إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۩ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
ما معنى أن نتنادى إلى التواصي بالمُطالَبة بالحقوق وصيانة الحريات حين نكون في وضع الاستضعاف وحين نكون مُستضعَفين مُضامين ومظلومين حتى إذا ما أسعدنا القدر فتمكَّنا بعض تمكن انتقلنا من وضعِ المُستضعَف إلى وضع المُمكَّن أو المُتمكِن ومارسنا العنف والإقصاء والقهر في حق الآخرين؟ ما دلالة هذه الظاهرة السيئة – لا نقول العجيبة أو الغريبة فقط بل نقول السيئة – التي تدل على عورة كبيرة من عوراتنا المسلكية والثقافية؟ دلالتها أن الحريات لدينا وسائل وليست غاية مقصودة لذاتها، فالحرية ليست غايةً تُطلَب لذاتها، وطبعاً في نظر ومن رأي الألباء الأحقاء بالحياة الكريمة وبالحياة الشريفة أن الحرية مطلوبةٌ لذاتها في حق الذات وفي حق المُخالِف وفي حق الناس أجمعين لمَن أحببنا ولمَن كرهنا، كما أن الظلم مشجوبٌ منكورٌ ملعونٌ بذاته في حقنا وفي حق غيرنا، والعدل ينبغي أن يكون مبسوطاً للجميع على سواء فيما لا تُضاف ولا تُنسَّب، فهذا تفكير الألباء الأحقاء بالحياة الكريمة الشريفة، ليسوا النهَّازين – نهَّازي الفرص – وليسوا الذرائعيين، فإذن دلالتها الأولى أن الحرية ليست مطلوبة عندنا لذاتها وإنما تُطلَب وسيلة، وسوف نرى كيف تُطلَب وسيلة، وكذلك الحقوق بما فيها صيانة حق الإنسان في أن يعيش كريماً لا يُهان ولا تُمتهَن كرامته بالسجن أو بالتعذيب أو بالإذلال أو بالتخويف أو بالترويع، فهذه حقوق بل هذه في رأس الحقوق – هذه الأمور تأتي في رأس الحقوق – لكن حتى الحقوق لا نطلبها لذاتها، فلسنا مُؤمِنين بها لذاتها وإنما نُؤمِن بها وسائل وذرائع، كيف؟ لأننا نتوسَّلها ونتذرَّع بها شعاراتٍ ومُطالَباتٍ وتشغيباتٍ وإنكار على مَن يكون في السُلطة حين نكون مُستضعَفين – بإسم الحقوق والحريات والديمقراطية نستنكر ونشجب ونلعن ونُطالِب – حتى إذا ما صرنا في سُدة السُلطة ألغينا هاته الحقوق وشطبنا على تلكم الحريات وبدأنا نتحول إلى ظلمة وإلى طواغيت شيئاً فشيئاً وأحياناً بسرعة دراماتيكية ونتوسَّل العنف والقهر الآن، فطاحت الحريات لأنها شعارات وطاحت الحقوق لأنها شعارات، هذه ألفاظ وشقشقات وطقطقات كلامية وبيانية وبلاغية وسياسية، فإذن ما هو المطلوب لذاته؟ السُلطة، السُلطة هى المطلوب لذاته، وفي سبيل السُلطة وفي سبيل أن نقتنص السُلطة رفعنا شعارات الحرية والحقوق والديمقراطية – فقط لكي نقتنص السُلطة – حتى إذا صارت إلينا ضحينا هاته الشعارات، فهى مُجرَّد شعارات ماذا نُريد منها؟ لقد أوصلتنا إلى السُلطة الآن، وفي سبيل السُلطة ضحينا بالحقوق والحريات وتوسَّلنا واصطنعنا العنف والقهر والإقصاء والإلغاء والترويع والإرهاب، وهذا أمر عجيب، لماذا؟ حفاظاً على السُلطة، فلكي تقتنص السُلطة وأنت مُستضعَف لابد أن تلغو بإسم الحرية والحقوق والديمقراطية – هكذا يُضحَك على الجماهير وعلى العالم الداخلي والخارجي، وبإسم هاته الأشياء تقتنص السٌلطة – وحين صارت إليك السُلطة أصبحت الحقوق والحريات قمينة وكفيلة أن تسلبك هذه السُلطة حين لا تستحقها، فهى تقول لك لا، يبدو أنك أخذتها بالغلط، غلط مُعين حصل فذهب وغادر، ومن ثم تقول إذن لا للحقوق ولا للحريات ولا لهذه الأشياء، هذه المرة نعم للقهر وللعنف وللذرائع وللوسائل – كل الوسائل الخسيسة – في سبيل المطلوب لذاته، وأعز ما يُطلَب – بلغة ابن تومرت أعز ما يُطلَب – السُلطة، فنحن بالأمس ضحينا بالحقوق والحريات حين جعلناها مُجرَّد شعارات – هذه تضحية وهذا امتهان وابتذال لها لأنها أجل وأقدس مِن أن تكون مُجرَّد شعارات – واليوم ضحينا بها بذبحها وتوسَّلنا بأضدادها وأعدائها بالقهر والإلغاء والإقصاء، وهذا أمر عجيب، فهذه وسائل مُتضاَدة ومُتناقِضة، مرة هكذا ومرة هكذا في سبيل الغاية الوحيدة وأعز ما يُطلَب وهى السُلطة، فالسُلطة تُقتنَص بالحرية ويُحافَظ عليها بذبح الحرية، هذه هى القضية ببساطة ولذلك انتبهوا، ينبغي إذا أردنا أن نبني ثقافة – ثقافة كرامة وثقافة إنسانية وثقافة سياسية صحيحة – أن نتعلَّم وأن نُعلِّم وأن نصدر عن هذا المنطق، وهو أن هذه القيم تُطلَب لذاتها لنا ولغيرنا ولمَن أحببنا ولمَن كرهنا، كما أن الحياة تُقدَّس لذاتها في المسلم وغير المسلم وفي المُوافِق والمُخالِف وفي القريب والبعيد، كما أن العدل كذلك، وكل هذه القيم النبيلة تُطلَب لذاتها بغض النظر عن أي شيئ، لا يُمكِن أن تكون وسائل لغيرها لأن هذا لا يصح، هذه مطلوبة لذاتها، هذه غايات ومقاصد لذلك انتبهوا، لكن الأمر تكشَّف بسرعة – طبعاً أنا لا أعني الكل وإنما أعني قبيلاً وقطاعاً مُحدَّداً من الناس ولكنه واسع الانتشار – عن عدم إيمان بل عن تذرع مفضوح بالديمقراطية والشورى والصناديق ولهذه المفاهيم العصرية، تكشَّف عن انتهازية ذرائعية مفضوحة تتوسَّل هذه الأشياء لأنها غير مُؤمِنة بها إيماناً حقيقياً، لماذا؟ لأن غير معقول عند أول درجة وفي أول خُطوة من مشوار الاختلاف والتعددية أن نُطالِب بالذبح وأن نُطالِب بالقتل وأن نقتل ويقع القتل، فنحن نُطالِب به ويقع لكن بإسم ماذا هذه المرة؟ بإسم الدين، علماً بأن الذين يُطالِبون بقتل المُخالِف وقتل مَن يُعارِضون ليسوا فقط من الإسلاميين وحدهم بل هم من غير الإسلاميين أيضاً، ولكن غير الإسلاميين الخطب معهم يسير لأنهم لا يتكلمون باسم الدين، يجنون على أنفسهم ويستحيلون إلى مُجرِمين وإلى عابثين وحارقين للأوطان، وهذه جريمة كُبرى، ولكن هذا المُتدين الذي يتوسَّل الدين الآن الدين نفسه أصبح وسيلة أيضاً لأغراض خسيسة تدور كلها على السُلطة وليس على الدين، فهذا ليس غيرةً على الدين وليس حفاظاً على الدين وإن أقسموا وأقسموا وأقسموا، لا نُريد أقسامكم وأنتم لم تبهرونا بدفاعاتكم وأيمانكم، هيا افعلوا وأبهرونا، احكوا شيئاً يُبهِرنا ويُقنِعنا، لكنكم لن تُفلِحوا في هذا، لذا لم نقتنع ولم ننبهر قط، فلم يُضحَك هذه المرة وإن حلفتم وحلفتم وحلفتم وأقسمتم ألف مرة وليس مرة واحدة، لكن كيف يتم ذلك؟ لأن – كما قلت – الجريمة هنا مُضاعَفة، فهى جريمة بحق الوطن وجريمة بحق الدين، وهذا الذي نخشاه، نحن الآن مُتدينون ونحن الآن على منبر نتحدث ويهمنا بدرجة أولى ديننا حتى لا ينصرف عنه أبناؤنا وبناتنا وحتى لا تكفر به هذه الأجيال الحرة المُتطلِّعة الطُلعة الواعدة الفوَّارة التي تتفجر حريةً وكرامة وعنفواناً وتختلف عن اللفق القديم الذي استمرأ الذل والعار والكذب والتزييف، ولكن ما من أسف هذه الأجيال حتى لا نراها في السُلطة، لا نراها ولا نرى لها دوراً حقيقياً يليق بجهادها واجتهادها ويليق بتفجيرها لثوراتها لأنها استُبعِدَت على عجل، وهذا عار علينا، عار وألف عار، لكن كيف يتم هذا؟ ولماذا يتم هذا على هذا النحو؟ لماذا يُنتهَك – ليس فقط يُقنَّع وإنما يُنتهَك – الشرط السياسي – إن جاز التعبير – والهم السياسي والمشغلة السياسية بالديني؟ لماذا؟ الجواب هو للالتباس الحاصل والذي يُساهِم فيه بعض مَن يتكلم في الدين بل الكثير مِمَن يتكلم ويتكلمون في الدين يُساهِمون في تعزيز هذا الالتباس بين الديني والسياسي، كيف؟ أنا أُريد أن أُساهِم الآن في هذا وإن كان ليس هذا موضوع الخطبة، فموضوع الخُطبة اليوم عن التعددية والمُعارَضة هل يقبل بها الطرح الإسلامي المُعاصِر أم لا، علماً بأنني لا أقول الإسلام وإنما أقول الطرح الإسلامي المُعاصِر، فأنا أشمئز من مثل هذه الطريقة في التعبير التي تقول الإسلام والتعددية، إسلام ماذا؟ هل الله أنزل لك فتوى من السماء هكذا إسمها الإسلام والتعددية؟ كيف يُمكِن أن نجرأ على هذا؟ كيف يُمكِن أن يُقال الإسلام والمُعارَضة السياسية؟ لا تقل لي هذا وإنما قل لي الفكر الإسلامي المُعاصِر والطرح الكذائي الإسلامي والتعددية، هذا طرحك أنت وطرحي أنا وطرح الحزب الفلاني والجماعة الفلانية، فلا تقل لي الإسلام والإسلام والديمقراطية، لا يتحدَّث بهذه اللغة إلا إنسان يُريد أن يُكرِّس وأن يُعزِّز هذا الالتباس الحاصل وأن يلعب في الخفاء، أي في خفاء ظلمات الالتباس و في هذا الغبش الفكري والتنظيري الذي نُأمِّل أن يُصبِح مفضوحاً ومكشوفاً حتى لا يستتر به اللاعبون غير الأكفاء في هذه اللعبة الخطيرة جداً على الدين وعلى الأوطان، فلا تقل لي الإسلام وإنما قل لي الفكر الإسلامي أو الاجتهاد الإسلامي أو الرأي الإسلامي أو رأي فلان ورأي علان، فقط هذا هو، وأنتم لستم معصومون ونحن لسنا معصومين ولسنا أنبياء ومن ثم نُخطيء ونُصيب، فلا تقل لي الإسلام، ولكن إذا قال لك الإسلام وامطلت عليك الحيلة أو قال لك الإسلام يُحرِّم التعددية فإذن قُضِى عليك يا مسكين ويا مُغفَّل، سامحوني أقصد قُضِى علىّ أنا المُغفَّل، فهو يقول لك هذا الإسلام لكن هذا ليس الإسلام يا أخي، اربَعْ عَلَى ظَلْعِكَ بالله ربك، هذا ليس الإسلام بل هذا ما تفهمه أنت، مَن أعطاك رخصة أن تتكلَّم بإسم الله؟ حين تقول الإسلام كأنك تقول هذا ما قال الله وهذا ما قطع به الله، فمن أين لك هذا؟ هذه كلها اجتهادات وحتى الصحابة اختلفوا، وفي شؤون السياسة بالذات أكثر شيئ اختلفت فيها الأمة، وكما قال الإمام الشهرستاني وغير الشهرستاني ما سُلَّ سيفٌ في مسألة – أي بسبب مسألة – ما سُلَّ في مسألة الإمامة، فهذه الأمة تذابحت وتناكرت وتمزقت بسبب السياسة، والآن تقول لي الإسلام والسياسة والإسلام والمُعارَضة والإسلام والديمقراطية والإسلام وكذا، لكن هذا ليس الإسلام، هذا رأي فلان ورأي علان، فانتبهوا وكونوا حذرين وكونوا لبقين وكونوا فطنين حتى لا يُضحَك عليكم!
نأتي إلى الموضوع الرئيس لخُطبة اليوم، لكن نتكلَّم الآن في دقيقة أو دقائق عن الالتباس وعن انتهاك الشرط السياسي للمشغلة السياسية بإسم الدين، لماذا؟ لأن هناك التباس كبير، وسأوضِّح هذا بطريقة أسأل الله أن تكون مُحِقة وأن تكون أيضاً واضحة سهلة، لا يُمكِن أن نعتمد حالة التصالح بين نطاقين نظريين أو عمليين لاستتباع أحدهما للآخر، فحالة التصالح لا تُبرِّر استتباع أحد المجالين للآخر، لكن كيف هذا؟ يعني نحن نتحدَّث عن الدين وعن السياسة وعن الدين وعن الطب وعن الدين وعن العلم، فهم يقولون لك الدين والعلم – Science أو Naturwissenschaft – لأن هناك حالة تصالح في الإسلام لا حالة اختصام أو تخاصم بين الدين والعلم، لكن هل هذا يجعل العلم تابعاً للدين؟ هل هذا يجعل العلم وكل العلوم النظرية والتطبيقية مُختَّصات دينية؟ هل هذا يُخوِّل لعالم دين أن يتكلَّم في الفيزياء والكيمياء والجبر والفيزياء الفلكية والطب والهندسة ووظائف الأعضاء بإسم أن الدين في حالة تصالح؟ لا أبداً طبعاً، فهذا مُستحيل، وكذلكم الحال في الطب وفي الهندسة وفي الاقتصاد وفي كل شيئ، نعم الإسلام كدين في حالة تصالح مع الطب، ولا تُوجَد في هذا مُشكِلة – ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له دواءاً، تداووا عباد الله، والنبي كان يتداوى، فإذن هذه حالة تصالح – لكن هذا لا يجعل الطب مُستتبَّعاً للدين ولا يجعله من مُختَّصات الدين، لكن الآن يُقال الإسلام أمر بالطب وأمر بالدواء وقال الله وقال الرسول وقال عمر وقال فلان فإذن انتهى الأمر وأنا عالم دين أتكلم في الطب، فما هذا التخبيص؟ ما حالة الهبل هذه؟ كذلكم في السياسة، السياسة شأن دنيوي، أنتم أعلم بأمور دنياكم، تقول الآية الكريمة وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ ۩، فهذا أمر دنيوي ومن هنا تختلف فيه الآراء، وهناك – كما قلت في الخُطبة السابقة – رؤية عامة إجمالية يُمكِن أن تُقدِّمها فلسفة ما ويُقدِّمها الدين أيضاً للتعاطي مع هذا المجال، فهذه رؤية فلسفية عامة لا علاقة لها بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل وما تحت تفاصيل التفاصيل، هذه متروكة للعقل البشري وللعبقرية الإنسانية وللمُشترَك الإنساني أيضاً، فهناك مُشترَكات إنسانية لا علاقة لكفر وإيمان بها، ومن هنا – بالله عليكم – من أسخف ما نقع فيه ومن أسخف ما يقع فيه الأسلاميون وشبابنا الضائع المسكين الحيران استدعاء نعوت وألقاب الكفر والإيمان في قضايا من هذا القبيل، كأن يقول لك أحدهم الديمقراطية كفر وتعدد الأحزاب حرام شرعاً، فلماذا؟ يقول هذا تشبه بالكفار، لكن ما دخل الكفار هنا؟ لماذا تستدعي نعت الكفار؟ ما دخل الكفر والإيمان في هذه القضية؟ هل قضية الأحزاب لها علاقة بكفر أو إيمان؟ إذا كان لقضية سفينة الفضاء وسفينة الماء – السفينة العادية – علاقة بكفر وإيمان فكذلك سوف يكون لتعدد الأحزاب وهذه الأشياء علاقة بكفر وإيمان، فلماذا تُستدَعى هنا نعوت الإيمان والكفر؟ للتلبيس على الناس وللضحك على الناس ولكي ننتهك الشرط السياسي ولكي نُفرِّغ المشغلة السياسية من روحها ومن معناها فنلعب بها بإسم الدين ونصل إلى ما نُريد ونحرق – كما قلت – الأوطان والأديان فلا بأس لأنه بإسم الدين، لكن هذا لعب مكشوف، ما علاقة هذه النعوت بهذه القضايا؟ هذه مُشترَكات إنسانية عامة، أنتم أعلم بأمور دنياكم!
النبي حين أشار عليه سلمان الفارسي أن يحتفر خندق من حول المدينة يُبادِر به طوفان هؤلاء الأحزاب الملاعين لم يقل له من أين أتيت بها يا فارسي فنحن لا نعرف هذا في جزيرة العرب وفي مهد الإسلام ومن ثم هذا تشبه بالفرس، النبي لم يقل له هذا بل استحسنها جداً وقال هذه حيلة ما كانت لتعرفها العرب، أي أنها حيلة ذكية، من حيل أعداء الله وعبَّاد النار الكفار، لكن هل هذا تشبه بالكفار؟ لا تُوجَد علاقة هنا بالكفر والإيمان، فهذه الأمور ليس لها علاقة، هذه مُشترَكات وتجارب إنسانية، حين تركب دراجة – Fahrrad أو Bicycle – فهذا ليس له علاقة بكفر وإيمان رغم أن الكفار صنعوها، وكذلك الحال حين تلبس نظارة الكفار صنعوها، وهذا تماماً مثل تعدد الاحزاب والديمقراطيات والبرلمانيات، لكنهم يقولون لك هؤلاء كفار وهذا تشبه بالكفار، فما هذا الاستهبال؟ هل هذا فكر؟ هل هذه فتوى؟ هل هذا دين؟ هل هذا شرع؟ ما هذا يا أخي؟ والآن يتحدَّثون عن حالة الحيرة والتخبط التي تتخبط فيها أمتنا اليوم من هذا الالتباس، فهى من هذا الضحك على الاجيال بإسم الدين!
