إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ۩ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ۩ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۩ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۩ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۩ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۩ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ۩ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ۩ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
كل عامٍ وأنتم بخير، جئنا في هذه المُناسَبة وبهذه المُناسَبة لنفهم، إبراهيم – صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى سائر الأنبياء والمُرسَلين ولكلٍ وأصحابه – ابتُليَ بالفعلِ، ابتُليَ ليفعل شيئاً، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ۩، ونحن مُبتَلون لنفهم، فهل فهمنا وهل سنفهم كلٌ في بلائه؟ قد يظنُ بعض الناس أن ليس هناك الكثير ليُفهَم، وفي الحقيقة كل ما هنالك هو مُرصَّدٌ للفهم، لأن الذي فُهِمَ ليس إلا النذر اليسير، هذه الحكاية الابتلائية الاختبارية الإيمانية شغلت عقولاً ضخمة عبر التاريخ، حاولوا أن يُفكِّكوا عناصرها وأن يفكوا ألغازها وطلاسيمها، لأنها حكاية مهولة ومُرعِبة ومُخيفة وتتحدى كل الحسابات الاعتيادية، كل حسابات الإيمان وكل حسابات العاطفة وكل حسابات العقل، طبعاً تتحدى حسابات الإيمان – إيمان أمثالنا – تماماً وتخرقها وتتجاوزها وتتعالى عليها، شغلت العقول الضخمة، ولم يكادوا يتفقون على منحىً من مناحي الفهم والتأويل واحد في التعاطي معها وحُقَّ لهم، لأنها – كما قلت لكم – مهولة، حكاية مهولة تتخطى كل الحسابات وكل الآفاق، لكن بعض الناس يظن أن ليس فيها ما يُشكِل ولا ما يُمكِن أن يُعَد مُشكِلاً، هل تعرفون لماذا؟ لأنها مُبتذَلة، على سُنة الله في جري الأشياء أو في جريان الأشياء والأمور وفي عالم النسبية والاختلاط والامتزاج كل مزايا تُقابِلها مثالب، فإكثارٌ هنا وإقلالٌ هناك، لكن لابد، ما من مزايا إلا وبإزائها مثالب ومسالب إن جاز التعبير، وعلى هذا فللتعليم في الصغر مزايا وله مثالب، من مثالب التعليم والتفهيم في الصغر أنه يبتذل المعاني العظيمة المُركَّبة المُعمَّقة، لهل تعرفون لماذا لا تستوقفنا كثيراً هذه الحكاية الإبراهيمية؟ رأيتُ بعض بعض كبار رجالات الفكر والعلم والتحليل – لا أُريد أن أتنقصه – يكتب كتاباً مُكثَّفاً مُعمَّقاً عن إبراهيم – وبلا شك هو كتاب مُكثَّف ومُعمَّق وفيه الكثير من الدروس والمعاني – لكنه لا يقف طويلاً عند تضحية أو ما يُسمى – في الحقيقة ليست تضحية – بتضحية إبراهيم بوحيده إما إسحاق وإما إسماعيل فهذا لا يعنينا كثيراً، وإن كان أكثر علماء المسلمين أنه إسحاق، طبعاً عكس ما تعتقدون، العامة يعتقدون أنه إسماعيل، أكثر علماء الأمة من الصحابة والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق، على طريقة أهل الكتاب، قال بهذا عمر وعلى والعباس وابن عباس وابن عمر وجابر وابن مسعود، أي سبعة من الصحابة، وقال به مُجاهِد ومُقاتِل وقتادة وعطاء والشعبي وسعيد بن الجبير والإمام مالك بن أنس ومسروق أبو عائشة وكثيرون، ورجَّحه الطبري والنحَّاس والقرطبي، أكثر علماء الأمة على رأي أهل الكتاب، أن الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، لذلك دائماً نقول لكم من الأهمية بمكان أن يُقال للناس الذين يُقال لهم العامة الحقيقة كما هى، ما ينبغي أن نُسمِع الناس دائماً شيئاً واحداً على أنه الحقيقة المُطلَقة المُنتصِبة فنُورِثهم التعصب والانغلاق، لابد أن نقول لهم الخلافات كما هى، مُعظم علماء الأمة على هذا، على كل حال قال الله وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۩، وقال أيضاً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۩.
من مثالب التعليم في الصغر أننا سمعنا هذه الحكاية وتُليت على مسامعنا وتحفظناها قرآناً كريماً وتلوناها غير مرة لكن حين كنا صغاراً، الصغير لا يفهم معنى الأبوة ولا يفهم معنى البنوة ولا يفهم معنى البنوةِ للأبوة، هذا هو، هذا مُثلَّث الجهل المُركَّب هنا،تتلو قصة مثل هذه صدعَّت أدمغة كبار اللاهوتيين والفلاسفة وكل العارفين وخائضي تجربة الإيمان، هذه التضحية الإبراهيمية الأولى من نوعها، في نظري هى التي تُقيم من خليل الرحمن ما أقامت، أنا – والله – لي سنين أُحِب أن أتحدَّث عن هذا الرجل ولا أستطيع وأتهيبه، هذا النبي العظيم بالذات أتهيب حتى الحديث عنه، شيئ عجيب، لذلك الأنبياء والمُرسَلون كلهم الذين جاءوا عقبه ما جاءوا إلا من عقبه، قال الله وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۩، كل الأنبياء بعد إبراهيم – لذلك هو شيخ الأنبياء وأبو الأنبياء – من ذريته الإسحاقية والإسماعيلية، من الفرع الإسماعيلي محمد عليه السلام، وقيل أنبياء أُخر غير معروفين، وأما سائر الأنبياء فهم من بني إسرائيل، الفرع الإسحاقي اليعقوبي، أبناء الأسباط، هذا هو، لماذا؟ وكلهم يتشاركون احترامه وتبجيله، اليهود كما النصارى كما المُسلِمون، ما مِن ملة توحيدية تغمز إبراهيم، الكل يبخع أمامه ويخشع، والكل يدّعي أنه به أولى وألصق وإلى منهجه وملته أدنى، ولذلك قال الله إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ – هل تتنازعون ولايته؟ – لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ – اتباع – هَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ۩، وقال أيضاً ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ ۩، فضلاً عن أنه قال مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ ۩، يوسف يقول وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۩، أليس كذلك؟ الكل مأمور أن يصدر عن ملة إبراهيم، أن يسير في سَنن إبراهيم، أن يتقيل خُطى إبراهيم، لماذا؟ لماذا إبراهيم بالذات؟ لأن إبراهيم بهذه التضحية – إن جاز التعبير – أصبح النموذج المُقابِل تماماً للنموذج الإبليسي، وسوف يضح لكم أنها ليست تضحية، هى شيئ وراء التضحية، أكبر من التضحية بالمعنى القُرباني أو بالمعنى المُحرقاتي بلغة أهل الكتاب المُقدَّس، أكبر من هذا بكثير، وأوسع وأعمق وأبعد غوراً وهولاً وروعاً، قال الله إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ۩، أعظم بلاء مر به إبراهيم، لذلك في الشروحات الكتابية – Biblical – من اليوم التالي إبراهيم شاخ، هو عاد من جبل المريا بغلمانه وبابنه إسحاق، ولما أصبح الصباح شاخ وشمط شعر رأسه من عند آخره، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ۩، وسنفهم جوانب هذا البلاء أو بالأحرى جوانب من جوانب هذا البلاء، لذلك نحن مدعوون للفهم لأن إبراهيم – عليه السلام – شيخنا، هو شيخ نبينا، شيخ كل نبي مُوحِّد وشيخ كل مُوحِّد، ونحن بملته مُقتَدون وفيه سَننها سائرون وباتباعها مأمورون، قال الله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ ۩، إذن الله قال مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ۩، لماذا قال مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ۩؟ لأن هذه التضحية – إن جاز أن تُسمى كذلك – هى التي أقامته النموذج المُقابِل تماماً للنموذج الإبليسي، هو هذا، في اليمين إبراهيم، وفي اليسار إبليس، إبليس الذي لم يستطع أن يُضحّي بعض كبريائه الذاتي – كبرياء ذاتية كبرياء شخصية – وقال أنا، بعلمي وبحيثيتي وبمكانتي وبسجلي لن أفعل، وأما إبراهيم ضحَّى وحيده، ابنه الذي يُحِبه أكثر من أي شيئ في هذه الدنيا بعد الإيمان بالله، والذي لم يُرزَقه إلا وقد نهز المائة من عمره، أي في خريف عمره، في الساعات الأواخر من عمره، بعد أن وهن عظمه وفتر دمه وقُيّدت حركته وغلبت عليه العاطفة والحنو والشفقة والرأفة والمحبة والحاجة إلى هذا الوحيد البكر، أراد ذبحه دونما تردد، لم يتردد لحظة، هذا هو إبراهيم، هذا أنموذج عبد الله، وذاك أنموذج عبد نفسه، أي إبليس لعنة الله تعالى عليه، فانظر نفسك إلى أي الأنموذجين أنت أقرب، كم تُضحِّى من ذبائحك؟ ما هو ذبيحك؟ قل لي ما هو ذبيحك؟ ما هو إسحاقك؟ ما هو إسماعيلك؟ كم ضحَّيت من إسماعيل؟ كم ضحَّيت من إسحاق؟ رُتب كثيرة لإسحاق ومثلها لإسماعيل حتى نُصالِح بين أهل الملتين وأهل الرأيين، ولا يعنينا كثيراً هذا، لن نقف لحظة واحدة عند مَن هو الذبيح، هذا لا يعنينا، العلماء أطالوا النفس جداً في الاحتجاج لهذا القول وفي الاحتجاج لذاك القول وبعضهم توقف وانقطع النفس كالزجّاج، قال لا ندري أيهما الذبيح، لكن هذا لا يعنينا، ليس هذا الذي يعنينا، عجيب جداً، أنا أقول لكم حين نُعنى بمَن هو الذبيح نكون ضد عبرة الذبح، ضد عبرة هذا الاختبار الإلهي، نعود لنجعل الدين انتصاراً لعِرق على عِرق ولطائفة على طائفة، أننا أبناء إسماعيل ومن ثم نحن أشرف، لست أشرف لا بكونك ابناً لإسماعيل ولا حتى ابناً لمحمد عليه السلام، والله لا يُشرِّفك إلا عملك وإلا تقواك لله تبارك وتعالى، ابن نوح كان كافراً، ماذا أجداه؟ ماذا أجدته بنوته لنوح؟ شيخ أيضاً عظيم من شيوخ الأنبياء السالفين، ومع ذلك نُريد أن نُثبِّت أن الذبيح هو إسماعيل فنقول نحن أشرف، أشرف من اليهود وأشرف من غيرهم، وهم يُصِّرون على أنه إسحاق، ومن ثم يقولون أشرف من بني إسماعيل ابن الجارية المصرية، لكن هذا دين الطوائف ودين المُؤسَّسات ودين الكهنوت، تباً لهذا الدين، تباً لهذه الطرق في فهم الدين، سواءً أكانت طرقاً كتابية أو طرقاً إسلامية، ليس هذا الدين، ضيَّعوا قصة إبراهيم، ضيَّعوا معنى الفداء هنا، معنى الابتلاء المُبين ضاع تماماً، وغادروه دون أن يتوقَّفوا لصحائف لكي يُحلِّلوا عبرة البلاء المُبين، لماذا كان بلاءً مُبيناً؟
نعود إلى المزايا والمثالب، سمعنا هذه الحكاية العظيمة، هذه الحكاية المفتاحية، هذه الحكاية المُتفرِّدة، الفرادة الحقيقة هنا، هذا هو معنى الفرادة Uniqueness، فرادة من جميع الجهات، ومَن مثل إبراهيم؟ مَن يقدر أن يفعل مثل فعله؟ مَن أن يقدر أن يتخيَّل نفسه يفعل مثل فعله؟ وسنرى لماذا، حتى وإن قلت أنا أستطيع أن أفعل هذا لله فأنت لا تقترب من إبراهيم أصلاً لا من قريب ولا من بعيد وسوف ترى لماذا حتى وإن كنت مُستعِداً أن تذبح ابنك لله، لا ليس هذا، لا تستطيع، لا تقترب منه، وسوف نرى لماذا، فالطفل الصغير لا يعرف معنى الأبوة ولا معنى البنوة ولا ماذا تعني البنوة للأبوة، لا يعرف مع أنه كان ابناً وسيكبر، سيكبر هذا الطفل الذي هو أنت وأنا وهى، نحن جميعاً سنكبر، وقد فعلنا أو فعل القدر بنا وكبرنا، وتقريباً في حدود الأربعين سوف نبدأ نفهم ماذا تعنى الأبوة للبنوة، وقبل ذلك لا نفهم، لذلك قال الله حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ۩، الآن بدأ يفهم معنى الوالدية حين صار هو والداً، انتبه إلى أن هناك أشياء لا تُفهَم إلا بعد أن تخبرها وبعد أن تعيشها، لا بعد أن تسمع بها، هذه مُشكِلة الإيمان والقصة الإبراهيمية والفداء الإبراهيمي والعبرة والبلاء الإبراهيمي المُرشَّح ربما رقم واحد لكي يُفهِمنا أن الإيمان يفقد مغزاه ويفقد معناه حين يستحيل إلى كلمات وألفاظ ودروس، الإيمان ليس هكذا، لم يكن هكذا يوماً ولن يكون هكذا، الإيمان خبرة معيشة ومراحل تُقطَع، مراحل ابتلاء حقيقية، وإلا ما الفرق إذن بين الفلسفة وبين الإيمان؟ أكثر موضوعات الدين تتناولها الفلسفة طبعاً وخاصة فلسلفة الدين كما يقولون، هناك فلسفة دينية وفلسفة الدين مثل الفلسفة العلمية وفلسفة العلم، هل تعرفون ما الفرق؟بكلمة واحدة – هذا أكثر فرق يُعجِبني – الفلسفة حديث عن الله، الإيمان حديث مع الله، هو هذا فقط، إذا كنت ليس لديك القدرة أن تتحدَّث مع الله فأنت لست مُؤمِناً، أنت مسكين، أنت فيلسوف تتفلسف، حتى لو أصبحت عالماً كبيراً من علماء الدين وشيخاً مرجعية – تُشكِّل مرجعية لقومك – فأنت فيلسوف في نهاية المطاف، فيلسوف ديني تقليدي كلاسيكي تتحدَّث عن الله، لا يعنيني كثيراً هذا، الكتب تنوب منابك وتُعوِّض دورك وتأخذ مكانك ومن ثم لا أحتاجك، أنا أُريد الشيخ – ليس شيخ الدين وإنما شيخ التجربة – الذي يُحدِّثني عن إيمانه حديثاً مع الله – هذا هو الإيمان – وليس حديثاً عن الله، الحديث عن الله فلسفة وفكر، انظر إلى الناس الأذكياء الآن، على واجهة جامعة برنستون Princeton في الولايات المتحدة مكتوبة عبارة الحكيم الشهير سقراط Socrates الشهيرة اعرف نفسك، جاء رجل لا يُدرى هل هو من أساتيذ الجامعة أو من طلّاب الجامعة أو من زائري الجامعة العارضين ويبدو أنه برهن على أنه أكثر حكمةً من سقراط Socrates نفسه، كتب بالطباشير – ليس بقلم ثابت وإنما بالطباشير – بخط طويل تحت عبارة اعرف نفسك هذِّب نفسك، فرقٌ كبير بين أن تعرف وبين أن تُهذِّب، أن تعرف تعني – نفس الشيئ – أن تخوض حديثاً عن النفس وتجربة معرفية عن النفس، أن تُهذِّب تعني أن تخوض تجربة في النفسِ، أن تخاوض خوضاناً في بحار النفس، أن تُبحِر في عوالم النفس، أن تُنقِّل النفس من رُتبة إلى رُتبة ومن مرحلة إلى مرحلة، أن تُمارِس السيطرة – الكنترول Control – والتحكم والتهذيب في النفس، بذبح شهواتها ونزغاتها وبسد ثُغراتها، جدران النفس فيها ثُغرات كثيرة فلابد أن تسد هذه الثُغرات بتحصين حصونها وبتجديد ما رث وبلى منها وبضخ قوى جديدة حيوية فيها وهى قوى الإيمان، المُراد هذِّب نفسك وليس فقط اعرف نفسك، وإلا ماذا أستفيد ؟ عرفت ثم وقفت فسقطت، عرفت فلابد أن تعمل وتشتغل مُباشَرةً، تُحيل المعرفة إلى تهذيب وإلى تكامل وإلى ارتقاء وإلى تعالٍ، لذلك استمعنا إلى هذه القصة ونحن لا نفهم شيئاً من عناصرها الأساسية الرئيسة وهى الأبوة والبنوة ومعنى هذا لهذا ومعنى هذا لهذا، لم نفهم هذا وكبرنا، وحين كبرنا ابتُذِلت القصة، سمعناها ألف مرة، تُليت علينا عشرة آلاف مرة، ما عادت تعني لنا شيئاً – نفس الشيئ – ولا للإمام ولا للخطيب ولا للمُؤلِّف ولا للمُفسِّر، وظلت قصة عادية، الطفل يُعادِل بين صدع الله بأمره لإبراهيم بذبح ابنه وبين بخوعِ وانصياعِ إبراهيم للأمر الإلهي، إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ – إذن انتهى الأمر، فأنا قررت وعزمت، لكن الآن الكرة في ملعبك – فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ ۩، ماذا فهَّمك الله؟ علماً بأنه يُمكِن أن يُقال تُرِي ويُمكِن أن يُقال تَرَى كما في القراءة المشهورة وكلتاهما قراءتان صحيحتان، ماذا ترى؟ ماذا ألهمك الله؟ لذلك هو ليس ضحية، الضحية لا خيار لها، الضحية لا تختار ولا تُستشار، فهو ليس ضحية هنا، هذا أكبر من أن يكون أُضحية، هذه ليست أُضحية، شيئ يفوق هذا وسوف نُحلِّله بعد قليل.
