إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩
وقال – سُبحانه -:
لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
قد استوعب القرآن العظيم في هذه الآيات الثلاث أصناف الصالحين من هذه الأمة، إنهم أصحاب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقد صنَّفهم القرآن صنفين: المُهاجِرين والأنصار، وأما الصنف الثالث الذي لا يعجز امرؤٌ يبغي نفسه الخير أن يكون منهم – إن شاء الله تبارك وتعالى – فهم الذين أتوا بالأثر منهم، هم الذين جاءوا من بعدهم، وساروا في مسارهم، واهتدوا بهديهم، وأخذوا بطريقتهم، واستغفروا لهم الله – تبارك وتعالى -، ولم يحملوا ضغناً ولا حقداً ولا تنقصاً عليهم، رضوان الله عليهم أجمعين، إنهم التابعون بإحسان.
وهذا المعنى يُمكِن أن يمتد إلى يوم القيامة، أن يكون المرء من التابعين لأجيال الخير الأولى بإحسان إلى يوم القيامة – إن شاء الله -، قال سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الناس منازل ثلاث، منزلتان قد مضتا، وبقيت الثالثة، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ۩، هذا في الآية الكريمة، فلا يعجزن أحدكم أن يكون منهم، حتى قال بعض الصالحين كُن شمساً، فإن لم تسطع فكُن قمراً، فإن لم تسطع فكُن كوكباً مُنيراً، فإن لم تستطع فكُن كوكباً صغيراً، ولا تُخل نفسك من جهة الضوء، نتضوأ ونستمد من ألق وسنا وأنوار هؤلاء، رضوان الله عليهم أجمعين، أجيال الخير من السابقين البررة المُقرَّبين المُجاهِدين المُنافِحين، وبُناة أيضاً عمد وأساطين هذا الإسلام العظيم.
وقد نوَّه النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بهذه الأجيال الطيبة في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الشيخان من حديث عمران بن حُصين – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران فلا أدري أذكر قرنين بعد أصحابه أو ثلاثة، والأشبه أنه ذكر قرنين، لما أخرجا أيضاً – أعني البخاري ومُسلِماً – في صحيحهما من حديث أبي سعيد الخُدري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يغزو فئام من الناس فيُقال – وفي رواية فيقولون – هل فيكم مَن صاحب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -؟ فيقولون نعم، فيُفتَح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيُقال – أي لهم – هل فيكم مَن صاحب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم، فيُفتَح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيُقال هل فيكم مَن صاحب مَن صاحب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -؟ أي تبع التابعين أو أتباع وتُبع التابعين، الجيل الثالث الخيّر، فيقولون نعم، فيُفتَح لهم.
أيها الإخوة:
يكثر وهو مأنوس جداً أن نتحدَّث عن أصحاب رسول الله، رضوان الله تعالى عليهم، وصلوات الله وتسليماته على رسول الله وآله وأصحابه أجمعين، لكن ليس بهذا القدر يجري الحديث ويُعاد عن التابعين، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، وهم بلا ريب أقل منزلةً من أصحاب رسول الله، في الجُملة أقل منزلةً من أصحاب رسول الله، وإذا كان الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – يستمدون من نور رسول الله بطريق المُباشَرة فإن التابعين يستمدون منه بطريق غير مُباشِر، إنهم يستمدون أنوارهم من أصحاب رسول الله، فأصحاب رسول الله آية من آيات رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
ولذلك انظروا في الأجيال التي تفقَّهت بهم، في الأجيال التي تخرَّجت عليهم، وفي الأجيال التي صاغوها وربوها بتعليمهم وبتدريسهم الرباني بمُصطلَح القرآن الكريم – وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ۩ -، إنها أجيال عجيبة جداً، يصلح بل لا يصلح بعد الصحابة أن يُقتدى بأحد من قبلهم، إن لهم مكان الصدارة ومكان التقدم بعد أصحاب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
بعض الناس يُوشِك ألا يكون سمع إلا بثُلة قليلة أو قليلين من هؤلاء النفر المُبارَكين، وهم كثر، هم أكثر من الصحابة عدداً، لأن كل صاحب كان له جماعة من التابعين، هم كثيرون جداً، وقد صُنِّفوا على طبقات، فمثلاً اعتدنا وأنسنا أن نسمع الحسن البِصري، سعيد بن المُسيب، سعيد بن جُبير، وأبا حنيفة – رضيَ الله عنه وأرضاه، هو من التابعين أيضاً، أعني أبا حنيفة، اعتدنا أن نسمع أبا حنيفة، أي عن أبي حنيفة -، اعتدنا أن نسمع محمد بن سيرين، اعتدنا أن نسمع عن محمد بن واسع، وعن الأحنف بن قيس، صحيح، هذه أسماء مأنوسة لأكثر الناس، اعتدنا أن نسمع عن عمر بن عبد العزيز، وهو من رؤوس التابعين، رضوان الله تعالى عليهم، لكن هذه كوكبة مُضيئة مُنيرة مُتألِّقة من التابعين يُوجَد إليها أمثالها وأمثالها وأمثالها، مما لا يدري الناس الكثير من شؤونهم ومن عجائب أخبارهم.
ومن الخسار كل الخسار أن نحرم أنفسنا وأن نُخليها وأن نحرم أطفالنا – أبناءنا وبناتنا – من أن يتخرَّجوا ومن أن يتربوا على أيدي هذه الثُلة المُبارَكة، إنهم قُدى، إنهم أُسى من أحسن ما تكون الأُسى بعد رسول الله وصحبه، وفيهم نبأ عجيب، ولهم خبر غريب جداً، شيئ عجيب جداً!
