إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ۩ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ۩ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۩ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
سؤالٌ يكثر ترداده، ما هو السر الكامن وراء هذه الظاهرة المُحيرة العجيبة: ظاهرة التدين والالتزام وفي نفس الوقت ظاهرة أو حقيقة أو واقعة بل وقائع فقر شخصية المُتدين؟ كيف يُمكِن أن يجتمع هذان الأمران: أن يكون المرء مُتديناً مُحافِظاً على فرائض الله، مُراعياً لحدوده فيما يبدو وفيما يظهر، لكنه فقير الشخصية، فاقد للمصداقية؟ بكلمة واضحة فاقد للمصداقية! أمام نفسه لا يمتلك مصداقية ذاتية، ولذلك هو لا يستطيع أن ينظر بوضوح وبسهولة إلى المرآة، ولا يُحِب هذا، لا يُحِب! كما أنه فاقد للمصداقية في اعتبار أو في نظر الآخرين، وهذا أمر مقطوع به، هم يعلمون ذلك.
طبعاً للأسف ولأن أكثرهم فاقدون أيضاً للمصداقية ومثلهم كمثله تماماً وسواء فإنهم ربما يُجامِلونه أو يُداهِنونه، وفي أكثر الأحوال هو يعلم أن هذا دهان وأن هذه مُجامَلات، أما هم فيقطعون بهذا، أنهم إنما فقط يُجامِلون، يُمشون أحوالهم! شيئ عجيب أن يكون المرء مُتديناً وأن يكون فقير وضحل وهش الشخصية، إذن هل هذا تدين؟ هل هذا دين؟ هل هذا ما أراده الله؟
قد يختلف اثنان، زوج وزوجة، صديق وصديقه، مُعلِّم وتَلميذه، يختلفان على مسألة بعينها، ويُقسِم الأول غير حانث أيضاً فيما يزعم أنه إنما يتعاطى هذا الأمر على وجهه، ولنفترض – مثلاً – النظافة، فتُقسِم الزوجة أنها نظيفة وأنها تقوم بواجبها، بما يُريح ضميرها، ويُقسِم الزوج أنه يرى غير ذلك وأنها ليست من النظافة إلا في شيئ قل، أي في شيئ قليل جداً! وفي نظري لو وقعت هذه المسألة لفقيه أو لمفتٍ أنه ينبغي عليه أن يُفتي بعدم الحنث في يمين كليهما، في يمينيهما جميعاً! هو غير حانث وهي أيضاً غير حانثة، والأمر مُعلَّق على شيئ آخر، هي عند نفسها وفي نفسها صادقة، وهو أيضاً عند نفسه وفي نفسه صادق، لاختلاف معيار ومفهوم النظافة عندهما، هي نشأت في أسرة وفي بيئة إذا كان حال المنزل بالطريقة الفلانية فهذه نظافة، هذا مُنتهى المُراد من رب العباد، أكثر شيئ! أما هو نشأ في بيئة أُخرى تعتبر هذه قذارة حقيقية وتفريطاً، وضع قمائمي! لذلك مفهوم النظافة اختلف، المعيار – الذي يُعيَّر به هذا المفهوم أو هذه الدلالة – مُختلِف عندهما، ولذلك سننطلق من هنا.
طبعاً لكم أن تقيسوا على هذا مئات وآلاف المفاهيم والمُدرَكات وكيف يختلف الناس حولها، السائد من أسف وللأسف لدينا أو لدى أكثرنا حول مفهوم التدين أنه أفعال وأقوال وسلوكات ومُعاناة، نتوجَّه بها إلى الله، الله سيلتقط ثمارها، أستغفر الله، اللهم غفراً، أي المُستفيد منها هو الله، هكذا! ولذلك حين نعمل لله ونصدق مع الله ونُخلِص لله نفهم أن الذي يأخذ هذا ويُحصِّله هو الله، ولسنا نحن، ولذلك مثل هذا المفهوم غير قابل – على الإطلاق علمياً غير قابل – للقياس، غير قابل للاختبار، كيف سنعرف أن الله تقبَّل، أن الله أخذ، وأن الله قطف هذه الثمار – إن كان يفعل وحاشاه، لا إله إلا هو -؟ هذا لن يبين ولن يضح مُطلَقاً في هذه الدار، ولذلك سيُرجأ الأمر إلى يوم القيامة، ولذلك الكل يُعوِّل على يوم القيامة، بيننا وبينكم الله تبارك وتعالى، الله سيقضي بيننا، لكن يا أخي انظر إلى نفسك أيضاً أنت، اقض أنت في قضية نفسك يا أخي، احتكم إلى ضميرك، انظر في مرآتك يا رجل، فقط تقول الله – عز وجل – سيقضي.
ولذلك نحن أيضاً – كما قلنا في الخُطبة السابقة – مرة أُخرى نُضلِّل ضمائرنا، نُضلِّل عقولنا، ونُضلِّل مداركنا بهذه الطريقة، لأن الله سيقضي، وسيقضي حتماً لنا عليكم، سيقضي لي ضدك وعليك، فتبقى دائماً الضحية، أما المفهوم الثاني – وهو المفهوم الديني الصحيح والقرآني الفصيح – مُؤسَّس على قواطع ومُحكَمات، أولاً الله غني عن العالمين، لا يُمكِن لأحد أن يعود إلى الله وعلى الله بشيئ ليس من خلقه وليس في مُلكه، بماذا تعود إلى الله؟ بماذا تعود على الله؟ أتعود بالغنى أو بالطعام أو بالشراب؟ بماذا؟ أتعود بالمال أو بالمنصب أو بالشهادات أو بالعلم أو بالفصاحة أو بالبلاغة؟ بماذا تعود إلى الله؟ أتعود بصلاتك وبركعاتك؟ وهناك آيات تُعَد بالعشرات، وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۩، هو يُريد الكمال لك، النتيجة عندك أنت، ما يُمكِن أن يُعيَّر ويُختبَرك في ساحتك أنت وفي ميدان نفسك أنت، ليس عنده هو، لا إله إلا هو!
طبعاً أنت وساحتك وكل ما في هذا الوجود في قبضته بلا شك، وهو الحكم العدل، لكن الثمار أنت تقطفها، مُرة كانت حنظلية أو حلوة عذبة، الثمار لك! مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۩، والله يُريد لنا الهداية، أن نهتدي لأنفسنا.
أرجو مِمَن لديهم شغف فلسفي أن يعودوا إلى مفهوم الموجود في ذاته والموجود لذاته عند سارتر Sartre، مع اختلافنا في بعض التقاطيع والقسمات، لكن هناك ما يُمكِن أن يُؤخَذ وأن يُضيء أمثال هذه المفهومات أيضاً بعُمق أكبر، الله يُريد أن نكون موجودات لذواتها، أن يتبرَّر وجودنا، أن تتبرَّر مسالكنا، وأن تتبرَّر مداركنا، هذا هو جوهر التدين الحقيقي، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۩، نتلو هذه الآية في كل خُطبة، يا ليتنا حاولنا أن نتعمَّقها! مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۩، وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۩، آيات كثيرة كلها تتضافر وتتساوق على تأكيد وتقرير هذا المعنى الواضح بذاته لمَن فهم جوهر الدين من أقصر طريق، جوهر الدين أن الله يُريد لنا الخير فقط، لا يُريد لنفسه الخير، لأنه غني، لا إله إلا هو! لا يُستكمَل هو ولا يَستكمِل ذاته بشيئ، هو الكمال المُطلَق، لا إله إلا هو!
