إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وَأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
ماذا تُسمون أو لماذا يقتل الإنسان أحياناً امرأً لا ذنب له، لا يستحق القتل؟ لماذا يفعل هذا؟ وماذا عسانا نُسمي هذا الفاعل؟ بلا شك نُسميه مُجرِماً، لماذا يكفر الإنسان أحياناً أو يلهج أو ينطق بكلمة الكفر والعياذ بالله؟ يسب دينه، ويسب ربه، وما عساكم تُسمونه؟ يفعل هذا لأنه كافر، ونحن نُسميه كافراً، لماذا أو ماذا نُسمي مَن يسطو بأولاده ضرباً وتبريحاً بقسوة؟ لأنه قاسٍ، وربما ساديٌ، ونحن نُسميه قاسياً، فظاً، غليظ القلب، وسادياً أحياناً.
مثل هذه الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة – وهي كثيرة جداً – تشهد بتجنبنا وبعدم اعتبارنا لواحد من أقوى انفعالاتنا البشرية، الغضب! نحن أيضاً يُمكِن أن نفعل كل ما ذُكِر وغيره في حال الغضب، يُمكِن أن نقتل بريئاً في حال الغضب، لا لأننا مُجرِمون، ليس كل قاتل مُجرِماً، قتل في حال ثورة وثورة غضب جنونية، يكفر أحياناً – وهذا يحدث مع بعض الناس للأسف الشديد في لحظة غضب وانفعال شديدة وحرجة – ويلهج بكلمة الكفر، يسب دينه والعياذ بالله، ويسب ربه، يلهج بالكفر ثم يندم ندماً شديداً، كيف لا يندم وهو مُحافِظ على الصلوات، ومُستكثِر من الخيرات؟ ويزعم أنه يخشى ربه، لكن فلتة في حال جنون جُزئي، كما قال هوراس Horace الغضب جنون جُزئي، جنون مُؤقَّت! حالة جنون للحظات، يقتل، يكفر، يُطلِّق زوجه، يسطو بأبنائه، يُخرِّب العامر، ويُكسِّر الحاجيات والأثاث، أشياء كثيرة، كثيرة جداً! كما أن الذي يسطو بأولاده ليس شرطاً وليس بالضرورة أن يكون سادياً أو قاسياً، بالعكس! قد يكون عاطفياً ورحيماً وودوداً إلى أبعد درجة، لكنه في أحوال مُعيَّنة استثنائية يضرب ضرب مَن لا يعرف الرحمة، وقد يكسر عضواً من أعضاء ابنه أو ابنته، قد يُشوِّه خلقته، وقد يفعل أشياء مجنونة.
إنه الغضب إذن، ليس الكفر، وليس الجريمة، وليس السادية، عامل مُشترَك بين كل هذه الأشياء، الغضب! إذن يُمكِن أن يكون الغضب أم الجرائم، أن يكون أم الكفر، أم القتل، أم القسوة، وأم القباحة والنبو في الألفاظ والمسالك وردود الأفعال والاستجابات غير المحسوبة، إذن بلا شك إنه واحد من أقوى انفعالاتنا أو استجاباتنا الانفعالية حساسيةً وحراجةً وخطورةً وفي الآن عناداً وصرامةً.
حين يستبد الغضب يطيش بعقل صاحبه ولا يغدو قادراً على أن يستجيب للوعظ أو للنُصح أو للتوجيه، عن سُليمان بن صرد والحديث في الصحيح – أن رجلين استبا أمام النبي عليه الصلاة وأفضل السلام، أي تبادلا السباب، فجعل أحدهما يغضب، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ذا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الغضب من الشيطان – والعياذ بالله – كما روى أبو داود، الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، ولا تُطفأ النار إلا بالماء، فمَن غضب فليتوضأ، النبي يقول من الشيطان، وهذا الجنون يُنسَب إلى مَن أو يُنسَب إلى ماذا؟ يُنسَب إلى الجن، يُقال به مس من الجان، فهو مجنون، وكذلك الغضب، وهو ضرب جُزئي من الجنون، هو من الشيطان أيضاً، هو من الشيطان!
فقال رجل من أصحاب رسول الله لهذا الرجل الغضبان يا عبد الله أتدري ماذا قال الرسول؟ أي في شأنك؟ قال لا، وهو غضبان طبعاً لا يزال، قال قال إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ذا، فقال هذا الغاضب أو الغضبان مجنوناً تُراني؟ أيضاً في حال الغضب، مجنوناً تُراني؟ أي تظنني؟ تَرى بمعنى تنظر، لكن تُرى أو أُرى أي أظن، أُرى أنه كذا أي أظن، لكن أَرى معناها أنظر، مجنوناً تُراني؟ أي مجنوناً تظنني؟ لماذا؟ هو فقط أرشدك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لا! هو يرى أن هذا الغضب أو هذه الحالة الغضبية حالة طبيعية، للأسف إنها فعلاً حالة طبيعية، من الطبيعة البشرية، لكنها من الطبيعة الأكثر عمقاً والأكثر بدائيةً، إنها ترتد إلى الأيام الخوالي الأول، يوم كنا ندب على الأرض وتتهددنا أخطار، سواء في الصحارى، وسواء في الغابات والأدغال، أخطار الحيوانات المُفترِسة، أخطار نظرائنا من البشر البدائيين، وأخطار رجال الكهوف، يُمكِن أن يهوي أحدهم على أم رأسك بآلة مُدبَّبة أو بشومة كما يُقال أو بعصا غليظة في لحظة ليقضي عليك، أخطار من هذا النوع! ولذلك كان الغضب يُمثِّل استجابةً طبيعيةً ومنطقيةً ومعقولةً، حسبما أراد أن يفهمها كانط Kant مثلاً، عمانوئيل كانط Immanuel Kant – الفيلسوف الألماني الشهير – قال إنه يُحشِّد قوى تجعلنا قادرين على مُواجَهة العوائق والأزمات، نعم مثل هذا الغضب ومثل هذا التفسير مقبول، بإزاء خطر مُحدِق من وحش مُفترِس كاسر أو من إنسان غابات أو إنسان كهوف قديم، يُمكِن ولابد! لكن غضب كهذا وبهذه الدرجة وبهذه الحراجة في مُجتمَع عصري – في غُرفة النوم مع الزوجة أو في المطبخ أو في غُرفة المعيشة، أو مع الطفل الصغير ابن خمس سنوات أو أربع سنوات، أو مع نظيرك في العمل، أي زميلك في العمل أو في الدراسة، أو مع أخيك في الله في المسجد وفي الشارع، أي أخيك في الدين – لا يُمكِن قبوله، يُعتبَر خروجاً عن مُقتضيات الإنسانية ومُقتضيات المدنية والحضارة، لأنه استجابة – كما قلنا – من أكثر الاستجابات بدائيةً، استجابة بدائية! تشترك معنا فيها الحيوانات والزواحف وكل هذه الكائنات الدُنيا.
