إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
يبدو أننا سنتناول في هذا المقام القضية التي يشتغلُ بها وعليها العلماء والدُعاة والوعاظ وكثيرٌ من أهل الفكر في عالمنا الإسلامي بل وحول العالم، قضية هذا الموقف الأوروبي الجديد من مسألة انتقاب مَن يشأن التنقّب من المسلمات في أوروبا، ولكن سنتناول هذه القضية في إطار أوسع وفي سياقات أوسع وفي إطار مفاهيمي حتى نستطيع أن نُقارِبها بعدل وإنصاف وبحكمة، وسوف نتوخى ذلك قدر المُستطاع.
سأبدأ أولاً بشجب الطريقة التي يضطلع بها بعضنا للأسف هنا وهناك في التعاطي مع أمثال هذه الأمور وهى طريقةٌ تتجافى مع الروح التي عمل القرآن على تكريثها وترسيخها ومُشايعتها، روح العدل والإنصاف، روح التقوى، ألا يحملنا الغضب والاستفزاز على أن نبخس الناس أشياءهم “أين حقوق الإنسان في أوروبا؟ انمحت حقوق الإنسان، نحن نعيش هنا في فراغ، كل ما نتمتع به من حقوق ومن سلم وأمان ليس شيئاً الآن، أين حقوق الإنسان؟ لا حقوق للإنسان في أوروبا”، وكأنها مُكرَّثة على أحسن وجه في العالم العربي والإسلامي، هذا واحد للأسف الشديد، تماماً كما علَّقنا قبل أشهر يسيرة على قتل الشهيدة مروة الشربيني، نفس الشيئ: مَن المُتطرِّف؟!
قتل امرئٍ واحد وقد اتُخِذَ مع القاتل المُجرِم العنصري المُخبَّل – لا يعنينا ماذا يكون وصفه – الاجراءات المُناسِبة قانونياً والعادلة أيضاً، ولكن أن نقتل نحن الآلاف أحياناً بضربات عبثية مجنونة هنا وهناك يتشكَّك بعضنا في انبغاء أن نشجب هذا وأن نصمه بأنه تطرّف وإرهاب، لا يجوز أن نُعطيهم ذريعة لشجب المسلمين، كأننا نُشايع أنفسنا في الحق والباطل، أي حق هذا الذي يجعلني أُصفِّق للعبث وأصم وأعمى عن الحق حيث أراه؟ لا أُريد أن أكون كذلك، الإسلام يُعلِّمني ألا أكون كذلك.
لا يستطيع أحد أن يُنكِر أن أوروبا والعالم الغربي عموماً والولايات المُتحدة أيضاً قد سبقوا سبقاً بعيداً في هذا المضمار، أي في مضمار حقوق الإنسان واحترام الحريات وما إلى ذلكم، ولكن هل أوفوا على الغاية؟!
لم يوف أحد يوماً على الغاية لا أوروبا ولا المسلمون ولا أحد، سيبقى الإنسان دائماً يتطوَّر ويتعلَّم وينشد الأحسن هذا إن كان وضعه هو الأحسن، ولكن أن نطلب وضعاً أمثلياً ووضعاً كاملاً – Perfect – فهذا غير موجود، لم يُوجَد وربما لن يُوجَد، ولكن نحن نُحاوِل أن نقترب من هذه الأمثلية، نُحاوِل أن نقترب من الوضع الأحسن والأمثل، وهذا شيئٌ جيد، لا أحد يُنكِر أن الغرب الأوروبي والأمريكي يُحاوِل، ولكن هذا الغرب أيضاً ليس معصوماً، وليس هذا الغرب أيضاً من جهة أُخرى غرباً واحداً مُصمَتاً، بالعكس كما نقول دائماً هو أغربةٌ مُتعدِّدة جداً، أكثر ما يقع على رؤوس المسلمين اليوم من ظلم من هذا الغرب أيضاً وإجحاف ووكس إنما يقع بسبب أنهم يُصِرون على – في الجُملة طبعاً وليسوا جميعاً، لكن خاصة الساسة هنا وهناك في الغرب للأسف – أن يتعاملوا مع المسلمين كوحدة واحدة وكعالم واحد وكثقافة واحدة وكذهنية واحدة، وهذا غير صحيح بالمرة، لسنا ذلكم الواحد ولسنا ذلكم الواحدية، نحن مُتنوِّعون، هناك تنوّع هائل في الطيف الإسلامي من الأفكار والنظريات والطروحات والمفاهيم، وكذلكم في الغرب هذا الوضع موجود، فهذه واحدة لابد أن نبدأ بها وألجأنا الإنصاف أن نبدأ بها حتى لا نُتهَم بأننا مُتحيّزون ضد هذا الغرب!
ثانياً: قضية النقاب هى امتداد لقضية الحجاب بمعنى ما، ولكن فرقٌ كبير بين الأمرين حقيقةً – فرقٌ كبير بين الحجاب والنقاب – ولا أتحدَّث من جهة فقهية، أن الحجاب مُلزِم للمرأة المسلمة والنقاب ليس مُلزِماً في رأي لا أقول أكثر الفقهاء ولكن في رأي طائفة مُحترَمة جداً من الفقهاء والأئمة عبر العصور.
طبعاً ليست تُعجِب طريقة بعض الدُعاة والوعاظ وخاصة في الفضائيات وحتى في الكتابات الذين يتكلَّمون بحماس زائد مُفرِط ويُحِبون ويُقسِمون على أن يُقنِعوا مَن يستمع إليهم أن هذا هو الحق المُطلَق ولا حق سواه وينبغي عليكم أن تصموا عن كل رأي آخر، هذا الأسلوب مرفوض، المفروض أنه مرفوض مُنذ زمن بعيد ولكن هؤلاء يعيشون خارج السياق للأسف وخارج التاريخ، فلا يزالون يُمارِسون الوصاية على العالم وعلى الأمة، اعرض رأيك بتواضع واعرض رأيك أيضاً بإنصاف يقتضيك أو يتقاضاك أن تُشير إلى الرأي الآخر باحترام وليس بإبخاس وليس باستخفاف، وطبعاً لا تُقنِع وليس من طبيعتها أن تُقنِع قضية أن يأتي مُتحدِّثان – ولا أقول مُتحاوِران – أو ثلاثة ينصرون قضية بعينها، فأين الطرف الآخر؟ لابد أن تستدعي الطرف الآخر حتى ولو كان مُلحِداً، والطرف الآخر العلماني وغير الإسلامي، والطرف الآخر الإسلامي الذي له رأي آخر، فلابد أن يتكلَّم ولا أحد يُنيبك أن تتكلَّم بالنيابة عنه، وقد علَّمتنا أيضاً الدروس والتجارب أن كل تقريباً مَن يتكلَّم بلسان الآخر يفتئت عليه ولا يُنصِفه، فلا يُمكِن أن تُنصِفني كما أُنصِف نفسي، مَن الذي أعطاك الحق أن تتكلَّم بإسمي ثم بعد ذلك تتدّعي أنك أتيت بالرأي والرأي الآخر وانتصرت للرأس الصحيح بالحُجة؟ هذا كلام فارغ، هذا الأسلوب صبياني ولكن يفعله للأسف بعض أبطال هذه الفضائيات.
قبل أيام استمعت إلى شيخ ولم أكد أُصدِّق ما أستمع إليه، زُهاء ساعتين عن موضوع النسخ في الشريعة في القرآن الكريم، وطبعاً المُتحدِّثان من نفس المدرسة في نفس الخط، وكان أحدهما دكتور أزهري مُعمَّم مُحترَم حقيقةً – شكله وفيه وقار واحترام، شابٌ عالم فيه وقار وأدب حقيقةً – ولكن للأسف لم يكن أميناً – أرجو أن يسمع كلامي هذا إذا يُسِّر له أن يسمعه ـ لأنه أتى بالجزء الأول من رسالة الدكتور العلّامة الأزهري مُصطفى زيد وهى أعظم رسالة إلى الآن وأوفى دراسة في موضوع النسخ ولكن ليست أيضاً النهاية – لكنها رسالة عكف عليها صاحبها العلّامة الأزهري الجليل مُصطفى زيد – رحمة الله عليه رحمة واسعة – عشر سنوات كواملة أو عشر سنوات كاملة – وقال “هذا العلّامة الدكتور زيد درس الموضوع وفي مُجلَّدين وفي عشر سنين“، ولكن لم يقل لنا إلى ماذا انتهى الدكتور زيد، هو أفهمنا طبعاً وأفهم كل مَن لم يعرف الدكتور زيد وكل مَن يقرأ له أن الدكتور زيد يقول بالنسخ كما يقولون هم به في القرآن الكريم، لكن الدكتور زيد انتهى إلى أن هناك فقط أربع آيات يُمكِن أن تكون منسوخة لا أكثر والباقي مُحكَم غير منسوخ، وهذا يُتيح لنا – وأنا قمت بهذا مرة في مُحاضَرة وربما سأعيدها في خُطبة – ولغيرنا من قبل ومن بعد الفرصة أن نأتي لمُساءلة دعوى منسوخية هذه الآيات الأربعة، وقد فعلنا فإذا بها مُحكَمة غير منسوخة!
