إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
شيئٌ من رسالةِ هذه الآيات الجليلة أن الثبات على العقيدة والاعتزاز بالدين والبراءة من عقائد المُخالِفين لا يعني البتة أن نُعاديهم في كل حال، فلا نُعادي إلا مَن بدأنا بالعدوان ولا نصرم وصلة إلا مَن إساء إلينا وبغى علينا، أما الذين وادعونا وهادنونا وكفوا عنا فنحن نُحاسِنهم ونُجامِلهم ونبرهم ونُقسِط إليهم على كفرهم، وهذا لا يعني مُداهَنةً في الدين، فالقرآن يقول كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ ۩ أي في ساح الاعتقاد، أما المُواصَلة في السلوك والمُعايَشة الحسنة الجميلة – كما قال الفخر الرازي – فياحيهلاً، فهذا هو القرآن العظيم.
من وراءِ هذه التقدمة العجلى أُحِب أن أقول ما يعرفه مُعظَم المسلمين والمسلمات من دستور الإسلام والشرع الإسلامي في مُعامَلة غير المسلمين وبالذات في مُعامَلة أهل ذمة الله ورسوله وذمة المسلمين هو أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وليس بعد هذه الخُطة – لهم ما لنا وعليهم ما علينا – من إنصافٍ وسماح، فما عساه يبلغ المرء من إنصاف الآخر والتساهلِ والتسامح معه أكثر من أن يُحِله بمحل ذاته ونفسه فيجعل له مثل ما لنفسه ويجعل عليه مثل ما على ذاته؟!
ولكن من أسفٍ ما لا يعرفه أكثرنا أن الفقه الإسلامي والمذاهب الإسلامية المتبوعة لم تسلك وفق هذه الخُطة وإن استعلنوا بها غير مرة وكرَّروها وجعلوها عنواناً لهديٍ في مُعامَلة الآخر، ولكن في التفاصيل تكمن الشياطين، كيف عامل رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أهل ذمته؟!
عاملهم – نعم – على هذا النحو القرآني المُنصِف الرحيم المُتساهِل، ولكن كيف فهم الفقهاء هذه المسألة؟!
كيف تعاطت معها الأمة وما زالت تتعاطى إلى اليوم؟!
من أسفٍ – والوقت ضيق في فصل الشتاء – تعاطوا معها في ضوء ما يُعرَف بعهد عمر أو بالشروط العُمرية، وتحاشياً للوقوع في الخلط لابد من إيضاح أن الشروط العُمرية أو عهد عمر ليس أو ليست هى العُهدة العُمرية أي عهد الصلح الذي أعطاه الفاروق – رضوان الله تعالى عليه – لأهل إيلياء – أي لأهل بيت المقدس – لأن العُهدة العُمرية شيئ والشروط العُمرية شيئٌ آخر، لأنني وجدت أكثر من باحثٍ وعالم يخلط بينهما خلطاً قبيحاً فيظن أن العُهدة العُمرية هى عهد عمر أو الشروط العُمرية، وهذا غير صحيح، فهذا شيئ وهذا شيئ وشتان ما بينهما، العُهدة العُمرية جيدة وفيها إنصاف وتسامح وفيها روح الإسلام وفيها الروح العُمرية – رضيَ الله عن عمر وأرضاه – أما الشروط العُمرية ففهيا غير قليل على ما سيطرق مسامعكم ومسامعكن بعيد قليل من الإجحاف والاعتساف والظلم والإزراء والاحتقار والاذلال والتصغير وكل بذور العزل الاجتماعي والأدبي، فهذه الشروط للأسف في مُجملها تعكس خُطةً تتناقض تقريباً في مُعظم تفاصيلها وعلى طول الخط مع هدي كتاب الله وسُنة المُصطفى والروح الراشدية إلا أنها تُنسَب إلى عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه -، ومن أسفٍ أن مُتأخِّري العلماء قد تقبَّلوها تقريباً من عند آخرهم بالقبول الحسن وهم كثر في علماء أهل السُنة، وحتى من علماء الشيعة مَن تقبَّلها دون أن يعزوها إلى عمر ولكنه أتى بها بنصها وفصها، ومن آخرهم الإمام الخُميني في تحرير الوسيلة لأبي الحسن الأصفهاني فقد اعتمد تقريباً الشروط العُمرية كلها -وهذا شيئٌ عجيب – مع أن صاحب الوسيلة نفسه – الإمام الأصفهاني – لم يعتمدها ولم يتطرَّق إليها، ولكن الإمام الخُميني أتى بها واعتمدها كما يعتمدها أي فقيه سُني.
هذه الشروط – كما قلت – تُؤسِّس للعزلة، للموت الأدبي، وهى ضد روح الدعوة، هذه الشروط تتبرَّأ من دعوة غير المسلمين إلى الإسلام كأنها تقول ابقوا على ما أنتم عليه فلا صلة بيننا وبينكم، ومن هنا لا تسمعوا كتابنا ولا تتعلَّموا لغتنا ولا تتشبَّهوا بنا، فليس هناك ثمة علاقة بيننا وبينكم، وهذا طبعاً مع مزيد من التصغير والتحقير!
