إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ۩ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۩ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ۩ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ۩ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
وتتسعُ المسألة – مسألة النقاب التي وعدنا أن نصل حديثنا لهذه الجُمعة بما انقطع من حديث الجُمعة المُنصرِمة – ويبرز عُصبةٌ أو جماعةٌ من الأئمة – من أئمة المساجد والدعاة في فرنسا نفسها – ليُجاهِرون بأنهم ضد النقاب وأنهم من المُؤيِّدين لحظر النقاب، وهذا لونٌ جديد في الطيف، ونرى رجال دين مسيحيين في الطيف الآخر يُجاهِرون بأن هذا عدوانٌ سافرٌ على الحريات وأنه اغتيالٌ لشيئ من حقوق الإنسان، ولا شك أن الموقف الآخر – موقف رجال الدين المسيحيين – طبعاً يُشايعهم في ذلك مسلمون كثيرون بل أكثر المسلمين، ففي أوروبا وحول العالم يُشايعون الموقف الثاني، الموقف الذي يستعلن به الآن مسيحيون من رجال الدين الأشراف الذين يحترمون أنفسهم ويُصارِحون الحقائق والواقع، لكن ما حقيقة موقف بعض الساسة وبعض رجال الفكر الذين يزعمون ويدّعون أن في النقاب – طبعاً وادّعوا من قبل ذلك في الحجاب أيضاً وفي أشياء أُخرى كثيرة مما يختصُ بها المسلمون – ما يُهدِّد هوية أوروبا الثقافية وذلك في هذه القسمة البسيطة وفي هذا الملمح الصغير جداً؟ واستمعنا في تقرير الجزيرة قبل أيام أنه من بين أكثر من خمسة ملايين مسلم عدة النساء فيهم الله – عز وجل – أعلم بها لا يُوجَد أكثر من ألفي مُنتقِبة في فرنسا على طولها وعرضها، وهذه نسبةٌ منزورةٌ جداً وضئيلةٌ جداً، لكنهم يقولون هذا يُهدِّد الهوية الثقافية لنا معشر الغربيين الأوربيين، فعن أي هوية يتحدَّثون؟!
عُدنا مرةً أُخرى وبعد قرون إلى خُرافة ووهم الطُهرانية الذاتية، فعُدنا إلى الذات وإلى الأنا النقية بالمُطلَق والنقية محضاً مُجرَّداً والتي لم تُشوبها شائبة التلوّث بالمُدنَّس وهو الغير، أي المُدنَّس الثقافي والديني والاجتماعي والحضاري وإلى آخره، لكن هذه الأسطورة أكل الدهر عليها وشرب، وأعتقد أن مَن يحترم نفسه في الشرق والغرب حول العالم لا يُمكِن أن يتورَّط في مثل هذه الأساطير وهذه الخُرافات وهذه الدعاوى والمزاعم، لكن للأسف أيضاً هذا ملمح لا يزال مُستمِراً، بلا شك أنه بهت كثيراً وخفَّ وضئل عن ما كان عليه قبل خمسين سنة فضلاً عن ما كان عليه قبل مائة ومائة وخمسين ومائتين وثلاثمائة سنة هنا في الغرب الأوروبي، حيث كان من ملمحاً فاقعاً جداً، فما من حضارة وما من ثقافة خلت من سمات عنصرية عرقية وحتى الإسلامية وأنا أُحِب الإنصاف، فلدينا في كتاباتنا وفي سردياتنا وفي أدبياتنا ملامح للعنصرية الإسلامية، هذه الأمور موجودة ولكنها ملامح ضئيلة جداً وبسيطة وباهتة وتصطدم مع النصوص المُؤسِّسة وتصطدم مع القرآن وتصطدم مع السُنة تماماً، فهى ملامح جاهلية وليست إسلامية، يُمكِن أن تُعزى إلى العرب وإلى الفُرس وإلى التُرك وإلى الهُند – أي وإلى الهنود – لكن لا تُعزى إلى النص أبداً.
أبو حنيفة – رحمة الله عليه – وأصحابه حين احتجوا لرأيهم بأن الصدقات تُدفَع لغير المسلم – حتى غير المسلم يُعطى من الصدقة – ويُؤجَرُ في ذلكم المسلم احتجوا بأدلة كثيرة اجتزيء منها بواحدٍ، حيث أنهم احتجوا بالذي يرويه مُرسَلاً سعيد بن جُبير – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وهو أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً قال “لا تصدَّقوا على غير المسلمين”، فنحن أمةٌ مُقِلة، نحن أمة ناشئة في المدينة ومُقِلة وفقيرة، والنبي مات ودرعه مرهونة في خمسة أوساق من تمر أو شعير عند يهودي، عليّ بن أبي طالب – رضوان الله تعالى عليه – كان يعمل نهاره كله بثلاثين تمرة وأحياناً بأقل من ذلك عند يهودي أيضاً، ينزح له الماء من البئر على ثلاثين تمرة، كل دلو بتمرة، وبالتالي كانت أمة مُقلِة لم يُفتَح عليها، فالنبي قال “لا تصدَّقوا على غير المسلمين” ليس على خلفية عرقية أو انغلاقية حصرية أبداً وإنما خلفية واقعية،
فأبى اللهُ – تبارك وتعالى – ذلك وأنزل في سورة البقرة لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۩ إلى قوله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون ۩وهذا شيئ عجيب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم “تصدَّقوا على غير المسلمين”، لأن الله – عز وجل – يأبى هذا، فهذا الدين دين الله وليس ديناً من لدُن بشر، هذا دينٌ من رب العالمين وليس من رب المسلمين، ولذا يعكس هذه الربوبية الكونية وهذه الربوبية المُستغرِقة المُوعِبة للنوع الإنساني مهما اختلفت أُهُبه وألوانه وسماته وشياته، إنه رب العالمين على اختلافهم.
في أدبيات المسلمين أن عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – سُئل أي الناس أكرم؟ فأخذ قبضتين من تراب – من تراب قطعة واحدة في الأرض – وقال أي هاتين أفضل؟ كلكم لتراب، أكرمكم عند الله أتقاكم.
سواءٌ أقال عيسى هذا أم لم يقله فإنه قول القرآن، فهذا قولُ القرآن وبه افتتحنا الخُطبة المُنصرِمة من سورة الحجرات، ولكن الوضع كان مُختلِفاً تماماً هنا في الغرب، فلم نجد ثقافةً أو حضارةً لبَّت شروط النزعات العرقية والعنصرية وأفرغت عن منطق عنصري بغيض حاولت أن تُجيِّش وأن تُوظِّف له العلوم والفلسفات والأفكار والثقافات والبحث مثل الحضارة الغربية، وهذا شيئ غريب وغير مسبوق مُنذ البداية، ولذلك هذا يتفارق ويتناقض على طول الخط كما يُقال مع زعم أن هذه الحضارة حضارة مُتفرِّدة وكونية أو ينبغي أن تكون كونية صالحة للجميع وفي نفس الوقت مع وهم الاستمرارية التاريخية فيها، فلم تجد تأخذ من غيرها شيئاً – هكذا يدّعون – وهى مُستمِرة ومُتواصِلة مع نفسها، وأصولها الإغريقية – مثلاً – مع أرسطو Aristotle، لكن أرسطو Aristotle كان فاشياً، إذا تعلَّق الأمر بالأعراق وبالآخر فإن أرسطو Aristotle كان فاشياً أكثر من هتلر Hitler وموسوليني Mussolini، أرسطو Aristotle قال “البشرُ نوعان بالطبيعة: سيدٌ بالطبيعة، عبدٌ بالطبيعة، ولا يُمكِن للعبد بالطبيعة أن يستحيل سيداً”، واقرأوا كتابه السياسة، اقرأوا السياسة الذي ترجمه المرحوم لطفي السيد في مصر في أوائل القرن العشرين حيث قال فيه “البشرُ نوعان بالطبيعة: سيدٌ بالطبيعة، عبدٌ بالطبيعة، ولا يُمكِن للعبد بالطبيعة أن يستحيل سيداً”، ثم تحدَّث عن منافع للعبيد وضاهاها وعادلها بمنافع للحيوانات، قال هكذا “ينفعوننا كما تنفعنا البهائم والدواب والحيوان ويقضون لنا أشغالنا، وفي هذا عدلٌ، ففي هذا توصيف عادل” أي في أنهم يُشبِهون البهائمم عدل.