لا ندري كيف نُربي أبناءنا وكيف نُربي بناتنا، ثم بعد ذلك نأخذ في التشكي من الحصاد المُر، بما غرست أيدينا، علينا ألا نُخلي أبناءنا وبناتنا الصغار مُنذ نعومة الأظفار على الأقل ولو في الأسبوع مرة أو مرتين من أن نسرد لهم ونحكي لهم ونقص عليهم قصة، قصة أحد هؤلاء، واحد من هؤلاء، من الصحابة أو التابعين.
طبعاً بعض الناس الكبار يقول وما جدوى هذا القص؟ بالعكس! الذي يسَّر الله له – تبارك وتعالى – وهو صغير مُنذ نعومة اظفاره أن يسمع بعض نبأ هؤلاء يعلم الأثر الذي تركه نبأهم في قلبه إلى الآن، قال – تبارك وتعالى – وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۩، يقول أحد الصالحين – وتُروى عن أبي حنيفة – القصص جُند من جُند الله، يُثبِّت الله بها قلب مَن شاء مِن عباده، أحياناً تكون القصة أحسن من موعظة طويلة عريضة، أحسن من درس، أحسن من مُحاضَرة في الدين، قصة واحدة عن صحابي، قصة من قصص السيرة، من حكايا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأهل بيته وأصحابه المُكرَّمين، قصة عن هؤلاء التابعين، قصة عن أحد العلماء الربانيين والأولياء الصحالين، لماذا؟ كما قلت لكم لأن هؤلاء أصلاً تتنزَّل الرحمة بذكرهم، حين نذكر أسماءهم ونقص شيئاً من حكاياهم تتنزَّل رحمة الله – تبارك وتعالى -، لأن لهم مكانة وأي مكانة عند – تبارك وتعالى -.
وحسبكم أن قوماً تحيا القلوب بذكرهم، وفي المُقابِل هناك أقوام تموت القلوب من رؤيتهم – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، من الأحياء! وهذا للفسق والحجاب، هذا للفسق والمعصية وغلظ الحجاب الذي حجبهم عن ربهم – سُبحانه وتعالى -، وهناك أقوام تحيا القلوب بذكرهم وقد غبر على وفاتهم ربما ألف سنة أو ألف ومائتا سنة أو ألف وثلاثمائة سنة، لأنهم أهل الله، وهذه إحدى علائم أولياء الله، أنهم إذا ذُكِروا ذُكِر الله بذكرهم، لأنهم عاشوا بالله، وماتوا لله، وكان كل شأنهم لله – تبارك وتعالى -، فأحيا الله ذكرهم ورفع لهم ذكراً في الآخرين، اللهم اجعلنا منهم، وأعِد علينا من بركاتهم، ونوِّرنا بأنوارهم، وانفحنا بما نفحتهم به يا رب العالمين.
أيها الإخوة:
لعل بعضكم سمع عن هذا التابعي الجليل عامر بن عبد الله التميمي، اسمه عامر بن عبد الله التميمي، إنه من بني تميم، عربي قح، عربي محض، من نجد، من جهة الشرق هناك في جزيرة العرب، هذا الرجل آية – لا أقول أسطورة إنما آية – من آيات الزهادة، آية من آيات الإيمان، آية من آيات الإقبال على الله واليقين الكامل بالله، كان تَلميذاً لصاحب رسول الله العالم والقاضي والوالي الجليل أبي موسى الأشعري – رضيَ الله عنه وأرضاه -، لزمه سنين طويلة، وتخرَّج به، وبه تفقَّه.
انتقل من مضارب قومه في نجد بني تميم إلى البصرة لما اختُطت أول اختطاطها سنة أربع عشرة من هجرة المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ولما أخذ بحظ وافر من العلم وقف حياته بعد على ثلاثة أمور، على العبادة، فهو رجلها، هو حلس عبادة وزهادة، راهب من رهبان الليل، وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى العلم والتكثر والاستكثار من العلم ما وسعه أن يستكثر، وهكذا لتُقض الحياة، هكذا ينبغي أن نُقضّي أعمارنا وسنوات حياتنا، علم وعبادة وجهاد في سبيل الله.
وهذا طرف من نبئه – من نبأ عامر بن عبد الله – في عبادته لله – تبارك وتعالى -، في خشوعه، في تضرعه، في استصغاره لنفسه، في هضمه لذاته، وفي خوفه من الله وخشيته له – سُبحانه وتعالى -.
يروي أحد أبناء البصرة، يقول كنا مع عامر بن عبد الله في رفقة – جمعنا سفر -، فنزلنا لما جننا الليل بغيضة – مُجتمَع الشجر عند مغيض الماء -، ونزل معنا عامر – طبعاً بطبيعة الحال -، ثم لما حط كل منا رحله وأراد أن يأوي إلى الراحة والدعة أخذ عامر فرسه وارتبطها، وأطال لها – أي أطال طيلها، جعل حبلها طويلاً – ووضع عندها ما تيسَّر من الزاد – أي من العلف -، ثم أخذ نفسه وأوغل في الغيضة، قال فقلت لأتبعنه الليلة ولأنظرن ماذا يفعل، هو يعلم أنه زاهد البصرة وأحد كبار أولياء الله، لكن ليس بالرجل المُتكلِّم، هو لا يتكلَّم عن نفسه أصلاً، ولا يُحِب أن الناس يرون عمله وعبادته، لا يُحِب هذا بتةً، وهذا يُريد أن يتعلَّم منه، مدرسة! أنت أمام مدرسة في الزُهد والولاية.