إذا فهمنا التدين وفق هذا المعيار الجديد وضمن هذا الإطار الجديد ستختلف الحال بالكُلية، وسنغدو مُباشَرةً قادرين ومن أقصر طريق ودائماً وعلى طول الخط أن نختبر تديننا في أنفسنا، أن أختبر فعالي وسلوكاتي في نفسي، هل يُورِثني هذا غنىً ذاتياً؟ هل يُورِثني مُصالَحةً مع النفس، سكينةً، وداعةً، رضا، قناعةً، ثقةً، قوةً، وإشراقاً؟ وبالمُناسَبة هنا لابد أن نُقعِّد قاعدة، ولابد أن نجعلها على ذُكر منا دائماً، وهي الأقوال لا تتبرهن بالأقوال، أقول هذا لأننا ومن أسف أمة – في مُعظَمنا للأسف – مردت ومرنت على أن تعتقد – وهي تسلك هكذا – أن الأقوال تُبرِّر ذاتها، أي قيمتها ذاتية، غير صحيح! القول لا يُمكِن أن يُبرِّر ذاته، ولذلك تُوجَد هذه الحالة العجيبة الفُصامية، بمُصطلَح الدين هي حالة نفاق، انتبهوا! في المُصطلَح الديني وبوضوح – وهو مُصطلَح صادم ومُؤثِّر جداً – تُسمى النفاق، إذا حدَّث كذب، إذا وعد أخلف، إذا اؤتُمِن خان، إذا خاصم فجر، في رواية أُخرى إذا عاهد غدر، فيُصبِح مجموعها خمساً، هذه خصال النفاق العملي، وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۩ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا ۩، هذا هو النفاق! لماذا تقطع على نفسك عهاداً لا تستطيع أن تفي أو لا تُريد أن تفي به؟
هنا سأفتح قوسين لأُسجِّل حقيقة رقبتها مُنذ سنين، وأنا دائماً أتعمَّق تحليلها وإدراكها (بعض الناس – حتى لا نظلم أنفسنا أيضاً ولا نظلم مَن حولنا أو بعض مَن حولنا – يكون صادقاً حين يقطع على نفسه وعداً وحين يقطع على نفسه عهداً، وفي أحيان مُعيَّنة يكون هذا العهد كبيراً جداً جداً، إنه عهد بالفداء، يفديك! يُضحي بروحه من أجل الإسلام أو من أجل أخيه في الله أو من أجل حبيبه أو من أجل رئيسه أو من أجل ملكه، وطبعاً سأفتح أيضاً قوسين آخرين ضمن القوسين الأولين لأُسجِّل حقيقة أُخرى (وكل قول مهما بدا ميسوراً وتافهاً تقريباً سيأتي وقت امتحانه)، ما رأيك؟ تزعم لملك من الملوك – ملك في مُلكه، ملك في ثلاثين أو في أربعين مليوناً من البشر، عنده من الجيش والخدم والحشم والضباط والاستخبارات ووكالات الأمن ما الله به عليم وما المظلومون طبعاً به عالمون أيضاً – وتقطع عهداً على نفسك أمام هذا الملك أنك من فرط المحبة والعشق – ما شاء الله – ستفديه، قد تكون تعشق المصالح والمادة، ولا تعشق هذا الملك، تُضلِّل نفسك أيضاً، نحن خُبراء جداً في تضليل أنفسنا، انتبه! الإنسان بشكل عام – لسنا كمُسلِمين فقط وإنما الإنسان بشكل عام – خبير جداً وماهر في تضليل نفسه، غريب! ومن هنا سر تناقضاته، اليوم يكون في موقف، وغداً يكون في موقف مُخالِف تماماً، اليوم يصدر عنه تقويم مُعيَّن لحالة أو لشخص أو لسياسة أو لأي جهة، وغداً يصدر عنه تقويم مُعاكِس تماماً، ما القصة؟ لأنه يُضلِّل نفسه، قبل أن يُضلِّلنا ونتهمه بالكذب وأنه كذّاب هو يُضلِّل نفسه، مسكين! هو ضحية، هو أول ضحايا هذا الزيف، هو أول ضحية كما نقول دائماً، على كل حال تقطع عهداً أمام هذا الملك أنك تفديه إذا اقتضى الأمر أو بالأحرى إن اقتضى الأمر – أحسن أن تقول إن اقتضى الأمر، لأنك لست مُتأكِّداً، لو كنت مُتأكِّداً لما قطعت هذا العهد، فالأحسن ألا تقول إذا، الأحسن أن تقول إن – بروحك، صدِّقني في مُعظَم الحال قد يأتي اليوم ووقت الامتحان أن تُبرهِن هذا القول، وهل ستفديه بروحك؟
حين كنا صغاراً – كنت صغيراً غِراً، كل الصغار أغرار، مع احترامي لبراءة الصغر، ونحن كنا صغاراً، ولعلي مثَّلت بهذا مرة في خُطبة قديمة في مسجد الهداية – كنا ننظر إلى الملك إدوارد Edward – إدوارد الثامن Edward VIII – الذي تنازل عن العرش من أجل وفائه لحُب امرأة أمريكية الأصل والدستور يمنع والأعراف هناك تمنع على أنه رجل بعبارة واضحة تافه، تنازل عن عرش – لأننا نُقدِّس المناصب طبعاً والألقاب والمُلك – من أجل امرأة! طبعاً هذا الكلام، هذا الاحتقار، وهذا الاستتفاه جاء على خلفية احتقار المرأة أيضاً، من أجل امرأة! لو كان تنازل عن عرشه من أجل وفائه لصديق – مثلاً – في حالة أُخرى لعظَّمناه، لكن هذا من حيث أننا نحتقر المرأة للأسف الشديد، نعتبرها كلا شيئ، فاحتقرنا هذا الرجل.
أما اليوم فأنا أنظر إلى فعلته بمُنتهى الإعجاب، أُقسِم بالله! هذا إنسان عظيم، وددت أني ألقاه، فقط أتشرَّف برؤية هذا الإنسان، يتنازل عن عرش وفاءً لعهد الحُب، أحب سيدة مُعيَّنة ووعدها بأني يبني بها – أي يتزوَّجها – وظل وفياً لوعده، كلَّفه ذلك أن يتنازل عن مُلك، مَن يفعل هذا؟ ائتني بأعظم المشايخ وأعظم اللحى وأعظم الزهّاد والنُسّاك ليفعل هذا، لن يفعله! وهم القائلون – العارفون بالله هم القائلون – آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حُب الإمارة، هذه ليست إمارة، هذا مُلك يا حبيبي، بريطانيا العُظمى! تنازل ببساطة مع أنها رجته وتوسَّلت إليه ألا يفعل، لأن التاريخ سيذكرها ذكراً يُسيء إليها، على أنها هي السبب وراء هذا، بالعكس! أنا أعتبرها محمدة عظيمة جداً جداً، هذا إنسان له مصداقية، مصداقية كاملة! بلا شك هذا إنسان لقيَ تربية مُتميِّزة من نوعها، ليست تربية عادية، فعلاً تربية ملوك، يستحقون المُلك، أمثال هؤلاء يستحقون أن يكونوا ملوكاً، هم جديرون بالمُلك والمُلك جديرٌ بهم تماماً، اختلف الآن التقييم، لاختلاف المفاهيم، واختلفت الزوايا، أي زوايا النظر، للأسف كنا نحتقر هؤلاء ونضرب بهم المثل على التفاهة والسخافة، مع أنهم عظماء حقاً!
نحن نُمتحَن أحياناً ليس بالمُلك وليس بفداء الأرواح، بما هو أتفه من هذا بكثير، بشيئ يسير جداً جداً جداً جداً، أحياناً بكلمة، لكن ليس لذاتها وإنما للموقف، كلمة في موقف! تزعم محبتك لشخص وتقديرك وتوقيرك وتبجيلك، وإذا اقتضى الموقف أن تدفع عن عرضه وأن تقول ما تعتقد أنت في هذه الحالة فأنك تنكص لأن هذا سيُفوِّت عليك مُصيلحة بسيطة، مصلحة بسيطة ربما تُقوَّم بمائة يورو أو بخمسمائة يورو، إذن الآن في هذا السياق أحسن ألا نقول، ما شاء الله! أين الشخصية هنا؟ أين الرجولة؟ أين المصداقية؟ كيف تنظر لنفسك في المرآة إذن؟ كيف تنظر؟
في القديم – كنا نحن صغاراً أيضاً ونتعلَّم هذا من المشايخ والوعاظ، لكن هذه حقائق تاريخية – عرفنا قصة الرجل الذي رهن حياته بكلمة، بكلمة! قال أنا ضامن، ضامن أحد المحكوم عليهم بالإعدام، أنا أضمنه، وإن لم يعد في الموعد المضروب بعد ثلاثة أيام فلأُقتَل أنا، ضمنه! رهن حياته بكلمة ووفى بها، وكادت عُنقه تُقَط، كادت رأسه تُقَط، كلمة! مع أنه لا يعرفه، وليس بينه وبينه صداقة، لكنها النخوة والمروءة والرجولة واحترام الذات والقوة).
سأنطلق هنا لأُقرِّر مسألة رئيسة في خُطبة اليوم، نعرف عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – مثلاً، والمفروض أن نستغرب جميعاً من الآتي، لما كبر هذا الرجل وعلت سنه – لما كبر وعلت سنه – كان يقول يا ليتني قبلت الثلاثة الأيام التي ذكر لي رسول الله! صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، وفي رواية يا ليتني قبلت أو أخذت برُخصة رسول الله! عن ماذا يتحدَّث هذا الشيخ الوقور الجليل العابد الراوية العلّامة والزاهد أيضاً؟ يتحدَّث عن أمر وقع له صدر حياته مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والحديث أصله في الصحيحين، سأذكر سياقة جامعة مُختصَرة، قال يا عبد الله ألم أُخبَر أنك قلت كذا وكذا؟ هو قال لأصومن ولن أُفطِر ولأقومن الليل ولن أنام ما عشت، قال بلى، قلت ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول، قلت هذا، قلت! قال فإنك يا عبد الله لا تستطيع، أن تصوم فلا تُفطِر وأن تقوم فلا تنام ولا تركض، لا تستطيع! الإنسان إنسان، وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩، فصُم وأفطر، وقُم ونم، وقال وصُم من الشهر ثلاثة أيام، فالحسنة بعشر أمثالها، يعدل ذلك أو ذلك يعدل أو عدل صيام الدهر، ثلاثة في عشرة يُساوي ثلاثين، كأنك صُمت الشهر كله، كأنك صُمت السنة بطولها، قال يا رسول الله فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال فصُم يوماً وأفطر يومين، قال قلت إني أُطيق أفضل من ذلك، قال فصُم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صوم أو قال صيام داود، وهو أعدل وفي رواية أفضل الصوم، قلت فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال لا أفضل من ذلك، لا أفضل من ذلك! في رواية فلعلك أن يطول بك عمر يا عبد الله، فلا تستطيع، انظر إلى هذا، يا أخي ما هذا؟ عقل كبير وتقدير، تقدير عجيب! صلى الله عليه وسلم، الرسول ليس ابن اللحظة وليس ابن الفعل ورد الفعل فينفعل لحظياً دراماتيكياً، لا! رجل مُحيط بأدبار الأمور وأعقابها وشروطها وسياقاتها المُختلِفة.