الدارسون والعلماء يعرفون هذه الشروط بالذات بفضلِ الإمام ابن القيم الجوزية – رحمة الله تعالى عليه – الذي خصَّها بشرحٍ مُوسَّعٍ مُسهَب في فصول ستة في كتابه الحفيل الواسع أحكام أهل الذمة – أي في الإسلام – المطبوع في مُجلَّدين كبيرين، حيث شرح هذه الشروط العُمرية في ستة فصول، ومُحقِّقه العلَّامة الشهيد صبحي الصالح – العلَّامة اللبناني الكبير رحمة الله عليه رحمة واسعة – قال “يُوشِك مَن وقف على هذه الشروط وحذقها أن يكون ألمَّ بكل الدستور الإسلامي في مُعامَلة الذميين”، ويا له من دستور!
والآن نحن نستغرب لماذا تقشعر أبدان إخواننا النصارى في العالم الإسلامي – وفي مصر بالذات – من اصطلاح الذمة وأهل الذمة وحقوق إهل الذمة، لأن بعضهم يعلمون ما لا يعلم أكثر المسلمين، يعلمون هذه الشروط وقد أُخِذوا بها غير مرة.
وللأسف الذي حفزني ودعاني إلى عقد هذه الخُطبة هو ما رأيته من غير واحدٍ من الدعاة والمشائخ وأهل العلم المُعاصِرين في عصر الثورات – في ربيع العرب – من رفعه لهذه الشروط من جديد والدعوة إليها وكأنها مُنزَلة من لدن رب العزة فهو يُهدِّد بها قائلاً ” لابد من تطبيق الشروط العُمرية التي تلقَّتها الأمة بالقبول، فهذا هو دستورنا وهذا منهجنا”، ويقرأها قراءةً من كتاب وهو لا يُحسِن فهم حتى بعض ما ورد فيها كما سيأتي ربما في إبانه وفي حينه، وهذا شيئ غريب فهم يدعون إلى الشروط العُمرية ونحن على يقينٍ قاطع أن عمر الفاروق منها براء. رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
الموضوع طويل ولكن حتى لا نُطوِّل سنقول أن من وجوه الخلط أيضاً ما وجدناه من غير عالمٍ ومن غير باحثٍ ودارس من زعمٍ أن هذه الشروط مُخترَعة ومُبتدَعة وكان أول ظهور لها في القرن الخامس الهجري على يد الإمام أبي محمد بن حزم – الإمام الظاهري العظيم – في مُحلاه، علماً بأن ابن حزم مُتوفى سنة أربعمائة وست وخمسين للهجرة في مُنتصَف القرن الخامس، في حين زعم آخرون أن أول ظهور لها كان على يد الإمام أبي القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق، علماً بأن ابن عساكر مُتوفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في آواخرفي الثلث الأخير تقريباً من القرن السادس الهجري.
الشيخ محمد الغزالي – رحمة الله تعالى عليه – يبدو أنه لم يبذل جهداً يُذكَر في تتبع هذه الشروط فكتب يرد في كتابه التسامح والتعصب بين المسيحية والإسلام على أحد النصارى الذين أرادوا أن ينالوا من الإسلام وأن يشنأوا شرعه مُعلِّقاً على هذه الشروط “قد تتبعنا مصادر التشريع من كتابٍ وسُنة وكتب التواريخ فلم نعثر لها على أثر”، أي أن هذه الشروط غير موجودة بالمرة، وهذا غير صحيح لأنها موجودة في كل كتب الفقه وخاصة المُتأخِّرة بعد القرن الثالث الهجري، موجودة في كلها على الإطلاق وموجودة – كما سيأتيكم – بروايات مُسنَدة سنُحاكِمها الآن بحسب ما يتسع له المقام.
وظن الشيخ الغزالي – رحمة الله عليه – تبعاً لمنقوده – لهذا النصراني الذي ينقده الشيخ الغزالي – أن أول ظهور لها كان مع الإمام الأديب والفقيه الشافعي القلقشندي صاحب صبح الأعشى في صناعة الإنشا – وهذا مُتوفى في القرن الثامن – فقال: وهذا رجل أديب وكتابه في الإنشاء، فمتى كان شرع الله يُؤخَذ من كتب الإنشاء؟!
ولكن هذا غير صحيح يا شيخ الغزالي، فليس القلقشندي هو أول مَن ذكر هذه الشروط، فهناك خلط قبيح وخلط غير مقبول يقع فيه الباحثون والدارسون، والموضوع جد، الموضوع خطير جداً جداً جداً، فالآن في هذا الموضوع مطلوب نوع من التأسيس الجديد في ضوء الثورات العربية لعلاقاتنا مع إخواننا في الوطن، مطلوب مزيد من الاستقرار، مزيد من التسامح، مزيد من التفاهم، مزيد من المُواطنية، ليس مزيداً من الإقصاء والإلغاء والنبذ والسحق والمحق أبداً، ولكن ماذا نفعل والشروط العُمرية تُقيِّدنا؟!