قال فجعل يمشي وأنا أتأثَّره دون أن أُشعِره، أي لم يأذن به، قليلاً قليلاً، يتجسَّس عليه، أي على عبادته طبعاً، قال حتى إذا انتهى إلى رابية ونظر فلم ير أحداً من الناس صف قدميه، وجعل يُصلي، قال فلم أر أكمل ولا أحسن وأخشع من تلك الصلاة، صلاة غريبة عجيبة، وحده! حتى إذا صلى وقضى نهمته من صلاته جلس وأرسل دموعه وجعل يُناجي ربه، قال فحفظت من دعائه، قال إلهي ومولاي خلقتني بمشيئتك، وأقمتني في بلايا الدنيا بأمرك، وقلت لي استمسك، وكيف أستمسك إن لم تُقوّني، إن لم تُمسِكني بلُطفك وقوتك يا قوي، يا متين؟ هكذا! هو يشكو ضعفه إلى الله، لا يستطيع الاحتمال، وهو غير راضٍ عن نفسه، يعتبر نفسه مُسرِفاً ضائعاً، ويُريد أن الله يُمسِّكه، يُريد أن الله يُقوّيه بلُطفه وقوته، لأنه قوي متين – تبارك وتعالى -.
إلهي إنك تعلم أن الدنيا كلها لو كانت لي وطُلِبت مني في مرضاتك لوهبتها لطالبها، فهب لي نفسي يا رب العالمين، انظر إلى الصدق! هو لا يكذب على الله طبعاً، الله يعلم الصادقين من الكاذبين، يقول له أنت تعرف حقيقة نفسي، لو كانت لي كل الدنيا – مُلك الدنيا – وطُلِبت مني صدقةً أو هبةً في مرضاتك أُعطيها مُباشَرةً، أجود بالدنيا كلها، فهب لي نفسي، أنا لا أطلب إلا نفسي، أي اغفر لي، أعتق رقبتي من نار جهنم، فهب لي نفسي يا رب العالمين.
إلهي لقد أحببتك حُباً سهَّل علىّ كل مُصيبة، ورضّاني بكل قضاء، فما أُبالي على ما أصبحت أو أمسيت فيه، فاغفر لي برحمتك يا أرحم الراحمين.
شيئ عجيب، مُناجاة غريبة، قال حتى انفجر الفجر وأصبح الصباح، فقام فصلى المكتوبة، ثم جلس يدعو ويبتهل، قال فحفظت من كلامه قوله إلهي ها قد أصبح الصباح، وانطلق عبادك، كل يطلب إليك حاجته، اللهم فأعطهم حوائجهم، وأعطني حاجتي يا رب العالمين، هو يطلب من الله شيئاً مُعيَّناً.
إلهي قد رغبت إليك في ثلاثة أمور، فأعطيتني اثنين ومنعتني الثالث، فإني أسألك أن تُعطيني هذا الأمر حتى أعبدك على ما أُحِب وما أُريد، هنا ثار فضول مَن؟ جاسوس الخير هذا، عين الخير، ما هي هذه الأمور الثلاثة؟ وأعطاه الله أمرين، أعطاه خصلتين، ومنعه الثالثة، قال فوقفت في مكاني، فلما أراد أن ينصرف – يعود إلى الرفقة – أذن بي، أي رآني، قال فجزع جزعاً شديداً، هذا يعني أن سره كُشِف، رأى عبادته في ليلة كاملة، غضب وجزع جزعاً شديداً، قال يا أخ البصرة أراك الليلة كنت ترقبني، قلت نعم، قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سألتك بالله ألا تُخبِر أحداً بما رأيت مني الليلة، قلت لا، لا أفعل حتى تُخبِرني بهذه الثلاث الخلال التي سألتها ربك – تبارك وتعالى -، أو لأفشين سرك، قال فما زلت به وما زال بي حتى أذعن، هذا ركب رأسه، يُريد أن يعرف، يُريد أن يتعلَّم، وهو رجل صالح أيضاً، قال نعم، ولكن بشرط، أن تُعطيني عهود الله ومواثيقه ألا تُخبِر بذلك أحداً، قلت لك علىّ عهد الله وميثاقه ألا أُخبِر بذلك أحداً ما دمت حياً، بعد أن تموت أنا حر، إذا مت قبلي فأنا حر، قال لك ذلك.
قال يا أخي أخشى ما كنت أخشاه وأخوفه على نفسي من أمر الدنيا النساء، فتنته كانت في النساء، يُحِب النساء وشهوته قوية، قال فقلت يا ربي إن النساء أخشى ما أخشاه على نفسي، فاعصمني منهن، قال فنزع من قلبي حُبهن، فما أُبالي امرأةً رأيت أم جداراً، نفس الشيئ! المرأة صارت مثل الحائط عندي، أخذ الله منه هذا الشيئ، صدق! دعوة مُستجابة، يُريد أن يفرغ لعبادة الله، لا يُريد الفتن.
بعض الناس يُعرِّض نفسه للفتن، يُعرِّض نفسه! يعود من عمله مُتعبَاً مكدوداً، بدل أن يجلس مع أهله وأزواجه وأولاده – يقرأ شيئاً من كتاب الله، يحكي لهم قصة، يُذكِّرهم بالله، يرتاح يا سيدي من عناء كذا – يأخذ أحسن زينته، ويخرج إلى الشوارع هنا، شوارع المُشاة، يُعرِّض نفسه للفتن، نقول له فاتق الله في نفسك، ثم تقول شاب وشهوة وفتن يا أخي! أنت الذي تُعرِّض نفسك للفتن، اتق الله، اطلب من الله العكس، هكذا خُذ بالأسباب، للأسف الشديد تقصير شديد، نسأل الله أن يحفظنا وأن يتجاوز عن سيئاتنا، هذا يُريد العكس، فأخذ الله منه هذه الشهوة، قال فما أُبالي امرأةً رأيت أم جداراً، نفس الشيئ!