العلّامة القرضاوي – أمتع الله به – اضطُر – كما أشرت مرة – في فقه الجهاد – دراسته الأخيرة العظيمة – إلى أن يُعالِج من جديد موضوع النسخ، وانتهى إلى مُفاجأة فاجأته هو وهى أن القرآن مُحكَم غير منسوخ وليس فيه من المنسوخ وأن كل ما قيل بأنه منسوخ في القرآن الكريم قيل أيضاً – هناك رأيٌ آخر لعلماء مُحترَمين – بمُحكَميته وأنه مُحكَم غير منسوخ، فلا تُوجَد آية واحدة أجمعت الأمة على منسوخيتها، كل الآيات التي قيل فيها بالمنسوخية قيل فيها بالإحكام ، وهذا رأي وجيه جداً.
لكن أن تأتيني وأنت مُعمَّم وشيخ مُحترَم ووقور – حفظه الله، حقيقةً كان وقوراً من مظهره – وأن تُهوِّل بكتاب الدكتور زيد ولا تقول لنا ماذا يقول الدكتور زيد فأين الإنصاف؟ أين العلم؟ أين عشق الحقيقة؟ أين إنصاف الحقيقة؟ قولوا الحقيقة كما هى يا أخي!
ولكن هؤلاء جاءوا ليُؤدوا دوراً، هو استدُعيَ إلى هذه القناة لكي يقول هناك نسخٌ وانتهى ومَن لا يقول بالنسخ ينبغي أن يُقطَع لسانه، وطبعاً دُمدِم وثُرِّب عليه كثيراً من المُتحدِّث الآخر حقيقةً وهو ليس عالماً رسمياً، هو عالم شغل يديه، فهو ليس خرّيجاً للأزهر مثلاً، ولكن هذا كان وقوراً جداً ومُحترَماً حقيقةً وراكزاً ولكن تنقصه الأمانة للأسف وينقصه التحيّز للحقيقة عشق الحقيقة كما هى.
فلابد أن نتعلَّم هذا الأسلوب وهو أن يكون تحيزنا إلى الحقيقة، لا ُنريد أن نُجامِل أنفسنا، أعمى مَن لا يرى الحقائق، فلماذا نعمى عن الحقائق من أجل أن نجبر خواطرنا ومن أجل أن أقوم بدور الجمهور يتوقَّعه مني، فنبدأ الآن بالعويل واللطيم لقضية النقاب؟!
فرقٌ بين النقاب والحجاب، ولكن كيف؟!
من جهة واحدة على الأقل، وطبعاً أنا أطرح احتمالاً، إذا كان موضوع النقاب مبعث التشدّد فيه أسباب أمنية فالموضوع فيه وجاهة حقيقةً، وخاصة على إثر الأحداث التي وقعت في يونيو ألفين وخمسة في سابوي Subway في لندن، وهناك كاميرات – Cameras – تُصوِّر الآن في أوروبا كلها وكلَّفتهم مئات الملايين، وطبعاً هذه تُحاصِر الإرهاب، ولكن حين يأتيني رجل الآن يلبس زي امرأة ومُنقَّب ويدخل ويخرج لا نعرف حتى مَن هذا الذي قام بهذه العملية، وربما هناك هواجس وأسباب أمنية بعضهم صرَّح بها، فمن حقهم أن يُحافِظوا على أمنهم، وأنا ذكرت لكم مرة هنا أننا نحن الفلسطينيين في السبعينيات حين بدأ نشاط الفدائيين فعلاً يستعر وينتشر كان الفدائيون والناس على الاقل في مُعسكّراتنا – وهذا نخبره ونذكره جيداً – يُهاجِمون فكرة أن تنتقب المرأة، لأن الجواسيس كانوا يفعلون هذا، فأسفروا إذن حتى نعلم مَن الذي يذهب ومَن الذي يجيء، لا يُمكِن أن تعمل جاسوساً تحت النقاب، وهنا يخافون أن تعمل إرهابياً تحت النقاب.
والحمد لله أن النقاب ليس مُلزِماً بالإجماع، هو مُلزِم في رأي بعض الاجتهادات وبعض العلماء، نحترمها على العين والرأس لكن هذه من جهة ثانية، فالموضوع بلا شك أقل خطراً وأقل إحراجاً لنا من موضوع الحجاب، فالحجاب موضوع يختلف تماماً حقيقةً عن موضوع النقاب، وهذه كانت النُقطة الثانية، أما النُقطة الثالثة هى أننا مع ذلكم نود أن ننظر إلى هذا التعاطي من بعض الحكومات والبرلمانات وحتى من الشعوب التي تُستفتى هنا في أوروبا إلى هذه القضايا من منظور أوسع، هذا المنظور يُذكِّرنا بالحقائق المُحرِجة بلا شك للطرف الآخر، فهناك حقائق مُحرِجة ولكن نُريد أن نقول شيئاً مُهِماً طبعاً قبل أن نذكر ما يُحرِج – وهذا كله من قبيل الإنصاف، فنحن بدأنا بداية مُنصِفة إن شاء الله نتوّى فيها الإنصاف – بالنسبة للطرف الآخر وهو ليس آخراً كما نظن يعني أو ليست آخريته بالدرجة التي نظن، فالعالم مُتشابِك بطريقة أكثر مما نظن على كل حال، فلسنا نحن نحن وهم هم بهذه الطريقة الانفرادية الانعزالية الواضحة تماماً، فالموضوع أكثر من ذلك بكثير.
على كل حال نُذكِّر اليوم في أوروبا على مُستوى المُجتمَع المدني وعلى مُستوى المُفكِّرين الصحفيين وبعض الساسة وهؤلاء هم الأندر والأقل دائماً للأسف الشديد والبلاء مُعظَمه يأتي من هؤلاء، ولكن مُفكِّرون كثيرون ورجال فكر وافرون ومُؤسَّسات مُجتمَع مدني كثيرة ونشاطات وفاعليات لهذا المُجتمَع المدني كثيرة لا تُقاس بما كان عليه الوضع هنا في أوروبا قبل مائة سنة، إذن هناك تطوّر إيجابي مُذهِل حقيقةً، وأتمنى أن نحظى نحن المسلمين بربع هذا التطوّر الإيجابي في النظرة إلى أنفسنا وإلى الآخر وإلى الحياة وإلى القضايا كلها بربع ما تطوّر هؤلاء القوم، هناك تطوّر مُذهِل وسريع وإيجابي يتقدَّم نحو ما هو خير ونحو ما هو أفضل، وهذا موجود ولكن تراثهم القريب جداً فيه ما يخزى له الإنسان الغربي وفيه ما يندى له الجبين، ونحن أمة تُراثها عريق جداً في التسامح وتقبّل الآخر واحترام الآخر والتعامل مع الآخر، تُراثنا عميق مُؤسَّس مع الآيات الأولى في القرآن المكي، وهذا شيئ عجيب، وهذه الأمة برهَنت هذا، ولا نُحِب الآن أن نتحدَّث بصيغة تمجيدية وإعلائية ولكن هذه حقائق.
اليوم – مثلاً – إذا ذُكِر التعصّب الإسلامي والأصولية الإسلامية والخطر الإسلامي فأول ما يتبادر إلى ذهن الغربي إيران، يقولون “إيران وتتسلَّح تسلّحاً نووياً”، فهى تُقسِم ألف يمين نشاطات سلمية، وهم يُقسِمون مليون يمين أن هناك نوايا سيئة، فهم يكشفون عن النوايا ويُريدون منها أن تخضع للتفتيش، ولا فائدة من هذا، ولكن إيران هذه التي هى رمز للأصولية الإسلامية الآن والخطر الذي يتهدَّد العالم لم تعتد من مائة وخمسين سنة على أي أحد، وهذه حقائق التاريخ، الحرب العراقية الإيرانية كان العراق هو المُعتدي وهذه حقائق أيضاً، فمن مائة وخمسين لم تشن حرباً عدوانية على أي أحد، إذن هى تُهدِّد مَن؟ قولوا لنا مَن الذي شنَّ الحروب الاستعمارية في إفريقيا وآسيا: الشرق المُسلِم أم أوروبا؟ كم كلَّفت هذه الحروب الاستعمارية؟ خمسين مليون من الضحايا.
