دائمًا تتردد هذه الإجابة النموذجية عندما نواجه موقفًا لا نعرف إن كان تصرفنا فيه حلالًا أم حرامًا، وهي إجابة صارت من المسلمات فهذا الشيخ أو رجل الدين هو العالم المتخصص في الأمور الدينية، وهو حتمًا من سيبدد حيرتي بشأن هذه الأمور، إذن فنحن بحاجة إليه تمامًا كحاجتنا إلى الطبيب المتخصص الذي نذهب إليه إذا شكونا من ألم ما حتى يداوينا. بناءً على وجهة النظر هذه، فالدين يصير علمًا لا يخوض فيه إلا المختصون مثله مثل الطب. لكن هل وجهة النظر هذه صحيحة؟ بالتأكيد بعض رجال الدين يعتقدون هذا كما يرد دائمًا في لقاءاتهم ومناظراتهم، وبما أن شهادة هؤلاء قد تكون مجروحة لأسباب واضحة، فدعونا نضع هذا الاعتقاد تحت مجهر التحليل، وكي نفعل ذلك علينا أن نعرّف أولًا ما هو العلم.
إذا فتحنا أي قاموس نجد أن تعريف كلمة «علم» باختصار هو: المعرفة المستنبطة عن طريق التجربة والملاحظة، وهذا بالتأكيد ينطبق على العلوم الأساسية كالأحياء والفيزياء والكيمياء، وأيضًا على العلوم التطبيقية كالطب والهندسة وغيرها، ولأن التجربة هي شرط أساسي لهذه العلوم فيمكننا أن نطلق عليها اسم «العلوم التجريبية».
بالطبع ليست كل المعرفة مأخوذة من العلوم التجريبية، فهناك نوع آخر من المعرفة مبني على الملاحظة فقط، ولا يمكن تجربته كالمعرفة الاقتصادية أوالاجتماعية أوالسياسية أو التاريخية وهذه المجالات يطلق عليها اسم «العلوم الإنسانية»، وعلى الرغم من أنه حتى هذه العلوم تحاول أن تتشبه أكثر فأكثر بالعلوم التجريبية بإجراء تجارب على نماذج محدودة، إلا أن الجانب الأكبر من هذه العلوم ما زال بعيدًا عن التجربة.
أين يترك هذا الدين؟ بالتأكيد يمكننا أن ندرج الدين تحت المجموعة الثانية من العلوم، وليس الأولى كما يحاول البعض إيهامنا، فالدين بطبيعته لا يمكن تجربته أو قياسه، وشتان الفارق بين المجموعتين، فأنت لا تحتاج إلى الاستعانة بمتخصص لإدارة أمورك الاقتصادية أو للقيام بتحليل سياسي، فالفطرة والمنطق والاضطلاع يلعبون جزءًا كبيرًا في مثل هذه العلوم، من الناحية الأخرى فلا يمكن أن تعالج نفسك أو تبني برجًا معتمدًا على معرفتك الفطرية أو المبنية على المنطق والاضطلاع فقط، بل عليك أن تكون دارسًا متخصصًا أجريت العديد من التجارب بنفسك مستخدمًا أدوات معقدة. نستخلص من هذا أن الدين ليس علمًا بالمعنى الذي يروج له بعض رجال الدين، بل إن فطرتك كافية لممارسته دون الحاجة إلى دراسة خاصة أو سؤال آخرين.
الآن وبعد أن تناولنا الجانب التعريفي المنطقي فلنتناول النصوص الدينية ونرى إن كان فيها ما يلزمنا بسؤال رجل الدين عن أمور ديننا، وبما أني مسلم فأنا معني بالأساس بالنصوص القرآنية. إذا بحثنا في هذه النصوص نجد بعض الآيات التي يحتج بها رجال الدين على أنهم شعبة متميزة اختصهم الله بأمور الدين.
الآية الأولى هي: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ*وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (فاطر:28)، فرجال الدين يقدمون هذه الآية دليلًا على وجود فئة «علماء الدين» في الإسلام، لكن الحقيقة أن أباطرة التفسير اختلفوا في معنى كلمة «علماء» التي في الآية، فابن كثير رأى أنهم من عرفوا الله حق المعرفة، والقرطبي قال إنهم من يخافون قدرته أما الطبري فقال إنهم من عرفوا أن الله قدير، وأيًّا كان التفسير الصحيح، فهل نحن بحاجة إلى تخصص ديني كي نعرف الله حق معرفته أو أن نخاف قدرته أو أن نعرف أنه قدير؟ الإجابة البديهية هي لا، فكل هذه الأشياء يمكن الوصول إليها بالفطرة.