ولذلك أُس ومركز ومنبع هذه الاستجابة ليس في المُخ الحديث كما تحدَّثنا عنه في خُطبة وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ۩ – أي في الــ Thinking brain – وإنما في المُخ البدائي، مُخ الزواحف، مُخ الدواب والهوام، في المُخ البدائي! والذي يُشكِّله عضوان رئيسان، قرن آمون، أي الــ Hippocampus، وأيضاً ما شرحنا عنه قليلاً وهو الأمجديلا Amygdala أو اللوزة أو النتوء اللوزي، هذان هما الجُزءان الأكثر أهميةً في المُخ البدائي، وخاصة الأمجديلا Amygdala هذه أو اللوزة أو النتوء اللوزي.
أحدث الأبحاث – لم يغبر عليها رُبع قرن، تُعتبَر حديثة نسبية – قوَّضت أُسس فكرتنا وقناعاتنا العلمية القديمة، التي غدت قديمة بعد هذا الاكتشاف، والذي قام به العالم جوزيف لودو Joseph LeDoux، عالم مُتخصِّص في هذا الحقل من الحقول العلمية، وجد هذا الرجل أن حاسة من الحواس – العين مثلاً أو الأذن، أحدى إعضاء الحواس المشهورة – حين تُرسِل رسالتها يحدث الآتي، في القديم كنا نعتقد أن هذه الرسالة تذهب إلى الــ Thalamus أو المهاد، ما يُعرَف بالمهاد! وبعد ذلك هذا المهاد يُزوِّد الأمجديلا Amygdala برسائل من عنده كما يُزوِّد ما يُعرَف بالمُخ المُفكِّر، وهو قشرة مُقدَّم الفص الجبهي، أي الــ Prefrontal lobe cortex، وهي مركز التحكم واتخاذ القرارات في الإنسان، هكذا كان يظن العلماء، وهكذا كانوا يُعلِّمون، لكن هذا الرجل اكتشف وبالدليل والبرهان المُصوَّر بالتصوير المقطعي أو الطبقي – الإم أر آي MRI – غير هذا، اكتشف هذا الرجل أن هذه الرسالة أول ما تذهب تذهب عبر ممر خلفي، عبر مجموعة صغيرة جداً من الأعصاب، إلى اللوزة أو إلى النتوء اللوزي، أي إلى الأمجديلا Amygdala، وتذهب بعد ذلك عبر مجموعة كبيرة من الأعصاب إلى المهاد، والمهاد يُرسِل بعد ذلك ما وصل إليه.
معنى ذلك بلُغة عامية بسيطة أن الذي يُحرِز القفزة أولاً هي الأمجديلا Amygdala، ثم بعد ذلك يأتي الوقت للذي عنده معلومات وبيانات مُفصَّلة أكثر، وهو المُخ المُسيطر، أو جهاز التحكم التنفيذي، أي Executive control system، وهو قشرة مُقدَّم الفص الأمامي، يُسمونها جهاز التحكم التنفيذي، إذا اختل هذا في الإنسان يغدو الإنسان وحشاً كاسراً، يغضب لأتفه الأسباب، يقتل، ويرتكب جرائم، وكمثال حي المُلاكِم الأمريكي المُسلِم المشهور مايك تايسون Mike Tyson له سجل طويل جداً في الجرائم وفي العنف، عنف ضد زوجته السابقة، عنف ضد العامة، مُذ كان صغيراً! وآخر شيئ ضد نظيره على حلبة المُلاكَمة هوليفيلد Holyfield، حين قضم أذنه أو قطعة من أذنه لا بأس بها، شيئ فظيع! مُنِع بعد ذلك أن يعود إلى الحلبة مُجدَّداً حتى يخضع لتقييم نفسي دقيق، وبالتصوير الطبقي وجدوا أن الرجل يُعاني من عدم نشاط كافٍ في مركز التحكم التنفيذي، أي في قشرة مُقدَّم الفص الجبهي، بالتصوير المقطعي – الإم أر آي MRI – تبيَّن هذا، بالإم أر آي MRI وجدوا فعلاً أن ليس هناك أي نشاط كافٍ، حتى كمية الجلوكوز Glucose لا تصل بدرجة كافية إلى هناك، هناك إظلام، هناك إظلام وليس التماعاً، فالرجل عنده تخلف في هذه الناحية بالذات، وهذا سبب العنف الزائد عنده، تقريباً الرجل ضحية للعوامل الإحيائية، أي للعوامل البيولوجية كما يقولون، إلى حد ما! ولكن ليس الأمر بهذه البساطة، الأمر ليس بسيطاً، ولا يُمكِن تبسيطه كيمياوياً إلى هذه الدرجة أو إحيائياً، الأمر أكثر تعقيداً كما سيأتي بعد قليل.
نعود إذن مرة أُخرى، هذا ما يحدث عند الإنسان، يقفز ثم بعد ذلك عبر الجهاز التنفيذي التحكمي يحدث ما قلنا، وهو أكثر معلومات وأكثر هدوءاً وأكثر منطقيةً، أي المُخ المُفكِّر، اسمه المُخ المُفكِّر، هذا ما يُميِّزنا من الدواب والبهائم والزواحف، انتبهوا! لذلك الإنسان الراقي هو الإنسان يستخدم أكثر هذا المُخ المُفكِّر، وليس المُخ البدائي، وهو يظن أنه أكثر رجوليةً وأكثر عنفواناً وأكثر إثباتاً لشخصيته، بالعكس! إنه خلف للزواحف والبدائيات، بمعنى ما من المعاني، عليكم أن تتريثوا!
وجدت إشارة عجيبة في كتاب الله تُشير إلى هذا، قال – تبارك وتعالى – لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ۩، مُمكِن بعض دارسي الفسيولوجيا Physiology – مثلاً – أو حتى الكيمياء العصبية أو حتى المُتخصِّصين في الدماغ وكيمياء الدماغ أن يقولوا هذه الآية فيها خطأ، والترتيب فيها غير منطقي، وكان ينبغي أن يقول رب محمد لو اطلعت عليهم لمُلئت منهم رعباً ولوليت منهم فراراً، وهذا غير صحيح بحسب هذه الكشوف العلمية الحديثة وبحسب ما يُسميه جوزيف لودو Joseph LeDoux انفعال ما قبل الإدراك، أنت تنفعل بالخوف أو بالغضب أو بالفرار أو بأي شيئ قبل أن تُدرِك الحاصل، لماذا؟ شرحت لكم هذا علمياً، لأن الرسالة تذهب عبر الممر الخلفي أولاً إلى الأمجديلا Amygdala، الجُزء الأكثر أهميةً في المُخ البدائي، وبعد ذلك تذهب عبر الممرات المعروفة – أي الــ Pathways المعروفة – إلى المُخ المُفكِّر، ليتخذ القرار الأكثر حكمةً والأكثر هدوءاً ورويةً، الله يقول لا، يبدو أن هناك شيئاً مُخيفاً، شيئاً مُرعِباً استثنائياً يجعل الإنسان يلوذ بالفرار، ثم بعد ذلك يبدأ يُدرِك ما الذي رآه وما الذي أحدث عنده هذه الاستجابة، انفعال ما قبل الإدراك!
