إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – عز شأنه وجل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ۩ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ۩ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۩ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ۩ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، سأل أحدهم رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – يا رسول الله وكيف يُزكي المرء نفسه؟ كيف يُزكو المرء نفسه؟ يسأل هذا السائل عن طريق وسبيل التزكية، كيف يزكو المرء بنفسه؟ كيف يُرقيها في درج الكمال وفي مدارج الهيبة والخشية والمحبة والرجاء والقُربان من الله – سُبحانه وتعالى -؟ فأجاب – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأن يعلم أن الله معه حيث كان.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، لم يقل إن الذين يخشون ربهم وهو يكتفي – سُبحانه وتعالى – ويحتسب عند هذا الحد وعند هذا القيل، إنما قال يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، هذه أمارة وعلامة – أيها الإخوة والأخوات – على صحة الإيمان، بل على ما هو أكثر من ذلكم وذلكن، أمارة على ما يُجاوِز التقوى، إنها أمارة على الإحسان، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۩، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ۩.
الإحسان الذي نعرفه جميعاً، كما بيَّنه الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين من رواية أبي هُريرة وتفرَّد مُسلِم بروايته عن عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – حين سأل جبريل – عليه السلام – الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن الإحسان، فقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وفي رواية لأبي هُريرة أن تخشى الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تعبد الله أو تخشى الله كأنك تراه مقام المُشاهَدة، ومقام المُشاهَدة حجزه الله – تبارك وتعالى – للعارفين، وهو مقام فوق مقام الإخلاص، فلا يعبد الله – تبارك وتعالى – على المُشاهَدة له – أي منه له، سُبحانه وتعالى – إلا عارف بالله، عرَّفنا الله به، ودلنا عليه دلالة الصادقين، وأرشدنا إليه إرشاد الحائرين التائهين، اللهم آمين.
وهناك مَن عبد الله – تبارك وتعالى – بما هو دون ذلك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، لأن كل مُؤمِن ومُؤمِنة مُوقِن بأن الله مُطلِع عليه، رقيب عليه، قائم عليه وعلى نفسه بما كسبت، لا تخفى عليه خافية، يعلم بوحك وكتمانك، يعلم إسرارك وإعلانك، يعلم ظاهرك وخافيتك، يعلم خلواتك وجلواتك، لا يخفى عليه من شؤونك جُملة شيئ أو حال أو شأن، لا في الإجمال ولا في التفصيل، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ ۩، أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩، وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۩، هكذا إذن هي سبيل التزكية.
هذا الحديث أخرجه الإمام أبو بكر البزّار، وأخرج الإمام الطبراني أيضاً أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – من حديث عُبادة بن الصامت قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت، هذا أفضل الإيمان، أعلى درجات الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت، هذا هو الذي يعلم أن الله معه حيثما كان ويعلم أن الله رقيب عليه، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ۩، هذه الآية إذا أيقننا بها ورسخت في نفوسنا مع هذه الآية هل يكذب المُؤمِن؟ كلا، هل يزني؟ هل يسرق؟ هل يغش؟ هل يُنافِق؟ هل يحقد؟ هل يسعى بالشر – والعياذ بالله -؟ هل يعصي الله على أي وجه وبأي وجه كان وهو يعلم أن الله عليه رقيب؟ كلا.
والله – أيها الإخوة والأخوات – لو كان أحدنا يعلم أن أحداً من بني آدم – من أشكاله وأمثاله، البشر الضعاف، مِمَن له عليه سُلطان وعليه اقتدار – يُراقِبه ويرصد حركاته فهو له بالمرصاد لانضبط سلوكه، ولتجافى عن أن تبدر منه بادرة أو تقع منه مُخالِفة، فكيف والرقيب هو المولى الجليل – لا إله إلا هو – الذي لا تخفى عليه خافية؟ إذن لماذا لا نعيش هذا الحال أو هذه الحالة؟ ولماذا لا تتحوَّل هذه الحال إلى مقام؟ لأن الإيمان أشكال ورسوم، كلام نقوله للأسف، لا نُجرِّب حقيقةً أن نعيشه، لا نُحاوِل، لا نتريض، ولا نُجاهِد أنفسنا ليل نهار لكي تتحوَّل هذه المعلومات وهذه المعارف اليقينية إلى سلوك حقيقي، يطبع الإيمان ظاهره وباطنه بطابعه، فيصل به إلى أعلى الدرجات، إلى درجة الإحسان، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۩.