وفي القرن التاسع عشر ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville – تحدَّثنا عنه في الخُطبة السابقة – كان يتحدَّث عن نفس الشيئ ويقول “حين أنظر لا أستطيع إلا أن أُقِرّ بهذه الحقيقة، نحن آوادم، نحن بشر، والآخرون حيوانات، كل الآخرين”، كما يقولون هم “The West and the Rest” وهذه ثنائية العجيبة، فمرة يقولون “الغرب والشرق” وهذه نُصف مُصيبة، ومرة يقولون “الغرب والإسلام” وهذه نصف مُصيبة، ولكن المُصيبة الأعظم هى أن يقولوا “الغرب والآخرون” فهم يضمون في كلامهم الشرق والشمال والجنوب والأعلى والأسفل ووكله عندما يقولون “نحن والآخرون”، يُريدون أن يقولوا أنه مُتفرِّد وأنه نقيٌ جداً وأنه طاهر وأنه مُقدَّس، فقاموس ريفو Revo يكتب هكذا ويصف هذا العرق الطاهر الهندو أوروبي قائلاً “الأوروبيون من بين الأعراق كلها – وكأنهم عرقٌ واحد وسحنةٌ واحدة معيارية لا تتخلَّف – هم الأذكى وهم الأنبل وهم الأكثر إنسانيةً وهم الأكثر رحمةً والأكثر عدالةً، هم الأفضل في الحرب وهم الأفضل في السلم وهم الأفضل في العلوم وهم الأفضل في الفنون”، هكذا بنفس هذه الصيغة بل بصيغة أكثر منها حدة بهذا القاموس!
أكاديمية العلوم الفرنسية في القرن الثامن عشر تتحدَّث عن الحيوية الأوروبية وعن الخمول لدى العوالم الأُخرى قائلة “الآخرون خاملون عاجزون مُنحَطون لا يستطيعون أن يُقدِّموا شيئاً، نحن خبَّأنا القدر ورصدتنا العناية الإلهية لكي نُخرِجهم من الظُلماتِ إلى النور بإذن أوروبا وتنويرها إلى صراط التحديث الحميد”، فهكذا ذخرهم وخبَّأهم القدر وكظمتهم الأسرار – أسرار الغيب – حتى يُعلِّموا العالمين!
أقوى إداري في الهند المُستعمَرة من قبل البريطان في القرن التاسع عشر هو تي. بي. ماكولي T. B. Macaulay، ماكولي Macaulay كتب في كتابه عن التربية في الهند “Minute on Indian Education” قائلاً “لا يستطيع أحد هؤلاء المُدافِعين عن الهند وتراث الهند الإسلامي والهندوسي والبوذي وغيره أن يُجادِل أن رفاً واحداً جيداً في مكتبة أوروبية يعدل بكل تراث الهند الهندوسي والإسلامي”، أي أنه يقول أن هؤلاء ليس عندهم أي شيئ ولم يُضيفوا شيئاً، فالهند لم تُضِف شيئاً والصين لم تُضِف شيئاً واالعالم الإسلامي لم يُضِف شيئاً، لكن نحن معنا تبتديء الحضارة وإلينا مع فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama تنتهي الحضارة من خلال نهاية التاريخ والإنسان الأخير والنصر المُطلَق المُؤزَّر.
هذه عقلية غريبة جداً وعقلية غير معقولة، وسنعود إلى تفنيد كلمة الإداري العظيم البريطاني في الهند – في شبه القارة الهندية – ماكولي Macaulay بعد قليل إن شاء الله، ولكن أُحِب أن أقول أن مثل هذا الفكر ومثل هذه الخلفيات عن ماذا يُمكِن أن تتمخَّض؟ عن ما تمخَّضت عنه في القديم والحديث، يعني في العصر الوسيط أو بعده في عصر النهضة وما بعد ذلك إلى اليوم وبالذات في الحقبة الاستعمارية، وهذا أوقع أوروبا في مُفارَقة – إلى اليوم هى عالقة فيها – ازدواجية تحليلية وازدواجية تفسيرية، فهذه مُفارَقة ومُعضِلة – Dilemma -حقيقية يتورَّطون فيها لكن كشف عنها بعض أذكيائهم مثل كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss الإنثربولوجي الشهير عالمياً – الفرنسي شتراوس Strauss له أشياء أنصف فيها بشكل جيد حقيقةً – ومثل الفرنسي أيضاً والماركسي مكسيم رودنسون Maxime Rodinson فضلاً عن روجيه جارودي Roger Garaudy وغيرهم كثير، فهو قال أن هذه مُفارَقة، ومن العرب يُوجَد اليساري الشهير سمير أمين الذي كشف بذكاء شديد كشف وبتحليل مُعمَّق حقيقةً يُحسَب لها عن هذا، فهذه مُفارَقة مُزعِجة جداً، بمعنى تدّعى أوروبا أنها مُتفرِّدة لأنها في حيّز أو في معرض الجواب عن لماذا تظنون أن نمطكم في التفكير وفي السلوك هو النمط الأفضل والوحيد القابل للكوننة ولأن يُعوّلَم؟ ستقول لأنه فعلاً نمط ليس له ضريع وليس له ضريب وليس له ما يُضاهيه، وهنا يتورَّطون في الحديث عن سياقات شديدة الخصوصية ليس من شأنها أن تتكرَّر، فأوروبا لها سياقاتها الخاصة أكثر من جداً والتي لا يُمكِن أن تُستنسَخ ولا أن تتكرَّر، وهذه السياقات والمواصفات الخاصة تماماً هى التي تولَّد عنها أو هى التي ولَّدت بذاتها هذا النمط المُتفرِّد تماماً وهذا النموذج للحياة والفكر والسلوك، من هنا يقولون “لذلك نحن خاصون جداً ولسنا مثل أحد“، وطبعاً هذه نزعة مُباشَرةً ترجمتها المُباشِرة العرقية والعنصرية البغيضة جداً، فحين يدّعي بشر أنه مُتفرِّد تماماً إذن هو يدّعي أنه ليس من جنسنا وأنه من عالم آخر وأنه من طينةٍ أُخرى، لكن هم يُؤمِنون بهذا للأسف، أو بالأحرى كانوا يُؤمِنون بهذا لكن اليوم أكثرهم لا يُؤمِن بهذا حقيقةً، فهناك جيوش الآن من المُفكِّرين والكتّاب يكتبون ضد هذه المقولات وهم الذين فضحوها ونأخذ أكثر معلوماتنا منهم – الحمد لله – وهم في تطوّر، ولكن لا يزال بعضهم غارقاً فيها وفي أوحالها من الساسة والمُفكِّرين وبعض رجال الدين، فلا يزالون غارقون فيها وبالتالي اكشفوا عنهم فلابد أن يُدمَغ هؤلاء العنصريون حول العالم في أوروبا وغير أوروبا، حيث لا يزال بعضهم بلا شك ينعق بهذا النعيق.
بعد ذلك أوروبا إذا سُئلت ولم تفرضين هذا النموذج المُتفرِّد جداً على العالم بقوة الحديد والبارود والنار وبالإرهاب وبالفصل والإقصاء والاستعباد والاستبعاد؟ ستقول “هناك مشابه – وهنا أنصار هذا الاتجاه سيتورطون – بين كل الشعوب والأمم والحضارات، فهذه هى وحدة الجنس الإنساني”،فلم نعد نفهم أهناك ووحدة أم أهناك اختصاص؟ وهذه مُفارَقة، هذه المُفارَقة لا تزال تأكل ويتآكل فيها – في حمضها – بعض الفكر البغيض العنصري في أوروبا وفي الغرب بعامة، علماً بأن هذه المُفارَقة موجودة إلى اليوم وهذا شيئ غريب، ولذلك بالمنطق الثاني هناك مشابه عامة وهناك شروط عامة كونية يُمكِن تبرير بها ما حصل وما ينبغي أن يحصل، لكن ما حصل هو الاستعمار، وما يحصل هو ما بعد الاستعمار، فالاستعمار الجديد الآن بصيغ ما بعد حداثية إن جاز التعبير، فإذن لماذا تستعبدون الآخرين؟ قالوا “لكي نُنقِذهم من أنفسهم ولكي نفرض عليهم نمطنا”، لكن هل يُمكِن فرضه وأنتم تقولون أنه شديد الخصوصية؟ هنا يُوجَد شيئ غريب وغير مفهوم، وطبعاً هذا كذب، هم صادقون مع أنفسهم في المقولة الأولى ويكذبون هنا على أنفسهم وعلى العالم في المقولة الثانية وهم يعلمون هذا، ولذلك هم يُعوِّقون هذه المسيرة، لكن هل تعلمون مَن أكبر أعداء دمقرطة العالم حقيقةً؟ الغرب، فالغرب لا يُريد هذا، ويا ليته أراد، فنحن نتوسَّل إلى ذقن الغرب أن يجعل العالم الإسلامي كله ديمقراطياً والشرق كله ديمقراطياً، يا ليت أن يُنقِذنا من جبابرتنا ومن طواغيتنا ومن الظلام المُخيِّم على أدمغتنا، يا ليت ولكنهم لا يفعلون لأنهم هم يدعمون النُظم الشمولية وهذا أمرٌ ومعروف، فأكبر أعداء الديمقراطية في إفريقيا الغرب، وهم يفعلون هذا بتخطيط وباستراتيجية، وبالتالي تُوجَد ازدواجية لعينة هنا !