وفي الحقيقة قد يقول بعض دارسي الطب – مثلاً – وبعض دارسي هذه القطاعات من العلم لا، نحن درسنا هذا، نعم درستم هذا وفق نظرية قديمة تعود إلى القرن التاسع عشر، وُجِّهت إليها سهام نقد كثيرة جداً جداً، إنها نظرية جيمس-لانج James-Lange، أي James-Lange Theory، وهي من القرن التاسع عشر، وهما رجلان مُختلِفان، أحدهما أمريكي والآخر دنماركي، اكتشفا هذه النظرية في نفس الوقت، ولذلك نُسِبت إليهما، باختصار – تُلخَّص بطريقة ابتسارية، تُسيء إليها، وهي أعمق مما لُخِّصت به، الآن لها عودة، لكن عبر براهين حديثة وقوية جداً كما شرحنا بعضها لها عودة جديدة – إنها النظرية التي تقول نحن نهرب ثم نخاف، بمعنى آخر موضوع نهرب أو نقاتل، الهروب أو القتال، إنه عمل ماذا؟ عمل المُخ البدائي، أي Fight or flight، إما القتال وإما الهرب، إنه عمل المُخ البدائي، إذن هو يقول المُخ البدائي يستجيب أولاً ثم يأتي دور المُخ الحديث.
هناك رسالة إلهية تكوينية تقول لنا الرأي النضيج وليس الرأي الفطير لا يأتي بداهةً، إنه يحتاج إلى وقته، تريث! لا تتعجَّل بإصدار الأحكام، لا تتعجَّل بإصدار أحكام قيمة، وكلنا مُغرَمون وشغوفون بأن نُصدِر أحكام قيمة سريعة على البشر وعلى الأحداث وعلى الكون وعلى كل شيئ، غير صحيح! لا تتعجَل، كُن إنساناً راقياً، لا تكن إنساناً بدائياً، أعط نفسك مُهلة، أعط نفسك الوقت، أعط مُخك المُفكِّر الوقت حتى يدرس البيانات دراسة هادئة ودراسة ناضجة.
إذن هكذا يقول العلماء، هل يُمكِن أن نختصر وأن نبتسر إذن فنقول الغضب هو قدرنا الجيني أو قدرنا الوراثي؟ هل هذه مسألة وراثية؟ أنا وُلِدت بهذا الدماغ، هل الأمر انتهى؟ لا! كما قلت لكم المسألة أكثر تعقيداً من هذا، ويتضافر ويتداخل ويتآزر فيها التربوي والاجتماعي والثقافي مع الإحيائي والوراثي، وهكذا نستطيع أن نُجمِّع قطع هذه اللُعبة الإلهية إن جاز التعبير، أي هذا البازل Puzzle الإلهي، مسألة مُعقَّدة جداً! كيف؟
هناك عالم مُتخصِّص – تخصَّص في هذه المسألة لسنوات – يُدعى أيضاً دي هيجلي Dee Higley، دي هيجلي Dee Higley درس القرود، كناحية وكمُدخَل إنساني لم يُحِب أن يجعل دراسته على البشر بالذات – من ناحية إنسانية – فدرس القرود، والقرود تُشابِهنا جداً، إنها تشترك معنا وتتقاسم أربعة وتسعين إلى ستة وتسعين في المائة من المادة الوراثية، طبعاً! إنهم الأقرب إلى أن يكونوا فعلاً أولاد العم، ولذلك حين مسخ الله أقواماً إلى ماذا مسخهم؟ إلى ما هو أقرب، إلى قردة وإلى خنازير، لأنها كائنات قريبة جداً، أكثر الكائنات يُمكِن أن نأخذ منها قطع الغيار – الــ Spares – القردة والخنازير للإنسان، مُشابِهة جداً! ستة وتسعون في المائة من المادة الوراثية، شيئ عجيب جداً! لا يُوجَد حيوان يقترب من الإنسان كهذا الحيوان أو بمثل هذا الاقتراب.
أراد الرجل أن يقرأ الحقيقة الوراثية أو الأساس الوراثي للعدائية وللعنف وللغضب في هذا الحيوان، ثم بعد ذلك في نُقلة أُخرى نُطبِّق ذلك على الإنسان، نُحاوِل أن نُقارِن، هناك بعض القردة فعلاً تتميَّز بالعدائية الشديدة، والغضب المُفرِط الخارج عن الحدود، وبعضها على العكس من ذلك، فما هو السبب؟ وراثياً وجد أن هناك جيناً Gene مُعيَّناً، أي مُورِّثة، ما يُعرَف بالمُورِّثة، كان يُعتقَد إلى ما قبل أربع سنوات أن المُورِّثات قد تبلغ مائة ألف، الآن استقروا على أنها تبلغ أربعين ألفاً، هي أقل من أربعين ألف مُورِّثة الآن، بعد أن اكتمل أو شبه اكتمل مشروع الجينوم الإنساني Human Genome Project، هي أقل من أربعين ألف مُورِّثة، المُهِم مُورِّثة أو جين Gene من هذه الجينات Genes تُسمى الجينة الناقلة، أي الــ Transporter gene، الجينة الناقلة! ويُوجَد منها نُسختان، جينة الأليل القصيرة، أي The short allele gene، وجينة الأليل الطويلة، أي The long allele gene، نوعان من نفس المُورِّثة هذه!
هذه المُورِّثة مسؤولة – أيها الإخوة والأخوات – عن تعديل وتنظيم كمية مادة – شرحناها أيضاً في خُطبة الضحك – السيروتونين Serotonin، السيروتونين Serotonin مادة مُهِمة جداً، وهي إحدى الكوابح، أي إنها Inhibitor، فهي تكبح، هناك الدوبامين Dopamine وهو مُحفِّز، يُحفِّز ويُشجِّع ويعمل على تسريع الاتصالات العصبية بين المشابك، أي الــ Synapses، أي بين أطراف الخلايا العصبية، الدوبامين Dopamine يُسرِّع! لذلك يعطي مفعولاً سلبياً فيما يخص موضوعنا مثلاً، أما السيروتونين Serotonin فهو على العكس، Inhibitor! إنه يكبح ويُثبِّط، هذا يُسرّع وهذا يُبطّئ، توازن في كل شيئ، مثل أجهزة الجسم، التعاطفي ونظير التعاطفي، أي السمبثاوي والباراسمبثاوي، هو هكذا! كل شيئ بتوازن، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩.
