إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
مضى الحديث في الخُطبة السابقة عن الحياة الطيبة الموعود بها للمُؤمِنين الصالحين؛ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩. وكُشف النقاب عن جانب من سر هذه الحياة الطيبة، التي هي في الحقيقة غاية ومقصود كل إنسان، إلا أن الاختلاف يقع في تحديد وتعيين الطرق والسُبل المؤدية والمُنتهية إليها، ومن هنا سعادة الأقلين وشقاء الأكثرين، مُعظَم الناس أشقياء! يقضون حياتهم في شقاوة مُستمِرة مُتراكِمة مُتراكِبة – والعياذ بالله -، والأقل هم السعداء، الذين أفلحوا في تحديد وتعيين سُبل السعادة على النحو الصحيح المطلوب.
والقرآن الكريم من أعظم ثماره، بل من أعظم عطاياه وهباته ومنحه لمَن آمن به واسترشد به واستلهمه واستشاره وعاد إليه، هي هذه المسألة؛ أنه يدلنا على هذه الطرق، وبشكل واضح بيّن لائح.
من بين هذه السُبل والطرق إخواني وأخواتي ما ذُكر في الهذه الآيات الجليلات من سورة آل عمران؛ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩ هذه خصلة، وثانية: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، وثالثة: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩، ثم ذيَّل النص الكريم لهذه النعوت والخصال بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩. فكأنه قال هذا هو الإحسان، هذا هو الإحسان! فمَن كان عريقاً في الخير، مُتشوِّفاً إلى الكمالات، راغباً في أن يُسلَك في نظام وسلك المُحسِنين، فليتخلَّق بهذه الأخلاق، وليتصف بهذه النعوت.
يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩, عبَّر بصيغة الفعل، وسيُعبِّر على الولاء بصيغة اسم الفاعل؛ الْكَاظِمِينَ ۩، الْعَافِينَ ۩. عبَّر هنا بصيغة الفعل، لأن الموضوع يقتضي الحدوث والتجدد، فالإنسان لا يُسأل في كل لحظة، ولعله لا يُسأل في كل ساعة، ولعله لا يُسأل في كل يوم. يُسأل في أحيان دون أحيان، ولذلك قال يُنفِقُونَ ۩، فعبَّر بما يدل على الحدوث والتجدد. يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩، وبدأ بالإنفاق؛ لأنه من أشق الخصال على النفس، كما قال الحسن البِصري إن قيام الليل وإنفاق هذا المال من أشق الأمور على المرء. أن يقوم الليل ويترك مهجعه ومضجعه الوثير الدفيء، وخاصة في الليالي الشتوية الباردة، وينهض ويثور إلى طاعة الله – تبارك وتعالى – ومُناجاته، عملية شاقة جداً، نسأل الله أن يُيسِّرها لنا وعلينا. وإنفاق المال؛ لأن المال في كلام العامة شقيق الروح، في كلام مَن لم يعرف حقيقة الروح، المال شقيق الروح! هؤلاء بخسوا الروح حظها وحقها، تسفَّلوا بها جداً، حين جعلوا المال شقيقها، وليس شقيقها ولا ابن عمها حتى، ولا ابن عمها! ولكنه منطق الحسيين، منطق الماديين، منطق الذين سُجنوا في زنزانة المادة والحس، فلا يرون إلا من زاوية جد ضيقة، فخرَّبوا حياتهم وآخرتهم، خرَّبوا حياتهم وآخرتهم!
وما شيئ أفسد لدين المُؤمِن – كما قال عليه الصلاةة وأفضل السلام، وهذا حديث سنده مقبول – من حرصه على الشرف والمال؛ ما ذئبان ضاريان أُرسِلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه. أي بأفسد لدينه، من هذا الحرص على أمرين؛ الشرف والمال. أن تظهر مثابتي، أن تبرز حيثيتي، الكبر! له علاقة بالكبر، له علاقة بالزهو، له علاقة بعبادة الأنا – والعياذ بالله -، وكل هذه مظاهر من مظاهر الشرك الباطن، من مظاهر الشرك الباطن! أي أنا وأي أنت وأي ذات تبقى لمَن أدرك حقاً وعرف الرب الجليل – لا إله إلا هو -، الذي يتساوى إزاءه كل أحد وكل شيء؟ كل شيئ يعود ليكون لا شيء، هذا في حق مَن عرف الله – تبارك وتعالى -.
ولذلك لا تجدون عارفاً أو قديساً أو ولياً، إلا وهو مُنطلق من هذه النُقطة وراسخ أيضاً فيها، لا تجدونه إلا وهو مُنطلَق من هذه النُقطة وراسخ فيها! عريق جداً فيها؛ لأنه عرف الله – تبارك وتعالى -، عرف الله! أصبح منظوره إلهياً ربانياً، فأول ما يفنى، يفنى عن ذاته. والنبي يقول حرص المرء على الشرف، أن أُعرَف، أن أكون، أن أكون ذا مكانة، ذا حيثية، ذا وجاهة، أن يُسمَع لقولي، أن… أن… وأن… قال هذا يُفسِد دينك، كإفساد ذئبين – وليس ذئباً واحداً – ضاريين، شريهين نهمين جائعين، أُرسِلا في غنم، لا تملك حتى لنفسها مُقاوَمة، ولا عن نفسها دفعاً، أكيد مصيرها العطب السريع! والمال، أي الحرص على الشرف والمال. النبي يعي ما يقول – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا -. مُعلِّم، بل أكبر مُعلِّم في تاريخ الدنيا، أكبر مُعلِّم! ولا يعرف كم هو مُعلِّم وأنه أكبر مُعلِّم إلا مَن قرأ التعاليم! اذهب واقرأ تعاليم موسى – عليه السلام – وتعاليم عيسى وكونفوشيوس Confucius ولا وتسي Laozi وبوذا Buddha، اقرأ كل هذه التعاليم، لتعرف بعد ذلك أن البشرية ما شهدت أعظم ولا أذكى ولا أبرع ولا أطهر من هذا المُعلِّم – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -. بالمُقارَنة تضح الأشياء، بالمُقارَنة وليس بالدعاوى والانتفاخ. بالدعاوى يعود مُحمد لا شيء، بالدعاوى! بعض الناس يستسخفون، يزدرون، ويحقرون؛ لأن الواحد منهم صاحب دعوى، جاهل! بالدعاوى أيضاً يعود أعظم مَن في الوجود لا شيء، وأيضاً هذه الدعوى لا قيمة لها، إن كانت خالية من التحقيق القائم على روح المُقارَنة، والمُقارَنة العلمية النزيهة.