عمر بن الخطاب انتقل من حاكم دويلة صغيرة إلى إمبراطور يحكم بضع عشرة دولة، فكيف هذا؟ كيف يُريد هذا الرجل الذي جاء من خلفية جاهلية وأسعده الله بالإسلام في سنوات معدودات أن يُدير إمبراطورية؟ الرومان عندهم خبرة أكثر من ألف سنة في الإدارة وقريب منهم الساسانيون، وأنت يا ابن الخطاب من أين لك هذا؟ قال سوف نأخذ نظام الدواوين، ونظام الدواوين عرفته فارس وعرفها الرومان لكننا سوف نأخذ النظام هذا، ولم يقولوا له هذا تشبه بالكفار، هل تتشبه بالكفار وبالبيزنطيين وبأعداء الله ورسوله وبعبَّاد الصليب يا ابن الخطاب؟ اتق الله، لم يقل رجل أهبل في أمة محمد هذا الكلام أيام عمر، لأن لم يكن فيها تلك الوفرة من الهُبّل مثل اليوم، علماً بأنني مُنفعِل قليلاً – أستغفر الله – فسامحوني، وعلى كل حال أخذ بهذه الدواوين، ولم يقل أحد له مَن تشبه بقوم فهو منهم، هل يُقال في المُشترَكات الإنسانية هذا؟ هل هذا إيمان وكفر؟ هذا إسمه هبل وحماقة وليس إيماناً وكفراً، هذه حماقة تُستحمَق بها أمة وهذا التباس، لكن نحن نُريد أن نفض هذا الاشتباك وأن نكشف هذا الالتباس، فإذن حالة التصالح بين نطاقين نظريين أو عمليين لا تقتضي استتباع أحدهما للآخر ولا أن يُصبِح من مشمولاته ومضموناته ومن برامجه ومباحثه، فهذه ليس له علاقة بتلك، نعم أنت عالم الدين والدين يُبارِك الطب لكن لا تتكلَّم في الطب – أطال الله عمرك – إلا أن تكون طبيباً، مُستحيل أن أعطيك مالاً لكي تبني عُشة صغيرة وأنت لست مُهندِساً وإن كنت مفتي الجمهورية، فهذه ليس لها علاقة بتلك، فأنت لا تفهم أي شيئ في الهندسة ومن ثم سوف تقع هذه العشة على فراخي، ومن المُمكِن أن تقع على وطنه كله حين يكون المُواطِنون هم الفراخ، ومن ثم سوف يذهب الوطن كله، لكن هذه ليس لها علاقة بتلك، وكذلكم في السياسة، ولذلك النبي – عليه السلام – كما قلنا لكم قال لأبي ذر إني أراك ضعيفاً، فهذا أبو ذر هل يُزايد عليه في الإيمان والتقوى والصلاح وإرادة الخير؟ لكنه طلب الإمارة، ومع ذلك قال له النبي لا يُمكِن هذا، فلا يُمكِن أن أوليك عملاً إدارياً حتى بمثابة تفويض صغير كما يُقال، وليس التفويض الذي يُعادِل رئاسة الوزراء اليوم ويُسمونها سُلطة التفويض أو وزارة التفويض، وإنما هذا تفويض صغير جداً أشبه بالتنفيذ، ومع ذلك قال له هذا لا يُمكِن، وهذا معنى أنه قال إني أراك ضعيفاً، فهذه ليس لها علاقة بالدين، أنت دين ومُتدين صادق لكن هذه مسألة ثانية ليس لها علاقة بهذا لأنها تحتاج إلى كفاءات، تقول الآية الكريمة إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ۩، فيُمكِن أن يكون أحدهم قوياً ولكنه ليس أميناً، وهذا إذا فسَّرنا الأمانة بالمعنى الأضيق لها وهو النزاهة، لكن لا يُمكِن أن يكون أميناً إذا لم يكن قوياً، فانتبهوا إلى هذا لأنه مُهِم جداً جداً جداً، فهذا الترتيب القرآني يقول لا يُمكِن أن يكون أميناً إذا لم يكن قوياً، لأن الشرط الأول للأمانة بمعناها الذي يتعدى النزاهة – يشمل النزاهة ولكنه يتعداها – فيكون أحدهم أميناً على العمل لا يُمكِن أن يتحقَّق إلا إذا كان قوياً، إما إذا لم يكن قوياً فهو ليس أميناً، فهل أنت الآن تأتمن على روح ابنك – لا قدر الله ولا سمح – الذي حالته الصحية حرجة تستدعي عملية جراحية مُوسَّعة – جراحة باطنية مُوسَّعة لمدة خمس ساعات – طبيباً لا يزال الآن تحت التدريب؟ هو دارس – ما شاء الله عليه – لكنه لا يزال يتدرب الآن، ومن ثم لا يُمكِن أن تفعل هذا، سوف تقول هو غير أمين على هذا الشيئ، نعم نيته هذا حسنة الرجل الطبيب – ربما هو أخوك أو ابن أخيك أو ابن الجار أو شيخك – المُتدرِّب الآن فقط لأنه تحت التدريب لكن ليس عنده خبرة واسعة، ومن ثم سوف تقول لا لن أئتمنه، فإذن ماذا تُريد بالأمانة؟ هل تُريد النزاهة؟ هو نزيه أصلاً، هل تُريد حُسن النية؟ هو عنده حُسن النية، فإذن تُريد ماذا؟ القدرة والكفاية والقوة، هذا هو القرآن الكريم الذي أتى بهذا الترتيب العجيب، فهو لم يقل الأمين القوي وإنما قال الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ۩، بعد أن نفرغ من التحقق بشرط القوة يأتي الشرط الذي تحصل به الأمانة مثل النزاهة والعفة وإلى آخره، فهذه أشياء أخرى، إذن من المُمكِن أن يكون أحدُ الناس قوياً ولكنه ليس بأمين، لكن مُستحيل أن يكون أميناً ما لم يكن قوياً، فالعلاقة علاقة عموم وخصوص مُطلَق، كل أمين قوي ولكن ليس كل قوي أميناً، أي أن العلاقة علاقة عموم وخصوص مُطلَق كما يقول المناطقة، فهذا هو إذن.
الدين في حالة تصالح مع الشغل السياسي لأن القرآن قال لا مُشكِلة في هذا، اعملوا دولة وابنوا دولة وكوِّنوا الأحزاب واعملوا الإدارات وقسِّموا السُلطة، فهذا شأنكم أنتم ومن ثم دبِّروه بطريقتكم ومأسِّسوا هذه المعاني، أي وضعوا معايير وإجراءات واضحة دقيقة يُرجَع إليها في الشأن العام، فهذا معنى المأسَّسة وليس أن تبني لها مكاناً، هذا أحد تجليلات المأسَّسة أحياناً، فانتبهوا لأن نحن عندنا هذه المفاهيم الاجتماعية ولكننا بعيدون عنها كل البعد، لم نتثقَّف بها ومن ثم هى غير موجودة في مُعجَمنا، فنعتقد أن المُؤسَّسة هى بناء ونقول هذه المُؤسَّسة، وهذا غير صحيح،المُؤسَّسة مُصطلَح سياسي اجتماعي في العلوم الإنسانية يدور على معايير واجراءات تلاحق دائماً، وعلى كل حال مأسِّسوا هذا، فالقرآن في حالة تصالح مع الشغل السياسي، ولكن هذا لا يجعل الشغل السياسي شغلاً دينياً بحيث يسمح لبعض هؤلاء المُلتبِسين والمُلبِّسين أن يقول بايعوا فلاناً الفلاني وإن لم تُبايعوه حلت بكم النقم، بل أن بعضهم استدعى لعنة الله، فما رأيكم؟ ما هذا؟ وأين يحصل مثل هذا؟ ماذا أقول مرة ثانية؟ هل أقول ما هذا الهبل؟ أين يحصل هذا؟ هذا يحصل في بلادي، في بلاد العرب أو في بلاد العُرب يحصل هذا، يُقال بايعوا فلاناً وإن لم تُبايعوه فإني أُنذِركم بكذا وكذا من الله عز وجل، اللعنة على كل مَن لم يُبايع هذا، سوف تذهب البلد إلى ستين داهية إن لم يُبايَع، فما هذا؟ ما علاقة اللعنة وأن فلان مُلتحٍ وأن فلان يُصلي الجماعة في حكاية بايعوه؟ ما هذا الكلام يا جماعة؟ هل هذه عوامل القوة فيه؟ هل هذه هى رموز ومفاتيح كفايته؟ هل معنى أنه يُصلي الجماعة وعنده لحية – ليست طويلة كثيراً لكنها تكبر الآن كما قالوا، فإن شاء الله سوف تكبر ولا مُشكِلة في هذا – أنه مُؤهَّل لهذا؟ ما هذا الكلام؟ هل هكذا تُمارَس السياسة؟ هذا يُقال بإسم الدين ويُضحَك على المُتدينين الغلابة أمثالنا من الذين يرتادون المساجد ويُصلون ويبكون وما إلى ذلك، فهم يضحكون عليهم ومن ثم يذهب هؤلاء المساكين لكي يُصوتوا لهم، لأنك إن لم تفعل سوف تُصبِح ملعوناً وستصير عدواً للإسلام، فانتبهوا من العلمانيين والليبراليين وأعداء الإسلام، ومن ثمشقوا الوطن وشقوا المُجتمَع وشقوا الشعب، لكن يا أخي حتى هذا الذي تسميه ليبرالي وعلماني هو يُصلي معك الجمعة وبعض الجماعات وربما يكون أتقى لله منك يا رجل فاتق الله، ما هذا الكلام؟ ماذا تُريد أنت؟ ماذا تُريدون من الأمة؟
على كل حال حالة التصالح تُبرِّر لهم أن يجعلوا المشغلة السياسية مشغلة دينية ويستدعوا فيها المُعجَمية الدينية، مثل وكفر وإيمان وملعون ومرضي أو مرضي ومسخوط وإلى آخره، ويتحدَّثون عن المُفاصَلة والولاء والبراء وعن أعداء الإسلام وأنصار الإسلام وكل هذه القصة الكبيرة، لكن كل هذا انتهاك للشرط السياسي وتفريغ للعمل السياسي من مضمونه، وبالتالي إفشال لمشاريعنا – لكل مشاريعنا – بعد ذلك، ففي الحكم وفي السُلطة وفي التغيير وفي الإصلاح تفشل هذه المشاريع، وواضح أنها تفشل ومن ثم علينا ان نكون واضحين.
