلوقا ليأكل ويشرب ثم يمضي، الإنسان مخلوق مُتساءل بطبعه، بتكوينه، عن المعنى، عن الدلالة، عن الغاية، عن المغزى. هو يسأل! حتى الذين يُلحدون في الله تبارك وتعالى، إنما ألحدوا؛ لأنهم فتحوا هذا الباب؛ باب التساؤل. لم يقنعوا بأن يأكلوا ويشربوا ويتناسلوا، ثم يمضوا! لم يقنعوا بهذا، إنما أيضا ولجوا هذا الباب، هذا الباب الخطير، هذا الباب المُهم للغاية، ولا أهم!
لكن ما هو معيار الحق؟ كيف نعرف أن أمرا ما، أن شيئا ما، هو حق؟ ربما يكون باطلا! وربما ما يُزعم باطلا يكون هو الحق بعينه! كيف؟ ما هو معيار الحق؟
بعض الإخوة الأفاضل الأحباب، كتب تعليقا على الخُطبة الماضية، وجُزء عظيم منها يتعلق بالحقانية، يتعلق بالحقانية وتفسيرها! كتب نقلا عن أحد الأفاضل – رحمه الله تعالى – الحق هو المُتمتع بوجود موضوعي خارج الذهن الإنساني، والباطل ما ليس كذلك. المسألة ليست بهذه البساطة، هذا معيار بسيط جدا جدا، يُعتبر معيار الواقعية الساذجة، ال Naïve realism! هذه هي الواقعية الساذجة.
وهذه هي الواقعية الساذجة التي يصدر عنها عوام الناس في كل زمان ومكان. هم يحسبون أن ما له استقلال عيني، استقلال وجودي، عن إدراك المُدرك، عن ذهن الإنسان العاقل، هو الحق. طبعا يتناوله الذهن أو لا يتناوله؟ هذه مسألة ثانية! إن تناولها، بها ونعمت، صار مُدرَكا للإنسان، دخل في حيز ماذا؟ مُدركات الإنسان، لكنه حق. وإن لم يتناوله، يبقى حقا، تناولناه أم لم نتناوله.
كم هي الأشياء الآن التي يعج بها الوجود ويضج، ولم نكتشفها إلا قُبيل زمن يسير! أشياء كثيرة جدا جدا. مثلا أنواع القوى في الوجود، أنواع القوى مُكتشفة في العصر الحديث! القوى الكهربية، الكهرومغناطيسية، قوى الجاذبية، قوى النووية الضعيفة، قوى النووية القوية. وهذه هي القوى الأربعة الحاكمة في الكون. هذه لم تُكتشف إلا في العصر الحديث، على النحو الذي نعلم، بالوصف العلمي الدقيق.
هل كانت قبل ذلك معدومة؟ أبدا، موجودة! موجودة من أزمان، قبل خلق الإنسان، قبل وجود الإنسان ودبه على هذه الأرض. أما أن الإدراك الإنساني تناولها وحصّلها وأصابها مُتأخرا، فهذا أمر لا يؤثر على حقانيتها! لكن هل هذا هو المعيار الوحيد أو المعيار الأفضل لتعيير الحقائق، لتمييز الحق من الباطل؟ المسألة ليست بهذه البساطة!
في الحقيقة شئت ورغبت، بل وجدتني مدفوعا مُضطرا ملزوزا، أن أتابع الكلام في الخطبة الماضية؛ لأني وجدت الموضوع شديد الحساسية، مع كونه شديد الأهمية! يتعلق بإيمان المؤمن، كما يتعلق بإلحاد الملاحدة، وشك الشكوكيين، ولاأدرية اللاأدريين؛ لأن هناك من الناس مَن يقف بين البينين كما يُقال، مَن يقف بين البينين! أي يُعلق الحكم، Suspension of judgment كما يُقال! يُعلق الحكم، يقول الأدلة تقريبا مُتكافئة لدي! أو الأمر بحد ذاته غير قابل لأن يُبت فيه. ليس من أجل فقط تكافؤ الأدلة، الأمر بطبيعته غير قابل. وهذا نوع من السفسطة، وهو نوع أيضا من الشكوكية، ال Skepticism.
على كل حال لدينا اللاأدريون، لدينا الشكوكيون، لدينا السفسطائيون، لدينا الملاحدة. المُلحد يشترك مع المؤمن تقريبا في الجزمية؛ كلاهما جازم، Dogmatic، كلاهما جازم، قطعي؛ المؤمن يقطع بوجود الذات الإلهية – اللهم ثبتنا على الإيمان بك، وزدنا إيمانا وتبصرا وتنورا وتنويرا ويقينا ورسوخا في الإيمان، بحق لا إله إلا الله -، والمُلحد – والعياذ بالله تبارك وتعالى – جازم بالعكس؛ بأنه لا إله! جازم، أو قريب من الجزم؛ لأن المُلحد العاقل يقول لك لا أجزم، ولكن أرجح. والنسبة طبعا مُتفاوتة بين مُلحد وآخر، بلا تبرير، تتفاوت بلا تتبرير، هي هكذا! لأن هناك تشوشا.