كبر الرجل، كل هذا سمعناه وهو طبيعي، شيئ عادي هذا! الشيئ غير العادي أنه لما كبر وعلت سنه شق عليه هذا، شق أن يصوم يوماً ويُفطِر يوماً، وأن يقرأ القرآن في ثلاث، في كل ثلاث أن يختم كل يوم عشرة أجزاء، وظل مُحافِظاً على هذه السُنة الحميدة المُجهِدة المُتعِبة، لكن لماذا لم يترك مع أنه صعب عليه؟ لأنه قطع على نفسه أمام نفسه وأمام الرسول وعداً وعهداً، سيلتزم هذا، انتهى! لابد أن يلتزم حتى الممات، انتهى! هذه رجولة، أعلمتم لماذا فتحوا العالمين؟ لماذا ضوّأوا الدُنى هؤلاء؟ لماذا هم فعلاً السلف الصالحون وخير سلف؟ عار علينا أن ننتمي إليهم، أقولها بكل وضوح، عار! عار أن نتبَّجح بأنهم أسلافنا، أين نحن منهم؟ ما الذي ورثناه منهم؟ أين احترام الكلمة؟ أين احترام العهد؟ أين الوفاء بما نقطعه على أنفسنا في صغير الأمر وكبيره؟ غير موجود!
وقع لي مرة مع أحدهم – طبيب على وشك التخرج، شاب عاقل ومُتدين، يقوم الليل ويبكي خلفي – موقف، ائتمنه على سر لأجل مصلحته، واستحلفته بالله على المُصحَف فحلف، وبعد ساعة كانت البلد كلها تعلم السر، ما هذا؟ ما هذه الصبيانية؟ هذا يجعلك تفقد الثقة بأكثر هؤلاء، بأكثر مَن حولك، ولكن مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم، أنت لست استثناءً، لو ظننت نفسك استثناءً فأنت أيضاً مُزيّف، لا! لست استثناء، ولكن أيضاً هناك مَن يصدمونك ومَن يروعونك بمثل هذه الصبيانية، بمثل هذا من عدم النضج في التصرف مُطلَقاً.
النُقطة التي أود أن أنطلق منها وهي نُقطة رئيسة في خُطبة اليوم هي نُقطة الارتكاز، على ماذا ترتكز؟ على ماذا أرتكز؟ إذا كانت نُقطة ارتكازك ذاتية وباطنية – مركز الثقل فيك داخلي – أنت قوي، وأنت شخصية غنية وشخصية ثرية وشخصية مُحترَمة، جعلني الله وإياكم كذلك، إن لم تكن كذلك أو إن لم يكن الأبعد كذلك قطعاً لن تكون له نُقطة ارتكاز خارجية، لأن نُقطة الارتكاز الخارجية لن تكون نُقطة ارتكاز، لابد أن تكون له نقاط ارتكاز خارجية، من جميع جوانبه، في كل أحواله وظروفه، فهو هش، لا يصمد، لا يتماسك، لا يستمر، ولا يثبت المسكين باستمرار، هل تعلم ما هذه النقاط؟ ما نقاط الارتكاز الخارجية؟ السُمعة، المنصب، الشهادة، المديح، التحفيز، التنويه به، التعظيم، والتبجيل، فلان وفلان! حتى يستطيع أن يستمر المسكين، لابد من كل هذه الأشياء، فضلاً عن المُكافأة.
السؤال الآن الحرج جداً كيف لنا بنُقطة الارتكاز الداخلية هذه؟ مسألة تربوية بلا شك طبعاً، لها جانبها العقلي والفلسفي! بحسب منظورنا كمُسلِمين قرآنيين لا يُمكِن أن تتحصَّل على نُقطة ارتكاز ذاتية حقاً إلا بنُقطة ارتكاز فوق كونية، لذلك لا أصفها بأنها خارجية، لا! هي فوق كونية، إنما الإيمان بالله، بالله! بالمُطلَق، بالكمال المُطلَق، بالعلم المُطلَق، بالقدرة المُطلَقة، بالغنى المُطلَق، وبالرحمة المُطلَقة، لا إله إلا هو! بكل هذه المُطلَقات، هذه نُقطة ارتكاز فوق كونية، فوق خارجية، أكبر من أن تكون كونية أو خارجية.
لذلك هناك إيمانان: إيمان بالله وإيمان بنفسي، طبعاً لا يُوحين إليك مُصطلَح الإيمان بالعبادة، أنك تعبد نفسك، بالعكس! نحن نُؤمِن حتى بالرسل وبالأنبياء وبأشياء أُخرى، ولا نعبدهم، لا! الإيمان شيئ والعبادة شيئ آخر، نُؤمِن بالله ونعبده، هذا بلا شك مقطوع به، ونُؤمِن بأنفسنا ولا نعبدها، نحن برءاء من عبادتها، لكن أيضاً لسنا كافرين بها، لسنا مُحتقِرين لها، لسنا مُدسين – وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ۩ – لها أبداً، نحن نُحاوِل أن نُزكيها وأن نُعلي من شأنها، لكن استناداً إلى نُقطة الارتكاز المُطلَقة.
إذن إيمانان، لا يصلح أحدهما بغير الآخر، ما رأيكم؟ إيمان بالله وحده لا يصلح، إيمان بالذات وحدها لا يصلح، في نظري نموذج الإيمان بالذات أكبر مَن يُمثِّله نيتشه Nietzsche، أكثر مَن قرأت له وأكثر مَن التقطت أنه مُؤمِن بذاته إلى درجة عجيبة جداً جداً الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche، أكثر شخص أستطيع أن أُقرِّر أنه مُؤمِن وآمن بذاته، حتى النموذج هذا والسوبرمان Superman الذي كان يُبشِّر به في كل ترنيماته وأشعاره وكتاباته هو نوع إسقاط لشخصيته القوية فيما يبدو لنا ولنفسه على هذا الأُنموذج الخارجي الفلسفي التجريدي، لذلك فلسفته كلها أنا أعتبر أنها فلسفة إسقاطات بالمُناسَبة، وهو ينطلق دائماً من ذاته في كل كتاباته، لكن النهاية ماذا؟ تحطَّم، تهشَّش، وأظلم عقله إحدى عشرة سنة، انتهى كل شيئ! تحطَّم عند نُقطة بسيطة جداً جداً، إيمان بالذات – أي نُقطة ارتكاز ذاتية – من غير نُقطة الارتكاز المُطلَقة هذه يعني تحطم الإنسان، عاجلاً أو آجلاً لابد أن يتحطَّم، لن يستمر حتى النهاية، مُستحيل! وربما يُحطِّم غيره معه، ربما يُحطِّم غيره معه ككل الشموليين – انتبهوا – المُؤمِنين أيضاً إيماناً شبه مُطلَق بذواتهم، حطَّموا غيرهم وحطَّموا أنفسهم في النهاية.
إيمان بالله وحده مثل ماذا؟ مثل إيماننا، مثل هذا الإيمان التقليدي الذي يُجيز بلورة حالة غريبة عجائبية من الإيمان والتدين مع فقر الشخصية وعدم مصداقيتها، هذا هو! هذا إيمان فيما نزعم، إيمان بالله دون إيمان بالذات، نهب لماذا؟ يترك صاحبه نهباً للملق والدهان والتنويه والمديح والمُكافأت والأجزية والأثوبة و… و… و… إلى آخره، أي الاستعراضية، الرياء، والنفاق، استعراضي! كيف؟ سنُفرِّق بينهما – بين هذه الحالات – بهذا المثال المضبوط جداً.
كيف أعرف أنني مُؤمِن بالله ومن ثم مُؤمِن بنفسي؟ الأولوية للإيمان بالله، فيتحقَّق الإيمان بالنفس على صيغة مُستقِرة مُتصالِحة، لا يُستقطَب فيها الإنسان بين قُطبين يخلقان بينهما مجال توتر دائم، ينتهي بحرق الأعصاب وربما بإظلام النفس والعقل معاً، لا! حالة تصالح وتساكن حقيقية، سكينة! هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۩، كيف نعرف؟ عبر هذا المثال المضبوط الاختباري.