يقول هذان أعظم مُفسِدين لدين المرء. أي لروح المرء! إذا أفسد دينه، أي أفسد روحه، أي أفسد حقيقته. لأن في الواقع وبالفعل ما هي حقيقتنا؟ ما أنا؟ ما أنتَ؟ ما أنتِ؟ ما نحن؟ حتماً لست أباك، أنت لست أباك! ولست أمك، ولست عشيرتك أو قبيلتك، ولست بلدك، يوجد تمايز واضح! كما أنك أيضاً لست شهاداتك، ولست أملاكك؛ أنت لست قصرك ولست سيارتك، ولست وظيفتك، ولست سُلطتك. بدليل أن كل هذه الأشياء يُمكِن أن تكون طرأت بعد أن لم تكن، ويُمكِن أن تُسحَب منك، أن تُنحى عنك، أن تُؤخَذ منك، أن تُسلَبها، وتبقى أنت. إذن أنت لست هذه الأشياء! أبوك يموت، أمك تموت، تتغرب عن قبيلتك، تُهاجِر وطنك، يهجرك أصحابك، علاقاتك تنقطع، تفقد أملاكك، تفقد كل شيء من هذه الأشياء! وقبل أن تُحصِّل الشهادة وما إلى ذلك، لم تكن لديك هذه الشهادة، وكنت أنت أنت. احذف كل هذه الأشياء، يبق شيء، وهو الشيئ الأهم، هو أنت، الأنت! ما هي هذه الأنت؟ ما هي هذه الأنا؟ الأنا! التي هي ليست كل ما ذُكر، ولا بعض طبعاً من باب أولى ما ذُكر، ما هي؟ هذا أهم شيء، هذا أهم شيء تملكه أنت وأملكه أنا، الأنا! هذه الأنا ابحث فيها جيداً، حاول أن تستبصر، حاول أن تذهب وتسبر غورها وأعماقها، لترى هل هذه الأنا مُطمئنة؟ هل هي مُطمئنة؟ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، هل هي أنا مُطمئنة؟ هل هي راضية، قانعة، سعيدة، هادئة، مُسالِمة، مُحِبة، راسخة، ثابتة، طيبة، طهور، أم هي غير ذلك؟ هذا أهم شيء، هذا أهم شيء! إن لم تجعل فلسفتك كلها في الحياة هي الاعتناء بالأنا بهذا المعنى، أنت خاسر وأنت شقي. ستشقى في الدنيا، وحتماً تعيش الشقاء، لا تخبرني! حتماً تعيش الشقاء، لست سعيداً السعادة المرجوة، وفي الآخرة، وإن عُفي عنك – ونسأل الله لجميعنا العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة وأن يتجاوز عنا بكرمه وصفحهه -، حتماً ستكون سعيداً في الجنة، لكن تُدرِك مُنذ الآن أنك لن تكون الأسعد، هناك مَن سيكون أسعد منك، درجات الجنة مُتفاوِتة جداً، وأكيد مقاماتهم، مسراتها، مراضيها، أفراحها، وملاذها، مُتفاوِتة جداً، مُتفاوِتة جداً! ومن هنا البداية، من هنا أنت تمهد لما هناك، لما هنا أيضاً ولما هناك.
هذه الأنا ستخسرها – النبي يقول – بقدر حرصك على الشرف، على الأنا المُزيَّفة، الأنا الكاذبة، الأنا التي تُصدَّر للجمهور وللناس. انظروا إلىّ، هذه أملاكي، وهذا جمالي، وهذا سُلطاني، وهذا نفوذي، وهذا علمي، وهذه شهاداتي، وهذه إنجازاتي، وهذه علاقاتي. وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ ومَن أخبرك يا رجل أن الناس يفرحون كثيراً لك؟ ألم تخبر الحياة؟ ألم تحذق البشر؟ مَن أخبرك أن الناس يفرحون كثيراً لك؟ مُعظَم الناس – لأنهم أشقياء مثلك – لا يفرحون. مَن يُظهِر لك الفرح والسعادة – مُعظَمهم، لا أُعمِّم، أقول مُعظَمهم – يتملقك من أجل مصلحة، إما رغباً أو رهباً، أما في باطنه – لأنه شقي مثلك، لم يفهم فلسفة الحياة الصحيحة -، فهو يحسدك ويحقد عليك. ولذلك ينتظر اللحظة التي تخيب فيها، تخر لليدين وللفم، تقع على وجهك، وكما تقول العامة تكثر سكاكينك، الكل – إلا ما رحم ربي -! واختبروا أي واحد، ابن عز أو ابن مكانة أو ابن سُلطان، حين يقع، من كل ألف كانوا يتملقونه، ربما لا ينجو – ربما – إلا واحداً فقط، يرحمه ولا يشمت فيه. أما البقية، فينزلون عليه بالسكاكين، وكنا نعلم أنه خبيث، وكنا نعلم أنه حقير وسافل ووضيع، وكنا… وكنا… وكنا… وكنا ننتظر، وكنا على يقين أنه سينتهي إلى هذه النهاية. أعوذ بالله، أعوذ بالله! أنت تركت ذاتك، وتركت الصُلح مع الله ومع ذاتك الحقيقية، من أجل هؤلاء؟ هذا هو المصير! شقي، أو بلُغة الخُطبة السابقة أحمق، ليس حكيماً، غير فاهم، غير فاهم قانون الأشياء، غير فاهم كيف تسير الأشياء. المسكين غير فاهم، فيعيش الحماقة، ويدفع الثمن شقاءً ونكداً وتنغيصاً وتنغصاً. انتبهوا! لذلك هذه القضية حسّاسة جداً إخواني وأخواتي.
إذن نعود، من السُبل: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩. وعلى فكرة هذه الآية يُمكِن أن تُعنون بأنها آية قوة المُؤمِن، هذه الآية تكشف عن جانب من جوانب قوة المُؤمِن. المُؤمِن في المنظور القرآني والنبوي الشريف – صلى الله على رسولنا وآله وسلم تسليماً كثيراً – هو أعظم قوة في الكون، كما في الحديث المشهور، وذكرناه غير مرة. المُؤمِن أقوى من الحديد ومن النار ومن الماء ومن الريح، من كل هذه القوى الطبيعية والكونية! لماذا؟ لماذا؟ لأنه يتصدَّق بالصدقة، فيُخفيها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. أقوى من أي قوة طبيعية. النبي يقول، هذا هو! القوة الأعظم، والآية بدأت بهذا. أصعب شيء إنفاق المال وبشرطه، ليس للتمنن، ليس للتظاهر، ليس للتسميع، لله؛ نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ۩، عمل لله، وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، بلُغة البقرة (سورة البقرة) وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، يبتغون المرضاة والتثبيت، التثبيت! لأن النفس قلقة على فكرة، النفس قلقة! كما قلت هل هي نفس راسخة؟ ليست راسخة. تُصبِح راسخة بأمثال هذه الأعمال. نُقطة الاعتماد داخلية بالإيمان، ولا يُوجَد غير ذلك، نُقطة اعتماد الإنسان الحقيقية تثبيت إيمانه بالله – لا إله إلا هو -، وتحقيقه، التحقق بالإيمان بالله، تثبت النفس! وإذا ثبتت النفس، تفعل المُستحيل، تُصبِح أكبر قوة فعلاً.
وقلنا مرة عن أبي الوجودية المُؤمِنة الدنماركي سورين كيركغور Søren Kierkegaard، أنه قال لو أُفلِح في أن أصل إلى نُقطة ارتكازي الباطنية، لحرَّكت الأرض. أُحرِّك كوكب الأرض، نعم! والدين أعطانا هذه النُقطة، والقرآن قال وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، وهذه لُغة عجيبة على فكرة.