والآن يأتي السياسي والأكاديمي والصحفي والكاتب الشهير يورغين تودنهوفر Jürgen Todenhöfer صاحب كتاب لم تقتل يا زيد؟ Warum tötest? du, Zaid ليقول في إحدى فرضياته العشرة التي خدَم بها الكتاب “الغرب هو الأشد عنفاً، ولا قياس بين عنف العالم الإسلامي وعنف الغرب وعنف أوروبا”،وهو الذي ذكَّر بهذا أيضاً حين قال “مَن الذي شنَّ الحروب الصليبية تحت شعار هذا ما يُريده الرب؟ البابا أوربان الثاني Pope Urban II، فهذا مُراد الرب – الرب يُريد هذا – ولكن هذه الحروب كلَّفت أربعة ملايين من الضحايا من المسلمين واليهود، وطبعاً أكثرهم من المسلمين في الشرق العربي”، فمَن الذي فعل هذا؟ أوروبا، فلسنا نحن الذين أشعلنا الحروب الصليبية تحت شعار الرب وقلنا الله يُريد هذا ومحمد يُريد هذا،لم نفعلها أبداً، وهذا كلام ليس كلاماً لعدنان إنما هو كلام كلام الألماني العظيم حقيقةً والإنسان العظيم تودنهوفر Todenhöfer، والعجيب أنه جعل ريع كتبه ونشاطاته العلمية والفكرية والخدمية من أجل الجرحى واليتامى في العراق وفي أفغانستان، وهذا شيئ يُبكي ولا يكاد يُصدَّق، فهو إنسان عظيم وهو غربي أيضاً، هل تتحدَّث عن الغرب؟ هذا غربي، وهو مسيحي ألماني ولكنه إنسان عظيم بكل معاني الكلمة حقيقةً وأفضل من بعض المسلمين في تعاطيهم مع هذه القضايا!
إذن تساءل تودنهوفر Todenhöferعن الحروب الاستعمارية التي كلَّفت خمسين مليوناً من الضحايا في إفريقيا وآسيا والغرب الأوروبي، وتساءل عن حربين عالميتين – الأولى والثانية – على الأقل ذهب سبعون مليوناً من الضحايا بسببهما، وهذه لم يُشعِلها العالم الإسلامي وإنما أوروبا هى التي أشعلتها، وهذا عنف مُخيف جداً ذهب ضحيته عشرات الملايين، فالحديث عن عشرات الملايين من القتلى ثم يتحدَّثون عن العنف الإسلامي، أي عنف إسلامي؟ أين هو هذا العنف الإسلامي؟
ولذلك الاتحاد الأوروبي كما يذكر أيضاً الفاضل هوفر Höfer – تودنهوفر Todenhöfer – في ألفين وستة أحصى ثماني وأربعين مُنظَّمة إرهابية حول العالم تلوَّثت أيدي أعضائها بدماء الأبرياء في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، ست وثلاثون منها لا علاقة للإسلام بها، إذن مُعظم الإرهاب حول العالم إسلامي أو غير إسلامي؟ غير إسلامي، والاتحاد الأوروبي يقول هذا، وهذا جيد وإنصاف أيضاً من الاتحاد الأوروبي،يقول تودنهوفر Todenhöfer “ولكن نحن لا نكاد نشعر بهذا الإرهاب لأنه لا يمسنا نحن”، أي كأنه يقول أنهم لا يُشعِرون بهذا لأن القتل غير مُوجَّه لهم،فالقتل في أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا وفي أسيا ومن ثم فليذهبوا إلى الجيم، علماً بأنه يقول هذا بكل وضوح، فعلينا أن نُذكِّر بالحقائق إذن.
ثانياً: أنا ابتدأت اليوم خُطبتي بقول الحق سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ – لم يقل الله أتقاكم، فلو قال “إن أكرمكم أتقاكم” لدل هذا على أن الله سيشرع لنا طريقاً وسيُعيطنا مفتاحاً وصلوحيةً أن نبدأ نُصنِّف الناس ونقول هذا أكرم وهذا هيّن – عِندَ اللَّهِ – أي يبقى الحكم لله، فلابد أن ننتبه إلى أن هذا القرآن دقيق جداً جداً – أَتْقَاكُمْ ۩، فلو قال الله “إن أكرمكم أتقاكم” لكان عندي الحق في أن أقول هذا أتقى فهو أكرم، لكن هذا لم يحدث، فمَن أدراك بهذا؟ قال النبي “التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا”، قمحمد صلى الله عليه وسلم – الذي أنزل الله على قلبه القرآن هو الذي قال “ها هنا”، وما ها هنا لا أعلمه لا أنا ولا أنت وإنما يعلمه الله تبارك وتعالى، ولكن هذه التقوى لها بعض المظاهر، ومن مظاهرها ليس فقط الصلاة والصيام والبكاء والتخاذل والانخذال فقط، وإنما من مظاهرها أيضاً العدل مع العدو، قال الله اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ۩، وهذا الشيئ عجيب، فهذا دين يتحدَّث عن العدل مع الخصم ومع العدو الكاره على أنه من التقوى، وهذا شيئ لم يُسمَع بمثله من قبل ولن يُسمَع بمثله من بعد، فهذا الدين إلهي يقول فيه الله “مَن أراد أن يكون تقياً ليكون مُكرَّماً عندي ليعدل مع عدوه”.
صدِّقوني الله سيسألنا حتى عن تعليقاتنا وعن ما نقول وعن ما نفوه بصدد مثل هذه القضايا، صدِّقوني، أنا لا أعتقد – والله تعالى أعلم – أن كثيراً مِن مَن يتكلَّمون الآن يُريد أن يُشطِّب على الغرب كله فيقول “الغرب لا خير فيه، لا يُوجَد حقوق إنسان، لا يُوجَد احترام للإسلام ولا لأمة الإسلام ولا للمسلمين”، ولا يكاد يخطر على بال أكثر هؤلاء أنه مسؤول عن هذا الكلام أمام الله – عز وجل – وأنه مسؤول على أنه ظالم وأن الله سيقول له أنت ظلمت وتعدّيت وكذبت، فهذا كذب!
ثم – كما قلت لكم – يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا، وبالتالي لا ينبغي أن نتناقض، فكل مَن ناقض الحقائق هو يتناقض مع نفسه، صدِّقوني الغرب يتناقض، أنا وجدت كبار الفلاسفة هنا والعلماء يتناقضون لأنهم يُغالِطون في الحقائق الأساسية، ومِن أكثر الحقائق أساسيةً وحدة النوع الإنساني ووحدة الجنس البشري، فعلاً كلنا أبناء آدم وحواء، وهذه الآية مفصلية ومحورية ومفتاحية وتأسيسية، حتى الأسئلة الأكثر تأسيسيةً تجد جوابها التأسيسي في هذه الآية.