وجدوا أن جينة الأليل القصيرة The short allele gene القرد الذي يحملها تكون عنده كمية أو مُعدَّل هذا الكابح – أي السيروتونين Serotonin – مُنخفِضة، مما يجعله عُرضة لماذا؟ للتهيج الشديد والسريع، وأن يكون مُشتَطاً في ردود أفعاله واستجاباته، غضوباً وعنيفاً وعدائياً! هل معنى ذلك أن القرد الآخر الذي يكون هادئاً وبعيداً عن العنف والعدائية يتمتع بحمل وتضمن جينة الأليل الطويلة The long allele gene؟ ليس دائماً، مُمكِن يكون القرد عنده جينة الأليل القصيرة The short allele gene ويكون هادئاً، إذن المسألة أصبحت الآن غير واضحة، لا! لماذا؟ غير واضحة وراثياً، إذا أدخلنا عامل التربية يختلف الأمر، وانتبهوا! هنا شيئ عجيب.
وجد هذا العالم – أي دي هيجلي Dee Higley – شيئاً في القردة التي تنشأ في أحضان أمهاتها وفي كنف أمهاتها – إذن عودة أُخرى إلى أهمية ماذا؟ أهمية احتضان الأم، إلى أهمية أن تكون الأم في البيت، وأن تحتضن أولادها، وأن تُعطيهم القدر الكافي والمُناسِب والمُلائم من الرعاية والحنان والاعتناء – وتكون حاملة لهذا الجين Gene المُخفِّض لمادة السيروتونين Serotonin، كأن هذا الجين Gene غير موجود، وتكون قردة عادية وطبيعية، وتكون هادئة، إذن تُساوي هذه القردة القردة التي تحمل جين الأليل الطويلة The long allele gene، نفس الشيئ! كأن عندها كابح، لكن في الحقيقة هذا الكابح ليس كابحاً هرمونياً، لا! إنه كابح سلوكي، بسبب تربية الأم، كيف؟
يشرح هذا العالم المُتخصِّص، يقول لأن الأم حين يأتي هذا الطفل – أعني القرد، أكرمكم الله – بسلوك غير مُلائم فإنها مُباشَرةً تأخذ على يده، إما بشد شعره إلى الوراء، إما بضربه، وإما بمنعه من بعض ما يُحِب ويلذ له، والعكس صحيح، حين يأتي بسلوك مُلائم فإنها تُكافئه على ذلك ببعض ما يُحِب، كأن تفلي شعر رأسه، كأن تُعطيه ثديها، وكأن تلعب معه وتُلاطِفه، إلى آخره! فهذا يفعل ماذا؟ يقول العلماء هذا يُحدِّد ويُشكِّل مسارات – أي Pathways – في الدماغ، تنشأ مسارات عصبية طبعاً في الدماغ، تجعل بعد ذلك – طبعاً بعد أن يتكرَّر هذا الأمر مرة ومرتين وعشر وعشرين ومائة ومائتي مرة – هذه المسارات ثابتة، تتحكَّم أو تصوغ حياتنا العاطفية، ربما إلى آخر حياتنا، مسارات تنشأ في الصغر، وهي مُهِمة جداً! يُشبِّه العلماء ذلك بالعضلات التي خضع للتدريب والتمرين الدائم، فإنها تأخذ حجماً أزيد، وتأخذ شكلاً جديداً مُفصَّلاً، كذلك المسارات العصبية في الدماغ المُتنامي، في الدماغ الناشئ، سواء عند القرد وبعد ذلك عند الإنسان، نفس الآليةَ!
حين قرأت هذا التحليل العلمي المُثير والمُعجِب قلت في نفسي لعل الله – تبارك وتعالى – أشار إلى هذه الحقيقة من طرف خفي جداً في قصة موسى الكليم عليه السلام، الغضب بخلاف الآية التي ذكرتها أو تلوتها مُقدِّمة الخُطبة من سورة الشورى لم يُذكَر في شأن البشر أو مقروناً بالبشر إلا في موردين، مورد موسى أكثر من مرة ومورد يونس فقط، قال الله وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ۩، وأما موسى فقال عنه وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۩، وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ۩، موسى فقط أكثر من مرة ويونس مورد، غير ذلك غير مذكور إلا كصفة امتداح لعموم المُؤمِنين الصالحين، وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩، فقط كغضب! هناك كظم الغيظ وأشياء أُخرى، لكن الغضب أتى فقط في هذه الموارد، لماذا موسى بالذات عليه السلام؟ وهو نبي مشهور بأنه كانت تعتريه حالات من الغضب والشدة، لكن لا تكون طائشة، لأنه معصوم عليه السلام، أعتقد أنه بان لكم الآن، لأنه لم يلق الرعاية والتربية الكافية في حضن أمه، حتى حين رده الله إلى أمه إنما كان رداً جُزئياً، تُعطيه ثديها أو تُلقِمه ثديها، ولكن لم ينشأ نشأة طبيعية كما ينشأ أي طفل في أحضان أمه بنشأة طبيعية كاملة، إشارة! إشارة عجيبة جداً.
طبعاً نحن نعلم أن بعض الناس وخاصة المشايخ الذين لا علم لهم بهذه الشؤون العلمية لا يروق لهم مثل هذا الفهم أو مثل هذه المُحاوَلة للفهم، لأنهم سيزعمون أن هذا ربما يخدش جناب النبي أو ينقص منه، وكأن النبي ليس بشراً، النبي بشر! ولذلك لو أراد أن يعترض فليعترض أصلاً على أن موسى غضب، غضوب! موسى غضوب بنص كتاب الله شئت أم أبيت، لكن عيسى – عليه السلام – كان مشهوراً بالحلم والهدوء الشديد، لم يكن يحيى المعمدان – عليه السلام، وهو ابن خالته – كذلك، كان يغلب عليه أحياناً الغضب والشدة، عيسى كان من طبيعة مُختلِفة، لأنهم بشر، هذه طبيعة بشرية تختلف، سيد الخلق كان معروفاً بالحلم والحلم الشديد جداً، هو أحلم خلق الله، هذه طبيعة أو هذه طبائع، وهي لا تخدش عصمة المعصوم، ولا تخدش كمال الإنسان.