حين تفعل ما تفعل لأي سبب تفعله؟ وماذا تنتظر من فعله؟ طبعاً نفعل أحياناً لأسباب كثيرة، تتعدَّد وتختلف وتتباين هذه الأسباب، وما ننتظره أيضاً كثير، المُؤمِن بالله والمُؤمِن بذاته – صاحب نُقطتي الارتكاز – لا يفعل ما يفعل إلا تلبيةً – لماذا؟ – لحاجة، لتوق باطني، يجعله يشعر باستقرار أكثر، بمُصالَحة أكثر، حين يمد يد العون، حين يقول بالحق، حين ينطق بالحق، ولو كلَّفه ذلك أن يُسجَن أو تُشوَّه سُمعته أو يفقد وظيفته، أحياناً المغارم تكون صعبة جداً جداً، هذه فلسفة الابتلاء والامتحان، طبعاً كل شيئ – كما قلنا – لابد أن يُمتحَن، الأقوال لا تتبرهن بالأقوال، تتبرهن بالمواقف وبالأفعال.
هناك فكرة لم نُكمِلها وسنعود إليها، هل تعرفون ما هو الجزاء الذي ينتظره؟ هو لا ينتظر جزاءً، الفعل الذي يفعله – فعل الكمّل، فعل الكمال، وفعل الخير – هو نفسه جزاء ذاته، وهو يشعر براحة عجيبة جداً جداً حين يفرغ من هذا الفعل، انتهى! ولا ينتظر شيئاً، ما لكم؟ حتى لا يحسب على الله حساباً، بعض الناس يُريد أن يُتاجِر مع الله مُتاجَرة حقيقية، في القرآن هناك تجارة مجازية، لكنه يُحوِّلها إلى حقيقة، يُريد حساباً! ولذلك هو يُغرَم بالأحاديث التي فيها إحصاء، بمائة ألف حسنة، بألف ألف حسنة، بألفي ألف حسنة، وأكثر هذه ضعيف، أكثرها ضعيف! القرآن ليس فيه هذا، ليس فيه مثل هذا، فيه تضعيف عام، لكي يُقرِّر مفهوم التضعيف فقط، يعكس جود الله وكرم الله، لكن ليس فيه بألف، بألف وألفي، بألف ومائة، بألف وخمسين، بألف وسبعين، بألف وكذا، ليس فيه هذا! هذه ليست طريقة القرآن الكريم، هذه طريقة مُقايَضة ومُتاجَرة، لا! إنها طريقة تنمية الذات، إثراء شخصيتك أنت، هذا يعود إليك، فهذه هي حسنة هؤلاء.
أما الآخرون فإنهم يفعلون لأسباب أو لأُخرى وينتظرون، ينتظرون نعم في الدنيا قبل الآخرة، ينتظرون مُباشَرةً! فإن لم يحصل فعلوه هم، حتى ولو على حساب فضيحة الآخرين الذين قدَّموا إليهم مُساعَدات، لا يهم! ليُفضَحوا، ليفهم الناس أنني أعطيته عشرة آلاف مُساعَدة، ليفهم! ليفهم الناس أنه شحّاذ، ليفهم! الأهم أن يفهموا أنني جواد كريم، الله أكبر! ما هذه الشخصية؟ هذا شخص فقير جداً جداً، هذا يشتري ما يظن أنه سُمعته وصورته، وفي الحقيقة هو يشتري تقويض شخصيته بالنقود، فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۩، سينهار تحت ثقل هذه الاستعراضية المريرة التائهة الشرود للأسف الشديد، ولو على حساب الآخرين، ولو على حساب سُمعة الآخرين، أعني فضيحة الآخرين، سيفعلها!
لأكون أكثر وضوحاً أتساءل لِمَ يزعم أحدنا أنه وهب الناس – مثلاً – أموالاً ومُساعَدات، وفي الواقع هو لم يهبهم، هو أقرضهم؟ لِمَ؟ لِمَ هذا الزيف؟ يُشعِرني هذا بالمرارة، أرى هذا في مَن حولي تماماً، يُفهِمك وربما لفترة طويلة أنه يُعطي فلاناً وفلاناً مُساعَدات لوجه الله، وفي الحقيقة هذا الفرق عنده بين المُساعَدات والقروض بسيط جداً، لكنه ليس بسيطاً، هو كبير جداً جداً، هذا الفرق ما سيُفجِّر العلاقة بينك وبين هذا إن عجز عن دفع نُصف أو ثُلث دينه المسكين، أليس كذلك؟ لماذا تزعم لي أنك وهبته هذا؟ لماذا تزعم أنك وهبته؟ فقدان المصداقية، الكذب! الكذب على النفس والكذب على الآخرين، لا يهم الكذب الآخرين بمقدار ما يهم الكذب على النفس، لِمَ تزعم هذا؟ لِمَ تتشبَّع بما لم تُعط؟ النبي قال مَن تشبَّع بما لم يُعط أو المُتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور، لِمَ تأتي بشهادة اشتريتها؟ أنت تعلم انك اشتريتها، أليس كذلك؟ وتعلم أنك لم تكتب حرفاً واحداً في الأطروحة، أليس كذلك؟ تعلم هذا! لِمَ تأتي عند نقاش مُعيَّن مع أهل الاختصاص في هذه المادة وتجعل رأسك برأسهم وتغضب وتُظهِر النخوة العلمية وأن لك رأيك ولك موقفك مع أنك لست من أهل هذا الميدان؟ أنت رجل دخيل على هذا الميدان، لن أُعبِّر بتعبير أكثر، فلِمَ؟
لا يعنيني ما يقوله بعض الناس، المسكين قد يجد لنفسه مُبرِّراً أو آخر أنه اشترى المادة، هو حر، هذا بينه وبين نفسه قبل أن أقول بينه وبين الله، وفي الحقيقة كل ما يصح أن يُقال بينه وبين الله ولله أو لوجه الله في النهاية وفق فلسفتنا الجديدة هو بينه وبين نفسه، لنفسه، وفي نفسه، نفس الشيئ، انتبه! هذا هو، الله لا يُريد شيئاً منا، هذا لنفسك أنت، والمسألة تتعلَّق بك أنت شخصياً، لِمَ تُظهِر الغضب الزائف هذا؟ لأنه لم يُؤخَذ برأيك في تخصصك، وأنت تعلم أنك دخيل، بألف يورو أصبحت مُتخصِّصاً، بألف يورو! بعشرة آلاف يورو أصبحت دكتوراً كبيراً، لماذا؟ لِمَ هذا الزيف؟ والمعذرة طبعاً، لا أعلم أي حالة حقيقةً، الآن لا أعلم أي حالة، أقرأ عن هذا في الصُحف والمجلات، لكن – بفضل الله – لا أعلم وأنا لا أُحِب أن أعلم فضائح الناس، فإذا كان بعض الناس تورَّط فلا يأخذن شيئاً في باله حقيقةً، أنا لا أُحِب أن أُحرِج أحداً أو أن يشعر حتى بالحرج بينه وبين نفسه، والله لا أُحِب هذا ويُؤلِمني، مُمكِن تكون هناك حالات لا أدريها، فالمعذرة ثم المعذرة ثم المعذرة، أنا أتكلَّم بشكل تجريدي عام، ويُؤذيني أيضاً أن بعض الناس يحمل الكلام على نفسه، كأنني جئت هنا – أُتعِب نفسي وأُتعِبكم – لكي أُعلِّق على حالة شخصية، أعوذ بالله! هذا سيكون أيضاً ضرباً لمصداقيتي أنا كمُتحدِّث وسيكون صغاراً مني وتفاهة، مُستحيل! مُستحيل أن كبيراً نضجاً يفعل هذا، عيب! هذا عيب أن يُفعَل، لكن هذا ما يحدث.
على ذكر هذه المصداقية أتساءل ما معنى المصداقية؟ نُكرِّرها كثيراً ونزعمها أحياناً لأنفسنا وفي غيرنا فهل درينا معناها؟ هل درينا معناها حقاً؟ لها معنيان، لا تتحدَّد إلا بهما جميعاً، إي بالمعنيين كليهما، المعنى الأول أن كل ما تقوله لابد أن تأتي أفعال تُصادِق عليه وتُبرهِنه، المعنى الذي أحببت أن أُكمِله ولم أفعل ما هو؟ بين مُزدوَجين (قلت هناك حالات يزعم فيها الرجل أنه صادق وأنه لم يكذب على نفسه ولم يكذب عليك، وأنا أقول أيضاً هو صادق، لكن حين يُمتحَن قوله الصادق فإنه مُباشَرةً يُترجِم عن أدنى درجات النجاح، فاشل! راسب تماماً، عند امتحان بسيط يفشل، وكما قلت هذا الامتحان أحياناً لا يُكلِّف أكثر من موقف صادق، من كلمة، من مبلغ من المال تافه وبسيط، انتبهوا! بعض الناس يفعل الآتي، أنا رأيت هذا فينا نحن العرب بالذات، وهذا أيضاً مُؤذٍ، ما هو؟ التشبث بأذيال العدل، العدل يا أخي! بالعدل قامت السماوات والأرض يا أخي، كل شيئ عنده العدل، العدل! هذا إذا اقتضى الأمر أن يُحصِّل حقوقه هو كما يُقال على دائر المليم، عند حقوقه يتحدَّث عن العدل، يا سيدي النفوس العظيمة والكبيرة لا تتشبَّث بالعدل على هذا النحو، نسأل الله – عز وجل – ألا يأخذنا بعدله على هذا النحو، لأننا سنهلك جميعاً، بالعكس! النفوس الكبيرة هي نفوس الفضل، نفوس الفضل! بمعنى ماذا؟
بمعنى أنهم إذا سُئلوا لم يُعطوا على قدر السائل وإنما أعطوا على قدرهم هم، لن يقول صاحب النفس الكبيرة فلان له علىّ يد بخمسة فأُعيد له يداً بخمسة، مُستحيل! هذا المسكين أكثر ما في طوقه خمسة، وهذا كثير، وتذكَّروا حديث سبق درهم مائة ألف درهم، هكذا هو صاحب الفضل وصاحب النفس الكبيرة، المسكين هذا مُرتَّبه ألف يورو، حين يجود وحين يُساعِدك بألف يورو يعني هذا أنه أعطاك واحد على اثني عشر من جُهده لسنة كاملة وهو رب عائل، هذا كثير، لكن أنت مُرتَّبك عشرة آلاف يورو، حين تجود بألف يعني هذا أنك بخيل حتماً، أنت كزاز، كزاز حتماً! أنت نفسك ضيقة.