الفيلسوف العلمي الأكثر شهرةً في القرن العشرين وصاحب منطق الكشف العلمي كارل بولبر Karl Popper في مُقابَلة في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين مع دير شبيغل Der Spiegel الألمانية قال “Führte Kriege für den Frieden” أي “شنوا الحروب من أجل السلام”، فهو أطلقها في المُقابَلة بكل وضوح وقال أنهم شنوا الحروب من أجل فرض السلام، فمَن الذي يشن؟ الغرب، ولكم أن تتخيَّلوا أن قامة مثل كارل بوبر Karl Popper يقول هذا، فهو فيلسوف ضخم على مُستوى العالم كله بلا شك، وفي جوانب مُعيَّنة من فلسفته هو إنساني مُتفتِّح وفي جوانب أُخرى هو عُنصري بغيض جداً جداً ومُتطوِّح، علماً بأن كارل بوبر Karl Popper هو صاحب المُجتمَع المفتوح وأعداؤه، وهو المُناضِل الأكبر ضد الننُظم الشمولية وخاصة في الاتحاد السوفيتي السابق وجيوبه ومع ذلك يقول “نعم على الغرب أن يضطلع بوظيفته”، وبالتالي عُدنا إلى أسطورة الفرنسيين والإنجليز في القرن التاسع عشر وهى عبء الرجل الأكبر ومسئولية الرجل الأبيض ورسالة – Message – الرجل الأبيض، فهو عنده رسالة، ولذلك الرجل الأبيض كانت دائماً يده حمراء ومُلطَّخة بالدماء، أما قلبه فهو أسود على الشعوب الأخرى حيث أنه كان يتحرَّك دائماً بوجوه ثلاثة أبداً “المُستعمِر المُحتَل المُستوطِن بسلاحه وبباردوه، والمُبشِّر بإنجليه، والباحث – التعدين Digging – عن المناجم والذهب – المُعدِّن – وعن الثروات”، فهذا هو وهذه هى رسالة الرجل الأبيض، فهذا عبء الرجل الأبيض وهذه ومُهمِته، ثم يقول ولكن بلغة ثانية “على الغرب الأوروبي أن يضطلع بمسئوليته – استمعوا الآن إلى اللغة البغيضة جداً، علماً بأن هذه المُقابَلة موجودة على الإنترنت Internet فيُمكِن لأي أحد أن يصل إليها، وأنا دخلت وترجَمت هذه المُقابَلة في زُهاء عشر صفحات، فيُمكِن أن تدخلوا إلى موقع دير شبيغل Der Spiegel وتكتبوا كارل بوبر Karl Popper ومن ثم سوف تقرأون المُقابَلة كلها، حيث أنه تحدَّث بلغة عجيبة جداً، فهل في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين – أي في نهاية الألفية الثانية – يُمكَن أن تُطلَق مثل هذه المقولات؟ للأسف أُطلِقَت وفي الدير شبيغل Der Spiegel بشكل عادي جداً، فلم يُقيموا الدنيا ولم يُقعِدوها على رأسه، فهو فيلسوف كبير وله الحق في أن يتكلَّم وأن يُنظِّر – في ترويض الشعوب والأمم التي لم تنضج فكرياً وسياسياً وحضارياً”، فنحن – كما قلت لكم في الخُطبة السابقة – في حضانة Kindergarten، فالشعوب تعيش في حضانة وفي محاضن وبالتالي عليهم أن يُربونا، وهذا ما سماه هانس كوخلر Hans Köchler بإعادة التربية الحضارية، ولذلك أصاب هذا الرجل النمساوي العظيم والفيلسوف والسياسي العالمي – كوخلر Köchler – حين قال “إنها حرب صليبية أيدولوجية”، أي أن هذه ليست فقط حرباً أيدلوجية، وإنما هى حرب صليبية أيضاً، فهى حرب صليبية أيدولوجية، ثم قال كوخلر Köchler مُتسائلاً ومُتسِقاً مع المبدأ الكانطي – وهو المبدأ الذي سجَّلته كل الأديان ولا أدري لماذا يُنسَب إلى كانط Kant فقط، لكن بلا شك هو فلَّسَفه، وأنا عملت عليه خُطبة مرة وهو أن تُحِب لأخيك ما تُحِب لنفسك وأن تكره للآخرين ما تكره لنفسك – ما عسانا نفعل ونقول لو أن المسلمين جاءوا وأرادوا غصباً عنا أن يُعيدوا تعريف ديننا المسيحي وقيمنا المسيحية؟هل سنرضى؟
طبعاً لن يرضوا، هذا مُستحيل، فلماذا يُراد منا أن نرضى نحن المسلمين بهذا؟ لماذا يُراد خلق إسلامي أوروبي وخلق إسلام جديد وخلق نمط جديد في فهم الإسلام؟ لستم أنتم مَن يفرض علينا هذا، نحن نقوم بهذا ونفعله بمحض إرادتنا واختيارنا مُتسِقين ومُنسجِمين مع مشاكلنا وتحدياتنا وشروطنا نحن وذلك من زاوية نظر تُناسِبنا، ولكن هذا هو منطق كارل بوبر Karl Popper الذي رفض هذا وقال “على أوروبا أن تُمارِس وصايتها على هذه الشعوب غير الناضجة وعلى أوروبا أن تُقرِّر – قال أوروبا هى التي تُقرِّر – متى يُسمَح لها بالديمقراطية ومتى لا يُسمَح لها بالديمقراطية”، وهذا شيئ لا يُصدَّق، لا أدري بماذا نصف هذا المنطق، هو – أي هذا المنطق – يصف نفسه، ومن هنا لا تستغربوا من أن في هذا المحضن نشأت ووُلِدَت فيه جولدا مائير Golda Meir التي قالت في حق الفلسطينيين “لن نغفر لهم أبداً لأنهم اضطرونا أن نُلوِّث أيدينا بدمائهم”، فهى قالت لن نغفر لكم أنكم تمرَّدتم وطلبتم حريتكم وطلبتم أوطانكم وشرفكم ودافعتم عن ذاتيتكم فاضطررتمونا أن نُقاتِلكم وأن نقتلكم، لن نغفر لكم أنكم لوَّثتمونا، فما هذا المنطق؟ هذا منطق عجيب.
السياسي الكبير والأديب العالمي ونستون تشرشل Winston Churchill – تشرشل Churchill من أكبر أدباء الإنجليز وهو صاحب أكبر قاموس منطوق وكان من أفصح الناس وكان مُؤرِّخاً، فهو من مُؤرِّخي إنجلترا الكبار وعنده كتاب في التاريخ في أربع مُجلَّدات، فهو مُؤرِّخ وأديب كبير بلا شك وهو فيلسوف السياسة الضخم – حين شَّبت ثورة العراقيين في ألف وتسعمائة وعشرين غضب جداً وقام يصرخ في وسائل الإعلام قائلاً “هذا الشعب ناكرٌ للجميل”، عن أي جميل يتحدَّث؟ جميل الاستعمار، فقد أسدينا إليكم نعمةً ويداً بيضاء معروفة حين استعمرناكم يا بجم، يا بهائم، يا لا بشر، يا غير آوادم، نحن استعمرناكم – نحن الجنس الأوروبي العريق الطاهر النقي المُقدَّس – لكي نُعلِّمكم كيف تدرجوا في مدارج الإنسانية، فكيف تثورون علينا؟
فظل يصرخ ويقول “هذا الشعب ناكرٌ للجميل”، ثم غضب تشرشل Churchill السمين وقال بعد ذلك “اضربوهم بالغازات الكيمياوية – وضُرِبَ بالفعل العراقيون بالغازات الكيمياوية – من أجل تخفيض معنوياتهم العالية”، فما هذا؟ ما هذه القيادات؟ ما هذه العقول؟ ما هذا الفكر؟ ما هذه الفلسفات التي تُحرِّك هؤلاء؟ هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق!
