إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ ۩ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ۩ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ۩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
من بين الأوصاف التي يُسنِدها القرآن الكريم – أيها الإخوة والأخوات – إلى الإنسان حصراً وصف السأم، إنه الملل، وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ۩، أما الملائكة – مثلاً – فإنهم لا يسأمون، يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ۩، لا يعرفون السأم! يبدو أن الحيوانات أيضاً لا تعرف السأم، أما الإنسان حصرياً هو الكائن الذي يتآكله السأم، الملل! وباللُغة العامية العبقرية في هذا الخصوص الزهق، يُشبِّهونه بالموت، الزهق من الزهوق، إنه خروج النفس، خروج الروح! يُعادِلون بين الملل أو بين السأم وبين الموت، لأن الحياة لا يُمكِن أن تكون مُنتِجة أو بهيجة سعيدة حبرة مُنجِزة مع السأم، السأم والإنجاز لا يتماشيان ولا يتشاركان، السأم فالج نفسي، شلل نفسي، كالفالج البدني، لكن هذا فالج للنفس، بكل قدرها وإمكاناتها، إنه فالج نفسي، فالج معنوي!
لكن مهما قلنا وقيل يبقى هذا الفالج وهذا الغول المُخيف – لعله أخوف من كل الأغوال – حقيقة واقعة، تُخرِّب البيوت، تُنهي الصداقات، تُوقِع في المآثم وفي المغارم، إن الملل دافع إلى الإثم، إلى العصيان، بدافع آخر هو التغيير، يُحِب أن يُغيِّر، لعل في هذه المأثمة، لعل في هذه المعصية، ولعل في هذه المقبحة ما يُمكِن أن يعود بشيئ من السرور، بشيئ من البهجة، وبشيئ من اللذة.
بعض الناس لهم فلسفة خاصة في التجريب، تجريب كل شيئ، خبرة كل شيئ، هذه الفلسفة تستند إلى حقيقة، وهي بلا شك حقيقة، أن الحياة قصيرة، ولأن الحياة قصيرة علينا ألا نُبالي وأن نُجرِّب كل شيئ، نحن نتبنى موقفاً مُعاكِساً تماماً، يستند إلى ذات الحقيقة، وهذا عجب! يستند إلى ذات التبرير، لأن الحياة قصيرة وقصيرة جداً لا تحتمل أن تُجرِّب كل شيئ، لأن بعض ما قد تُجرِّبه قد يُنهي حياتك معنوياً، عقلياً، روحياً، واجتماعياً، قد يُشوِّه أو يُحرِّف أو يُدمِّر بالكامل صورة الذات، صورة ذاتك، صورة نفسك! فاستناداً إلى نفس الحقيقة نحن لا نتعاطف مع فكرة تجريب كل شيئ وخبرة كل شيئ، غير صحيح! وهذا معنى القانون، وهذا معنى الشرع، إلهياً كان – وهو الذي يعنينا – أو غير إلهي، أن هناك حدوداً، أن هناك مُحرَّمات، أي تابوات Taboos، لا يُمكِن أن يُجرَّب كل شيئ.
لا يُمكِن أن يُجرَّب كل شيئ – لأن تجريب كل شيئ في نهاية المطاف هو الفوضوية المُطلَقة – وأن تكون حراً بهذا المعنى، هذا ليس له معنى، لكن أن تُصبِح حراً بمعنى آخر هو كل المعنى، أن تختار وأن يتبرَّر اختيارك على أُسس روحانية، عقلية، ومشاعرية، لكن بعد درس عميق، بعد تأمل، وبعد استفادة أيضاً من خبرات الآخرين، مهما وسعتك هذه الاستفادة.
على كل حال يبدو أن الملل شيئ مُخيف، يتآكلنا، يُدمِّرنا، يُخرِّب بيوتنا، ويُنهي علاقاتنا بأعز الناس علينا، بأصدقائنا، بإخواننا، بأساتيذنا، بمَن نُحِب، وبمَن ربطتنا معهم وبهم علاقات حميمة وصادقة، ربما لعقود أحياناً! والسبب – صدِّقوني – أحياناً قد يكون الملل، ليس في كل الأحايين وإنما أحياناً قد يكون الملل.
لقد كفت هذه الزوجة في نظرك عن أن تكون بهيجة وجميلة وحسنة، لكنها في نظر الآخرين لا تزال! لا تزال تتمتع بقدر كبير من الرونق، من الألق، من الإشعاع، ومن الجاذبية، يبدو أن العلة في نظرك أنت، وليس في جمالها، في نظرك أنت! إنه الملل، أيضاً إنه ليس ذنبك، إنه الملل.
هل يُكتَب على الإنسان أن يعيش إلى الأبد مُستثاراً بشيئ واحد أو بأشياء بأعيانها جميلة بهيجة طيبة مُمتازة ومُثيرة؟ غير مُمكِن، حتى الطفل الصغير – والذي يزعم بعض التربويين أنه لا يعرف الملل وهذا غير صحيح – يشعر بهذا، أعتقد أن كلاً منا خبر الملل صغيراً حين كان ابن سبع سنوات وست سنوات وأقل وأكثر ربما، لكن في حدود أضيق بكثير من الكبار، أعتقد أن كلاً منا يستحضر أو يُمكِن أن يستدعي ذكريات انتابته غير مرة وعجز عن التعبير لأبويه، صار في حالة لا يُبهِجه أي شيئ، لا يُريد أن يحضر أي شيئ في التلفزيون Television، لا يُحِب أن يأكل هذه الفاكهة ولا هذه ولا هذه ولا هذه ولا هذه، لا يُحِب أي مشروب، وأي مطعوم، ماذا تُريد؟ لا أعرف، إنه الملل أيضاً، إنه الملل الذي يُزلزِل هذا الكيان الصغير، لكن أقل منا كثيراً.
الطفل بلا شك إذا أردنا أن نُغلِّب هو كائن غير ملول، أما الكبير فهو الملول، ويقتله الملل، وليس لملول صديق، ليس لملول صديق لأنه يُحِب أن يُغيِّر، الذين تحدَّثوا عن الملل وبالغوا بالمعنى الوجودي – بالمعنى الوجودي كأكثر فلاسفة الوجودية والمُتأثِّرين بهم – أخطأوا وجاوزوا الحقيقة العلمية، ولم يتحدَّثوا حسب تقويمي عن الملل، إنما تحدَّثوا عن الاكتئاب، الاكتئاب حالة عامة وليس حالة نوعية، الملل حالة نوعية.
المُكتئب – نعم – هو ملول بالمُطلَق، لا يُحِب أي شيئ، لا يأنس بأي شيئ، لا يرغب في أي شيئ، ولا يرغب في أن يرغب في أي شيئ، إنه مُجافٍ للرغبة ذاتها، لا يُريد! هو حتى لا يُحِب أن يرغب في أن يرغب، هذا هو المُكتئب، وهو كائن مُحطَّم بلا شك، وهي حالة أكثر خطورة بكثير من حالة الملل، أما الملول فإنه يتكابد أو يتعانى من حالة نوعية وليس حالة عامة، كالتعب مثلاً، الإنسان قد يكون تعباً عضلياً، لكنه ينشد الراحة في تعب ذهني بعد ذلك، هذا التعب والكد الذهني يُشكِّل له راحة، إذن هو ليس حالة عامة، لو كان حالة عامة لما استطاع أن يُنجِز في أي مجال، لا في المجال العضلي البدني ولا في المجال الذهني التأملي، في أي مجال لا يستطيع! لكن هي حالة نوعية، وليست حالة عامة، الملل كذلك، لأن الملول يمل شيئاً ويطلب الأُنس والسلوى واللذة والبهجة والتجديد في شيئ آخر، إذن هذا ليس مُكتئباً!
أنيس منصور عنده كتاب لطيف لكن على طريقته في اقتناص أعشار وأكسار الأفكار والنظريات، اسمه وداعاً أيها الملل، أنه يتحدَّث طول الكتاب عن الاكتئاب وهو لا يدري، هذا ليس الملل، يتحدَّث عن الاكتئاب وهو يظن أنه يتحدَّث عن الملل، ليس هذا الملل، إنه الاكتئاب، الملل شيئ يختلف، الملول – كما قلنا – يطلب التلذاذ، يطلب المُتعة، ويطلب الأُنس والبهجة، ولذلك يُغيِّر، هذا التغيير يُكبِّده أحياناً خراب البيت، قد يفقد أسرته، زوجه وأولاده، قد تفقد هي أيضاً زوجها وأولادها، هي في نظرها وهو في نظره منطقي تماماً!
في الحقيقة الدافع الذي يكمن حول اختيار هذا الموضوع ما صار يتعالى من صوت هذه الأيام من حالات الطلاق المُتزايدة بين أفراد الجالية المُسلِمة في هذا البلد للأسف الشديد، نساء يطلبن الانفصال، رجال يطلبونه عملياً ويرفضونه صورياً، يا أخي أنت تعيش كأنك مُطلِّق، يا أخي لا يُمكِن أن تُعاشَر هذه المرأة هذه العشرة ثم تزعم أنك زوج، وبعد ذلك هو يُريد أن يحتفظ بها، إنها أنانية التملك والاستحواذ، إنها الأفكار الاقتنائية، تُريد أن تكون من ضمن مُقتنياتك، أي الزوجة، لا! ليست الحياة الأسرية هكذا، لا يُمكِن أن تقوم على أفكار اقتنائية، هو مُطلِّق في الحقيقة، ولكن صورياً الرجل لا يزال زوجاً، غير صحيح!