الإمام مالك يبعث إلى الليث بن سعد – إمام أهل مصر، رضيَ الله عنهما – لكي يطلب إليه شيئاً، فيبعث إليه أحمالاً تفي بحاجة أهل المدينة المُنوَّرة كلهم، تكفي مالك لألف سنة، أشياء كثيرة جداً جداً، لو أراد مالك أن يتجر بها لأصبح مُتموِّلاً غنياً، فيندهش مالك، يبعث إليه قائلاً يا إمام نحن طلبنا منك شيئاً لأولادنا وأزواجنا وإمائنا! قال أنت طلبت بقدرك ونحن أعطيناك بقدرنا، هذه نفوس يا أخي عظيمة، نفوس عظيمة! لم يقل العدل يا أخي، ما الذي أعطاني إياه في يوم من الأيام؟ انتهينا! فقدان المصداقية الآن، عُدنا إلى الصغار النفسي والمسلكي، المصداقية غير موجودة).
أتساءل دائماً في نفسي لِمَ يا إخواني؟ لِمَ حين شُنت هذه الحرب الضروس الظلوم الجائرة على العراق الحبيب سمعنا عن وزراء – ولن نُعيد الأسماء ولكنها معروفة – في الغرب هنا وعن سفراء ستة بريطان وأمريكان – أكثرهم بريطان، من الدولتين الكُبريين اللاتين باءتا بكبر هذا العدوان الأثيم الغشوم – استقالوا مُباشَرةً؟ لا يُريد وزارة ولا يُريد سفارة، موقف! ما هذه المصداقية؟ كيف فعلوا ذلك؟ ليس سهلاً، انتبهوا! نتسلى بذكر هذه الأشياء، لكن هذا ليس سهلاً مُطلَقاً، لماذا؟ لأنه لم يفعلها عربي من المكلومين ومن المجروحين، منا نحن المُهانين المُذَلين بهذا الاستعمار الجديد، لم يفعلها أحد منا! لم يستقل أحد احتجاجاً، فقط الجواب لأننا فاقدون للمصداقية، لا مصداقية لدينا، نحن أُناس أدمنا الكذب والزيف والكلام فقط، نُدمِن الكلام، رُبينا على هذا.
ولذلك أعود أيضاً مرة أُخرى لأقول هذا الشخص الذي يزعم أنه صادق ويفشل في الامتحان – صدِّقوني – لا يتخالجه شعور بالعار، في ذاته لا يشعر بالعار، نعم أنا قلت سأُعطيه والآن لن أُعطيه أي شيئ، أنا عندي مليون وأنت تحتاج مليماً ولن أُعطيك، لكن أنت قلت يا أخي ستُعطيني حياتك والآن أنت تبخل علىّ بمليم! نعم أبخل، هذا طبيعي، ولي الحمد والشكر أنني قلت هذا في يوم من الأيام، سررتك به، منيتك، تفضَّلت عليك بالأقوال! هل تعرفون لماذا هذا المسكين هو صادق عند نفسه ولن نتهمه بالكذب؟ لأنه نشأ في بيئة وفي أسرة وفي مُجتمَع تعلّم أن كل شيئ هو قول في قول في قول، صدِّقوني! رأى هذا في أبيه، في أمه، في أخيه، في أستاذه، في شيخه، في جاره، في كبير الحارة، وفي شيخ العشيرة، كلها أقوال! رأى الناس تتكاذب وجهاً لوجه، مع أنهم مُتصالِحون، كيف؟ كنت أرى هذا وأنا صغير، وكلكم رآه أيضاً، كلكم هذا الرائي، يدخلون إلى العزاء – إلى المأتم – وهم يضحكون ويغتابون أهل الميت والميت نفسه الذي لم تبرد روحه كما يُقال، وإذا دخلوا مُباشَرةً لبسوا قناع الحُزن، فيُقال عليم الله أو يعلم الله أننا أُصبنا أكثر منكم، كم سعمت هذا! وكم كنت أحتقر نفسي أنني في مُجتمَع كهذا! ما هذا؟ ألهذه الدرجة التكاذب؟ قيل افتُضِحوا فاصطلحوا، لأنهم كلهم كذّابون إلا مَن رحم الله، فانتهى! أسكت عنك وتسكت عني وينتهي الأمر، معروف! كذب في كذب، عليم الله أو يعلم الله أننا حزنا عليه وأُصبنا به مثلكم وأكثر قليلاً، يا كذّاب! هل أُصبت مثلهم؟ هل هناك مَن يُصاب في الميت مثل أهله؟ لماذا هذا الكذب؟ أنت كنت تغتابه على الباب الآن، على العتبة! على العتبة كنت تغتاب الميت، قلت ستر الله علينا، رحمة الله عليه على كل حال، راح فرحمة الله عليه، لا نُريد أن نتكلَّم، الله! ما الحاصل يا إخواننا؟ ما الحاصل في هذه المُجتمَعات المنكوبة بنفسها وبقيمها المُهترئة البالية؟ ولا أحد يرفع عقيرة!
أرفض الاقتراح، أكثر شيئ أكرهه الاقتراح، هل تعرفون ما معنى الاقتراح؟ أن يقترح علىّ أحد أن أتكلَّم الآن عن الموضوع الفلاني، لا! لست مُهيئاً لهذا ولا أُحِب، لست صادقاً إن تكلَّمت فيه، ليس عندي الدفعة النفسية أن أتكلَّم فيه، أياً كان هذا الموضوع، حتى وإن كان مدحاً لسعيي أو مدحاً لعملي أو مدحاً لإخواني، لست مُهيئاً، لست صاحب اقتراحات، بعض الناس فقط يكفيه أن تقترح عليه موضوعاً، ويُسهِب مُباشَرةً، ينبعق في الحديث ساعة وساعتين، بما لم ير ولم يسمع ولم يتحقَّق، مع أنه يقرأ وربما قرأ للتو وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ۩، ولا يشعر بحريجة ولا يتخالجه شعور بالنقص، أنه إنسان غير طبيعي، أنه إنسان – حاشاكم جميعاً وأكرمكم الله – وضيع، هذه وضاعة! هذه وضاعة حتى وإن كان أكبر شيخ وأكبر فيلسوف، هذا إنسان وضيع.
طُلِب إلىّ قبل أيام من رجل أُحِبه حقيقةً وأُجِله والله – ولو كنت لا أشعر لما قلت هذا – أن أُقيِّم مشروعاً، عنده مشروع تربوي، فمُباشَرةً بدهته – هذه طبيعتي والناس صُدِموا، لكن قلت هذا درس لنتعلَّم، ينبغي أن نتعلَّم عملياً، وإلا لن نتعلَّم، سنبقى كذّابين، سنبقى اقتراحيين ومُجامِلين ومُزيِّفين – وقلت له سأفقد مصداقيتي عند نفسي على الفور أن تكلَّمت في مشروع لا أعرف عنه شيئاً، أتمنى لكم ولمشروعكم كل خير، لكن أنا لا أعلم شيئاً عن هذا المشروع الطيب الذي أدعو الله له – إن شاء الله – بالامتداد والنماء، لا أعرف عنه شيئاً، لم أقف على مناهجكم، لم أُراقِب طرق تدريسكم، ولم أر مُستويات أساتيذكم، لم أعرف شيئا! فكيف أمدحكم؟ هل أمدحكم لأكون كذّاباً؟ لا، النبي قال على مثل الشمس فاشهد، إذا أردت أن تشهد على أمر لابد أن يكون مثل الشمس.
الخطيب الروماني والمُشرِّع سنكا Seneca – وهو فيلسوف أيضاً حكيم – كان يقول لا تقل لي، دعني أرى، لا تقل لي، القول! نحن أمة أدمنت القول!