بين قوسين أقول، ولكن بسرعة؛ (أحد وجوه الإعجاز القرآني التي لم يُتنبه إليها بالشكل الكافي، أنه أتى بتعابير غير مسبوقة، وليس مُجرَّد صياغات لغوية أبداً، صياغات ذات عُمق فلسفي أنطولوجي ميتافيزيقي، شيئ عجيب جداً. فمثل هذه الآية كيف تشرحها؟ نحتاج إلى شرح هذا التعبير: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩. وهو تعبير غير مسبوق في اللُغة العربية، مُستحيل أن تجده، العربية لم تعرف هذا التعبير من قبل، وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، حتى ليس تثبيتاً لأنفسهم، وإنما وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، شيئ عجيب! ولكن هذه قضية ثانية.)
هذه نُقطة الارتكاز، هو أقوى قوة، قوة! وطبعاً سر قوة المُؤمِن بكلمة إدراكه لمقامه ومكانه، إزاء مقام الله – لا إله إلا هو -، وانتهى، هذا هو، هذا هو! هذا سر قوة المُؤمِن، سر القدرة غير العادية، غير المُتناهية لديه، وهو كائن مُتناهٍ ضعيف وهش،هناك الصبر الذي تزول الجبال ولا يزول على أشياء كثيرة، يصبر عليها المُؤمِن ويتجاوزها، من أين استمد هذا؟ من نفخة الروح الإلهي، التي احتواها والتي كُرِّم بها والتي أشعل جذوتها وهو لا يزال يُطعِمها بالصالحات والمبرات، حتى يتروحن. غلبت روحانيته على ماديته بالكامل يا إخواني، فأصبح قوة غير عادية، قوة غير عادية!
يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩، قال ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – في اليُسر والعُسر. فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩! وقيل فيما يسر وفيما يضر؛ فمما يسر الإنفاق على الولد والأقربين، ومما يضر الإنفاق على الأعداء والأبعدين. يُنفِق حتى على أعدائه! والقرآن فيه ما يشهد لهذا أيضاً من سورة البقرة، ولا نُطوِّل بذكر الشواهد، هو هذا! حتى على أعدائك، حتى على مَن تكره، حتى على مَن أساء إليك، تُنفِق كما أنفق أبو بكر، وكان يُنفِق على مسطح بن أثاثة، وهو قريب له من جهة أمه، وحين خاض المُنافِقون والخائضون في عِرض أمنا الصدّيقة – رضيَ الله عنها وأرضاها – كان مسطح، وهو المُنعَم عليه من أبي بكر، في مَن خاض. طبع البشر هكذا للأسف الشديد! بعض الناس هكذا، اتق شر مَن أحسنت إليه منهم، بعضهم هكذا للأسف الشديد! فحلف أبو بكر ليقطعن عنه النفقة، فأنزل الله قوله – تبارك وتعالى – وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، فقال أبو بكر بلى، أُحِب أن يغفر الله لي. القضية المعروفة في سورة النور! وعاد إلى النفقة على مسطح، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۩. قوة! لا يا أبا بكر، أنت يا صاحب البدن الضعيف النحيف صاحب روح قوية، شديدة الأسر، إياك أن تتخلى عن قوتك الروحانية، عُد إلى عادتك الجميلة الحسنة. قال بلى يا رب، أُحِب أن يغفر الله لي. وعاد إلى نفقته على مَن تكلَّم في عِرض ابنته، وهي عِرض رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -.
يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩، وأيضاً كما لفت الشيخ المُحقِّق، شيخ الإسلام ابن عاشور – رضوان الله عليه -، فِي السَّرَّاء ۩؛ لأن السراء ملهاة. الإنسان حين يكون في وضع يُسر به، يلهو عن ماذا؟ عن النظر في حوائج المُحتاجين وعازة المُعتازين. هو في سرور، في سرور! السرور يُحيل ويُزيل ويحرف النفوس الخفيفة يا إخواني، وهذا معروف، أول ما يفرح هذا، يفقد صوابه ويخرج عن طوره ويتصرَّف تصرفات غير حكيمة. وكذلك الحاجة الشديدة والمضرة والشدة، تُخرِج الإنسان عن طوره. الله يقول هؤلاء الأقوياء يُنفِقون في كلتا حالتي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩. الله أكبر! مع أن في القانون الطبيعي، الإنسان إذا سُر كثيراً أو لحقه الضرر والضُر والشدة، يخرج عن طوره ويتصرَّف تصرفات غير حكيمة وغير مُلائمة، لا! أهل الله – اللهم اجعلنا منهم – المُتقون ليسوا كذلك، يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ۩.
يترقى القرآن، قال لك وَالْكَاظِمِينَ ۩. انظر إلى التعبير العجيب! وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، من الكظم، وما هو الكظم؟ الكظم شد رأس القِربة حين امتلائها. القِربة حين تمتلئ بالماء وتفهق، الآن تشد رأسها، أي تكظمها. ومنه التيرموس هذا الذي توضع فيه الأشياء الساخنة أو الباردة، الترجمة الفصيحة له الكظمية، لأنه يكظم، يكظم الأشياء، لا يُخرِج الحرارة، لذا يُقال الكظمية. الكظم شد رأس القِربة، إذا امتلأت أو عند امتلائها. ولذلك يُقال فلان كظيم، أي مملوء حُزناً. قال – عز من قائل – في سورة يوسف عن يعقوب – عليه الصلاة وأفضل السلام – فَهُوَ كَظِيمٌ ۩. فَهُوَ كَظِيمٌ ۩ أي ممتلئ حُزناً حتى الثمالة، حتى النهاية، كله حُزن! وهنا قوة المُؤمِن.
المُؤمِن ليس فقط يتحكَّم في غيظه، لا! يكظمه. وفرق كبير بين أنه يتحكَّم في غيظه، وبين كظمه لغيظه. لأنه إن تحكم في غيظه، ربما وُجد قليل من الغيظ، لم يبلغ العتبة كما يُقال، أي الدرجة الحرجة، أي الــ Critical point، لا! أي لم يبلغ الدرجة الحرجة، إغاظة بسيطة! لكن حين يمتلئ غيظاً، يختلف الأمر. فبعضهم غاظك غيظاً عظيماً جداً، أي حتى طفح أو يكاد يطفح الكيل، بحيث لا يبقى في قوس صبرك منزع، انتهى إذن، هنا تكظم غيظك، الأمور واصلة إلى هنا (أشار إلى حنجرته)، وتكظم؛ لأنك قوي.
هذا المُتقي الموعود بالجنة الواسعة، إزاء الضيق؛ ضيق النفس، وضيق الظروف، وضيق الأحوال، وضيق الحوادث. فهو يتصرَّف بسعة، إزاء الضيق. والجزاء من جنس العمل، وُعِد بـــ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ۩. الله أكبر! القرآن عجيب، القرآن عجيب لمَن تأمَّل فيه، لمَن تعمقه. ضيق! النفس تضيق بالأذية، تضيق بما يُوجِب حنقها وغيظها، أليس كذلك؟ تضيق، لا! يتصرَّف هنا بسعة، وكأنه غير مُغتاظ، كأنه غير مُحنَق، كأنه غير مُغضَب. يتصرَّف تصرف المُتسامِحين الراضين، عجيب!