طبعاً من السهل جداً – قد يكون لهذا دور بلا شك، لكن من السهل جداً وعلى طريقتنا نحن التآمريين العرب والمُسلِمين – أن نُحمِّل التبعة لأطراف خارجية، لأطراف مكّارة باستمرار، مُصيبة! هذه الطريقة في التفكير مُصيبة، يجب أن نبحث دائماً ليس عن الفيروس Virus الخارجي وإنما عن نقص المناعة الداخلي، دائماً!
الآن – مثلاً – هناك ربما حالة شبه وبائية لمرض مُسبَّب عن فيروس مُعيَّن، لكن نجد أفراداً لا يُعانون هذا المرض، لأن مناعتهم قوية، فوق المُستوى! ونجد أفراداً آخرين صرعى أو مصروعين لهذا المرض، لأن مناعتهم دون المُستوى، هذا ما يحدث!
لا يُمكِن أن نأنس بحياة زوجية وأن نشعر فيها بالطمأنينة والسلام والمُصالَحة في حال أو مع تصور حالة غريبة جداً جداً، أن يأتي فيروس Virus خارجي رجلاً كان أو امرأة وبكلمة وبجلسة بسيطة يُقنِع الزوجة أن تُطلِّق ويُقنِع الزوج أن يُنهي الحياة الزوجية، غير مُمكِن! ليست هذه الحياة الزوجية التي وصفها الله بأنه سكن، هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۩، لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ۩، غير مُمكِن! ليست هذه حياة السكن، إنها حياة الغش والخداع وتوازن الرعب، يبدو أنه يضبط عليها مماسك وتأخذ عليها أموراً، والمسألة تقوم على التهديد أو التهادد المُتشارك، لا يُمكِن! هذه ليست حياة.
علينا أن نبحث بعمق، لكن أحياناً الزوج يكون إنساناً صالحاً وإنساناً فاضلاً، كما هي تماماً أيضاً، إنسانة صالحة وإنسانة فاضلة، يكون مُتعلِّماً، وهي أيضاً مُتعلِّمة، يكون هادئاً، ليس عُصابياً، وتكون هادئة أيضاً، ليست عُصابية، الوضع المادي بأحسن خير – كما يُقال – أو بألف خير، ولكن يحدث الخطأ، ينتهي أحياناً هذا الخطأ بالطلاق، الخطأ في كثير من الحالات يبدأ من طرف الزوج، الذي يبدأ يبحث، يبحث خارج عُش الزوجية، يُريد أن يُجدِّد شبابه، يشعر بأنه رجع شاباً صغيراً!
لا أُريد أن أجعل الأمر موضعاً للتندر، لكن ببساطة ولضيق الوقت كل ما يحصل أن هذا الزوج أو هذه الزوجة غفل عن أنه مُصاب بحالة شديدة من حالات الملل، السأم، الزهق! لم يعد ير في زوجته ما يُثيره، لا من ناحية روحية ولا من ناحية معنوية ولا من ناحية بدنية، انتهى! كفت، خبا نورها، بهت لونها، وزوى وصوَّح ظهر جمالها، انتهت! في نظره هي قبيحة القبيحات، هي لا شيئ، في نظره لا تُساوي شيئاً، لا تُساوي شيئاً! كما قد يكون أيضاً هو في نظرها كذلك، لا يُساوي شيئاً! ويُصبح الثمن سهلاً عليهم – الطلاق – في البداية، ليكتشفا بعد أشهر أو سنة أو أقل أو أكثر أنهما ارتكبا جريمة في حق الأسرة وفي حق الأولاد، ما هذه الأنانية؟
ما يحصل أن هذين أو هذا أو تلك قد فشلا في التقاط الحقيقة، فدفعا الثمن، ثمن الجهل وثمن عدم الوعي! أنه يُعاني فقط حالة ملل، التغيير المطلوب ليس للشريك، إنما للظروف وللشروط التي تجمع الشريكين فقط، هو لم يفطن إلى هذا، ظن أنه يُمكِن أن يتعاطى مع هذه الإنسانة أو تتعاطى هي مع هذا الإنسان على طريقة تعاطيه مع سيارته أو عفش بيته، انتهى! هذا العفش أصبح مُمِلاً يا أخي ومسؤوماً، يُغيَّر ويُكَب على القمامة، ثم نأتي بعفش جديد يُدخِل البهجة والألق والفرح على نفوسنا، شيئ طبيعي!
كما نمل أثاث بيوتنا نمل أنفسنا، نمل أزواجنا، ونمل أصدقاءنا أحياناً، أحياناً الإنسان يشعر بأنه مل نفسه، أصبح مسجوناً في جلده، يقول الشاعر القديم:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ.
الرجل سأم من نفسه، في الحقيقة هذا الشاعر لا يُمكِن أن يُدرِّسنا أو يُعطينا موعظة في علم النفس وعلم التربية والتحليل النفسي لأنه فاشل أيضاً، لأنه فاشل!
نعرف شيوخاً في الثمانين – مثل أبي الوفاء بن عقيل – كانوا يلتهبون ويشتعلون ألقاً فكرياً ونفسياً، كانوا يكتبون ويُدرِّسون ويُحاضِرون ويقودون الحركة الفكرية في زمانهم، كان في الثمانين من عمره السياسي البريطاني الشهير غلادستون Gladstone، كان في الثمانين أكثر حماسةً مما كان عليه في العشرين من عمره، في الثمانين تولى للمرة الرابعة رئاسة وزارة بريطانيا، في الثمانين!
الدكتور صمويل جونسون Samuel Johnson كتب أحسن كتاباته وهو في الثامنة والستين، توماس هوبز Thomas Hobbes – الفيلسوف الإنجليزي السياسي، صاحب كتاب الحوت، أي لفياثان Leviathan – كتب ترجمته للإلياذة Iliad وهو في التسعين، ابن تسعين سنة! كم أشعر بالرثاء والشفقة – لا أُحِب أن أقول بالازدراء، لماذا تزدري؟ لأنه يُعاني شيئاً لا يفهمه المسكين – من شاب في العقد الثاني – ابن سبع عشرة سنة – أو في العقد الثالث – ابن خمس وعشرين أو ست وعشرين سنة – أو في العقد الرابع أو في العقد الخامس – لا يزال شاباً أو كهلاً في الحقيقة، الكهل أقرب إلى الشباب منه إلى الشيخوخىة – يقول انتهى، فات كل شيئ، وانتهى كل شيئ! لماذا يا حبيبي؟
أحد الكتّاب العرب المُسلِمين يكتب مُتعجِّباً من الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss كيف شرع يدرس الإنجليزية وهو في الستين، لماذا؟ الفيزيائي الكبير جيمس واط James Watt شرع يتعلَّم الألمانية وهو السابعة والثمانين وتعلَّمها، تعلَّمها وهو في السابعة والثمانين، بعض علمائنا بدأوا يطلبون علم الحديث وصاروا أئمة في الحديث وهم في التسعين، الشيخ خالد الأزهري – مشهور بالأزهرية، شرح متن شهير جداً جداً في علم النحو العربي – طلب علم النحو وهو كهل، يُذكِّرنا بستيفنسون Stevenson، ستيفنسون Stevenson بدأ يتعلَّم الكتابة والقراءة وهو شيخ، في كبر سنه! وأصبح مَن هو معروف، ستيفنسون Stevenson!
إذن مسألة الصغار فعلوها والكبار فعلوها، إذن لا تتوقَّف لا على سن، لا على علم، لا على جهل، لا على مرض، لا على صحة، لا على جمال، ولا على قباحة، إنما تتوقَّف على ماذا؟ على فن العيش، كيف نعيش؟ لقد وهبنا الله – تبارك وتعالى – هذه الحياة، وترك بين أيدينا سر وأمانة أن نعرف كيف نعيشها، ماذا نُريد أكثر من هذا؟ أعطانا الحياة، ثم قال لنا اذهبوا وعيشوا بطريقة صحيحة تُرضيني وتُرضيكم.
بعض الناس وخاصة المُتدينين للأسف ليسوا هكذا، خاصة المُتدينين وبالذات المُتدينين العرب أنا وجدت هذا فيهم، لأنني وجدت أن المُتدينين غير العرب أقرب إلى فهم الحياة وفن الحياة والإنجاز من العرب بالذات، يبدو أننا أمة سئمانة، يقتلها السأم، يقتلها الملل! النبي كان يخاف جداً من هذا الملل، كان لا يُحِب أن يُسئم أمته، كان يخاف كثيراً منه، وهم أيضاً كانوا أُناساً يعشقون الحياة ويعشقون الإنجاز ويعشقون التفتح على هذه الحياة، كانوا يُحِبون الحياة، كانوا يعرفون كيف يمزحون وكيف يضحكون ملء أفواههم وقلوبهم وعيونهم، الصحابة أنفسهم كانوا كذلك، اليوم من المُستحيل – من المُستحيل – أن ترى ثلاثة شيوخاً – بالمعنى الأصولي للشيوخ، أي مظهراً، قالباً وقلباً كما يُقال – يضحكون بطريقة الصحابة للناس، يستحيل! لقد كان الصحابة يضحكون ويرمي بعضهم بعضاً بالبطيخ، هكذا!
كان الإمام ابن سيرين مزّاحاً، وإذا ذُكِر ابن سيرين ذُكِر الإلهام، الإلهام الرباني، العالم الذي كان يعبر الأحلام، ذُكِر الزُهد والتُقى والعبادة والخوف من الله، صحيح! لكن ابن سيرين هذا كان مزّاحاً، كان رجلاً شديد الظرف وكثير الدُعابة مع الناس، رحمة الله عليه، وأحب بعض الناس أن يُسليه يوماً، فقال له إن هناك مِن الناس مَن يقولون الشعر ما يُوجِب الوضوء، أي مَن يستشهدون بالشعر ما يُوجِب الوضوء، وتعرفون ماذا يعني، من شدة الضحك يُفلِّتون كما يُقال، فضحك وتعجَّب، ثم قام وأنشد بيتاً أضحك به الناس وقام إلى صلاته في المسجد، هكذا كانوا!