سوف نرى مدى صدقية وصلوحية هذه الشروط أن يُعتمَد عليها ويُستنَد إليها ويُستمَد منها تشريعٌ بخصوص هذا الموضوع الحسَّاس والحرج جداً وهو موضوع علاقتنا بأهل الذمة!
طبعاً بين قوسين حتى لا يُقال هل موضوع أهل الذمة والجزية من الموضوعات التي تُشكِّل وضعاً غير قابل للتغيير والتبديل أم من الموضوعات التي يُنظَر إليها على أنها عقدٌ وعهدٌ يُمكِن أن يزول بزوال محله أو بزوال أطرافه أو بعض أطرافه – وضعٌ أو عقد ؟! – أُريد أن أقول أن هذا الموضوع يحتاج إلى خُطبة وربما إلى أكثر من خُطبة بحيالها.
وضعٌ كوضع بنوتي لأبي، وكوضع أبوتك لابنك هو وضعٌ لا يتغير، فلو عشت بليون سنة تبقى أباً لابنك ويبقى هو ابناً لك، فهذا وضعٌ لا يتغير، وضعٌ كأن الشمس أعلى من الأرض والشمس في كبد السماء أيضاً وضعٌ لا يتغير، أما العقد كأن يكون هناك عقد بين شريكين في شركة مُعيَّنة – شراكة مُعيَّنة – فهذا قد يزول، فهل موضوع الذمة وما يتبعها من جزية وضعٌ أو عقد؟!
إذا أراد بعض الناس أن يعرف رأينا فرأينا بكلمة هو عقدٌ وليس وضعاً ويُمكِن أن يُنسَخ وينتهي كل شيئ، ولكن بعض الناس يظن أن أي شيئ ورد في الكتاب والسُنة بمُجرَّد أنه ورد فهذا وضعٌ مُؤبَّد لا يزول، وهذا غير صحيح فالقرآن يتعامل مع الأوضاع ومع موضوعات العقود والعهود ولابد أن يُشرِّع فيها، ولكن على المُشرِّع وعلى الفقيه وعلى الفاهم أن يُميِّز بين وضعٍ وبين عقدٍ، ولكن الموضوع يحتاج إلى – كما قلت – كلام بحياله فنعود إلى موضوعنا، باختصار هذه الشروط العُمرية يبدو أن أول مَن رواها الإمام أبو بكر الخلَّال – الإمام الحنبلي الشهير، من الطبقة الثانية من تلاميذ الإمام أحمد – في كتابه أحكام أهل الملل، وأبو بكر الخلَّال مُتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وطبعاً هذا بحد ذاتهِ يُثير نوعاً من الارتياب، فلم تُوجَد هذه الشروط مُسنَدة قبل هذا التاريخ، الشروط العُمرية بهذه الهيئة وبهذه الروايات لم تُوجَد قبل رواية الخلَّال، حيث أن أول رواية نقع عليها هى رواية أبي بكر الخلَّال وليس ابن حزم أو البيهقي أو ابن عساكر أو القلقشندي أو ابن القيم الجوزية أو أبو الفرج بن الجوزي حسبما يقول بعضهم، بل أبوبكر الخلَّل سنة إحدى عشرة وثلاثمائة للهجرة، ثم بعد ذلك مع الإمام ابن الأعرابي في مُعجَمه – وابن الأعربي مُتوفى سنة أربعين وثلاثمائة – وبعد ذلك يرويها ابن حزم في مُحلاه، علماً بأن ابن حزم تُوفيَ في ست وخمسين وأربعمائة، ويرويها أبو بكر البيهقي في السُنن الكُبرى ، علماً بأن أبا بكر البيهقي مُتوفى في ثمان وخمسين وأربعمائة، وأبو القاسم بن عساكر – رحمة الله عليه – صاحب تاريخ دمشق تُوفيَ في إحدى وسبعين وخمسمائة، فهذا هو التسلسل لهذه هذه الرواية، ولكن أول ظهور لها كان مع الإمام أبي بكر الخلَّال الذي يرويها بسنده عن عبد الله – عن شيخه – بن الإمام أحمد بن حنبل – رضوان الله تعالى عنه – بسنده عن إسماعيل بن عيَّاش، فقال “حدَّثني جماعةٌ من أهل العلم كذا كذا”.
نحن لا نستطيع أن نسرد هذه الشروط بنصها لأنها طويلة – زُهاء خمسة وعشرين شرطاً – فالمقام ضيق جداً ولكن سنجتزأ بالأشياء الحرجة والحسَّاسة، علماً بأن مُعظَمها حرج وحسَّاس.
يقول ابن عيَّاش فيما حدَّثه به غير واحدٍ من أهل العلم أن أهل الجزيرة كتبوا إلى عبد الرحمن بن غنْم.
ما المقصود بالجزيرة؟!