لم نكن نفهم هذه العناصر فانقفل الأفق أمامنا، لم نفهم شيئاً، لم نعد نفهم شيئاً مع أننا مأمورون باتباع ملة إبراهيم، إذن لابد أن نفهم، الفرق بيننا وبين إبراهيم أنه ابتُليَ بالفعل وزمانه قصير، كتاب الله العظيم لم يُحدِّد، سفر التكوين – أول أسفار التوراة – حدَّد ثلاثة أيام، الله أمره أن يأخذ ابنه وحيده الذي يُحِبه، يقول له أن تأخذ ابنك الذي وتذبحه، أن تُقدِّمه مُحرَقة، المُحرَقة والمُحرَقات هى القرابين التي تُرفَع على المذابح، تُرفَع بالكامل ولذلك تُسمى بالعبرية ياعولاه لأنها تُعلا، تُوضَع على المذبح ثم تُحرَق، وقيل سُميت هكذا لأن – قول آخر أيضاً في الشروح الكتابية – الدخان يتصاعد منها ويعلو إلى السماء ويشمه الرب – أستغفر الله العظيم – ويلذ له ويشوقه جداً هذا الشميم وهذه الرائحة، هو يُحِب هذا الشميم، يُحِب روائح المُحرَقات، التوراة تقول الله أمره أن يُقدِّم ابنه مُحرَقةً، يُذبَح طبعاً ويُوضَع عليه الخشب وتُولع فيه النار، وهكذا أراد إبراهيم أن يفعل، معه السكين ومعه الخشب والحطب ليُقدِّمه مُحرَقةً على مذبح الرب، والمُدة مُحدَّدة بثلاثة أيام، سار إلى جبل المريا، ولا يعنينا ثلاثة أيام أو ثلاث ساعات لكن وقته ضئيل، والله لو كان أمامه ثلاث سنوات سيظل وقته ضئيلاً، والغاية أن يُذبَح الولد الوحيد، هذا وقت ضئيل جداً جداً، أما أنت فلديك الوقت حتى نهاية العمر أن تفهم، التحدي له أن يذبح وحيده، والتحدي لك أن تفهم قصة إبراهيم، فقط ليس أكثر من هذا، أنت مُبتلى بأن تفهم، هل فهمت؟ هل حاولت؟ هل رأيت نفسك مُبتلىً بأن تفهم؟ هذه خُطوة على طريق تهذيب النفس حقيقةً، أعني فهم هذه القصة العجيبة، قصة التحدي، هذه عدالة الله في كل شيئ، في القسمة والتوزيع، إبراهيم جاز الامتحان بسرعة، إما في يوم وإما بعد ثلاثة أيام لكنه جازه بسرعة وأخذ الجائزة، ثبت مقامه، قال الله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ ۩ وقال أيضاً وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩، لذلك هو خليل الرحمن بنص كتاب الله، بنص كتاب الله هو خليله، لماذا هو خليل الرحمن؟ من هنا، حياة إبراهيم مُجرَّد اكتشافات مُتواصِلة لعالمه الداخلي – عالم العاطفة وعالم العقل وعالم الأيمان – وللعالم الخارجي أيضاً، أي رجل هذا الذي قدر ولم يعجز ولم يتتعتع ولم يتراجع ولم ينكص قيد أنملة عن أي يتحدى كل جبروت المُجتمَع؟ الشعب والجمهور والقرابات والآباء والأجداد والمُلك والسُلطة تحداهم جميعاً وقذف بها جهيرةً في وجوههم قائلاً إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ۩، سأترك بلدي، سأترك أمي وأبي، وأترك عمي وخالي وخالتي، وأترك مدارج صباي ومعارفي وأحبابي وخلاني وإخواني، أترك العراق كله من عند آخره وأذهب إلى ربي، الله أكبر،قدرة عجيبة، عنده قدرة على التضحية والتحدي غير مسبوقة، ينصاع هذا الانصياع الذليل المطواع دونما تردد، دون أن يطرف له جفن، مع أن القلب يذوب هولاً وروعاً وحباً وحناناً وإشفاقاً، الأب الحنون كذلك، فكيف بأب في المائة من عمره على حافة قبره؟ الأب العادي الشاب الحنون يُحاشي الريح أن تعصف في وجه ابنه أو ابنته، فكيف يأخذ سكيناً ماضيةً كانت أم مُثلَّمةً ليحز عنقه حزاً؟ هذا هو المطلوب، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ۩، هذا ذبح، هل ستفعل؟ سأفعل بلا تردد، يا إبراهيم أما مِن هامش للمُناوَرة؟ أما مِن مساحة للمُداوَرة؟ هل يُمكِن مُداوَرة الأمر الإلهي؟ يُمكِن أن نُداوِره فهل تُداوِره؟ قال لا، لأن الأمر لم يأت هذه المرة لفظياً، لم يأت موسوطاً بواسطة جبريل وهو السفير الأول للسماء، لأنه لو جاء موسوطاً بهذه الواسطة وجاء لفظياً لانفسح هامشٌ نحيف – أنحف هامش للتأويل – ولقلنا ربما المقصود ليس ابن صلبي وثمرة فؤادي بل ربما شهواتي أو ربما حيثيتي أو ربما نبوتي – ثقتي بأنني النبي الرسول – وهكذا، سأذهب إلى المجاز سريعاً، سأترك الحقائق وأذهب إلى المجاز، لكن أبت القدرة إلا أن تصوغ الأمر في شكل مسرح، مشهد مُمسرَّح، إِنِّي أَرَى – هو لم يسمع – فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ۩، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Immanuel Kant هو أحد الفلاسفة العظام الذين اشتغلوا على قصة إبراهيم وحيَّرته وصدَّعته، قال هذه التضحية وهمية، القضية كلها وهمية، لم يقل كاذبة وإنما قال وهمية، أي خيالية وافتراضية، لماذا يا كانط Kant؟ قال لأنه ليس لله صوتٌ ليسُمَع، إبراهيم لم يسمع صوت الله حتى يتلقى الأمر، نقول له يا كانط Kant ذهبت عنك وعليك، المسألة لم تكن مسألة صوت، كانت مسألة مشهد مُمسرَّح، وهنا عظمة القرآن الكريم، في سفر التكوين – Genesis – في التوراة، لم يرد شيئ بخصوص الرؤية أبداً، في التوراة أنه تلقى الأمر من الرب أن يذبح ابنه وحيده الذي يُحِبه، في القرآن شيئ غريب، القرآن عنده فرادة دقيقة، ها قد أجبنا، لذلك لا نقع في الشُبهة الكانطية، هذه ليست تضحية أو فدائية وهمية كما ذهب الفيلسوف النقدي الكبير كانط Kant، قال إبراهيم إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ۩، ورؤيا الأنبياء حق، وهو يعرف هذا كنبي، فلابد أن يُطبِّق نفس الرؤيا، ولذلك قال الله قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ ۩، فعلت مثلما رأيت، المطلوب أن يفعل مثلما رأى، أن يضعه في ذلك المكان وأن يذبح، لذلك النبي أكَّد أنه فعل، قال أنا ابن الذبيحين، لكن لم يُذبَح إسحاق أو إسماعيل، فكيف يقول هذا؟ هو ذُبِح، سنرى كيف ذُبِحَ، ذُبِحَ في قلب أبيه، ذُبِح بقرار أبيه الذي لم ينثنِ ولم يلتو للُحيظة واحدة، إذن ذُبِح، وصدَّق ابراهيم الرؤيا، لا يُوجَد هامش نحيف للمُناوَرة ولا للمُداوَرة هنا، الوساطة ليست لفظية أبداً، الأمر جاء مُمسرَّحاً، في شكل مشهد مسرحي كامل، لابد أن يُصدَّق كما هو، لابد أن يُستنسَّخ كما هو، وهذا أمرٌ عجيب، كيف استطاع؟ استطاع رجل التحديات.
لنأتي الآن إلى بعض مظاهر هذا البلاء المُبين، هذا الهول والرعب الكبير الذي لا يُوازِنه رعب، إبراهيم – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى سائر الأنبياء والمُرسَلين – لم يُلبَّ في أن يُرزَق الولد في شبابه ولا في كهولته ولا في شيخوخته المُبكِّرة، علماً بأن بلحاظٍ ما الشاب أحوج إلى أن يُرزَق الولد من الشيخ، ما هو اللحاظ؟ لحاظ إثبات الرجولية، أي أنني رجل، والرجولية ليست ما يُقابِل الأنوثة – أنا رجل بشنب وهى أُنثى بلا شنب – وإنما الرجولة هى التي تجعل للأنوثة معنى، الرجولة هكذا عند الناس شئنا أم أبينا، هكذا في فطرتنا وفي طريقة تفكيرنا، أنت لا تطمئن على تمام رجوليتك إلا إن جعلتك لأُنثاك معنى، كيف يكون للأُنثى معنى؟ بأن تجعلها أماً، والأنثى تبلغ مداها الأقصى في الأمومة، لا في الأُنوثة المُجرَّدة، فإن لم تفعل فأنت في شك وفي حسرة، في شك من رجولتك وفي حسرة عليها، لكن الله لم يفعل له هذا، وبالحري أنه كان يطلب ويبتهل كما ابتهل الأنبياء الآخرون أيضاً لكن الله لم يُلبِّه، انتبهوا لأن هذه فيها الشيئ الكبير والكثير أيضاً، كثيرٌ من الناس – لن اقول أكثر الناس ولكن أقول كثيرٌ من الناس وقد يكون أكثر – الذي يذهب بإيمانهم ويُزعزِّع قواعد إيمانهم ويهزها ويُلاشيها هل تعرفون ما هو؟ عدم الاستجابة، يقول سنين وأنا أدعوه، بعض الناس يدعوه أسابيع ثم يشك، يعتريه الشك ويقول لماذا لم يُلبِّني؟ أنا طلبت منه أن يشفي ابني، وهو ليس الوحيد فقد يكون الرابع أو الخامس ولكنه لم يفعل وقضى ابنه ومن ثم يبدأ يشك وهذا معروف، اقرأوا سير الذين ألحدوا والذين كفروا، كثيرٌ جداً من هؤلاء ما ألحدوا وما كفروا إلا بعد خيبات، هم ظنوها خيبات، أن الله خيَّبهم ولم يُلبِّهم، وبدأوا يتساءلون عن الحكمة، قالوا أين الحكمة؟ وبدأت تجتاحهم شُبهة الشر، هناك شر في الكون، لماذا لا يُرفَع؟ وهذه طبعاً الحسابات الضئيلة جداً التي لا يعرفها الإيمان الحق، إبراهيم لم يشك لحظةً، على أن الله لم يُلبِّه مائه سنة، ظل رجل الإيمان، ظل رجل الله تبارك وتعالى، وحين وهن عظمه وعلت سنه وكبر – عليه السلام – وضعف وشاخ وتهدَّم لباه الله، فجأة جاءته البُشرى بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ۩، وكم كانت فرحته، يا لها من فرحة، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وهو الآن أحوج ما يكون إلى هذا الوحيد، إلى ابنه بكره، وهو أحوج إليه من أي شاب إلى ابنه بلحاظات كثيرة في رأسها أن عاطفته الآن أكثر دفقاً، أن حنانه أعظم، أن قلبه أكبر وأكثر اندياحاً وسعة، حاجته إلى ابنه هذا ليدعمه وليرحم شيخوخته الباردة ليُدفئها بشيئ من حنان البنوة أعظم أيضاً طبعاً، الكهل أمثالنا لا يحتاج إلى حنان ابنه كثيراً، لا يحتاج إلى معونته، هناك كهول أمثالنا وحتى شيوخ في شيخوخة مُبكِّرة هم الذين يدعمون أولادهم لا يزالون، مع أنهم تعلَّموا وتخرَّجوا من الجامعة ومع ذلك ندعمهم لا نزال ونُعطيهم بالجاه وبالمال وبكل شيئ، لكن هذا الشيخ ابن المائة يحتاج إلى هذا الدعم الآن، قطعاً يحتاجه وهو بكره، وتقريباً الفرصة كأنها بعيدة جداً ولا تلوح، لا تلوح الفرصة أن يُرزَق بغيره، لكن الله فعل ورزقه وجزاه، إحدى المُرجِّحات لكن ليست قطعية أن الذبيح إسماعيل وأن الله بعد قصة الذبيح أياً كان بشَّره بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ كجائزة له، في التوراة طبعاً أعطاه ميراث الأرض المُقدَّسة له ولنسله ولذُريته، وأن يطأوا رؤوس أعدائهم ويفتحوا أبوابهم، لكن القرآن يقول الجائزة لم تكن الأرض الموعودة، الجائزة كانت أن الله أعطاه إسحاق نبياً من الصالحين وبارك عليه وعلى إسحاق وجعل النبوة في ذريتهما، في ذُرية إبراهيم من إسحاق – كما قلنا – وإسماعيل أيضاً، الآن ماذا حصل؟ حصل في هذه اللحظة بالذات وهو أحوج ما يكون أن الله قال له فلتذبحه، هذا أمرٌ عجيب، هل أذبحه الآن؟ لم تُلبَّني فيه شاباً ولا كهلاً حيث احتجته لتصديق رجولتي، ذهب هذا ولم أتزعزع، لم يتزعزع إيماني ولم يتلاشى ولم يضمحل ولم يتسرب منه شيئ، والآن وأنا أحوج ما أكون إليه، ليس لإثبات رجولتي أبداً، وإنما لمعونتي معنوياً ومادياً، هل يذهب بيدي أنا؟ أبيدي أنا؟ قال بيدك أنت، قال لا بأس، سأبخع لأمر الله، سأنصاع ولن أتردد، ولن أقول أنا، لن أقول لست أنا أفضل الآن بل أنا أحوج إليه، لن أتحدَّث عن ظروفي أبداً أو أقول هذا ابني، لكن ما معنى ابني في حالة إبراهيم هذه؟ ابني الذي يُذكِّر بي، ابني الذي امتد به وعبره، ابني الذي يحملني، أُبعَث فيه من جديد ويحمل ميراثي، يقول زكريا عليه السلام يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۩، ابني الذي إذا رُئيَ ذُكِرت فاستُغفِرَ لي ودُعِيَ لي وذُكِرت بخير، انتبهوا إلى أن عما قليل الله سيقول له وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۩، حتى لو ذهب هذا الابن يا إبراهيم، يا خليلي، يا شيخ الأنبياء أنت لن تحتاجه، لأنني أنا سأتولى هذا عنك، سأترك لك ذكراً بالخير وبالفضل وبالإحسان – إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ – إلى أن أرث الأرض ومَن عليها، وهذا معنى قول الله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۩، تركنا عليه ذكراً حسناً، تلهج الألسنة بالثناء العاطر عليه بفواضله وأفضاله عليه الصلاة وأفضل السلام، ومن ثم لا تحتاجه، لكن يحتاجه لاعتبارات أخرى، هذا ابني، ابني يعني أنني لم أمت، ابني يعني أنني لا أفنى، أنني أكون وأكون وأكون وأكون إلى ما شاء الله، لكن هذا ليس لك الآن، عليك أن تُضحِّيه، يا للهول العجيب.
