لا مراء في أن تشييد صروح الأمم ،وتحقيق إقلاعها الحضاري، حمل تستثقله الجبال ،وتنوء به دواري الأيام ،لكن سنة الله، الفاصلة في مسارات الشعوب ودروب التاريخ ،أوكلت هذه المهمة لصنف خاص من الرجال والنساء، يقيدهم الله، ولعله بغير علمهم، أو حتى رغما عنهم، ليقوموا بهذا الدور الذي تنوء بحمله شداد الشواهق العاليات، لصعوبة المسالك وتعقد المسارب وتنوع الخطوب المدلهمات ..
إنه قدر بعض الناس ممن يتم اصطفاؤهم قدرا وتقديرا لذلك!هل نتحدث هنا عن منطق غائي للتاريخ؟ لعل الأمر كذلك! لكنها يد الله ، عز وجل،الفاعلة ، الظاهرة/الخفية..
إن الاستقراء المجمل لرحلة الحضارة البشرية ، المعلوم يوقفنا على هذه الحقيقة، وبُبرز لنا دور هذه المنارات الآدمية التي سطر لها القدر مهمة إنارة دروب أممها في سبيل انبثاق حضاري، بعد أفول؛ أو تمكين ،بعد عدم..وتزداد المهمة صعوبة ،والمسئولية جسامة، حينما يتعلق الأمر بالإصلاح الاجتماعي التربوي، حيث يقتضي ،عندها، هذا الدور، المزاوجة بين الفكر والفعل، بين التنظير والتخطيط، بين القدرة والفعل، بين الايمان والصبر؛ فتغدو المهمة مركبة ومعقدة تعقيد الظاهرة الحضارية ذاتها؛ فيتحتم عندها على من اجتباه القدر لهذه المهمة السامية، أن يفكر وينظر، ويخطط وينفذ، ويُيلغ ويؤطر، ويُقدم الثمن من كيانه كله، وفي جميع أبعاده، الفكرية والوجدانية والنفسية والروحية، وحتى المادية والبدنية “كم من نبئ قُتل”؟ إنه ثمن الاجتباء وقدر المُصلحين!
وتزداد المهمة تعقيدا عندما يكون صُلبها متقاطعا مع معتقدات الناس وقناعاتهم ودينهم، هنا يضحى الخطب أكثر جسامة؛ حيث التقاطع فالاحتكاك، ثم التصادم ،حتمية سننية، تقتضي من المُنتجب للمهمة بلوغ الشأو الأعلى في الرصانة الفكرية ، والثبات العقائدي، والتحمل الوجداني، وحتى البدني …
مناسبة هذا الكلام هو ما يتعرض له بعض المفكرين “الإسلاميين” ، المحسوبين على ثيار التجديد والتنوير، من إقصاء ممنهج ،وتشنيع جائر، وهجوم لا مبرر له إلا ظلامية من يشنونه عليهم؛ ولا عجب ، فالنور يربك الأعين التي تعودت الظلام ، والصفاء يُقلق من أنس العيش في العكر من الأجواء، والحركة تزعج من استلذ الخمول.
أستحضر من هؤلاء الشيخين المجددين ، حسن فرحان المالكي وعدنان إبراهيم ، اللذين أثارا زوابع فكرية استفزت الآسن من رواكد مسلٌمات سدنة الدوغمائية الفكرية والسياسية؛ وإذا كان الأول قد زُج به في غياهب السجون، فالثاني لم يُنجه من ذلك ،ولا ريب، إلا أنه يعيش في ظل دولة غربية ديمقراطية ،”مارقة كافرة”، لاشك، في أعين سدنة الجمود ،ورهبان “الحقيقة المطلقة”؟
نثير هذا الأمر هنا بمناسبة الحملة المسعورة التي تعرض لها الدكتور عدنان ابراهيم على أثر زيارته ،المأسوف على قصرها، للمغرب، والتي استبشر محبوه وتلامذته خيرا عند الاعلان عنها.. وفجأة ظهر أن الرجل يشكل خطرا على عقيدة المغاربة ودينهم ووحدتهم المذهبية…مما استدعى من سدنة العقيدة والأوصياء على إيمان الناس وأفكارهم، المطالبة بمنعه من إلقاء درس أمام ملك البلاد، أو حتى في بعض المساجد والمنتديات!؟ ليتساءل المرء ويستغرب: ألهذا الحد قد يتمكن رجل واحد من “قلب” عقيدة شعب بأكمله وإرباك استقراره الروحي؟ ألهذه الدرجة إيماننا هش وتديننا مهزوز؟
