هل ابن عربي، هو أوّل من عرف ميكانيكيا الكمّ والنّقل الكوانتي للمادّة؟
تفسيرُ بن عربي لكيفيّة نقل عرش بِلْقِيس من قِبَل (آصف بن برخيا) هو: تفسير ينطبق مع ميكانيكيا الكمّ والنّقل الكوانتي للمادّة. يقول ابن عربي في ذلك: (آصف بن برخيا) أعدم العرش في مكانه في سبأ، وأعاد إيجاده عند سُليمان في اللّحظةِ نفسها، وقال: زمان إعدامه، هو زمان إيجاده ليس زمانين.
إنّ تفسيرَ ابن عربي هذا؛ هو بالضّبط ما يُسمّى اليوم بـ (النّقل الكوانتي للمادّة) Quantum Teleportation في فيزياء الكمّ، وهذا ما فعله البروفّيسور النّمساوي الكبير والشّهير (أنطون تسايلينغر) في العصرِ الحديث، عندما نقلَ جُزيئات الضّوء (الفوتونات) المتشابكة عبر نهرِ الدّانوب في فييّنا، فهل كان ابن عربي سبّاقًا إلى معرفةِ كلّ هذا؟
الإجابةُ:
وَفْقًا لمنظور التّضامر؛ فإنّ الإجابة تتطلّب ذكر المقدّمة الآتية:
- الحقيقةُ في العلمِ: تتمحورُ حولَ ما هو مادّي؛ والحقيقةُ في الدّين: تتمحورُ حولَ ما هو روحي.
- من النّاحية الوجوديّة: العلمُ لا يقول إلّا بما هو ملموسٌ أو يخضعُ للقياسِ، والدّين يقولُ بما باللاملموس واللامقاس.
- مِنَ النّاحيةِ المعرفيّة: العلمُ لا يقول إلّا بما يخضعُ للمنطقِ الوضعيّ (الموضوعيّ)، والدّينُ يقول بما يُمكن أن يكون ذاتيًّا أو غير وضعيٍّ (موضوعيٍّ) كالوَحي. وهذا يعني: أنّ هُناك ما يُمكن وصفه بـ (الفجوة الوجومعرفيّة) بينهما. واستنادًا إلى هذا، نستنتجُ ما يأتي:
- العلمُ يُفسّرُ بالمعطياتِ العلميّةِ ولا شيء غيرها؛ لأنّهُ دائرةٌ مغلقةٌ على نفسها.
- الدّينٌ يُفسّرُ بالمعطياتِ الدّينيّةِ ولا شيء غيرها؛ لأنّهُ دائرةٌ مغلقةٌ على نفسها.
لكن؛ لمّا كان التّضامر يفترضُ أنّ أيّ لا مُتماثلين مُتضامرين؛ فهذا يعني:
إنّ العلمَ يُضمرُ الدّين، والدّين يُضمر العلم (وجومعرفيا)، وحين نقولُ بهذا التّضامر، فلا نعني أنّ الدّين في بطنِ العلمِ أو العلم في بطنِ الدّين مثلًا، لا، ما نَعنيهِ أنّ العلمَ وإن كان بمعزلٍ عنِ الدّينِ، والدّين وإن كان بمعزلٍ عنِ العلم؛ فإنّ بالإمكان فهم أحدهما في مرآة الآخر. عادةً ما أُعبّرُ عن ذلك بالقول: (يُمكن فهم العلم بالعلمِ في مرآة الدّين، ويُمكن فهم الدّين بالدّين في مرآةِ العلم). ما أعنيهِ بذلك، يُمكنُ توضيحه كما يأتي:
حينَ تحدّثَ ابن عربي عن آليّةِ نقلِ عرشِ بِلْقِيس بالطّريقة الّتي وصفها، فقد انطلق من خلفيّةٍ إيمانيّة بحتة ترتكزُ على منهجٍ دينيٍّ صوفيٍّ كشفي، يستمدُّ قيمته (الوجومعرفيّة) من الجانبِ الرّوحي البحت. أمّا حين تتحدّثُ ميكانيكا الكمّ؛ فإنّها تنطلقُ من آليّةٍ مادّيةٍ بحتَة، ترتكزُ على المنهجيّة العلميّة الصّرفة؛ ومن ثمَّ فلا صلة بين المنطقين. هُنا تتراءَى الفجوة بينهما.
لكن إن نظرنا إلى كثيرٍ من التّناظراتِ في التّفسيرِ بين العلمِ والدّين، ومنها الّتي تحدّثَ عنها عالم الفيزياء النّظريّة (فريجوف كابرا) في كتابه: ‹‹التّصوّف الشّرقي والفيزياء الحديثة›› أو الّتي تناولتُها في كتابي ‹‹فلسفة الفيزياء الكلاميّة›› أو غيرها؛ سنعلمُ أنّ هناك نوعًا من الصّلةِ بين العلمِ والدّين، هي نوعٌ من الصّلةِ لأنّها صلةٌ لا مُباشرة، يُمكن وصفها بـ (الصّلة التّناظريّة)؛ وذلك لأنّ التّفسير العلميّ يأتي مُناظرًا للتّفسير الدّيني في الحالاتِ الّتي نتحدّثُ عنها، والسّؤال: لماذا يتناظران؟ وإجابتنا عن ذلك: لكونهما يتحدّثان عن الحقيقةِ (الوجومعرفيّة) ذاتها.