هنتن Huntington أصاب في مسألة واحدة، وطبعاً كلكم تعرفون صمويل هنتن Samuel Huntington صاحب صدام الحضارات، فهذا هو الكذّاب الكبير فعلاً في عالم الفكر، هذا أكبر كذّاب ومن هنا نقول له قبل أن تقول صدام حضارات أو تقول حتى حوار حضارات هل هناك كيانات مُتميِّزة في هذا العصر بالذات وفي كل عصر إسمها حضارات وهى مُتميِّزة تماماً ويُمكِن لها أن تصطدم وأن تتحاور؟ هذه أكذوبة كُبرى، فهذا غير صحيح ولم يحصل حتى في التاريخ، لذلك كان أوعى منه مليون مرة فيلسوف الحضارات والتاريخ الألماني أوزوالد شبنجلر Oswald Spengler وذلك في كتابه Der Untergang des Abendlandes- أي انحطاط الغرب أو أفول شمس الغرب The Decline of the West – حين تحدَّث بروعة عجيبة في فصل بحياله عن المُفارَقات الناشبة في تضاعيف حضارة واحدة، فكل حضارة وكل ثقافة – كما حدَّثتكم في المرة الفارطة – فيها طيف عريض من التنوّع والموزاييك Mosaic، فعندما نقول ثقافة عربية ماذا نقصد بهذه الكلمة؟ ما هى الثقافة العربية؟ يُوجَد خمسون ألف قسمة بداخل الثقافة العربية، وكذلك الحال مع الثقافة الإسلامية حيث يُوجَد مئات الألوف وهكذا، ولذا هو قال هناك مُفارَقات وتباينات كثيرة، وأولى هذه التباينات اهتمامه في هذا الفصل ثم في ذات الفصل وعينه أولى اهتماماً للمشابه الكثيرة التي تجمع الثقافات والحضارات المُختلِفة، فقال “هناك مشابه غير عادية بين أي حضارتين وبين أي ثقافتين“، وأراد أن يُلخِّص وأن يُكثِّف لنا فكرته بشكل عبقري وذلك حين قال “ليس من شيئْ يُستغرَب أو يُستنكَر في أن ترى هيراقليطس Heraclitus أو Epicurus – إيبقور يعني – أو سقراط Socrates أو حتى ديوجين Diogenes – ديوجين الكلبي Diogenes al-Kalbi، هذا الفيلسوف الكلبي اكان يعيش حياة بوهيمية في الشوارع ويقضي حاجته فيها، ولكنه فيلسوف وله قصة معروفة مع الأسكندر معروفة، وعلى كل حال هو من أعلام الفلسفة الكلبية، فهو ذكر بالأخص ديوجين Diogenes – على شاطيء نهر الغانج Ganges – مثلاً – المُقدَّس لدى الهنود” هذا أمر عادي، فالعقلية الشرقية عقلية مُتنوِّعة وفيها تسامح من آلاف السنين ولذلك تقبل الشيئ ونقيضه والشيئ وما يُكمِّله والشيئ وما يُضاده والشيئ وما يُقابِله، فالفلسفة الشرقية عموماً هى فلسفة التضاد وقبول الوحدة ضمن التضاد، والتضاد من خلال الوحدة يُستنسَل ويُشتَق، وهذا شيئ عجيب وعمق غير عادي.
فإذن شبنجلر Spengler يقول “هذا شيئ عادي أن ترى ديوجين Diogenes أو إيبقور Epicurus أو هيراقليطس Heraclitus أو سقراط Socrates وهو يجلس على نهر الغانج Ganges، فهذا أمر طبيعي، ولكن ديوجين Diogenes لو ظهر اليوم في عصرنا – شبنجلر تُوفيَ في النصف الأول من القرن العشرين وذلك في ألف وتسعمائة وست وثلاثين – في أي عاصمة أوروبية كُبرى لما نُظِر إليه على أنه أكثر من أبله، فلن يُعبأ به بل سيُحتقَر، نحن سنحتقره مع أنه يُعتبَر إغريقياً أو يونانياً وبالتالي ينتمي إلينا، ولكننا سنحتقره لأن نمط حياته الكلبي – النمط الكلبي للحياة – مرفوض لدينا ومن ثم سيُرفَض بالكامل لأن هذا غير مقبول”، هذا هو شبنجلر Spengler الذي يقول هذا، فلا تُحدِّثوننا عن هذه الكوننة الفارغة وأنتم لا تستطيعون أن تستوعبوا إلا الذات فقط، فالواحد من هؤلاء ينظر إلى الآخر فقط من منظار الذات، فالآخر لا يُساوي شيئاً وليس له أي قيمة لأنه لم يُقدِّم ولم يُسهِم في شيئ، لكن هل هذا صحيح؟!
الأديب البريطاني الاستعماري روديارد كبلينغ Rudyard Kipling يقول “الشرق شرقٌ والغرب غربٌ ولن يلتقيا”، كما لو كان يُوجَد غرب أبدي ويُوجَد شرق أبدي، وهذه أكبر أكذوبة في الثقافة والفكر، فلا يُوجَد شرق أبدي ولا غرب أبدي، لذا أنا أقول لكم أن هذا الغرب ما كان له أن يُوجَد لولا الشرق.
روجيه جارودي Roger Garaudy انفعل قليلاً على ما يبدو وأوفى على الغاية وبالِغ حقيقةً وغالى وذلك حين اقتنص المُشابَهة اللفظية بين لفظتي Occident & Accident، أي الغرب والعرضي أو الشيئ العرضي، فقال عبارته الشهيرة “الغربُ عارض”، أي أن الـ Occident هو Accident،فهو قال “الغرب شيئ عارض وبالتالي لماذا نظن أننا بداية التاريخ وسُرة العالم ومُستقطَر الحكمة ومنبع الفكر والهداية للدنيا؟ هذا غير صحيح، نحن فترة عرضية في تاريخ الدنيا، وحتى اليوم نحن لم نُعوَلِم العالم، وهذا من الصعب أن يحصل”.
أعود إلى هنتن Huntington، حيث أن هنتن Huntington أصاب في كتابه عن الثقافات في عالم مُتعدِّد – وهو كتاب ألَّفه بالاشتراك ألَّفه – في جُملة مُمتازة وذلك حين قال “إن الغرب لم يفرض حين نجح في فرض في بعض البلاد وفي بعض النُطق الثقافية نموذجه الفكري والحضاري على الآخرين بسبب تفوّق النموذج ذاته – ليس لأن النموذج نفسه فرض نفسه أو لأنه مُتفوِّق أبداً – وإنما بسبب الهيمنة والتفوّق العسكري”، ثم قال هنتن Huntington بعد ذلك مُعقِّباً “الحقيقة هى هذه، وهذه هى الحقيقة المُرة التي نتنساها نحن الغربيين ويأبى الآخرون أن ينسوها”، فهو يُريد أن يقول “لقد عذَّبناهم واضطهدناهم وذبحناهم لكي نفرض نموذجنا عليهم”، وعلينا أن ننتبه الآن لأن من المُمكِن أن يقول أحدكم “ولكن هم أرادوا أن يفرضوا النموذج، فإذن عندهم حس إنساني وهم يُريدون لنا الخير الذي خبروه لأنفسهم”، وهذا غير صحيح، كلا والله، ويُعطيكم الجواب عن هذا دانيال ديفو Daniel Defoe في روبنسون كروزو Robinson Crusoe، وكلكم قرأتم كروزو Crusoe وأنتم صغار، ففي روبنسون كروزو Robinson Crusoe كان الأبيض كروزو Crusoe يُعلِّم فريدي Friday المُلوَّن – وحتى كلمة المُلوَّن كلمة عنصرية، فهم يُريدون أن يقول أنهم الأصل وما عداهم فهو مُلوَّن، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن حتى اللغة عنصرية، وهذا شيئ غريب، لذلك أنا أكره هذه الكلمات التي على شاكلة كلمة مُلوَّن – القيم النبيلة والقيم المُختبَرة والمُنتقاة في الحياة، ونكتشف بعد قليل أنه لا يُعلِّم فريدي Friday المُلوَّن من أجل أن يُحقِّق ذاته أو من أجل أن يجد نفسه، كلا بل من أجل أن يكون كُفأً ومُقتدِراً على خدمته، أي لكي يخدم كروزو Crusoe، فما هذا؟ هذه خلفية تلمودية، ففي التلمود البشر كلهم ماعدا اليهود مخلوقون من نطاف الحيوانات مثل الخيول والحمير وغيره هذا، ففي التلمود مكتوب هذا ويُمكِن توثيقه بسهولة، فنحن خُلِقنا هكذا ولكن الرب القدير كساهم بصورة الإنسان من أجل أن يصلحوا لخدمة الجنس والشعب المُختار، وهذه هى نفس الفكرة عند دانيال ديفو Daniel Defoe في روبنسون كروزو Robinson Crusoe، وإلا ما الذي تغيَّر؟ لم يتغيَّر شيئٌ إلى الآن، هذه هى نفس العقلية، لذلك أنا أقول لك أنه يُريد أن يفرض نموذجه عليك لشيئين، لكي يُمكِنك فهم منطق استعباده لك فترضخ له، لأن العلاقة في نظره ليست علاقة بين ذوات تتآثر وبين ذوات تتفاعل أبداً، هذه ليست علاقة بين ذات واعية فاعلة تُملي وموضوع – موضوع وليس ذاتاً – فقط يتقبَّل وينفعل باستخزاء ودون نقاش ودون مُمانَعة، لكي تكون مُهيَّأً تهيئةً أكثر أن تكون موضوعاً فقط للاستعمال والتوظيف والابتزاز، فهذا هو فقط وبالتالي هذه أكذوبة كُبرى، ولذلك لا يزال تقسيم العالم إلى مراكز – Metropolises – وأطراف، فهذا هو وهكذا تم!