ما هي هذه الزيادة؟ الْحُسْنَىٰ ۩ هي الجنة، ما هي هذه الزيادة؟ فسَّرها حديث صُهيب الرومي عند الإمام مُسلِم مرفوعاً، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الزيادة هي النظر إلى وجه الكريم، لا إله إلا هو! قال العلماء كالحافظ ابن رجب الحنبلي – رضيَ الله عنه – وغيره، قالوا وهذا الجزاء مُناسِب مُوافِق للعمل، والجزاء كما تعلمون دوماً يأتي من جنس العمل، جَزَاءً وِفَاقًا ۩، لماذا؟ لأن هذا كان مُحسِناً في دار الدنيا، وقد فسَّر لنا المعصوم المُصدَّق – عليه الصلاة وأفضل السلام – معنى الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، قال كأنك تراه! إذن جزاء هذا المقام في الآخرة أن ترى الله حقيقةً، لأن الجزاء من جنس العمل، عجيب! عجيب كيف يلتئم الكتاب والسُنة الصحيحة؟ والله نشهد إنه لرسول الله، ولا يأتي بشيئ من عنده، ومُحال أن يتشاكس أو يتناكد أو يتناقض شيئ مما صح عنه مع شيئ في كتاب الله، لأن الذي أنزل هذا الذكر هو الذي أوحى هذه السُنة، النبي فسَّر الزيادة بالنظر إلى وجه الكريم، وهذا مُناسِب جداً، لأن مَن كان مُحسِناً يعبد الله كأنه يراه، إذن من المُناسِب أن يُجازى برؤية المولى الجليل يوم القيامة، وصدق الله وصدق رسوله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.
إذن مع اليقين بهذا المعنى لا يُمكِن إلا أن الإنسان يستقيم، هذا أكبر وازع والله، لا يُمكِن أن يقوم مقام هذا الوازع لا الشرطة ولا القانون ولا القضاء ولا الترغيب ولا الترهيب الذي يأتي من جهة الخلق، لا يقوم مقامه شيئ.
أحد الدُعاة الأفاضل – وفَّقه الله وأسعده – يُحدِّث عن نفسه، يقول كنت يوماً في مسجد من المساجد وقد شرعت في درس عن الأمانة، تحدَّثت عن الأمانة وقلت في الإبان – أي في تضاعيف الدرس – ليست الأمانة وليس الأمين هو الذي يُؤدي ما عليه من حقوق العباد إذا كان ثمة سند أو صك أو شهود أو بيّنة، هذا سلوك مدني، هذا السلوك مدني لأن الطرف الآخر يستطيع أن يُقاضيه ويستطيع أن ينتزع حقه منه بقوة القانون، لكن الأمين هو الذي يُؤدي ما عليه وليس ثمة رقيب إلا الله – تبارك وتعالى -، هنا تعرف نفسك، هل أنت أمين أو – لا قدَّر الله وحاشاك – خوّان أثيم؟ قال فجاءتني قُصاصة ورق – أي وريقة صغيرة، الله أكبر، لا يزال في أمة محمد الأولياء والصالحون، هذا ولي، مُحال إلا أن يكون هذا من أولياء الله الصالحين، هذه علامة الولاية، ورقة صغيرة – يقول فيها كاتبها ولم يُترجِم عن نفسه ولم يُبِن عن حقيقة شخصه، يقول فيها أنا يا أستاذ بحمد الله – تبارك وتعالى – قد أديت قبل فترة عشرين مليون ليرة، وهذا يأتي قريباً من أربعمائة ألف دولار، أي نصف مليون تقريباً، أربعمائة ألف كانت تركةً وميراثاً، أديت هذه التركة إلى أصحابها وقد تُوفيَ والدهم ولا علم لأحد من الخلق، لا للورثة ولا لأي أحد آخر بهذا المبلغ، أودعه عندي أمانة، لا يعلم به أحد، قال أديته وليس رقيب إلا الله – تبارك وتعالى -، نصف مليون! لم يتردَّد أن يُؤديها، لماذا؟ لأنه يعلم أن الله يرى، الله مُطلِع على ما في الضمائر، تنكشف له السرائر، ويستوي عنده الباطن والظاهر، هو يعلم هذا، ويعلم أن الله عليه رقيب دوماً وأبداً، كيف يخون؟ كيف يغدر؟ مُستحيل! الغدر والخيانة لا تُجامِع الإيمان، شيئ عجيب.