ضحك الإمام الشعبي مرة – عامر بن شراحيل الشعبي إمام الكوفة، وهو إمام جليل جداً، وهو القائل الذي نسيته من العلم لو حفظه أحدكم لأصبح به عالماً، موسوعة وبحر علم، كان يمزح أيضاً، كان كثير الدعابة – فقال له أحدهم يا أبا عمر أتمزج وتضحك؟ فقال لِمَ لا؟ لو لم نفعل لمُتنا، نموت من الغم قال، لابد أن نضحك، لابد أن نمزح، لابد أن نُفرفِش، ولابد أن نجتزئ، أن نُبلوِر، أن نجد، وأن نُفرِز أوقاتاً للمزاح، للضحك، للفكاهة، وللتتندر، فن الحياة! أن نعيش الحياة، لكن نحن أُناس مُترزِّنون مُترصِّنون، ولذلك نحن ملولون، وليس عندنا إنجاز، بالذات العربي قصير النفس، أقول لكم الفارسي ليس كذلك، الهندي ليس كذلك، الباكستاني ليس كذلك، الإندونيسي ليس كذلك، العربي بالذات إنسان قصير النفس، لذلك هو عاجز، ويتعانى عجزاً في أشياء كثيرة جداً جداً، المُسلِم غير العربي يتعجَّب من عربي لا يحفظ القرآن الكريم، عجيب! لُغتك لا تفهمها، لا تفقهها، لا تعرف، ولا تحفظ! لماذا؟ يقول أنا أُحاوِل، هو يحفظ سورة البقرة من أربعين سنة، صدِّقوني! فينا كثير جداً جداً يُحاوِل أن يحفظ البقرة مُنذ أربعين سنة، وفي السنة الأولى من الأربعين سنة حفظ سبعين آية في جلسة، وإلى الآن لا يزال يُردِّدها في جلسة، وماذا عن السبعين الثانية؟ نفس قصير، انتهى كل شيئ! لأنه سئمان، هذا السأم بالمُناسَبة، السأم هو عدم توفر الدافع لمُواصَلة عمل ما، تبدأ فيه ثم تمل، لا تستطيع أن تُواصِل، لأنك سئمان، لأنك ملول!
انظر إلى عمرو بن العاص، عمرو بن العاص لا نُحِب أن نُقوِّمه من جهة حُكمية وقيمية، لا! لكن من جهة فن الحياة، بلا شك أنه كان رجلاً يعرف كيف يعيش، طبعاً لا نقول عاش بمنطق صحيح أو بمنطق خاطئ، لكنه كان ابن الحياة واقتنص فُرصته، ولا نقول بالحلال أو بالحرام وبالصدق أو بالكذب، المُهِم أنه كان يعيش – كانت هذه طبيعته – ويُريد أن يُثبِت شخصيه، عنده شعور بالنقص من جهات مُعيَّنة معروفة في تاريخه، المُهِم مرة من المرات حصل معه موقف، وكان أميراً على مصر، وهو فاتح مصر يا إخواني، هو الذي فتح مصر، وعرف ووضع لها خُطة عبقرية بلا شك، حين تقرأ سيرته كفاتح تجد أنه رجل لا يُستهان به، لا يُستهان به! عمر نفسه أشفق من فتح مصر، قال هل يُمكِن؟ ولماذا؟ وما إلى ذلك، فقال اتركها علىّ، أنا سأفتح مصر وبأقل المغارم، ونجح يا أخي بأربعة آلاف جُندي، فتح مصر! عدة أهلها كانت تسعة ملايين، فتحها بأربعها آلاف، كم القتلى؟ شيئ شبه العدم، رجل ليس عادياً، كان استثنائياً! وجده أحسن الناس يركب على بغلة قد شمط وجهها، بغلة عجوز! وهذا ليس زُهداً، وإنما عنده مبدأ في الحياة، يُحِب أن يعيش، ليس كأغبياء الأغنياء، فقال له أتركب على هذه البغلة العجوز وأنت على خير ناجرة بمصر؟ أي خيل مصر، هي خيل مُمتازة جداً، يصفها بأنها خير الخيل في زمانه، وأنت على خير ناجرة بمصر! قال لا أمل دابتي، ليس عنده عُقدة الملل، ليس عنده حالة الملل هو، بالعكس! هو يُجدِّد حياته، وسنقول لماذا، فيها فلسفة مُعيَّنة، قال لا أمل دابتي ما حملت رجلي، ولا أمل زوجي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل صديقي ما حفظ سري، وإن الملل من كواذب الأخلاق، الله أكبر! أُناس عندهم حكمة، عندهم فلسفة في الحياة، عندهم فلسفة! الآن اسأل مَن تظن أنه فهمان – كما يُقال – ومُتفقِّه ومُتعلِّم منا – خاصة من المُتدينين – عن حياته، اطلب منه أن يُلخِّص فلسفته في الحياة، لا فلسفة! اطلب منه أن يُلخِّص لك تجربته الروحية، لا تجربة! سيحكي لك ويقص عليك كقص الأطفال، سيقول كنت وأنا مُراهِق أرتاد المقاهي ولا ألتزام بكتاب الله وسُنة رسوله، ويسَّر الله لي فضيلة الشيخ فلان الفلاني، بارك الله فيه، لا أُزكيه على الله وما إلى ذلك، أنقذني من كذا وكذا! ما هذا الأسلوب الطفولي؟ ما هذا؟ أين عمق التجربة؟ أين عمق التجربة الروحية والفكرية؟ لخِّص لي حياتك، لخِّص لي مشوارك يا أخي! لأنه لا يعيش ولا يعرف كيف يعيش، هو يعرف يتكلَّم فقط ويحفظ، يحفظ ويقيء علينا كلاماً بلا عمق، سطوح! إنهم القشوريون، إنهم السطوحيون، لا يعرفون الأعماق، ولا يعرفون كيف يغوصون في الأعماق، في الأعماق تكمن الجواهر والدُرر في أصدافها، وليس في السطوح، في السطوح السمك الميت، الفسيخ!
المُهِم، الطفل لماذا ليس كائناً ملولاً كالكبير؟ أنا أُلخِّص هذا أيضاً بكلمة، لأن ثقوب شباكه صغيرة، الطفل شبكة حياته، شبكة وجدانه، شعوره، وتفكيره، وشبكة منظورة للحياة ثقوبها صغيرة، تصطاد أشياء كثيرة، وكل شيئ يصطاده هو صيد، يُمكِن أن نجعل منه مُتعة حياة، أليس كذلك؟ ألا تُلاحِظ في ابنك الصغير أنه يُمكِن أن يخلق حوله أو يُوجِد حوله أو يُحوِّل حوله أي شيئ مهما كان في نظرك تافهاً وحقيراً إلى مصدر للإبهاج والإسعاد؟ يظل يُحاوِره ويتأمَّله ويخلع عليه من الصفات ومن الوجدانيات، يُؤنسِنه بطريقته الخاصة لساعة وساعتين وثلاث ساعات، ويستغرق فيه بالكامل، أنت مع الفيلم الأكشن Action طبعاً مُستغرَق بالكامل، وفي النهاية مسروق وقتك، كما قال أحد علماء النفس هذا التلفاز يسرق وقتنا ثم لا يُعيده أبداً، وفي الحقيقة يسرق قناعتنا الشخصية أيضاً، في كل خمس ساعات تحضرها بل في كل ساعة تحضرها – تجلس أمام التلفزيون Television فيها – تفقد خمسة في المائة من قناعتك الذاتية، طبعاً على مُستوى اليوم وليس الأبد، وإلا كانت هذه مُصيبة، في اليوم! قد يقول إنسان لي هذه مُصيبة، أنا جلست خمس ساعات مُتواصِلة، سأقول لك قناعتك الشخصية انخفضت بنسبة خمس وعشرين في المائة، لو قلت لي جلست عشر ساعات، سيعني هذا أن قناعتك الشخصية انخفضت بنسبة خمسين في المائة، ستنام! ستذهب لكي تنام، لا دراسة، لا تدريس، لا عمل، ولا إنجاز، انتهى كل شيئ، هذا التلفاز! لأنه شيئ سلبي، ويجعلك سلبياً، يخلع عليك السلبية، الإنسان ليس سلبياً، الإنسان كائن ينبغي أن يخرج من حالة هُلامية إلى حالة تكاملية إنسانية، بمُحارَبة القصور الذاتي، كل مَن لا يعرف كيف يُحارِب القصور الذاتي يبقى في حالة هُلامية، لم يُصبِح إنساناً بعد، هذا هو!
لذلك – صدِّقوني – الحرية المُطلَقة لا يُمكِن أن تقتضي قصوراً ذاتياً ولا مُحارَبة للقصور الذاتي، حُرية مُطلَقة! تُريد أن تطير فتطير، تُريد أن تغوص فتغوص، تُريد أن تفعل ما تُريد فتفعل، تُريد أن تقتلع الجبال فتقتلع، تُريد أن تأكل الجبال فتأكل، وتُريد أن تصعد إلى سابع سماء فتصعد، كل ما تُريده مُتحصِّل، أنت إله! طبعاً إله زائف، في هذه الحالة ستكون كائناً يقتلك الملل، ستنتحر! الإنسان لا يصح على طريقة أغبياء اليونان أن يكون إلهاً، ولو حتى إلهاً زائفاً، مُستحيل! بمعنى أن الحرية المُطلَقة لا تليق بنا، لا تُسعِدنا، وتُدمِّرنا! القدرة المُطلَقة تُدمِّرنا، لذلك يقول الفيلسوف المثالي الألماني فيشته Fichte – اسمعوا العبارة العظيمة، اسمعوا جيداً – أن تكون حراً ليس فيه شيئ، أمر ليس بشيئ، لا يعني شيئاً، أن تكون حراً ليس فيه شيئ، لكن أن تُصبِح حراً هذا هو الأمر المُثير جداً، ومعنى أن أكون حراً أن أكون قد أُعطيت الحرية، أُعطيت! كائن حر، مخلوق حراً وتُوجَد حرية مُطلَقة، ليس فيه شيئ قال، لا شيئ! ليس فيه أي دراما ولا أي تحدٍ ولا أي رهان ولا أي معنى، لكن أن تُصبِح حراً بمعنى أن تُحارِب القصور الذاتي الذي يجعلك تستبقي حالة القعود والسلبية والعبودية والقيد هذا هو الأمر المُثير جداً.