نعود إلى هذا الغرب المُتفرِّد الذي لم يحتج إلى غيره في شيئ والذي كوَّن نفسه من نُقطة الصفر ما شاء الله وبرز تاماً وكاملاً وطُهرانياً لأنه مُطلَق التفرّد والاختصاص، لكن هذا كله غير صحيح، وأنا أُريد بطريقة ربما رمزية نوعاً ما أن اُجيب عن هذا لأن هذا الموضوع طويل جداً جداً جداً وقد أُلِّفت فيه كتب في الشرق وفي الغرب كثيرة جداً جداً جداً ويُمكِن لكل أحد عنده فكرة في هذا الموضوع أن يعود إليها، علماً بأن الإنجليزي توماس كارليل Thomas Carlyle كتب كتاباً إسمه مقالات نقدية مُتنوِّعة قال فيه “العناصر الرئيسة لحضارتنا الأوروبية ثلاثة: البروتستانتية – أدب المُعارَضة الخاص بهذا اللوثري وفروعه، لأنه إنجليزي أنجليكاني – والبارود والطباعة”، وعلينا أن ننتبه إلى أنه قال “البارود والطباعة”، فقبله بأكثر من مائتين وخمسين سنة تقريباً فرانسيس بيكون Francis Bacon كتب في الآلة الجديدة Novum Organum التي وضع فيها أُسس الفلسلفة العلمية التجريبية “المُكوِّنات الرئيسة لحضارتنا ونهضتنا ثلاثة:الطباعة والبارود والمغناطيس Magnet”، فهنا حُذِفَت البروتستانتية ولم تكن موجودة، فاستُبدِلَ المغناطيس Magnet بها، والجامع المُشترَك بين الجردتين أن نصيب الصين في جردة بيكون Bacon أعظم ولا يزال هو الأرجح في جردة كارليل Carlyle لأن البارود والطباعة من الصين وليس من الغرب.
إذن باعتراف بيكون Bacon أُسس الحضارة الغربية كلها شرقية وباعتراف كارليل Carlyle ثلثا هذه الأُسس شرقية، وهذا ما يُمكِن أن نُقدِّمه كنقد سريع، فلا تقل لي “رفٌ واحد يسوى الهند والصين والعرب والعالم كله”، هذا كلام فارغ هذا، ائتني برف واحد لك أنت وحدك مُجرَّداً، ستعجز عن هذا!
حدَّثتكم مرة عن أن رئيس بولندا السابق حين زار رئيس سوريا الأسد الراحل عتب عليه الأخير أمام الصحافة وقال له “يا فخامة الرئيس أُريد أن تُقدِّموا اعترافاً واعتذاراً للعرب ولنا بالذات نحن الشوام”، لأن أبا الحسن المعروف بابن الشاطر كان شامياً وكان فرضياً ومُؤقِّتاً ومُؤذِّناً وعلَّامة ورجل كبير، فقال له ما القصة؟ فقال له “القصة هى أن نظام العالم الجديد الذي ابتدعه كما تقولون البولاندي نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus ليس هو من ابتداعه، حيث ثبت أنه مسروق، فكوبرنيكوس Copernicus سرقه من عندنا من جدنا الأكبر أبي الحسن المعروف بابن الشاطر، وثبت هذا بدراسات استشراقية أمريكية وغير أمريكية من ماكدونالد McDonald وغيره بالأدلة، فالرجل لص”، ومع ذلك يُحدِّثونك عن الـ Heliocentrism وهو النظام المركزي الشمسي أو المركزية الشمسية مُقابِل الـ Geocentrism وهو المركزية الأرضية وما يتعلَّق بالعالم هيلمز Helmus، فضلاً عن أنهم يُحدِّثونك عن ما يُسمى بالثورة الكوبرنيكية، فإلى اليوم يقولون لك في علم الهندسة الوراثية لقد ثارت أو قامت ثورة كوبرنيكية، ويقولون في علم الرياضيات هناك ثورة كوبرنيكية وهكذا، فهى يُضرَب بها المثل على أنها أم الثورات العلمية، لكن كوبرنيكوس Copernicus كان لصاً، وسرق هذا من ابن الشاطر، والعجيب أن بعد وفاة الراحل الأسد اكتشف بعض الدارسين حول العالم – مسلمون وغير مسلمين – مُصيبة جديدة، وهى أن هناك أيضاً الكثير جداً من قوانين وفهوم كوبرنيكوس Copernicus – نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus – فيما يتعلَّق بحركة الكواكب قد أخذها وسرقها من كتاب نُزهة الحقائق، لكن لمَن هذا الكتاب؟ لغياث الدين الكاشي رحمة الله عليه، غياث الدين الكاشي هو العلّامة المسلم الكبير والمُهندِس العظيم والرجل الفذ وصاحب أكبر عبقرية في تاريخ الحساب والرياضيات في تاريخ الدنيا وهى اختراع الصفر، فمَن الذي اخترع الصفر Zero ؟ العرب على يد غياثُ الدين الكاشي، فغياثُ الدين الكاشي هو صاحب نُزهة الحقائق وصاحب التجربة الشهيرة “طبق الأطباق”، لكن المُهِم هو أنهم قارنوا كلامه بكلام كوبرنيكوس Copernicus فوجدوا الشيئ نفسه، وهو أن كوبرنيكوس Copernicus كان سارقاً لغياث الدين الكاشي، أي أنهم يسطون على تراثنا ثم لا يُشيرون بكلمة بل يُشيرون علينا بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقولون “الأمم المُنحَطة والأمم الشرقية والأمم المُلوَّنة التي لم تُساهِم في الحضارة”، فكيف تقولون هذا بعد أن سرقتمونا؟ أين شرف المسلم والعالم المسلم والفيلسوف والمُفكِّر المسلم؟ شعارنا في عالم البحث والدرس هو “من بركة العلم عزوه إلى قائله”، أما المسلمون فكانوا يتبجَّحون بأن هذا ما قاله أرسطو Aristotle وهذا ما قاله أفلاطون Plato وهذا ما قاله أفلوطين Plotinus صاحب الأفلاطونية المُحدَثة، فهم يفتخرون بهذا ويقولون “هذا ليس قولنا وإنما هو قول هذه القامة الجبّارة التي قالته، أما أنا فلا أُساوي شيئاً بالنسبة إليها”، فهم يفتخرون بهذا ويرون في هذا شرفاً وكرامةً لهم، لكن هنا يحدث العكس، فإلى اليوم يدسون كل شيئ ويُخفون كل شيئ وينصبون علينا ثم يرموننا بالعظائم في حين أن الذي حصل هو عكس هذا، فلولا نحن ولولا الشرق – وبالذات الشرق المسلم – لما كانوا.
متى اختُرِع نظام العد العشري؟ هل تتخيَّلون رياضيات وحساباً بغير عد عشري؟ هذا يستحيل طبعاً، لكن متى اختُرِع نظام العد العشري؟ ومَن الذي اخترعه؟ الهنود هم الذين اخترعوه، ومع ذلك تجد مَن يقول “ رف من مكتبة أوروبية يُساوى الهند وتاريخ الهند”، فالهنود ما بين القرن الثاني والرابع من الألفية الأولى الميلادية فعلوا هذا، ثم وصل نظام العد إلى المسلمين في القرن السادس وأوائل السابع، ولم يصل أوروبا إلا في العاشر، فأوروبا لم تعرف نظام العد العشري إلا في القرن العاشر الميلادي، وبالتالي يجب أن ننتبه إلى هذا لأنهم يقولون “نحن البداية ونحن النهاية ونحن لم نأخذ شيئاً”، وهذا غير صحيح، فقد أخذتم كل شيئ وأخذتم أشياء أكثر مما يظن الناس وأكثر مما يظن حتى المُؤرِّخون ما شاء الله، وسوف يُكتشَف الشيئُ بعد الشيئ، فهذا العالم مُتفاعِل وهذا العالم مُتآثِر ومُتلاقِح، فلم نكران الجميل؟ ومَن الذي يُنكِر الجميل؟ ولذلك إذا تعلَق الأمر بالجغرافيا فصحيح الغرب غرب ونحن شرق، ولكن إذا تعلَّق الأمر بالحضارة والثقافة فإن الغرب ليس غرباً بذلك القدر الذي يُظَن، فهو غرب وشرق وشمال وجنوب وعالم واحد، فهذا العالم مُتآثِر.