العجيب أنني وجدت أن أشهر عالم الآن حي قال الآتي، وهو ريدفورد ويليامز Redford Williams، وهو مُتخصِّص في دراسة الغضب لأكثر من عشرين سنة، الشخصية رقم واحد في العالم في خبرة الغضب! قال أنا اكتشفت نفسي، أنا شخصية غضبية، قال أنا – أنا رديفورد Redford – شخصية غضبية، ولكن هو واعٍ بغضبه، ويستطيع أن يتناغم معه وأن يتعايش معه وأن يتحكَّم فيه، وهذا يُعطيه فضيلة، لست مسؤولاً عن بعض العوامل الوراثية التي جاد القدر علىّ بها، لكنني مسؤول عن موقفي من طبيعتي ومن هذه العوامل الوراثية، هل أستطيع كما يُقال أن أكسر الدورة؟ هذا Breaking the Cycle كما يُسمونه، هل أستطيع أن أكسر الدورة إذا كان عندي أنا هذا الجين القصير The short gene – أي جين الأليل القصير The short allele gene، وهو المسؤول عن تخفيض هذه المادة الكابحة، ولذلك أتهيَّج سريعاً -؟
هناك دراسة على مُجرِم حُكِم عليه بالإعدام قبل سنوات يسيرة جداً بعد أن طالت مُحاكَمته طويلاً بأمريكا، واسمه جيمس James، لأنه قتل زوجته بإطلاق الرصاص على رأسها عن قُرب، قتلها! ثم ندم ندامة شديدة جداً جداً، جعله العلماء عينة أو حالة يختبرون فيها بعض هذه النظريات المُستحدَثة الجديدة، وصحت توقعاتهم، من ناحية الكيمياء العصبية – كيمياء الدماغ – وجدوا أنه يشتمل على أسوأ تركيبة مُمكِنة، ارتفاع غير طبيعي – أي Abnormal – في مادة الدوبامين Dopamine، في هذه المُنشِّطة المُحفِّزة على التواصل، وانخفاض غير عادي وغير مألوف في هذا الكابح الهرموني، أي الــ Inhibitor هذا، السيروتونين Serotonin! انخفاض شديد جداً جداً، فالرجل مسكين، ولذلك بعد دراسة تاريخ حياته وُجِد أنه كان يتميَّز بالتهيج والعنف والعدائية مُذ كان صغيراً، رُغم أنه مُتفوِّق في الدراسة، وتخرَّج من كلية الهندسة بدرجة الشرف، لكن الرجل عنده تركيبة كيماوية غير طبيعية وغير مُتوازِنة، تجعله عصبياً، وتجعله غضوباً!
وفي نفس الوقت كان يُعاني من تربية مُنحازة وغير مُتعاطِفة معه بالقياس مع إخوانه حين كان صغيراً، حتى التربية والمُجتمَع له أثر أيضاً، وكان يُطلَق عليه لقب – من باب السُخرية والتندر – جيمس James فتيل الاشتعال، لأنه كان ينفجر في لحظة أو في لُحظية، فأسماه أهله – إخوانه وأخواته – جيمس James فتيل الاشتعال، مما كان يُثير غضبه بشدة دائماً، الآن هذا الرجل سيسأل، أنا ربما في أغلب الأحيان سأُورِّث أولادي أيضاً هذه الطبيعة أو بعض ملامح هذه الطبيعة الخطرة، هل سيكون مصير أبنائي كمصيري أيضاً؟ هل سيتورَّطون يوماً في جريمة مع أنهم ليسوا مُجرِمين؟ هذا الرجل مُهندِس ومُثقَّف، ليس مُجرِماً! وهذه الجريمة الوحيدة التي اقترفها، قتل زوجته وأم أولاده بالمُسدَّس، في لحظة! توقَّف فيها كل شيئ، هذا يُعرَف في علم الجريمة وفي علم النفس الإجرامي بالجنون الجنائي، أي الــ Criminal Insanity، يُعرَف بالجنون الجنائي! حالة جنون تُودي بالإنسان إلى ارتكاب جريمة، لكن المحكمة لم تر أن هذا الرجل كان مجنوناً جنائياً، بل وجدت أن لديه السبب أو الأسباب الكافية – عدداً كافياً من الأسباب – المعقولة والعقلية لارتكاب ما ارتكب، فرأت أنه رزح تحت أسباب عقلية وليس تحت أسباب ذُهانية، وحكمت عليه بالإعدام، ربما سيُعيدون النظر ولو بعد عقود في هذه المسألة، الرجل وضعه خطير جداً جداً، القانون الجنائي كله مبني على ما يُعرَف بمفهوم الإرادة الحرة، أي A concept of free will، الإرادة الحرة! فهل هذا الرجل فعلاً كان يتمتع بإرادة حرة حين قتل زوجته أم كان مغلوباً على نفسه وكان أشبه بالمجنون الحقيقي؟ مسألة لابد أن يُعاد فيها النظر بحكمة وتروٍ.
الآن السؤال الخطير، وهذا ربما أكثر ما يهمنا في خُطبة كهذه، لا يهمنا كعلم، يهمنا – انتبهوا – كسلوك، مثل هذه المعلومات إذا درسناها كمعلومات فسيكون هذا شيئاً حسناً، لكن الأحسن والأكثر ضرورةً أو ضروريةً من ذلك أن تكون هناك معلومات ونصائح قابلة للتطبيق، العوام من أمثالنا أكثر ما يُعنون به دراسة علم النفس النظري أو علم النفس التطبيقي – أي الـ Applied Psychology -؟ علم النفس التطبيقي، أُريد نصائح ومواعظ ومعلومات وإرشادات تُعينني على أن أُغيِّر، وهذا سؤال خطير، هل يُمكِن أن نكسر الدورة؟ هل يُمكِنني Break the Cycle؟ هل مُمكِن فعلاً أن تُكسَر هذه؟ وفي الوقت الذي أُورِّث فيه أولادي بعض هذه الطبيعة هل يُمكِن أن أُعلِّمهم وأن يتعلَّموا هم أيضاً أن يُعيدوا برمجة هذه الطبيعة؟ بخصوص أولادي الأمر أسهل، بخصوصي الأمر مُمكِن لكنه صعب وصعب جداً، في بعض الحالات قد يبلغ درجة المُستحيل عند الضعاف الإرادة، وعند ضحايا التربية والثقافة أيضاً، لأننا في أحيان كثيرة ضحايا للثقافة الزائدة.
اليوم وأنا في طريقي إلى هذا المسجد تذكَرت ما كان يحدث معي ومعنا ونحن صغار، كنا نستغرب إلى درجة الحيرة والارتباك والتشوش، لا نستطيع أن نفهم ما يحدث أمامنا، حين نرى سيارة ليهودي إسرائيلي – مثلاً – لدينا في المُعسَكر تصطدم بسيارة ليهودي آخر أو لعربي، فإذا كانا يهوديين ينزلان ويصرخان صراخاً عجيباً على بعضهما، ويتبادلان السباب والشتائم، ونحن لا نفهم، هل تعرفون لماذا؟ لماذا تعوَّق الضرب؟ بحسب الثقافة السائدة مثل هذا الحادث مُباشَرةً يُؤدي إلى أن يسحب كل إنسان شيئاً من السيارة أو أي شيئ مُتاح لديه ثم يخرج والضرب مُباشَرةً يكون نازلاً والدماغ تنزف في لحظات، لم أكن أفهم لماذا يصرخ هؤلاء بهذا المُعدَّل وبهذا المُستوى ولا يتضاربون، الآن فهمت أن هناك ثقافة مُختلِفة فيما بين بعضهم البعض، نحن ثقافتنا العنف سيد الأحكام، العضل سيد الأسلحة، مُباشَرةً! لا تتأخَّر، للأسف ثقافة سيئة، ثقافة فعلاً فيها قدر غير طبيعي من العنف.