(ولولا – كما تعلمون، وأقول هذا بين مُزدوجين – أن الإلحاد انبعق في هذه السنوات الأخيرة – والعياذ بالله – وانبعث انبعاثا مجنونا مهوّسا لما طوّلنا بذكره والعرض له، هذا نوع من الاستسماح، هذا نوع من الاستسماح منكم وممن يُتابع هذه الخُطبة؛ لأنني على دراية بما ستُلفون من صعوبات بسبب غموض كثير من المُصطلحات والمعاني وعدم اتساع المقام والبين لشرحها وإيضاحها، أيها الإخوة، وأيضا للتركيز وكثرة المفاهيم وتلاحقها وارتباطها ببعضها البعض، وطبيعة الموضوع فلسفية! طبيعة الموضوع! ولا تخافوا ولا ترهبوا من كلمة فلسفة وفلسفية، كل بمعنى أو بآخر نُمارس الفلسفة، شئنا أم أبينا! حتى الذين يُعادونها ويُجافونها ويُحادونها، كما أشار أرسطو Aristotle، شيخ الفلاسفة، من قبل، لا يتيسر لهم هذه المُجافاة والمُعاداة، إلا بماذا؟ بضرب من ضروب التفلسف. لا بد أن يتفلسف!)
لكن الذي لاحظناه للأسف الشديد أن الملاحدة العلميين الجُدد، وهم ملاحدة مُناضلون – إن جاز التعبير -، أي Militant، يُصرحون ليل نهار بمُعادتهم للفلسفة. هم يُبغضونها جدا، ويكرهونها. تستفزهم! وهذا لا بد أن نقف عنده قليلا ثم نمضي.
ستيفن هوكينج Stephen Hawking في كتابه الأخير الذي أثار ضجة حول العالم؛ التصميم العظيم، في الفصل الأول تحدث عن موت الفلسفة. وهذا الكلام غير صحيح بالمرة! وهو إذ يتحدث عن موتها ويُبرر موتها، كان يتفلسف، لكن فلسفة ضعيفة وضحلة، كان فيلسوفا ضعيفا جدا وضحلا، لا يدري ماذا يقول للأسف في هذا الباب، على عكسه عالما، على عكسه عالما وفيزيائيا عظيما بلا شك.
أيضا ريتشارد دوكنز Richard Dawkins، وله تسجيلات كثيرة، فضلا عن كُتبه، لا يُوافق إطلاقا على إدخال الفلسفة ساحة الحوار. يقول أنا لا أقبل بهذا، هذه فلسفة! بماذا تُناقش؟ يقول أُناقش بالعلم. غير صحيح، هذا كذب على العلم والفلسفة جميعا. كما نقول دائما العلم من حيث هو ليس موقفا ميتافيزيقيا أبدا، ولا يُمكن له أن يكون، من حيث هو! لكن يُمكن أن يتحول إلى موقف ميتافيزيقي فلسفي وإيماني، وربما يكون جزميا – Dogmatic، أيها الإخوة – إذا اتُخذ كمُقدمة صُغرى في قياس كُبراه تكون مُحصّلة من ذي قبل، والآن يأتي الحد الأوسط ليُثبت الكُبرى للصُغرى، ثم نستخلص نتيجة ما. هذا ما يفعله كل العلماء الذين يتحدثون باسم العلم في قضايا ميتافيزيقية، وخاصة في قضية وجود الله أو عدم وجود الله سبحانه وتعالى. إذن لا بد لك من الفلسفة.
لكن بالله لماذا يكرهون الفلسفة؟ ولماذا تستفزهم الفلسفة؟ لأنهم يعلمون أنه بمُجرد اللجوء إلى الفلسفة، سيظهر عوارهم، وسيضح مدى ضحالة استدلالاتهم واستنتاجاتهم، وسيضح المدى الذي يتورطون فيه من التناقض والتعارض الذاتي. كلامهم كما يُقال يُبطل بعضه بعضا، يدحض بعضه بعضا، Self destructive يُقال، هكذا! يُدمر نفسه بنفسه. ولذلك هم يكرهون الفلسفة، على أنهم يتفلسفون، دون أن يعوا. وأنت مُضطر إن قبلت بهذا المنطق الناقص الأعوج، مُضطر أن تنتهي إلى ما يُريدون منك أن تنتهي إليه، من توال ونتائج. وليس هكذا يكون النقاش العلمي والفكري، ليس هكذا يكون النقاش العلمي والفكري!
إذن موضوعنا هذا، أيها الإخوة، كما قلت من أهم الموضوعات، بل إن بعض الفلاسفة جزم من قديم، أنه ينبغي أن يكون مُقدمة البحث الفلسفي، الباب الأول التصديري في الفلسفة، أول ما تبدأ به، أن تبحث في هذا الموضوع! موضوع ماذا؟ موضوع المعرفة، مصادر المعرفة، معايير المعرفة، أدوات المعرفة، ووسائل المعرفة، وأولا وقبل كل شيء إمكان المعرفة! حتى نتخلص من كل شوائب السفسطة والشكوكية واللاأدرية، لا بد أن نطرح سؤال إمكان المعرفة؛ هل العقل الإنساني مبني، مُكون، أو مؤهل – إذا لم تُحب كلمة مبني وكلمة مُكون – لأن يُصيب المعرفة بالخارج؟ هل هو مؤهل، هل هو لائق، هل هو مُستعد، أن يُصيب المعرفة بالخارج، بالوقائع الخارجية؟
وأيضا لكي لا يفوتني، أريد أن أعلق هذه المُلاحظة؛ الفرق الدقيق بين الحقيقة والحق والواقع، فرق مُهم على فكرة. أنت لا تُصيب في الخارج حقائق، الحقائق من عمل الذهن. الخارج فيه وقائع، فيه وقائع! وقائع! أما الحق أو الحقيقة، فهو وصف لماذا؟ لما ينتهي إليه الذهن باتصاله بالخارج، عبر تعاطيه والخارج، عبر بحثه في الخارج. ينتهي! ينتهي إلى تقرير ماذا؟ قضايا، أحكام مُعينة، إثباتية أو نافية سلبية. واضح؟ الآن ما ينتهي إليه الذهن، قد يكون في زعم صاحبه حقائق، وقد يكون في زعم مَن يُعارضه أباطيل وأضاليل.