في الكتب الجغرافية، في الكتب التاريخية كلمة الجزيرة هكذا وحدها تعني الجزيرة الفراتية، ميزوبوتاميا Mesopotamia ، يعني بلاد ما بين النهرين ، وتضم – تاريخياً – هذه الجزيرة الفراتية في شمال العراق ولاية نينوى، وفيها الموصل – قصبتها الموصل – طبعاً، ومن بلاد الشام من سوريا الكُبرى تضم ولاية الحسكة كاملةً وأجزاء من دير الزوروغيرها، من بلاد تركيا تضم أورفا وماردين وديار بكر، فكل هذا اسمه الجزيرة الفراتية ، بلاد ما بين النهرين، ميزوبوتاميا Mesopotamia ، علماً بأن هذا المُصطلَح يتكرَّر كثيراً في كتب الجغرافيا التقليدية.
يقول ابن عيَّاش أن أهل الجزيرة كتبوا إلى عبد الرحمن بن غنْم و ليس غنَم وإنما غنْم بتسكين أوسطه، علماً بأنه يُقال أن عبد الرحمن بن غنْم كان صحابياً ولكن مُعظم العلماء على أنه ليس بصحابي، فمُعظمهم صحَّحوا أنه كان تابعياً من كبار التابعين فقد التقى عمر بن الخطاب فعلاً ويُوجَد علاقة بينه وبين الفاروق – رضوان الله تعالى عنهم أجمعين -، وواضح من آخر الكتاب أن ابن غنْم بدوره كتب بهذه الشروط إلى عمر بن الخطاب الذي قَبِلَ بها كما هى وزادها شرطين اثنين، حيث أنهم كتبوا له “أنكم حين قدمتم على بلادنا وطلبنا الأمان منكم شرطنا لكم على أنفسنا – وهذا بحد ذاته يُثير الاستغراب لأن ليس من عادة المغلوب أن يضع شروطه، فالذي يضع الشروط هو الغالب وليس المغلوب، ولكن الرواية تقول هم الذين وضعوا الشروط وهذا أمر مُثير فهو يُثير كل مُؤرِّخ وكل دارس للتاريخ، وقد أثار بالفعل عشرات المُؤرِّخين فاستنكروه منذ البداية فالفاتحة ليست بالفاتحة الحسنة المُبشِّرة – ألا نُحدِث بمدينتا كنيسةً – وهذا شيئ عجيب فلا يُمكِن للنصارى أن يشترطوا هذا على أنفسهم كما لو كانوا يُريدون التضييق على أنفسهم في دينهم وأعز ما لديهم وهو الدين والاعتقاد – ولا فيما حولها من ديارنا ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب”
القلاية أوالقلية هى لفظة لم تدخل الاستعمال العربي إلا بعد ذلك بأمدٍ قصي فكيف لها أن تكون موجودة أيام عمر؟!
ومن هنا يُنكِر هذا كل دارس للغة وكل دارس للتاريخ، لأن هذه العبارات أُحدِثَت فيما بعد، فتخيل الآن أن ننسب كتاباً إلى القرن التاسع عشر وفيه عبارة – مثلاً -إنترنت Internet، فسيكون من الواضح أن هذا كذب، فلا وجود للشبكة العنكبوتية في القرن التاسع عشر، وهكذا لا يُمكِن استعمال لفظة قلاية في هذا الوقت، علماً بأن القلاية والقلية تُوضَع في الدير فهى مثل الصومعة ولكنها تكون أعلى من الصومعة وينفرد بها راهبٌ واحد، فلكل راهب قلاية، وقد يحتوي الدير الواحد – كما ذكر الشابشتي في الديارات رحمة الله عليه – على مائة قلاية، فهى مثل الصوامع ولكنها أعلى من الصوامع وينفرد بها الراهب، ولكن على كل حال مكتوب “ولا قلاية”.
“ولا ندقَ – لأنه على ألا كله معطوف وكله منصوب الآن – بنواقيسنا إلا دقاً خفياً في جوف كنائسنا – كله تقييد ديني، فكأنهم يُقيِّدون أنفسهم، وهذا أمر مُثير للاستغراب حقيقةً -ولا نُظهِر صليباً وألا نتلوا كتابنا – أي بصوتٍ جهير مُرتفِع – في صلاتنا أو في غيرها بحضرة المسلمين”، علماً بأنه ليس من عادة المسلمين أن يزوروا الكنائس كل يوم وهذا مذكور ومُقيَّد في الكنيسة حتى فهذا قد يحدث مرةً في العمر، ولكن على كل حال مذكور هذا أيضاً، فضلاً عن أنهم قالوا “وألا نُعلِّم أولادنا شيئاً من القرآن الكريم” فهل عمر والصحابة يُحِبون ألا يُعلَّم القرآن للصغار؟!
هل من شروط الفاتحين ألا يُعلَّم القرآن للأولاد الصغار؟!
“ألا نُعلِّم أولادنا شيئاً من القرآن الكريم – ممنوع أن يُعلَّم القرآن – وألا نتكلم بكلامهم – بكلام الفاتحين، بكلام العرب، أي لا نتكلَّم بالعربية وإنما نتكلمَّ بلساننا السرياني أو غير السرياني -، لا نتسمَّى باسمائهم ولا نكتني بكناهم ولا ننقش خواتمنا بالعربية ولا نتشبَّه بهم في ملبسٍ وزي – أي ممنوع أن يلبسوا كما يلبس المسلمون – فلا نلبس قلانسوةً ولا عمامةً ولا نعلين – المسلمون كانوا يلبسون كذلك وينتعلون، ومن هنا هم أرادوا ألا ينتعلون كما ينتعل المسلمون – وألا نركب مراكبهم” وإلى آخره، وهذا الشيئ مُخيف جداً وتقشعر له الأبدان، فما هذا التضييق والتحقير والتصغير؟!