قال وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، روى أبو جعفر بن جرير في تفسيره (عند تفسير هذه الآية)، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – مَن كظم غيظه، وهو قادر على أن يُنفِذه – وفي رواية ولو شاء أن يُنفِذه، أنفذه -، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً. أي أنت لم تُحكِّم غضبك وغيظك في الناس، فتأمن غضب الله – تبارك وتعالى -. أمناً؛ ستأمن، الله لن يغضب عليك، لأن الله يغضب، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ۩، الغضب من صفات الله، الغيظ ليس من صفات الله. ويبدو أن الغيظ يقتضي ماذا؟ يقتضي ظرفاً ضيقاً بطبعه، وهو الصدر الإنساني. صدر الإنسان ما هو؟ هذا صدر الإنسان، أي أربعون سم، أربعون سم! الإنسان ضيق مسكين، ضعيف! ومن ضعف خُلق، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩. تراه هانئاً سعيداً رضياً، فتُلقى إليه كلمة، يُجبه في وجهه بكلمة، سُبحان الله! تنقلب حاله مُباشَرةً، ويظهر هذا في وجهه. ضعيف الإنسان، ضعيف! كلمة واحدة، فإما كظم، وإما أنفذ طبعاً. بعض الناس يكظم، وبعضهم ينطلق كالحيوان المُفترِس، ينتقم من خصمه بالكلام وبالأفعال، كالحيوان! وهذا الفرق، الدين يا إخواني وقوانين الروح جاءت لكي تعلو بنا إلى مصاف الملائكة، إلى مصاف الملأ الأعلى، جاءت لتُخرِجنا عن طور الغريزة والحيوانية.
الفلاسفة الإسلاميون والأغارقة يرون أن أقوى القوى تحكماً وتأثيراً في الإنسان القوة الغاضبة، أو تُسمى الغضبية، أي القوة الغاضبة أو الغضبية، أقوى قوة! أقوى من القوة الشهوية، وأقوى من أي شيء في القوى الحيوانية التي في الإنسان. والإنسان إذا استملكه الغضب، ربما قتل، وربما قتل أقرب الناس إليه. وكم سمعنا عن آباء قتلوا أبناءهم! شيء عجيب، في حالة غضب يقتلون، شيء عجيب! ثم يندمون ندامة الكُسعي وأبعد من ندامة الكُسعي، هو هذا!
ولذلك الغضب والغيظ قيل يفترقان، وقيل مُتلازِمان، إلا أن الغيظ لا يُوصَف به الله، والغضب يُوصَف به الله. ولعل الذي ذكرته – لعله – يكون صحيحاً؛ أن الغيظ بطبعه بحسب موارد استعماله، يقتضي ماذا؟ يقتضي أُفقاً وهناءً وفُسحة ضيقة، والتي هي صدر الإنسان. وهذا لا يليق بالله، أما الغضب فلا، هذا لا يقتضيه، بغض النظر عن هذا، إله ويغضب – لا إله إلا هو -، وغضبه ليس طبعاً كغضب البشر، وهذا معروف.
إذن وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، وفي مُرسَل الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يُقال يوم القيامة ليقم مَن أجره على الله، قال فلا يقوم إلا رجل عفا. الله أكبر! وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩. كما سمعتم أحبتي – إخواني وأخواتي – عدل المولى – جل وعز – عن صيغة الفعل (يُنفِقُونَ ۩) إلى صيغة اسم الفاعل (الْكَاظِمِينَ ۩، الْعَافِينَ ۩)، للدلالة على أن هاتين الخصلتين وهاتين الصفتين خُلق وسجية ثابتة لهم. الله أكبر! طبعاً هم درَّبوا وجاهدوا وناضلوا أنفسهم لكي يتثبتوا في هذا الباب، فتثبتوا وتحققوا، صار عندهم الحلم والصفح والتجاوز والإغضاء والإعراض سجية. كاظمون لغيوظهم، عافون عمَن استحق منهم العقوبة لذنبه، يصفحون ويتجاوزون، خُلق وسجية! الله قال هذا هو الإحسان، وهؤلاء المُحسِنون. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩.
وطبعاً في تراثنا الإسلامي ما لا يُحصى من وقائع كظم الغيظ والعفو عن الناس، وخاصة لدى الصالحين. تجد هذا أكثر ما تجده لدى العارفين بالله، ولدى الصالحين، من الصحابة والتابعين إلى يوم الناس هذا طبعاً، طبعاً! هؤلاء أصحاب الروح، كما قلت المُتروحِنون، الذين أعلوا الجانب الإلهي في أنفسهم على حساب الجانب الحيواني. أي حيوان – أي حيوان من الحيوانات الفارسة أو المُفترِسة – أثره، ماذا تنتظر منه؟ ردة فعل حيوانية، مُباشَرةً يُقابِل الشر بالشر والعدوان بالعدوان، مُباشَرةً! البشر ليس كذلك، الذي يفعل ذلك هو أقرب إلى الحيوان، أبعد من البشرية وأقرب إلى الحيوانية، مُجرَّد حيوان هذا! مُجرَّد أن تستثيره بشيء، مُباشَرةً يرد عليك، حتى بالكلام! فما هذا؟ هذا سلوك حيواني، لا! المُؤمِن ليس كذلك، ويُسمونها (مرجلة) ويُسمونها (قبضاية)، وهذا حر وهم أحرار، وهذه مُصطلَحات حيوانية أيضاً، تنتمي إلى عالم الغاب، وليس إلى عالم الدين وإلى عالم الروح.
عالم الروح مُختلِف تماماً، والبطولة في عالم الروح شيء مُختلِف، ليست بطولة العضل والجسد أبداً، بطولة حقيقية لا تُكسَر ولا تنثني ولا تلتوي ولا تتخوَّن صاحبها، بخلاف بطولة العضل، فهي كذّابة وضعيفة ومُرائية ومغرورة، بطولة عضل على الأضعف، وعلى الأقوى يعود شكوكو مُباشَرةً، فرعون يعود شكوكو، لا شيء! هذا هو طبعاً، وما من قوي إلا وهناك مَن هو أقوى، فأمام الأقوى، يعود هكذا. وقد يكون هذا الأقوى جهازاً دولتياً – أي هذا جهاز في الدولة؛ مُخابَرات أو شرطة أو أمن أو مباحث -، يأخذونه ويُذيقونه الويلات، فيعود عبداً ذليلاً، يبكي بكاء العبيد وبكاء الضعفاء المُستضَعفين، أليس كذلك؟ أين بطولتك؟ أين عضلاتك؟ أين ضربك للضعفاء؟ أين ضربك للناس وعدوانك على الناس؟ لا توجد بطولة! بخلاف البطل الروحاني، يبقى بطلاً تحت كل الظروف، حتى تحت ضربات القدر؛ يموت وديده، يخسر أمواله، يخسر صحته، ويخسر كل شيء، ويبقى يقول الحمد لله رب العالمين. عجيب! قوة مُذهِلة، أقوى قوة في الكون، هذه القوة وهذه البطولة، مَن يبحث عن البطولة، نقول له هذه البطولة الحقيقية، وهذه لا تختلف ولا تتلوَّن، تبقى دائماً عاملة فاعلة موجودة، وتستعلن بنفسها، لا إله إلا الله! وجزاؤها عند الله، جزاؤها على الله وعند الله في الدنيا والآخرة.