فيأتي السؤال الأهم إذن بعد ذلك؛ معايير المعرفة ما هي؟ تُسمى معايير، ملاكات، مناطات المعرفة! ما معيارها؟ مقاييس، Standards. كيف نُميز الحقيقة؟ كيف نعرف أن هذه حقيقة أو أضلولة، حقيقة أو أكذوبة، صدق أو كذب، صدق أو باطل، أو صحيح أو باطل؟ كيف نميز؟ كيف نعرف الحق من الباطل؟
المؤمن يجزم بأن الله موجود، لا إله إلا هو! الله يقول ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ *. والمؤمن يُصادق على هذا. هل يستطيع أن يُناقش مؤمن في هذا فلسفيا عقليا وأن يُثبت هذا؟ طبعا بلا شك! وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ *. واضح أن العقل مؤهل أن يفعل، واضح أن العقل مؤهل. الله يُعلمنا هذا! أن العقل، ملكة العقل، مؤهلة أن تفعل. لديها اللياقة والاستعداد والقابلية والكفاءة والأهلية، أن تحكم في هكذا قضايا، أن يقول العقل نعم، الله موجود، وهذا هو البرهان، النبوة حق، وهذا هو البرهان. وهكذا! في هذه المعاد، اليوم الآخر حق، وهذا هو البرهان. لكن أهم ما يهمنا الآن ماذا؟ قضية وجود الله مثلا تبارك وتعالى، أم القضايا، أهم القضايا على الإطلاق.
إذن يأتي سؤال معايير، مقاييس، مناطات، ملاكات، المعرفة! ما هي؟ كيف نُميز؟ كيف نُميز الحق من الباطل في قضايا المعرفة؟ في قضايا المعرفة التي يتحصّل عليها الذهن الإنساني بوسائل التحصل المختلفة، هذا باب آخر في الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، يُعرف بماذا؟ بأدوات ووسائل المعرفة. مصادر المعرفة أيضا لها ارتباط كبير جدا! البعض يقول المصادر هي الحس فقط. كالتجريبيين المُغاليين في التجريبية! الحس وليس أي شيء آخر وراء الحس. البعض يقول لا، الحس والعقل. العقل له دخالة، مُدخلية كبيرة. والحس بغير عقل، لا يكاد يُفيدك شيئا، يُعطيك مُدخلات مُشوشة، مُبعثرة، غير مُتناسقة، غير مُترابطة، لا يتحصّل منها شيء، لا يتحصّل منها شيء! تغدوا معها وبها وحدها، أشبه بآلة تسجيل! كاميرا Camera، تُسجل صورا، أو تُسجل أصواتا، فقط! لكن لا تستطيع ماذا؟ أن تُرتب أي شيء على أي شيء، ولا أن تنتزع أي شيء من أي شيء، ولا أن تستنتج أي شيء من أي شيء. وهذا سيضح بعد قليل، لكن في إبانه – إن شاء الله تبارك وتعالى -.
إذن هي قضية المعرفة، وقضية ملاكات المعرفة! أهم شيء يجب أن نتطرق إليه في خُطبة اليوم – بإذن الله تبارك وتعالى -. إذن وضعنا خارطة طريق كما يُقال لموضوعنا؛ حتى نكون على بيّنة. قبل أن أتطرق إلى المقاييس، أو أشهر المقاييس، عبر التاريخ، التي توصل إليها الذهن الإنساني، كمقاييس لتمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، في قضايا المعرفة، أحب أن أشير إشارة عجلى سريعة، إلى أن المعارف البشرية، الإدراكات، المُدركات البشرية، عمل الذهن البشري، ينقسم إلى قسمين؛ تصورات، وتصديقات. كل ما في الذهن هنا؛ تصورات، وتصديقات، ليس أكثر من هذا!
التصورات هي الإدراكات الساذجة، أي الإدراكات البسيطة، مثل تصوري وتصورك مثلا للحائط، للجبل، للشجر، للإله، للشيطان، للجمال، للقبح، للحب، للكره، للكاميرا Camera، للإنسان، للمنبر، للجلوس، للقعود، للاستماع، للخطبة، للخطيب، للصلاة. مفاهيم ساذجة، وهي بسيطة، وقد تكون مفاهيم مُركبة، على أنها مُركبة من ماذا؟ من المفاهيم البسيطة. بحر ماء. بحر زئبق. هذا غير موجود، لكن أتصور! هل حكمت أن بحر الزئبق موجود؟ لا، لم أحكم، لكن تصورت. بالخيال بحر زئبق مثلا! جبل من ذهب، قلعة من ياقوت! قلعة من ياقوت؛ غير موجودة، لكن قلعة وياقوت، موجودان. مفهوم القلعة، ومفهوم الياقوت. هذا – انتبهوا – ليس تصديقا، هذا ليس تصديقا! هذه أيضا تصورات، هذه تصورات! تصور قلعة وحدها؛ تصور بسيط ساذج. تصور ياقوت؛ تصور بسيط ساذج. قلعة ياقوت، قلعة من ياقوت؛ تصور مُركب، من ماذا؟ أيضا من تصورين ساذجين، وليس تصديقا.