إذَا نُصِبُوا لِلْقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا وَلَكِنَّ حُسْنَ الْقَوْلِ خَالَفَهُ الْفِعْلُ.
ومن هنا تناقضنا مع أنفسنا، كيف؟ كيف أنبعث الآن مادحاً لأخي هذا مثلاً؟ أمدحه وأقول هذا عنوان الأمانة، مثال الصدقية في التجارة مثلاً، رجل – ما شاء الله – من المُحسِنين، لا أُزكيه على الله، والله حسيبه، ثم بعد ساعة مُمكِن أقول هذا أعوذ بالله يا أخي منه، يا أخي نحن فقط قلنا ما قلنا بسبب كذا وكذا، أعوذ بالله، والله الذي أعلمه عنه غير هذا، أنا أتناقض مع نفسي! هل تعرفون لماذا؟ لأنني حين مدحته لم أمدحه لأنني أشهد على مثل الشمس – كما قال النبي – أبداً، ولم أمدحه لأنني أُريد أن أُبرئ ذمتي من قضية رجل هُضِم حقه ونُبِذ بما ليس فيه، فأردت أن أُعيد الميزان إلى استوائه، لا! ليس هذا دافعي وليس هذا باعثي، إنما فعلت هذا ليُقارِضني مدحاً بمدح، بمعنى أنني أرشوه رشوةً معنويةً، هذه الرشوة الرمزية! هل تعلمون كم نتراشى؟ نتراشى كثيراً بالمُناسَبة، أُحِبك في الله، وأنا أُحِبك في الله يا أخي، بالله لا تقلها إذا لم تكن مُطمئناً منها، أحياناً أفعل هذا ثم أعود إلى نفسي، هل أنا وقح؟ أعوذ بالله، أكره الوقاحة، ولكن لا أشعر أنني أُحِبه في الله حقاً، فأقول له أحبك الذي أحببتني من أجله، عرفتم الآن سراً، مُشكِلة هذه! إن كنت تشعر أنك تُحِبه قل له وأنا – والله – أُحِبك في الله، إن لم تكن قل له أحبك الي أحببتني من أجله، وكُن صادقاً، لماذا؟ ليس لأجله، كُن صادقاً مع نفسك، حتى تستطيع أن تنظر في وجهك، حتى تستطيع أن تحترم هذه الشخصية، المصداقية يا إخواني! ينقصنا الكثير الكثير الكثير من المصداقية.
إذن المصداقية – كما قلنا – أمران، الأمر الأول أن تُصدِّق الأعمال الأقوال، ولنتذكَّر دائماً الأقوال لا تتبرهن بالأقوال أبداً، مهما حلفنا وأقسمنا وأكَّدنا وذرفنا الدموع من فرط التأثر ونحن نزعم ما نزعم، كله كلام فارغ! لا تقل لي، دعني أرى، انتبه! فقط دع الأيام تُبرهِن، وسيأتي – كما قلت سابقاً، وهذا أشبه بالقاعدة – يومٌ يُمتحَن فيه قولك ودعواك وزعمك، انتبه! كل شيئ – والله العظيم – تقوله إلا ما استثنى الله سيُمتحَن عاجلاً أو آجلاً، فانتبه لنفسك، سيُمتحَن! الشيئ الثاني أو الأمر الثاني أن يُواطئ الباطن ما تُظهِر، أي الظاهرة منك، أنت تُظهِر للناس أشياء، أليس كذلك؟ لابد أن يُواطئ باطنك هذا الظاهر، هذه اسمها المصداقية الذاتية، المصداقية الذاتية! أيهما أخطر وأيهما أولى بالتقديم: المصداقية في نظر الناس أو المصداقية الذاتية؟ المصداقية الذاتية، أن أعلم بيني وبين نفسي – أي بيني وبين الله، نفس الشيئ! يتعادلان – أن ظاهري مُواطئ لباطني، وباطني يُواطئ ظاهري، يتواطآن، يتصادقان، ولا يتكاذبان!
سأُعطيكم الآن معياراً عجيباً جداً، ألهمنيه ربي عز وجل، خطير جداً! ما هو؟ بعض الناس يدّعي العفة، يزعم لنفسه أنه عفيف، صحيح مسلكه عفيف، لكن هل هو عفيف حتى النُخاع؟ لا، أستغفر الله! هل هو عفيف حتى النوم؟ ما معنى هذا؟ كما قلنا في الدرس الأخير كل الناس في منامهم مجانين، كلنا في النوم مجانين، في الأحلام نفعل كل ما يعن لنا، أليس كذلك؟ الذي يشتهي – أكرمكم الله – زوجة صديقه يأتيها في المنام، في اليقظة لا يُريد طبعاً، والحمد لله عنده من الدين ما نزعه عن ذلك ومن الشرف والعفة وربما من الموانع، بعض الناس ليس عفيفاً لأنه يُريد أن يكون عفيفاً أو يستعف أبداً، هو عفيف لأنه لا يقدر، انتبهوا! هذه مُصيبة، هذا سيُبعَث يوم القيامة داعراً، ما رأيكم؟ طبعاً! قال فهما في الإثم سواء، واحد يشتهي أن يفعل مثل فلان – مثل خاشقجي، يشتهي أن يفعل كذا وكذا، لا نُريد أن نقول كلمات غير لائقة بالمقام وبالمنبر – لكنه لا يقدر، لا يستطيع المسكين! لكن لو استطاع لن يُوفِّر شيئاً، النبي قال يوم القيامة يُبعثان سواء، فهما في الإثم سواء، ما رأيكم؟ سوف تقولون لي هذا دين صعب، لكن هذا ليس ديناً صعباً، هذا دين له فلسفة خاصة، فلسفة الصدقية والمصداقية يا أحبائي، فلسفة بارئة من كل زيف وكذب وتزييف، فلسفة حقيقية! فلسفة ترى أن التدين ثراء شخصي، نمو ذاتي، نضج إنساني، هذا هو! هذا هو ديننا لو كنا نفهمه حقاً.
سُفيان الثوري يُدعى ليزور أخاً له في الله، وهو أحد العلماء والأئمة، زيارة! قالوا هو مريض ومُعتَل، فقال لم تحضرني نية، كيف أذهب في شكل زائر ويقولون هذا زائر، بارك الله فيه، يتخوَّض في رحمة الله، وأنا كذّاب، أنا ليس عندي نية أن أزوره في الله؟ قال لم تحضرني نية، هل هذا جمود؟ بالعكس! هذه مصداقية واضحة وقاطعة كالسيف، هو هكذا! رضوان الله عليه، فقيل له أشفا على الموت، قال لم تحضرني نية، قالوا مات، قال لم تحضرني نية، قالوا تُشيَّع جنازته، قال لم تحضرني نية، لا أذهب! لماذا أكذب على نفسي وعلى الناس؟ لماذا؟ لا يُوجَد القدر الأدنى من المُجامَلة الكاذبة، مصداقية مُطلَقة! شيئ عجيب جداً جداً.
إذن هذا هو ديننا الحقيقي، هكذا تُكتسَب المصداقية، وبالمُناسَبة هي من أصعب الأشياء اكتساباً، قال أحد الدارسين لهذا الموضوع تُكتسَب يوماً فيوماً وساعةً فساعةً ولحظةً فلحظةً، ويُمكِن أن تُفقَد في لحظة! أليس كذلك؟ شخص أنت تعلم أنه صادق وصدوق ورصين، ثقيل الرجل! لو قفشت عليه كما نقول بالعامية وضبطته مُتلبِّساً بكذبة هكذا – كذبة بلقاء- ستتحطَّم مصداقيته عندك، لكن لو كنت عاقلاً وناضجاً أكثر ستقول سأحتملها له هذه المرة، لا أدري ما الظروف التي أحاطت به، والنبي قال أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، ولا زال الإغضاء من شيم الكرام، سنسمح ونصفح هذه المرة، كأننا لم نر ولم نسمع، جميل! لكن ماذا إن عاد وعثر مرة أُخرى؟ طبعاً – انتبهوا – ما يُصفَح لفلان لا يُصفَح لفلان، وما يُصفَح من فلان في الموقف الفلاني لا يُصفَح منه في الموقف العلاني، تعرفون هذا تماماً! طبعاً ما يُصفَح لإنسان بسيط غير ما يُصفَح لإنسان كبير، أليس كذلك؟ لذلك زلة العالم غير زلة الجاهل، زلة الولد المُراهِق – أي ابنك – غير زلة الأب – أي أنت – طبعاً، زلتك أنت – الأب المُربي كبير، ابن خمسين سنة – مُختلِفة، حين تضبط ابنك – مثلاً – مع صور عارية في الإنترنت Internet وما إلى ذلك تكون هذه فضيحة طبعاً، هذا شيئ مُؤذٍ جداً، لكن يختلف الأمر إذا ضبطك هو، كما شكا لي أحد الأبناء من أبيه هنا، ما شاء الله، ما شاء الله! شيئ كبير، ما يُصفَح هنا لا يُصفَح هنا، وما يُصفَح في حال لا يُصفَح في حالات أُخرى، انتبهوا! موازين هذه كلها وسياقات مُختلِفة، على كل حال في المرة الثانية ربما ستصفح، ستُكبِّر عقلك كما يقولون وتصفح، في المرة الثالثة ستعلم أنه ماذا؟ استنفذ آخر مليم في رصيده، في رصيد الثقة والمصداقية، انتهى!