والثانية أني سألته – تبارك وتعالى – ألا أخشى أحداً سواه، قال فأعطانيها، فصرت إلى حالة لا أخشى أحداً في الأرض والسماء سواه، لا إنساً ولا جناً ولا حيواناً ولا سبعاً ولا خليفةً ولا شرطياً، لا يخشى إلا الله، لماذا؟ لماذا طلب هذا الشيئ؟ أطلب هذا لكي يتقوّى على الناس هذا الزاهد الرباني الخشّاع والأوّاه؟ أبداً، لكي يصدع بكلمة الحق، وقد سبَّب له هذا بليته، بليته من هذه النُقطة، وستأتي بعد قليل، لكي يصدع بكلمة الحق، لأنه يعلم أن العبادة والترهبن والتخشع مع عدم القيام بالعدل والحق يكاد يكون شيئاً غير طائل، ليس له كبير قيمة، بالعكس! ربما حتى لا يُتقبَّل منك هذا الشيئ، ربما تهلك بقعودك عن الحق ونُصرة أهل الحق من المُستضعَفين.
قال والثالثة؟ هذه الثانية فالثالثة؟ قال والثالثة سألته – تبارك وتعالى – أن يسلب مني النوم، حتى أعبده بالليل والنهار على ما أُحِب، لا يُحِب أن ينام، ولا خمس دقائق، هو يُريد أن يعبد الله ليل نهار، فقلت يا أخي، يا أخي ارفق بنفسك، فإن الله لم يطلب إليك ذلك، ولم يُكلِّفك، قال هيهات هيهات يا أخي، تالله لأجتهدن في عبادته ما وسعني الاجتهاد، فإن أدخلني الجنة فبرحمته، وإن كانت الأُخرى فبتقصيري، إذا دخلت النار فهذا من تقصيري ومن ذنوبي أنا، لكن سأجتهدن في عبادته ما وسعني الاجتهاد، ها هو ليلة كاملة لم ينمها، لم ينم ساعة واحدة، وانطلق إلى رفقته – رضيَ الله عنه وأرضاه -.
هذا الراهب، هذا العابد في محرابه، هذا الخشّاع، الأوّاه، المُنيب، المُستصغِر لنفسه، المُحتقِر لذاته، والمُزري عليها، هو أيضاً فارس وغى، يغشى الوغى كما لا يغشاها أحد غيره، يغشى المعمعة الحمراء كما لا يستطيع أحد سواه، مشهود له بالفروسية والإقدام والشجاعة وعدم التهيب من لقاء الأقران والأنداد في المعارك، كما قلت لكم وزَّع حياته بين عبادة وجهاد وعلم، دائماً في المعارك، ولكنه من الذين قيل فيهم وفي أمثالهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، يعف عن المغنم، كما لا يعف أيضاً سواه، أي أحد من الناس سواه.
لما كانت القادسية وكتب الله الظفر والنصر المُبين لأجناد المُسلِمين ونزل سعد وإخوانه من المُجاهِدين وقادة الجيش في إيوان كسرى طلب سعد – رضوان الله عليه – إلى أحد القادة وهم عمرو بن مُقرِّن أن يُحصي الغنائم، وهكذا جاء العمّال بهذه الغنائم، وجعلوا يُحصونها، وفيها من النفائس والأعلاق والأشياء ما يجل عن الوصف ويعز على الإحصاء، أشياء كثيرة عجيبة من مُلك فارس وملوك فارس – الأجداد -، أشياء تجل عن الوصف، لا تُوصَف، لم يرها العرب، ولم تخطر لهم على بال أو لم تخطر منهم على بال، وتعز على الإحصاء، كثيرة جداً جداً.
فبين هم في إحصائهم وكتبهم إذ أقبل رجل أشعث أغبر، عليه هيبة الفارس الكمي، يحمل بكلتا يديه حُقاً كبيراً، لم تستقل يد واحدة به، إنما يحمله بكلتا يديه، وهو الفارسي القوي الكمي الحمي، يحمله بكلتا يديه، فعلقت به او تعلَّقت به الأبصار، حُق لم يروا مثله، يبدو أنه ثمين جداً، حتى إذا صار إليهم ووضعه نظروا فيه فإذا فيه من الجوهر والدُر ما لم تر عينه مثله، وإذا بكل الغنائم لا تعدله، كل الغنائم هذه – بمليارات ربما – لا تعدل هذا الحُق وما فيه من الجوهر والدُر، فقالوا الله أكبر، الله أكبر، أين أصبته؟ قال في مكان كذا، في معركة كذا، قالوا هل أخذت منه شيئاً؟ قال هداكم الله، والله الذي لا إله إلا هو للدنيا كلها ومُلك ملوك فارسه كله لا يعدل عندي قلامة ظفر، قلامة الظفر هي ما يسقط من طرف الظفر، ليس ظفراً مقلوماً، لا! قلامة الظفر ما يسقط من طرف الظفر هكذا، كل الدنيا وكل مُلك فارس – وليس هذا الحُق – لا يعدل عندي قلامة ظفر، قال ولولا حق بيت مال المُسلِمين في هذا الجوهر والدُر ما احتملته من أرضه ولا أتيتكم به، زُهد حقيقي، يرى الدنيا فانية، يرى الجوهر كالحجر، عنده الجوهر والدُر كالحجارة، لأن كله فانٍ، وفي الحقيقة كله فانٍ، كله كلام فارغ هذا، كله سحر، والله – أُقسِم بالله – مَن آتاه الله اليقين – والله العظيم – ينظر إليه على أنه سحر، نحن كالمسحورين، ما هذا؟ ما معنى ذهب وفضة وفلوس؟ كله كلام فارغ، سحر! وأرانا نُسحَر بالطعام وبالشراب وبالذهب والفلوس والنساء، وكله كلام فارغ، هذا سحر، سحر! يُزايلنا عن قريب وبسرعة، وبعض الناس يبيع جنة عرضها السماوات والأرض، ليس بحُق عامر بن عبد الله وإنما بشيئ حقير وخسيس جداً، ويبيع يمينه، ويبيع ضميره، ويبيع رضوان الله، ويشتري سخطه، بشيئ من الدنيا حقير، حقير من الدنيا، حقير!