فهل هذه هى الشروط العُمرية التي يأخذ بها الفقهاء؟!
والآن ييخرج لك داعية من المغرب وآخر من مصر وثالث من بلاد آخر يدعون إلى الشروط العُمرية بدعوى أن هذا شرع الله وهم لا يُريدون أن يبتدعوا أو يفتروا عليه فضلاً عن أنهم يقولون أن الفقهاء بل وكل الأمة أخذوا بها ومن هنا لابد أن نُطبِّق الشروط العُمرية – ما شاء الله- ، إذن انتظروا أن تُقسَّم بلادكم، فستُقسَّم هذه البلاد وسينفرد النصارى في كل مكان بدويلة لهم، فما هذا؟!
ما هذا التفكير؟!
ما هؤلاء الدُعاة؟!
ما هذه العقول؟!
على كل حال نترك التعليق لكم والانفعال لكم وليس لي، حيث أن هناك شروط مُجحِفة كثيرة جداً مثل قولهم “ولا نتشبَّه بهم في أزيائهم ولا في مراكبهم، وألا نتخذ السرج”، أي أنه ممنوع أن يرمبوا على الدابة وعليها سرج، فيركبون من غير سرج، وهذا شيئ مُؤلِم جداً، ولكن قال أحدهم أن هناك شيئ آخر وهو أن يكون هذا السرج من خشب كما قال الإمام الجويني في نهاية المطلب في دراية المذهب، وليس هذا فقط بل ممنوع أن يتشبَّهوا بنا في المراكب، فممنوع أن يركبوا على الخيول، لأن الخيل ركوبها عز كما يُقال، فيركبها الأنبياء والصالحون ومعقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، فكيف يركبها مسيحي ويهودي ومجوسي؟!
ممنوع لأن هذا فقط للمسلمين، أما هم فيركبون الحُمر فقط – أي الحمير أكرمكم الله – وممنوع عليهم البراذين والخيول فهى للمسلمين، أما الحُمر وغير الحُمر فلهم ولكن يركبون عليها بالعرض فممنوع أن يركبوا مثلنا وإنما بالعرض من جهة واحدة، ولكم أن تتخيَّلوا هذا فضلاً عن منعهم من أن يأخذوا السرج.
“وأن نحترم المسلمين وأن نُوقِّرهم في المجالس وأن نقوم لهم عن مجالسنا” أي لو أن هناك ذمي جالساً وأتى مسلم يقوم الذمي ويجلس المسلم مُباشَرةً بحسب الشروط العُمرية، وغيرها من الأشياء الكثيرة، ثم يختم هؤلاء – أهل الجزيرة – كتابهم إلى ابن غنْم بالقول “وإن نحن غيِّرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وأخذنا الأمان – أي منكم – عليه حل منا ما يحل لأهلِ – وهذا التعبير غالط وغير صحيح، فالمفروض أن يُقال ما يحل من أهل وليس ما يحل لأهل – الشقاق والعناد”، أي أن هذا من نواقض العهد فينتُقِض عهدنا وحل منا ما يحل من أهل الشقاق والعناد، ولكن حتى فقط نضعكم في الصورة ما معنى أن ذمياً – صاحب العهد – يُنتقَض عهده؟!
مُباشَرةً يستحيل حربياً وبالتالي يجوز قتله واسترقاقه، فإما أن تقتله وإما أن تسترقه عبداً عندك، فهذا معنى أنه انتُقِضَ عهده، فانتقاض عهده لا يعني أنه سيجلس في بيته وانتهى الأمر، بل إما أن يُذبَح وإما أن يُؤخَذ أسيراً لو خالف في هذه الشروط، وفي الشروط لو علَّم ابنه القرآن الكريم ودرَّسه كما فعل بعض النصارى حين علَّموا أبناءهم القرآن في كل عصرٍ وهذا يُورِث أبناءهم تقديراً للعربية وقُرباً من روح الإسلام واحتراماً حتى لهذه الحضارة، ولكن مَن يفعل هذا منهم يُنتقَض عهده بحسب كتاب ابن غنْم، وسأترك التعليق على الشروط علماً بأن التعليق طويل جداً ويحتاج إلى مُحاضَرات، ولكن نأتي إلى الأسانيد أولاً ثم بعد ذلك إلى تعليقات سريعة – في ما يتسع له المقام – على المتن، فهل هذا مروي بأسانيد صحيحة حتى يتقبَّله علماء المذاهب الأربعة؟!
ما هى أسانيده؟!
باعتراف كبار العلماء هذه الشروط لا تتمتع برواية واحدة – ليس لها رواية واحدة يتيمة – تستند جيداً أبداً، فلماذا أخذنا بها إذن؟!