وقصة أُخرى أيضاً، شاب مُوظَّف في دائرة من دوائر الحكومة، وهذا الشاب اعتاد في كثير من الأوقات والأحايين أن يقصد درساً يُلقى في هذه الدائرة، في وقت الظهيرة، أي بعد أن يُصلوا الظهر، وكان هذا درساً قصيراً، فهو في أغلب الأوقات يختلف إلى هذا الدرس ويستمع إلى هذا العالم، ثم جاء بعد حين من الدهر إلى رئيسه ومُديره في الشركة وقال له أيها المُدير اسمح لي بإجازة لمُدة ستة أيام، مع العلم أنني قد استهلكت هذه الإجازة، أُريد أن تُعطيني هذه الإجازة على أن تكون إجازة غير مدفوعة طبعاً، مُقتطَعة من راتبي، هي غير مدفوعة، وأنا لن آخذها، فقد استهلكتها، المُدير لم يفهم شيئاً، قال كيف؟ لا أفهم، قال أيها المُدير أنا قد اعتدت في كثير من الأحايين على الاختلاف إلى هذا الدرس القصير في وقت الظهير، وبعد حين جمعت هذه الأوقات فإذا بها تعدل وتُساوي ستة أيام عمل، وأنا أخشى الله – تبارك وتعالى – أن أكون قد أكلت باطلاً، لا حق لي فيه، فدهش مُديره دهشاً كبيراً، أُسقِط في يده، مثل هذه النماذج والأمثلة نادرة في يوم الناس هذا، نادرة جداً!
تتمة القصة، يقول هذا الشاب المُوفَّق المسعود – بارك الله فيه وثبَّته وإيانا وإياكم معه -، يقول فوالله لقد ذهبت في التالي – أي في اليوم التالي – إلى المسجد لأحضر الدرس فإذا بالمُدير قد سبقني، صار يُصلي ويُواظِب على الدروس، إذن يُمكِن أيها الإخوة والأخوات – بارك الله فيكم أجمعين – أن يكون أحدكم أكبر داعية وأعظم داعية وهو صامت لا يتكلَّم، ساكت لا يُبين، بأمانته، بإخلاصه، بعفته، بصدقه، باستقامته، بكلمة واحدة: باستقامته، يُمكِن أن تكون أكبر داعية كما كان هذا.
الأمثلة من تاريخ أسلافنا الصالحين – رضوان الله عليهم أجمعين – أكثر من أن تُحصى وأشهر من أن تُذكَر، كثيرة جداً! سأضرب مثالاً واحداً عن إمام جليل، طبَّقت شُهرته الآفاق، إنه الرجل المُحدَّث المُلهَم ولي الله الإمام محمد بن سيرين، وكان يُكنى بأبي بكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، كان فقيهاً، وكان قاضياً، من أقضى علماء عصره ومن أفقههم، لكن العجيب في فقهه أنه جمع إلى الفقه الورع، فكان من أورع فقهاء عصره – رضوان الله تعالى عليه -، وقد علَّمه الله – تبارك وتعالى – تعبير وتأويل الأحاديث كما تعلمون.
ابن سيرين اشترى ذات يوم بمال كثير – بأربعين ألف مُؤجَّلة، أي ديناً، قرضاً – زيتاً كثيراً ليتجر به، ولما ذهب إلى بيته وجد شيئاً يعيب الزيت ويفسد به الزيت، الآن لا أحد يعلم هذا الشيئ إلا هو، حتى التاجر كان لا يعلم هذا الشيئ، فقال في نفسه إن بعته للناس فقد غششتهم وأكلت أموالهم بالباطل، وإن رجعته إلى التاجر لعله لا يتقي الله ولا يتورَّع فيبيعه للناس فآثم بسبب ذلك، ورع عجيب جداً! لو كان أي واحد فينا بل أورع واحد فينا في هذا الموقف لكان الحل عنده قريباً جداً، يُعيد هذا الزيت إلى التاجر، وانتهى كل شيئ، ولا يلزمه الدين في عُنقه ويُعصَب بجبينه، لكنه يتورَّع، إنه ورع، ينصح للمُسلِمين كما ينصح لنفسه، وهذه علامة الإيمان، قال إذا أعدته إلى التاجر باعه للناس، ربما لا يتورَّع فيبيعه للناس فآثم بذلك، فجعل يصب الزيت في الأرض، بأربعين ألفاً، لا أدري أدراهم هي أو دنانير، وحتى لو كانت دراهم فضية هذه أربعون ألفاً، وهي ليست حالة، هي مُؤجَّلة، أي لزمته ديناً، وهكذا أهرق الزيت كله وصبه في الأرض، ولزمته الأربعين ألفاً وعُصِبت بجبينه.