وطبعاً حتى الثقافة نفسها قد تكون ضحية لظروف، لذلك أجبت مرة عن سؤال طرحه علىّ أحدهم، أحدهم أراد أن يتحذلق ويسأل هل هؤلاء الفلسطينيون طبيعيون؟ هل هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم والذين يُناضِلون بلحمهم الغض الطري طبيعيون؟ هل مَن يفعل هذا هو إنسان طبيعي؟ طبعاً هو إنسان، هو ليس حيواناً، وأجبته بجواب مُفحِم، الذي سألني – وهو صحفي – لم يحر بإزائه أي جواب، سكت مُباشَرةً! قلت له هم طبيعيون تماماً في ظروف غير طبيعية، أُحِب فقط أن تُجرِّب أن تختبر ولو بطريق الخيال والافتراض والتقمص العاطفي أنك مكانهم، ما شاء الله أنت أستاذ في الجامعة أو دكتور أو مُدير عام لشركة – ما شاء الله – وتأخذ مُرتَّب عشرة آلاف يورو، وعندك فيلا باثنين مليون يورو وسيارة مرسيدس Mercedes بمائة ألف، تعود إلى بيتك لترى أن هذه الفيلا احترقت، وابنك رأسه مفصولة عن جسده، وزوجتك أحشاؤها منثورة، بقيَ لديك ربما ولد أو بنت واحدة، يصرخ وينوح في حالة جنون وصدمة، ستُورِثه عُقداً نفسية وعصبية إلى أن يموت، أُريد أن تضع نفسك محل هذا، ثم بعد ذلك تُفكِّر، كيف ستكون ردة فعلك؟
لذلك بعضهم قال حتى القوانين الجنائية في الغرب بشكل عام يبدو أنها تُحاوِل أن تتقمص إلى أبعد حد ظروف المُجرِم، لكنها لا تُريد أن تتقمص ظروف الضحية، حاول أنت أن تتقمص ظرف الضحية، ولذلك بعضهم قبل سنوات – قبل أكثر من ثلاثين سنة – كان يُنادي بوجوب أن ينشأ ويتبلور علم جديد اسمه علم الضحية، أي Victimology، علم يتحدَّث عن الــ Victims، أي عن الضحايا، وليس فقط عن القتلة ويتعاطف معهم.
وقد قال مرة ألدوس هكسلي Aldous Huxley في كتابه Texts & Pretexts، قال في نظري يجب أن يقف المُحلِّل – المُحلِّل النفسي – على قدم المُساواة وأن يُجرَّم تماماً كما يُجرَّم المُجرِم، طبعاً! المُحلِّل النفسي الذي يُحاوِل دائماً أن يُقنِعنا أن هذا المُجرِم ضحية، لكن الضحية ضحية، لا تحتاج إلى برهان أنها ضحية، أليس هناك من حق لهذه الضحية التي صارت ضحية في ذمة التاريخ أن تجد مَن يُدافِع عنها، مَن ينتصر إليها، ومَن يرد إليها اعتبارها؟
ولذلك تلحظون في نفس الآيات التي تلوتها مُقدَّمة الخُطبة – خاصة وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩ – أن الله قال في نفس السياق وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩، قال هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩، فرق كبير بين هذا الغضب والغضب في الحالات العادية، الأخير ينبغي للإنسان المُتحضِّر والإنسان الراقي والإنسان المُهذِّب أن يتعالى عليه، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۩، أنا أتحكَّم في غضبي، ما يُعرَف بالتحكم في الذات، أي SelfControl، والنبي قال كما في الصحيحين، قال ليس الشديد بالصرعة، كلنا نحفظ هذا الحديث، كلنا! إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وعند ابن حبان ليس الشديد بالذي يغلب الناس، إنما الشديد الذي يغلب نفسه، هذا هو! هذا الإنسان القوي، هذا الإنسان المُتحكِّم، وهذا أيضاً هو الإنسان الراقي والمُتمدين والمُتحضِّر، ليس خليفة الزواحف والدواب والبهائم الأولى، وإنما الإنسان المُتحضِّر، خليفة الله! بعقله المُفكِّر، نعرف هذا.
جاء أحدهم مرة – أعتقد الأقرع بن حابس، أحد المُؤلَّفة قلوبهم وأحد الحمقى، أو عُيينة بن حصن – إلى عمر، وكان عمر – رضوان الله عليه – أمير المُؤمِنين أو أميراً للمُؤمِنين، فجبهه بكلمة حمقاء، قال يا عمر – لم يُنادِه بالإمرة، قال يا عمر – إنك ما تقضي بالعدل ولا تُعطي الجزل، بكل بساطة! أحكام قيمة سيئة جداً وكاذبة ومُنافِقة أيضاً، هذا نفاق وهذا كذب، هذا تزييف للواقع، طبعاً حتى يُقال إنه واجه عمر القوي الأمير، يستطيع كل أحمق أن يُغامِر برأسه لكن مع الطواغيت وليس مع عمر بكلمات مثل هذه، كل أحمق يستطيع أن يُغامِر بحياته، بأن يتفوَّه بكلمات من أمثال هذه، إنك ما تقض بالعدل ولا تُعطي الجزل، فغضب عمر حتى عُرِف في وجهه، قلة أدب ووقاحة شديدة من غير مُبرِّر! فقام ابن أخيه وقال يا أمير المُؤمِنين ألم تسمع قول الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩؟ وهذا من الجهل! قال صدقت والله، وسكت عمر، يقول الراوي فكأنما هي نار انطفأت، في لحظة! غلب عليه الحلم والهدوء وانتهى كل شيئ، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۩، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ۩.