إذن ما هو التصديق؟ نعم، خُطوة مُتقدمة! بعد ذلك إذا جاء الذهن، أقبل على هذه التصورات؛ بسيطة أو مُركبة، فأسند أو أضاف أو حكم عليها بحُكم؛ سلبا أو إيجابا، فقال تُوجد قلعة من ذهب. يزعم هذا! والناس يقولون هذا باطل، هذا كذب، أين؟ أثبت هذا، ما وسيلة الإثبات؟ ما البرهان على ذلك؟ لكن هو قال تُوجد قلعة من ذهب. إذن هو حمل الوجود على ماذا؟ على الموضوع. ما هو الموضوع؟ قلعة من ذهب. إذن قلعة من ذهب موجودة، تُوجد قلعة من ذهب. وهذا الحُكم ماذا؟ حُكم بالإثبات، حُكم إيجابي. لا تُوجد – رددنا عليه وقلنا لا تُوجد – قلعة من ذهب، لا وجود لقلعة من ذهب. حكمنا عليه بماذا – على الموضوع، وهو قلعة من ذهب -؟ بحُكم سالب ناف. هذا تصديق، وهذا تصديق. لكن هذا مُثبت، وهذا ماذا؟ ناف. هذا هو التصديق!
كل المعارف البشرية؛ تصورات، وتصديقات. كل ما في ذهننا، ليس أكثر من هذا، جميل! وتقول كيف عرفنا هذا؟ بالعقل. سُبحان مَن أعطانا العقل! الآن ما مصدر التصورات؟ ثم ما مصدر التصديقات؟ مسألة مُهمة. طبعا لن أشرحها، فقط أنا سأشير كما قلت لكم؛ لأنني أريد أن أضع خارطة طريق فقط؛ حتى تكونوا على هدى وعلى بيّنة من هذا الموضوع المُهم للغاية.
اختلافات كبيرة طبعا بين الفلاسفة في القديم والحديث، منهم مَن قال مصدر التصورات بنوعيها الحس، والحس فقط! عن طريق الحس. تقول لي هذا مُعترض بتصورات كثيرة ليس لها ما بالإزاء. أي ليس لها مصاديق، ليس لها مصاديق حسية! أليس كذلك؟ هناك أشياء كثيرة لا تُنال بالحس، على أننا نُصدق بها، أو على أننا على الأقل ننطوي عليها، موجودة في أذهاننا، أليس كذلك؟ أشياء كثيرة جدا! ولا تُنال بالحس.
الحسيون قالوا المصدر هو ماذا؟ الحس. المصدر هو الحس! أفلاطون Plato عنده نظرية مشهورة جدا، اسمها النظرية الاستذكارية. يقول لك كل هذه المفاهيم التصورية، مأخوذة من عالم المُثل. لن أشرح هذا، عودوا إليه، ستفهموا ما هو عالم المُثل، الذي يُوجد فيه حقائق الأشياء، مُثل الأشياء التامة الكاملة. أما المصاديق الموجودة في عالمنا، فهي ظلال وأشباح، لتلك ماذا؟ المُثل التامة الكاملة. باختصار! وتلك المُثل التامة الكاملة كانت الروح أو النفس الإنسانية تُطالعها، وكانت عالمة بها، لكن لما جاءت النفس وركبت هذا البدن، حصل لها نوع من الصدمة Shock، فنسيت كل شيء. أفلاطون Plato! نظرية ميتافيزيقية عجيبة وخيالية! أي فيها شيء خيالي، ومن الصعب جدا إثباتها، هو حاول أن يثبتها، ولذلك لم تلق قبولا كبيرا، خاصة في القرون الأخيرة النقدية. اسمها نظرية الاستذكار.
هناك نظرية لدى الفلسفة الإسلامية، تُسمى نظرية الانتزاع. وهي التي نميل إليها. الذهن ينتزع هذه المفاهيم، نعم من مُدخلات حسية بلا شك، الحس له بداية، لكن على كل حال يا إخواني، أنا سأقول وجهة نظر، وربما أكون مُخطئا فيها أو غالطا، لكن احفظوها، وحاولوا أيضا أن تُغنوها وأن تُثروها بالدرس والبحث والتفحص.
القرآن الكريم يقول وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا *، لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا *! شَيْئًا * نكرة في سياق النفي. القاعدة الأصولية تقول النكرة في سياق النفي ماذا؟ تعم. في علم أصول الفقه؛ النكرة في سياق النفي تعم. أي تعم كل شيء. أي لا معلومات تصورية، ولا معلومات ماذا؟ تصديقية. لا تصديقات، ولا تصورات. أي هذه يُسمونها ماذا؟ التابولا راسا Tabula rasa. باللاتيني التابولا راسا Tabula rasa، أي ال Blank slate، الصفحة البيضاء. نحن جئنا كصفحة بيضاء! بعض الإلهيين من المُسلمين وغير المُسلمين، لا يقبلون بهذه النظرية، ويقشعرون منها؛ أعوذ بالله، هذه تؤيد الحسية، تؤيد التجريبيين الحسيين الماديين، هذه تقود إلى الإلحاد. يا أخي ظاهر كتاب الله، الله يقول هذا.