نحن نتعامل بطريقة الرصيد الحسابي، صدِّقني! حتى بينك وبين نفسك، لديك رصيد من احترام شخصيتك، وأنت تعلم ما لا يعلمه العالمون، لماذا؟ لماذا يزداد هذا الرصيد؟ لأنك بالأمس آثرت أن تصدق وكلَّفك الصدق كثيراً، كلَّفك كثيراً جداً، لكن آثرت أن تصدق، اليوم آثرت أن تُعطي وكلَّفك العطاء كثيراً، أنا أعلم – والله – مَن أعطى آخر مليم في جيبه، ما رأيك؟ جاءه مرة صديق، وقال له أحتاجك في شيئ، فغضب من نفسه وحزن حزناً عظيماً، كيف أحوج – كما نقرأ في كُتب التاريخ وإحياء علوم الدين، يُوجَد أُناس يعيشون بحمد الله في هذا المُستوى، ألق عجيب وغنى عجيب – صاحبه أن يسأله؟ فحزن! لماذا لم يتفقَّده ويتفقَّد مواضع حاجاته، غضب جداً من نفسه، قال له يا أخي سأُعطيك – إن شاء الله – كل ما لدي، أعطاه آخر قطرة، ما رأيك؟ وعاد على الحديدة، مبلغ كبير! من سنين وهو يدخره، ثم دخل بيته وامتحنه الله تبارك وتعالى، هذا امتحان عجيب، فتح هكذا شيئاً – أوراقاً له أو كتاباً – فإذا فيها مبلغ أيضاً لا بأس به، كان هذا مبلغاً كبيراً، امتحان! فتردد للُحيظة، أيُخفيه؟ فأهله أحق به وأولاده، فشعر بأنه يحتقر نفسه، وخرج مُباشَرةً وأقسم بالله إلا ليأخذنه، لأنه زعم وادّعى أنه سيُعطيه آخر ما عنده، وأعطاه آخر ما عنده، ما هذا؟
سمعت بالإمام الحسن – عليه السلام – بن عليّ، الذي خرج من ماله كله ثلاث مرات، ما هذا؟ ما هذه الثقة؟ ثقة عجيبة هذه، سوف يقول لك أحدهم هذه ثقة بالله، وطبعاً هذه ثقة بالله، طبعاً! وفي نفس الوقت هي ثقة في النفس، معنى الثقة بالله الثقة بالنفس، يعلم أنه لن يجوع ولن يعرى ولن يُضيَّع، صاحب المعروف إذا وقع وقع على مُتكأ، المفروض أن صاحب المعروف لا يقع، لكن قل يقع، لكن إذا وقع وقع على مُتكأ بإذن الله تبارك وتعالى، مصداقية! مصداقية بناها، ولذلك هذه المصداقية تُبنى بشكل تراكمي، للأسف وقد تُفقد بشكل سريع، هذا أحرج وأخطر ما فيها، فانتبه!
يقول أحدهم شيئاً هاماً في هذا الصدد، وهو رالف والدو إمرسون Ralph Waldo Emerson، هذا الحكيم الكبير، هذا كاتب، لكن تقرأ له فتقول ما هذا الكاتب؟ أحد مُستودَعات الحكمة يا أخي، شيئ عجيب والله العظيم، ناس تعمَّقت الحياة، يحلو لبعضنا أن يتحدَّث عن عمر مديد، والله هذا يسوءني أنا، يُثيرني، ويقف شعر بدني، يُقال الحمد لله عاش تسعين سنة، لا يهمني كم عاش، ماذا فعل فيما عاش يا حبيبي؟ عاش تسعين سنة أو مائة سنة أو تسعمائة سنة، فماذا فعل؟ ماذا فعل؟ هناك مَن يعيش حياته بالطول، هذا أبو تسعين عاش بالطول، عاش تسعين سنة، لا يُوجَد عرض، ولا يُوجَد عُمق، هناك مَن يعيش حياته بالعرض، كيف بالعرض؟ ليس بالطول وإنما بالعرض، يعيش أربعين سنة لكن يلف في هذه السنوات الأرض، لف كل شيئ وفهم كل شيئ أُفقياً، وتحدَّث في كل المبادئ وفي كل النظريات، وحافظ كل النصوص المُقدَّسة، ولكن لم يختبر شيئاً من ذلك عبر مُعاناة حقيقية، هذا عاش أيضاً بالعرض، انتبهوا! وهناك مَن يعيش بالعُمق، وسيان بعد ذلك عاش بالعرض أو بالطول أو بالطول والعرض والعُمق، الأهم أنه عاش في العُمق وبالعُمق، ولذلك تشعرون باحترامكم لشخص أُمي، أليس كذلك؟ أُمي! مُزارِع بسيط أو كنّاس في الشارع يقم ويكسح القمامة، أُمي! لا يُجيد حتى فك الحرف، لكن عنده قدر عجيب جداً من المصداقية الذاتية وفي نظر الآخرين، تحترمونه! يفرض احترامه على الآخرين، هذا عاش بالعُمق، هذا الكريم السمح عاش بالعُمق، مع أن كل المبادئ التي تُسيِّر حياته يُمكِن أن تُلخَّص في أربع أو خمس كلمات، لذلك يقول ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead رأس الحكمة أن نُحسِن توظيف واستغلال المبادئ التي جُرِّبت حقاً في حياتنا، هناك مبادئ مُجرَّبة، وهي قليلة بالمُناسَبة، ربما يُقال: واحد، اثنان، ثلاثة، وأربعة، انتهى! هذه هي، تقود الحياة وتُلخِّص حياة الإنسان، أحسِن استخدامها، ليس الحكمة أن تُكثِر الكلام والاستشهاد والمُقتبَسات، ليست هذه الحكمة، أن تُوظِّف القليل المُجرَّب والقليل الصحيح، حتى لو كان نصاً واحداً.
يقول رالف والدو إمرسون Ralph Waldo Emerson الشخصية في نهاية المطاف تراكمية، ويتحدَّث عن الشخصية الكاملة القوية البنّاءة، تراكمية! ما معنى ذلك؟ قال كل مواقف الصدق والفضيلة التي خبرناها ومررنا بها تُلقي بظلالها وبطابعها وتأثيرها في الموقف الراهن، هذا معنى تراكمية الشخصية، انتبه! كل مواقف الكذب والزيف والدجل والنفاق والإخلاف والأنانية و… و… و… التي خبرناها ستُلقي أيضاً بظلالها في الموقف، من هنا يفشل هذا في الامتحان وينجح هذا في الامتحان، ما رأيك؟ تقول لي هل هذا بسهولة أو بصعوبة؟ والله يفشل هذا بسهولة وينجح هذا بسهولة، سهل جداً جداً! الفشل على هذا سهل والنجاح على هذا سهل، هذا الحكيم نفسه يقول كلمة أيضاً لا تقل عن هذه روعة، يقول مَن تعلَّم أن يعيش بصدق يسهل عليه أن يرى الأمور بصدق.
بعض الناس يقول من أين لفلان الحدس؟ بعض الناس عندهم حدس يا إخواني، حدس وبصيرة غير طبيعية، ينفذ في ضمير مَن أمامه ويفهم ما حوله بجرة قلم أو بضربة واحدة صغيرة، من أين هذا؟ السر في شيئ واحد، ما هو؟ الصدق، هو إنسان صادق وعفوي وتلقائي، ليس مُزيِّفاً وليس مُزيَّفاً، ولذلك يرى ما لا يرى الآخرون، ويرى مُباشَرةً الحقائق، يقول هذا الرجل فمَن كان قوياً حقاً – هو في ذاته قوي – يسهل عليه أن يسلك – كماذا؟ – كقوي.
نضرب مثلاً بمُصطفى حسنين مرة أُخرى وسينبسط، لا تُوجَد مُشكِلة، بطل! هذا الرجل لو أخذ يدي أو يدك يكسرها كالخيارة، أليس كذلك؟ بسهولة يكسرها، يكسر لك يدك بسهولة! أنت لن تكسر يدي بسهولة، أليس كذلك؟ لأنني أستوي معك في قوة واحدة أو في ضعف واحد، أما هو بقوته البدنية العارمة – زاده الله قوةً – يكسر يدك ويدي كالفقوسة مُباشَرةً، لأنه قوي يسهل عليه أن يتعامل بقوة، الآن أتحدَّث عن القوة الأخلاقية والقوة المسلكية، مَن كان قوياً حقاً يسهل عليه أن يصدر في سلوكاته عن قوة وبسهولة، أليس كذلك؟ ومَن كان ضعيفاً فإنه يسهل عليه جداً أن يسلك كضعيف، هذه طبيعته المسكين! ينزلق بسرعة، ويبقى يتندم ويتلاوم مع نفسه، لماذا انزلقت؟ لماذا فحشت؟ لماذا فعلت هذا؟ لأنك ضعيف باختصار، والشخصية تراكمية، أليس كذلك؟ أنت لم تتعب على نفسك يا حبيبي، أنت لم تتعب على نفسك! فعند الامتحان مُباشَرةً تأتي النتيجة لتعكس ماذا؟ ما تراكم من قوة أو ضعف ومن صدق أو كذب.