قال ولولا حق بيت مال المُسلِمين في هذا الجوهر والدُر ما احتملته من أرضه ولا أتيتكم به، قالوا بارك الله فيك، مَن أنت؟ قال لا والله، ما كنت بالمُخبِركم حتى تحمدوني، وما أنا بمُخبِر غيركم حتى يُقرِّظوني، ولكن أحمد الله وأُثني عليه وأرجو منه الجزاء، والسلام عليكم، قال عمرو بن مُقرِّن اتبعه يا فلان، أي لأحد المُسلِمين، قال له اتبعه يا فلان، اتبعه حتى ترى لي مَن هو وحتى تقف على بيّنة أمره، هذا رجل عجيب، هذا من كبار أولياء الله، ما هذا؟ هل هذا معنا في الجيش؟ اتبعه، قال الرجل فجعلت أتتبعه وهو لا يشعر بي، حتى انتهى إلى أصحابه، قال فسألتهم مَن هذا؟ قالوا يرحمك الله، ألا تعرفه؟ إنه زاهد البصرة، عامرة بن عبد الله التميمي، هذا معروف لدى كل الناس، وهكذا شاع خبره، وهو لا يُحِب ذلك.
كان إذا انطلق إلى الجهاد تفرَّس في الناس وتوسَّم حتى يختار الرفقة الصالحة التي يكون واحداً من بينها، حتى إذا رأى رفقة يقول لهم لي عليكم شرط، ما هو الشرط؟ أي حتى أكون معكم، والناس يُحِبون أن يكون معهم هذا الزاهد الكبير والعالم العلم، يقول ألا تمنعوني ولا تُنازِعوني ثلاث خلال، ما هن يا عامر؟ يقول الأولى الخدمة، فلي الحق أن أخدمكم جميعاً، لا يُنازِعني أحد في الخدمة، يُريد أن يستأثر هو بخدمتهم في كل شيئ، والثانية النداء للصلاة، لا يُنازِعني أحد النداء للصلاة، يُريد الأجر، لأن المُؤذِّنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، والثالثة – قال – النفقة، أن أُنفِق عليكم، هو وحده يُنفِق، لا يُريد أن أحداً آخر يُنفِق، هو الذي يُنفِق، ما هذا الرجل؟! ما هذا الملك في مسلاخ بشر؟! رضيَ الله عنه وأرضاه.
تسبَّب له صدعه وقيامه بالحق في مُشكِلة وبلية، هي سبب فتنته وبليته، لأنه رأى صاحب شُرطي البصرة – أي رئيس الشُرطة كلها – يظلم أحد أهل الذمة، والوقت يضيق عن ذكر القصة بتفاصيلها، المُهِم فانتصر للذمي، وأبى إلا أن ينتصر، فأراد هذا الشُرطي – صاحب الشُرط – أن يكيده، فعلاً وكاده، أشاع عنه لدى الوالي ولدى الخليفة عثمان بن عفان – رضيَ الله عنه وأرضاه – أنه رجل صاحب فتنة، وخلع يده من الطاعة والجماعة، وشق عصا الطاعة، وأنه مُبتدِع في الدين، لا يتزوَّج النساء، ولا يأكل اللحوم، ويأتي بأشياء مُبتدَعة ومُحدَثة، حتى هاجت فتنة بين ضعاف الإيمان وبين أصحاب الشائعات – والعياذ بالله – حتى في حق هذا الرجل، فأمر سيدنا عثمان واليه على البصرة أن يتحقَّق جلية الأمر، فبان أن الرجل بريء من كل ما قيل في حقه، لكن الفتنة لم تهدأ، وكادت تكون فتنة كبيرة ومقتلة بين أحبابه وأتباعه ومُريديه وبين أخصامه، فأمر سيدنا عثمان درءاً لهذه الفتنة بأن يُسيَّر إلى الشام مُعزَّزاً مُكرَّماً، مُوصياً واليه على الشام مُعاوية بأن يُحسِن وفادته وأن يُكرِم منزلته، حتى تنقطع الفتنة.
وهكذا لما زم ركائبه – إذا كان له ركائب – أو ركوبته لما زمها واحتمل متاعه كله على ظهره أو ظهرها خرج فشيَّعه آلاف من المُحِبين والمُريدين والمُخلِصين إلى ظاهر البصرة، في المربد، المربد هو في ظاهر البصرة، وهناك وقف والدموع قد همت وسحت، رفع يديه وقال إني داعٍ فأمّنوا على دعائي، فسكتت الأصوات فلا تسمع همساً، وتعلَّق به الأبصار، فرفع كفيه إلى السماء وقال اللهم مَن كذب علىّ ووشى بي حتى أخرجني من بلدي وفرَّق بيني وبين صحبي، اللهم إني أُشهِدك أني قد صفحت عنه، فاصفح عنه واغفر له، اللهم وألبِسه العافية، اللهم وتجاوز عن ذنبه وعن ذنوبي وعن ذنوب عبادك المُسلِمين، وأعل درجتهم في عليين يا أرحم الراحمين، الله أكبر! فزاد الناس بكاءً، ما هذه الأخلاق الربانية؟! ما هذه الأخلاق المُحمَّدية؟! يدعو له ولا يدعو عليه، ولو دعا عليه لنالته الدعوة مُباشَرةً، حتى إذا صار إلى الشام اتخذ بيت المقدس محلاً لإقامته ومثواه، وعاش بييت المقدس حتى وافته منية ربه، فلبى نداء ربه حميداً سعيداً.