في الماهابارتا Mahabharatra الملحمة الهندوسية العريقة التي تعود إلى ألفي سنة مضت يقول أحد الأبطال الذي كان مُناهِضاً للنظام الطبقي المُغلَق العنصري – نظام الطبقات الأربعة – في الهند “بعين الحق ألسنا جميعاً ننفعل بالغضب والشوق والحُب والحماس والرغبات؟ ألا تجري علينا نفس النواميس؟ فكيف يُقال إذن إننا طبقات مُغلَقة مُختلِفة؟”، وهذا يُذكِّر بالأساسي فكلنا من البشر، وشكسبير Shakespeare فعلها بروعة أكثر بكثير من روعة الماهابارتا Mahabharatra وذلك في رائعته تاجر البندقية على لسان التاجر الشجع اليهودي شيلوك Shylock حين وقف في المحكمة وبدأ يُذكِّر بالأساسيات حين لاحظ أن هناك سهاماً مسمومة تُوجَّه إليه بقصد الإهانة على خلفيات دينية، فالآن جاء دور الأساسيات، وكان عليه أيضاً هو أن يكون مُنتبِهاً جداً لهذه الأساسيات، فكان يقول “أليس اليهودي إنساناً له عينان – يتحدَّث عن نفسه – وله يدان وله أعضاء وله أحاسيس؟ أليس اليهودي يتأثَّر بالأسلحة ويتأذَّي التي تُؤذيكم – يُخاطِب مسيحييين – أنتم؟ أليس اليهودي يتأثَّر بالبردِ والحرِ في الشتاءِ والصيفِ كشأن الآخرين؟ أليس يمرض ويعتَل ويتعاطى الأشفية والأدوية التي يتعاطاها الآخرون؟ أليس اليهودي مثلكم إذن أيها المسيحيون؟”، فهو يتلو قول الله تعالى ولكن بطريقة فيها نوع من الاستجداء يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا – لا لتناكروا ولا لتصارعوا ولا لتحاربوا ولا لتفانوا وإنما لِتَعَارَفُوا۩ – إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، وكأن الكرامة عند الله مربوطة بالتعارف، فعلى قد ما تكون واسعاً وعلى قدر ما تسع الجميع وتتسامح مع الجميع وتتعاطى الإيجابي أيضاً بإيجابية لدى الجميع فأنت تقيٌ مُكرَّم عند الله.
وفي هذا الإطار هناك آية طالما ذكَّرنا بها وهى من أروع ما يُمكِن أن يُذكَر على نطاق عالمي، فيا ليت لهذا الدين لسان صدق على مُستوى كوني يُذكِّر بهذه المماجد وبهذه العظمات وبهذه الكنوز المضمورة، تقول الآية الكريمة لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، الله أكبر، فالصحابة يُخاطَبون بهذه الآية، والله يقول لهم أن المسألة ليست مسألة عنوانات وليست شعار أنني مسلم، الأمر لا يتعلَّق بأنني مُجرَّد مسلم وأنني مُحمَّدي أو من أصحاب محمد أو من أتباعه في وقته وفي عصره من الذين يأكلون معه ويؤاكِلونه ويُشارِبونه ،ويُجالِسونه ويُحارِبون معه في الصف الأول، فالله قال هذا لا يعنيني، فليس هذا هو المُهِم نهاية المطاف، لذا الله يقول لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ – أننا صحابة ونُجاهِد مع محمد وأننا في عصره وانتُخِبنا له – وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩، ثم قال أيضاً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ۩، هذا هو، إذن عمل الصالحات أو عمل السيئات!
الأديب الألماني اليهودي الديانة ليسنج Lessing في رائعته المسرحية العالمية – تُرجِمَت إلى تقريباً مُعظَم لغات العالم – ناتان الحكيم Nathan der Weise كان يتحدَّث عن أب – وهذا الأب إشارة ورمز إلى رب العالمين تبارك وتعالى – حكيم أيضاً، وهذا الأب الحكيم ورَّث أولاده ثلاثة خواتم – مَثل الخاتم المتعلِّق بناتان Nathan الحكيم لليسنج Lessing مشهور جداً في الأدب العالمي – وقال لهم “أحد هاته الخواتم الثلاثة هو الصحيح، وهذا الخاتم الصحيح غير المُزوَّر وغير المُزيَّف يُكسِب صاحبه محمدةً وصلاحاً في الدنيا ومجداً، أما المُزيَّفان فهما مُزيَّفان لا قيمة لهما”، وبدأ نضال الإخوة وبحث الإخوة الثلاثة من أجل التعرّف على مَن ظفر منهم بالخاتم الصحيح، فأعيتهم الحيل وانقطعت بهم الأسباب ولم يعرفوا فرفعوا أمرهم إلى قاضٍ حكيم، فقضى القاضي – وكان حكيماً بصدق وبحق – بأن الخاتم الحقيقي هو مِن نصيب الذي يُبرهِن أنه أكثر نفعاً للناس وأكثر محبوبيةً وأكثر صلاحاً للناس، فالأصلح مع الناس والأكثر إيجابيةً والأكثر فاعليةً والأنفع للناس قطعاً سيكون هو صاحب الخاتم الصحيح، وهذا شيئ غريب، وهذه ترجمة أدبية مِن أروع ما يكون لقوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩،فالقضية ليست قضية أن عندي خاتم وانتهى الأمر، كما يحمل البعض الآن عنوان إسمه مسلم ويقول أنه أحسن واحد شخص وانتهى كل شيئ، ولذلك أنا قلت مرة أنني أدرت خُطبة كاملة على جواب هذا السؤال، فبعض المسلمين أنه ليس بالضرورة أن أكون إنساناً صالحاً لأكون مسلماً صالحاً، بالعكس هم يعتقدون أنني قد أكون مسلماً صالحاً ولكنني لست إنساناً صالحاً، أنا إنسان سيء مع الناس ولكن أنا مسلم صالح، فأنا صالح بالعبادات وبالطقوس وباللحى وبالحجاب وبالنقاب وبكثرة قراءة القرآن، وهذا مُستحيل، لأن كل مسلم ليس إنساناً صالحاً – والله العظيم، وأنا أحلف بالله على منبر رسول الله – ليس مسلماً صالحاً، كل مَن ليس إنساناً صالحاً ليس مسلماً صالحاً وليختر لنفسه، فهذا ما يقوله القرآن وهذا ما قاله رسول الله “أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده”، والإمام عليّ – عليه السلام – يُقتبَس كثيراً حين كتب إلى الأشتر واليه على مسلم يقول له “واعلم أن الناس اثنان، إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”، وهناك ما هو أحسن من الكلام هذا – وهذا الكلام حسن جداً، فكلام أبي الحسن حسنٌ جداً – وهو كلام رسول الله الذي هو أحسن الكلام بعد كلام رب العالمين، قال الرسول “اللهم إني أشهد أن العباد كلهم إخوة”، فهذا ليس فقط أخي في الدين بل في الإنسانية، فالعباد كلهم أو البشر كلهم إخوة، وكيف لا يكونون إخوة وهم أبناء آدم وحواء؟ قال الرسول “أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب”، فالنبي لم يتوسَّل منطق أليس لنا نفس العينين ونفس الأذنين ونفس الأعضاء ونبرد ونحتر كما قال شيلوك Shylock وإنما قال “كلكم لآدم وآدم من تراب”، وقال أيضاً “لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى”، وهذا يُذكِّر بالآية أيضاً!
للأسف أوروبا يُوجَد فيها بعض مَن لا يستطيع أن يفهم هذه المباديء الأساسية البدهية، لا يستطيع أن يفهمها حقيقةً، الفرنسي العظيم صاحب الكتاب الأوسع تأثيراً في وقته المنشور سنة خمس وثلاثين وألف وثمانمائة الديمقراطية في أمريكا ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville – وقد زار أمريكا ومكث فيها بضع سنوات وأُعجِب جداً بها ولاحظ أن هناك ثورة ديمقراطية سماها الثورة الديمقراطية العُظمى في أمريكا – قال “إذا نظرنا إليها من زاوية نراها شيئاً جديداً تماماً، ولكن يُمكِن أن ننظر إليها – وهنا أصاب – من زاويةٍ أُخرى أوسع فنرى أن هذا المسعى – المسعى الديمقراطي التشاركي في إدارة شؤون الأمة – أو وهذا المطلب كان على الدوام ومُنذ القدم المسعى الأوسع تأثيراً ومطلوبيةً في تاريخ الدنيا”وهذا صحيح، فهناك مساعٍ – ولكن هذا يحتاج إلى درس طويل – لدى الهنود مثلاً، فالإمبراطور أشوكا Ashoka, Asoka الهندي في القرن الثالث قبل الميلاد كان ديمقراطياً بشكل مُزعِج للغربيين وهذا شيئ عجيب، فالرجل كان مُتقدِّماً جداً.
هذا كان يُوجَد في القرن الثالث لدى الصينيين ولدى اليابان، وطبعاً بعد ذلك في العصور الوسطى لدى الأمة المسلمة بشكل مُحيِّر وهكذا، فهذا موجود الحمد لله، إذن أوروبا ليست كما يظن بعض هؤلاء ولن تكون النهاية كما ظن فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama حين تحدَّث عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فهى ليست نهاية التاريخ، وإنما هى مرحلة في التاريخ لها إيجابياتها وهى كثيرة ولها سلبياتها ولا يُستهان بها أيضاً، فيجب أن نفهم هذا لكن بعضهم لا يفهمه!
ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville كان رجلاً عجيباً جداً وكان من المُناضِلين الأكثر حماساً للحريات والحرية الشخصية وكان يراها مُقدَّمة على المُساواة، وطبعاً في مُعضِلة هذه الثانئية “الحرية والمُساواة” قال “لا يُوجَد مُساواة، وإنما حرية، وأما المُساواة فعدم المُساواة بخلق الله، فكيف تتحدَّث عن المُساواة؟ البشر لا يستوون عندي”، فهو لا يرى المُساواة ولا يقول أن البشر كلهم لآدم كما نقول نحن، وكتب في إحدى الفقرات وهى الأكثر بؤساً في كتابه فيما يتعلَّق بنا نحن الأنمة الإسلامية يقول “ولذلك لا أستطيع بتةً إقناع نفسي بأن نُعامِل هؤلاء المسلمين على قدم سواء معاً، هذا مُستحيل وبالتالي كيف أقنع نفسي بهذا؟ نحن الغربيين في أوروبا وأمريكا نُعَد شيئاً آخراً”، ثم أن دو توكفيل De Tocqueville بعد ذلك لا أقول عثر وإنما تهافت حتى الحضيض فكتب يقول “ما أفهمه حين أُقارِن هذا الجنس الراقي الأوروبي ببقية الأجناس أن الشبه ليس شيئاً يختلف كثيراً عن صلة الإنسان بالحيوان” أي أننا حيوانات وهم ما يُمثِّلون البشرية وحدهم، فالصيني والياباني والقوزاقي والآسيويون والإفريقيون والأستراليون حيوانات لكن هم البشر، ولك أن تتخيَّل هذا الشيئ العجيب، علماً بأن كتاب دو توكفيل De Tocqueville العظيم كان في مُجلَّدين كبيرين أو في جُزئين كبيرين!
مُؤسِّس علم النفس الاجتماعي ومُؤرِّخ الحضارات الشهير جداً – وعجبي لهذا الذي أرَّخ للحضارات بشكل مُمتاز، مثل تأريخه لحضارة الهند ولحضارة مصر وللحضارة الإسلامية – جوستاف لوبون Gustave Le Bon الفرنسي هو الأستاذ الأكبر معنوياً لموسوليني Mussolini وهتلر Hitler، فكانا لا ينامان إلا وكتابه سيكولوجية الجماهير تحت رأسيهما، فطبعاً هذا أنبت هتلر Hitler وأنبت موسوليني Mussolini، وكان يتحدَّث عن الأعراق – Races – البشرية فقال ” يُوجَد أربعة أعراق، العرق البدائي – Primitive – وهو عرق سُكان أمريكا الأصليون وأستراليا الأصليون، فهذا أدون شيئ، وبعد ذلك العرق السافل أو الدنيء وهم الزنوج، فهم أفضل قليلاً من الذين في أستراليا ولكنهم يظلون يُمثِّلون هذا العرق السافل الدنيء، والعرق المُتوسِّط وهم العرب والصينيون ولأجناس الصفراء عموماً هذه، فالعرب مُتوسِّطون، وأخيراً العرق الراقي السامي الذي نُمثِّله نحن في أوروبا لأننا نختلف عن بقية الأعراق”، وطبعاً الكارثة كانت قبل سنين يسيرة وأقل ربما من ثلاث سنوات وذلك في آخر الدراسات التي أتاحها مشروع الجينوم – Genome – الإنساني فقد وجدوا بسهولة أن من المُمكِن أن تجد فرنسياً أشقر الشعر وأمهق اللون – أبيض إلى حد المهق – وأزرق العينين وطويل القامة وصغير الأنف ولكنه من أصول إفريقية جينياً، فهذا الشخص في نهاية المطاف أصله أفريقي، وقد وجدوا هذا وكانت كارثة حتى أن بعضهم قال “أنا مصدوم، كيف أنا إفريقي؟” ولكنه بالفعل إفريقي جينياً، قال النبي “كلكم لآدم وآدم من تراب”، فنحن أبناء التراب يا حبيبي، فلا تقل لي أوروبي وجنس راقٍ وهندو أوروبي – قال لك الجنس العرقي الهندو أوروبي – لأن هذا كله يُعَد كلاماً فارغاً، فهذا غير صحيح، علمياً هذه أسطورة ولكن لا يزال كثيرون يُؤمِنون بها إلى اليوم في الغرب هنا للأسف الشديد، لكنهم طبعاً أقل بكثير بفضل الله مما كانوا في القرن التاسع عشر، فليس فقط لوبون Le Bon ودو توكفيل De Tocqueville مَن كانوا يقولون بهذا، فدو توكفيل De Tocqueville ولوبون Le Bon لم يكونا استثناءً بل كانا مُجرَّد مثالين من قاعدة عريضة، فالفيلسوف الألماني لايبنتز Leibniz – فيلهيلم لايبنتز Wilhelm Leibniz – كان عنصرياً وكان يحتقر العرب والمسلمين، وهو الذي حرَّض في مرات كثيرة الإمبراطور الألماني على غزو البلاد الإسلامية – مثل مصر وغير مصر – ووضع له خارطة جغرافية وخُطط حربية أيضاً وقال له “لابد أن تغزوهم هؤلاء المُتخلِّفين”.
توماس كارليل Thomas Carlyle الذي مجَّد محمداً وكتب عنه أروع فصل خطته يراعة مُفكِّر أو فيلسوف غربي في كتابه الشهير جداً وواسع التأثير الأبطال وعبادة البطولة كان للأسف عرقياً وعنصرياً وكان يُبرِّر الاستعمار وذبح الشعوب المهينة الدنيئة العرق بل وحرقها، وهذا شيئ مُخجِل جداً لكنه كان يفعل هذا!
الأديب والروائي الإنساني العالمي العظيم فيكتور هوجو Victor Hugo صاحب البؤساء وعمّال البحر الذي طالما تأثَّرنا به وأنا شخصياً تأثَّرت به وبالجانب الإنساني كانت إنسانيته محصورة جداً على ما يبدو في نطاق الهندو أوروبي أو حتى في نطاق الأوروبي فقط، فلا يستطيع أن يكون إنساناً بمعنى الإنسانية الواسعة وإنما بمعنى الإنسانية الأوروبية، فهكذا كانوا يفهمون ومن هنا كانت له عبارات ومقولات شديدة البؤس والتعاسة فيما يتعلَّق بهذه القضايا، وكثيرون جداً كانوا هكذا للأسف الشديد فهو لم يكن استثناءً، هذا كان الواقع في ذلك الحين، لكن الآن – بفضل الله – نستطيع أن نقوله أنه استثناء، فالأكثرية تُعاكِس هذا تماماً – بفضل الله – ولكن ما زالت هناك أقلية بائسة تُردِّد هذه الأفكار حتى في الدواوين العلمية كصاحبي كتاب مُنحنى الجرس – وحدَّثتكم مرة عنه – وهما عالمان في تخصصهما لكن للأسف الشديد لا يزال حتى في الدوائر العلمية هذا الهاجس العرقي العنصري الخبيث، فهذا موجود ولذلك بعض الناس هنا في الغرب من بعض الساسة وبعض البرلمانين ومن الشعوب العادية حتى – كثيرون في الشعوب العادية وأكثر من هؤلاء المُثقَّفين – لا يستطيع أن يستوعب أنك لك الحق فعلاً مثله تماماً بإسم حقوق إنسانية ويقول لك “هذه أكذوبة، فهل أنت صدَّقت؟ هذه الحقوق لنا نحن، نحن رسمناها وناضلنا من أجلها ودفعنا ثمنها سبعين مليون من الضحايا، لماذا أنت تتمتع بها مجاناً؟”، فهو لا يُحِب أن يُصدِّق هذا ولا يُريد أن يُصدِّق أصلاً ولا يُحِب مَن يحمله على أن يُصدِّق هذا!