ولكن في حال تعرض الإنسان لمُستفِّز – يستفز غضبه بتهديد حياته أو عِرضه أو حياة أولاده وأهله أو أي قيم أُخرى مثل هذه القيم الحساسة والخطيرة – يقول علماء النفس إذا لم يغضب في هذه الحالة فاستجابته غير سوية، هو إنسان شاذ نفسياً أيضاً، ومثل هذا يُقال فيه المثل العربي الشهير مَن استُغضِب فلم يغضب فهو حمار، أكرمكم الله، ما هذا؟ المسألة تتعلَّق بحياتك وبحياة أهلك أو بعِرضك وبشرفك، وأنت لا تغضب، تدّعي الحلم، لا! أنت إنسان غير طبيعي، أحياناً يجب أن يغضب الإنسان، لكن مثل هذا الغضب – صدِّقوني – ليس هو غضب البدائي، إنما غضب الإنساني القيِمي أو القيَمي، صاحب القيَم، صاحب الأعراف، صاحب التقاليد، صاحب المبادئ، وصاحب الأديان، الإنسان المُتحضِّر الذي لا يرى للحياة قيمةً ولا معنىً ولا طعماً ولا دلالةً بعيداً عن مثل هذه القيم، إنها تُشبِه الموت أو تُشبِه حياة العجماوات أو الحياة النباتية، لا قيمة لها، ليست حياة إنسانية، أين الدلالات الشخصية في حياتنا؟ كل إنسان لابد أن تكون لحياته دلالات شخصية، أين الدلالات الشخصية؟
لذلك مثل هذا الشخص – الذي لا يغضب إذا تعرَّض عِرضه أو سُمعته أو حياته أو حياة مَن تخصهم حياته إلى الخطر والتهدد – ومثل هذا الإنسان في العلم أيضاً يُسمى الأعمى انفعالياً أو الأعمى عاطفياً، اسمه العمى العاطفي أو الانفعالي، أي الــ Affective blindness، العمى الانفعالي أو العمى العاطفي! وهذا في بعض الحالات عضوياً يكون ناشئاً وناجماً عن تخرّب في اللوزة، أي الأمجديلا Amygdala هذه تتخرَّب، إذا تخرَّبت الإنسان يُصاب بهذا الشيئ، يُصبِح أعمى عاطفياً، يُحرِز أعلى الدرجات في القدرة على الحوار، لكل سؤال جواب عنده، ليس عنده مُشكِلة ويُجيب، الذاكرة السردية عنده محفوظة ومضمونة، والذاكرة السردية ليست في اللوزة، وإنما في قرن آمون، أي في الــ Hippocampus، موجودة! يذكر كل شيئ، يدخل الامتحان وينجح، يتعرَّف على الناس – أن هذه أمه وأن هذا أخوه – ولكن بلا أدنى عواطف، أمه مثل خالته، مثل الشجرة، مثل الحجر، مثل الجارة، مثل امرأة أجنبية، ومثل مُذيعة التلفزيون Television، أمه! بلا أدنى عواطف أبداً، لو قيل له ماتت أمك، لقال ماتت! ماذا يقولون؟ أيقولون رحمها الله؟ رحمها الله، ربما يسأل ماذا يجب أن أقول؟ هل أقول رحمها الله؟ فليرحمها الله، هذا إنسان مُتخلِّف عاطفياً أو أعمى عاطفياً.
هناك أساس عضوي أحياناً لهذه المسألة، تماماً كما هناك أساس عضوي لمسألة الغضب الزائد والعنف والعدائية وضد المُجتمَع، حين يكون الشخص مُصاباً باضطراب عدوانية المُجتمَع، أي Antisocial disorder، اسمه اضطراب عدوانية المُجتمَع أو عدائية المُجتمَع، يتسم بالعدوانية وبالعنف وبالتسرع وبعدم الندم، لا يندم! مهما خرَّب، مهما حرق، مهما دمَّر، ومهما خان وطنه، لا يهمه! ومثل هذا كثير، لأن بعض الناس يتساءل في براءة الجاهل – والجاهل له براءة من نوع خاص، لكنها لا تُبرِّره – كيف يُمكِن للعراقي أو للفلسطيني أو للجزائري في يوم من الأيام أن يعمل ضد وطنه؟ كيف تقول كيف يُمكِن؟ من أي شعب أنت؟ هل أنت من مصر؟ والمصري قد يفعل هذا، هل أنت من ليبيا؟ والليبي قد يفعل هذا، كل إنسان يا حبيبي قد يفعل هذا، كل إنسان! لأن ليس كل البشر أسوياء، هناك مُتخلِّفون، هنامك مُتخلِّفون عاطفياً، هناك أُناس يُعانون من أمراض عضوية، هذا مُتخلِّف، هذا الرجل مريض قبل أن يكون مُجرِماً، لا نُبرِّر جريمته، لكنه مريض، ولابد أن نبحث عن مرضه.
فهذه عدائية المُجتمَع، هناك مَن يعمل ضد مُجتمَعه، ضد ناسه، ضد أهله، وضد كل الناس حوله، وهذا له أساس عضوي أيضاً، والجواب نشأ قبل مائة وخمسين سنة، تقريباً في ألف وثمانمائة وثماني وأربعين، زُهاء مائة وخمسين سنة! كان هناك عامل يعمل في منجم – في أحد المناجم – وفي لحظة ما – ليس معروفاً ما السبب – حصل انفجار، فانطلق قضيب من الحديد السميك واخترق دماغه مُحدِثاً تخريباً وضرراً كبيراً جداً في قشرة مُقدَّم الفص الجبهي، إذن في مركز التحكم التنفيذي كما قلنا، والعجيب أن الرجل لم يمت، الرجل لم يمت وعاش! يقول الذين تابعوا حالته من الأطباء والعلماء الإخصائيون الرجل كان قبل الحادثة رصيناً هادئاً وقوراً واجتماعياً لطيفاً، بعد الحادثة لم تظهر عليه علامات الجنون، لكنه صار عدوانياً، شديد العدائية، وأظهر كل السمات الخاصة بالشخص المُعادي للمُجتمَع، أي الــ Antisocial personal، الشخص المُعادي للمُجتمَع! فعرف العلماء أن السبب هو في هذا المكان، في هذا الموضع! لذا كان يندفع مُباشَرةً، قال – تبارك وتعالى – مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۩، الناصية!
لذلك راق لي أو خطر لي الآتي، إذا تعرَّضت لوحش، لإنسان، لرجل في جيش، لمباحث، لإنسان أقوى منك، لخطر حقيقي، وتُريد أن تدعو الله، فلتدعه قائلاً يا مَن هو آخذ بناصية كل دابة، وأنت آخذ بناصية هذا، اكفني شره، أعتقد أن هذا أنسب دعاء – إن شاء الله – سيكون لدفع شر هذا، لأن القرآن علَّمنا هذا، مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۩، هذه الناصية هي السبب، إما أن تكبحه وتجعله إنساناً هادئاً معك ومُتفاهِماً، وإما ألا تكبحه إذا كانت مُتضرِّرة أو مُخرَّبة، فيعدو عليك كما يعدو الأسد الكاسر ويسطو بك، فالناصية هي السبب إذن، الناصية هي السبب! وهناك أُسس، لكن – كما قلنا – هذه الأُسس غير كافية في التفسير النهائي، لابد أن نضفر معها في ضفيرة واحدة أو في جديلة واحدة العوامل الاجتماعية، الثقافية، التربوية، وغيرها وغيرها وغيرها، حتى تجتمع لدينا كل قطع البازل Puzzle هذه أو قطع الأُحجية النفسية، الأُحجية النفسية المسلكية للإنسان!