جريدة إنجليزية كتبت قبل زُهاء عشرين سنة بنفس عُنصري وهى تصف امرأة إنجليزية – إنجليزية خالصة بنسبة مائة في المائة، أي أنها إنجليزية محض كما يُقال بالعربية أو Pure كما يُقال بالإنجليزية أو Rein كما يُقال بالألمانية، وهناك أشياء تدل على هذا مثل سحنتها ولون الشعر ولون العينين – كبيرة في السن مُسِنة “انظروا إلى وجهها كأنه الدجاج المقلي بالماسالا Masala”، ولكن ما هى الماسالا Masala؟ اتضح فيما بعد أن الماسالا Masala هى تركيبة بهارات هندية، فالعالم مُتفاعِل أكثر مما نظن، أي أن هذا الكاتب والصحفي الغبي يُريد أن يُبرهِن محض إنجليزيتها بهذه العبارة وهو لا يدري الغبي أن الماسالا Masala ليست إنجليزية، فالماسالا Masala هندية، إذن من المُمكِن جداً أن جدتك أو أمك الإنجليزية المحض – Pure – هذه تكون في نهاية المطاف هندية بل من المُمكِن أن تكون حتى إفريقية، فالعالم مُتفاعِل والعالم مُتآثِر، فأين هذا النمط من الإدراك والفهم مع نموذج لِتَعَارَفُوا۩؟ قال الله وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۩، لكن طبعاً أنا أُسجِّل مُلاحَظة بين مُزدوَجين وهى أن بعض المسلمين المُتزمِتين في هذه الحقبة للأسف لا يفهمون هذا، وهذا شيئ طبيعي وبالتالي لن نراه نهاية الدنيا لأنه يحصل، ولكن سوف يحصل انتقاء ثقافي – إن جاز التعبير – بعد ذلك وهو بدأ يحصل بالفعل، وأنا تنبأت حتى للملكة السعودية – وفيها خير كثير – من قبل عشرين سنة أن الوضع لن يبقى فيها على ما هو عليه من ناحية الصحوة الإسلامية التي فيها نوع من التزمت والجمود والانغلاق, والآن ما شاء الله السعودية فيها تحرّر كبير حتى في أوساط الإسلاميين وفيها دعوات ليبرالية وعقلانية وعلمانية ويُقال حتى إلحادية وذلك بسبب التشدّد الموجود، فعليك أن تكون مُتواضِعاً أكثر من هذا ودع الأمور تسير السير أو تسر سيرها الطبيعي، وعلى كل حال نعود لكي نقول أن هذا العالم مُتآثِر ومُتفاعِل أكثر، لكن إلى الآن للأسف في السياق الإسلامي يُوجَد في بعض المسلمين أو بعض الإسلاميين مَن لا يستطيع أن يستوعب الآخر إلا ضمن شرط التطابق، فيقول “حين تتطابق معي تماماً أتقبَّلك، لكن لو اختلفت معي ولو بنسبة واحد في المائة سوف أرفضك رفضاً تاماً”، فلماذا يا أخي تقول هذا؟ دينك دين التعارف يا رجل، أين هذا المنطق وأين هذا الإطار أو النموذج الإرشادي في التفكير مِما حدث لدينا في حضارتنا وفي نصوصنا ومِما طوَّره الآخر واقتنصه؟ مِن أجمل ما أخذه بعض الأوروبيين منا هو عدم اشتراط المُطاَبقة، علماً بأن أوروبا لو بقيت جامدة في إطارها العُنصر العرقي الرافض للآخر لما تقدَّمت، ولكن مزية أوروبا والغرب – كما قلت لكم – أنه يتعلَّمن من أخطائه، فهذا الغرب يتعلَّم لأنه كان قبل مائة سنة مُغرِقاً في العنصرية لكن الآن العنصرية أصبحت استثناءً يقول بها بعض المعتوهين، فمُعظَم رجال الفكر يرفضونها، وهذا تطوّر عجيب!
وحدَّثتكم في خُطبة الأطفال قبل سنتين أو ثلاث سنوات أن قبل ستين سنة كان الطفل في أوروبا يُعامَل كشيئ من الأشياء ليس له أي قيمة وكان يُضطهَد، فالطفل لم يكن له أي قيمة ولذا مُعظَم المدارس لم يكن فيها حتى دورات أو منافع للمياه والصرف، ولكم أن تتخيَّلوا أن هذا كان يحدث هنا في أوروبا، وهذا شيئ عجيب، لكن الآن مَن ينظر إلى الطفل وحقوق الطفل في أوروبا يقول “هذا الطفل أزلي، فمُنذ الأزل ينعم بهذه الحقوق” وهذا غير صحيح لكن هم يتعلَّمون بسرعة، فهذه من روح الحداثة وهذه قسمة تُشكِّل أهم ما في روح الحداثة وجوهرها، وهو حُب التغيّر والاستفادة من الخطأ، لكن بعض الإسلاميين لا يفهم هذا ويريد المُطابَقة الكاملة وإلا الرفض كالعنصر الأوروبي.
سُئل مرة الفيلسوف الفرنسي دي مونتين De Montaigne عن سر حُبه الشديد جداً للكاتب الثائر صاحب العبودية الطوعية لابويسيه :La Boétie لم تُحِبه هذا الحُب كله؟ وانظروا إلى الجواب العبقري العجيب، فقال لأنه هو هو وأنا أنا، أي لأننا مُختلِفان، فأنا أُحِبه جداً لأننا مُختلِفان، ولكن هذا المنطق يرفضه بعض الإسلاميين ويقول لك “بالعكس يا أخي لأن هناك الولاء والبراء، فأنا أُحِبك حين تتطابق معي وحين تمشي معي في السراء والضراء وتكون صورة من فكري وعواطفي وخلجاتي وآمالي وأحلامي ومِما أقول مِن إغفالاتي ومِن تضميناتي، فيجب أن تكون صورة حتى مِن الإغفالات ومن التضمينات”، وهذا غير صحيح، فضلاً عن أنه يقول “لا تطعن في صدور النصوص والأعاجز، قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مُجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف، فالنبي هو الذي يقول هذا”، وأنا أقول له هذا الحديث صحيح لكن أنت لم تفهم النص، الله يقول قبل النبي لِتَعَارَفُوا ۩، فيُصبِح سر المسألة في فهم وفي تحديد التعارف، واسألوا الآن هل التعارف يكون بين مُختلِفين أم بين مُتطابِقين؟ التعارف يكون بين مُختلِفين، وإلا لماذا أُحِب أن أتعرَّف عليك وتتعرَّف إلىّ إذا كنت أتطابق معك؟ لن يكون هناك أي داعٍ لكي أتعرف عليك، فأنا أعرفك تماماً لأنك صورة مرآوية مني، فلم نتعرَّف إذن؟
ولذلك الله – عز وجل – يُعطينا تعريفاً – Definition – للتعارف ويقول شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا۩، أي أننا جعلناكم مُختلِفين لِتَعَارَفُوا ۩، فمفتاح التعارف هو الاختلاف، فلا يُوجَد تعارف في غير اختلاف، وبالتالي علينا أن نُنمّي ثقافة التعارف وليس ثقافة التناكر أو ثقافة المُطابَقة الغبية، فالمُطابَقة هذه ثقافة غبية جداً وهى تُلغي الخيارات الأُخرى وتختزل الكل في واحد، والواحد هذا يكون إلهاً سواء كان إماماً أو مُجتهِداً أو قيادة سياسية أو عسكرية، ولكن هذا غير صحيح، فهذه أمة بشر وهؤلاء بشر وبالتالي لابد أن يكون كل واحد واحداً، وليس الكل واحداً أو في واحد.
والآن أسد المُزدوَجين وأعود إلى ما كنت فيه – بقيَ قليل من الوقت – لكي أُفضي الآن حقيقة بعد هذه المُقدِّمات التي استغرقت خُطبةً وثلاثة أرباع خُطبة إلى ما أحببت أن أُدلي به إليكم، وهذا نوع من الفكرة أو التصوّر لكيفية – حسبما أعتقد وحسبما أرى وقد أكون مُخطئاً بلا شك – التعاطي مع أمثال هذه المُشكِلات الناشبة، ولن نقول الأزمات لأن إن شاء الله لها حل، وهذا جُزء من حلها، فمرة تكون المُشكِلة في الحجاب ومرة النقاب ومرة المآذن ومرة في شتم النبي من خلال كاريكاتور Caricature ورسوم وأشياء ومرة ما هو غير ذلك، وطبعاً أنا أقول لكم أن هذا الموضوع سوف يستمر، فهناك مَن مصلحته أن يستمر، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى هذا!