ولما حل وقت السداد جاءه التاجر يتقاضاه دينه، فقال لا شيئ عندي، فقاضاه إلى والي البلد ابن هُبيرة الفزاري، فقال له تُسدِّد أو السجن؟ قال السجن، إمام العصر – رضوان الله تعالى عليه -، قال تُسدِّد أو السجن؟ قال السجن، لا شيئ عندي! فسُجِن الرجل وطال به السجن، حتى أن السجّان قد أشفق عليه لما رأى من الشدة التي حلت به والبائقة التي ألمت بساحته، فقال له يا إمام لو أنك رضيت أخرجتك كل ليلة، فتأتي بيتك وتبيت مع أهلك، حتى إذا أصبحت عُدت إلى السجن حيث كنت، تفعل هذا كل ليلة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً أو تقضي سجنك، قال كلا والله، ولا أُعينك يا عبد الله على خيانة، هذه خيانة! أنت أمين علىّ، أتخون؟ لا أُعينك يا عبد الله على خيانة.
وقضى الله – تبارك وتعالى – بعد ذلك أن احتُضِر صاحب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أبو حمزة – أنس بن مالك رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وكان ابن سيرين من ذوي وده، من أودائه وأحبائه وإخوانه وخِلصانه في الله، فأوصى أنس بن مالك – رضيَ الله عنه وأرضاه – ألا يُغسِّله ولا يُكفِّنه ولا يُصلي عليه ولا يدفنه إلا ابن سيرين، إنه يرى أنه أفضل أهل عصره ما عدا الصحابة، فجاء جماعة إلى الوالي ابن هُبيرة الفزاري وقالوا له القصة كيت وكيت وكيت، فقال لا عليكم، اذهبوا إليه وأخرِجوه، لكي يُنفِّذ وصية صاحب رسول الله، فأتوا إليه، قال كلا والله، ما أنا بخارج، قالوا يا عبد الله ولِمَ؟ قال حتى تستحلوا الرجل الذي سُجِنت بما له علىّ من حق، أنا لِمَ هنا مسجون؟ بحق الرجل الذي له علىّ، فلابد أن يأذن لي الرجل، الله أكبر! ما هذه القصص؟ ما هذه الوقائع العجيبة؟ إنها أعجب من العجب، لا يُقضى منها العجب.
قال حتى تستحلوا الرجل الذي سُجِنت بما له علىّ من حق، فأتوا الرجل، فقال نعم، لا بأس ولا حرج، فليخرج، وخرج ابن سيرين – رضوان الله تعالى عليه -، وغسَّل وكفَّن صاحب رسول الله أنس بن مالك، وصلى عليه ودفنه، ثم عاد إلى سجنه ولم يُعرِّج على بيته ليرى أهله، الله أكبر! ومن هنا نتساءل كيف كان مُحدَّثاً؟ كيف كان مُلهَماً؟ وكيف كان مُصدَّقاً إذا قال أو إذا ظن وحدس؟ رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
هذه القصة أخرجها أبو نُعيم في حليته في ترجمة ابن سيرين، وأخرج الذهبي في النُبلاء – سير أعلام النُبلاء – أن رجلاً – وهذه القصة من عجائب تحديثه، الآن فهمنا لماذا كان مُحدَّثاً، كان مُلهَماً، وكان مُؤيَّداً، كان يُؤيَّد ويُصدَّق، رضيَ الله عنه وأرضاه – قال له يا إمام، يا أبا بكر، لقد رأيت في المنام كأن في يدي قدحاً من زجاج وبه ماء، إذا كُسِر القدح وبقيَ الماء، أي هكذا مُعلَّقاً! قال اتق الله، فأنت ما رأيت شيئاً، أنت تسخر مني، علم وعرف أنه يكذب عليه، قال اتق الله، فأنت ما رأيت شيئاً، قال بلى والله، سُبحان الله! لقد رأيت ما قصصت عليك، قال مَن كان كاذباً فليس عليه، ستلد امرأتك ولداً وتموت ويبقى الولد، فما لبث الرجل – وقد كان كاذباً، وقال للناس لقد كذبت عليه – أن ولدت له امرأته ولداً، ماتت وبقيَ ولده، أيَّده الله، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، شيئ عجيب!