طبعاً الآن نُقارِن مع يعقوب عليه السلام، بلية حفيده يعقوب بن إسحاق، يعقوب كان عنده اثنا عشر ولداً أو اثنا عشر ابناً، ابتُليَ بواحد، وكان يعلم أنه لم لم يمت، هذه البلية أصغر بكثير، وكم كان حزن يعقوب؟ قيل حزن أربعين ثكلى فقدن أولادهن،وأوتي أجر سبعين شهيداً، والله تعالى أعلم، فكم كان سيكون حزن الشيخ الكبير خليل الرحمن إبراهيم؟ بل كم كان هذا الحزن؟ هو يبخع لكن لا يعني البخوع أنه غير حزين وغير مكلوم ولا يذوب فؤاده، طبعاً يذوب، فكم كان حزنه؟ لا يعلم هذا إلا الله، ما حجم الإيمان الذي استطاع أن يحتمل كل هذا الحزن؟ لا يذوب الإيمان ولا يتلاشى، كيف؟ كيف طم هذا الطم كله – طمَّ طم الحزن، طم مُحيط الحزن – على أفق أو على يفاع الإيمان ولكنه لم يُغرِقه ولم يجعل معالمه تدرس وتنته ولم يُعفّ عليه؟ كيف؟ هذا يعني أن الإيمان كان جبالاً، لا يُمكِن أن يطم عليه طم، إيمان إبراهيم أقوى من أي شيئ وأعلى من أي شيئ، لو تحوَّلت أمواه العالم كله إلى طم طمَّ على إيمانه ما علته، هذا هو إبراهيم، هذا خليل الرحمن، قلب مليء بالرحمن – لا إله إلا هو – طبعاً، مليء بهذا المُطلَق، مليء بالأبدي لا إله إلا هو – وبالدائم وبالباقي، مليء بمالك الملك طبعاً، لكن الهول أن إبراهيم لم يكن ذا صبوات، لو كان الخليل ذا صبوات وذا فتكات وذا مُغامَرات فبالحري ماذا سيقول؟ كفارة، الله يُريد أن يُتم النعمة علىّ والفضل، فيُريد أن يُكفِّر عني، أين؟ هذا نبي رسول، هذا شيخ الأنبياء، هذا أبو الأنبياء، ليس له صبوات ولا مُغامَرات ولا شؤون Affairs، ليس عنده هذا الشيئ أبداً، لم يُخطيء في حق أحد، موسى بطريق الخطأ قتل قبطياً، أليس كذلك؟ نوح – عليه السلام – بطريق غلبة الغريزة والعاطفة الأبوية ناشد الله في ابنه، فقال له الله إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۩، لكن قولوا لي في كتاب الله أين أخطأ إبراهيم؟ نسبوا إليه كذبات في الأحاديث وحاشاه من هذا، وحاشا حفيده محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يكون نسب إليه هذا، لا ليس هذا، هذا غير صحيح، هذا لا نُؤمِن به، نزَّهه الله عن هذا، خليل الرحمن عليه السلام، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩، ليس له صبوات، إذن ما مِن كفارة، ما مِن مجال لتعزية النفس بأنها كفارة وتكفير عن ذنوب، ما مِن ذنوب، ما مِن صبوات، والآن يعظم الهول فانتبهوا، الطفل الصغير ابن خمس سنوات حين تضربه ضرباً غير مُبرِّح على خطأ وقع فيه يتقبله، وإلى الآن كبار من علماء النفس والتربية يقولون الضرب بهذه الطريقة – ضرب غير مُبرِّح، مُجرَّد ضرب مُؤدِّب -وسيلة ناجعة، بل بعضهم يقول أنجع الوسائل، وهذا شيئ غريب، علماء نفس في أمريكا بالذات قالوا أنجع الوسائل، لأنه يفهم أنه كفارة، هذا من باب الكفارة، هذا جزاء، الدنيا سلف ودين، كل شيئ يُقابِله شيئ، أخطأت وهذا عقاب الخطأ، وقد سبق الإنذار والإعذار، لكن ما أخطأ إبراهيم، يعظم الهول ويضخم ولا يضئل إذا علمنا أن إسحاق أو إسماعيل – الله أعلم أيهما كان – رجل صادق وصدّيق وسيُعطى النبوة وليس له صبوات، وهو لا يزال صغيراً – فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ۩ – إلى الآن، لا يزال في سن لم يبلغ الْحِنْثَ معها، لم يبلغ سن الْحِنْثَ، إذن ليس له أيضاً صبوات ولا جرائم ولا جرائر حتى نقول هنا يظهر البطل المأساوي إبراهيم، وإلا هنا إبراهيم سيكون بطلاً مأسوياً في هذه الحالة، ما هو البطل المأساوي؟ الذي يُغلِّب الأخلاقي والقانوني والكُلي الشامل على الذاتي الشخصي، نعم ابني ولكنه أخطأ، أخطأ في حق الله، أخطأ في حق الوطن، لابد أن يلقى جزاءه وأن يُذبَح وأن يُقدَّم مُحرَقةً فلا بأس، هناك بأس لكن لا بأس في نهاية المطاف، وقد فعلها غير إبراهيم، فعلها الحاكم الملك كريون Créon مع خطيبة ابنه التي كان يعزها جداً أنتيجون Antigone، أنتيجون Antigone الذي خالفت كريون Créon وخالفت قانون المملكة حين أبت إلا أن تدفن أخاها الخائن، الذي خان البلد ثم عاد إليها بجيش الأعداء يُريد أن يقتحمها وأن يُحرِّق عليها فسقط ميتاً خائناً، وكانت تقضي قوانين المدينة بألا يُدفَن، وألا تُجرى له أي مظاهر جنائزية على الإطلاق، بل يُترك لعوافي الطير وعوافي السباع وعوافي الوحش تنهشه جزاء خيانته وهذا جزاء عادل، علماً بأننا الآن مع سوفوكليس Sophokles، لكن أنتيجون Antigone قالت لا، هذا قانون البشر، هذا قانون كريون Créon، لكن هناك قانون الرب، قانون الإخوة والدم، هذا أخي، وقد كان أخاها الأحب إلى نفسها، قالت أنا سأُقدِّم قانون الرب على قانون البشر، ودفنته وهى تعلم أن العقوبة الإعدام بدل أن تكون زوجاً لابن الملك كريون Créon، لكن كريون Créon كان بطلاً هنا مأساوياً إلى حدٍ ما، وقضى عليها بما يستوجبه القانون، ومن ثم هو بطل مأساوي، بروتس Brutus – ليس بروتس Brutus قاتل قيصر Caesar وإنما هو قنصل روماني أتى قبله بحوالي خمسمائة سنة – من أوائل القناصلة الرومان ومن أعاظمهم، نفى الأعداء والخونة عن المدينة، وبعد ذلك عادوا في جيش لجب جرّار ليجتاحوا المدينة، وابنا بروتس Brutus كانا مع المُتآمِرين في الداخل، هذه خيانة في الداخل، من داخل الأسوار والأبراج، وجلس القنصل الروماني بروتس Brutus ولَمْ يَنْبِسْ بِبِنْتِ كلمة، وكان يُمكِن أن يتوسَّط لهما، ورأى كيف يُجلَد ولداه – ابناه – جلداً مُبرِّحاً مُذِلاً ثم تُقطَع رؤوسهما، بروتس Brutus بطل مأساوي، القنصل الروماني بطل مأساوي كبير هنا، أبو بكر الصديق – رضوان الله عليه – أوشك أن يكون بطلاً مأساوياً إلا أن قضاء الله لم يسمح، حين كان يُطارِد ابنه عبد الرحمن لأنه يُريد أن يقتله، يقتل عدواً لله ولرسول الله، أبو عُبيدة بن الجراح يقتل أباه، عمر يطلب أن يُقدَّم إليه وإلى كل أحد قريبه أو أخوه أو نسيبه ليذبحه إن كان من أسرى بدر، بطل مأساوي أراد ان يكون، هؤلاء أبطال مأساويون، إبراهيم لم يكن بطلاً مأساوياً، تجاوز البطولة المأساوية، أعظم منها بكثير، أعظم منها بمراحل، هل تعرفون لماذا؟ لأن إسحاق لا يستأهل هذا، إسحاق الطفل الطري الغض البريء الذي لم يحنث – لم يبلغ الحنث – لم تبدر منه بادرة إزاء أي شيئ في هذا الوجود، لماذا يُذبَح؟ شيئ عجيب مُخيف، هل فهمتم؟ لا كفارة لإبراهيم ولا جزاء لإسحاق، إذن ما هو يا رب؟ ما العبرة؟ نستطيع أن نفهم كل مأساوية الأبطال العظام، سقراط Socrates كان بطلاً مأساوياً أيضاً، أليس كذلك؟ أبى أن يهرب من السجن ليُنقِذ مهجته ورقبته، وأبى إلا أن يخضع للقانون الذي علَّم الناس أنه بعُجَرِه وبُجَرِه يظل خيراً من اللاقانون، وقال لن أُخالِفكم إلى ما أنهاكم عنه، قال سقراط Socrates سأموت وسأخضع للقانون، هو بطل مأساوي لكنه ليس إبراهيماً فانتبهوا، لم يبلغ القمة الإبراهيمية ولم يُدانها، مثل سقراط Socrates كثيرون لكن في العظماء طبعاً وليس في السخفاء والحقراء، مثله كثيرون في العظماء والعظماء قليل، لكن في العظماء كثيرون مَن يُقدِّمون الكلي على الذاتي وعلى الروح والنفس، هذا يحدث، الأبطال الشهداء والجنود يفعلون هذا من أجل الوطن ومن أجل شرافة الوطن وشرف الوطن ومن أجل الأعراض والمُكتسَبات والمُنجَزات وإلى آخره، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن ما فعله سقراط Socrates يُبرَّر أخلاقياً ويُبرَّر عقلياً ومصلحياً، لكن ما هو تبرير ما فعله إبراهيم؟ برِّر هذا أخلاقياً، أين الأخلاق هنا؟ لذلك الفيلسوف الدنماركي الكبير ومُؤسِّس الوجودية الدينية سورين كيركيجور Søren Kierkegaard قال هذا تعليق غائي للأخلاقي، هذا تعليق Suspension، الآن الأخلاق توقفت، هذا الشيئ يتجاوز الأخلاقي، هذه الفكرة أوحت للمُلحِد نيتشه Nietzsche بفكرة ما وراء الخير والشر، نيتشه Nietzsche كان دائماً يعتقد أن الدين يقع وراء الأخلاق، وهذه فكرة كيركيجور Kierkegaard، هنا لا يُوجَد تبرير أخلاقي، من أجل ماذا؟من أجل ماذا يُذبَح إسحاق؟ من أجل أي مبدأ؟ ما الأخلاقي في أن يذبح أبٌ ابنته؟ انتبهوا إلى أن الأب هنا لو كان مغلوباً على عقله ومُلتاثاً في نفسه وفي عواطفه لالتمسنا بعض العذر، لكن الأب نبيٌ رسول، في تمام العقل وتمام الرشد وفي وفرة الحنان والعاطفة الأبوية، العاطفة موجودة دافقة عند هذا النبي العظيم، هو أبو الضيفان، إبراهيم الذي لم يكن يستطيع أن يكسر بخاطر ضيف يحل عليه مُشرِكاً وثنياً وأن يمنعه قِراه، أي طعام ضيافته، هذا رجل حنون عنده قلب مُحيط، فما الأخلاقي هنا؟ ما المصلحي هنا؟ ما الجدوى؟ ما الجدوى من هذا الفداء؟ لا جدوى إلى الآن، انتبهوا إلى أن الأمر يقبع خارج كل هذه الأشياء، وهذه مشاكل كبيرة جداً، لذلك قلت لكم عالجها الكبراء مثل سانت أوجستين Saint Augustine وتوماس الأكويني Thomas Aquinas وكانط Kant وهيجل Hegel – الفيلسوف هيجل Hegel عالجها – وجان بول سارتر Jean-Paul Sartre والفرنسي إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas وجاك دريدا Jacques Derrida عالجها أيضاً، كثيرون حيَّرتهم هذه القضية، هذه بعض مظاهر الهول، وانتبهوا أيضاً إلى ضرورة أن يذبحه بيده، ممنوع أن تكِل هذه المُهِمة الصعبة – هذا البلاء المُبين – إلى أليعازر مثلاً، كان معه أليعازر فليفعلها أليعازر – مثلاً – كما تقول التوراة، لكن هذا ممنوع، ليفعلها خادم آخر أو أي أحد بنقود، هذا ممنوع، أنت الذي تفعلها، يا رب!انتبه إلى أن الآن بدأت تلوح بعض الحكم وبعض الدروس وبعض العبر، أولاً ألست مُؤمِناً يا إبراهيم؟ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ۩، أنا مُؤمِن بل مُوقِن، قال الله وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۩، لا شائبة شك تعتري إيمانه، من يقن الماء إذا استوى صافياً ولم تعلق به شوائب، يُقال هذا ماء يقين، ليس فيه شوائب على الإطلاق، لا يُوجَد تردد كما قلت، ولذلك هامش التأويل غير موجود، مُنعدِم هنا تماماً، أليس من الإيمان أنه إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩؟ أليس من الإيمان أن كل شيئ لله لا إله إلا هو؟ أليس من الإيمان أننا مِلكٌ لله ضمن مُفردات مُلكِه لا إله إلا هو؟ طبعاً أنا وابني وسكينتي وكل شيئ ملك لله، أنا وإسحاق وإسماعيل والسكينة وكل شيئ ملك لله، حتى قلوبنا ملك لله تبارك وتعالى، في الخُطبة السابقة قلت لكم لا أحد يملك منك ما لا تملكه أنت من نفسك، أنت لا تملك أن تُدير عواطفك كما تُريد، لا تستطيع أبداً لأنها تغلبك، لا إله إلا الله، لكن الله يملك هذا، الله أكبر، فالله يملك منك ما لا تملكه من نفسك، هذا معنى الملك لا إله إلا هو، قال الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ۩، هو يستطيع أن يُصرِّف قلبك لكن أنت لا تستطيع، هو الذي يُصرِّفه، ولذلك إذا أحببت عاطفة مُعيَّنة وأنت لا تقدر عليها ادع الله، كأن ترى نفسك – مثلاً – لا تُحِب طاعة من الطاعات، لا تُحِب أن تُصلي أو لا تُحِب أن تُصلي الصلاة في أوقاتها – مثلاً – فتجمع، بعض الناس يشتغل طوال اليوم ثم يُصلي الخمس صلوات كلها في الليل، هذا كلام فارغ، هذه ليست للعبادة، قال الله كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ۩، هذه هى الصلاة، لكن تلك ليست الصلاة، هذه شيئ ثانٍ، فيماعدا الرخص الشرعية هذا كلام فارغ، فإذا كنت لا تُحِب أن تُصلي الصلاة في أوقاتها ادع الله، قل اللهم حبِّب إلىّ هذه الطاعة يا رب، يا مَن تملك من نفسي ما لا أملكه من نفسي حبِّب إلىّ هذه الطاعة، قد يحدث في لحظة وينقلب كل شيئ، والله العظيم ينقلب البغض حباً، قد تستشعر بغِضة أحد أولياء الله أو أحد الناس الأفاضل، تعلم أنه فاضل وأن عليه سماء التُقى مثلاً، ولكنك تغلبك الحسد والغيرة ومشاعر الضغينة، أنت مُبتلى بهذا، فافعل نفس الشيئ، ابتهل إلى الله، قل يا رب، يا مَن تملك من قلبي ما لا أملك منه حبِّبني في أوليائك الصالحين، حبِّبني في عبدك الصالح هذا يارب، أنقذني من نفسي ومن ضعفي ومن حسدي ومن ضغينتي ومن هشاشتي يا رب، وهذا معنى الإيمان، وهذا معنى الدعاء، أكثر دعاء سمعته أم سلمة كان النبي يُردِّده ويُكرِّره يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، يا رسول الله أوتخاف على نفسك؟ قال وما يُؤمِنني أو يُؤمِّنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف شاء، هو مُصرِّف القلوب لا إله إلا هو، فحتى قلبك – ليس فقط إسحاقك ولا إسماعيلك وإنما قلبك – هو يملكه لا إله إلا هو، وكذلك الحال مع قرارك، لذلك إبراهيم ما استطاعه إلا بفضل الله أيضاً، إذن يا إبراهيم صادِق على هذا، كما يُصادِق عليه ملك الموت، المسألة ليست شخصية، أليس كذلك؟ ملك الموت ليس عنده مُشكِلة شخصية مع أيٍ منا، يأتيه الأمر ويُصدَع له به فينصاع له، هذه هى المسألة، يقول له اذهب يا ملك الموت إلى محمد، إلى خيرتي – صلى الله على محمد وعلى آل محمد – من خلقي، إلى أحب العباد إلىّ، فأتني بنفسه، يقول سمعاً وطاعة أيها الرب الجليل، انتهى الأمر إذن، هذا ما حدث مع محمد وموسي وعيسى و نوح وإبراهيم وإلى آخره، بالعكس ملك الموت يُحِب محمد ويُحِب أنبياء الله لكنه يصدع بالأمر، أيضاً جرِّب يا إبراهيم أن تكون ملك الموت، جرِّب هذا، الملائكة لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ۩، جرِّب أن ترتقي إلى هذا الأفق الملائكي، دائماً أنا أفعلها عنك، أنا آخذ أوداءك وآخذ أحبابك – أقبض نفوس أودائك وأحبابك – لكن هذه المرة افعلها أنت، أنت تُؤمِن وقاعدة الإيمان أن الكل لله وإليه راجع فافعلها أنت بدل ملك الموت، جرِّب هذه المرة، فأراد أن يفعلها طبعاً وعزم، وقد فعلها بحسب كتاب الله لأنه صدَّق، ولذا هو فعلها لكن كان لله أمرٌ وحكمة وراء ذلك، حال – لا إله إلا هو – دون أن يموت هذا الذبيح، فعلها كما يفعلها ملك الموت فلا بأس، هذا هو الإيمان.