نأتي الآن إلى موضوعنا، لكن طبعاً قبل أن أُدلِف إلى الموضوع أُحِب فقط أن أتساءل لماذا أشعر – وأنا مُتأكِّد أنكم تشعرون شأني – بغضبٍ زائد وباشمئزاز – أي غضب يُصاِحبة اشمئزاز أو حالة اشمئزاز وقرف كما نقول – من ضحية الأمس الذي استحال إلى جلاد اليوم؟ نحن نتقزَّز من هذا ولا نكتفي بالغضب عليه بل نشعر بالتقزز من حالته، ونقول له يا رجل أنت بالأمس كنت مُضطهَداً، أنت كنت نزيلاً في أقبية السجون والزنازين وكنت تستصرخ وتستنجد بالأرض وبالسماء وبالقريب وبالبعيد وبالقيم وبالحريات وبالمواثيق، الآن لماذا بدأت تجور على الذين هم خارج السُلطة؟ قد يقول لي أحدكم هذه ظاهرة طبيعية وهى تحصل كثيراً وأنا أفهمها وأنت تفهمها لكن هل تتفهمها؟ أنا أيضاً أفهمها ولكنني لا أتفهمها، لا أطلب لها تبريراً ولا أطلب لها تسويغاً، فقط أفهمها ويسوءني فهمها ولكنني لا أتفهمها، وأنت أيضاً تلعب على التباس بين الفهم والتفهم، لأنك تقول لي هذه ظاهرة طبيعية وهذا يقع، ونعم هو يقع لكن هل تُبرِّره؟ هل تُسوِّغه أم تتقزز منه وتسخط عليه وتشجبه وتُنكِره بالصوت القوي الجهير؟ هكذا ينبغي أن تفعل، لكن هل تعرفون لماذا؟ نحن بمعنى آخر أُبسِّط غضبنا يكون أشد على ضحية استحال جلاداً من جلاد من يومه جلاد، فغضبنا أشد على الضحية التي استحالت جلاداً أشد من غضبنا على جلاد وُلِدَ – إن صح التعبير – يوم وُلِدَ جلاداً وعرفناه يوم عرفناه جلاداً، فاليوم مُعظم جلادي حكام العرب لم نعرفهم يوماً إلا وهم جلادون، من يوم يومهم كما بنقول بالعامية وهم جلادون، وإن كنا طبعاً نكرههم ونلعنهم، كما قال النبي وشِرارُ أئِمَّتِكم الَّذين تُبْغِضُونَهم ويُبْغِضُونَكم وتَلْعَنُونَهم ويَلْعَنُونكم، فطبعاً نلعنهم وتلعنهم الأرض والسماء بسبب هذا الظلم، فلا يُوجَد أسوأ من الظلم على الإطلاق، ولا تُحدِّثني عن أي شيئ آخر، فأسوأ شيئ على الإطلاق هو الظلم، وخاصة ظلم العباد وظلم مَن جعلهم الله تحت سطوتك وفي قبضتك، وهذا معنى اشتد غضبي على مَن ظلم مَن لم يجد له ناصراً غيري، فالله يغضب هنا والسماوات كلها تغضب من هذا الظلم الذي لا تبرير له، لكن لماذا غضبنا هنا أشد؟ هل تعرفون لماذا؟ هذا ما يُعطيه الحس العام Common Sense لأن الجماهير أحياناً تعرف طريقها، ولذلك يُقال الجماهير لا تُعلَّم، فمن الصعب أن تُعلِّم أمة، يُمكِن أن تُعلِّم أفراداً أو أحزاباً أو قطاعات لكن الأمة كأمة تعرف طريقها، مثلما قال جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau ما مِن قائد مُظفَّر يتقدَّم الجماهير لكي يُعلِّمها، علماً بأن كل الأذكياء يصدرون عن هذا المنطق، وكل الأغبياء والمغرورين وغير الاكفاء لا يفهمون هذا المنطق، فما رأيكم؟ الأغبياء يفهمون أنهم يُريدون أن يُصوِّبوا الجمهور وأن يُعلِّموا الشعوب، فهؤلاء مُنتفِخون ولا يفهمون شيئاً، وعلى عزت بيجوفيتش Alija Izetbegović – رحمة الله تعالى عليه – قال هذه العبارة التي سيكتفي بنقلها جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، فهو قال نفس العبارة تقريباً، فهل قرأها إذن؟ ربما لكنني لا أقطع بهذا، ولكنه كان قائداً كبيراً وقائداً حقيقياً وصاحب رؤية وإنسان عظيم – رحمة الله عليه – بل كان – ولا يزال بعد موته – إنساناً قبل أن يكون قائد أمة وقائد شعب رحمة الله عليه، فأمتنا تحتاج إلى هذا الطراز من القادة من أصحاب الوزن الثقيل حقاً والذين يعيشون بعد أن يتولوا وبعد أن تنقضي أو ينقضي سُلطانهم كفلاسقة وكمُفكِّرين وكمُصلِحين وكبشر وليسوا كحاكم، فالحكام كثيرون ويذهبون ويجيئون، ما وزن أحده؟ هذا كلام فارغ،ولكن مثل هذا يبقى، ويبقى على الأزمان، وعلى كل حال جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau قال ما مِن قائد مُظفَّر يتقدَّم الجماهير لكي يُعلِّمها، فهو يُريد أن يُعلِّمها ويُريد أن يُخرِجها من الظلمات إلى النور، وهذا ما فعله النبي وليس نحن، نحن لا نقدر على أن نفعل هذا، وهو قد يسبقها في الطريق فقط ويقول لها هذا الطريق ويترك الباقي عليها لأنها تعرف هذا، فهى تعرف فعلاً أن هذا هو الطريق ومن ثم لا يُضحَك عليها، فالحس العام عند البشر سليم بفضل الله، ومن هنا الفطرة تهديهم، فبالحس العام نُبغِض الضحية الذي استحال جلاداً مثلما قال فرويد Freud ضحية الأمس جلاد اليوم، فنحن نُبغِض هؤلاء ونشمئز منهم أكثر من الجلادين على الدوام، هل تعرفون لماذا؟ هناك منطق وراء هذا الشيئ، وراء هذه المُفارَقة في الظاهر يُوجَد منطق حقيقي، فما هو؟ لأن الجلاد الذي ما عرفناه إلا جلاداً – سبحان الله – يبقى مُتاحاً له هامش اعتذار، فنعتذر عنه بإمكان أن ينصلح لحاله وبإمكان أن يتوب يوماً لأنه ضحية لما لا يعرف، فهو لم يُجرِّب الظلم ولم يُجرِّب الهوان ولم يُجرِّب الألم والحرمان، لكن أنت الضحية جرَّبت الظلم وجرَّبت الهوان وجرَّبت المنافي والسجون والضغط والإكراه والفضيحة والافتراء والإقصاء والعنف والقتل والذبح وتسييح الدم، فلم وأنت اليوم في السُلطة لا تشعر بهذا الشيئ؟ لم لا تُقدِّر للآخرين هذه الأوجاع وهذه الآلام؟ ما من هامش للاعتذار، غسلنا أيدينا منك لأن لا خير فيك، واضح أن لا خير فيك وواضح أنك مضروب على مُستوى الأسس الإنسانية، فأساسك كإنسان مفقود، ومن ثم واضح أنك شرير جداً، وهذا الشيئ مُخيف جداً، ولذلك أنا أقول لكم هذا خطر على الإسلام، وأنا أتحدَّث عن بعض الناس الذين ليسوا في السُلطة، ولكن الذين في السُلطة يجمعهم بهم الطريق العام Mainstream، فكلنا إسلاميون، نعم هذا إخواني وأنا سلفي لكنني أُريد أن أذبح وأقتل وأُكفِّر وألعن وأطلب القتل أيضاً، لكن كيف هذا وهو إسلامي؟ يقول لك لأن لحيته قصيرة وأنا أطول، لكن كلنا إسلاميون، فكيف لو كنت في السُلطة يا رجل؟ هذا لن يدعو إلى القتل بل سيُبادِر مُباشَرةً إلى القتل بإسم الدين، ويُصلي ويُكبِّر ولا يتأثَّم ولا يتحرَّج، وهذا شيئ مُرعِب وشيئ مُخيفـ ولكن هناك سؤال آخر: بالله عليكم ما ذلكم الإغضاء الكريم والتسامح والمُلاينة أيام كان النظام السابق وأيام الاستبداد السابق؟ لقد كنتم – ما شاء الله عليكوا – من أطوع الناس وكنتم تنطوون على لطفٍ كبير وتُهادِنون حتى الحكام المُستبِدين الطواغيت الظلمة وتُحرِّمون الخروج عليهم بل تجعلونه كفراً، فكان عندكم إغضاء عن الكل، إذن لماذا انقلبتم شرسين إلى هذه الدرجة؟ هذا يتأدَّى بنا إلى فتح ملف آخر أيضاً مُقلِق – والله العظيم – ومُؤلِم، فهذا الملف يفور بالألم، وهو أن هذا التسامح المُقنَّع المُزيَّف قشرة لبسناها، فنحن لبسنا قشرة التسامح – أُريد أن أتناص إن جاز التعبير مع نزار قباني، فهذا إسمه التناص في علم النقد الأدبي، فهو قال لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية، وأنا أقول لقد لبسنا قشرة التسامح والروح مُتزمِّتة – والروح في الداخل مُتعصِّبة جداً ومُتزمِّتة جداً، هل تعرفون ما الذي قمع تزمتها؟ هل تعرف ما الذي ضغطه وكبته؟ قوة السُلطة وجبروت السُلطة الطاغية المُستبِدة، السُلطة الطاغية المُستبِدة حين لا تُريد الفوضى لا تكون فوضى، وحين تُحِب الفوضى تخلقها ضماناً لا لاستقرار المُجتمَع ولكن لاستقرار العرش، هكذا كل السُلط الطاغية المُتسبِدة تفعل هذا، وتبث الفوضى أحياناً وتُفجِّر كنيسة هنا وتقتل شيخاً هناك، فلماذا تفعل السُلطة الداخلية هذا؟ لكي تُضعِف المُعارَضة ولكي تعمل نوع من الإزاحة – Shifting – أيضاً، أي إزاحة النظر وإزاحة الاهتمام عن مظالمها وعن ظلمها وعن طغيانها إلى أمور أخرى، فهذا صرف نظر تفعله السُلط!