عقلية الغالب، عقلية المُنتصِر – هذا معروف – وعقلية العامة، فالعامة تُحِب هذا أيضاً، أذكر أنني قرأتُ أن القاضي أبا يوسف صاحب أبي حنيفة – رضيَ الله تعالى عنهما – قال” لو قتل مسلم ذمياً أو مُستأمَناً يُقتَل به”، وكان مذهب أبي يوسف – رضوان الله تعالى عليه – أن المسلم يُقتَل بالذمي، فلو أن مسلماً قتل ذمياً عمداً -وليس خطأً يُقتَل به، يُقاد منه كأنه قتل مسلماً، بل أن أبا يوسف الوحيد من هؤلاء العلماء قال “ويُقتَل بالمُستأمَن أو المُستأمِن “، أي يجوز مثلما يحدث مع المُعاهَد والمُعاهِد، علماً بأن المُستأمَن يختلف عن الذمي فهو الحربي الذي طلب الأمان ودخل – تاجراً مثلاً أو غير تاجر – بأمان من الدولة الإسلامية لمُدة مُعيَّنة ممنوع أن يبقى في الدولة بعدها، فإن جاوزها قد يستحيل ذمياً واختُلِفَ في هذه المدة في مسائل فقيهة طويلة، ولكن المُهِم هو أن أبا يوسف قال “لو قتل مسلم ذمياً أو مُستأمَناً يُقتَل به”، وذات مرة أيام هارون الرشيد فعلاً قتل مسلم ذمياً فاستُفتىَ القاضي – قاضي القضاة أبو يوسف صاحب الخراج والمُستشار الديني الأول لهارون الرشيد – فقال “يُقتَل به”، فدُفِعَت إليه رُقعة – دُفِعَت إلى الرشيد – فيها: أتقتلون المسلمون بالذمي؟!
أي أن هذا جورٌ وهذا ليس عدلاً، فقال له الرشيد – هارون الرشيد – “يا أبا يوسف تدارك الأمر قبل أن تكون فتنة”، فجعليطلب البينات ثم لُفلِفَت المسألة فعلاً لأن العامة تُريد هذا!
طبعاً نحن لا نعرف أن ثورات وهيشات كثيرة – ليست يسيرة – في تاريخنا كانت تقع بين الفينة والفينة بين المسلمين والنصارى، وبالذات النصارى فاليهود عاشوا مرتاحين وكانوا قلة، وفي هذه الهيشات والفتن كان يُقتَل العشرات والمئات وتُهدَم عشرات وأحياناً أكثر من عشرات الكنائس، وقد يتعدَّى العدد المائة، فهُدِمَت مائة كنيسة في شهر واحد علماً بأن هذا حدث في مصر أكثر من مرة، ولكن نحن لا نعرف هذا لأننا لم نقرأ تاريخنا فضلاً عن أن هذا لا يُقال لنا، يُقال لنا أسعد أقليات هى الأقلية الفلانية فقط، وصح يُمكِن أن ترى نفسك الأفضل في العالم بشرطٍ واحد فقط هو أن تُقارِن نفسك مع الأسوأ فتكون دائماً أنت الأحسن، ولكن نحن لا نُريد هذا لديننا ولا أنفسنا، نُريد أن نكون الأفضل والأحسن حقيقةً ليس بالاحتيال، فعندما نُقارِن أنفسنا بأوروبا في العصور الوسطى سنكون طبعاً أفضل مليون مرة، ولكن عندما نُقارِن أنفسنا مع الكتاب والسُنة، مع الخلفاء الراشدين، مع رحمة الإسلام لن نكون الأفضل، فهذا عدوان على أهل ذمتنا، والنبي أوصى أمته “احفظوني في أهل ذمتي”، وعمر هذا الذي تُنسَب إليه هذه الشروط العُمرية كان يلفظ آخر أنفاسه الشريفة شهيداً وهو يقول “وأوصي الخليفةَ من بعدي بأهل ذمة الله ورسوله أن يحوطهم وأن يُقاتِل من ورائهم وألا يُكلَّفوا ما لا يُطيقون”، وهذا أمر عجيب فعمر يموت وهو يُوصي بهم – بأهل الذمة -لأن هؤلاء في ذمة الله، في ذمة الرسول، في منعة الله ورسوله، في كفالة الله ورسوله فيجب أن يكونوا في كفالة المُؤمِنين حقاً وصدقاً، ومن هنا قال “وأوصي الخليفةَ من بعدي بأهل ذمة الله ورسوله أن يحوطهم وأن يُقاتِل من ورائهم وألا يُكلَّفوا ما لا يُطيقون”، ولكن ما معنى وأن يُقاتِل من ورائهم؟!
أي من أمامهم، هنا الوراء بمعنى أمام كما قال علماء العربية، أي يُقاتِل دونهم، فعليك أنت تحمهم حتى بالقتال ولو قُتِلت دونهم أيها المسلم فهذا هو المطلوب، وابن حزم في كتابه مراتب الإجماع حكى عليه الإجماع، فلو أن ذمياً أراده غير مسلم أو غير واحد بأذىً أو بضرر قال “يجب على المسلمين أن يمنعوه ولو أدى ذلك إلى أن يُقاتِلوا ولو أدى ذلك إلى استئصال المسلمين من عند آخرهم”، وهذا أمر عجيب، لماذا يكون الأمر على هذا النحو إلى هذه الدرجة؟!