لكن انتبهوا طبعا، هذا ليس كل ما في البين. القضية تحتاج إلى نوع من الإلفات والإيقاظ. يُمكن أن نقبل أن الإنسان فعلا يلج هذا العالم، بغير أي معلومات، لا تصورية ولا تصديقية، على ظاهر كتاب الله تبارك وتعالى. يُمكن أن نقبل بهذا، ويُمكن أن نقبل أن البداية الأولى تكون ماذا؟ من الحسيات، من الأشياء المحسوسة المُعطاة في الخارج. لكن هذا وحده إلى الآن غير كفيل أن نحكم على الذهن الإنساني وعلى العقل الإنساني بأنه ماذا؟ بأنه مادي بحت، وابن المادة، وموقوف على ومرهون ومشروط بالمادة. فنُصبح ماديين، ونقترب من الإلحاد. أبدا! لماذا؟
لأننا ندّعي – هذه مسألة مُهمة جدا، ومُتوسطة الآن – أن العقل مبني مُركب، باللُغة الدينية مخلوق مُقدّر مصنوع، على نحو عجيب جدا جدا ومُدهش! يجعله يتعامل مع هذه المُدخلات الحسية، بطريقة لا يبقى – بهذه الطريقة لا يبقى – معها مرهونا ومشروطا ومُقيدا، بماذا؟ بالمُدخلات الحسية. يتعامل معها بطريقة، بحيث يعلو بها إلى أشياء مُختلقة تماما، لا يُمكن لآلة مُنفعلة سلبية، لأي حاسوب مثلا، لأي كاميرا Camera، أن تفعل مثله. والحاسوب طبعا أحد مصنوعات العقل الإنساني.
ولعلي هنا أتمثل بفرانسيس بيكون Francis Bacon، وأشير إلى تمثيله المشهور اللطيف؛ بيكون Bacon صوّر الفلاسفة التجريبيين، المُغرقين في الحسية والتجريبية، بماذا؟ بالنمل. النمل ماذا يفعل؟ أي النمال – النمال أو النمل – ماذا تفعل؟ تأتي بغذائها، كما هو، جاهز، مُجهّز، كامل، تام! ثم تُخزنه إلى وقت استهلاكه، فقط! كذلك التجريبي يظن ماذا؟ أنني آخذ الحس، مواد خام كما هي، قليل جدا من العمل، وتنتهي القضية. لا، هذا الكلام غير صحيح. العقل لا يشتغل على هذا النحو، العقل ليس نملة. هذا عقل الفيلسوف التجريبي، وهو عقل ضحل وبسيط.
هناك العنكبوت. العنكبوت نسيجه من مادته، يُخرجها من جوفه. ثم ماذا؟ ثم يعيش ضمن هذا النسيج، وينصبه لأعدائه، ويرتفق عبر هذا النسيج. يقول هذا هو الفيلسوف العقلاني الميتافيزيقي. الذي تقريبا صلته بالواقع الخارجي ضعيفة جدا جدا، ومُعظم أفكاره من ذهنه، وهو طبعا غير مُتعاطف مع العقليين بهذا المعنى، هو غير مُتعاطف مع العقلية العنكبوتية.
تبقى عقلية ماذا؟ النحل. عجيب! على فكرة، والقرآن الكريم فيه طبعا سورة النحل، وفيه سورة النمل، وفيه سورة العنكبوت. ذكرت لكم مرة، ولا أكاد أنسى هذا، وقرأت هذا حين كنت غلاما صغيرا، للعالم البريطاني الموسوعي جيكيب أو جاكوب Jacob أو يعقوب برونوفسكي Bronowski! يعقوب برونوفسكي Jacob Bronowski يقول ثبت في علم الحيوان، وبالذات في علم الحشرات، أن أعقد الحشرات غرائز على الإطلاق، ثلاث حشرات؛ النحل، والنمل، والعنكبوت. وهذا ليس له علاقة بالقرآن، لا قرأ القرآن، ولا يدريه. هذه حقيقة في علم الحشرات! أعقد الحشرات غرائز – حشرات مُعقدة جدا جدا جدا، مُتطورة – هذه الثلاثة.
فرانسيس بيكون Francis Bacon، دون أن ندري أيضا، مثّل بهذه ماذا؟ الثلاثة. شيء غريب! بالنحل، بالنمل، بالعنكبوت. يقول الفيلسوف الذي أرتضيه وأشجع وأبارك عمله وسعيه ومسعاه، هو مثله كمثل النحلة. نعم، وأنا أُمثّل العقل بقدرته الإبداعية الخلّاقية العجيبة الفاعلة – خلّاقية نعم -، بماذا؟ بالنحلة.
النحلة تأخذ ماذا؟ الرحيق من الأزهار والأوراد. أليس كذلك؟ ثم تُحيله بطريقة فذة مُعجبة، إلى العسل الشراب المُختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس. العسل شيء، والرحيق شيء آخر، أليس كذلك؟ كذلك العقل الإنساني، يأخذ المُدخلات الحسية، ثم يُعالجها على نحو مُختلف. ستقول لي كيف يتم هذا؟ سُبحان مَن خلق هذا العقل! وهذا ليس مُصادرة على المطلوب، حتى المُلحد عليه أن يُذعن بأن العقل لديه هذه الأهلية! أنه يتعامل مع مُدخلات الحس، بحيث أنه يُشكّل منها ثلاثة أنواع ورُتب من المفاهيم.
سنشرح الأنواع الثلاثة للمفاهيم، وهي مُندرجة تحت نوعين؛ مفاهيم حقيقية، وهي المفاهيم الأولى الماهوية، ومفاهيم عقلية اعتبارية، وهي نوعان: مفاهيم ثانية فلسفية، ومفاهيم ثانية منطقية. وسنُميّز بين هذه الأنواع، وسوف – أي كما يُقال – نقف وسوف نلمس خلّاقية العقل، التي لا يُمكن أن تُبررها مُجرد صلة انفعالية بمُدخلات الحس، أبدا! إذا جاز لأي آلة، أو لأي حيوان غير الإنسان، أن يفعل هذا، فإذن جاز للعقل أن يفعل هذا.