نقطة أخرى هامة هي أننا إذا نظرنا إلى باقي الآية نرى دعوة للنظر في خلق الله البديع وتدبيره من إنزال الماء من السماء وألوان الثمر والجبال والبشر، ثم بعد هذه الدعوة تأتي كلمة «العلماء»، ألا يؤدي الربط المنطقي هنا أن هؤلاء العلماء هم من «علموا» بكل هذه الأشياء التي تأتي عن طريق التأمل لا أكثر؟ بل أليس من الأدعى أن يكون عالم الأحياء أو الجغرافيا أو الأجناس هو أكثر تقديرًا لمثل هذه الآيات من عالم الدين؟
الآية الثانية هي: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (الأنبياء:7)، فرجال الدين يؤكدون أنهم «هم» أهل الذكر المعنيين في الآية الذين علينا سؤالهم إن كنا لا نعلم، بل يحذروننا ألا نحاول التفكير وحدنا لأننا العامة ليس لدينا الحد الأدنى من المعرفة كي نفكر في ديننا.. أولًا أهل الذكر المذكورون في هذه الآية والآية الشبيهة لها في سورة النحل:43 هم أهل الكتاب، فهذه الآية نزلت في المكذبين بنبوة سيدنا محمد فجاءت الدعوة لهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين لديهم علم بقدومه من كتبهم، لكن علماءنا جعلوا هذه الآية عامة في كل من لديه علم أو مختص، وحتى هذا التفسير لا يحدد أن هؤلاء هم رجال الدين ولذا لا يمكن استخدامه في مناقشة إذا ما كان الدين علمًا من الأساس أم لا.
الآية الثالثة هي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» (العنكبوت:49)، ومرة أخرى نجد أن «الذين أوتوا العلم» عائدة على أهل الكتاب الذين لديهم علم بنبوة سيدنا محمد وليس علماء الدين.
وضحنا بالتفسيرات السابقة أن الآيات التي يستخدمها بعض رجال الدين في إثبات أنهم مجموعة خاصة وُكلت إليهم دون غيرهم أمور الدين، كلها نزلت لأسباب مغايرة تمامًا لهذا المعنى، وبخلاف الآيات السابقة وما شابهها فلا توجد في القرآن أي آية قد تشير من قريب أو بعيد إلى اختصاص فئة معينة بالدين، بل توجد آيات لا حصر لها تتحدث عن كيف نزل الإسلام للناس كافة، وتدعو البشر جميعًا بلا استثناء إلى التأمل في الله وخلقه وكلامه.
لماذا إذن نشعر دائمًا أننا بحاجة إلى رجل الدين لفهم الأمور الدينية؟ السبب أبسط مما نتخيل.. الكسل، فنحن لا نريد أن نشغل أنفسنا بعناء البحث في أمور ديننا بل نريد الإجابة السريعة الجاهزة، فنوكل عن طيب خاطر هذه المهمة إلى رجل الدين الذي يفتينا فنأخذ فتواه وننفذها ثم نعود إلى نومنا هانئين. بالتأكيد بعض رجال الدين أنفسهم يتحملون جزءًا كبيرًا من وزر هذا الاتجاه، فهم قد نجحوا في تعقيد الدين البسيط بمصطلحات وأفكار متشابكة.
ما يجب أن نعيه جيدًا هو خطورة هذا الاتجاه على الدين قبل أن يكون على المجتمع، فالاتكاء على آخرين في كل أمور ديننا يوسع المسافة بيننا وبين هذا الدين، ويجعل انتماءنا إليه انتماءً شكليًّا لا عمق فيه، كذلك هو يوسع المسافة بين أعمالنا ومسؤولية النتائج المترتبة عليها، فالفكرة العامة المنتشرة بأن «الإثم على من أفتى» تزيح من على صدر الكثيرين عبء تحمل نتائج أعمالهم لوجود رجل الدين الذي سوف يتحمل الوزر وحده، لكن طبقًا لهذا المبدأ المعيوب فالإرهابي الذي يقتل استجابة لفتوى ما هو حتمًا في الجنة، سواءً صحت الفتوى أو أخطأت، هل هذا منطقي؟ ألا يحمل هذا الإرهابي أي وزر لأنه لم يفكر في أفعاله جيدًا قبل أن ينفذها؟ لماذا ارتبط التكليف بالعقل إذن؟ أليس من أجل التدبر فيما نفعل كي نفرق بين الصواب والخطأ، ومن ثم نستحق الثواب أو العقاب؟
أرجو أن يتفكر القارئ الكريم في هذه الأسئلة جيدًا ويدرك الحجم الحقيقي للمشكلة، وأخيرًا أحب أن أوضح أني أكن عميق الاحترام لكل من أفنى عمره في دراسة دينه واجتهد فيه، والدليل على ذلك أني استرشدت في تفسيرات الآيات المذكورة في هذا المقال بمثل هؤلاء الرجال، ولكن يقع لومي فقط على الفئة القليلة التي نصبت نفسها وصية على ديني دون وجه حق، وتنظر بنظرة استعلاء إلى أي أحد يحاول أن يناقش أي أفكار فيه، أما لومي الأكبر فيقع على فئة «المتواكلين» الذين يلقون بهمّ دينهم على غيرهم، وإلى هؤلاء أحب أن أرسل تنبيهًا وهو أن كونك تنتمي لأي دين يفرض عليك مسؤولية شخصية تجاه هذا الدين، وأبسط صور هذه المسؤولية هي أن تعرف هذا الدين حق معرفته حتى ترشد أعمالك في الدنيا التي سوف تُسأل عنها حتمًا، والتي لن تتخلص منها بإلقائها في ميزان أحد آخر غيرك حتى ولو كان رجل الدين الذي أفتاك.
أضف تعليق