يُروى أن أبا الدرداء – الصاحب الجليل، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – سبه أحد السفهاء، والناس دائماً فيهم سفهاء، أنت تستغرب من أن الناس يسبون، نعم، سبوا الرسول! هناك سفهاء سبوا الرسول وهم يستعلنون بأنه رسولهم، قيل له أعدل يا محمد، ما هذه قسمة أُريد بها وجه الله. ما هذا؟ سفيه، سفيه! يغمز قناة عدل الرسول، أن الرسول مُتحيِّز وغير عادل، فإذن هم سفهاء، سفهاء! والنبي لقيَ الكثير من قومه ومن مُنافِقي أصحابه ومن جهلة أصحابه وعربانه، وكان يقول يرحم الله أخي موسى، لقد لقيَ من قومه أكثر من هذا، فصبر. ولابد وأنا أصبر، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ۩، والذين آذوا موسى من بني إسرائيل، ليسوا فقط من أعدائه، من أتباعه! آذوه في عِرضه وفي سُمعته، والحديث في البُخاري، قصص!
على كل حال فسبه سبه ذريعاً، وأبو الدرداء كاظم للغيظ، هادئ، راسخ. التفت إليه وقال يا أخي لا تُغرقن في سبي، ودع للصُلح موضعاً. أي كما نقول الآن باللُغة العامية (خل خط رجعة). أي لتجد خط رجعة، حين تكون هناك فرصة للرجوع، لا تقطع الخط بالكامل. انظر إلى هذا، انظر! أدب وحكمة، لا تُغرقن في سبي – قال له -، ودع للصُلح موضعاً، فإنا لا نُكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه. الله أكبر! ما هذه الأخلاق؟
ولماذا أقول لكم هذا؟ هذا تَلميذ محمد، هذا أحد خرّيجي مدرسة النبوة، فكيف كان الرسول نفسه؟ حدِّث ولا حرج. النبي كان حليماً، وهذه صفته في الكتاب الأول، كان حليماً وكان لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. الله أكبر! مثل ماذا؟ البخور، مثل العود، كلما نفخت فيه وفي النار، زاد اشتعالاً وطيباً وشميماً، شيئ عجيب! هكذا النبي، معدن مُختلِف – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً إلى أبد الآبدين -.
هناك أبو ذر الغفاري. أبو ذر الغفاري قاطع الطريق لبني غفار، الذي كانت تهابه الفرسان، الرجل القوي الشديد الصُلب، عبده – هذا عبد مملوك له – غاظه، فقال له أبو ذر يا فلان، لِمَ أرسلت الماشية على علف الفرس؟ هذا للفرس! قال أردت أن أغيظك؟ زعلان منه وغير راضٍ عنه، فقال له أردت أن أغيظك هكذا. هذا عبده، هو يملكه! فقال لا جرم، لأجمعن غيظاً وأجراً، أنت حر لوجه الله. الله أكبر! هؤلاء أخذوا الدين – كما قلت لكم – خُطة حقيقية، ليسوا مثلنا، نحن عندنا مواعظ وفلسفة وكلام ونتكلَّم، كلام! هم لم يكونوا كذلك، لا! أخذوه خُطة حقيقية. قال لك هذه إرشادات من رب العالمين، هذا كتاب الإرشادات لروحنا، لابد أن نعمل به، لكي نسعد وننجو، ولكي نكتمل ونتكامل. كل واحد! هو هكذا، يرى نفسه يقطع مراحل مُتجدِّدة على درب وسكة الكمال، وهو يُريد أن يقطع مراحل جديدة باستمرار. أي أنت تغيظني وأنا أحرَّرك؟ قال له هذا هو. لا جرم، لأجمعن غيظاً وأجراً، اذهب، أنت حر لوجه الله تعالى. الله أكبر!
إبراهيم بن أدهم – ولي الله، الرجل الصالح، ابن الملوك والأمراء الحاكمين، الزاهد المُتفقِّر – يخرج مرةً من بيته، فيلقاه أحد الكفّار. رجل غير مُسلِم، أراد أن يُغضِبه، أن يغيظه ويُحنِقه، قال له يا ابن أدهم، ذنَب كلبي – أعزكم الله – أطهر أم لحيتك؟ انظر إلى هذا، سفهاء! ماذا تُريد من هذا الرجل الصالح الوادع المُحِب المُسالِم الصوفي؟ هكذا يُريد أن يغيظه، على غير دينه، وأراد أن يتنقصه، قال له ما الأطهر؛ ذَنَب – ذَنَب وليس ذَنْب – كلبي أم لحيتك؟ ذَنَب كلبي أطهر أم لحيتك؟ فالتفت إليه ابن ادهم، وقال يا أخي إن دخلت الجنة، كنت أطهر من ذَنَب كلبك، وإن دخلت النار، كان ذَنَب كلبك أطهر مني. فالرجل صُدم بهذا الجواب، قال والله هذه أخلاق النبيين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. دخل الإسلام مُباشَرةً، وفعلاً أي إنسان عاقل، يُدرِك هذا، وهذا الرجل كان عنده شيء من عقل، مُستحيل إلا هذا. هذا دين يُخرِّج أتباعه بهذا الطراز وبهذا النمط من الأخلاق. وأنا أعلم الآن – اقشعر بدني -، أعلم أن كثيرين – كأني رأيتها في وجوهكم – يقولون عجيب! هل هذا الإسلام؟ هل هذه أخلاقنا؟ فما بال الذي نراه على النت Net وعلى الفيسبوك Facebook وعلى تويتر Twitter وفي اليوتيوب YouTube؟ وطبعاً هذا ليس الإسلام، انتبهوا فقط واطمئنوا، هذا ليس الإسلام، وإن رأيتموه من مشايخ ومن مُلتحين ومن شباب إسلاميين ومُسلِمين يُدافِعون عن الدين وعن الشريعة وعن النبي، ليس الإسلام، ليس له علاقة بالإسلام، هذا له علاقة بالضعف البشري، بسوء الأدب، بقلة التربية، بالغيظ، وبالغضب الذي يثور في نفوس هؤلاء الناس، في حالة غضب وغيظ هم، فقط! ويتصرَّفون بطريقة جاهلية، أو – أقول هذا بين قوسين، ولا مؤاخذة – كما قلنا (حيوانية)، طريقة حيوانات! ويقولون لك هذا الإسلام. ليس الإسلام هذا، لا! والإسلام لا يحتاج إلى هذه الخُطة في الدفاع عنه، لا! الإسلام أجل وأرقى من هذا بكثير، والإسلام لا ينجح إلا بقانونه هو، لا بغيظك أنت ولا بغضبك، فانتبه إذن. الإسلام لا ينجح بحماسك وإرادتك أن تُنجِحه بطريقك وقانونك، لا! هو ينجح فقط حين تلتزم أنت قانونه وطريقه ومنطقه وهديه وأدبه، ولا ينجح بغير هذا. نُقطة ومن أول سطر، وانتهى كل شيئ، هو هذا، هو هذا! وإذا لم نفهم هذا، فنحن في ضلال، نحن في عمه وفي عمى.