ستقول لي هذا من أثر ماذا؟ التفسير الذي أرتضيه وأطمئن إليه وينشرح به صدري، أن هذا أثر وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *. ولذلك دائما كما تسمعون وكما تعلمون هناك تضخم الدماغ الإنساني، تضخم الدماغ الإنساني بالقدر الذي لا يُفسر بالانتخاب الطبيعي، وهذه نُقطة ضعف عظيمة جدا في الانتخاب الدارويني، من أيام داروين Darwin! هذا التضخم الكبير، القرآن العظيم يُعطينا إشارة أنه كان ماذا؟ بإرادة إلهية مُباشرة. الله أراد هذا، لم يترك الأمر هنا لماذا؟ للانتخاب الطبيعي الأعمى وحده. أبدا! أي الله قال هنا ستكون انعطافة مصيرية. ولذلك حين أخبر الملائكة؛ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً *، وضح من سياق الآيات أن هذا الخليفة خلف مَن كان قبله، وواضح أنه سيخلف ماذا؟ سيخلف أفرادا من ماذا؟ من نوع مُسانخ. لن يخلف حيوانات أو أشياء أخرى، أكيد بشر أيضا، هم بشريون. فالملائكة قالت؛ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ *؛ لأنهم جربوا ورأوا، ورأوا! قال لا، الآن مع هذا الخلق الآدمي الموضوع سيختلف. سأحدث تسوية! أي وتعديلا. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *، وفي قراءة فَعَدَّلَكَ *. Modification، باصطلاح داروين Darwin؛ Modification، تعديل! الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *.
قال سأحدث تسوية. وأيضا؛ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي *. الله! وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *. الآن جاء آدم، أبونا، العاقل العاقل، الهومو سابينس سابينس Homo sapiens sapiens. هذا العاقل العاقل هو المُكوِّن للمعقولات. تُسمى المعقولات أو المفاهيم الكُلية، التي تنقسم كما قلت لكم إلى حقيقية، واعتبارية. والاعتبارية نوعان. وهذا ما لا يقدر عليه أي حيوان، إلا الإنسان، بفضل وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي *.
أي إشارات القرآن ليست مُجرد إشارات عادية، انتبهوا! وهذه الإشارات غير خليقة حقيقة ولا يليق بها أن تُفسّر أدبيا ومجازيا وبلاغيا، لا بد أن تُفسّر بمُستويات عالية من الفهم العلمي والفلسفي.
واسمحوا لي أيضا، وأرجو ألا يحز هذا ربما في نفوس بعض الإخوة والأحباب حول العالم! بعض الناس يتساءل ما حاجتنا إلى هكذا تعقيد؟ لماذا تُعقّدون المسائل؟ يا حبيبي، يا أخي، يا عزيزي، هذا بالنسبة إليك؛ لأنك ربما لا تطرح السؤال، أنت لا تُعاني، لكن بالنسبة للذين يُعانون، وربما يُعانون على مدى خمس وعشر سنوات، بالنسبة للذين انتهى بهم الأمر إلى الإلحاد وترك الدين والكفر – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، هذه قضايا مُهمة، وأكثر من مُهمة، تهمهم أكثر من حياتهم ذاتها، واضح؟ ولذلك هم يحتاجونها، ويحتاجون أن يتعمقوها.
أعتقد أي واحد منا يا إخواني – ونسأل الله العفو والعافية لنا جميعا ولكل الناس – إذا لم يكن مُصابا مثلا بالسكر (مرض السكر)، فستكون معلوماته جد ضئيلة، جد منزورة عن السكر. بمُجرد أن يلوح السكر في الأفق، سُبحان الله! تعال إليه بعد ستة أشهر، خبير! أحسن من بعض الأطباء غير المُختصين! يعلم أشياء كثيرة. الموضوع أصبح يهمه، وهذا ماذا؟ له علاقة بالصحة، جانب من الصحة. كيف بشيء له علاقة بالأبد، بحياتك الأبدية، بمصيرك الأبدي؟ فلا تقل لي ماذا؟ لا نُريد التعقيد. لا، الموضوع أحيانا يتطلب، و؛ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ *، نعم!
ولذلك رحمة الله على الفيلسوف والسياسي المُسلم العظيم علي عزت بيغوفيتش Alija Izetbegović حين قال يسمع الجواب، مَن طرح السؤال. مَن لم يطرح السؤال، لم يُكابد مُعاناة البحث والسؤال، هو أصلا لن يهتم بالجواب. وحين يسمعه، كأنه لم يسمعه أصلا، لن يستفيد منه! لكن سيستفيد منه كل أحد بمقدار ما عانى من ماذا؟ عُمق السؤال، ضجيج السؤال، إتعاب السؤال، إلحاح السؤال، تشوش السؤال. أليس كذلك؟ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ *.
ولذلك قليلا من التواضع، لنكن مُتواضعين، ولنكن حكماء. من مواصفات ومن نعوت الحكماء أنهم لا يتخذون أنفسهم معيارا ومقياسا للوجود والعالم. إذن في المُقابل ماذا – أكرمكم الله وأعزكم -؟ الحماقة. الحماقة – صاحبها والعياذ بالله، حاشاكم حمقا! حاشاكم والحُمق! وزودنا الله وإياكم بالحكمة والعقل التام والنور المُبين – الأحمق يظن أن ما يهمه، يهم العالم، وأن ما لا يهمه، لا أهمية له، بالمُطلق! حُمق هذا! الأحمق ما يُعنى به، ما يراه، يظن أن العالم كله يراه، وينبغي أن يراه، وأن ما لا يراه، ينبغي أن يعمى عنه العالم. هذا حُمق!