إذا كان لله وديعة عندك – إسحاق أو إسماعيل – فإن الله يقول لك أُريد أن أسترد وديعتي الآن، في هذا الوقت الذي أُريد أنا، وهذا سيُجيبنا عن سؤال كبير من الأسئلة التي لها علاقة بمسألة الحكمة والشرور ومسألة الأقدار المُمتحِنات والمُبتليات للعقل وحسابات العقل، لماذا يختار الله – تبارك وتعالى – ويشاء بحكمته أن يستبقى الشيخ الكبير ابن التسعين سنة الذي مل الحياة وملته الحياة وأصبح عئباً عليها وعلى الأحياء جميعاً؟ هو ابن تسعين سنة ولا فائدة منه تقريباً إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۩ لكن القدر يستبقيه، ويخطف زهرة ابن ست سنوات أو عشر سنوات أو ست عشرة سنة المُقبِل على الحياة، الحياة كلها أمامه، وقد بدر منه ولاح ما يُثبِت أنه عبقري، سيكون كنزاً من كنوز البشر، سيكون كهفاً للضعفاء والمحاويج، كان إنساناً يعد بخير كثير، كان هو وعداً هذا البشر، هو ابن ست عشرة سنة فلماذا يموت هكذا؟ تماماً مثلما كان ينبغي أن يموت الذبيح لإبراهيم، هذا أمر الله، هنا يأتي الإيمان، الإيمان قضيته ماذا؟ قضيته من إسمه، الإيمان قضيته التصديق، تصديق بأن الله حكيم، تصديق بأن الله ملكن أليس هو الملك؟ لست أنت ومن ثم لا اعتراض، هو الملك وهو الحكيم وهو القدير وهو اللطيف وهو الذي يضع كل شيئٍ في موضعه، قال الله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ۩، نحن كلنا مُتقدِّم ومُتأخِّر، أنت تتقدَّم علىّ بالسن وهو يتقدَّم عليك بالعقل والفهم، تقدّم وتأخّر باعتبار السن وباعتبار الزمان أو الظرف الزماني وباعتبار الظرف العقلي وباعتبار أيضاً الحيثيات الاجتماعية، مُتقدِّم عليك في السُلطة وفي التنفذ وفي الوجاهة وفي الحيثيثة، إذن تقدّم وتأخّر، لكن ما الذي يحدث؟ مَن يتقدَّم عليك بسنه سيأتيك يوم تُدرِك تقدّمه وهو لا يزال مُتقدِّماً، بمعنى أنت الآن في العشرين وهو في الأربعين، بعد عشرين تصير أنت في الأربعين فأدركت مكانه، لكن هو زايل هذا المكان من عشرين أيضاً وإن أدركته، وحين تُدرِكه قد تُدرِك كثيراً من خياراته وآرائه وتفضيلاته مواقفه، خُذها بطريقة أوسع مع المسائل الإدراكية والمفهومية والعلمية والعقلية، طبعاً بدهي أن ابن عشر سنوات وحتى ابن عشرين سنة لن يفهم أشياء كثيرة يفهمها فيلسوف أو مُفكِّر أو دارس في الأربعين من عمره، خبر الحياة وحلب أشطرها بحلوها ومرها وقرأ ودرس وتعلَّم وفُتِح عليه بما لم يُتَح لابن العشرين أو أقل أو أكثر، في يوم من الأيام هذا المُتأخِّر ابن العشرين سيبلغ مبلغ المُتقدِّم، وقد يبلغه في الثلاثين أو في الخامسة والعشرين أو في الخمسين ربما أو في السبعين وقد لا يبلغه بحسب حكمة الله، فإذا بلغه فهم موقفه وخياراته وتفضيلاته وتبررت عنده، انتبه إلى هذا، نحن الآن فهمنا، حين تُريد أن تكون فاهماً لكل ما يُجريه القدر ولكل ما يُترجِّمه القدر ولكل ما يختار القدر فهذا يعني أنك باللغة العامية – وأعوذ بالله من زلات اللسان – تجعل علمك بعلم الله، باللغة العلمية الوثنية المريضة تجعل عقلك بعقل الله، والله لا عقل له مثل عقولنا، لكن كأنه عقلك كعقل الله، كأنه غير مُتقدِّم عليك يا حبيبي، ما شاء الله عليك، تُريد أن تفهم كل شيئ الآن والتو، تقول أُريد أن أفهم الآن وإذا لم أفهم ولم يضح لي سأقول إذن الله غير موجود والشيطان يحكم، أستغفر الله، ما هذا؟ ما هذا العمى؟ هل أصلاً أنت تُثبِت هذا التقدّم مع البشر النسبيين أمثالك ؟ هذه الرُتبة التقدمية في المُطلَق ليست ثابتة لك على إخوانك البشر يا أخي، على أكثر البشر ليست ثابتة، لماذا تُريد أن تنتزعها بإزاء الله نفسه لا إله إلا هو؟ انتبه إلى هذا، أنا أقول لك مَن ظن أن العالم وأن الدنيا وأن الكون عقل وحساب سيُصدَم بأشياء كثيرة، بعض هذه الأشياء من العالم نفسه المادي الفيزيقي المحسوس المشهود لن يفهمها، كم هى الأشياء التي لا يفهمها العلماء إلى الآن؟ أكثر بكثير من التي يفهمونها، باعترافهم هم أكثر بكثير جداً، حمقى هم العلماء الذين يقولون كل الصيد في جوف الفرا، وما بعد عبادان من دار، الحمقى هم مَن يقولون فهمنا كل شيئ، هؤلاء حمقى العلماء، لكن حكماء العلماء – وأكثرهم حكماء – يقولون الذي نفهمه بالقياس إلى ما لا نفهمه لا يكاد يُذكَر، ذرة في المُحيط، قطرة من المُحيط، العلماء هم مَن يعترفون بهذا، كبار العلماء يُصرِّحون بهذا، ولهم كلمات مأثورة عنهم، لكن ستقول لي انتبه إلى أن كل ما لا نفهمه الآن بمنهج العلم تماماً كالذي لم نفهمه بمنهج العلم قبل مائة سنة والآن نحن فاهمون له، ولذلك كل ما لا ولم نفهمه إلى الآن سنفهمه ولو بعد خمسين أو مائة سنة، وأنا أقول لك بالضبط هذا ما يحدث معك كمُؤمِن، كمُؤمِن هناك أشياء كثيرة ستفهمها فيما بعد، قل لي في حياتك أنت كمُؤمِن أو كفرد عادي كم من الأشياء عرضت لك قدرياً – القدر تدخَّل في مجرى حياتك ليحرفه إلى مسار آخر – وحزنت وغضبت وتحسرت بل تقطعتك الحسرة وبعد سنين قلت الحمد لله على ما اختاره الله لي، ويلي لو ظللت مُلازِماً المسير في تلك الخُطة وفي ذلك الطريق – Track – لهلكت فالحمد لله؟ هذا من هذا يا رجل، هذا من هذا، لكن دائماً عليك أن تستحضر وأن تفهم أن هناك المُتقدِّم وهناك المُتأخِّر، الله دائماً يتقدَّم علينا، ماذا قال الطبيب النفسي الأمريكي هنري لنك Henry C. Link في كتابه العودة إلى الدين The Return to Religion؟ قال لنك Link كيف يُطلَب من العقل الذي خلقه الله وحدَّ حدوده أن يُدرِك حدوداً لله؟ العقل عنده حدود، هو ليس مُطلَقاً، انتبهوا إلى هذه المُفارَقة – Paradox – أيضاً، العقل لو كان مُطلَقاً بلا حدود ما كان عقلاً، وبالتالي نحن كبشر لو كان عقلنا مُطلَقاً بلا حدود لن نعقل، لن نعقل شيئاً، سبحان الله، تماماً لو كان هذا الكون كله حركة بلا عدم وبلا توقف ما كان فيها حركة، أليس كذلك؟ تخيَّل كل شيئ فيه حركة بلا توقف، الحركة لكي تكون حركة لا يُمكِن أن تكون حركة إلا منسوبة إلى توقف، توقف ذاتي أو توقف إسنادي، أليس كذلك؟ هذا هو، فلو كان عقل البشر عقلاً بلا عقل وبلا حدود ما كان عقلاً أصلاً، ولذلك المُطلَق يليق بالمُطلَق لا إله إلا هو، فقط هو وحده، لا يُمكِن حتى عقلياً أن تتصوَّر هذا المحدود أن يكون مُطلَقاً، هذا لا يُمكِن، لن يكون مُطلَقاً، وإنما سيكون عدماً، هذا شيئ غريب، لكن كل شيئ هكذا في حياتنا، فكيف تطلب يا أخي أو يا أختي من هذا العقل الذي خُلِق لله وحدَّ حدوده وهو بذاته لا إله إلا هو بلا حدود – الله بلا حدود – أن يُدرِك حدوداً لله؟ مُستحيل، هذا تناقض، أليس كذلك؟ لذلك الإيمان دائماً شئت أم أبيت تسليم،
كل مَن يقول لك الإيمان عقل وأنه يُمكِن أن نُعقلِّن كل مباديء الإيمان هو جاهل لا يفهم لا الإيمان ولا العقل حقيقةً، خُطوات على الطريق تُعقلَّن، أما جوهر الإيمان في نهاية المطاف هو تسليم، قال الله وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ۩، لابد أن يكون تسليماً وفقاً لمُقدِّمات مُعيَّنة، هذه المُقدِّمات لا تُفضي إلى التسليم بنسبة مائة في المائة دائماً ومن هنا مُخاطَرة الإيمان، هناك خُطوة فيها مُخاطَرة، لذلك أنا أقول لكم الإيمان في نهاية المطاف أين يجد نفسه؟ هل يجد الإيمان نفسه في العقل أو في القلب؟ في القلب في نهاية المطاف، هل الذي فعله إبراهيم عقل أو قلب؟ قلب، قلب مُوقِن بالإيمان وليس عقلاً، العقل بطبيعته حدود وحسابات، بالحدود والحسابات لن أذبح ابني وسأطلب تبريراً، ما الفائدة يا رب؟ هل تحتاج إلى دمه؟ هل يلذ لك عذابي وعذابه؟ ما الفائدة؟ ما المصلحة؟ قل لي ما المصلحة وسوف أذبح، لكن إبراهيم لم يقل هذا، لماذا؟ لأنه تحرَّك بقلبه، قلب المُؤمِن.