دخل عليه إخوانه وخِلصانه فإذا به يبكي وهو يُحتضَر، قالوا له يا عامر تبكي وقد كنت وكنت؟ معروف أنك رجل العبادة والزهادة والجهاد، لماذا تبكي؟ قال لا والله، لا أبكي جزعاً من الموت، ولا حسرةً على الدنيا، وإنما أبكي لأنني لا أدري، فأنا في هبوط وصعود، قد أصعد إلى الجنة، وقد أهبط إلى النار، وما أظن أنني ناجٍ، فهذا الذي أبكاني، الله أكبر! بعد كل هذه الحياة الحافلة بالعبادة والخشوع والزهادة الرجل ليس مُستوثِقاً أن رحمة الله تُصيبه، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، نبأ غريب وعجيب، هكذا كانوا، رضوان الله تعالى عليهم.
سأحكي لكم طرفاً من سيرة خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، هذا الرجل كان ولا يزال وسيظل فعلاً لا أقول مدرسة إنما جامعة على مر الأيام، صُنِّفت المُصنَّفات الكبار في شمائله، في خصائله، في مآثره، في عدله، في زُهده، وفي جوده، ولا ينقضي، عمر بن عبد العزيز كتب فيه ابن الجوزي وكتب فيه ابن عبد الحكم أحسن سيرة، كُتب كثيرة في القديم والحديث، آلاف آلاف الحكايا، آلاف الأنباء الغريبة، نجتزئ لضيق الوقت بواحد منها.
عمر خامس الراشدين، الذي انتقل إلى رحمة الله وهو دون أسناننا نحن، شاباً صغيراً، لم يُكمِل الخامسة والثلاثين من عمره، وقد أكرم الله به أمة محمد في الطول والعرض، أمة محمد! وأقام العدل والقسطاس المُستقيم، أي هذا الشاب الصغير، رضوان الله تعالى عليه.
يقول ابن عبد الحكم في كتابه النفيس سيرة عمر بن عبد العزيز، يقول لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عمه، قائد الجيوش المشهور، وهو من خير بني أُمية، مسلمة بن عبد الملك، رحمة الله عليه، دخل وقال يا أمير المُؤمِنين رحمك الله، فإنك تركت أفواه أولادك بلا شيئ، أي أولادك جوعى، وكان له خمسة عشر ولداً، اثنا عشر منهم ذكور وثلاث بنات، خمسة عشر ولداً! عائلة كبيرة جداً، قال تركت أفواههم بلا طعام، بلا شيئ! وهم فقراء، فلو أنك أوصيت بهم إلىّ أو إلى مَن تُفضِّله وتختاره من أهل بيتك، وكان طبعاً مُضطجعاً ضجعة الموت، قال أجلسوني، فجلس، قال أما قولك وقد سمعته يا مسلمة، أما قولك إني تركت أفواه ولدي بلا شيئ فوالله إني لم أمنعهم حقاً هو لهم، أي كانوا يأخذون حقهم مثل حقوق عوام المُسلِمين، وهو حق بسيط جداً طبعاً، قال ولم أُعطِهم شيئاً هو ليس لهم، أي لا أُعطيهم شيئاً ليس لهم لأن سيسألني الله – تبارك وتعالى – عنه غداً.
قال وأما قولك أن أُوصي بهم إليك أو إلى أحد مَن أُفضِّله وأختاره من أهل بيتي فإن وصيي ووليي الله الذي نزَّل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين، لا أُوصي لا إليك ولا إلى غيرك، الله – عز وجل – وصيي ووليي، وصيي هو الله، ووليي هو الله – تبارك وتعالى -.
ثم قال واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحد اثنين، إما مُطيع تقي لله – تبارك وتعالى -، فسيجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، وإما عاصٍ طالح – والعياذ بالله -، فلا أكون أول مَن أعانه على معصية الله بماله، فهذا الخير له ألا أكون قد ورَّثته مالاً، والأول الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً، فلا تقلق، لا يركبنك الهم والغم من أجل نبأ ولدي الخمسة عشر، رضيَ الله عنه وأرضاه.
ثم قال ادعوا لي ولدي، فجاءوا، خمسة عشر بأثمال بالية، فقراء! فقراء ووجوههم صفراء مُتغيِّرة، دخلوا، فلما رآهم ترقرقت الدموع في عينيه، بكى لحالهم، حال مُزرية، ثم قال بنفسي فتيةً – أي أفدي بنفسي فتيةً – تركتهم عالةً على الناس، رآهم عالة، ليس عندهم شيئ، فقراء ليس عندهم شيئ، قال بنفسي فتيةً تركتهم عالةً على الناس، ثم أقبل عليهم وقال يا بني اعلموا أن أباكم قد ترك لكم خيراً كثيراً، إنكم لا تلقون بعدي أحداً من المُسلِمين أو من أهل ذمتهم إلا عرفوا لكم حقكم وعظَّموا جانبكم، أي لعدلي في الناس، الناس ستحترمكم، ستُحِبكم، وستُنصِف إليكم – إن شاء الله -، فهذا أحسن خير، أحسن من المال، أحسن من الياقوت والجوهر والدُر.
يا بني إن أباكم بين أمرين، أي هو مُخيَّر ومُتردِّد بين أمرين، إما أن يُغنيكم في الدنيا ويدخل جهنم – والعياذ بالله -، وإما أن يترككم عالةً فقراء على أمل أن يُدخِله الله الجنة، وما أحسب إلا أنكم تُؤثِرون نجاة أبيكم من نار جهنم على الدنيا وغناها، فطأطأوا برؤوسهم، صحيح، هذا الذي نُريده.
هذا الرجل يموت، يجود بنفسه، وهذه مثل الوصية، أي الكلمات الأخيرة التي قالها، ثم نظر إليهم ورفع بصره وقال عصمكم الله يا بني، اذهبوا، رزقكم الله يا بني، اذهبوا، أي دعا لهم آخر دعوات.