وأعجب من هذا من نبأ تأييده وإلهامه وتصديقه ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، أن رجلاً قال له يا إمام لقد رأيتني ورجلاً أسود نأكل سمكةً في قصعة، فما تأويلها؟ ما تعبيرها؟ أفتني في رؤياي، قال هلا أعددت طعاماً ودعوتني إليه؟ قال على الرحب والسعة، ولما وُضِعت المائدة جاء الخادم أو جاءت الخادمة وكانت سوداء، فقال ابن سيرين للرجل المُضيف، قال له هل أصبت هذه الأمة؟ بمعنى هل ضاجعتها؟ هل أصبتها؟ قال لا، قال فادخل بها المخدع، هي أمتك، فيجوز نكاحها بملك اليمين، هي حلال بملك اليمين، فدخل بها في المخدع، فما لبث أن صاح يا أبا بكر رجل والله، رجل والله! كانت رجلاً، قال فذلك الذي شاركك في أهلك، الله أكبر! شيئ عجيب، صحيح ليسوا بأنبياء ولا يعلمون الغيب، ولكنهم يُؤيَّدون.
وفي الصحيح وفي شُعب البيهقي – وهذا لفظه – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما بعث الله من نبي إلا جعل في أمته مُحدَّثين – بالبناء للمفعول -، وإن يكن في أمتي يكن عمر بن الخطاب، قالوا يا رسول الله وما مُحدَّثون؟ أي تنطق الملائكة على ألسنتهم، تُؤيِّدهم وتُصدِّقهم، كأنهم ملائكة، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، هكذا!
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، وفي المُقابِل هناك أُناس يُزيِّنون ظواهرهم للخلق وبواطنهم خربة سوداء – والعياذ بالله -، يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ۩ ولا من الفعل، يجلون الناس ولا يجلون الله، يهابون الناس ولا يهابون الله، فما لهؤلاء يوم القيامة؟ اسمعوا إلى البيان النبوي الشريف، كما أخرج الإمام أبو عبد الله بن ماجة في سُننه بإسناد صحيح ورجاله ثقات كما قال البُصيري في الزوائد – رحمة الله عليه -، عن صاحب رسول الله ثوبان أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال لأعلمن أقواماً من أمتي – أي إني لأعلم، قالها للتأكيد، قال لأعلمن أقواماً، لا شك في هذه القضية، لا شك في هذا الخبر وهذا النبأ – يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضاً – على الحال، نصبها على الحال، وإلا لقال بيضٍ، لكنه قال بيضاً -، فيأمر الله بها، فيجعلها هباءً منثوراً، فقال ثوبان مُشفِقاً وجِلاً يا رسول الله صفهم لنا، جلِّهم لنا، أي بيِّنهم، قال يا رسول الله صفم لنا، جلِّهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، الله أكبر، الله أكبر، ما أعظم شفقة الصحابة من أن يكونوا مُرائين أو كذّابين أو مُنافِقين! وما أعجب يقيننا بالصدق والإخلاص والصلاح! وكلٌ يزكي نفسه، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۩، مُباشَرةً تحرَّكت الشففة والخوف في قلوبهم، صفهم لنا، جلِّهم لنا، ألا نكون منهم – أي لئلا نكون منهم – ونحن لا نعلمم، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم! فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أما إنهم إخوانكم، إخوانكم! من هذه الأمة، من المُؤحِّدين والعبّاد، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، في رواية ويأخذون وهناً من الليل، أي من أهل قيام الليل، لا يكتفون بالفرائض، يجمعون إليها النوافل والقُربات، ويأخذون من الليل كما تأخذون، لكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، الله أكبر، وهذا الحديث صحيح.
ولذلك لن تنفعهم صلاتهم ولا زكاتهم ولا صيامهم عند الله يوم القيامة، لأن الله سيجعلها هباءً منثوراً، لماذا؟ لأنها لم تُفعَل لوجه الله، فُعِلت لشيئ آخر، لو كان الله مُعظَّماً مُبجَّلاً مُهاباً مخشياً مرجواً – سُبحانه وتعالى – في قلوبهم لما أقدموا على هذه العظائم، ومن العظائم أن يعظم الخلق في قلبك، ويصغر الرب الملك الحق، لا إله إلا هو! من العظائم – والعياذ بالله -، من أسوأ ما يكون!