في تاريخنا الإسلامي عرفنا التعددية على المُستوى الفقهي وعلى المُستوى العلمي، هناك مئات المذاهب الفقهية، فأنتم تعرفون سبعة أو ثمانية أو تسعة منهم في حين أن كان هناك مئات المذاهب ولكنها انقرضت، كل شيخ ذكي وشاطر وحوله جماعة يعمل مذهباً، فأصبح لدينا مئات المذاهب، والدولة أحبت هذا طبعاً من باب إضعاف الجمهور وليس من باب نشر التسامح ولا التقبل طبعاً، وقد خلق هذا جو من التسامح – بحمد الله يعني – غير مقصود، ولكن تسامح عليه علامة استفهام، ولا زلنا إلى أمس القريب نعيش هذا التسامح ونختلف في المذاهب الفقهية وحتى في الفرق العقدية وإلى آخره ونتعايش، ويوم ينفجر هذا النظام الطاغية المُستبِد ويذهب مثل صدام وغير صدام ينفجر المُجتمَع بالكراهيات المكبوتة وبالحقد وبالتزمت وبالتعصب وبالتذابح وبالتناكر وبالتكافر إن جاز التعبير، كلٌ يُكفِّر كلاً وكلٌ يذبح كلاً، فرُعِبنا من هذا الشيئ، لماذا؟ لأن التسامح ليس حقيقياً، هو تسامح قشوري قشري وتحته تزمت مكبوت، كبتته السُلطة وكبته حذاء السُلطة، يُريد ضمان حد أدنى من الاستقرار حتى لا تفلت الأمور، ويوم ما تُرِكنا لثقافتنا ولعقليتنا ولمنابرنا تذابحنا وتكافرنا وتقاتلنا، وهذا ما يحدث في كل مكان، بدل أن تستحيل الحرية نسائم عليلة نتنفس بها الهواء الطلق الصحي السليم استحالت أعاصير اقتلعتنا فإذا بنا خفيفي الوزن، كله يطير في الزوبعة، فكله طائر ولا مكان للاستقرار، حالة حيرة وتردد وتيه وضرب في عماء بغباء بسبب هذه الثقافة، لكن لا تنسوا حتى لا أُيئسكم أن هذه الثقافة عمرها ألأف وأربعمائة سنة، وعبر تاريخنا للأسف حدث فيه هذا، فحتى جزء من التاريخ الراشد وقع فيه هذا، وإلا
كيف قضى عثمان رضوان الله عليه؟ قضى قتيلاً شهيداً، عليّ – عليه السلام – كيف ذهب؟ شهيداً، عمر قضى كذلك، لكن عمر لم يقتله حزب سياسي أو طرف سياسي وإنما قتله رجل فارسي ملعون إسمه أبو لؤلؤة لعنة الله عليه، وإن كان بعض الناس يترضون عليه إلا إننا نقول لعنة الله عليه إلى يوم الدين، قتل رمز العدل ورمز القوة والأمانة في الأمة، فهذا ليس حزباً سياسياً، هذا واحد ملعون قال أكل كبدي عمر، لا أبقى الله لك كبداً ولا لأمثالك، لكن عثمان وعليّ لم يُقتلا على هذا النحو، وبعد ذلك من عثمان إلى اليوم كل نزاعاتنا السياسة والسُلطوية يحكم فيها السيف، أليس كذلك؟ دائماً السيف وفقط باستمرار، فحتى النزاع بين المحكومين وهم بالملايين – أي الأمة – وبين الحكامين وهم قلة على الكراسي حاضر فيها السيف، والأمة برَّرت السيف، وكان الإمام أحمد يقول أليس معه السيف؟ فالإمام أحمد عنده – ما شاء الله – منطق سياسي عجيب، قال لا مُشكِلة في هذا وينبغي أن تسكت، يُبصَق في وجهك ويُداس في بطنك وتسكت، يُؤخَذ مالك ويُضرَب ظهرك وتسكت، فلماذا يا أبا عبد الله؟ قال أليس معه السيف؟ هو الحاكم وعنده السيف يا أهبل وعنده الجيش ومن ثم اسكت، فما هذا المنطق؟ وبذا ظللنا في هذا الذل والعار والشنار إلى اليوم، فالسيف هو الذي يحكم في خلافاتنا!
نأتي الآن إلى موضوعنا لأننا للأسف ضعنا في المُقدِّمات وهو عن التعددية، هل يُبيح الإسلام أن تتعدَّد الأحزاب في الأمة الإسلامية؟ قد يقول لي أحدكم من المُؤكَّد أنه يُبيح طبعاً، لم لا؟ هذا شيئ طيب ومزاياه السياسية كثيرة جداً، ثم يبدأ يتكلم كسياسي، ويأتيك الذي يُقنِّع السياسي بالديني بل ينتهك السياسي بإسم الديني ويقول لك لا، هذا حرام شرعاً ولا يجوز يا أخي، أعوذ بالله وعياذاً بالله من هذا، أحزاب ماذا؟ قال الله كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، فالله – عز وجل – شجَب الأحزاب، ونحن عندنا حزب واحد إسمه حزب الله – ليس حزب نصر الله وإنما حزب الله الوارد في القرآن الكريم – فقط، قال الله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ۩، فهذا حزب واحد فقط للأمة كلها، هذا لكل الأمة وباقي الأحزاب ملعونة، وهذا أيضاً مثال على حالة الهبل التي نعيش فيها بصراحة،لماذا؟ هل كان يُوجَد أيام الرسول أحزاب مثل اليوم؟ هل كان عندهم ما يُسمى بالـ Party – هذه معناها حفلة ومعناها حزب أيضاً، ونحن في حفلة اليوم – أيضاً؟هل كان عندهم مفهوم الحزب السياسي؟ لم يكن هذا لديهم، فهذا غير معروف في ذلك الوقت لأنه ابتداع أوروبي حديث، لم يكن موجوداً لكن المُشكِلة في الترجمة فقط، فجزاه الله خيراً وعفا الله عنه الذي ترجم، كان ينبغي يا ابن الحلال ألا تُترجِم Party بحزب، لأن الحزب كلمة غير مُستحسَنة في القرآن الكريم إلا أن يكون حزب الله، فسمه – مثلاً – الفصيل السياسي أو التشكيل السياسي أو القطيع السياسي، سمه بهذه المُسميات أو عرِّبه، ونحن عندنا مُعرَّبات كثيرة، فكلمة تليفون كلمة مُعرَّبة من Telephone، فنحن نقول بالعربية تليفون ويقول أحدنا – مثلاً – بيني وبينك تليفون، فالتليفون مُعرَّب إذن، وكذلك التلفزيون مُعرَّب، فالـ Television هو التلفاز، إذن هو إسم مُعرَّب وليس إسماً مُترجَماً، فعندما تقول الرائي نقول هذه ترجمة لكن حين تقول تلفزيون فهذا تعريب، وكذلك الحال مع الراديو، فالراديو مُعرَّب أيضاً من كلمة Radio، ومن ثم يُمكِن أن تقول لي بارتي Party، قل لي – مثلاً – البارتي الديمقراطي أو البارتي الوحدوي أو البارتي التائه الخرب وأريحنا من كل هذا فينتهي كل شيئ، حتى لا يخرج لنا مَن يتكلَّم في الدين ويقول قال الله كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ فإذن هذا لا يجوز، الأحزاب مذمومة لأن الله ذم الأحزاب، لكن قل لي يا رجل المضمون شيئ والعنوان شيئ، فنعم العنوان إسمه حزب لكن المضمون شيئ آخر مُختلِف تماماً، بمعنى أن كل الأحزاب الإسلامية – أي التي فيها مسلمون – في العالم العربي والإسلامي في نهاية المطاف هى ضمن الحزب واحد وهو حزب الله لأنهم مسلمون، فالأمة الإسلامية كلها حزب واحد، لكن قد يقول أحدكم لي كيف تتحقَّق هذه الحزبية الواردة في قول الله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ۩؟ وأنا أقول له تتحقَّق بدخول المرء في دين الله، أي أن يكون مسلماً وليس كافراً فقط، فهو مسلم شيعي أو مسلم سُني أو مسلم إباضي أو مُسلِم مُعتزِلي أو مُسلِم خوارجي أو أي مُسلِم آخر، المُهِم أنه مسلم وفقط، هذا هو المطلوب، أي أن يكون من أهل “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” وأن يُصلي إلى قبلتنا ويأكل ذبيحتنا ويحج كعبتنا ويُؤمِن برسولنا وبربنا وبكتابنا وإلى آخره، فهذا مسلم إذن، ومن ثم ينتهي كل شيئ، أما أن يُقال هذا أشعري أو ماتريدي أو وهابي أو صوفي أو اثنا عشري فهذا كله لام فارغ وليس له علاقة بما نقول، كلنا حزب الله، فهذا حزب واحد على اختلافهم، ألم يختلف الصحابة في الفروع الفقهية؟ اختلفوا في مئات المسائل، أحدهم يقول حلال والآخر يقول حرام، أحدهم يقول صحيح وآخر يقول باطل وهكذا في مئات المسائل الفقهية، واختلفوا أيضاً أيام رسول الله، فهذا حدث ورسول الله حي بين ظهرانيهم وسكت وأقرَّ المُختلِفين – وأنتم تعرفون القصة – فلماذا إذن؟ لكي يقول لنا :الاختلاف الفقهي في الفروع الفقهية لا يُحيل الامة الحزب إلى أحزاب مُتناحِرة، تبقى حزباً واحداً على أنها مذاهب فقهية مُتعدِّدة.