سأُقرِّب الفكرة لأن الوقت ضيّق جداً بجُمل سريعة مُتلاحِقة، أولاً على المسلم والمسلمة الذي يخوض حربه بضراوة وحماس يُحسَد عليه – الحمد لله – حقيقةً أن يعي عدة أمور، علماً بأنني كنت سعيداً بالمسلمين حول العالم – بفضل الله عز وجل – رغم كل ما حدث ويحدث، فهناك نوع من الردة إلى الدين بحماس وبصدق وبحب، وهناك نوع من التمسك بالدين، وصحيح أنه طبعاً يحتاج إلى ترشيد وإلى توعية ولكنه موجود، وأنا أعرف أن مِمَن يشنأون الإسلام ويُكِنِّون له البغضاء وينصبون له المُعاداة مَن يغيظهم جداً جداً جداً هذا التمسك المُتحمِّس، فلماذا؟ الكل يخرج من دينه – نعم في أصوليات ولكن بشكل عام – إلا هذه الأمة فهى تتمسَّك بشيئ غير عادي، الأمة بعد أن حصل في حق رسول الله ما حصل أصبحت كلها فريقاً واحداً يُنشِد أُغنية واحدة ويُقسِّم معزوفة واحدة هى حُب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيئ رائع بل أكثر من رائع أُقسِم بالله العظيم، ووجدنا كبار المُمثِلين والمُمثِلات والمُغنيين والمُغنيات فضلاً عن الشيوخ والشيخات حول العالم يتكلَّمون عن رسول الله وعظمة رسول الله، وحمادة هلال غنى أغنية محمد نبينا وهى مِن أروع ما يكون أُقسِم بالله، فضلاً عن وجود قصائد وأشياء كثيرة مثل الطفلة التركية سحر الصغيرة التي أبكت العالم، فأنا كلما نظرت إليها واستمعت إليها بكيت أُقسِم بالله العظيم، والله العظيم هذه الطفلة تُبكي الصخر، فمَن لا يبكي ليس ببشر، فهى طفلة تركية وبنت ربما سبع أو ثمان سنوات لكنها تتحدَّث عن رسول الله بحديث يصدع قلوب الصخر، الحمد لله هذه أمة عجيبة وفيها روح وفيها يقين بدينها حتى وإن انحرفت عنه وإن قصَّرت، ولكن فيها يقين بصحة هذا الدين، وبلا شك هذا هو الحق الأخير ومن ثم إن ضاع ضاعت البشرية، تقول الآية الكريمة قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، فإن ذهبت هذه الأمة وهلكت العالم كله سيخوض عذاباً في الدنيا قبل الآخرة وكله سيأكل بعضه بعضاً، فهذه الأمة وحيدة وعندها صيغ مُتفرِّدة بلا شك، لأنها صيغ ربانية ليست بشرية عنصرية وغير عنصرية وانحصارية، هذه صيغ إلهية في الهداية وفي التوجيه والإرشاد، نسأل الله أن يجعلنا من المُتمسِّكين والمُمسِّكين بالهُدى الإلهي والضياء الرباني، فهم يغتاظون بلا شك ولكن علينا أن ننتبه إلى أن رغم ذلك كله ورغم تقرير هذه الحقيقة – وهى حقيقة فاقعة ولائحة – ليس من مصلحتنا كمسلمين ومسلمات حول العالم أن نتورَّط في خطأ كبير، فأنا أشعر – عندي نوع من الحدس – شعوراً قد يكون أيضاً غير دقيق وهو أن هناك بعض الجهات وبعض الأشخاص من الطواغيت ومن شياطين الفكر والتنظير حول العالم يُحِبون أن يُحرِجوا المسلمين وأن يستغِلوا غباء بعض المسلمين ليجعلوا معركة المسلم الدائمة – وهى معركة تراجع وانسحاب في نهاية المطاف – معركة الهوية الدينية، فيُقال “أنا مسلم أُطالِب بحقوقي كمسلم وأنا مسلمة وأُريد حقوقي كمسلمة”، وطبعاً تنحصر هذه الحقوق في حجاب وتنحصر في نقاب وفي مئذنة، ومن ثم لا نُريد المآذن التي تخسر أوروبا بسببها كما يدّعون، فهذا المسجد – والحمد لله – يبث علماً وخيراً بمقدار ما يسَّر الله، فهل لو كان له مئذنة كان سيبث علماً أكثر من هذا؟ هذه الأشياء المعمارية والهندسية والحضارية أوروبا هى التي تستفيد منها،و سيُسجِّل لها التاريخ أنها كانت موزاييكاً Mosaic ثقافياً وأن هذه الأشياء المعمارية لم تكن تُمثِّل مُشكِلة لها، وعلينا أن ننتبه أننا لدينا هذا والحمد لله، فنحن لدينا الكنائس والمعابد اليهودية وغيرها – بفضل الله – من ألف ومائتين سنة ونفتخر بهذا، وهم ليس عندهم ما يفتخرون به وهذه مُشكِلتهم وليست مُشكِلتنا، فليست مُشكِلتي الآن المآذن وغير المآذن، فما الذي أُحِب أن أقوله إذن؟!
علينا أن ننتبه إلى أن الهوية يا أحبابي لا يُمكِن أن تتحدَّد أو أن تتعيَّن بمُحدِّد واحد، هذا غير صحيح، فهوية كل بشر على وجه الأرض لها أكثر من مُحدِّد، فالعمل على اختزال الهوية في عامل واحد هو الذي جر الكوارث والحروب والعصبيات الدينية وأشعل نيران الكوارث على الناس في القديم والحديث، فمثلاً أنت إنسان أولاً، ثم أنك إنسان من كوكب الأرض وهذا مُحدِّد طبعاً، ومن هنا القرآن خاطب بهذا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩، ثم أنك عربي – مثلاً – مسلم، ثم أنك مصري أو شامي أو عراقي أو تونسي أو سعودي أو خليجي وإلى آخره، ثم أنك مسلم مالكي أو مصري مالكي، وفي نفس الوقت أنت مُوظَّف في وزارة كذا كذا كذا كذا كذا أو عامل في قطاع كذا كذا كذا أو طالب في جامعة مثلاً، وتتبنّى من الاتجاهات الفكرية والسياسية كذا وكذا وكذا وكذا ما يجعلك تنحاز وتتعاطف مع الأحزاب الفلانية الكذائية الكذا كذا كذا كذا، فكل هذه مُحدِّدات لهويتك، ثم أنك أهلاوي أو زمكلاوي، فهذا مُحدِّد لهويتك أيضاً، ثم أنك حيواني أو نباتي، إي عاشب أو لاحم، فتأكل فقط النباتات الخضراوات أو اللحوم، فهذا مُحدِّد لهويتك وإلى آخره، إلخ إلخ إلخ إلخ إلخ كما يقولون، فالآن الوزن النسبي لكل مُكوِّن من هذه المُكوِّنات ولكل مُحدِّد يُحدِّده السياق – Context – الاجتماعي، بمعنى حين أُدعى إلى إلقاء مُحاضَرة علمية أو خُطبة جُمعية ما يُحدِّد هويتي تخصّصي العلمي، أي مَن أنا؟ فهذا هو المُهِم، ولن يسأل أحد هل عدنان نباتي أم حيواني؟ ولكن المُهِم هو ماذا أقول وماذا أحمل من أفكار ومِن أي منظور أُعالِج المُشكِلات، فهذا هو المُهِم، ما هى هويتي الآن؟ ولكن حين يُريد أن يُكرِمني بعضكم – ولا أرجو ذلك – ويدعوني الآن على غداء بعد هذه الخُطبة – مثلاً – التي ربما تكون أعجبته وإن طالت سوف يكون المُهِم في هويتي هل أنا نباتي أم حيواني، وهل أُحِب السمك واللحوم بيضاء والدجاج أم غير ذلك، ومن ثم سوف يسألني ماذا تأكل، فهذا هو المُهِم الآن، ولن أقول له – مثلاً – أنا راجل شافعي يا أخي، فلا علاقة للطعام بكوني شافعياً، نحن الآن نتحدَّث عن الطعام وعن السمك، فما يهم الآن هل أنا حيواني أو نباتي، أي أن السياق هو الذي يُحدِّد، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى هذا الآن، فنحن نعيش هنا في أوروبا في الغرب ولا يُوجَد أي أحد منكم أو منكن يود حين يذهب إلى المُستشفى أن يُعامَل على أنه “المسلم المريض” لأنه يخاف من التحيّزات، يخاف أن يجروا له عملية فيقطعوا الحالب – مثلاً – أو الخصية، وبالتالي هذا المسكين يخاف ولا يُريد هذا، وكذلك المرأة قد تقول لك أنها تخاف من أن يجروا لها عملية تعقيم صناعي أو أن يسدوا لها الرحم ومن ثم تتوقَّف عن الإنجاب، وبالتالي هذه المسكينة تخاف من هذا لأن عندها خيالات