روى الإمام أبو نُعيم في الحلية والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُعب وابن النجّار وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عدي بن حاتم الطائي – رضيَ الله عنه وأرضاه – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال ليؤمرن يوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة، فإذا ما أتوها ونظروا إليها واستنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله لأهلها فيها من الكرامة نُودوا – أي الملائكة، قال نُودوا، أي الملائكة الذين أُمِروا بسوقهم إلى الجنان – أن اصرفوهم عنها، فليس لهم فيها نصيب، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، بعد أن رأوا الجنة وأيقنوا وعلموا حق العلم أنهم داخلوها صُرِفوا عنها، ولا نصيب لهم فيها، هكذا كان النداء، رجعوا بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، فيقولون يا رب، يارب لو أنك أمرت بنا إلى النار قبل أن تُرينا الجنة وما أعددت فيها لأوليائك لكان أهون علينا، قال ذلك ما أردت بكم، وفي رواية أيها الأشقياء، ذلك ما أردت بكم، أنا عن قصد وعن عمد فعلت ذلك، أردت أن ترجعوا بهذه الحسرة، ذلك ما أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، إذا كنتم معي وحدكم فعلتم الكبير والصغير، وهتكتم ستري الذي أسبلته عليكم، ولم ترعوا لي حُرمة، ولم تُوقِّروا أو ترجوا لي وقاراً، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مُخبِتين، تُراءون الناس بما لم تُعطوني من قلوبكم، قلوبكم لا تعرف الصدق، وتُظهِرون للناس أنكم صادقون، لا تعرف الإخلاص، وتُمثِّلون على الناس أنكم من المُخلِصين، تُراءون الناس بما لم تُعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، وركنتم إلى الناس ولم تركنوا إلىّ، فاليوم أُذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب، الله أكبر!
ربي هب لي المتاب حتى أتوب وأحي قلبي يوم تحيا القلوب.
تعست ليلة عصيتك فيها كيف لا أستحي وأنت الرقيب؟!
يقول عبد الله بن دينار – رضيَ الله عنه – كنت مع عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه وأرضاه – في سفر بطريق مكة – أي من المدينة إلى المكة -، فعرَّسنا – أي نزلنا، التعريس هو النزول من آخر الليل، وهذا كان في مكان قريب من مكة، عرَّسا بوادٍ هناك – فانحدر إلينا راعٍ مع شُويهات، فقال له عمر – والراعي لا يعرفه – يا راعي الغنم بعني هذه الشاة من شائك، فقال يا سيدي إني عبد مملوك، ليست لي، لا أستطيع! قال قل لسيدك أكلها الذئب، قال فأين الله؟ فبكى عمر، قال قل لسيدك أكلها الذئب، قال فأين الله؟ أأكلها الذئب؟ فبكى عمر، وغدا من الصباح – وليس بينه وبين الصباح إلا سويعة لأنه عرَّس – إلى مولاه، اشتراه وأعتقه، قال يا عبد الله كلمة أعتقتك في الدنيا، وإني لأرجو الله أن تعتقك يوم القيامة، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩، الجزاء من جنس العمل، لَهُم مَّغْفِرَةٌ ۩، ما هي المغفرة؟ هي الستر والتعفية، هي الستر والتعفية، ومنها المغفر الذي يُوضَع على رأس الجُندي ليستره.
وفي الحديث أن عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه – لما حصب المسجد – أي جعل أرضه الحصباء – سُئل في ذلك، لِمَ فعلت؟ فقال أغفر للنخامة، أي أستر للنخامة، المغفرة هي الستر، والجزاء من جنس العمل، مَن راعى الله في الخلوات فبدرت منه بادرة في الخلوات أو الجلوات كان الجزاء أن تُستَر عليه، لماذا؟ لأنه راعى الله في خلوته، فإذا ما أخطأ، إذا ما عثر، وإذا ما زلت به القدم، ستره الله – تبارك وتعالى -، لا يفضح له ستراً أبداً، لا يُسوِّد له وجهاً أو ناصيةً بين الناس.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۩… عجيب! هذه الآية الثانية كالتوكيد للمعنى، كالتوكيد للمعنى! وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩، بكل ما يحيك في النفوس، بكل ما يحوز فيها، الله مُطلِع عليه، عالم به، مكشوف له انكشاف الظاهر لنا، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، أما الْخَبِيرُ ۩ فوجهها بيّن لائح، خبير! وأما اللَّطِيفُ ۩ فهي كالآتي، لماذا قال اللَّطِيفُ ۩؟ توهَّموا وتخيَّلوا وتصوَّروا أن رقيباً من بني آدم يلزم أحدكم في ليله ونهاره، في غدوه ورواحه، وفي حله وترحاله، كيف يُصيِّر معيشته وحياته؟ نكداً على نكد، لو أن رقيباً يلزمك في كل الأحوال يقع لك من الحرج ومن الشدة والضنك ما يجعل حياتك أنكد حياة وأسوأها، لكن الله – تبارك وتعالى – معنا دائماً وأبداً في ليلنا ونهارنا دون أن نشعر بذلك ودون أن يثقل علينا، لأنه لطيف، واللُطف هو الدقة وحُسن التأتي للأمور.