قال مسلمة يا أمير المُؤمِنين رحمك الله حياً وميتاً، عندي ما هو خير، قال ما هو؟ قال عندي ثلاثمائة ألف درهم، أهبها لك، ففرِّقها فيهم، أو تصدَّق بها – إن شئت -، قال أو ما هو خير؟ فقال مسلمة وما هو؟ قال تردها لمَن أُخِذت منه، فليست لك ولا لغيرك بحق، يا بني أُمية – يقول لهم – هذه ليست لكم، هذه ليست أموالكم، إنها أموال الأمة، سرقتموها وأخذتموها، آخر شيئ يقوله هو هذا، الخير أن تردها إلى مَن أُخِذت منه، فإنها ليست لكم بحق، فترقرقت الدموع في عيني مسلمة بن عبد الملك، وقال رحمك الله أمير المُؤمِنين حياً وميتاً، فقد ألنت قلوباً منا قاسية، وذكَّرتها وقد كانت ناسية، وتركت لنا في الصالحين ذكراً.
وهذا صحيح، إلى اليوم مأثرة بني أُمية هو عمر بن عبد العزيز، الصالح الكبير المشهور والمشهود له عمر بن عبد العزيز، هو الذي ترك لأهله وقراباته ذكراً في الآخرين، فرضيَ الله عن عمر بن عبد العزيز، وأرضاه، وأعلى درجه في جنات النعيم، مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وعامر بن عبد الله، وأصحاب رسول الله، وأتباعه، وأتباع أتباعهم، والصالحين منا – إن شاء الله تبارك وتعالى – إلى يوم الدين، وأصلح الله الشاردين برحمته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الغُر الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة:
قد لا ينبغي أن نُغادِر هذا المكان دون أن نُلقي بكلمة وداع لهذا الشهر الفضيل المُبارَك، شهر رمضان، الذي نسأل الله ونرغب إليه – تبارك وتعالى – في فضله وجوده وعطائه الممدود، غير المجذوذ، أن يُعيده علينا وعلى إخواننا المُسلِمين وأخواتنا المُسلِمات أعواماً عديدةً وسنين مديدةً، وأن يجعلنا فيه برحمته وفضله وتمننه من المقبولين المسعودين.
اللهم إنا نسألك أن تتقبَّل منا القليل القليل القليل، الذي وفَّقتنا إليه بحمدك وفضلك، وأن تغفر لنا الزلل الكثير، الذي وقعنا فيه بجهلنا وإسرافنا على أنفسنا، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
أيها الإخوة والأخوات:
أوصي نفسي وإياكم جميعاً بتقوى الله – تبارك وتعالى – في غير رمضان، كما يسَّر لنا – تبارك وتعالى – أن نتقيه بعض تقوى في شهر رمضان، وأنتم تعلمون أن هذا الشهر قد لا يكون له عظيم قيمة إذا خرجنا منه لنعود كما كنا قبله، بل قد قال الصالحون والعارفون بالله علامة القبول في رمضان أن يتيسَّر للصائم من الخير والتقوى والتوبة والصلاح بعده قريب مما تيسَّر له فيه أو مثله، فإن لم يتيسَّر فليعلم المحروم – أسأل الله ألا يجعل بيننا محروماً ولا مطروداً – الشقي أن الله لم يتقبَّل منه رمضان، إذا عُدت بعد رمضان ووجدت نفسك تماماً كما كنت قبل رمضان ولم تزدد خيراً فهذا يعني لم يُتقبَّل منك.
بعض الناس كان قبل رمضان كان يرتكب ذنوباً، وأنا لا أتحدَّث عن كبائر الذنوب، الظن – إن شاء الله – في عوام المُصلين وفي عامة المُصلين أنهم لا يحتقبون كبائر الذنوب والفواحش – إن شاء الله تبارك وتعالى -، ولكن أتحدَّث عن ذنوب أُخر هي أيضاً من الكبائر ولا يُفطَن لها، كترك الصلوات، كالتقصير فيها – والعياذ بالله -، كالتقصير في بعض الصلوات، النوم عنها، السهر عليها ثم تركها – والعياذ بالله -، أو التشاغل عنها بمشاغل التجارات والكسب وطلب العلم كما يقول بعض الناس، فبئس هذا العلم، بئس كل علم يشغلنا عن صلاتنا وعن عبادة ربنا – تبارك وتعالى -.
أستغرب من بعض الفتاوى التي أجد فيها طالب علم – يدرس الطب أو الهندسة أو غير ذلك – يُريد فتوى لكي يترك بعض الصلوات، يُريد معذرةً في تركها، فبئس هذا العلم، وبئس الذي أنت في طلبه – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، إذا افتُلِتت نفسك فلن تُسأل أول شيئ عما فعلت في الطب الباطني، هل أعطيت المادة أو رسبت؟ أول ما تُسأل عن عبادتك، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۩، المقصد الرئيس عبادته – تبارك وتعالى -، أن تكون له عبداً مُطيعاً سامعاً وذليلاً، هذا المقصد الرئيس، ثم تأتي كل المقاصد الأُخرى لتخدم هذا المقصد أيضاً، لتخدمه! فإن لم تخدمه كانت وبالاً علينا، حتى المقاصد الأُخرى من طلب العلم، من طلب المال، ومن طلب الشهوة، كلها إن لم تخدم مقصد العبودية كانت وبالاً على العبد – والعياذ بالله – في دنياه أولاً، وفي أُخراه باليقين والحري، نسأل الله حُسن القبول وحُسن الإسعاد والإرشاد.
بعض الناس يُقصِّر، بعض الناس يقع في غيبة الناس، هذا ذنب عام، تقريباً لا يكاد ينجو منه واحد أو أحد منا، يقع في غيبة الناس، في النميمة، وفي تنقص عباد الله، في رمضان تتحسَّن أحواله ويتوب، نقول له ابق على ذلك بعد رمضان، ابق على ذلك، زُم هذه النفس، اخطم هذه النفس، لابد أن تُجاهِدها، لأنها لا تنزع بك إلا إلى شر غاية – والعياذ بالله منها -.