قرأت مرة أنا للفيلسوف والاقتصادي الهندي العظيم أمارتيا سن Amartya Sen الحائز على جائزة نوبل Nobel في الاقتصاد سنة ألف وتسعمائة وثماني وتسعين كلاماً عجيباً، فاقرأوا لهذا الرجل لأنه من أروع الكتّاب في العالم وهو رجل عجيب حقيقةً، وسأقول لكم نهايته ثم سأقول لكم بعد ذلك بدايته، فالنهاية كانت قبل بضع سنين حيث كان في مطار هيثرو Heathrow وكان يُوجَد تفتيش هائل بعد أحداث سبتمبر طبعاً – هذا قبل بضع سنين – فطلب منه الضابط بطاقة التعريف فأعطاه البطاقة، فقال له “هذا عجيب، هل عندك علاقة مع عميد Trinity في College في كامبريدج Cambridge؟”، قال “هذا السؤال فلسفي بالنسبة لي و بالتالي هذا أعضل بي لأنه سؤال فلسفي عظيم”، وطبعاً أمارتيا سن Amartya Sen هو نفسه عميد Trinity College بكامبريدج Cambridge ، لكن الضابط لا يُصدِّق لأنه كان أسمر اللون، وهو هندي بنجالي من دكا Dacca, Dhaka ، فهو مولود في دكا Dacca, Dhaka عاصمة بنجلاديش Bangladesh اليوم لكنها لم تكن العاصمة قديماً لأنه لم يُوجَد مثل هذه التقسيمات، فهو مولود في شبه القارة الهندية في دكا Dacca , Dhaka وأسود اللون بشكل فاحم، فسواد الهنود ليس حتى كسواد الزنوج، لأن هذا السواد كان مطفي – Matte – كالفحم، ولذلك هذا الضابط لم يُصدِّق أن أمارتيا سن Amartya Sen هو عميد الكلية فسأله عن علاقته بعميد الكلية وقال له “هل أنت تسكن معه في نفس المكان؟”، قال أمارتيا سن Amartya Sen “أفي البداية لم استوعب السؤال”، لكنه استوعب بعد ذلك واضطُر أن يُفهِّمه بطريقة ذكية جداً أنه أنا ذاك الشخص الذي أسكن عند صديقي، فهو صديق نفسه كما قال له.
إذن يُوجَد تحيّزات رهيبة، فيُوجَد بنية عنصرية في الحقيقة موجودة عند بعض الناس هنا، مثل هذا الضابط لا يستطيع أن يُصدِّق أن أمارتيا سن Amartya Sen هو عميد الكلية، فهذه هى النهاية، أما البداية فكانت قبل أكثر من خمسين سنة يوم جاء من بلده الأصلية إلى بريطانيا ليتزوَّد بالعلم ويدرس الاقتصاد والعلوم السياسية والفلسفة – فيلسوف عالمي – ومن ثم سكن عند امرأة عجوز فأخبرته قائلة “أنا أخشى حقيقة من نتيجة ما سيحدث، وهو أنك ستفقد بعد أيام لونك، ومن ثم كيف سيُصبِح شكلك؟”، علماً بأنها كانت تتحدَّث بجدية وتعتقد أن هذا الرجل الآتي سوَّد الله وجهه لعدم وجود مياه، فأصبح وجهه مُسوداً بسبب الوساخة، فهو من هذه الشعوب الوسخة القذرة التي ليس عندها ماء أو حضارة ومدنية – Civilization – لكنه الآن سوف يُصبِح إنسان مُتمدِّن – Civilized – وسوف يستخدم الماء ومن ثم سينغير لونه، فكيف سيُصبِح شكله إذن؟ لكنها صُدِمَت بعد مرورو العديد من الأيام والأسابيع وذلك لأن اللون ما زال باقياً، فاضطُرت أن تقبل بالحقيقة الخائبة وهى أن هذا اللون من خلقه الله عز وجل.
هذه شعوب عجيبة وهذا تخلّف شديد، ومع ذلك يتحدَّثون عن العنصرية والأصولية والإرهاب والتخويف، وهذا شيئ مُزعِج ومُخيف جداً، فمَن العنصري؟ مَن الإرهابي؟مَن المُتخلِّف؟ والآن يتحدَّثون عن النقاب، فساركوزي Sarkozy أفندي جزاه الله خيراً قلبه يُؤلِمه كثيراً على المرأة المسلمة، فالمسكين لا يُريد لها أن تعيش مُضطهَدة بالحجاب والنقاب – وبالنقاب بالذات – لأنه لا يُريد أن تُسلَب الحرية في أن تختار نمط الحياة الأرقى ولذلك هو سيختار عنها، وسيُلزِمها بالاختيارات الصحيحة، وسيُصادِر حريتها من أجل حريته هو أن يُقرِّر لها حريتها، وهذه طريقة عجيبة جداً في التفكير، بل إن هذا يُعَد عُنفاً!
الفيلسوف والمُناضِل الإنساني العظيم – وهو من أعظم هؤلاء حول العالم – النمساوي هانس كوخلر Hans Köchler هو رجل نادر المثال لكن للأسف العرب لا يتعاطون معه ولا يعرفون قيمته رغم أنه فيلسوف وعالم سياسي وأكاديمي على مُستوى العالم، وهو من أروع مَن ظل يُدافِع عبر عشرات السنين عن قضايا العرب والمسلمين في قضية الحجاب، والرجل له أكثر من ثلاثمائة كتاب ودراسة – ومُترجَمة بمُختلَف لغات العالم، وهانس كوخلر Hans Köchler موجود في إنسبروك Innsbruck وهو يُدرِّس حتى الآن لأنه عميد كلية الفلسفة.
كوخلر Köchler يرى أن هذا عنف أن تمنع المرأة أن تعتمر وأن ترتدي حجابها لكي تفرض عليها نمطاً آخر من هذه القيم الغربية، فهو وصف هذا بالعنف – Violence Gewalt, – وقال هذا “عنف”.
إذن هذا لا يجوز، اترك المرأة تختر لنفسها، وهى ستختار ما تُريد، وطبعاً كان يُمكِن أن نقبل ونحن نقبل – أنا شخصياً أقبل وأُؤيّد هذا – بأن يأتي بيان أو تصريح وزاري أو رئاسي – كما تُريد – ويقول “من حق كل فتاة وامرأة مسلمة إذا شعرت بالاضطهاد وأنها تُرغَم على ارتداء الحجاب أو النقاب أن تطلب معونة الجهات المسئولة في الدولة، وسوف نُخصِّص خطاً ساخناً مجانياً على مدار الأربع وعشرين ساعة لتلقي الشكاوى، فاتصلي من أي مكان وسوف نُنصِفكِ”، وأنا معهم في هذا لأنني لست مع الدين الإكراهي أيضاً، فلا ينبغي أن نكون مُتدينين بالإكراه لأن هذا الدين لا قيمة له عند الله تبارك وتعالى، ويجب أن نفهم أن الأفكار التي تتعلَّق بأن المرأة تدخل النار ويدخل معها أربعة وإلى آخره مما يُنسَب إلى رسول الله يُعَد كلاماً فارغاً وغير صحيح بالمرة، فالمرأة عند جميع الفقهاء إذا بلغت سن الرشد تكون كالشاب تماماً وتُقرِّر حياتها ومُستقبَلها وتُقرِّر أنها تُريد الجنة أو النار، إذن اتركها يا أخي، لكنك ستجد مَن يرفض هذا ويقول لك العِرض لا يسمح، فلدينا أفكار عجيبة لكن هذا الموضوع يحتاج إلى خُطبة بحيالها حتى نتوسَّع فيه إن شاء الله تعالى.
على كل حال نعود إلى مثال الأصولية وتعصّب إيران، كم نسبة الطالبات الجامعيات في جامعات إيران؟!
أكثر من أوروبا، فالنسبة هى ستون في المائة.
نأتي إلى مصر :
نسبة الأستاذات البروفيسورات – Professors – في الجامعات المصرية من النساء مُرتفِعة، وكثيرٌ منهن – كثيرٌ منهن وإن لم يكن لدينا إحصائية دقيقة لكن العدد ليس بالقليل – مُحجَّبات، فهن مسلمات مُلتزِمات مُنضبِطات، كم نسبة الاستاذات الجامعيات في مصر؟!
ثلاثون في المائة، وهى نسبة مُشرِّفة جداً، أي أنهن يُمثِّلن الثلث، فثلث هذا الكادر من النساء!
في ألمانيا – Deutschland – كم النسبة؟!
خمسة عشر في المائة!
إذن نحن مُتقدِّمون أكثر منهم في هذا الباب، نحن لا يبدو أننا نقمع المرأة ولا يبدو أن الحجاب يقمعها فهو ليس حجاباً على عقلها وضميرها كما يتخيَّلون للأسف، وهذا يعكس جهلاً فاضحاً لا أقول بالتاريخ وإنما بالوقائع، فهناك جهل بهذه الوقائع الثابتة.