أي إيمان هذا وأية عقيدة هذه التي يمكن لرجل واحد ،بمحاضرة أو عدة محاضرات، أن ينسفها ،وهي المتجذرة في هذه الأمة لأكثر من عشرة قرون؟ أليس هذا استخفافا بشعب بأكمله ؟ بتاريخه وإرثه؟ بل أليس هذا مقياسا يبين درجة “فاعلية” هؤلاء السدنة في “الحفاظ” على دين وتدين هذه الأمة، التي نصبوا أنفسهم أوصياء على عقيدتها !؟فأين “علمهم” وجامعاتهم ومعاهدهم ومؤسساتهم؟ أين فضيلة الحوار التي لا يكلون ولا يملون من ترداد أسطوانتها المشروخة على أسماعنا ،عبر كل المنابر التي يحتكرون؟ أليسوا بهذا يُسفهون أنفسهم ويفضحون عوارهم ويكشفون سوءات جهالتهم، أو في أقل تقدير، عجزهم على صيانة عقيدة هؤلاء “العوام” الذين نصبوا أنفسهم حراسا لأمنهم الروحي؟ أليسوا بهذا يحاكمون عجزهم المعرفي وقصورهم الفكري ، ويفضحون فشلهم في القدرة على بيان صواب ما يدافعون عنه؟
ألم تكن زيارة عدنان ابراهيم للمغرب فرصة ،لهم، لمقارعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة؟ أم أن سباتهم الفكري وركود ذخائرهم المعرفية الآسنة تخاف من السؤال؟ أليس دواء العي السؤال؟ ألم تكن هذه فرصتهم أمام الرجل ، الذي جاءهم أعزل ، إلا من عتاده الفكري والمعرفي، لينقضوا عليه بقضهم وقضيضهم “العلمي”، حتى يردوه إلى جادة الصواب؟ أم أنهم يشكون في صوابية آرائهم وصلابة قناعاتهم؟ أليسوا بهذا يطعنون في هذا الين كله وفي أهله وفي شرعيته الفكرية ومشروعيته التاريخية؟ أليست هكذا سلوكيات هي ما يفسر، من ضمن أخرى، انتشار ظواهر الردة والالحاد في صفوف شباب هذا المجتمع ،وغيره من المجتمعات الاسلامية، حيثما يهيمن الفكر المنغلق ويستأسد سدنة الوثوقية المطلقة ،شاهرين في وجه من خالفهم ترسانة التبديع والتفسيق و سيف الاخراج من الملة، وذلك عوض مقارعة الحجة بالحجة والفكر بالفكر؟ ألم يصموا آذاننا بأن الحوار فضيلة إسلامية مارسها حتى الله ،عز وجل في عليائه، مع المؤمنين وغير المؤمنين، بل وقبلهم مع الملائكة وحتى مع إبليس اللعين؟
إن ما سقناه من أسئلة، وغيرها مما يطرحه سوانا بخصوص هذه النازلة، لن يجد عند “السدنة” جوابا، لأنها تدخل في صنف اللامفكر فيه عندهم، لأن الأجوبة ، “كل الأجوبة”، عندهم جاهزة ، إذ الأسئلة ذاتها معروفة لديهم ومحددة ومحدودة!؟ وكل سؤال يمرق عن “بيت طاعة” أقنومهم الفكري ،الجاهز والجامد والكامل، مادام السابقون قد قالوا ودرسوا وعرفوا وعلموا كل شيء، ولم يبق للاحقين إلا أن يغرفوا من هذا المعين الذي “أحاط بكل شيئ علما وخُبرا” ؛ يبقى كل سؤال مارق مجرد تشغيب ،في أضعف الأحوال، وانحراف وفسوق وتجذيف ،وحتى كفر ، في أقصاها؛ أما الصواب والعلم والمعرفة، كل الصواب وكل العلم، فهم حراسه المُستأمنون، والويل ، كل الويل، لمن تجرأ وطرح السؤال، أو تطاول وحاول تحريك الآسن من محتويات “الفكر المُقولب”… ليبقى السبيل هو انبراء قلة المستنيرين من علماء هذه الأمة، وهم على قلتهم ، بفضل الله موجودون؛ أما الغثائية والجمود والتحجر المتكلس في كهوف الجاهز والكامل والمطلق، فسنة كونية وظاهرة فكرية تفرزها كل حضارة آل بريقها للأفول، كما هو معلوم عند مؤرخي الحضارات؛ وما على حملة هم السؤال وهاجس التجديد إلا أن يحترقوا بنورانية أفكارهم ، لعل الله يتكرم وينير بهم درب الغد المأمول ! غد السؤال وغد التحرر الفكري وغد الانبثاق الحضاري الذي طال أمد انتظاره..
حقاً كان الله في عون من قُدِّر له أن يحيا حياة من ليس له طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع فهو من ذوي الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى ناراً حامية نار التنوير و التجديد و التحرير و تُسقى من عينٍ آنية هي عين أولئك السدنة الذين أعلنوا أنفسهم أوصياء على عقول الناس و فكرهم و معتقدهم …