وانظروا إلى التذييل الكريم؛ قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، ما أجمل هذا التذييل! كيفما داورت الآية لتفهمها، رأيتها تُضيء لك بضوء جديد. إن فهمت الإحسان على أنه سلوك الخُطة الأحسن – أي أحسن خُطة، أحسن الموجود، أحسن المُتاح والمُمكِن -، اتجه الأمر، اتجه! لماذا؟ لماذا؟ كما قال – تبارك وتعالى – ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩، الحسن و: أَحْسَنُ ۩، ليس بالحُسنى، وإنما بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩، أحسن طريقة مُمكِنة. أيضاً وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩، الحسن و: أَحْسَنُ ۩، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩، أوه! هو هذا، هذا من الدفع بماذا؟ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۩. ولذلك وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩. هل فهمتم؟ هو هذا. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩ لأنهم اضطلعوا وقاموا ونهضوا بالخُطة الأحسن، في مُعامَلة مَن؟ في مُعامَلة السوء والشر، في مُعامَلة الأسوأ من الناس، الذين يغيظونهم ويُحنقونهم ويزدرون عليهم ويسفهون عليهم ويظلمونهم ويتنقصونهم. الخُطة الأحسن هي هذه. هل هناك ما هو أحسن من هذه الخُطة؟ قل لي بالله عليك.
انتبه، خُطة حقي حقي، القسطاس، القصاص، القانون، العدالة، ليست الأحسن. والقرآن يقول ليست الأحسن. هذه ليست الأحسن! وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۩، اعتدى عليك، وأنت تعتدي عليه. أخذ منك، وأنت تأخذ منه. الله قال هذا لك، وبالقانون وبالمحكمة وبالشهود والبيّنات، ولكن قال ماذا؟ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۩. الله قال لا، تُوجَد خُطة أحسن. إذا أردت أن يقع أجرك على الله، فهي هذه؛ أن تعفو وأن تتجاوز. اكظم ثم اعف. وانظر إلى… ماذا نقول؟ انظر إلى العظمة الإلهية، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩. إذن في الأول وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، والتها – أي عقَّبتها – وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩، لماذا؟ واضح جداً، وهذا ترتيب منطقي ووجودي، في الوجود هو هكذا! إذا سطا أحدهم بك، ظلمك أحدهم وعدا عليك وصال عليك، أول ما يحدث ماذا؟ إرادة أن تسطو به، أن ترد له الصاع بصاعٍ أو باثنين. وبعض الناس يرد بمئة صاع، تخيَّل! فهنا الله يقول وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، إياك، مَن الذي يسلم هنا؟ المُعتدي، فهنا أمنّا مَن؟ المُعتدي. أصبح في سلام، الله قال لا، اكظم غيظك. حتى لا تسفه عليه، لا تسب، لا تشتم، لا تلعن، اكظم، اكظم! اكظم الغيظ، وكأنك لم تُغظ أصلا ولم تُحنق. ولكن هذا يضرني يا رب، أنا أكاد أن أتميز غيظاً – تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۩، أي جهنم، وأنا أكاد أتميز، أتفلق وأتشقق غيظاً -. والله قال لك نعم، هذا هو طبعاً، وأنا أعلم هذا، خلقتك وأعلم، ولئلا تُؤذي نفسك، افعل الآتي. الآن هو في مأمن من الأذى بكظم الغيظ، وأنت الآن مؤذى وتتأذى، ولئلا تُؤذي نفسك، خُذ في خُطة جديدة تحتاج إلى قوة لا تزال أعظم، تُقرِّبك من مقام الإحسان الكامل، وهي ماذا؟ العفو. اعف! عفت الديار وعفت الريح، ما معنى العفو؟ هو المحو، المحو! أي تعامل مع الأمر وكأنه لم يكن، انس! انس وانتهى الأمر، لا تتذكَّر. لن تعف، ما دمت تُذكِّر نفسك قائلاً بل كذا، ولكنه قال لي كذا وكذا، واجهني بها أمام الناس، وكسر خاطري، وسوَد وجهي، وصفَّر وجهي، وقلَّل من قدري. لا! انس. لماذا؟ لئلا تتأذى أنت. الله يُريد أمانك، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً. يُريد أمانك أنت أيضاً، يُريد أمانك أنت.
ثمة حكمة بوذية جميلة جداً، راقتني! تُنوِّر ما نحن فيه، ولا تزيد، هي تُنوِّره فقط، ولكن لا تزيد، والحمد لله لدينا ما يكفي من الحكمة الإلهية ومن النور الرباني، ولكن لا بأس، الحكمة أيضاً يُساعِد بعضها بعضاً ويُصادِق بعضها على بعض. الحكمة هذه تقول يُمكِنك أن تهرب من عقابيل شرور الأشرار، ولكنك لا تستطيع أن تهرب من عقابيل شرك أنت. أوه! عظيمة، عظيمة! بمعنى ماذا يا إخواني؟
الذي يُسيء إلىّ ويعتدي علىّ، أنا يُمكِن أن أتخلَّص وأن أهرب من كل عقابيل أفعاله، وإن لاحقتني ومستنى، بماذا؟ بالعفو، بالمغفرة، بالنسيان. انتهى! سامحك الله، عفا الله عنك، ومن ثم انتهى كل شيئ، انتهى كل شيئ! وربما يعود أحد أوليائك. سب أحدهم الإمام عليّاً – هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أي زين العابدين، المعروف بزين العابدين، عليه السلام ورضوان الله عليه -، سبه أيضاً سباً مُقذِعاً وبهته في وجهه، فقال له إن كنت يا أخي كما قلت، فيغفر الله لي – أي إذا كنت أنا هكذا سيئاً وما إلى ذلك، فسأدعو الله أن يغفر لي، فهذا معناه أنني تعبان -، وإن لم أكن كما قلت، فيغفر الله لك. الرجل جاء وقبَّل رأسه، وقال يا ابن بنت رسول الله، والله لست كما قلت، استغفر لي الله. قال له يغفر الله لك يا أخي وهو أرحم الراحمين. هذا هو، إذن انتهى الأمر، انظر إلى التصرف، التصرف عجيب جداً، مرتاح زين العابدين، مرتاح! وبالعكس؛ يزداد راحة وسعة، تتسع نفسه الآن، يشعر بالرسوخ وبالثتبيت من النفس، فيرضى عن نفسه.