تُحارِب هذا وتتحرَّر، تُصبِح الأولى فلسفة كينونة، الثانية فلسفة فعل، أي Action، هذا هو! فلسفة فعل وفلسفة كينونة، فلسفة الكينونة لا تليق بنا، أن نكون آلهة لها العلم المُطلَق، القدرة المُطلَقة، والحرية المُطلَقة، صدِّقوني سننتحر، نحن كبشر سننتحر، هذا لا يليق بنا، هذه صفات الله تبارك وتعالى، صفات الله! لكن نحن كائنات تختلف تماماً، فينا معاني من معاني الله، في صحيح مُسلِم إن الله خلق آدم على صورته، طبعاً الصورة معناها الصفة، طبعاً هذه صفة نسبية وتلك صفة مُطلَقة، ولا كل الصفات طبعاً! أين التراب من رب الأرباب؟ لذلك الإنسان ينزع دائماً إلى أن يتكامل، ينزع دائماً إلى أن يُكمِّل هذه المعاني فيه، معاني الحرية! لكن ليس بالسهولة، إنها جُهد وجهاد مُستمِر إلى أن تموت.
سأذكر لكم معنىً لطيفاً، إذن نُكمِل معنى الشبكة، الطفل شبكته ضيقة العيون، ضيقة الثقوب، أما أنت أيها الكبير فلست مثله، أنا طبعاً شبكتي كبيرة جداً جداً، ولذلك يُمكِن أن تُمرِّر حتى الأصداف والجواهر واللؤلؤ والمرجان دون أن تُدرِك، ماذا تُريد هذه؟ تُريد كماً كبيراً جداً من الحُب، كماً كبيراً من الاهتمام، كماً أكبر جداً من المال، يُريد الإنسان هذا حتى يسعد ويرتاح، وفي الحقيقة لن يسعد ولن يرتاح، لأنه كائن ملول، فقط هو يُعاني ويدفع ضريبة الملل دون أن يفهم ما الذي يأكله ويتآكله، لكن لو فهم الوضع سيختلف.
كما قلت لكم كبار فعلوها وصغار فعلوها، السر في الدافعية، حدَّثتكم عن شيوخ أنجزوا وكتبوا في سن كبيرة، أفلاطون Plato مات وهو يكتب، الفيلسوف اليوناني الكبير، أستاذ أرسطو Aristotle وكتب أيضاً كتابات رائعة جداً جداً وهو في الحادي والثمانين، في الحادي والثمانين! اقرأوا سيرة إيمانويل كانط Immanuel Kant، الفيلسوف الألماني! إلى آخر أيامه وهو يكتب كتابات، أو اقرأوا سيرة برتراند راسل Bertrand Russell، المُلحِد البريطاني! فهؤلاء فعلوها، والصغار فعلوها.
عبد القادر الجزائري – الأمير المُتصوِّف رحمة الله تعالى عليه – بدأ يُدوِّخ ثاني أعظم دولة في العالم وعمره كم؟ كم كان عمره أيها الشباب؟ أتوجَّه إلى الشباب بالذات! (ملحوظة) ذكر أحد الحضور أن عمره كان خمس وعشرين سنة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم خمس وعشرين سنة، أحسنت! كان ابن خمس وعشرين سنة، ابن خمس وعشرين سنة دوَّخ ثاني أعظم إمبراطورية في زمانه، فرنسا! هذا عبد القادر رحمة الله عليه، ألبرت أينشتاين Albert Einstein يكتب النظرية التي هزت أركان الفكر الفيزيائي – إلى الآن تقريباً لا تزال مهزوزة، ردود أفعالها أيضاً هزت الفكر الإنساني، ملأ الدنيا وشغل الناس، أعني النسبية – ولما يُتِم الخامسة والعشرين من عمره، هذا ألبرت أينشتاين Albert Einstein! فيكتور هوجو Victor Hugo كتب بعض الروايات والملاحم وهو ابن خمس عشرة سنة، لكن حين كان ابن عشرين حصد أعظم جوائز الأكاديمية الفرنسية، تقول لي هذا عبقري وأنا لست عبقرياً، وأقول لك هل تعرف ما الفرق بينك وبين العبقري؟ أنت تنتظر الفُرصة، أما هو يخلقها، هذا الفرق فقط!
النبي يُشير إلى هؤلاء العباقرة من أمته – الذين سيخدمون أمتهم وقد فعلوا – بقوله لو كان العلم مُعلَّقاً بالثُريا لناله رجال من فارس، وهذا ما حصل، أكثر العقول الضخمة التي خدمت العلوم الإسلامية – كالنحو، البلاغة، الأصول، الفقه، التصوف والعرفان، والفلسفة – مَن أصحابها؟ مَن هم؟ ينتمون إلى الجنس الفارسي، شيئ غريب! النبي يعرف هذا، قال لهم همة لا كهمة هؤلاء العُربان، قال هذا، يرى نعجة فيحلبها ويعيش، عيشة البدوي البدائي Primitive، دائماً هكذا! البدائيون هكذا، الإنسان البدائي – في كل مكان إلى الآن وقبل عشرة آلاف سنة – إذا قطف جوزتين أو لوزتين يُمكِن أن تسدا رمقه يجلس، لا يشتغل! هذا الإنسان البدائي، لكن الإنسان الحضاري دائماً يطلب ماذا؟ ما هو فوق وبعد وأكثر من قدر الكفاية، أي بصيغة علمية يُحاوِل أن يُحصِّل شرط التراكم المادي، يعمل تراكماً مادياً ومعنوياً، ومن هنا تنشأ الحضارة، من هذا التراكم، ليس من أبي لوزتين وجوزتين وهو جالس، لا! نحن هكذا للأسف، بعضنا بدائي، بدائي! يقول لك ما قل ودل، طوَّلت يا خطيب علينا، ما قل ودل، لا يُريد! ليس عنده شغف علمي، ماذا يُريد؟ لا يُريد هذا، هو جاء فقط ليسمع حديثاً يُبشِّره بالجنة، تصدَّق ربما بعشرة يورو ويُحِب أن يسمع حديثاً يقول مَن تصدَّق يدخل الجنة وتُغفَر كل ذنوبه، مُمتاز! هذا الذي أُريده وانتهى كل شيئ، إذن أخذ الجوزة – الجنة – وجلس، هذه بدائية، النبي يقول لناله رجال من فارس، الهمة القعصاء والهمة الحديد أو الفولاذ التي لا تنثني، فالكبار فعلوها والصغار فعلوها.
إسحاق نيوتن Isaac Newton – نفس الشيئ – سجَّل أروع نظرياته أو جُزءاً من أروع نظرياته وهو في الرابعة والعشرين من عمره، إنريكو فيرمي Enrico Fermi الإيطالي صمَّم المُفاعِل الذري وهو في الخامسة والعشرين، كثيرون! ماذا نستحضر؟ كثيرون بالآلاف، هؤلاء صغار وهؤلاء في الثمانين وفي التسعين تعلَّموا لُغات أجنبية وكتبوا الكثير، بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin – أحد الآباء المُؤسِّسين – كتب سيرة حياته وهو في الثانية والثمانين من عمره، في الثانية والثمانين! ماذا تفعل أنت أيها الشاب ابن الثلاثين؟ ماذا تفعل أنت أيها الكهل ابن الأربعين؟ ماذا تفعل أنت أيها الكهل ابن الخمسين؟ ماذا تفعل؟ يجتر ويأسى هو مرارته وتبريراته الفارغة، يُبرِّر! ظروف الحياة، الأولاد، والزوجة، كله كلام فارغ، عليك أن تُضيِّق شبكتك، عليك أن تعيش وتعرف كيف تعيش، عليك أن تلتقط فن الحياة.