الحكيم – سُبحان الله، هذا الحكيم يا إخواني – غير مُنحبس في ذاته، غير مُنحبس في جلده، عنده القدرة على التحليق، وبقدار ما يعلو، يُحلّق، فيتسع المشهد، يُدرك سياقات الآخرين، إكراهات الآخرين، اضطرارات الآخرين، مُعاناة الآخرين، شروط الآخرين، مشروطية الآخرين. ويأخذ هذا كله في اعتباره، أليس كذلك؟
بعض الناس يُرسل لك رسالة، إن لم تُجبه في ظرف أربع وعشرين ساعة، يُرسل لك علامة استفهام! يُهينك، أي أين أنت؟ ماذا تفعل أيها المُتغطرس؟ علامات الاستفهام رسالة مؤلمة، يقول لك يا مُتغطرس، أين أنت مني؟ يا رجل، أما فكرت لحظة، أن هذا الذي تُراسله، ربما يُتابعه عشرات أو مئات ألوف الناس؟ أما قلت لنفسك لحظة كم عساه يتلقى في كل ساعة من رسائل المسكين هذا؟ أما قلت لنفسك هذا الرجل لعله مُتأهل مُزوج؟ كم عنده من الأبناء؟ كم الفارق بينهم، بين أسنانهم؟ كم المشاكل التي يتوجب عليه مُجابهتها؟ هذا هو الحكيم! الحكيم يُحاول أن يُدرك الناس في سياقاتهم.
من الحكمة أيضا ألا تزدري وألا تستخف وألا تحتقر وألا تُبخّس الموضوعات التي لا تهمك والموضوعات التي لا تُعاني منها، بالعكس! من الحكمة أن تُحاول تنمية اهتمام، تنمية شغف، مُستفزية، بموضوعات كثيرة، عقلك سيقول لك هي بحد ذاتها يبدو أنها مُهمة. سأتسلح، بمُتاخمتها الآن، حتى إن جاء حينها، ودقت ساعتها، كان لدي رصيد منها. حكمة! هذه الحكمة إذا تسلح بها شاب صغير، بخصوص ماذا؟ الزوجية، وعلاقة الأزواج، وتربية الأبناء. فسيكون زوجا موفقا، وسيكون أبا ناجحا. والعكس صحيح، إن لم يتسلح بها، وكان يقول لك أنا شاب عازب، لا يهمني، ماذا أريد من خُطبة ومُحاضرة عن علاقة الأزواج ولُغة المرأة ولُغة الرجل؟ عما قليل ستتزوج يا حبيبي – زوّج الله كل شبابنا وشاباتنا -، عما قليل تتزوج، والله تحتاج، والله تحتاج هذا! أليس كذلك؟ ستحتاج هذا. هذا من الحكمة؛ لأن الحكمة لها على فكرة آفاق كثيرة جدا جدا، رزقني الله وإياكم.
نعود إلى ما كنا فيه أحبتي. إذن كنا في اختلاف الفلاسفة والمُفكرين والعلماء، في قضية ماذا؟ مصادر التصورات، ومصادر التصديقات. مصادر التصورات، بعضهم قال الحس، والحس وحده. وواضح أن هذا مذهب ماذا؟ مُتهافت جدا. ثم بعضهم قال مصادرها – أيها الإخوة قلت في النظرة الإسلامية – الانتزاعية، مفهوم الانتزاع! العقل هو الذي يتصرف ماذا؟ في المحسوسات. ثم عرّجت على نُقطة مُهمة جدا جدا، وقلت لكم لا علينا، لا معرة، لا معرة على المُسلم، إن قبل نظرية بعض الفلاسفة، الذين أصروا على أن الحس هو المُموّن الأول والرئيس للذهن الإنساني والعقل الإنساني بالمواد الخام. نقبل هذا! الله يقول وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا *.
إذن يا رب كيف حصل العلم بعد ذلك؟ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ *. العقل هنا، هذا! هذا الفؤاد بمعنى العقل الفلسفي، القادر على تكوين المفاهيم المُعقدة جدا. وقلنا طبعا إننا هنا نستحب ونُحبذ التشبيه البيكوني! أن العقل – سُبحان الله – ليس كآلة مُنفعلة، ليس كحاسوب مُنفعل، ليس ككاميرا Camera لاقطة أو جهاز تسجيل، لا! العقل مثل النحلة، حتى ليس مثل العنكبوت، ولا مثل النملة، هو مثل النحلة. يأخذ هذه المُدخلات الحسية، وبطريقة إبداعية خلّاقية – سُبحان مَن خلقه وركبه – عجيبة، يُخرج منها أشياء، عجيب! أهم المفاهيم العقلية، ليس لها مصاديق خارجية، عجيب! غير موجودة، في الخارج غير موجود. إذن فمن أين تحصلت عليها؟ تحصلت عليها كيف؟ والخارج منشأ انتزاعها، وليس مُنتزَعها، لكن منشأ انتزاعها. وفرق كبير، في المحاضرة بعد الصلاة سأشرح هذا أيضا، هذا مُهم جدا جدا.