ومن لُطفه – تبارك وتعالى – أنه يتأتى إلى الأمر بضده، وهذا من لُطفه، لا إله إلا هو! ولذلك قد يكون هلاك الإنسان بيده وعلى يده فيما توسَّل به وتوسَّطه سبباً في المنجاة، وهذا من مكر الله، ومن لُطف مكره، لا إله إلا هو! هذا معنى وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، لا إله إلا هو!
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا نخشاه حتى كأنا نراه، وهذا كان من جُملة دعائه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك، وأسعِدني بتقوالك ولا تُشقِني بمعصيتك، اللهم آمين.
أقول هذا القيل وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُوصي مُعاذاً حين بعثه وسيَّره إلى اليمن فيما أخرجه الإمام أبو بكر البزّار في مُسنَده أيضاً، فيقول له يا مُعاذ اخش الله – تبارك وتعالى – واستحي منه استحياءك رجلاً ذا هيبة من أهلك، وهذا أسلوب تربوي رفيع وخطير الأهمية، وقد أجمعت كلمة العارفين والسادة المُحقِّقين – رضوان الله عليهم أجمعين – على أنه من المندوب – كما نقل الإمام النووي في المنهاج، شرحه على مُسلِم – والمُستحَب أن يُحاوِل الإنسان قدر ما استطاع جُهده مُلازَمة الصالحين وأجلة المُؤمِنين أو جلتهم، لماذا؟ لأن مُلازَمة هؤلاء تُربي في قلبه الهيبة والتعظيم لهم أولاً، فيترقى بعد ذلك، فتتربى هيبة الله في قلبه، إذا كان يستحي من العباد أفلا يستحي من رب العباد؟
وهذا المعنى الذي أجمع عليه المُحقَّقون مأخوذ من قول رسول الله في الحديث الذي ذكرته لكم، وفي حديث آخر أخرجه الإمام الطبراني عن أبي أُمامة الباهلي – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أوصى رجلاً من أصحابه، قال له استح من الله كما تستحي من رجلين – هنا قال من رجلين – عظيمين في عشيرتك يُرافِقانك، أي ولا يتركانك، كيف تستحي منهما؟ كيف ترعى حُرمتهما؟ فاجعل في البداية – وهذه درجة المُبتدئين – حياءك من الله مثل هذا الحياء، اجعل حياءك من الله مثل هذ الحياء!
بعض الناس يستحي من المشايخ، وهم بُسطاء خطّاؤون، يُراعونهم! أفلا نُراعي الله – تبارك وتعالى -؟ أفلا نرجو لل وقاراً؟ فلتكن هذه البداية، ومن هنا قال السادة العارفون بالله – عرَّفنا الله به ودلنا عليه -، قالوا وهذه هي البداية، هذا مقام المُبتدئين، أن تُراقِب الله وأن تعلم أنه عليك رقيب في سرك وإعلانك، فمَن لم يتحصَّل له هذا المقام فأنى له بمقام العارفين؟ وقبل ذلك أنى له بمقام المُريدين؟
هذه هي البداية، هذه أول خُطوة في الطريق، فلتكن هذه بدايتنا، وهذا يحتاج إلى تربية، النفس تحتاج إلى زم، تحتاج إلى زم – أن تُؤخَذ بزمام – لأنها تنزع بصاحبها شر منزع – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، بعض الناس يُدلِّل هذه النفس، ويقول مُباح لي أن أُدلِّلها وأن أُعطيها سؤلها، فماذا تفعل به هذه النفس – والعياذ بالله -؟ من سيء إلى أسوأ ومن هلكة إلى تهلكات – والعياذ بالله -، حتى تُورِده المهالك، والمعاصي بريد الكفر، تستسهل الصغيرة فتجرك إلى ما هو أكبر، حتى تتردى وتحتقب – والعياذ بالله – كبائر الإثم والعدوان، فتهلك وأنت لا تدري، وربما طُبِع على قلبك بكثرة الذنوب والران، كما في حديث الترمذي روى الإمام البيهقي في شُعب الإيمان أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال الطابع – وهو الذي يطبع به الله تبارك وتعالى على قلوب الأشقياء المحرومين المنكودين – مُعلَّق بقائمة عرش الرحمن، لا إله إلا هو! فإذا انتُهِكت الحُرمة وعُصيَ الله واجُترئ عليه، بعث الله الطابع، فيطبع على قلبه، فلا يعقل بعدها شيئاً، هذا مُمكِن! نحن نسمع عن أُناس يُصلون ويزنون – والعياذ بالله -، يُحافِظ على الصلوات ويزني!