عبد الله بن مسعود خالف سيدنا عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليهما – في أكثر من مائة مسألة فقهية، علماً بأن هذا فقط الذي أحصاه العلماء ورجعوا إليه، فإذن هذا حدث في أكثر من مائة مسألة وما خفى كان أعظم، ومع ذلك كانا أخوين مُتحابين، ولا تقل لي كانا مُتحزِّبين فقهياً، ما معنى كانا مُتحزِّبين؟ هذا كلام فارغ، ليس عندنا مُشكِلة في وجود أحزاب فقهية فهذا جائز، ولكن الحزب المذموم أو الاحزاب المذمومة ما هى؟ ما هو الذي يُقابِل حزب الله من المُفلِحين؟ علماً بأن كلمة يُقابِل لا تعني يُرادِف أو يُعادِل وإنما يُقابِل الضدد، فانتبهوا لأنني استمع إلى مُفكِّرين كبار ودكاترة وبروفيسورات Professors – – في النت – Net – وفي التلفزيون – Television – يقول لك يُقابِل وهو يُريد المُرادِف، وهذا شيئ مُؤلِم، فهو أكاديمي كبير ومُؤلِّف كتب ولا يعلم هذا، وعلى كل حال يُقابِل معناها يضاد، أي أنه ضده، فالمعنى هو الضديد، فالمُراد بالأحزاب التي هى ضد حزب الله كل الأحزاب التي عادت الله ورسوله، أي كل الأحزاب الكفرية، فهم ليسوا من أمة محمد وإنما كفار، فهذه هى الأحزاب التي تحدَّث الله عنها وقال أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ۩ وقال أيضاً وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ۚ ۩، فسواء أنكر الدين كله أو أنكر بعض أصوله الرئيسة العميدة هو كافر ومن الأحزاب الهالكة، لكن الأحزاب الفقهية لا تجعلنا أحزاباً بالمعنى المذموم، قد تُوجَد أحزاب علمية أو مذاهب علمية أو مدارس علمية دون أي مُشكِلة، والأكثر من هذا الآن: هل في المسائل السياسية اختلف الصحابة أم اتفقوا؟ اختلفوا كثيراً، متى اتفقوا؟ أكثر شيئ لديهم هو الاختلافات السياسية، في كل شيئ في السياسة اختلفوا، فلماذا حدث هذا في السياسية بالذات؟ هل تعرفون لماذا؟ إذا جاز وساغ أن يختلفوا في الفقهيات فطبعاً لابد أن يكون أسوغ وأدخل في باب الجواز أن يختلفوا في السياسيات، وأنتم تعرفون ما هو السبب، لأن هذه الفقهيات المعروفة في العبادات والأحوال الشخصية والمُعامَلات الدينية فيها نصوص من الكتاب والسُنة، لكن السياسة أين نصوصها؟ أنت قد تقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره إذا أردت أن تتكلَّم بلغة سياسية واضحة ولا تجد عشر آيات في هذا الصدد، فلكي تتحدَّث عن الديمقراطية قد تقرأ فيها اليوم خمسين ألف صفحة ولا تنتهي، لأن الحديثة عن الديمقراطيات وهذه قصة كبيرة، وفي كتاب الله وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ۩ وفي كتابه أيضاً وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ ۩، فإذن الحديث عن التشاور، أي أن لديك ثلاث أو أربع آيات وأنت تقوم بتأويلها، فهذه آيات تقبل التأويل وتحتاج إلى تأويل من هنا ومن هنا لكي تقول لي يُوجَد أساس للديمقراطية، فنحن ليس عندنا أي أحكام سياسية مُفصَّلة في كتاب الله، ولذلك قال أكبر عقل تحدث في السياسة – أي السياسة الشرعية كما يسمونها – في العصور الوسطى إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني – أستاذ أبي حامد الغزالي رحمة الله عليه – إن مُعظم مسائل الإمامة عريةٌ عن مسالك القطع وخاليةٌ عن مدارك اليقين، علماً بأن عنده كتاب يُعَد أعظم كتاب في تلك العصور أُلِّفَ في السياسة الشرعية وفي علم السياسة من وجهة نظر علماء الدين إسمه غياث الأمم في التياث الظلم ويُعرَف اختصاراً بالغياثي، فهو قال إن مُعظم مسائلِ الإمامة – ما المقصود بالإمامة؟ الخلافة العُظمى، أي السياسة – عريةٌ عن مسالك القطع وخاليةٌ عن مدارك اليقين، فانظروا إلى هذا الإمام الفاهم وليس إلى الذي يتحدَّث عن حالة التصالح ويقول أن الدين سمح لك أن تُدبِّر أمرك فإذن الدين سياسة وإذن نتكلَّم في السياسة بإسم الدين، فما هذا الكلام الفارغ؟ مُعظم المسائل السياسية تدخل في باب الاستصلاح، أي أن هذه مصالح مُرسَلة، لكن ما مصالح مُرسَلة؟ سوف أُبسِّط لكم المعنى، المصالح المُرسَلة هى مصالح لم يرد نصٌ شرعيٌ بخصوص آحادها، فهل كان عند الصحابة لما جمعوا المُصحَف نص في هذا؟ لم يكن عندهم هذا، فإذن هذه مصلحة مُرسَلة، لا تُوجَد آية في كتاب الله أو حديث في سُنة المُصطفى – عليه السلام – يقول اجمعوا القرآن في مُصحَف واحد، علماً بأن كلمة مُصحَف كلمة حبشية وليست عربية، فهى كلمة مُصحَف كلمة حبشية معناها الكتاب، أي أن حتى كلمة مُصحَف هى كلمة حبشية فهل هذا تشبه بالكفار لأننا نأخذ منهم المُصطلَحات Terms؟ على كلٍ لا يُوجَد حديث عن النبي يقول اجمعوا القرآن المُفرَّق في الصحائف والعسب واللخاف والأكتاف في مُصحَفٍ واحد، لكن الصحابة علموا هذا، أبو بكر وعمر قالا بهذا وكلَفا به زيد بن ثابت، والامة سعدت ووافقت على هذا، فلا مُشكِلة في هذا لأن هذه مصلحة مُرسَلة، هذه مصلحة وفيها خير وإن كان لا يُوجَد أي دليل بخصوصها، لكن يُوجَد دليل عنها بالعموم، فما دام هذا يُفيد ويحفظ كتابنا فلنفعل، فهذا ليس دليلاً خاصاً وإنما هذه أدلة عامة، فهل – مثلاً – يُمكِن لنا أن نُوثِّق عقود الزواج كتابياً؟ سوف يقول لي أحدكم هذا لا يُمكِن، فلماذا نفعل هذا؟ لكن هذا ليس من قديم يا جماعة، هذا عمره حوالي مائة أو مائة وعشرين سنة، لكن قبل هذا كانت عقود الزواج كلها بالشهادة، وإذا مات الشاهدان أو ذهبا في تسونامي وما إلى ذلك تحدث مُشكِلة، وندخل في قصة الطلاق والميراث وما إلى ذلك، لكن فيما بعد قالوا لك سوف نكتب هذا في عقد والشاهدان يمضيان أو يبصمان – أيام الأمية – ونتحفظ بهذا العقد، تأخذ نُسخة عندك ونُسخة في السجل المدني، فأهلاً وسهلاً بهذا، فإذن هل هذا مُمكِن أم لا؟ هذا مُمكِن، هل عندك دليل بخصوصه؟ لا يُوجَد دليل يقول سجلوا عقودكم في كذا وكذا لا في الكتاب ولا في السُنة، لكن يُوجَد دليل عام لأن هذا فيه مصلحة للناس، فإذن هو مصلحة مُرسَلة!
سيدنا عثمان لما حرَّق المصاحف وجمع الناس على مُصحَف واحد إسمه الإمام – يُسمى بالمصحف العثماني نسبة إليه وليس بمعنى Ottoman نسبة إلى Osmanlis، وإنما هو عثماني نسبة إلى عثمان بن عفان، ومن هنا يُقال المُصحَف العثماني – الصحابة أقروه وعليّ قال لا تُنكِروا عليه، فهو قال ما حرَّقها إلا عن رأيٍ منا، أي أننا باركنا هذه الخُطوة، فهو فعل هذا استصلاحاً، ولما عمر دوَّن نظام الدواوين فعل هذا استصلاحاً لأن هذه مصالح مُرسَلة، فالمصالح المُرسَلة بالألوف.