قلت مرة نحن نظن أننا بمُجرَّد أننا فعلناها فقد فعلناها على الوجه الصحيح، غير صحيح! فعلتها وتزوَّجت، فأنا زوج ناجح، غير صحيح! فعلتها وخلَّفت، فأنا أب ناجح، غير ناجح! هذا غير صحيح، ليس لمُجرَّد أنك فعلتها فقد فعلتها بشكل صحيح، ليس لمُجرَّد أنك عشت هذه الحياة وتعيش أنك عشت بشكل صحيح، يا للخسارة أن تمضي هذه الحياة هكذا! لكن بعض الناس يقول لا، أنا لا أُريد هذه الفلسفة يا رجل، لا أُريد! لأنني مُتدين، أنا قلبي مُعلَّق بالله ومُعلَّق بالآخرة، أقول لك صدقاً وحقاً لن تكون شاكراً ما لم تعرف نعمة الله عليك في هذه الدنيا، قيمة هذه العطية، الحياة! والتي لا يُريد الله أكثر من أن يُضاعِفها لك، يقول وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۩، سأُعطيك حياة، حياة فوّارة، حيوان على وزن فعلان، فعلان! فيها معنى الغليان، انتبهوا! الفعلان، حياة حقيقية هناك، إذا أنت هذه الحياة لم تعرف قيمتها ولم تعرف نعمتها فلن تكون حامداً، بمعنى آخر أنت لست حامداً على الحقيقة، لكي تحمد الله عليك أن تستشعر حقاً ومن الأعماق النعمة، نعمة ما تأكل وما تلبس، نعمة الزوجة الصالحة، نعمة الولد، نعمة العينين والأُذنين، نعمة الجو الطيب، نعمة الشروط المُواتية، نعمة الأصدقاء الحميمين الصادقين، ونعمة الكتاب الذي يفتح لك الآفاق، وهكذا! أنعام كثيرة جداً جداً، أنعام كثيرة! عليك أن تكون حامداً حقاً لكي تكون سعيداً حقاً، هذا هو الحمد، ليس فقط حمد اللسان، كأن يقول أحدهم الحمد لله وهو مُبتئس، لا! ليس هذا الحمد الذي يُريده الله، لأن الله يقول وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، أنت حتى إذا شكرت هذا يعود إليك أنت، إليك أنت نفسك، يعود إليك! وهذا ما يُعرَف بالإيحاء الذاتي، حين تقول لنفسك الحمد لله، أنا بحالة طيبة، أنا أحسن بكثير من أكثر الناس بفضل الله، ليس من باب الغرور والعُجب، كأن تقول أنا أحسن ديناً وعلماً، لا! قل أنا صحتي أحسن، ليس عندي أمراض، ليس عندي مرض في الكبد، ليس عندي مرض في الكلاوي، ليس عندي مرض السرطان، ليس عندي مشاكل، زوجتي لم تُطلِّقني، لم تطلب الطلاق، لم تذهب إلى العمة – Aunt – الفلانية، أولادي في المُجمَل – بفضل الله – أفضل من غيرهم، يُطيعونني، يحترمونني، يُحِبونني، يُجِلّونني، أُصلي ويُحافِظون على الصلوات معي بفضل الله، شيئ طيب! عندي رزقي، لا أمد يدي، عندي أمانة، عندي قيم في الحياة، عندي وفاء لأصدقائي ووفاء لأهلي، عندي صدق، عندي مُواطأة، مُواطأة الظاهر للباطن، لست مُنافِقاً، لست مفصوماً، أنا إنسان دُغري – كما يُقال – ومُستقيم، الحمد لله! جميل جداً أن تقول ذلك لنفسك، وطبعاً سيلهج قلبك ولسانك بماذا؟ بالحمد لله، الحمد لله!
هذا يُعطيك قدرة أكثر على أن تُنمي دوافع أكثر، لتخترق وتفتح وتُحقِّق وتُنجِز أكثر وأكثر، ترسخ أكثر الآن، هذا اسمه الإيحاء الذاتي، هكذا عالم النفس في الجلسة يأخذ منك مائة وخمسين يورو لكي يُعلِّمك الإيحاء الذاتي، يقول لك اجلس يا ابني واسترخ وما إلى ذلك، وماذا بعد؟ قل لنفسك أنا مُمتاز، أنا صحيح، هل تشعر بأن كبدك صحيح؟ نعم أشعر، هل تشعر بأن التنفس عندك طبيعي؟ نعم أشعر، قل الحمد لله، أنا أتنفَّس جيداً، tief Atmen، أتنفَّس بعُمق، مُمتاز! أنا كذا وكذا، روِّح وهات مائة وخمسين يورو، تقول له ما هذا يا Prof؟ يقول لك هذا مُمتاز، هذا إيحاء ذاتي، يا حبيبي لا أحتاجه، لا أحتاجه! أنا ابن دين يُعلِّمني قبل أن أمد يدي إلى الطعام أن أقول بسم الله، بسم الله! اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، هذا رزق! أطلب البركة، لا يُمكِن أن أقول عبث، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، عبث كل يوم! لا يُمكِن، هذا كذّاب، الصادق يمد يده، وقبل ذلك يقول بسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، الحمد لله، بعض الناس لا يجد الخبز الحافي، الخبز الحافي لا يجده! من كل قلبك تقول الحمد لله، هذا بروتين Protein نباتي، مُمتاز! بارك لنا فيه وزِدنا خيراً منه، يُوجَد أمل ويُوجَد طموح، زِدنا خيراً منه، الحمد لله، بعد أن تأكل تقول اللهم أدمها نعمة، العوام يقولون هذا، هذا الدعاء ما أجمله والله! ليس شرطاً أن يكون مأثوراً، ما أجمله! اللهم أدمها نعمة – يقولون – واحفظها من الزوال، ما أجمله! ما أدخله في الحمد والشكر لله عز وجل! يقولون الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المُسلِمين، بارك الله لنا، كل هذا مُهِم، بعض الناس يقول أهذا مُهِم؟ مُهِم جداً! حين تلبس اللباس، حين تخلع اللباس، حين تنام وحين تقوم من النوم – نمت وقُمت -، وهكذا، أعطاك الله حياة جديدة، أليس كذلك؟ هذه من الله هدية لك!
هل تعلم أن هذا أيضاً أسلوب في العلاج النفسي؟ هذا أسلوب! وتدفع عليه الدولارات، في أمريكا طبعاً هذا، يُمارَس في أمريكا، تذهب إلى المُعالِج أو المُعالِجة، يقول لك استلق، أنت الآن ميت، ماذا؟ أنت ميت، استحضر أنك ميت، تجربة بسيطة جداً كان يُجرِّبها ويصطنعها العرفاء والمُتصوِّفون في تاريخنا باستمرار، إبراهيم التيمي حفر قبراً ثم نام فيه، وبدأ ينوح على نفسه، مت يا إبراهيم، انقطع العمل يا إبراهيم، يا إبراهيم ستأتيك البُشرى إما إلى الجنة وإما إلى السعير، يا إبراهيم انقطع العمل والصحيفة طُويت ورُفِعت الأقلام، يا الله! والرجل تلبَّس الدور كما يقولون في لُغة الفن، تلبَّس الدور وأخذته حالة كبيرة جداً من الفزع، من الحسرة، ومن الندامة، قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ۩، أُريد أن أرجع، ارْجِعُونِ ۩، قال فقيل لي قد أمهلناك ورجعناك يا إبراهيم فاستأنف، فقام بنفسية جديدة، ستقول لي ما هذا؟ هذا في أمريكا الآن تدفع عليه مائتي دولار في جلسة، يُحاوِل أن يُفهِمك يا صغير، يا مَن لم تفهم، يا مَن لم تنضج، ويا فطير روحياً ومعنوياً كيف تتخيَّل أنك مت وفقدت كل شيئ، زوجتك هذه التي تكرهها الآن ستذكر أنها أحسن شيئ، تُريد أن تقول لها سامحيني، آخ لو أقول لها كلمة! حين يأتيك عزرائيل تقول آخ لو يُعطيني فقط فُرصة أن أعود لكي أقول لها لقد كنتِ جيدة، في المجموع العام أنتِ جيدة، لستِ راسبة، كنتِ في الامتحان مُمتازة، جزاك الله عني خيراً من زوجة صالحة، ظلمتكِ، شققت عليكِ، أنكرت فضلكِ، فسامحيني بالله، سامحيني! يخاف الإنسان من الله ويشعر بهذا.
هل تعلمون أن ثمانين في المائة من الناس في علم النفس إذا طُلِب إليهم أن يستذكروا الذكريات الماضية فإنهم يستذكرون الإيجابي منها؟ لذلك ستقول لي نعم – (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور هززت رأسك -، الآن فهمت لماذا أنا – وما أحمقني! – كنت أظن أن بيتي الأول أحسن، تقول هو يا أخي – والله – كان أجمل، أي البيت الأول! كيف كان أجمل؟ هذا مساحته خمسون متر مُربَّع، كيف كان أجمل؟ أنت الآن في مائة وعشرين متر مُربَّع، لكنك تقول والله كان أجمل يا أخي، أنت لا تفهم، أنت عندك شعور لا تستطيع أن تُحلِّله، مثل الذي يتزوَّج خيتعوراً، زوجة مُجرِمة وشرسة جداً جداً، ثم تُطلِّقه أو يُطلِّقها، وبعد سنتين يحن إليها، يقول آخ لو ترضى أن أعود إليها، لكنها تزوَّجت، يا ليتها ترضى، والله مُمتازة، تقريباً أحسن من الجديدة، هل هي أحسن من بنت الناس الطيبة وبنت الأصول؟ أحسن! كيف هي أحسن؟ هل الخيتعور أحسن من بنت الأصول؟ نعم أحسن، يراها أحسن! هذا المسكين ينتابه شعور وهمي، وهمي! هذا شعور واهم فانتبهوا، لذلك الآن مَن يفهم هذا الشعور لن يقع في ورطة، ورطة ماذا؟ أنه سيُطلِّق الزوجة السيئة – حين تكون فعلاً سيئة – ويتزوَّج الطيبة الحسنة الحسناء ثم يعود إلى السيئة، لن يقع في ورطة أن يُطلِّق الحسنة الحسناء ويعود إلى الشرسة الخيتعور، لن يفعل هذا! سيقول نعم، هذا الذي حدَّثنا عنه عدنان على المنبر مرة، هذا الشعور العلماء رصدوه، نعم مرصود في علم النفس، في السيكولوجيا Psychology مرصود ومعروف، تقول أحسن واحدة، ليست أحسن واحدة، لا! لكن هذه طريقتك، هذه طريقة الإنسان، وهي طريقة وهمية أيضاً للتجديد، الإنسان يُحِب أن يُجدِّد، يُجدِّد بالقديم، مثل الدولة التي تُفلِس، تعود إلى الدفاتر القديمة، وهذا أفلس وليس عنده مجال أن يُجدِّد مع واحدة ثالثة، فيرجع وهمياً ويُجدِّد مع الأولى، لذلك الذي عنده مجال أن يُجدِّد مع ثالثة لن يُفكِّر في الأولى على أنها الأحسن، لا! هذه مشطوب عليها، إذن هذه طريقة وهمية، النفس تُخادِع صاحبها، أنت بهذه الطريقة المعروفة بالنكوصية – هذا نكوص، أي Regression، لكنه نكوص طفولي – تنكص إلى ما مضى وتتشبَّث به، تعود تتشبَّث به، تقول هذا أحسن شيئ، حتى أثاث البيت، حتى الخبز الذي كنا نأكله مع السكر الممزوج بالماء والمحلول في الماء – والله – أطيب من اللحمة اليوم يا أخي، لا ليس أطيب، لكن هذا ما قد سمعت، هذا ما قد سمعت فاحمد ربك.