في ألمانيا كان الرجل إلى سنة ألف وتسعمائة وسبع وخمسين – لا تقل لي أن هذا كان في الفترة النازية لأن هذا كان في ألف وتسعمائة وسبع وخمسين أي بعد زوال النازية ومرور أكثر من اثنتي عشرة سنة على هلاك المشروع النازي ودحوره – بمُوجَب قوامته القانونية وصلاحيته القانونية هو الذي يستطيع أن يسمح لزوجته بأن تعمل أو تبقى في البيت، فإذا رفض لا تستطيع أن تعمل لأن الدولة سوف تمنعها” ومع ذلك يتبجَّحون علينا كأنهم طبَّقوا من عشرة آلاف سنة ما شاء الله حقوق الإنسان بشكل أحسن وحرَّروا المرأة من عشرة آلاف سنة وبالتالي علينا أن نتعلَّم اليوم بالقوة وأن نتأدَّب بالقوة، وعلينا أن نُنمَّط بالقوة لأننا وبقية الشعوب الأُخرى مثل الهند والصين واليابان وكل العالم العربي والإسلامي في حضانة Kindergarten، وهذا أمر غير مُمكِن، وهذه تصوّرات عجيبة جداً ومُشوَّهة ثقافياً وحضارياً وإنسانياً!
في سويسرا إلى سنة ألف وتسعمائة وواحد وسبعين كان الرجال ضد أن تنتخب المرأة، لكن أيهما أكثر أماناً سويسرا أو سوريا؟!
سوريا، رغم ما يُقال عن سوريا أنها كانت ولا تزال بلداً إرهابياً من محور الشر الرباعي، فسوريا فظيعة جداً في حين أن سويسرا يُضرَب بها المثل في الأمان على مُستوى العالم، فنسبة الجرائم 2,94 جريمة لكل مائة ألف من السُكان في سويسرا، ومع ذلك سوريا أكثر أماناً لأن النسبة 1,6 لكل مائة ألف!
ومُعظَم بلاد العالم الإسلامي كذلك، ولكن دعونا من أفغانستان ومن العراق، وأسأل مَن السبب عن ما يحدث في العراق وأفغانستان؟ لكن اتركوا هذه البلاد لأن مُعظم بلاد العالم الإسلامي أكثر أماناً من مُعظَم الدول الأوروبية ومن الولايات المُتحدة الأمريكية، وهذا ثابت بالإحصائيات، فلسنا شعوباً عنيفة أو شعوباً مجنونة تُحِب القتل وتُحِب التفجير وتُحِب العدوان، هذا غير صحيح رغم أننا فقراء ومُضطَهدون ومحكومون بنظم قمعية ولكن عندنا ميل للسلام غريب جداً جداً جداً.
ريتشارد بك Richard Pike كان نائب رئيس فريق العمل في البيت الأبيض لشؤون الإرهاب أيام أو في عهد رونالد ريجان Ronald Reagan، وهذا الرجل كان مشهوراً جداً وتكلَّم بأسلوب ساخر جداً وحدثت مسخرة حقيقة حين قال ” أمريكا لم تجترح تعريفاً للإرهاب – علماً بأن هذا لم يكن في أيام ريجان Reagan، فإلى اليوم أمريكا رافضة أنها تضع تعريفاً – Definition – للإرهاب، وسوف ترون السبب الآن وإن كان السبب معروفاً، فجميعنا يعرف لماذا هى ترفض أن تضع تعريفاً للإرهاب – رغم أننا تقدَّمنا بستة مشاريع لتعريف الإرهاب – أي ستة مُسوَّدات Drafts لنُعرِّف ونشرح الإرهاب – لكن المُضحِك أننا دائماً كلما قرأنا قراءةً دقيقة أحد هذه التعريفات وجدنا أنه ينطبق على بلدنا، فالولايات المُتحدة الأمريكية ستكون مُتورِّطة في الإرهاب، وهذا حدث في المشروع الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، ولذلك رفعنا يدنا إلى اليوم وقلنا أننا لن نُعرِّف الإرهاب، لكن عندنا الحق أن نلصق لافتة الإرهاب على أي أحد نُريد لكن دون أن نُعرِّف الإرهاب”، وهذا أمر غير مُمكِن، فما هذا؟ ما هذه الفوضى هذه الفظيعة الموجودة في هذا العالم؟ ومع ذلك يقولون لك هذا نظام عالمي وهو ليس كذلك، هذا ليس نظاماً وإنما فوضى عالمية جديدة وربما غير مسبوقة بهذا الحجم، ثم يأتوا ويتحدَّثون عن الإرهاب، ونحن نقول لهم “عرِّفوا الإرهاب أولاً، أصبح التحدي هو أن نُعرِّف الإرهاب، عرِّفوه أولاً ثم بعد ذلك سوف نرى مَن هو الإرهابي”، فللأسف أصبح بعضنا يُصدِّق أننا إرهابيون وأن المسلم إرهابي للأسف الشديد على الرغم من أن المسلم هو ضحية الإرهاب الأولى في العالم، وتقع عمليات معزولة حقيقةً في عالمنا العربي والإسلامي لكن أكثر مَن شجبها هم المسلمون، فصدِّقوني المسلمون قبل غيرهم هم أكثر من شجبوا هذه العمليات بصدق وليس خوفاً أو نفاقاً،فالمسلم ليس مزاجه إرهابياً ولا عدوانياً أبداً أبداً، ومُمكِن يكون كذلك ولكن هذا لا يعني أن الإسلام كذلك، فيجب أن ننتبه إلى هذا، وإلا لماذا يُتحدَّث عن إرهاب إسلامي ولا يُتحدَّث عن إرهاب بروتستانتي أو إرهاب كاثوليكي أو إرهاب يهودي؟!
ولماذا يُتحدَّث عن أصولية إسلامية ولا يُلتفَت إلى الأصوليات الغربية؟!
منبع الأصوليات الغرب وليس العالم الإسلام، وهذا يقوله كل الدارسين، فالأصوليات منبعها الغرب وليس نحن.
للأسف نحن حتى الآن في البدايات، في بدايات ما أحببنا أن نُؤطِّره مفاهيمياً لكي نتناول في سياقه وفي إطاره هذه المُشكِلة حتى نفهمها جيداً ونفهم ما الذي يحصل ولماذا يحصل ما يحصل، فلماذا كل هذا التوفّز والتحسّس من امرأة مُحجَّبة أو مُنقَّبة؟ ما المُشكِلة أن تنتقب المرأة أو تتحجَّب؟ ما الذي يغيظكم في هذا؟ ما الذي يُهدِّدكم؟
قالوا السبب هو أن هذا يُعَد تهديداً للهوية، وهذا أمر غريب، عن أي هوية يتحدَّثون؟ هل يتحدَّثون عن الهوية العلمانية أم المسيحية؟ فعلينا أن ننتبه إلى أن بعضهم يُصِر على أن الهوية مسيحية ويقولون “هوية أوروبا المسيحية”، ونظرتم إلى اليمين المُتطرِّف هنا في النمسا وموضوع المآذن وهوية أوروبا المسيحية، لكن هنا يتقدَّم هانس كوخلر Hans Köchler بقوله “هذا التباس في تحديد هويتنا، فنحن لدينا أزمة في تحديد هويتنا، يُوجَد التباس حقيقي، فمرة ندّعي بالفم الملآن أننا نُقدِّم ديناً بديلاً عن الأديان وهو الدين العلماني ونُحاج بحقوق الإنسان وعالمية حقوق الإنسان التي أرغمتنا وأرغمت بعض الدول والسياسات أن تخوض حروباً لدمقرطة العالم، ففي أفغانستان والعراق كلَّفت أيضاً ملايين الضحايا، وبعد ذلك نأتي لنُؤكَّد عكس ذلك ونقول أننا مسيحيون الهوية، فهل نحن علمانيون أم مسيحيون؟ إذن هناك التباس حقيقي ونحن نلعب عليه”، وهذا صحيح، فهم يلعبون على هذا الالتباس حتى يُنفِّذوا أفكار ومشاريع وأشياء مُتناقِضةغير مفهومة ومُلتبِسة جعلتنا نحن مُتحيِّرون وفي التباس، فما الذي يحصل؟!
قالوا “هذا يُهدِّد الهوية”، لكن لماذا لا تُهدِّد ثلاثون كنيسة مسيحية موجودة في العاصمة طهران؟!