سمعنا أشياء تقف لها شعور الأبدان والله، والله أشياء تُكذَّب لولا أنها من ثقات، كيف تُصلي وتسمع الموعظة وتُحافِظ على الصلوات ربما ثم تزني يا شقي؟ أهذا جهل أم طبع أم ختم أم جراءة على المولى الجليل – لا إله إلا هو -؟ لو فعلت هذا مرة وتُبت إلى الله توبة نصوحة فالله يتقبَّل التوبة عن عباده، لكن أن تفعل ذلك على سبيل المُداومة فهذا علامة الشقاء وعلامة الطبع، فاحذر يا رجل!
أيها الإخوة:
قبل أيام وقع حادث سير – حادث سيّارات – مُروِّع لأحد إخواننا، نسأل الله له الشفاء العاجل، وقد لطف الله به لُطفاً عظيماً، وانظروا إلى تثبيت الله، عبرة عجيبة وأي عبرة! يقول هذا الأخ الفاضل، يقول والله كأن هذه المُصيبة نزلت علىّ من السماء، وهو لا يدري ما الذي حدث له، سيّارة مُسرِعة جداً دخلت فيه من جانبه وهو لا يدري، بسرعة ربما تُناهِز المائة والعشرين كيلاً في الساعة، في لحظة! قال لا أدري، لكن انظروا إلى التثبيت، وإن شاء الله نحسبه من الصالحين، أي هذا الأخ، قال والله لا أدري، لم أفهم شيئاً إلا أنني قلت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي واقض عني ديني، الله أكبر! هنيئاً له، هو يحسب أنه مات، ثبَّته الله في هذه اللحظة، لكن العبرة الثانية ماذا طلب؟ أقال اللهم حقِّق أمنيتي في بناء فيلة كبيرة أو قصر عظيم مشيد؟ أقال اللهم حقِّق أُمنيتي في الحصول على شهادة كبيرة يزيد بها راتبي ومنزلتي وحُظوتي بين الناس؟ أطلب شيئاً من سفاسف الأمور؟ كلا، في مثل هذه أو في مثل تلكم الساعة وتلكن الساعة – أيها الإخوة والأخوات – لا يرجو المرء إلا ما ينفعه غداً بين يدي الله، ما شاء الله! قال كلمة التوحيد، ثم قال اللهم اغفر لي ذنبي واقض عني ديني، عليه ديون المسكين، فقط! قال ثم لا أدري بعد ذلك ما الذي وقع لي، أُغشيَ علىّ، لكنه قال واقض عني ديني.
اعملوا لهذه الساعة، واعلموا أنكم مُلاقوا الله – سُبحانه وتعالى – قريباً من قريب، اليوم أنت وغداً هو وبعد ذلك ذاك وذلك وذلكم، قريباً من قريب، وسريعاً سريعاً، فالوحا الوحا، والنجاة النجاة، عودوا إلى الله وتوبوا إليه، والله الذي لا إله إلا هو ليس أهنأ لعيش المرء ولا أكثر طمأنينة لقلبه ولا أقر لعينه من خشية الله ومُراعاة الله والعيش في كنفه واستشعار عنايته وكلاءته عليه، هذا أحسن شيئ وأعظم شيئ، تعيش في الدنيا مسعوداً، وتموت مُطمئناً – إن شاء الله تبارك وتعالى -، وتُبعَث أيضاً آمناً مُطمئناً، فاتقوا الله، اتقوا الله! لماذا نسعى في هلكة أنفسنا دون أن ندري؟ نسأل الله أن يُعيننا على أنفسنا.
اللهم أعِذنا من شر نفوسنا، اللهم ألهِمنا رُشدنا، اللهم إنا نبتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، اللهم أسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت.
اللهم واجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.
اللهم أوزِعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحاً تراضاه، وأصلِح لنا في ذُرياتنا، إنا تُبنا إليك وإنا من المُسلِمين.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا يا رب العالمين.
لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، وهماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه يا رب العالمين.
اللهم أعطِنا سؤلنا، اللهم أعطِنا عطيتنا يا رب العالمين وطَلِبتنا وحقِّق أمانينا، اللهم أقرِن بالعافية غدونا وآصالنا، وحقِّق بالزيادة آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات وبالسعادات آجالنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك ونضرع إليك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبالمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، فإنه لا يُعجِزك، اللهم أرِنا فيهم تعاجيب قدرتك، اللهم أدِر عليهم دائرة السوء، اللهم أنزِل عليهم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، زلزل الأرض حتى أقدامهم، اجعلهم شماتةً للشامتين وعبرةً للمُعتبِرين يا رب العالمين، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، واسألوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(10/10/2003)
أضف تعليق