هذا يعني: أنّ الفجوة الّتي نتحدّثُ عنها بينَ العلمِ والدّين ليست مانعًا مُطلقًا لتلاقيهما أو التّفاهم غير المباشر بينهما، ولنضرب مثالًا يُوضّح مقصدنا: لنفترض أنّ شخصين يَعيشان على جبلينِ بينهما وادٍ سحيق، ولنفترض أنّ أحدهما يستطيع أن يرى الآخر ويسمعه؛ ولكن لا يستطيع أي منهما أن يوصل شيئًا من أدواتهِ إلى الآخر. ولنفترض أنّ كلًّا منهما يبحثُ في كيفيّة إيقادُ النّارِ، ولنفترض أن أحدهما اكتشفَ ذلك بواسطةِ الاعتماد ِعلى قدْحِ الحجارةِ الصّخريّةِ بعضها ببعض، بينما اكتشفَ الآخر كيفيّةً أُخرى تتمثّل في برمِ سَاقٍ من الخشبِ في العشبِ. النّاظرُ من بعيدٍ يرى أنّ لدى كلٍّ منهما النّار نفسها، وهذا ما نُعبّرُ عنه بالتّناظر، وهذا صحيحٌ؛ ولكن الآلية والأدواتِ مختلفة، وهذا ما نعنيه بالفرقِ بين مادّية العلمِ وروحيّة الدّين.
الحقيقةُ عندنا: إنْ كان مظهر الأوّل هو استخراجُ النّارِ بالقدْحِ، فهو يُضمر استخراجها بالبرمِ، والعكس صحيح، أي إنْ كان مظهرُ الثّاني استخراج النّار بالبرمِ، فهو يُضمر استخراجها بالقَدْح. وهذا يقودُنا إلى النّتيجةِ الآتية: يُمكن لأحدهما من مُلاحظة ما يفعل الآخر أن يكتشفَ شيئًا جديدًا في بيئتهِ. وهذا الاكتشافُ يعني: أنّ هناكَ تواصُلاً بين الاثنينِ؛ ولكنّه تواصلٌ لا مُباشر. هذا ما نقصدهُ بأنّ الأوّل يتعلّم في مرآةِ الآخر.
حينَ نأخذُ هذا المثال (مع الفارقِ)، لنطبقه على العلاقةِ بين العلمِ والدّين، يُمكن أن نصلَ إلى النّتيجةِ الآتية:
ميكانيكا العلمِ على جبلٍ، وميكانيكا الدّين –إن جاز الوصف- على الجبلِ الآخر، وبينهما وادٍ (الفَجوة)؛ بالإمكان القول أنّهما مَعزولان عن بعضِهما، وبالإمكان النّظر إلى إمكانيّةِ وجودِ صلةٍ لا مُباشرة بينهما، حيثُ يُمكن أنْ يكتشفَ كلًّا منهما شيئًا مجهولًا لهُ بالنّظرِ إلى الآخر كمرآة. نحنُ نعلمُ أنّ المرآةَ تعكسُ صورنا، وهذا ما يَنصُّ عليهِ قانون التّضامرِ الثّاني، فالمطلوب أنْ يَعرفَ العلم نفسه أكثر حينَ يلمحُ في الدّين شيئًا لم يتوصّل إليهِ بعد، فيعمدُ إلى اكتشافهِ، وبالعكس، بالتأكيد. مثالُ ما يُمكن التنبّؤ بهِ في هذا الصّددِ ما يأتي:
- ميكانيكا العلم تتحدّثُ عن المستوى ما دُون الذرّي، بينما ميكانيكا الدّين -عند ابن عربي- تتحدّثُ عن المستوى ما فوق الذرّي، أي: الجزيئات والعناصر والمركّبات، بل والكائنات الحيّة؛ لأنّ نقلَ العرشِ تمّ بما فيه من البشر. هذا يعني: أنّ العلمَ سيصلُ بآليّاتهِ المادّية، وبتقنياتهِ التكنولوجيّة إلى ذلك المستوى الّذي ينقلُ الأجسام كما نقلَ الجُسيمات. إنّنا نعرفُ ذلك –فلسفيًّا أو تضامريًّا- لأنّ لدينا نموذج دينيّ فعلَ ذلك بآليّاتهِ وتقنياته، وعلى هذا، نحنُ نستشرفُ ما سيصلُ إليهِ العلمُ في مرآةِ ما نطقَ بهِ الدّين.
- في المقابلِ؛ لو افترضنا أنّ الكمّ العلمي توصّل إلى أكثر من طريقةٍ مُختلفةٍ لعمليّةِ النّقل هذه، فهذا يُعطينا تصوّرًا عن الإمكانيّاتِ النّظيرةِ الموجودةِ في الكمّ الدّينيّ ممّا لم نكن نعلمُ بها من قبل.
إذًا؛ الإجابةُ حول سبق ابن عربي من عدم سبقه ستكون الآتي: لا نستطيع أنْ نتوقّف عند إحدى الإجابتين: سبقَ أو لمْ يسبقْ، بل الأصحّ -من وجهةِ نظرنا- هو أنّهُ (سبق لا سبق) نسبويًّا. سبق فيما يتعلّقُ بمجال الكمّ الدّيني، ولم يسبقْ فيما يتعلّقُ بمجال الكمّ العلمي.
أضف تعليق