لذلك اعملوا على أنفسكم أيها الإخوة، اعملوا! بالله أتحسبون الذي خسر عشرة آلاف يورو قبل خمس سنين – شخص دخل في تجارة وضحكوا عليه، دفع عشرة آلاف يورو وخسر عشرة آلاف يورو قبل خمس سنين – يكف عن التحسر واسترجاع المرارة كل يوم؟ كل يوم يتذكَّر هذه الأموال للأسف، تلوح له في المنام، عشرة آلاف يورو! وكلما تعرَّف على شخص جديد حكى له رواية العشرة الالآف اليورو المُطوَّلة هذه والمُمِلة، لكن كم مرة يتحسَّر هذا على أنه خسر جُزءاً من مصداقيته مثلاً، كم مرة يتحسَّر على أنه خسر جُزءاً من رصيده الذاتي واحترام الذات؟ كم مرة؟ أجيبوا أنتم، ربما ولا مرة، يكذب الآن الكذبة ثم يمشي ولا يتحسَّر ولا يلوم نفسه ولا يعتب عليها، كأنه لم يفعل شيئاً، ما هذا؟
إذن نحن إلى الآن لم نلتقط أن الاستثمار الحقيقي وفي المُقابِل الخُسران الحقيقي هو في النفس، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا… ۩، مَن؟ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، هذا هو الخُسران الحقيقي، أنت تخسر نفسك! يقول السيد المسيح ماذا يربح – أي ماذا يكسب – مَن ربح الدنيا وخسر نفسه؟ ولا شيئ، كثير جداً من الناس فقط يحرص على أن يربح الدنيا، وهذه الدنيا قد يخسرها سريعاً، وسيجد نفسه أيضاً خسر نفسه معها أو قبلها، هذا هو الخاسر الأكبر، لكن مَن خسر الدنيا وربح نفسه هل يخسر شيئاً؟
ريتشارد فاينمان Richard Feynman – الفيزيائي الكبير – طرح سؤالاً، ويعتبره من الأسئلة الصعبة جداً في الفيزياء وإن بدا سهلاً، تحدَّث عن الصوت، الصوت! مثل كلامي الآن، حين تقول آآآه، هل هذا الصوت قبل أن أُصوِّته معدوم أو موجود؟ السؤال صعب جداً جداً، لن تستطيع أن تقول موجود ولن تستطيع أن تقول معدوم، قصة طويلة في الفيزياء، لكن أنا سأقتبس شيئاً من هنا، ما هو؟ إذا ظللت تحرص على أن تستند إلى الخارج – إلى مديح الناس، إلى ثناء الناس، إلى تصفيق الناس، إلى شهاداتك، إلى ألقابك، إلى نقودك، إلى سيارتك، إلى عمارتك، إلى غزواتك المُختلِفة، هناك أنواع مُختلِفة، إلى… إلى… وإلى… – ستبقى دائماً تستجدي، ما رأيك؟ ستبقى الضعيف والضحية، ستبقى تستجدي حتى أتفه الناس، أن يُصفِّقوا لك، أن يمدحوك، وأن يُعطوك ثقة بنفسك، حتى تموت!
لذلك لا تستغرب أن يكون ابن سبعين سنة بمثل هذا الخواء الروحي طبعاً، ليس عنده تراكم حقيقي، ليس عنده تراكم إيجابي في الشخصية، لذلك هذا المسكين يستهويه ويهز أعطافه كلمة مدح من مُراهِق غِر، ينبسط الرجل! يقول هذا شهد في، يا أخي أنت عمرك سبعون سنة، أتحتاج إلى مُراهِق لم يخبر شيئاً من الحياة ولم يحلب أياً من شطريها حلواً ولا مُراً أن يشهد فيك؟ ما القصة؟ ليس عنده تراكم المسكين، أما – نعود إلى فاينمان Feynman – إن كنت تستمد من منجمك فالأمر سيختلف، أنا دائماً أقول ابحث عن ذهبك تحت طينك، هناك طين كثير فينا، ونحن من طين، أزل طبقة الطين لتصل إلى الجوهر، اترك الصدف، تعمَّق إلى اللؤلؤة، اترك القشور، ادخل إلى اللُب، ابحث عن ذهبك تحت طينك، في منجمك الإلهي الذي استودعك الله إياه، وسوف تجد منجماً لا ينضب ولا ينتهي ولا يغور بإذن الله تعالى، تتغيَّر الأحوال، تتغيَّر المواقف، تتغيَّر الصداقات، تتغيَّر الناس، تتغيَّر المكاسب، وتتغيَّر الإنجازات بل تفنى جميعاً، لكن لا بأس، تبقى قوياً وسعيداً وصبوراً وحليماً وراضياً بإذن الله تعالى، وتُحسَد على ما أنت فيه، حقيقة تُحسَد على هذا، لأنك تستمد من الداخل، كلما أردت أن تُصوِّت – سؤال فاينمان Feynman – صوَّت، ليس عندك أي مُشكِلة، لكن كلما طلبت من الناس أن يُصوِّتوا لك – أي أن يُعطوك الصوت أو حتى يُصوَّتوا – سيملون، سيأتي يوم يملون فيه، يقولون أتعبتنا معك.
حتى أُغادِر هذا المقام – وأطلت عليكم فالمعذرة – أقول لقد وعدتكم بالشيئ الخطير الذي ألهمنيه ربي، ما هو؟ كلنا في المنام مجانين، بعض هؤلاء المجانين – وهم سادة العقلاء صدِّقوني – في النوم لا يرون إلا أهلهم، وإن شاء الله منكم الكثير، واسألوا! مَن وجدتموه على هذه الصورة هذا إنسان نادر نادر نادر، هذا مُنتهى المصداقية، لماذا؟ لأنه حتى حين تخف قبضة العقل والسيطرة – أي الكنترول Control، العقل المُتحكِّم والضمير الرقيب أو السوبرإيجو Superego – على اللا شعور وعلى العاقل الباطني المُتوحِّش – على الإيد Id كما يُقال – ما الذي يحصل؟ كل ما يخرج من هذا العقل الوحشي ومن هذا الإيد Id هو فاضل وكريم، حتى في المنام ينام مع زوجته ويُقبِّل زوجته، لا ينام مع أي واحدة أُخرى ولا يُقبِّلها ولا يراها، لأنه في الواقع شعوراً وهامش شعور ورقابةً ولا شعور لا ينظر إلى ما ليس له، اللهم اجعلنا كذلك، ما هذه الصفات؟ هذه صفات نبوية يا إخواني، هل تعلمون هذا؟ هذه صفات نبوية، لذلك هذه الأمة – بإذن الله – لو كان فيها نبوة لوُجِدَ فيها مَن يصلح للنبوة، هذه أمة كريمة.
والحمد لله أنا سمعت من أكثر من واحد – وإن كانوا ندرة – هذا، يقولون بفضل الله هذا ما يحصل معنا دائماً، لم نر مرةً هذا الشيئ، سُئلوا وماذا حدث حين كنتم مُراهِقين؟ قالوا لم نكن نرى صوراً، شيئ عجيب! الرسول كان كذلك، الرسول كان يحتلم طبعاً وعائشة تفرك المني، لكنه بإجماع الشرّاح لم يكن يرى صورة، هذا النموذج يقول نعم كنت مُراهِقاً ولم أكن أرى صوراً، تفريغ عضوي وما إلى ذلك – سُبحان الله – مَن غير صورة، وحين خبر الصورة والحقيقة صار يرى صورة أهله، الله أكبر! هذا ليس مجنوناً حتى في منامه، هذا صاحب مصداقية مُكتمِلة، هل فهمتم كيف؟
إذا رأيت نفسك في المنام تبصق على صاحبك أو ترضخ رأسه بحجر أو تتعدى عليه فاعلم أن موقفك ونفسيتك إزاء صاحبك في الحقيقة ليست سوية وليست نظيفة، تستطيع أن تفهم نفسك حين تنام أكثر مما تخدع نفسك بزعم أنك تفهمها وأنت مُستيقظ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلِمين فاستغفروا الله، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك ألا تدع لنا في هذا المقام الكريم في هذه الساعة المُبارَكة في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه وحُزنه يا رب العالمين.
اللهم أصلِح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، وأنزِل علينا السكينة والروح والإيمان، وأيِّدنا بنصر من عندك يا رحمن، يا رحيم، يا رب العالمين.
اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا بائساً ولا يائساً ولا محروماً، وقُدنا إليك قوداً جميلاً، ورُدنا إلى دينك رداً حميداً، والعود أحمد.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
___________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(6/7/2007)
أضف تعليق