لما اتخذوا السجن – لم يكن هناك سجن بمعنى بناء تسجن فيه الناس تضع لهم حرَّاس وأكل وشرب وما إلى ذلك – كانت هذه مصلحة مُرسَلة، وهذا تشبه طبعاً بغير المسلمين لكن لا مُشكِلة في هذا، لأن هذه كلها مصالح مُرسَلة، ومُعظم السياسات مصالح مُرسَلة، ومن هنا أبو الوفاء بن عقيل – رحمة الله عليه – له عبارة في قمة الروعة، فهى عبارة ثمينة وأمينة وعظيمة، فماذا يقول فيها؟ أبو الوفاء بن عقيل صاحب كتاب الفنون الذي يُقال أنه يقع في ثمانمائة مُجلَّد، فهذا أوسع كتاب في تاريخ الإسلام، وهذا الرجل كان موسوعة وبحراً رحمة الله عليه، وقد فسَّر آية السحر في سورة البقرة في مُجلَّد ضخم حوالي أربعمائة صفحة، فهو فعل هذا مع آية واحدة، وهذا شيئ مُرعِب، فانظروا ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل الذي لديه هذا الذكاء، فهذا ابن عقيل وليس أحد المُصابين بالهبل، فهو يقول السياسة ما هى؟ السياسة كما أفهمها أنا ما كان معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد وإن لم يرد بخصوصها – أي بخصوص هذه السياسة – كتابٌ أو سُنة، فأنا ليس عندي آية قرآنية وليس عندي أحاديث نبوية بصددها ولكنني حين أصطنع هذه السياسة سوف ينصلح أمر الناس، فأمرهم سوف يُصبِح أقرب من – يُقال أقرب من وليس أقرب إلى لأن الفصيح هو من وليس إلى لكن ابن عقيل قال أقرب إلى – الصلاح وأبعد عن – يُقال أبعد عن وليس أبعد من، فانتبهوا إلى الفصاحة، هذه فصاحة اللغة العربية، لكن ابن عقيل قال أبعد من – الفساد، ثم قال لمُخاطَبه – أحد الشافعية – وإن أردت أن السياسة الشرعية ليس إلا ما نطق به الكتاب والسُنة فهو غلطٌ وتغليطٌ للصحابة، أي أنه قال له أنت مُخطيء وتُخطيء أصحاب رسول الله، ويكفي أن الصحابة حرَّقوا المصاحف وأن الصحابة أخذوا بنظام الدواوين وأن وأن إلى آخر الأشياء التي ضربتها لكم، فهو قال هذه الأشياء ليست في الكتاب والسُنة والصحابة اتفقوا عليها، فإذن هل هم مُبتدِعون؟ هل هذه سياسة جاهلية غير شرعية؟ هو قال له افهم أن هذه هى السياسة، ولذلك الإمام العظيم شهاب الدين القرافي – تلميذ العز بن عبد السلام رضيَ الله تعالى عنهما والعلَّامة المالكي الكبير والأصولي الحاذق صاحب الفروق – ينقل عنه صاحب معين الحكام قائلاً: قال الإمام الشهاب القرافي لا يُنكَر التوسعة في الأحكام السياسة على الحكام، والمقصود بالحكام هنا القضاة، انتبهوا فهؤلاء ليسوا حكام الدول وإنما حتى القضاة، وابن القيم الجوزية في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية له كلام ولشيخه ابن تيمية – رحمة الله عليهما – في غاية النفاسة والجودة – والله – في هذا الباب بالذات، وأمور كثيرة لم ترد بها الشريعة لو اصطنعها القاضي يستطيع أن يصل بها إلى الحق ويستطيع أن يستخرج بها الحق من المُبطِل، وهى غير أمور البينة وغير أمور الشهادة، أي أشياء أخرى، فهو قال لا مانع في هذا، يقدر الحاكم على أن يستخدمها من باب السياسة الشرعية وإن كانت غير منصوصة في الكتاب والسُنة ولكنها تُعيد الحق للناس، فانظروا إلى هذا الفهم، وليس مثل اليوم يُريدون نصاً في كل شيئ، وحتى حين تأتي للواحد منهم بمُصطلَح يقول لك أُريد نصاً يُبرِّر هذا المُصطلَح أو هذا الاصطلاح، وهذه حالة جمود غريبة جداً!
وماذا بعد؟ كلمة حزب ليس فيها أي شيئ، كلنا حزبٌ واحد، فنحن حزب الله وإن اختلفت أحزابنا وبرامجنا السياسية سنظل حزباً واحداً، لكن قد يقول لي أحدكم الآن هذا غير صحيح فلا تُدلِّس علينا، نحن عندنا حزب يساري شيوعي يا سيدي وحزب مُلحِد في دولة عربية إسلامية، وأنا أقول له نعم هذا ليس من حزب الله وإنما هذا من أحزاب الشيطان، لأنه هو الذي يقول لك أنا لا أؤمِن لا بربك ولا بكذا وكذا، فأنت حر يا سيدي، أنت حر ومَن معك وليس لي علاقة أكثر من الضوابط الدستورية، دستورياً إذا كان نشاطك مسموحاً به فأهلاً وسهلاً وليس عندنان أي مُشكِلة، لكن هذا في إطار دستوري، بمعنى أن إذا الدستور قال هذه الدولة دولة مسلمة أو دولة إسلامية أو دولة عربية هويتها الإسلام والمصدر الأول والرئيس للتشريع الإسلام فلن يجوز لك كحزب شيوعي أو حتى حزب غير شيوعي يُريد أن يجتث هوية الأمة أن تشتغل هنا، سوف أقول لك هذا ممنوع دستورياً، اذهب عدِّل الدستور ثم ائت لي بعد ذلك، فنحن ليس لنا علاقة بهذا، لأنهم سيقولون المشائخ فعلوا كذا وكذا لكن نحن ليس لنا علاقة، هذه مسألة دستورية، وأنتم رأيتم كيف يُوضَع الدستور، الأمة تُصوِّت عليه وتضعه لجان مُتخصِّصة ذكية أمينة وفية وقادرة ولكن الأمة أيضاً له دور ولابد أن يتحقَّق فيه قدر كبير من التوافق، فهذه مسائل لها ضوابط دستورية، لكن فيما عدا ذلك المسلمون وإن تعدَّدتهم برامجهم السياسي وبالتالي أحزابهم هم حزبٌ واحد، أي هم حزب الله، فمثلما تعدَّدت مذاهبهم الفقهية ما بين مالكي وحنفي وحزمي أو ظاهري وإمامي وزيدي وإلى آخره هم حزب الله وهم الأمة الواحدة، أمة لا إله إلا الله.
قال لك بعد ذلك لا يجوز أن تتعدَّد الأحزاب السياسية، لماذا؟ لأن الحاكم الذي يحكم في الدولة المسلمة يحكم بشريعة الله، فما معنى أن تتعدَّد الأحزاب؟ لماذا تتعدَّد؟ لماذا تُعارِض؟ لا وجه هنا للمُعارَضة السياسية، لكن هذا كلام فارغ، وهذا لا ينطلي على أحد، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه الحكومة الآن التي تحكم هى في سُدة السُلطة وتحكم بالإسلام وبالشريعة الإسلامية وهى أولاً ليست كهنوتاً، هى حكومة مسلمة لكنها ليست كهنوتاً، وما معنى أنها ليست كهنوتاً؟ أي أنها ليست معصومة ولا تحكم عن وحي إلهي واجتهادات، فحتى في المسائل الفقهية البحت الحكومة هذه لها أن تحكم في مسائل مُعيَّنة بمذهب مالك، وأنا كمُعارِض لا يعجني مذهب مالك وأُريد مذهب أبي حنيفة، وعندي برنامج بيبرِّره في الاقتصاديات والتربويات والتعليميات والسياسة الخارجية والقانون الدولي أيضاً بآراء محمد بن الحسن وأبي حنيفة وفلان وعلان مثلاً، وهذا يجوز ولا مُشكِلة فيه، فانتبهوا إلى هذين الأمرين التاليين، فأولاً الحكومة ليست معصومة، وثانياً منادح النظر الفقهي مُتسِّعة جداً جداً، وإن وسعه أن يختار أقوالاً يسعني أن أختار أقوالاً أخرى، أما في المسائل غير الدينية والمسائل الأدارية – كما قلنا – أو الحكومية أو السياسية العامة فلا بأس أن نختلف هنا، وهنا قد يقول أحدكم يُمكِن أن تختلف الأحزاب اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، لكن كيف هذا؟ نفترض – مثلاً – أن حزبين سياسيين في دولة يتفقان على ضرورة انتشال الأمة من أزمة المديونية مثلاً، فهم يتفقان طبعاً على هذا لأن هذه مسألة قومية ومُهِمة جداً،ولكن الحزب الأول له خُطة والحزب الآخر له خُطة لا تُناقِضها ولكن له طريق آخر، أي أنه يسلك طريقاً آخراً، فهو يقول ليس عندي أي شيئ ضد طريق الحزب الآخر لكنني آراه أقل نجاعة، طريقي أقوى وأقصر وأكثر نجاعة، فهل هذا اختلاف تنوع أم تضاد؟ تنوع، وأنا أقول لك أن في الشؤون السياسية والإدارية الأمور تحتمل أن يقع فيها اختلاف التضاد، فهذا مُمكِن ومن ثم يجب أن تنتبهوا إلى هذا، لكن لماذا؟ لأن مأتاها ليس قطعياً ومداركها ليست قطعية، فيُمكِن لحزب أن يقول أنا أرى أن برنامج الحزب الآخر برنامج مُدمِّر للبلد لأنه سيُدمِّر اقتصادنا ومن ثم أنا ضده وأقترح كذا وكذا، فهذا مُمكِن ومن ثم لا تُكفِّره ولا تُدخِل الدين هنا، انتبه ولا تُكفِّر هذا الحزب، وأنا أُبشِّركم أن حتى المسائل الدينية وقع في كثير منها اختلاف تضاد وليس اختلاف تنوع، وهو مُبرَّر أصولياً في أصول شريعة الإسلام، بمعنى قد يقول أحد أن هذه الصلاة باطلة، ويقول آخر هذه الصلاة صحيحة، فهل هذا تنوع أم تضاد؟ تضاد، لأن أحدهما يقول إذا صليت بهذه الطريقة سوف تكون باطلة والآخر يقول صلاتك صحيحة، والأمة تتعبد بهذا أو منها مَن يتعبد بهذا، فأحرى في السياسة – أي أحرى في عالم السياسة – أن يقع فيها أيضاً اختلاف التضاد.