وعلى فكرة هنا ثمة مُلاحظة، أُريد قولها بين قوسين، لا أُريد أن تفوتني: (سل نفسك يا أخي العزيز، يا أختي الكريمة، في كل مرة رددت فيها على مَن أساء إليك ولو بمقدار ما أساء إليك، هل وجدت راحة تامة وحقيقية، أم وجدت بعد ذلك تنغيصاً وشعوراً أشبه بشعور الإثم؟ الثانية. على الأقل أنا أجد هذا، تجد أنك غير مُرتاح، تقول يا ليتني لم أفعل، ماذا كان علىّ لو أنني تجاوزت، وصفحت؟ ربما الرجل معذور، ربما مُتضايق، ربما… ربما… ربما… وهو مريض على فكرة، انظر؛ كل إنسان يُسيء إلى الآخرين، ويُريد أن يُنغِّص عليهم وأن ينال منهم، والله هو مريض، مسكين! وهو يُعاني. أنت الآن لو رأيت إنساناً مُصاباً في عينيه أو في بدنه أو في أي شيء، هل تحقد عليه وتزدريه وتشمت فيه، أو تُشفِق عليه؟ تُشفِق عليه، وتقول غفر الله له، رحمه الله، عفا الله عنه، شفى الله هذا المسكين، ورفع الله عنه البلاء. هذا هو، أليس كذلك؟ هؤلاء مرضى في الروح، الآخرون الذين يكذبون ويبهتون ويسبون ويطعنون، مرضى يا إخواني والله، والله مرض أكثر وأشد فتكاً من أمراض البدن. وهؤلاء يستحقون منا ماذا؟ الشفقة والرثاء. أن نقول شفاهم الله، أصلحهم الله، أذهب الله غيظ قلوبهم، أصلح الله بواطنهم وأحوالهم، ظاهرهم وسرهم وعلانيتهم. هذا المفروض منا.)
عامر بن عبد قيس – التابعي الجليل – كان مُستجاب الدعوة، شيئ خطير الرجل هذا، والناس كانت تُحِبه وتخشاه؛ لأنه مُستجاب الدعوة، مثل سعد بن أبي وقاص – الصحابي الجليل -، مُخيف، لو دعا. فظلمه أحدهم ذات يوم ظلماً بيّناً شديداً، فلم يرد عليه، فأتاه بعض خاصته وأحبائه، وقالوا يا فلان ادع عليه. قال لا، لا. قالوا ادع عليه، فقد ظلمك وتجاوز. قال إني داعٍ، فأمّنوا. فرفعوا أيديهم. قال اللهم مَن ظلمني وجار علىّ، فاغفر له واعف عنه وزِد رزقه في الدنيا وأعل مقامه في الآخرة. قالوا ما هذا؟ ما الرجل هذا؟ ولذلك هو مُستجاب الدعوة، مثل هذا الله – تبارك وتعالى – يأمنه على أن يُعطيه سر استجابة الدعوة. انظروا لو أمثالنا – ما شاء الله – عندهم سر استجابة الدعوة، لأهلكنا العالم، لأهلكنا العالم! لدعونا على حضارات وعلى أمم وعلى دول وعلى شعوب وعلى قبائل، ولما تركنا أحداً، ولانتهت الدنيا. حاشا لله! ولكن هو الحكيم، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ۩، يعرف – عز وجل – أين يضع سره. مثل هذا – أي عامر بن عبد قيس – يستحق أن يكون مُستجاب الدعوة، الذي يدعو بما سمعتم، لمَن – وليس على، وإنما لمَن – ظلمه، جدير وقمين بأن يكون مُجاب الدعوة. اللهم اجعلنا منهم، بعد أن تُرقينا إلى ما رقيتهم إليه من مراق ومقام.
هذه القضية يا إخواني، ليست قضية غيظ وغضب، وأُريد أن أُنفِّس عن غيظي وغضبي وأعمل كذا وكذا، ليس هكذا يجب أن تكون الدنيا، وليس هكذا يجب أن يكون الدين، لا، هذا غلط، لا! يوجد شيء غير مفهوم للأسف، هناك أشياء نحن لا نفهمها للأسف حقيقةً، ولم نترب عليها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أخرج الإمام الطبراني والإمام أبو عبد الله الحاكم عن أُبي بن كعب – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – مَن أن أحب أن يُشرف له البُنيان – أي يُرفع له، يُرفع له البُنيان في الجنة – وتُرفَع له الدرجات، فليصل مَن قطعه، وليعف عمَن ظلمه. وهو في الحقيقة بدأ بهذه، قال فليعف عمَن ظلمه، وليُعط مَن حرمه، وليصل مَن قطعه. الذي يفعل هذا، يُشرَف له في البُنيان، في قصوره، علاليه في الجنة، وتُرفَع له الدرجات، أي المقامات طبعاً، المقامات العالية السامقة. اللهم اجعلنا من ذويها وأهلها وأحق بها بفضلك ومنّك يا رب العالمين.
إذن هذه الحكمة الهندية العظيمة، تُعلِّم أنك يُمكِن أن تنجو من عقابيل شرور مَن أراد الشر بك، وإن أوقعوه بك، فقط ماذا؟ أن تعفو وأن تغفر وأن تنسى، انتهى الأمر، انتهى! الآن مَن الذي يتسمم بهذه الشرور؟ صاحبها، الذي فعلها – إن لم يتب منها -. ولكنك لا تستطيع أن تفعل مع نفسك، أي لا تستطيع أن تهرب من شرور نفسك. إذا نفسك – والعياذ بالله – فيها غيظ، فيها غضب، فيها حقد، فيها غش، فيها كره، فيها إرادة الانتقام، إرادة الشماتة، إرادة التعيير، إرادة… إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره، فكيف يُمكِن أن تهرب من هذا؟ هذه نفسك، هذه نفسك وهي مُلوَّثة، أنت تعيش الآن في ظرف – والعياذ بالله – مُلوَّث تماماً، لا يُمكِن أن يُنتظَر منه إلا التعب والتنغيض الدائم وعدم الرضا وعدم السعادة وعدم الهناءة في العيش. ولذلك استثمر في نفسك، لا تعبأ كثيراً بشرور الأشرار، هذه يُمكِن التخلص منها بسهولة. أصعب ما يُمكِن أن تتخلص منه شرور ذاتك، شرور نفسك.
وعلى فكرة هذه النفس – كما قلنا في بداية الخُطبة أو في صدر الخُطبة – تبقى معك، حين تنقطع عن الدنيا وتنقطع الدنيا عنك، حين تُفارِق الأهل والبُلدان والأحباب والنساء والولدان والأملاك والعلاقات وكل شيء، وتصير إلى وحدة في برزخك، وحتى يوم القيامة، لن تكون إلا مع ذاتك، مع نفسك، نفسك التي استثمرت فيها في الدنيا، كيف كانت هذه النفس؟ إلى ماذا انتهت؟ هذه ستُلازِمك أبداً، هي ذاتك، نفسك هي أنت، هي حقيقتك، هي جوهرك، هي ماهيتك. استثمر فيها، وإياك والشر.