انظروا من زاوية أخرى إلى بلية إسحاق أو إسماعيل، هذا المسكين – عليه السلام – عنده بلية أخرى، ما هى؟ إبراهيم إيمانه موسوط بواسطة واحدة، أقل الإيمانات موسوطيةً إيمان الأنبياء، أليس كذلك؟ ما هى الواسطة؟ الملك مثلاً، أي وسيلة التنبئة، إذن واسطة واحدة، وهذا أدعى إلى البخوع، إبراهيم جرَّب في حياته عبر سبعين سنة ربما وأيقن أن هذا الذي يأتيه وحيٌ، قال الله وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ۩، يبدو أنه نُبّئ في فترة مُبكِّرة جداً من حياته، هذا معنى الآية في الأنبياء التي تقول وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ – اللهم ائتنا رشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا – وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ۩، إبراهيم – عليه السلام – جرَّب بنفسه وأيقن أن هذا الذي يأتيه وحيٌ، هذا وحي، نُسخة من الحقيقة الحقيقية، ليس الحقيقة المُتخيَّلة الافتراضية وإنما الحقيقة الواقعية على مُستوى الوجود بكلا وجهيه الغيبي والشهودي، فعلم هذا هو، لأنه من سبعين سنة يُجرَّب هذا، ومن ثم لا يُوجَد تردد، أما إسحاق – عليه السلام – أو إسماعيل – عليه السلام – بخصوص هذه القضية بالذات إيمانه موسوط بواسطتين، الواسطة الأولى واسطة النبي، والواسطة الثانية النبي كواسطة، ما هى واسطة النبي؟ جبريل أو الوحي، هذه موجودة في حق إبراهيم نفسه، فهذه لابد منها مع أنها لا تتعلق به مُباشَرةً، ولا تظهر واسطيتها إلا بالنبي كواسطة، مَن هو النبي كواسطة الآن؟ أبوه إبراهيم، عليه أن يُؤمِن تماماً ولا يتردَّد أن أباه إبراهيم هو نبيٌ من الأنبياء وأنه صادق، أنه صادق في الحديث عن نبوته وعن أمر الله له بأن يذبحه، فهنا البلاء الإسحاقي أو الإسماعيلي أزيد بمرحلة أو بخُطوة إضافية، هناك إسحاق مُبتلى أيضاً، لكن انتبهوا الآن، لو ذهب إسحاق أو ذهب إسماعيل – ذُبِح وسال دمه أو سُفِح دمه وانتهى كل شيئ – فأنا أقول لكم أنه سوف يرتاح ويذهب إلى مراضي الله في مراشد أبيه – هذا من رشد أبيه – لكن يبقى أبوه في عذاب الألم إلى أن يلقى الله، سواء عاش بعده سنة أو سنتين أو عشر سنين أو عشرين سنة لن ينسى للحظة مشهد ابنه وحيده وبكره وهو تزهق نفسه بين يديه بذبحه بسكينه، ولذلك قال الله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩، لم يستطع أن ينظر في عينيه، كأن الله سمح له بهذا، وضع وجهه على الأرض وأراد ذبحه من خلف الرأس، وهذا الذبح أبلغ، هذا يقتل مُباشَرةً لأنه يقطع البخاع، أي أنه يقطع النخاع، أما الذبح من الأمام قد لا يقتل، لكن يبدو أن الهدف هو ألا ينظر في عيني وحيده حبيبه، قال الله فَلَمَّا أَسْلَمَا – كلاهما أسلما – وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩، علماً بأنه يُوجَد فرق كبير بين الرواية التوراتية والرواية القرآنية، في الرواية التوراتية إبراهيم وإسحاق يبلغان أعلى جبل المريا والمذبح موجود والحطب موجود وقداح النار الذي يُورى به موجود والسكين، والآن لأول مرة إسحاق يُواجَه بالأمر الإلهي، قال له إسحاق يا بني كذا وكذا، لكن في القرآن ليس كذلك، يبدو أنه قبل أن يمضيا، ويُحتمَل أيضاً أنها في مرحلة تالية، ولكن السياق يُشعِرك أنه منذ البداية صارحه، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ ۩، من المُمكِن أن يكون في نفس الساعة ومن المُمكِن أن يكون قبل ذلك، ليس الأمر واضحاً تماماً، طبعاً الأرحم أن يكون في نفس الساعة، ألا يُطيل أمد العذاب على ابنه، ولئلا – وهذا الأحكم أيضاً – يُتيح فرصة للتردد، قد يُوافِق الآن وفي آخر النهار يقول له لا يا أبتي، لماذا تفعل هذا؟ لا أُريد، فالأرحم أن يكون في تلك الساعة، الله أعلم، في الرواية التوراتية نعم في تلك الساعة فقط عرف، ولم يُعلِم سارة ولا أليعازر، لم يُعلِم الخادمين بل لم يُعلِم أحداً، أعلمه الآن لأول مرة، كيركيجور Kierkegaard يتخيَّل – وجميل هذا التخيل لكنه ما وقع – ويقول إبراهيم الآن يقلب سحنته وينظر بغضب ويقول له تباً لك، هل تظنني ذلك الرسول النبي؟ أنا الوثني سافك الدماء، سأذبحك يا ملعون، فيقول إسحاق يا رب، يا رب ما هذا؟ أين أبي؟ ذهب أبي، تبقى أنت الأب الرحيم، ارحمني في هذا البلاء، لماذا يفعل إبراهيم هذا في تصور كيركيجور Kierkegaard؟ لكي يُخفِّف على ابنه مأساة أن يرى أباه يذبحه، أباه العاقل النبي الرحيم تحوَّل وحشاً، لكن هذا لم يحدث، هذا خيال فيلسوف شاعر، كيركيجور Kierkegaard كان شاعراً، كان شاعر المسيحية، علماً بأن هذا الموضوع بالذات خصه كيركيجور Kierkegaard بكتاب كامل إسمه خوف ورِعدة، وقال في يومياته أنا أعتقد أن هذا الكتاب كفيل بأن يُخلِّدني ككاتب عظيم بعد أن أموت، يعتبر أعظم أعماله : تحليله للتجربة الإبراهيمية، لم نستفد منه إلا أقل القليل بفضل الله، نحن الآن نُحلِّل هنا والكلام أكثر من هذا بكثير، نحن لا نزال في البداية، نُحلِّل من وحي مفاهيمنا الإيمانية التوحيدية في اتجاه مُختلِف تماماً – بفضل الله – في أشياء كثيرة، لكن على كل حال كله مُفيد، نكتفي إلى الآن بهذا القدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي :
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، كانت المُعجِزة الآن، جاءت المُعجِزة، وفي نظري هذه ليست مُعجِزة بأكثر من مُعجِزة إبراهيم نفسه، ما فعله إبراهيم هو المُعجِزة، انصياع إبراهيم لذاكم الأمر الإلهي هو المُعجِزة الحقيقية، تتصاغر أمامها مُعجِزة ملك ينزل بكبش فداء للذبيح، هذه مُعجِزة صغيرة بسيطة، ولذلك القرآن عبَّر عنها في هذه الآية القصيرة ثم مشى مُباشَرةً، ليست القضية في القُربان، ليست في هذا المُعجِزة أبداً، القضية في إبراهيم، لذلك قبل قليل يقول قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، ثم يعود إلى إبراهيم قائلاً وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۩ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۩ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ۩، القضية إبراهيم ليست المُعجِزة، المُعجِز هو إبراهيم نفسه، هكذا يُحيل الإيمان صاحبه إلى مُعجِزة، المُعجِزة هو إبراهيم فانبتهوا، يقول ابن عطاء الله – قدَّس الله سره – كيف تُخرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد؟ هل أنت تُريد المُعجِزات؟ اخرق من نفسك العوائد، قبل يومين كنت مع رجل أعمال فاضل حقيقةً وقد دُهِشت من شدة تدينه – ما شاء الله – وصدقه مع الله، كان شيئاً عجيباً، رجل أعمال كبير من رجال العرب، يختم كتاب الله كل ثلاثة أيام مرة، الناس تظن أن همه جمع النقود، لكن همه دينه، كيف يدعم هذا الدين وكيف يُحيي هذا الدين وكيف يُصلِح ويُجدِّد أمر هذا الدين وهذه الأمة، إي والله، فقلت الحمد لله، لا يزال في أمة محمد الخيّرون، حدثني قائلاً كان لدينا رجل – رجل مُتواضِع بسيط – إسمه منظور، وهو من الهند، علمنا أنه من الصالحين، واضح أنه رجل صالح وإن كان لا يتحدَّث عن نفسه، قال لي وثبت هذا غير مرة، قلت له هل ثبت أكثر من مرة؟ قال ثبت غير مرة، على أن مُحدّثي هذا الشيخ – رجل الأعمال الفاضل – ليس من الذين يهتمون كثيراً بالكرامات والخواراق وما إلى ذلك، لا يهتم أبداً، يقول :حين تثبت لي عن رجل صالح أنا أُصدِّقها، لكن لا أُمليها على أحد ولا أُملي التصديق بها على أحد، أي أن هذا لا يعنيني كثيراً، الإيمان عمل وليس شارات ونياشين، انتبه إلى أن الإيمان عمل، لتعيش به أنت، ليس لكي تصنع به إسماً ولقباً وسمعة، هذا الصحيح، ولا يكون شبكة تصيد به أموال الناس وتقديس الناس واحترام الناس لك، ليس هذا الإيمان، الإيمان لك أنت دون العالمين، كما قلنا حقيقة بينك وبين الله،