للأسف أدركنا الوقت، أيضاً يُشبِّهون ويشغبون على الناس قائلين أن النبي قال نحن لا نُولِّي أو قال لن أولى – هكذا شك الراوي – أمرنا هذا أو لا لن نجعل على عملنا هذا مَن طلبه أو حرص عليه، والعمل الحزبي كله يقوم على ماذا؟ على تزكية النفس وعلى الترشَّح لهذا المنصب والترشَّح لذاك المُهِم ولتلك الوظيفة، وهذا منهيٌ عنه شرعاً، قال عليه الصلاة وأفضل السلام لعبد الرحمن بن سمرة يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة، فإنك أن أوتيتها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها، أخرجه الشيخان، وفي الصحيح أيضاً أن أبا موسى الأشعري أتى ومعه أشعريان – من بلاد اليمن – ورسول الله جاليس يستاك، قال فجعل يتعرضان له يطلبان العمل – استعملنا يا رسول الله، ابعثنا على الصدقات، ابعثني والي على المكان الفلاني، أي أنهما يُريدان وظيفة – وأنا لا أدري – لم يقولا لي – فنظر لي رسول الله – ما هذا؟ أتيت لي باثنين يطلبا الوظيفة ويقول كل منهما استعملني؟ – فقلت يا رسول الله لا – والله – ما أحسست ولا دريت بما قالا لك – أي أنهما لم يقولا لي -، فرأيته وقد قلصت شفته عن سواكه وهو يقول لن لن أو لا – شك الراوي – نُولِّي عملنا هذا مَن طلبه أو سأله أو حرص عليه، فهو قال لك هذه أدلة شرعية، والأمور الحزبية كلها تقوم على الحرص وعلى الطلب بالصور وبالألوان ويُقال انتخبوني ومعكم عمر الراوي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وأما الجواب بالاقتضاب فهو كالتالي: قال تعالى على لسان الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف – عليه السلام – في الآية الكريمة قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۩، وقال السادة العلماء يُستفاد من هذه الآية جواز طلب العمل وتزكية المرء لنفسه إذا كان لا يُعرَف مقامه أو مكانه، أي رجل عنده قدرة وعنده كفاية وواثق من نفسه – إن شاء الله – أنه يُريد هذا الأمر لإقامة الحق والعدل لكن الناس لا تعرف الكفاءات التي عند هذا الإنسان فيجوز أن يتعرض لطلب العمل ولو كان في ذلك نوع تزكية نفس، فهذا أمر ضروري، وانظروا ماذا قال الإمام أبو عبد الله القرطبي، فهو له كلمة حكيمة جداً قال فيها يوسف – عليه السلام – لم يقل اجعلني على خزائن الأرض فإني الحسيب ابن الحسيب أو أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فاجعلني على خزائن الأرض، أي أنه لم يطلب العمل بالحسب، ولم يقل أيضاً اجعلني على خزائن الأرض إني وسيمٌ قسيم، ألا ترى كم أنا حلو وجميل وليطول وعرض؟ وإنما طلب العمل بالحفظ والعلم ولم يطلبه بالحسب ولا بالجمال، فهو هذا إذن وهذا قول القرطبي، وهذا معنى قول الله الْقَوِيُّ الْأَمِين ۩، فيوسف يقول إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۩، فإذن يجوز هذا، ولذلك باختصار حتى لا ندخل في معمية الفقهيات قال الإمام الماوردي – أقضى القضاة وصاحب الأحكام السُلطانية رحمة الله تعالى عليه – في الاحكام وطلبُ الإمارة ليس مُحرَّماً، لكن هؤلاء الناس عندهم فقه غريب، مثل الفقه الذي عند مَن يذبحون ويقتلون الناس، فهؤلاء ليسوا عندهم أي فقه ولا يعرفون ما هو الفقه، لكن هذا مَن؟ هذا الماوردي صاحب الحاوي، عشرون مُجلَّداً في فقه الشافعية فقط، أي أنه كان بحر علم، ومن ثم هو يقول طلب الإمارة ليس مُحرَّماً، لكن كيف هذا؟ قد اختلف عليها أهل الشورى والصحابة أنفسهم تنازعوها، الستة الذين تُوفيَ رسول الله وهو عنهم راضٍ كان كل منهم يُريدها، فهذه معركة سياسية لا مُشكِلة فيها، أهل الشورى تنازعوا عليها واختلفوا عليها، فما رُدَ عنها طالب ولا حُرِمها راغب، لم يُقل لأنه طلبها لن نُعطيه إياها، فالمسألة لابد أن تُحمَل على محامل صحيحة، المُهِم أن الإمام الماوردي تحدَّث أيضاً – وهذا باختصار – عن رجل طلب القضاء – هذه ولاية لأن للقضاء ولاية طبعاً – وقال إن طلب القضاء لتحصيل رزق القضاء الحسن – أي للمُرتَّب لأن بعض المُرتَّبات كانت عالية – فهو مُباح – أي أنه يطلب مباحاً، فما المُشكِلة؟ هذا الإنسان عالم في القضاء ويُريد أن يُصبِح قاضياً لأنه يحتاج إلى المال فهذا الأمر عادي ولا مُشكِلة فيه، نعم هى ليست عبادة ولكنها شيئ مُباح -، وإن طلب القضاء – خُطة القضاء – لكي يُقيم العدل ويرد الظلم كان مُستحَباً، وإن طلبه للتباهي به – كمَن يقول انظر إلىّ يا بنت خالي لقد أصبحت قاضياً، فهناك الكثير من المرضى يفعلون هذا، يُريد الواحد منهم أن يقول أنه صار شيئاً كبيراً في المُجتمَع ولا يهمه أي شيئ بل هو مُستعِد لأن يدفع المال أيضاً ليحصل على هذا، فالأول كان يُريد المال لكن هذا مُستعِد لأن يدفع من حقيبته المال لكي يُعطى هذا اللقب أو هذه الرُتبة العلية السنية في المُجتمَع – فهو مكروه مع اتفاقهم على جوازه، وطبعاً هذا وفقاً للقاعدة الأصولية التي تقول أن الكراهة تُجامِع الجواز، ولكن الحُرمة لا تُجامِع الجواز، فهنا سيحدث جمع نقيضين، كيف يُقال مُحرَّم جائز؟ هذا لا يُمكِن، ولكن يُقال جائز مع الكراهة، ولذا هو قال هذا مكروه مع أنه في الأصل جائز!
هذا هو الفقه، فإذن لا نستطيع أن نُحرِّم العمل السياسي والتعددية السياسية والمُعارَضة بإسم أن هذا طلب ولاية وتزكية نفس، هذا فقه ضعيف والموضوع يحتمل أكثر من هذا بكثير.
أخيراً قالوا مُحرَّم التعددية ومُحرَّم التداول السلمي على السُلطة لأنه يُخالِف شرط الإمامة العُظمى كما فقهه الفقهاء الكبار، فما هو؟ قالوا الإمامة العُظمى تُعطى لواحد طالما هو حي ما لم يكفر، فما دام لم يكفر ولكنه فسق ففسقه على نفسه ويبقى فينا، لكننا قلنا لهم بالله عليكم من أين أتيتم بهذا الفقه؟ لا يُوجَد عليه دليل لا من كتاب الله ولا من سُنة رسوله، قصاره أنه سابقة تاريخية، فمن أيام الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم طبعاً من المُستبِدين كان الذي يأخذ سُلطة لا يُحرِّكه منها إلا عزرائيل أو الاغتيال، فهو يبقى فيها باستمرار، لكن هذا ليس دليلاً، علماً بأن الإمامة أو الخلافة أو أن تُصبِح رئيساً أو ملك أو أي شيئ بمثابة عقد بين الحاكم والمحكوم ويجوز أن يدخله من التقييدات والاشتراطات كل ما يجوز أن يدخل سائر العقود العامة أو الخاصة، فقط بشرط أن تكون شروطاً شرعية، والمسلمون عند شروطهم.
أختم بهذا الدليل الجميل الذي تفطَّن إليه الإمام المُجتهِد محمد بن علي الشوكاني – رحمة الله عليه – في نيل الأوطار حيث كتب باب تقييد الولاية بالشرط وكأنه يعيش عصرنا اليوم ويفهم هذه القصة، فيُمكِن أن الولاية تُقيَّد بالشرط ولذلك كتب باب تقييد الولاية بالشرط وساق فيه حديث عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – الذي خرَّجه البخاري في صحيحه – رحمة الله تعالى عليه – والذي يقول أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – ولَّى في يوم مؤتة – معركة مؤتة – على جيش مؤتة زيد بن حارثة وقال لهم فإن قُتِل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتِل فعبد الله بن رواحة، فهذا مُقيَّد، أي أن هذه الولاية مُقيَّدة، ويوم معركة الجسر كان على رأس جيش المسلمين أبو عبيد الثقفي بن مسعود الثقفي، وأبو عبيد قال أنا الأمير، فإن استُشهِدت ففلان – من ثقيف – فإن استُشهِد ففلان وعقدها لثمانية وهو حي، وفعلاً كتب الله له الشهادة مع حكاية الفيل، أي لما حارب الفيل وقُتِل شهيداً رحمة الله عليه، فهوقُتِل وقُتِل سبعة في أثره منهم – سبحان الله – وولي على جيش المسلمين المُثنَّى بن حارثة رحمة الله تعالى عليه.
اللهم فقِّهنا في الدين وعلِّمنا التأويل، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر والطف بنا فيما جرت به المقادير، اغفر لنا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سيمعُ قريبٌ مُجيب الدعوات.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولاَ تُؤَاخِذْنَا بما فعل السفهاء منا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم استر سخائم صدورنا وأذهِب ضغائنها وكراهياتها وبغضاءها وألِّف بين قلوبنا، اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم أصلِح ذات بيننا، اللهم لُم شعثنا، اللهم حقِّق لنا وحدتنا برحمتك وقدرتك وقوتك يا قوي يا عزيز.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
أضف تعليق