نُقطة أخيرة يا إخواني:
ماذا إذا أردنا أيضاً أن نقف على سر كيف لا نستجيب الاستجابة الحيوانية الغرزية لشرور الآخرين، وكيف يُمكِن ألا يستخفنا الذين لا يوقنون، ألا يستخفنا السُفهاء العادون؟ قال لك السر ألا ترى نفسك أفضل من غيرك. التواضع! السر في التواضع. معناها المُتكبِّر المزهو الذي يرى لنفسه مزية على غيره من الناس، هو هذا الذي يغضب إذا ظُلِم، وإذا انتُقِد. غضب بمُجرَد أن انتُقِد! ويُمكِن أن تنظر إلى المُتكبِّرين على فكرة، والكبر لا يليق إلا بمَن؟ بالجبار المُتكبِّر – لا إله إلا هو -. لأنه فعلاً هو ماذا؟ المُتكبِّر – لا إله إلا هو – باستحقاق. البشر لا يليق بهم هذا أصلاً. مهما بلغ البشر من درجة، سواء في ماله أو في علمه أو في نفوذه وفي سُلطانه، لا يليق به الكبر، لأسباب معروفة. بدليل؛ أكبر المُتكبِّرين من البشر إذا فتشته، وجدته حسّاساً جداً للنقد، حسّاساً جداً لمَن ينال منه، ويغضب غضباً شديداً. إذن أنت ضعيف، هذه معناها أنك ضعيف، وواضح أنك ضعيف. أنت ملك أو أنت رئيس أو أنت شيء كبير، وعلى هذا الأساس خلفك أقوام، وخلفك الناس، وخلفك هليل وهيلمان، وواحد انتقدك، تكلَّم فيك، طعن فيك؛ في لياقتك، في عِرضك، في شخصك، وفي كل شيء، فلماذا تهتز أنت؟ لماذا اهتززت هذا الاهتزاز، وغضبت هذا الغضب، وناديت بالويل والثبور وعظائم الأمور، وسطوت ربما بهذا المسكين؟ معناها فعلت هذا؛ لأنك ضعيف هش، وواضح أنك هش جداً، وواضح أن الكبر في المُتكبِّرين بالون، بالون! بالون منفوخ يا إخواني، يُظهِرهم بصورة غير حقيقتهم إطلاقاً، والبالون حسّاس جداً لوخز الإبر، بأي وخزة من إبرة، ينفثئ البالون. ولذلك المُتكبِّرون حسّاسون جداً للنقد، والكلام فيهم لا يحتملونه، ولا يُحِبون إلا مَن؟ المُصفِّقين المُسبِّحين المُقدِّسين حارقي البخاخير! لأنهم ضعفاء.
المُؤمِن ليس مُتكبِّراً، ولا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر. النبي يقول، الكبر خطير جداً جداً، لأسباب كثيرة، وهذا لا يزال أحدها، هذا أحد الأسباب، لأن المُتكبِّر الذي يرى لنفسه مزية على غيره وأفضلية على غيره، كما قلت لكم يستجيب بطريقة حيوانية للشرور في الأغلب، لا يستجيب بطريقة روحانية. فقط المُؤِمن هو الذي يرى نفسه كالآخرين. وكيف أنا أرى هذا؟ وعلى فكرة، قد تقول لي كيف هذا؟ كيف أرى نفسي كالآخرين، وأنا عندي شهادات وهم ليس عندهم، وأنا عندي سُلطة وهم ليس عندهم، وأنا عندي أموال وهم ليس عندهم، وأنا عندي علاقاتي مع رؤوس الدولة وهم ليس عندهم، هم صعاليك أميون جهلة فقراء؟ صح، مضبوط، مضبوط، مضبوط. في عالم المادة وبمنطق الحس والمادة التفاوتات موجودة، وأكيد الفرق مهول وفظيع بين مَن يملك مليماً وبين مَن يملك مئة مليار دولار، فرق مُخيف، أليس كذلك؟ لكن انتبهوا، ولكن الأمر يختلف في منظور مَن ينظر مِن العلو، مِن منظور إلهي، مِن منظور مَن يجعل الخلق كلهم إزاء مَن؟ الخالق. هذا الخالق وهؤلاء المخلوقون، هل هناك تفاوتات من هذا المنظور؟ أبداً أبداً أبداً. تزول كل التفاوتات! العارف بالله، القدّيس، والولي الصالح منظوره إلهي، ولذلك لا يُفلِح هو في رؤية نفسه، هو أعجز من أن يرى نفسه، المسكين لا يرى هذا، يُمكِن أن يرى أن كل الناس لا تزال أحسن منه، يُسيء الظن بنفسه، ولكنه لا يرى من نفسه أنه أحسن من أي واحد، ولو كان يقطع الليل والنهار عابداً زاهداً، وكان الآخر في الخمّارة، لا يُمكِن، لا يستطيع. شيئ غريب! هذا هو السر، هذا تفسيرها. لأنه إزاء الما لانهاية يتساوى المليم الواحد، والمئة مليار، أليس كذلك؟ هذا الشيئ نفسه! واحد على ما لانهاية، يُساوي صفراً، ومئة مليار على ما لانهاية، يُساوي صفراً. فالكل إزاء الله واحد، لا شيء. وهذا منظور العارفين بالله – عرَّفنا الله به ودلنا عليه -.
عند الله الأمر مُختلِف، عند الله الناس منازل ورُتب، عند الله! انتبهوا، لأنه هو صاحب القسط والميزان – لا إله إلا هو -، أي وهو غير محكوم بلانهائيته – انتبه – في إطلاق الأحكام على عباده، ولذلك هو الحكم العدل – لا إله إلا هو -، هو الحكم العدل، وحده! صاحب العدالة المُطلَقة. أما نحن فينبغي أن يكون منظورنا هو هذا. لو تحقَّقنا بهذا التواضع، لانصلحنا. والنبي قال – والنبي هو سيد المُتواضِعين وسيد مَن علَّم عن التواضع – لنا هذا في صحيح مُسلِم، في سُنن الترمذي، وعند الترمذي ثلاث أُقسِم بالله عليهن، وعند مُسلِم ما نقص مال من صدقة – وفي رواية ما نقصت صدقة من مال -، ولا زاد الله عبد بعفو إلا عزاً. تعفو عمَن ظلمك، تزدد عزاً عند الله – تبارك وتعالى -. لا تزدد ذلاً، تزدد عزاً وقوةً. ومَن تواضع لله، رفعه الله. وعجيب أن النبي قرن بين التواضع والعفو. وقلت لكم، قلت لكم والله العظيم هو أعظم مُعلِّم، والله لن تعرفوا أنه أعظم مُعلِّم إلا حين تقرأوا التعاليم، تعاليم الدنيا هنا وهناك، فتبدأون في أن تفهموا. فهذا الذي قلته الآن، لم أتعلَّمه من إسلاميين، تعلَّمته من غير مُسلِمين، أعني النُقطة الأخيرة هذه، أي كيف أتعامل مع شرور الآخرين ولا تستفزني؟ قال لك الشرط هو التواضع، ألا ترى نفسك أفضل من أي أحد. إن رأيت نفسك هكذا، فستتعامل بطريقة حيوانية انتقامية. والنبي ألمع إلى هذا، شيئ غريب! قال لك العفو والتواضع. فيبدو أنه لا يستطيع أن يعفو ويتعامل بهذه الطريقة المُتروحِنة مع أخطاء الآخرين وشرورهم إلا مَن؟ إلا عبد مُتواضِع لا يرى نفسه، عبد لا يرى إلا عظمة الله، وأمام عظمة الله يتساوى الكل.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً برحمتك يا أرحم الراحمين. لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه برحمتك يا أرحم الراحمين.
جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضاليبن ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 27/9/2019
أضف تعليق