إبراهيم الآن ذهب بابنه ولنفترض أنه لم يُخبِره، وربما لم يُخبِر حتى سارة، أرحم بها ألا يُخبِرها، أليس كذلك؟ أن يُخِبرها بعد أن يعود من ذبحه أرحم، أنا أقول لكم مع مَن كان إبراهيم؟ على ماذا يستند؟ بماذا يُبرِّر فعله أمام نفسه؟ هل يستند على المُجتمَع؟ المُجتمَع لا يسمح بهذا، المُجتمَع يرى هذا جنوناً، الأخلاق ترى هذا جنوناً، أليس كذلك؟ هذا جنون وعبث، ليس عملاً أخلاقياً ولا مصلحياً ولا وطنياً، ولا فيه أي شيئ، إذن الآن انقطعت كل هذه الوسائط، لا مُؤسَّسة دينية ولا مُجتمَع ولا سُلطة ولا أبوة ولا أمومة، لا شيئ، إذن ماذا؟ إبراهيم الآن وحده بين يدي الله، هذه تجربة الإيمان، وهو لا يرى نفسه ملزوزاً أو مدعواً أن يُقدِّم تبريراً أو براءة ذمة لأحد، لا يعنيني أن أُقدِّم براءة ذمة لابني حتى أو لزوجتي، هذا أمر الله، انتهى كل شيئ، هذا أمر الله تبارك وتعالى، هذا هو الإيمان، موقف فرادة حقيقي بينك وبين الله وحده – لا إله إلا هو – دون كل هذه الرياءات والنفاقات والرتوش الفارغة التي أفسدت الإيمان وحوَّلته إلى شيئ غيره تماماً، غير ذاته تماماً، إذن هذا هو، المُهِم أنه قال لي هذا ثبت غير مرة، فقلت له هل ثبت؟ قال لي ثبت، يا شيخ يكون معنا ونحن نتناول الطعام وبعد خمس دقائق يكون في المدينة المنورة، ويتصل أُناس يقولون منظور هنا الآن، قلت له نعم نعرف هذا، هذا موجود وهو كثير، الآن المُحدِّث ليس شيخاً درويشاً وليس عالماً دينياً كلاسيكياً، هذا رجل أعمال ملياردير، رجل أعمال ملياردير يتحدَّث عن خبرته مع رجل صالح يبدو أنه كان يشتغل خدّاماً عنده أو شيئاً كهذا – لا أعرف – وهو من الهند، يقول بعد دقائق يكون على بعد خمسمائة كيلو أو على بعد أربعمائة وخمسين كيلو في دقائق، هذه إسمها أهل الخطوة وهى معروفة عند الصالحين، معروفة وكثيرة ومُتواتِرة، هؤلاء يقطعون المسافات في لحظة، فهذا موجود وأنت الآن يُعجِبك هذا، لكن عليك ألا يُعجِبك، لا تلتفت إلى هذا، ماذا تُريد بأهل الخطوة؟ هل تُريد أن تُوفِّر البنزين؟ أنت عندك سيارة فادفع ثمن البنزين دون أي مُشكِلة، هل تُريد أن تُوفِّر وقتاً؟ وقتك كله فارغ، أنت تحضر أفلام – وMovies – ومُسلسَلات وما إلى ذلك، عن أي وقت تتحدَّث بالله عليك؟ لابد أن نكون واضحين، لماذا تُريدها؟ لماذا تُريد أن تذهب بخطوة إلى لينتس Linz وإلى غراتس Graz وما إلى ذلك؟ هل تُريد أن تُوفِّر البنزين؟ هناك طيارات وسيارات وأموال تُدفَع، هل تُريد أن تُوفِّر وقتاً؟ وقتك تعبان، انتبه واسأل نفسك لماذا؟ أنت تُريدها من أجل السُمعة، من أجل أن تُمارِس هواياتك، ولعلك تُريدها من أجل أن تتجسس على الناس أيضاً وتُحرِجهم وتُثبِت لهم أنهم في الساعة الفلانية كانوا يتحدثون ويقولون كذا وكذا، ما هذا؟ تصورات صبيانية، لذلك يقول ابن عطاء الله السكندري كيف تُخرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد؟ حين تُخرَق العائدة – مثل هذه العائدة التي يُسميها الناس الآن بالمُعجِزة لكن هى خارقة في الحقيقة لأن المُعجِزة للأنبياء – أو مثل هذه الخارقة أو مثل هذه الكرامة أو هذا الفعل المُدهِش المُحيِّر – لإنسان عادي مثلنا مسكين وفقير العقل والقلب ،ماذا تكون عليه؟ فتنة، أليس كذلك؟ إن خُرِقت له تكون له فتنة وعليه محنة ولعنة، تجعله شيطاناً، قد يدّعي أشياء وهو فيها كاذب، قد يطلب تعبيد الناس له، يطلب من الناس أن تُقبِّل رجله من تحت وتأتيه بالأموال وتتوسَّل بجاهه، أي أنه سيكون معبوداً من دون الله، ومن ثم ذهب في ستين مليون داهية، لكن حين تُخرَق العوائد لمَن خرَق من نفسه العوائد يختلف الأمر، هل تعرفون مَن هو الذي خرَق من نفسه العوائد؟ هو الذي لم يعد عبداً إلا لله ولم يعد له ربٌ إلا الله، ربي – مثلاً – ليس المال، الناس مُعظمهم – لا تشكون في هذا – ربهم هو المال، نعم – أستغفر الله – ربهم هو المال، النبي قال لكل أمةٍ عجل، وعجل أمتي الدينار والدرهم، تعس عبد الدينار، إذن يقول عبد الدينار لأن ربه الدينار، تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، أي القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتفش، أليس كذلك؟ ما هذا؟ هذا هو، لابد أن نكون واضحين، أحد الصالحين قديماً قتلوه، وقبل أن يموت قال لهم معبودكم تحت قدمي، قالوا قلنا لكم زنديق فقتلوه، بعد ذلك اكتشفوا كنزاً من الكنوز تحت قدمه بالضبط ، كان يُوجَد كنز من الذهب، وهو يعرف أنه موجود وكان لا يُريده، فقال لهم هذا تحت قدمي، يعلم أنه معبودهم، لذلك أنا أقول لك حين تخرق أنت من نفسك العوائد – أي عوائد – تختلف حالتك، كل معبوداتك من دون الله وكل الآلهة والوثنيات التي أشركتها مع الله في توحيده وعبادته ينبغي أن تُفنيها وتشطبها وتمسحها، هل تعرف ما هى أول هاته المعبودات؟ نفسك التي بين جنبيك، أناك، شهادتك، لقبك، منصبك، مالك، جمالك، علمك، قوتك، طولك، عرضك، جاهك، سُلطتك وسطوتك، كل هؤلاء أساحقة وإسماعيلون إن جاز التعبير، كل هؤلاء إسحاق وإسماعيل، عليك أن تُضحّيهم، هذه الآن تضحية، المفروض ألا يكون لهم خيار، إسحاق كان له خيار – فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ۩ – لكن هذه ليست تضحية، والوقت لا يتسع لنقول ما هى، على كل حال هى اختبار إيمان، لكن هذه التضحية الآن، عليك أن تُضحّي، الذي ظنَّ أنه ضحّى لأنه دفع مائتين يورو وضحّى كبش وعاد إلى بيته هو ما ضحّى شيئاً يا أخي، وبعض الناس يأخذون الكبش على البيت ويأكلون منه بحجة عدم وجود فقراء ثم يقول الواحد منهم أنا ضحّيت، هذا ما ضحّى شيئاً، أيها الشاب – رزقك الله العفة والتعفف والصيانة والديانة والفتح والرزانة – هل تعرف مَن هو إسماعيلك؟ هل تعرف مَن هو إسحاقك لتُضحيه؟ فتاة جميلة أحببتها وهويتك، ولو طاوعتها طاوعتك وما التوت عليك، لو تُريد منها لا تتمنع، لكن أنت تقول إني أخاف الله، هذا إسماعيلك تُضحيه الآن، وهذا بلاء مُبين، وبعون الله ستُفدى بقٌربان عظيم، سيُفتَح عليك في المال وفي الزوجة وفي الأولاد – بعون الله تعالى – الذين سترى الدنيا على ضوء عيونهم – بإذن الله تعالى – وتُسر بهم دنيا وآخرة، سوف يكونون قرة أعين لك فانتبه، هناك شهادة أُؤديها – أُطلَب للشهادة – وهذه الشهادة لا تتعلَّق بي – إذا تعلَّق بي فإنها ستكون صعبة جداً – وإنما بأخي الحقيقي أو بأبي أو بأمي أو بزميلي أو بحبيبي، والطرف الآخر خصم وعدو لدود حسود يحمل الضغينة والحقد علىّ وعلى صحابي، سأؤدي الشهادة على أنها ستدين أخي وأبي وأمي وربما تدينني أنا، لكن أنا سأؤديها، ضحَّيت إسماعيل الآن، هل فهمتم؟ هذا هو الإيمان، هذا الإيمان الإبراهيمي، هذا معنى قول الله فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۩، من غير انحراف، بل انحراف عن كل الدنيا وتوجّه إلى الله وحده، أمانة تُركِت لديك لا يعلم بها إلا الله وحده ومات صاحبها يا سيدي وتولى، وهى أمانة كبيرة عظيمة تصل إلى مليون أو اثنين مليون يورو، ينبغي أن تُؤديها عن آخر مليم فيها، قل ليست لي، هذه أمانة، فكيف أخون الأمانة يا أخي وأنا مُؤمِن؟ لا أستطيع أصلاً، سوف أؤديها، أنت الآن ضحَّيت إسماعيلك أو ضحَّيت إسحاقك، هذه هى التضحية، ليس تضحية الأكباش التي لها القرون فحسب وقد تُساوِم فيها الجزار أيضاً وهى تُذبَح، لا ليس هذا، ولذلك إذا أردت أن تُخرَق لك العوائد فاخرِق من نفسك أنت العوائد، هذا خرق العوائد، أي تضحية هؤلاء، فإن فعلت هذا خرق الله لك العوائد، أنا أقول لك – من الآن أُطمئنك والله العظيم – وحين يخرقها لك أنت لن ترى فيها أي شيئ غير عادي، هذا أمر عادي لن تفرح به ولن تُصاب بالهبل لأنك أصبحت من أهل الخطوة أو أصبحت مُستجاب الدعوة أو أصبحت مُكاشَف بأشياء، هذا سوف يكون عادياً عندك، سوف تعيش هذا كحالة عادية تماماً كالنفس، لذلك لا تتحدَّث بها ولا تُفشيها، وأنت غير حريص عليها ولا تغتر بها أيضاً، أنت لا تغتر بها ولا تقف عندها، ماذا تحتاج منها؟ هل القرآن وقف كثيراً عند قول الله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩؟ مر – والله – عليها مُباشَرةً وأنتم لا حظتم هذا، وعاد بالكلام إلى المُعجِزة الحقيقية، ما هى؟ إبراهيم، إبراهيم الولي الصالح الذي يصدع بأمر الله ويبخع لأمر الله.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، افتح علينا فتوح العارفين بك برحمتك يا أرحم الراحمين، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتم وخِر لنا في قضائك وبارِك لنا في قدرتك حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا إلهنا ومولانا رب العالمين.
اللهم ارزقنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، لا تجعل مُصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم لا تجعل إلى النار مثوانا واجعل الجنة هى دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، واغفر لوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالخسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (18/10/2013)
أضف تعليق