حفاظاً على مَن له ذمة الله ورسوله، وهذا هو الإسلام الصحيح، هذا هو الإسلام الرجيح المليح الجميل، وليس إسلام الشروط العُمرية، فالشروط العُمرية فيها إجحاف غير طبيعي.
وعندما نأتي إلى الأسانيد نجد أن هذا الإسناد – إسناد أبي بكر بن عيَّاش – لم يقع عليه العلَّامة الشيخ الألباني فقال “لا أعرفه من طريق ابن عيَّاش” ولكنه موجود عند الخلَّال في أحكام أهل الملل والكتاب موجود ومطبوع، ومن طريق الخلَّال رواه ابن القيم في كتاب أحكام أهل الذمة فقال أن أبا بكر الخلَّال قال كذا وكذا، ولكن إسناد الخلَّال فيه مُشكِلة، فأولاً إسماعيل بن عيَّاش – رحمة الله عليه – أبو عتبة الحمصي – العلَّامة والرجل الصالح الشامي الشهير – قال فيه الإمام أحمد والإمام يحيى بن معين وغيرهما، فقال يحيى بن معين “إذا حدَّث عن أهل بلده فنعم أحاديثه مُمتازة ثقة – عن الشاميين – وإذا حدَّث عن غيرهم خلط”، أي أنه مخلاط لأنه يتحدَّث من حفظه فيخلط، وقال الإمام أحمد “وإن حدَّث عن غيرهم فعنده مناكير” أي هناك أحاديث مُنكَرة، فلسنا ندري هذا الحديث يرويه إسماعيل بن عيَّاش أبو عتبة عن مشائخه الشاميين أم الحجازيين وغير الحجازيين، لماذا؟!
لأنه أبهمهم عندما قال “حدَّثنا غير واحد من أهل العلم”، فمَن مَن الذي حدَّثك لأن عليك أن تُعيِّن لنا حتى لا نقع فيما يُسمى بالرواية عن المُبهَم؟!
وتقريباً عند علماء المُصطلَح كافة الرواية عن المُبهَم مردودة وإن كان الذي أبهمه إماماً في هذا الشأن، ولكن استثنى بعضهم الإمام الشافعي والإمام مالك لأنهم إذا أبهموا لم يُبهِموا إلا عن أيه عن مشائخ مُعيَّنين معروفين، فإذا قال الشافعي مثلاً “حدَّثني الثقة” فالثقة معروف وهو شخص مُعيَّن، فهذه حالات استثنائية لأنه معروف مَن هو، إذن هذا ليس مُبهَماً على الحقيقة، أما المُبهَم على الحقيقة لا تُقبَل الرواية عنه، إذن نحن لسنا ندري حاله من الجرح والتعديل فالحديث فيه هذه المُشكِلة المُزودَجة فسقط ولذلك الحديث ليس صحيحاً، هذه الرواية ليست صحيحة.
بعد ذلك الإمام ابن الأعرابي وابن حزم والبيهقي وابن عساكر أربعتهم يروون هذا الحديث عن مسروق بن الأجدع أبي عائشة الذي يرويه عن عبد الرحمن بن غنْم وأدركه – حتماً أدركه – لأن مسروق تُوفيَ سنة ثنتين أو ثلاث وستين للهجرة في القرن الأول وهو تابعي جليل وتلميذ أمنا عائشة – رضوان الله عليها -، إذن هم يروونه عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنْم ولكن في الطريق إلى مسروق مُصيبة كبيرة عند هؤلاء جميعاً – عند ابن الأعرابي وابن حزم والبيهقي وابن عساكر – وهى أن في الطريق إلى مسروق يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، فقد قيل فيه أن هذا الرجل كذَّاب، فهو معروف هذا، ولذلك قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل “الحديث ضعيف جداً ففيه ابن أبي العيزار”، علماً بأن يحيى بن معين قال فيه “كذَّابٌ خبيثٌ، عدو الله”،وقال فيه الإمام البخاري “أحاديثه مُنكَر”، وقال فيه الإمام ابن أبي حاتم الرازي – رحمة الله عليهم أجمعين – “يفتعل الحديث” أي أنه وضَّاع كذَّاب يخترع أحاديث، فهذه الروايات كلها ستجدون فيها يحيى بن عقبة بن أبي العيزار وهو كما قيل عنه كذَّابٌ خبيث، عدو الله، يخترع الأحاديث، فلم تصح، وهناك طريق أحسن، حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشر أهْوَنُ من بَعْضِ، الإمام الجليل سفيان الثوري – أبو سعيد سفيان الثوري – رحمة الله تعالى عليه، يُقال أنه الإمام الخامس في الإسلام – يروي هذا الأثر عن مسروق بن الأجدع، وقلنا هناك انقطاعٌ ظاهرٌ صارخ ، لأن سفيان الثوري – رحمة الله تعالى عليه – وُلِدَ سنة سبع وتسعين للهجرة، ومسروق تُوفيَ سنة ثنتين أو ثلاث وستين، أي بينهما أمدٌ قصي، أمدٌ بعيد، إذن هناك انقطاع ومن ثم الحديث مُنقطِع، وهكذا لم تسلم رواية.