بعض الناس يُصاب بذنوب كبيرة من ذنوب الباطن قبل رمضان، مثل العُجب، مثل الغرور، مثل الكبرياء، مثل التفاخر، مثل الغطرسة على عباد الله، مثل الغش، مثل الحقد، ومثل الحسد – مثل الحسد لعباد الله أيضاً والغش لهم والحقد عليهم والنفاسة غير الشريفة -، هذه ذنوب مُهلِكة، إنها ذنوب الباطن، في رمضان يشعر أنه تقلَّل منها، الله أعطاه نفسانية أُخرى وروحانية أُخرى، طبعاً الشياطين لأنها مُرتبَطة ومُعتقَلة، والنفس – بحمد الله – مكسورة، وقد رد إليها الصيام والقيام والذكر والخشوع والقرآن والبكاء والدموع، رد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات في غير رمضان، فعليك أن تُواصِل في غير رمضان كما بدأت في رمضان، واستعن بالله، استعن بالله ولا تعجز، خير مؤونة الدعاء، دائماً أقبل على الله وابتهل إليه، حتى تُعلِم نفسك – لا تُعلِمه تبارك وتعالى، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، وإنما حتى تُعلِم نفسك، وتُحضِرها اليقين – أنك لا تستطيع شيئاً ولا توفيقاً إلى أدنى الخيور إلا بمُبارَكته، إلا بإذنه، إلا بمُساعَدته، إلا بتوفيقه، وإلا بُلطفه الخفي، لا إله إلا هو! فالجأ واضرع دائماً إلى الدعاء، اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم هب لي الجد في خشيتك، هب لي الجد في خشيتك حتى أعبدك عبادة المُوقِنين وأجتمع في جنابك ورحابك مع عبادك الصادقين، اللهم آمين. اللهم قوّ على طاعتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي، ادع مثل هذه الأدعية، ما يحضرك منها، من غير تكلف، حسبما يفتح الله – تبارك وتعالى -، هكذا! واستحضر دائماً أنك مُترحِّل عن هذه الدنيا.
أكيس الناس وأحزم الناس وأذكى الناس وأكثر الناس توفيقاً الذي لا يغيب عن باله وخاطره ذكر الموت، ويستعد له، يا أخي إذا وضعت جنبك كل ليلة على الفراش هكذا وأوطأت لنفسك ومهَّدت لجنبك الفراش الوثير الطري المُمهَّد فتذكَّر أنها رقدة القبر، مُباشَرةً تذكَّر أنك الآن ترقد في قبرك، يُمكِن أن تكون مُرتاحاً أكثر من راحة الدنيا مرات ومرات – إن شاء الله تبارك وتعالى -، لكن ليس على التراب، ليس بالتراب المُمهَّد، وإنما بصالح العمل، بما مهَّدت لنفسك من صالح العمل، ويُمكِن – والعياذ بالله، لا قدَّر الله – أن تكون الأُخرى، أن تعيش في ضيق اللحود، وأن تنام نومة المُعذَّبين، نومة المطرودين، إلى يوم الدين، ولا أحد يستنقذك، ولا أحد يشفع لك، ولا أحد يتوصَّل إليك بعارفة أبداً، إنما هو عملك.
كلما نمت كل ليلة استحضر هذا الشيئ، استحضر! لو استحضرته لن تستطيع أن تنام سريعاً، ستبقى تتململ، كأنك تنام على شوك السعدان، عشر دقائق أو ربع ساعة وأنت تتفكَّر هذا، والله الذي لا إله إلا هو إنك لمضطجع في قبرك قريباً قريباً، قد يكون أقرب مما تظن، فتذكَّر يا رجل، لا تجعلن النفس والشيطان يلعب بك، لا تركبن رأسك، بعض الناس – والعياذ بالله – ينفخ الشيطان في منخريه – والعياذ بالله -، يُعامِل ربه بكبر، يغتر بقوته، هو يغتر بشبابه وبقوته، يغتر بماله، ويغتر بأشياء كثيرة، مسكين! الشيطان يضحك عليك، أنت أضعف مما تظن، أنت أضعف وأحقر بكثير، وأقرب إلى أن تنالك القدرة بعقاب أو بأخذ شديد مما تظن، فاتق الله واعرف نفسك، اعرف قدرك، اعرف ضعفك، اعرف فقرك، خف الله – تبارك وتعالى – على قدر قدرته عليك، واعبده وأخلص إليه وارج رحمته على قدر افتقارك إليه – سُبحانه وتعالى -.
اللهم إنا نسألك كما أصلحت الصالحين أن تُصلِحنا لك يا رب العالمين، اللهم أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم اجعلنا لك توّابين، إليك رجّاعين، إليك أوّاهين مُنيبين، لك ذكّارين، لك خشّاعين.
اللهم ربنا تقبَّل توبتنا، وأجِب دعوتنا، واغفر حوبتنا، واستر سخائم صدورنا، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، اللهم قوّ على طاعتك جوارحنا، واشدد على العزيمة جوانحنا.
نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا، ونسألك بحقك وقُدسك يا رب العالمين، أن تجعل أوقاتنا بالليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك على الدوام موصولة.
اللهم وإنا نسألك أن تجعل حظنا أعظم حظ وأوفر قسم من كل خير تُنزِله، ومن كل بر تُفضِله، ومن كل عطاء أنت مُعطيه أحداً من عبادك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا يُغادِرنا هذا الشهر الكريم إلا وقد رحمتنا وغفرت لنا وأعتقت رقابنا فيه من نار جهنم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا يُغادِرنا رمضان إلا بذنب مغفور، وعمل مُتقبَّل مبرور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور.
اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(21/1/2003)
أضف تعليق