هذه لم تُنتزع من الخارج، لكن الخارج منشأ لانتزاعها، عجيب! فرق كبير بين المقامين، فانتبهوا، فلسفة! ثم بعد ذلك، الذهن قام بماذا؟ بانتزاعها. وبهذه المفاهيم استطاع العقل أن يفهم الواقع. ليس فقط فلسفة، حتى العلم، حتى نيوتن Newton وأينشتاين Einstein والعلم في كل مجالاته، يقوم على هذه المفاهيم، ما رأيكم؟ تقول لي عجيب! هذا تحد كبير، أنت تدري ماذا تقول يا رجل؟ نعم، أدري تماما ماذا أقول. المُلحد طبعا سيهتز، المادي المُغرق في التجريبية والحسية سيهتز! لأنهم لا يُحبون هذه الأشياء كما قلت لكم، يُجافونها.
نقول له أبسط مفهوم – وسنعود إليه – العلية. هل هناك علم بغير علم؟ سبب! أي Cause and effect، سبب ومُسبَّب. يُوجد؟ أبدا. لا يُوجد فهم أصلا بغير علية، لا يُوجد فهم بغير ماذا؟ علية. لا يُوجد! أي نوع من الفهم لا يُوجد بغير ماذا؟ علية. العلية أرني إياها في الخارج. لا يُوجد والله، والله لو نمكث إلى يوم الدين، لا يُمكن لأحد أن يُشير إليها ويقول لك هذه هي العلية. مُستحيل! لا تُوجد علية. العلية مفهوم فلسفي ثان، موجود في الذهن. سأشرح هذا كما قلت – إن شاء الله – في درس ما بعد العصر. الذهن يفعل هذا!
السؤال الآن؛ كيف تمتع الذهن بهذه اللياقة، بهذه الخلّاقية، بهذه القدرة؟ قلت وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *، لم نعد حيوانات انفعالية، أبدا! لم نعد ماذا؟ أشباه آلات ذكية. لا! صرنا بشرا، وعقلنا هذا العظيم، الذي له علاقة طبعا وتعالق واعتلاق بالدماغ الكبير، وقلت إن الدماغ الكبير هذا لا يُفسر بالانتخاب الطبيعي. لماذا إذن؟ واحد يقول لك كيف عرفت أنه لا يُفسر؟ طبعا لأن الانتخاب الطبيعي يشتغل على طريقة ماذا؟ Step by step، Schritt für Schritt، خطوة خطوة، خطوة خطوة. على أي أساس؟ كيف نستبقي الأشياء؟ منطق ماذا؟ الانتخاب الطبيعي. كل ما يخدم التكيف والبقاء ال Survival، يُستبقى. نعم، التحدي أن ثُلث هذا الدماغ يكفي للبقاء، بدليل الشمبانزي Chimpanzee. الشمبانزي Chimpanzee عنده ثُلث هذا الدماغ، ومن سبعة ملايين سنة موجود! ناجح أو غير ناجح؟ من أنجح الحيوانات. من أنجح الرئيسات ال Primates، من أنجح الثدييات. وعنده أربعمائة وخمسون سي سي cc. نحن عندنا ألف وثلاثمائة وخمسون سي سي ccتقريبا، أكثر من ثلاثة أضعاف. شيء غريب! لماذا؟ لا نحتاج هذا للبقاء! لكن العجيب هذا الدماغ نحتاجه للفن، للموسيقى، للميتافيزيكس Metaphysics، لسؤال الله؛ هل يُوجد الله؟ هل لا يُوجد الله؟ الآخرة، الملائكة، النبوة، الحياة الأُخرى، الخلود، النفس، البقاء، التجرد، المادية، العلية. هذا الكلام، هذه الخُطبة، نحتاجها! الشمبانزي Chimpanzee لا يُمكن أن يخطب هذه الخُطبة، لا يُمكن أن يفهمها، لا يُمكن أن يستوعبها. نحن نفعل.
هذه القضية ليست قضية مادية، ليست قضية تطور وانتخاب طبيعي. ومن هنا الواضع رقم اثنان للنظرية، وعلى قدم سواء مع تشارلز داروين Charles Darwin، مُباشرة قطع مع صديقه تشارلز داروين Charles Darwin، وانعطف نحو الروح، وإلى أن لقي الله تبارك وتعالى، صار مُهتما بقضية الروح والنفس، وهو ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace، الواضع الثاني للنظرية، في نفس الوقت. واستنبط، وقال لك لا! العقل بهذا الحجم يا تشارلز Charles – قال له – لا يُفسره الانتخاب. وداروين Darwin أدرك هذا، قال له أرجوك، لا تقتل طفلي وطفلك. قال له لا، الحقيقة أهم، لماذا أخدع الناس أنا؟ داروين Darwin لم يُحب. هذا يقضي على ماذا؟ على التوظيف المادي للنظرية، ودعمها طبعا من وراء وراء للإلحاد واللاأدرية. طريقة راسل Russel تُدخل مَن؟ تُدخل العمل الروحي، ربنا عز وجل. يُوجد شيء هنا مُراد لله، تُوجد عناية إلهية. لا تقل لي إن الله ليس له علاقة. لا، له علاقة، وأعطاك شيئا الانتخاب لا يُفسره. ولذلك هذا العقل الضخم، هو الذي يُفسر مثل هذه الخُطبة.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما وفقها في الدين ورشدا. اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أخرانا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راض عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين. رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا *. اللهم مَن أحييته منا، فأحيه على سُنة محمد، ومَن أمته منا، فأمته على مِلة محمد، صلى الله تعالى وسلم وبارك على محمد وآل محمد، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وخير ما جزى رسولا في رسالته. آمين، اللهم آمين.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، اذكروا الله، يذكركم. واشكروه، يزدكم، وقوموا إلى صلاتكم، يرحمني ويرحمكم الله.
(31/12/2021)
أضف تعليق