هذه أيضاً قنبلة جديدة عليكم أن تحفظوها، فيُوجَد في طهران عاصمة الأصولية الإسلامية ثلاثون كنيسة، وكلها تصدح صباحاً ومساءً بأجراسها عالية الدق – تن، تن، تن – دون أن يُزعِجنا هذا يوماً، فهذا أمر عادي ولا يُزعِجنا، فضلاً عن أن في طهران وحدها سبعة كُنس – Synagogen – لليهود، وفيها مُستشفى يهودي تبرَّع لها نجاد المُشاغِب، ولذلك وقف مُدير هذا المُستشفى وهو شخصية يهودية ليقول “مُعاداة السامية ليست صناعة إسلامية بل صناعة غربية”، فهذا اليهودي قال “ما يُقال عن العالم الإسلامي غير صحيح، فنحن لم نُضطهَد على نحو واسع وشامل واستراتيجي ومُبرمَّج في العالم الإسلامي ولو لمرة واحدة”، بل أن هؤلاء كانوا يفزعون إلى العالم الإسلامي حين يُضطهَدون في أوروبا وفي أسبانيا وهى من أوروبا طبعاً، هذا كان يحدث دائماً ومازال يحدث إلى اليوم!
الإمام الخُميني بعد الثورة بفترة بسيطة جداً في التاسع وسبعين أصدر فتوى مشهور تُتلى إلى اليوم في المعابد اليهودية في إيران تقول “نحن نحترم الأقليات على اختلافها بما فيها الأقلية اليهودية ونراها جزءً من أمتنا” فهم أنفسهم يتلون هذا، وطبعاً القرآن يقول هذا فهم جزء من الأمة، والنبي قال هذا في صحيفة المدينة “ويهود بني عوف أمةٌ مع المُؤمِنين”، فالنبي قال كلمة “أمة” لانهم جزء من أمتنا، فهذا هو ديننا وهذا هو تفكيرنا إذن، ومن ثم صناعة مُعاداة السامية واللعب على هذه الأوتار صناعة غربية وليست صناعة إسلامية، وهذا ما قاله اليهودي ومُدير المُستشفى وهو ما يجب أن ننتبه إليه.
نصف سُكان إسطنبول – أي خمسون في المائة تقريباً – في القرن التاسع عشر – علماً بأنني ذكرت هذا أكثر من مرة – كانوا من غير المسلمين، فكان مُعظَمهم مسيحيين، لكن أوروبا هنا وإلى اليوم كانت تتحسَّس ويقشعر جلدها من فكرة أن ترتفع مآذن وتصدح “الله أكبر” بصوت جميل، فهم لا يُحِبون هذا، وهذا شيئ مُخيف، في حين أن
كل عواصمنا تدق فيها الكنائس بصوت غير جميل لأن الدق هذا مُزعِج – تن، تن، تن – ولكننا نقبله من أربعة عشر قرناً ونقول أهلاً وسهلاً فليس لدينا أي تحسّس تجاهه، إذن حتى نكون واضحين مَن هو الأوسع الآن؟ مَن هو الأوسع نطاقاً؟ ينبغي أن نُواجِه الحقائق يا أخي، ونحن لا نعتب عليهم بل نحن اعترفنا في أول الخُطبة وما زالنا نعترف – لأن هذه حقائق فلا نعترف بها تمنناً ولا مُجامَلةً – أنهم لديهم إنجازات رائعة جداً جداً جداً في أشياء كثيرة في العلوم والفنون والتقنيات وفي حقوق الإنسان أيضاً وفي الفكر بشكل لا يُنكَر، ولكن لابد أيضاً أن نُقرِّر أنهم لم يوفوا على الغاية وأنهم يحتاجون إلى دروس أُخرى يتعلَّمونها من التاريخ والوقائع، وأنا مُتأكِّد أنهم سوف يتعلَّمون هذا، فالآتي سيكون أفضل بإذن الله تعالى، وعلينا نحن أيضاً ألا نكون مُستفَزين وألا نُبرِز أو نُترجِم ردود أفعال حمقاء في غير موضعها إزاء هذه القضايا، وأنا بالأمس استمعت إلى علّامة مسلم كبير بل هو أحد علّامات الإسلام اليوم حقيقة وهو الشيخ بن بيّه الموريتاني – ما شاء الله عليه وأبقاه الله وأدامه – الذي يتعاطى بعقلانية – والله حسدته عليها – مع هذه القضايا حيث قال “علينا في هذه القضايا وأمثال هذه القضايا بلنضال المدني بأن نسلك المنافذ والسُبل القانونية إذا توافرت، فنهتم بالنضال المدني لكي نُجاهِد من أجل حقوقنا، أما العنف فلا عنف، فلا عنف، فلا عنف”، أي أن الموضوع يجب أن يكون بطريقة حضارية بعيداً عن العنف!
أنا – والله – لا أذكر أنني رأيت حتى اليوم في النمسا أو في فيينا تحديداً عبر عشرين سنة أكثر من عشر أخوات مُنُقَّبات في الطريق، أي أن المُنقَّبات قليلات جداً جداً جداً، فالعدد ليس فظيعاً كما قد يُصوَّر!
كنت سأتحدَّث عن شيئ آخر ولكن للأسف أدركنا الوقت، فأرجو أيضاً ألا ننزلق نحن إلى هذه الصيغة الحصرية الانعزالية في تحديد هويتنا، علينا أن ننتبه فلا تُصبِح هويتنا هى فقط الدين ومن الدين فقط النقاب أو الحجاب ونشتغل على هذا، لأن في المدى المُتوسِّط بل وفي المدى القريب فضلاً عن البعيد سوف نكون الخاسرين، فعلينا أن نكون أذكى من هذا وعلينا أن نُطالِب بحقوقنا المشروعة وهى حقوق إنسانية وليست حقوق أقليات، بل هى حقوق إنسانية ضمن الطيف الواسع جداً لها، فنُطالِب بها كمواطنين وكأبناء في هذه البلاد، مثل حقوق التعليم والحقوق المالية والاقتصادية والحقوق السياسية والانتخابية والتمثيلية والنيابية، والحقوق الفكرية بل وكل الحقوق بصفتنا أيضاً مواطنين في هذه البلاد وليس بصفتنا أقلية إسلامية، يجب أن ننتبه إلى هذا لأننا نتحرَّك دائماً كأقلية مسلمة وهذا ليس في صالحنا، فهذا إسمه تعريف انعزالي، وفي الحقيقة أنا أتيت اليوم – والله – لأُحدِّثكم فقط عن هذه المقولة، ولكن كل ما ذهب ذهب من نوع التقدمة لها، ولكن لنجعلها – إن شاء الله – خُطبة – بإذن الله – آتية أو جائية عسى الله – تبارك وتعالى – أن يفتحنا علينا بالحق وهو خير الفاتحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات:
أيضاً لابد أن نلفت النظر إلى أن علينا وعلى العالم الغربي في أوروبا وأمريكا بل على الجميع أن يتعلَّم من الذين لهم تاريخ وخبرات ونجاحات وإنجازات راسخة ومُؤكَّدة في ميدان التعاطي مع التعدّد الثقافي، والأملا لا يتعلَّق فقط بالشأن الديني، فكلمة التعدد الثقافي كلمة واسعة جداً جداً جداً، فسنغافورة – مثلاً – نمط مُتميِّز جداً في هذا الباب، وكذلك دول جنوب شرق آسيا، فالهند نموذج مُتقدِّم جداً ومُغرٍ، لكن ما الذي حصل بعد أحداث الشغب التي ذهب ضحيتها عدد كبير من المسلمين والهندوس في غوجارات Gujarat؟!
حصل أن الحزب الهندي المُتطرِّف الهندوسي قد ضُرِبَ ضربةً صاعقة في انتخابات ربيع ألفين وأربعة ووصل رجل مسلم – عبد الكلام – إلى رئاسة الجمهورية.
فرئيس الهند مسلم، ورئيس الوازرة سيخي، ورئيسة الحزب الحاكم – حزب المُؤتمَر – مسيحية، ولا يُوجَد أي هندوسي معهم في دولة فيها أكبر كتلة ناخبين ديمقراطيين في العالم على الإطلاق – الهند – تصل فيها نسبة الهندوس إلى ثمانين في المائة، وهذا شيئ عجيب، هذا الشيئ يسحرني، وعلى المسلمين أن يتعلَّموا أيضاً مثل هذه السعة ومثل هذا النمط العجيب جداً والرائع في التعاطي مع الآخر، الآخر بالمعنى الواسع للآخر.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنَّ علينا وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يُفقِّهنا في الدين.
(7/5/2010)
أضف تعليق