أحد المُعمَّرين هنا في أوروبا عاش مائة وتسع سنوات، لا أعرف عن كم مات أم هو يعيش إلى اليوم، أعطاه الله طيبة العمر، المُهِم وهو في سن مائة وتسع سنوات دهمته الصحافة، لأنه كان مُعمَّراً، فوجدته يحتفل بعيد ميلاده التاسع بعد المائة، صعب حتى العد، التاسع بعد المائة! قال مُمتاز، وضع تورتة ووضع مائة وتسع شمعات، أو وضع عن كل عشرة واحدة، لأن هذا كثير وغالٍ، المُهِم وضع الشمعات وكان مبسوطاً، فقال له الصحافيون ماذا تفعل؟ قال أحتفل بعيد ميلادي التاسع بعد المائة، قالوا له هل تذكر أشياء؟ قال أذكر كل شيئ في حياتي، قالوا كيف كانت حياتك؟ قال كلها كانت مُمتازة، حياتي كلها كانت سعيدة، قالوا ما هو أسعد يوم في حياتك؟ قال اليوم، قلت من هنا عاش مائة وتسع سنوات، هذا عبقري يعرف كيف يعيش، فن العيش!
لعل بعضكم يعلم سر ألمعية ولوذعية الكاتب الروسي العظيم – بلا شك هو كاتب كبير – أنطون تشيخوف Anton Chekhov، الذي يُقال عن أدبه إنه أدب البطولة بلا أبطال، بطولة بلا أبطال! لماذا؟ لأن أبطاله هم أنا وأنت وهو وهي، الناس العاديون، فقراء القلب واللسان واليد من أمثالنا، يأخذ لك أي شيئ مُبتذَل منوالي وتائري عادي من حياة الناس ويُحلِّله، يُحلِّله ويُلقي عليه أشعة من أضواء فكره الخصيب الثري العميق النفّاذ الشفّاف الذوّاق، فيُحيله إلى شيئ جميل واستثنائي فعلاً، وهذا الإنسان البسيط الذي تراه – بيّاع الترمس أو الذي يكسح الزبالة أو المُدرِّس العادي البسيط أو المُمرِّض المُتواضِع أو الطبيب المسكين المُتعَب، إلى آخره – اتضح أنه فيلسوف، عنده فلسفة حياة، عنده دراما، عنده تحديات، وعنده أشياء جميلة في حياته، مُمكِن هو غير قادر على أن يُعبِّر عنها كما عبَّر عنها مَن؟ تشيخوف Chekhov الذي صنع منه بطلاً، وفي الحقيقة ليس ببطل، هو ليس بطلاً عظيماً، لكن هو له دور بطولة.
بهذه الطريقة يُمكِن لكل واحد منكم أن يُحيل المنوالي والوتائري والعادي والمُبتذَل في حياته إلى شيئ استثنائي وشيئ جميل، صدِّقوني! كل واحد فينا يُمكِنه هذا، لذلك أنا أفعلها وأنجح، كلما فعلتها أنجح! أقول سأعود اليوم وسأعقد جلسة في المساء لأولادي لكي نحضر فيلماً مُعيَّناً، فيلم دراما أو فيلماً تاريخياً، وأشتري أشياء بثلاثين أو أربعين يورو، مثل مشروبات ومأكولات وبوب كورن Popcorn وما إلى ذلك، نطفئ الأضواء ونضع ما سنُشاهِده، ثم نجلس معاً جلسة لن ينساها أولادي ولن أنساها أنا، أنا تمتعت بمقدار ما تمتعوا، خلقت فُرصة للسعادة، لماذا؟ اخلق فُرصة للسعادة لك، لأولادك، ولزوجك، غيِّر! غيِّر حتى ديكور Decor البيت، لا تُغيِّر الأشخاص، انتبه! يُمكِن أن تُغيِّر السيارة، يُمكِن أن تُغيِّر عفش البيت، يُمكِن أن تُغيِّر البيت كله من أصله كما يُقال، لكن لا تُغيِّر زوجك، طبعاً لا تستطيع أن تُغيِّر أبناءك، يُوجَد دافع غرزي قوي جداً جداً جداً، لكن في الحقيقة أنت تُغيِّر أبوتك أحياناً، حين تستحيل جبّاراً أو لا مُبالياً أو غير مسؤول إزاءهم، وتُدمِّر حياتهم بهذه الطريقة، فأنت كففت أن تكون أباً صالحاً على الأقل، بمعنى أنك كففت عن أن تكون أباً، انتبه! انتبه واخلق فُرصة، كُن مثل تشيخوف Chekhov، اصنع من المُبتذَل المنوالي شيئاً استثنائياً بطولياً، تستطيع! وستنجح وستكون حياتك جميلة بمقدار جمال أقاصيصه ورواياته، يُمكِن! لكن هذا يحتاج إلى فن.
لا تبلغ أقصى درجات الاستثارة بالتكرار، انتبه! هل يُحِب أحدكم أن يستمع إلى أي شيخ يُحِب أن يسمع القرآن منه دائماً وأبداً وباستمرار؟ سيمله، مُستحيل! هل يُحِب أن يستمع إلى هذا الشيخ بنفس الوتيرة والإيقاع – مثلاً – النغمي؟ يستحيل، هناك مشايخ أنا لا أُطيق أن أسمعهم خمس دقائق، لأنهم يقرأون منوالياً، يقرأون بإيقاع واحد، ساعة والواحد منهم يقرأ هكذا، ما هذا؟ مُستحيل! لكن انظروا إلى التنويع الإيقاعي المصري، المُقرئون المصريون فنّانون، حقيقة فنّانون قبل أن يكونوا مُقرئين، يُوجَد تنويع، والواحد منهم يعرف متى يُنوِّع وما إلى ذلك، ويُقال إنهم يدرسون علم الموسيقى قبل أن يدرسوا القراءات أو في نفس الوقت، لذلك تستمع وأنت تلتذ، ولكن أيضاً ليس إلى آخر درجات الاستثارة حتى لا تمل.
أخذ النبي بيد أبي هُريرة مرة، قال له يا أبا هُريرة زُر غباً تزدد حُباً، أبو هُريرة كل يوم – صباح مساء – يقول له السلام عليكم يا رسول الله، السلام عليكم يا رسول الله، السلام عليكم يا رسول الله، فقال له تعال، زر غباً تزدد حُباً، حتى لا تُمَل ولا نملك، ليس صباح مساء، مساء صباح، صباح مساء! يا أبا هُريرة مرة نعم ومرة لا، أخذها الشاعر فقال:
غِبْ و زُرْ غبًّا تزِدْ حبّا فَمَنْ أَكثرَ التَرْدادَ أضْناهُ المللْ.
وهذا صحيح! فَمَنْ أَكثرَ التَرْدادَ أضْناهُ المللْ، حتى في الزيارات وحتى في التليفون Telephone، لا تهلكني بالتليفون Telephone، كأن تقول لي كل ساعتين السلام عليكم، السلام عليكم، يا أخي بالله عليك اجعل صوتك محبوباً، وإلا سيتشاءم مَن تُحدِّثه بعد ذلك، سيتشاءم من صوتك حين يفتح التليفون Telephone، ستكون عنده عُقدة تليفونية، أنا عندي عُقدة تليفونية حقيقةً، ستكون عنده عُقدة تليفونية! يا أخي لا تفعل هذا، قد يُسكِّر التليفون Telephone، لا تفعل هذا دائماً، مرة ومرة، وأصل الغب أن تُورَد الإبل يوماً وتُترَك يوماً آخر، ليس كل يوم يُؤتى بها على الماء، يوم نعم ويوم لا، يوم نعم ويوم لا، ما هذا؟ فلسفة من رسول الله، فن كبير جداً جداً، فن كبير!
أحد علماء النفس الكبار – الذين يأخذون أموالاً هؤلاء طبعاً، يُحلِّلون ويدرسون ويُعطون أشياء ويُنيمون الإنسان على الكرسي الخاص بهم – قال لكي تكون سعيداً عليك أن تُفكِّر في قيمة ما تملك، لا في قيمة ما لا تملك، ما لا تملك لا تُفكِّر فيه، فكِّر فيما تملكه، ما قيمته هذا؟ تسعد، لماذا؟ قال أجرينا دراسة على مئات الأشخاص أو الشخوص فوجدنا أنهم ينقسمون إلى سعداء وتعساء وإلى بين بين، أي أُناس سعداء لكن أقل سعادة من الأولين، سعداء وأقل سعادة وتعساء! قال العجيب أن هؤلاء السعداء ليسوا بالضرورة هم الأغنى، أكثرهم ليسوا الأغنى، أكثرهم أفقر، من ناحية مادية ليس عندهم كل شيئ، التعساء أكثرهم أغنى، غريب! ما السر إذن؟ المفروض أن هذا الغني يستطيع أن يشتري كل شيئ لنفسه ولأولاده ومن ثم يسعد، لا! وقال وجدنا الفرق ليس في الغنى وليس في الفقر، وإنما في مُستوى التوقع، مُستوى التوقع عند الإنسان السعيد هذا بغض النظر فقيراً كان أو غنياً مُنخفِض، وهو في الأغلب فقير، لأن الفقر علَّمه التواضع، الغني أسكرته نشوته الغنى، نسيَ نفسه، تألَّه المسكين دون أن يدري، رفع سقف التوقعات بشكل يُجاوز المُستطاع، فأُحِبط طبعاً، لا يُعجِبه أي شيئ، لا يُعجِبه كل شيئ، بطران! قال الله بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۩، عن القرى الآمنة المُطمئنة التي بطرت وكفرت بنعمة الله، لأن هذا لا يُعجِبها، تُريد شيئاً أعلى بكثير، هذا الإنسان! قال وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ، انتهى! ماذا نفعل لك إذن؟ فالمُهِم سقف التوقعات عند هؤلاء السعداء دائماً أقل، هو يتوقَّع كذا وكذا، إذا حصل ما توقع فهاتان نعمتان وبركة والحمدلله، فيحصل فيكون سعيداً جداً جداً، فكُن مُتواضِعاً في حياتك، كُن مُتواضِعاً في كل شيئ، حتى في أهدافك كُن مُتواضِعاً.