ابن عساكر عنده رواية جيدة يرويها عن شهر بن حوشب وهو من رجال مسلم الذي تكلَّم فيه بعض الناس حيث أن هناك قصة مشهورة تتعلَّق به فقيل فيه:
لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ فَمَنْ يَأْمَنِ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ
وهو من رجال مسلم ولكن ليس من رجال البخاري، فشهر بن حوشب تكلَّم فيه بعضهم، أما نحن فنقبله كما قبله مسلم، ولكن المُشكِلة ليست في شهر، المُشكِلة في الطريق إلى شهر، إذ يرويه ابن عساكر من طريقٍ – أي من سند، فالطريق هو السند – فيها أبو محمد بن زبر قاضي دمشق الذي قال فيه الإمام الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد “لم يكن ثقة”، فهذا ليس ثقة، وقال أبو نصر بن ماكولا “لا يرتضونه”، وقال الحافظ الذهبي في المغني وفي الضعفاء وغيره “ما أتقن”، وفي سير أعلام النبلاء “ليس مُتقِناً”، إذن فالسند ضعيف، فمن جهة الأسانيد لا تُوجَد رواية واحدة تستند جيداً في الشروط العُمرية.
تلمّحاً لهذا الضعف البادي أراد أن يعتل ابن القيم ويعتذر فقال “وشهرة هذه الشروط تُغني عن أسانيدها” لأنه يعلم أن الأسانيد مضروبة ومعطوبة، ومن هنا قال على غير عادته أن ليس لديه مُشكِلة في ذلك، علماً بأن ابن القيم إمام سلفي جليل يبحث في الأسانيد قبل أن يبحث في المتون على عادة أئمة السلف، ولكن هذه المرة كبى به فرسه عن تعمد وتقصد، وهو يعلم أنه لو بحث في الأسانيد لم يصح له منها سندٌ واحد ولا طريق واحدة، ولكن أحب المسلمون وابن القيم بالذات ذلك، وأنا استغربت من العلَّامة صبحي الصالح – رحمة الله عليه – كيف أراد أن يُصوِّر ابن القيم أنه إمام مُتساهِل فهذا غير صحيح لأن ابن القيم في مُعظم شرحه على الشروط العُمرية كان مُتزمِتاً جداً جداً جداً ومُتعسِفاً وأتى بأشياء عن الفقهاء امتدحها واستثمنها واستحسنها فيها غير قليل من الاحتقار والإزراء والإذلال لأهل الذمة، فالرجل كان مُتشدِّداً جداً، فكيف يُقال عن ابن القيم أنه مُتسامِح؟!
هذا غير صحيح، ولذلك لا تُعتمَد هذه الشروط كمنهاج في مُعامَلة أهل ذمتنا، كلام ابن القيم – رحمة الله عليه – وإن أصاب في أشياء إلا أنه ما منا إلا رادٌ ومردودٌ عليه، ومن ذلك – مثلاً – أن ابن القيم استحسن إذا دخل الذمي الحمام أن يدخل وفي عنقه جرس – كأنه أصبح كالكلب – ليُعرَف أنه من أهل الذمة، واستحسن ابن القيم في شرح شروط عمر – رضوان الله تعالى عنه – والتي عمر منها براء – إن شاء الله – أن المرأة الذمية حين تلبس الخفين لابد أن يكون أحد خفيها أحمر اللون، فما هذه المهزلة؟!
فضلاً عن أن كل هؤلاء استحسنوا طبعاً ما ورد في الشروط العُمرية من قولهم “وألا نفرق شعورنا” لأان الفرق هذا للمسلمين، فالنبي كان آخر شيئ منه الفرق ومن ثم ممنوع على نصراني أن يفرق، كما لو كان عليه أن يختار له قصة شعر ثانية ومع ذلك قالوا “لأ، فالشروط العُمرية تُلزِمه بأن يجزّ ناصيته”، قال ابن القيم “والناصية ربع الرأس”، فتخيَّل – بالله عليك – التشويه هذا، فلا يسير أي في نصراني إلا وربع رأسه محلوقة، ويدّعون أن هذا من مُعامَلة أهل الذمة وأنه حقاً لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فبالله عليكم هل هذا من باب لهم ما لنا وعليهم ما علينا؟!
هذا تفريغٌ وتذويبٌ لهذه الجملة العظيمة “لهم ما لهم وعليهم ما علينا”.
للأسف أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستعفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله -تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
إن شاء الله في الجُمعة القادمة – بإذن الله – نُكمِل نقدنا للمتن – لمتن الشروط العُمرية – مُعتمِدين في ذلكم ومُتكئين على كتاب الله وصحيح السُنة وروح هذا الدين وفهم أيضاً نفر من الأئمة والفقهاء في الأعصار القديمة وبالذات في هذا العصر.
(30/11/2012)
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
أضف تعليق