حتى وإن كان هذا غير موجود، ولكن من المُمكِن أن يكون بعضهم عُنصريين، ونحن رأينا عدداً من البرامج التي تحدَّثت عن تحيزات وقعت مع بعضهم البعض وليس مع المسلمين، وكان هناك سيدة مُعقَّدة تقتل الأطفال لأنها غير مُتزوِّجة، فكانت تُكسِّر للأطفال أيديهم لأنها عانس، وهؤلاء الأطفال كانوا أبناء يوم أو يومين أو أسبوعين، وكانت هذه كارثة لأن ذهب فيها عشرات الأطفال، ثم في نهاية المطاف اكتُشِفَ أمر هذه المجنونة، فأنت أيضاً تخاف من أن تتورَّط مع شخص مجنون ولديه كره تجاه المسلمين، وبالتالي تود فقط أن تتحدَّد هويتك بالمريض بالرشح أو بالتهاب الكبد الفيروسي – الهيباتايتس Hepatitis – أو بالكُلى أو بغير ذلك، فتقول “أنا مريض وفقط، فبالله عليك لا تسألني لا عن ديني ولا عن لغتي ولا عن أي شيئ آخر، أنامريض وفقط”، وكذلك الحال حين تذهب تُقاضي رئيس و مدير الإدارة الذي تعمل مُوظَّفاً لديه عند القاضي أو القاضية، فلو بدأتك بسؤال ما دينك يا سير Sir فلان؟ ببسمة صفراء سوف تنزعج جداً وسوف تقول “هذه المرأة قد تكون عُنصرية، لماذا تسأل عن الدين؟ أنا قضيتي تتمثَّل في كوني مُوظَّفاً مُضطهَّداً، فأنا أشعر بأنني مُضطهَّد لأنني ظُلِمت جُزءً من راتبي، فعليها أن تتعاطى معي وإياي على أنني المُوظَّف المُتظلِّم فقط، دون النظر إلى كوني عربياً أو إفريقياً أو مُلوَّناً أو مسلماً لأن هذه الأمور ليس لها علاقة بالقضية”، فإذن أنت سوف تنزعج على كل حال، لكن عليك أن تنتبه إلى أن ما يحصل الآن هو العكس، فهناك لُعبة خطيرة تجري أرجو أن ننتبه إليها وأن نفهمها جيداً، ولكن قبل أن أُكمِل أُحِب أن أقول الجُملة الثالثة الآن وهى أن مسألة الهوية هى مسألة تفضيل شخصي وخيار شخصي حُر في أكثر مُقوِّماتها، فكوني إنساناً هذه مسألة ربانية ليس لي فيها أي اختياري، لأن هذا اختيار الله، فهو الذي جعلني إنساناً ومن ثم لم أكن أي شيئ ثانٍ، وكوني إفريقياً أو مصرياً أو غير ذلك أيضاً اختيار الله، ولكن كوني إلى الآن مُتشبِّثاً بالمذهب السُني المالكي هذا اختياري، كوني إلى الآن أُشجِّع الأهلي وليس الزمالك وأتبنى كذا كذا كذا من الأفكار هذه اختياراتي أنا، فأكثر مُحدِّدات هويتي هى من اختياراتي أنا ومن تفضيلاتي الشخصية، وهذا جميل جداً وهى نُقطة لابد أن تُعطى كمُسلَّمة، فإذا كان أحدهم يُحِب شيئاً دون الآخر فهو حُر، ماذا أفعل له؟ يجب أن أتقبَّل هذا احتراماً لحريته، فأعظم حقوق الإنسان هى الحرية، وبالتالي احتراماً لأعظم حقوقه لابد أن أُسلِّم خياراته وتفضيلاته، وينتهي كل شيئ بدون أن نُناقِشه ونقول له لماذا أنت تُؤيِّد كذا دون كذا أو لماذا أنت لست كذلك، فهذه الأمور لا تخصنا، فحين يشعر هذا المسكين بأنه مُضطَرٌ ومُكرَه في كل يوم وساعة على أن يُبرِّر كونه مسلماً وأن يُبرِّر كونه مالكياً سُنياً وليس شيعياً اثنا عشرياً أو زيدياً وأن يُبرِّر كونه كذا وكذا وكذا سوف تنقضي حياة هذا التعيس الأغبر المسكين وهو يُبرِّر ما ينبغي أن يكون مُسلَّماً، وبالتالي هذا فاشل وأكبر خائب Loser، وكذلك نحن يُراد جعلنا خائبين ومن ثم يجب أن ننتبه، لأن هنا في الغرب مَن يُريد منا أن نبقى نُبرِّر لمدة ألف سنة إلى أن نموت، فنظل نُبرِّر ونقول أننا مسلمون وأن من حقنا كذا وكذا وكذا، وهذه كلها أشياء بسيطة هذه وسهلة ولكن المنطق المُخالِف الذي شرَّحناه في خُطبتين له دور، وعلى كل حال علينا أن نكون واضحين في هذه المسألة فنعرف ماذا نُريد ونُطالِب بماذا، معركتنا الحقيقية هنا أننا مُواطِنون أوربيون وأوروبيات ونُريد أن نعيش هذه المُواطَنية بكاملها وأن ننشط ونُشارِك في السياسة والاقتصاد والإعلام والأدب والنقد والفكر والتعليم والتربية في كل المناشط والفواعل على قدم سواء دون أن نكون دائماً اعتذاريين ودون أن نكون دائماً تهديديين، فنحن نُريد أن نُشارِك وعلينا أن نفعل هذا بسهولة وأن نتربّى وأن نُربّي أولادنا عليه بسهولة، وسوف نرى أنفسنا في النهاية مسلمين ناجحين ومسلمات ناجحات وتنتهي المُشكِلة، ولكن نحن الآن نتورَّط كل فترة وفترة وكل سنة والثانية وكل شهر والثاني في معارك جُزئية بسيطة صغيرة جداً جداً جداً وتافهة في الحقيقة، وطبعاً الطرف الآخر دائماً يكسب ويقول “ألم نقل لكم أنهم مُتعصِّبون؟ ألم نقل لكم أنهم حصريون؟ ألم نقل لكم أهم يرفضون الاندماج؟ ألم نقل لكم أنهم يرفضون أن يكونوا مُواطِنين صالحين؟ ألم نقل لكم أن ولاءهم ليس للدولة وليس للشعب وليس لتاريخنا؟ إنهم الآخر، فليذهب الآخر إلى الجحيم” ومن ثم نخسر، لكن علينا أن نكون أكثر عمقاً وأن نتعاطى وفق فلسفة ورؤية مُعيَّنة لهذه الأمور لكي ننجح، والله المُستعان تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الإخوة:
وإذا كانت هويةُ الواحد منا فرداً أو أمةً أو جماعة تتحدَّد بمُحدِّدات كثيرة فإن مَن يعمل على اختزالها في مُحدِّدٍ واحد هو المُتطرِّف وهو المُغالي وهو الذي يُمكِن أن يعمل على إشعال نار حروب تجعل الأخ يقتل أخاه، لأن هذا وإن كان إنساناً وإفريقياً ومصرياً ومسلماً وسُنياً لكنه ليس حنفياً وإنما هو مالكي يجب أن يُقتَل، وفي الحقيقة هو يشترك معي في تسعة نقاط من عشرة ويختلف في نقطة واحدة وبالتالي هذا لا يُبرِّر أن أُعاديه، لكن ما الذي يحصل؟ حين تُختزَل العشرة في واحد تنشأ الحروب، وهذا ما حصل في القديم والحديث وما زال يحصل، فعلينا أن نتبنّى مُدخَلاً تعددياً غير انعزالي وغير إفرادي للهوية حتى ننجح، ونترك تقدير القيم النسبية والأوزان النسبية لكل مُحدِّد لكل سياق.
أبو حنيفة – وأختم بهذا – دخل عليه مرة الخوارج – وهم يقتلون كل مسلم لا يتبعهم على مذهبهم، وقد قتلوا عليّاً من قبل – وهو في الدرس شاهرين سيوفهم فقالوا له وأنتَ يا نُعمان ما مذهبك؟ مَن أنت؟ فانظروا بماذا أجاب، قال لهم “مُشرِك مُستجير”، أي أنه يُريد أن يقول إن كنت في ظنكم مُشرِكاً فليكن إذن وأنا الآن مُشرِك مُستجير، يقول الله وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ۩، فقالوا اتركوه واسمعوه كلام الله.
فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في ديننا، اللهم فقِّهنا في الدين وعلِّمنا التأويل، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيم، اللهم اهدنا واهد بنا وأصلِحنا وأصلِح بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك وخِر لنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك حتى لا نُحِب تعجيل ما أُخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا وأقِر بذلك عيوننا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(14/5/2010)
أضف تعليق