يا ليت أمتنا الإسلامية حتى في السياسة أن تتعلَّم التواضع في الأهداف! لا تُحاوِل أن تصطنع لُغة كل شيئ وإلا لا شيئ، لا يا حبيبي! إذن لا شيئ سيُوجَد، ضاعت عليكم، ضاعت فلسطين وضاع كل شيئ، بالعكس! كُن مُتواضِعاً في أهدافك، ضع أهداف يُمكِن أن تُنجَز، مُكتسَبات يُمكِن أن تُحقَّق، ثم ماذا بعد ذلك؟ تتقوى وتُحصِّل أهدافاً أعلى، وهكذا! هكذا عدوك علَّمك إذا تعلَّمت منه، لكن ليس عندنا هذا، ليس عندنا فن لا في السياسة، لا في الحياة، لا في الزواج، ولا في أي شيئ، مساكين نحن! مساكين ونحتاج إلى أن نتعلَّم جيداً.
النبي هذا المعنى العظيم لخَّصه بعبارة نبوية، فيها قُدسية، فيها نور، فيها جلال، فيها إيحاء، وفيها وضوح وبساطة، توجَّه إلى أبي ذر – إلى صاحبه الجليل وتابعه الوفي – وقال يا أبا ذر انظر إلى مَن تحتك ولا تنظر إلى مَن فوقك، أي في شؤون الدنيا، فإنه أحرى أو قال أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك، إذا ازدريت نعمة الله لن تكون سعيداً بها، أليس كذلك؟ لن تكون سعيداً بنعمة العلم والصحة والمال والولد والشهادة والرُتبة والاستقامة، لن تكون! لذلك تطلب ما هو أكثر دائماً، تنظر إلى ما هو أعلى منك، لا يا أخي! هذا الذي هو أعلى سيذهب وأنا سأذهب لأقتنص حياتي بعيداً عن أن تنتهبني الحسرات، أنني لم أصل إلى ما وصل إليه فلان، لم أصل إلى ما وصل إليه علان، هذا لا يعنيني! يعنيني أن أكون سعيداً بما أعطاني الله وأن أطلب المزيد، هو قال – عز من قائل – لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۩، قال لَأَزِيدَنَّكُمْ ۩.
مر ابن سينا مرة – وكان الصدر الأعظم، أي برُتبة رئيس الوزراء اليوم – على أحد الذين ينزحون حياض – أكرمكم الله – ومُخلَّفات الناس، تعرفون المقصود! وكان يرتدي لباساً مُعيَّناً مثل الأفرول Overall، وكان ينضح ويقول شعراً بالفارسية، قال يا سلام على هذه الدنيا، تمر رخيةً عليك أيها القلب المُنعَّم! قال هذا مُمتاز، هو مُمتَن، هو يشعر بالامتنان، قال هذه الدنيا طيبة جداً، سُبحان الله، ما أطيب هذه الدنيا! ما أطيب هذا العالم! ما هذه الظروف المُواتية؟ ينزح في وساخة الناس، مُمتاز! رآه الفيلسوف المشائي الكبير العبقري المنطيق الطبيب فنزل وقال له يا أيها الرجل هل أنت سعيد إلى هذا الحد؟ قال له نعم، نعم! قال له وماذا في دنياك حتى تسعد؟ نظر هذا النزّاح وقال هل أنت الصدر الأعظم؟ قال له نعم، قال له أنت مَن يخدم الخليفة، أنت تعمل لحساب غيرك، أما أنا فأعمل لحساب نفسي، أنا مالك نفسي يا حبيبي، يُريد أن يقول له أنت عبد الخليفة، أما أنا فسيد نفسي، لست عبداً لأحد، من هنا سعادتي، من هنا! هذا عرف على طريقة فيشته Fichte أن يُصبِح حراً، تحرَّر! أنت عبد لما أنت فيه طامع، كل شيئ تطمع فيه ستكون عبداً له، تحتاج إلى شيئ مني – تحتاجه مسيساً، بدرجة حقة – ولذا تكون عبداً لي للأسف في هذه اللحظات، وتأتيني بطريقة عبد، غلط! كُن عبداً لله.
في النهاية للأسف لم نقل أكثر ما أردنا أن نقوله، والموضوع طويل وتشعَّب، أُحِب فقط أن أختم الآن بفكرة مُعيَّنة وفي الخُطبة الثانية بفكرة سريعة وننتهي، فكرة ماذا؟ هذا السأم والملل – أي شيئ يُمكِن أن يُسئمنا – قد ينتابنا حتى من العبادة، النبي كما روى الطبراني قال لا تُمِلوا إلى أنفسكم عبادة الله، وفي البخاري ومُسلِم وأحمد وعند بعض أهل السُنن – والحديث مُتفَق على صحته بلا شك – عن أبي وائل – شقيق ابن سلمة البلخي، التابعي الجليل، تَلميذ عبد الله بن مسعود -، قال كان ابن مسعود يعظ الناس كل خميس، كل خميس مرة! ليس كمشايخ الفضائيات هلكونا، على مدار الأربع والعشرين ساعة يا أخي مواعظ، انتهينا! لن نقدر، توقَّفنا عن فتح فضائية اقرأ، انتهى ومللنا، طبعاً انتبه إلى أنك ستُمِل أهلك، أنت تشتغل طيلة اليوم، ثم تأتي وتفتح فضائية اقرأ، لكن هم ملوا منها، فتحوها لمُدة ثلاث ساعات اليوم وهذا يكفي، انتهى! ليس دائماً، فابن مسعود لم يكن مثل مشايخ الفضائيات أو مُديري الفضائيات بالأحرى، يكون شيخاً ويقوم بعمل برنامج بعد ذلك، لكنه كان يعظ كل خميس مرة، كل خميس مرة واحدة لمُدة رُبع ساعة أو نصف ساعة والسلام عليكم، فقال له أحدهم يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك وعظتنا كل يوم، فقال أما إني لا أفعل خشية أن أُمِلكم، وقد كان النبي – رسول الله يا حبيبي، كلامه وحي، ما يتكلَّم به يكون وحياً، لن يغلط، لن يُخرِبط، ولن يخلط، رسول الله هذا، عليه السلام، كلامه جواهر، والناس أحوج إلى كلامه منهم إلى كلام أحد سواه من الناس، لماذا؟ لأنه نبي، وإذا مات انقطعت النبوة بموته، مُهِم جداً كل ما تنفرج عنه شفتاه الكريمتان المُقدَّستان، ومع ذلك النبي لم يفعل هذا، صلى الله عليه وسلم – يتخوَّلنا بالموعظة مخافة – وفي رواية كراهة – السآمة علينا، السآمة هي الملل! أي حتى لا نمل، وفعلاً مرة هذا حصل مع الصحابة، كل يوم والثاني تنزل آية قرآنية، اعمل ولا تعمل، افعل ولا تفعل، اذهبوا واعملوا، وما إلى ذلك! فالصحابة قالوا يا رسول الله لقد مللنا، كانوا أُناساً صالحين وعندهم فن الحياة، لم يأتوا فقط لكي يتعبَّدوا في صومعة راهب، لا! الحياة كلهم صومعتهم، والحياة تقتضي ما هو أكثر من الصلاة والجهاد والذكر، انتبهوا! الحياة فيها أشياء أُخرى كثيرة أيضاً، هذه الحياة! يا رسول الله مللنا، قالوا له نحن زهقنا من هذا الشيئ، لو قصصت علينا، نُريد قصة الآن، نُريد حكاية، الآن سنفهم لماذا العبقري الذي ائتفك ألف ليلة وليلة قال شهريار Shahriar هذا كان يقتل كل يوم امرأة ولا يُعجِبه شيئاً لكن نجحت معه شهرزاد Scheherazade، بعض الناس يقول أكيد كانت جميلة، لكن هذا لا يفهم شيئاً، ربما كانت قبيحة جداً جداً، مهما كانت هذه الشهرزاد Scheherazade جميلة فإنها لا يُمكِن أن تكون في حق شهريار Shahriar – أي بالنسبة إليه، إلى هذا الرجل الملول السئمان – جميلة ومُثيرة إلا لليلة واحدة أو لليلتين، لكنها كانت مُثيرة لألف ليلة وليلة، لماذا؟ هل تعلمون لماذا؟ ليست شهرزاد Scheherazade هي المُثيرة، إنما جاذبية المجهول، جاذبية القص، جاذبية الحكاية، كل يوم حكاية بنت حكاية، حكاية بنت حكاية، حكاية بنت حكاية! فيُسمونها الحكاية الإطار في علم النقدي الأدبي، حكاية إطار ومنها تخرج حكايات، تتوالد! وكل يوم لا تعرف ما الذي حصل، ما الذي حصل؟ وصاح الديك وطلع الصباح وسكتت شهرزاد Scheherazade عن الكلام المُباح، فيرجع ويتركها، لا يقتلها لكي يسمع ما الذي يحصل، التغيير! رغبة الإنسان في التغيير وفي التبديل، هذه هي الشُعلة الإلهية التي في الإنسان، شُعلة إلهية! يُحِب فعلاً أن يُحيط علماً بكل ما يُمكِن العلم به، هذا هو الإنسان، يقول أنا لست مثل شهريار Shahriar، نعم أنت لست مثله، هذا صحيح، أنت كُتلة هُلامية، أنت حجر إذن، يقول والله لا أُحِب أن أتعلَّم كل شيئ، هذا لا يهمني، يهمني أن أعيش هكذا بالطول وبالعرض وينتهي الأمر، هذا لا يفهم ولا يُحِب أن يفهم، هذا ليس إنساناً، ليس إنساناً! أبوك آدم كان آدم وكان إنساناً وكان مسجود الملائكة لأنه تعلَّم الأسماء وعرف كيف يستخدم الأسماء وكيف يكون له سُلطة القص والحكاية والعنونة، كما قال نيتشه Nietzsche أن يكون لك سُلطة التسمية فهي السُلطة، هذه هي! تكون لك سُلطة على الكون المُسخَّر لأجلك، هذا هو الإنسان، هذا أبوك، أنت لست ابناً لهذا الآدم إذن، أنت ابن لشيئ آخر مسيخ، لشيئ بديل!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذن – أيها الإخوة – إلمعنا إلى أن حتى العبادة والذكر يُمكِن أن يُمِل الإنسان، وهذا له معنى أن الإنسان لا يتكامل بالعبادة والذكر وحدهما، يتكامل بأشياء أُخرى، يتكامل بالزواج، يتكامل بالأبوة، يتكامل بالعمل، يتكامل بالإنجاز، يتكامل بالتحدي، يتكامل بالاستجابة، ويتكامل بالصراع أحياناً، يتكامل بكل ملكاته المزروعة فيه! هكذا خلقه الله وهكذا أراد له أن ينمو وأن يتكامل.
هل تعرفون أن أكثرنا يُولَد بشراً؟ يُولَد بشراً! مُرشَّحين أن نكون ناساً، أي إنساناً! لكن كيف نموت؟ انتبهوا! يقول أحدكم فعلاً هذا هو ما يحصل، ما يحصل أن هذا يموت بقّالاً، وُلِد إنساناً ومات بقّالاً، وُلِد إنساناً ومات طبيباً، وُلِد إنساناً ومات خطيباً، وُلِد إنساناً ومات عاملاً، وُلِد إنساناً ومات رئيس وزارة، ثم يقول لي ما معنى هذا؟ معنى هذا كونك إنساناً أعظم منك رئيس وزارة ورئيساً وملكاً وشاعراً وفيلسوفاً ومُعلِّماً وطبيباً، لأن كل هؤلاء هم آحاد الإنسان، الإنسان معنى أشمل من كل هذه الرُتب ومن كل هذه الألقاب ومن كل هذه المراتب، انتبه! الصحيح أن تُولَد بشراً وأن تموت إنساناً، إنساناً! حقِّق إنسانيتك، إياك أن تُغتال في جحور الرُتب والألقاب والتخصصات والأعمال والمنواليات، لا تكن منوالياً، كُن مُتفتِّحاً، تفتَّح على هذه الحياة بمقدار ما أراد لك مَن وضع فيك غرائز الإنسان وغرائز الحياة ومعاني الحياة.
سأختم بمعنى وإن أطلت عليكم، لكن لن أحرمكم منه ولن أحرم نفسي من أن أقصه عليكم حتى أرتاح، لأنه معنى عجيب، عجيب جداً!
قبل أيام قلت في نفسي – وذكرت هذا في الدرس السابق – لماذا حين نكون شباباً – انتبهوا، هذا يهمنا جميعاً – نشعر أن الدنيا طعمها يختلف؟ فعلاً الطفل الصغير والشاب يشعر أن للدنيا طعماً، أن للطعوم في الدنيا طعماً مُختلِفاً، طعم الفاكهة، طعم الحشائش، طعم الطبيخ، طعم اللحم، وطعم المشاريب، لها طعوم مُختلِفة! الروائح الزكية لها روائح مُختلِفة، تقول لي مُختلِفة عن ماذا يا رجل؟ مُختلِفة عنها حين تكون كهلاً أو شيخاً، حين تُصبِح ابن خمسين أو ستين سنة تفقد الدنيا طعمها، تفقد لونها، تفقد أريجها، تفقد ألقها، تفقد بريقها، تبهت ألوانها، وتفقد جوهرها، ما الذي حصل؟ تنزعج أنت، وطبعاً تُبتلى بحالة من البؤس، من القنوط، من الإعياء، من الاكتئاب، ومن الملل، فتبحث وتبحث، لكن أحياناً بطريقة الطاحونة، بطريقة – أكرمكم الله – ما تعرفون في الساقية، المكان الذي ترتحل إليه هو المكان الذي ارتحلت منه، وفي النهاية تسقط في هُوة عدم الملل، لن تُنجِز أي شيئ، الملل الذي وصفه بول فاليري Paul Valéry بأنه سُم السموم ومرض الأمراض، أخطر شيئ الملل! أما بولدير Baudelaire – الشاعر المُتهتِّك الفرنسي – في أزهار الشر – في أول قصيدة في ديوانه – قال كل تلك الأغوال الكريهة في معرض رزائلنا البغيض – الأغوال الزاعقة المُدمدِمة العاوية، العقبان، البوم، الغربان، الأفاعي السامة، الهوام، الأسود، والفهود – أقل خطراً وأقل شراسةً – حتى لو لم يصرخوا صرخةً يجعلون بها عاليها سافلها – من الملل، إنه ماذا؟ إنه الملل يقول، أصعب شيئ في الحياة عند بولدير Baudelaire وأسوأ شيئ الملل.
المُهِم، تقول لي هذا يُسلِمني إلى حالة من الملل القاتل، أُعوِّض عنها أحياناً بتعويضات فاشلة، لماذا؟ فعلاً هذا سؤال كبير وكبير جداً، بعض الناس قد يُفكِّر بطريقة خاطئة، يقول لماذا يبخل الله علينا؟ أستغفر الله العظيم! هو تكرَّم علينا وأعطانا هذا في الشباب، فلماذا سلبنا إياه بدءاً من الكهولة وبدأنا نُسلَبه شيئاً فشيئاً وشيئاً فشيئاً إلى أن عرينا منه؟ سأقول لك لماذا وأختم، وانتبه إلى هذا الجواب.
الله – عز وجل – حين كنت طفلاً – وبالذات وأنت طفل – أعطاك ميزة، الطفل – صدِّقوني – يأكل موز غير موزنا، موزة الطفل غير موزتي مائة في المائة، أنا أعرف هذا وأنتم تعرفونه، أليس كذلك؟ كوب شاي مع المرامية أو مع النعناع يختلف عن كوبنا، كوب شاي الطفل غير كوبك وغير كوبي، أليس كذلك؟ البطيخة كذلك، يُوجَد شيئ في حياتي إلى الآن أعتقد أنني سأموت ولن أُعبِّر عنه، لا بلُغة علم النفس ولا الفلسفة ولا بأي شيئ، كيف كنت أنظر إلى قمعة البطيخ هذه وأنا صغير؟ شيئ – والله العظيم – لا أستطيع أن أُعبِّر عنه، عالم الطفل يختلف وبالكامل، لأنه طفل وستفهمون لماذا، عالم المُراهِق أكثر معقوليةً من عالم الطفل هذا المُبهَم المُلغَز الجميل، الجميل هو الجمال نفسه، هو جوهر – Essence – وروح الجمال والمُتعة واللذة والبهجة، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا العالم – وخاصة عالم المُراهِق والشاب وما بعده – هو عالم الكيمياء، أكثر هذا كيمياء، هرمونات في الدماغ وفي الدم، تجعل المرء شيئاً آخر، تجعل الرائحة شيئاً آخر، وتجعل الطعم شيئاً آخر، إنها الكيمياء!
لكن الله – عز وجل – برسالته القدرية – وهو الذي استخلفك وأعلاك – يقول لك يا عبدي، يا خليفتي، لن أرضى لك أن تكون ابن الكيمياء وصنعة الكيمياء إلى أن تموت، انتهى! أنت خليفتي، عليك الآن – وقد خبرت وعشت معنى اللذة ومعنى البهجة ومعنى المعنى – أن تقتنص هذا المعنى بجوهره، أن تقتنص روح هذا المعنى، لا بالكيمياء، لا بالغرائز، ولا بالدوافع البدائية التي يشركك فيها الحيوان، انتبه! وإنما بقوة التأمل والفكر والروح، عليك الآن أن تبدأ تُحِب زوجتك غير الحُب الجنسي، غير الحُب البدني، غير حُب الغريزة، غير حُب الكيمياء، الحُب الإنساني الحقيقي الآن، حُب حقيقي مُتجوهِر، عليك أن تفك الطلاسم، هاته هي المُغامَرة التي ستبقى معك إلى أن تموت، فإما أن تصل وإما أن تقع، إما أن تنجح وإما أن تفشل، فتعلَّم أن تعيش، تعلَّم أن تتجوهر، وتعلَّم أن تترك السطوح إلى الأعماق، لتكون إنساناً يا مَن كنت ابن الكيمياء.
اسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح علىّ وعليكم فتوح العارفين به.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
__________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(16/3/2007)
أضف تعليق