عودة إلى سؤالنا قبل أن يُدرِكنا الوقت وقد أوشك، هل يُمكِن أن نخرق الدائرة؟ النبي – عليه السلام – يقول لا تغضب، في صحيح البخاري عن أبي هُريرة أن رجلاً قال يا رسول الله أوصني، قال لا تغضب، فردد مِراراً أوصني، ما الوصية هذه؟ يُريد وصية على طريقة الصوفية، اجلس ومعك مسبحة من خمسة آلاف حبة وقل كذا وكذا ألف مرة، لكي يشعر بأنه قطع الطريق حقاً إلى الله، لكن أنت مع سيد الخلق يا حبيبي، أنت مع سيد عباد الله، أنت مع أظم عقل وأعظم نفس وأعظم مُرشِد، كما سمعنا اليوم وكما برهننا من خلال هذه الجوابات المُبتسَرة العجلى على أسئلة خطيرة قد يكون الغضب أم الجرائم، أم القبائح! ولذلك كل علماء النفس – خُذوا أي كتاب في علم النفس، حتى علم النفس التطبيقي – مُطبِقون ومُجمِعون على أن الغضب هو أخطر انفعالاتنا، الخطر رقم واحد في الحياة الانفعالية للإنسان، أكثر من أي انفعال آخر، الغضب! فالنبي قال له لا تغضب، فردد مِراراً أوصني، والنبي يقول لا تغضب.
قال ابن عمر قلت يا رسول الله دلني على ما يُباعِدني من غضب الله، وفي رواية ويُدخِلني الجنة، قال فقال لي لا تغضب، كلمة واحدة! أتُريد أن تبتعد عن غضب الله وأن تنال رضا الله والجنة؟ لا تغضب، لكن ألا ترون أن هذا الجواب قد يغدو أو قد يلوح أنه غير علمي؟ هل نتحكَّم فعلاً في انفعالاتنا؟ قبل أن نُسدِّد نقداً إلى كلام المعصوم – عليه السلام – لابد أن نفهم القضية بمُقارَبة أُخرى، نقول بالعكس، إذا صح هذا الحديث وحق أن النبي فاه به – صلوات ربي عليه وعلى آله وأصحابه وسلاماته – فلابد أن يُعطينا إضاءةً وإيقاظاً أو إلماعاً كما يقولون إلى إمكانية ماذا؟ إمكانية أن نتحكَّم في غضبنا، يُمكِن أن نتحكَّم في غضبنا!
صدِّقوني أنا إلى وقت ليس بالبعيد كنت أظن أن من الأفضل التنفيس، وهذه الفكرة هي الشائعة في مدارس علم النفس إلى ما قبل الخمسينيات من القرن العشرين، أي في النصف الأول من القرن العشرين، كان أكثر علماء النفس والتربية مُتعاطِفين مع ماذا؟ مع فكرة استحسان التنفيس عن الانفعال، نفِّس! هل أنت غضبان يا سيدي؟ كسِّر، هل أنت غضبان؟ سب، العن، ابصق في الوجوه أحياناً، وافعل ما يحلو لك، لكن لا تُجرِم، هل أنت غضبان؟ نفِّس أفضل، حتى لا تتسمَّم – يقولون – بالكورتيزول Cortisol وبغير الكورتيزول Cortisol، تتسمَّم أنت! لكن هذا غير صحيح يا إخواني، الآن العلماء المُختَصون في هذه الشؤون بالذات لا يستحسون البتة فكرة التنفيس عن الغضب.
الدكتورة تايس Tice هي من الباحثات الرائدات في موضوع الغضب أيضاً ومشهورة عالمياً، قالت لا، كل تجاربي أكَّدت لي أن التنفيس عن الغضب لا يُهدئه ولا يُخفِّفه بل يزيده، وأثبتت هذا كيمياوياً وعصبياً، يزيد! وهذا ما يحصل، وهذا ما حصل مع جيمس James الذي قتل زوجته، بعض الأشياء استفزته بشكل أزيد فنفَّس عن غضبه أكثر فانتهى به الأمر إلى الجريمة، وسيقول بعد ذلك مُعتذِراً ككل غضوب مجنون جُزئياً بمعنى الكلام هو الذي دفعني إلى هذا، هل هو الذي دفعك؟ هل ابن خمس سنوات هو الذي دفعك إلى أن تتصرَّف كالمجنون؟ هل إلى هذه الدرجة أنت ضعيف؟ هل إلى هذه الدرجة أنت هش؟ هل إلى هذه الدرجة عندك استعداد للجنون؟ هل ابنك خمس سنوات دفعك أن تفعل كل ما فعلت؟ أو قد يُقال هذا حدث بسبب رجل أحمق، وأنت لست في سنن الذين يأخذون سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ۩، لا! أنت مِمَن يُلاحِقون الجاهلين، هل هذا الأحمق الجاهل الأُمي الغبي وربما المدسوس عليك هو الذي جعلك تتصرَّف بهذه الطريقة؟ إذن أنت أسوأ منه حالة، بالعكس! لابد أن تتعالى عليه، مَن هو هذا؟ لن نُعطيه شرف مُخاصَمتي، لن نُعطيه شرف الشماتة بي، ما معنى هذا؟
يقول لُقمان – أيها الإخوة والأخوات – لابنه يا بُني لا تشف غضبك بفضيحتك، ما أحكم هذه الجُملة! لا تشف غيظك – أي غضبك – بفضيحتك، كيف بفضيحتي؟ كيف؟ كل واحد فينا بعد أن يسكت عنه الغضب وتنفتئ ثورة الغضب يشعر بالخجل من نفسه، خاصة إذا كان بين مَن يحترمهم ويحترمونه، ويبدأ بطريقة هادئة في أن يعتذر، يُريد أن يُبرِّر وأن يُعقلِن وأن يُقنِعهم أنه كان معذوراً في الثورة – ثورة الغضب المجنونة – التي ألمت به واجتاحته نفسه، فلماذا إذن؟ لماذا يُحِب الآن أن يُبرِّر؟ هم كانوا معه مُنذ البداية، وعرفوا كل شيئ، ورأوا كل شيئ، وهم شهود، شهود عيان! لأنه يشعر بأن يسكت عنه الغضب أنه افتُضِح وأنه أبرز درجة من الهشاشة والضعف وعدم التماسك والقابلية لأن يُوصَف بالحمق وحتى بالجنون لا تليق به، هذا صحيح! كلنا نخجل، بعد أن يسكت الغصب نخجل، لماذا تورَّطنا إلى هذه الدرجة؟ لماذا نزلنا إلى هذا المُستوى؟ ففعلاً لا يليق بالإنسان الراقي الغضب إلى هذه الدرجة.
النبي مرة قال انظروا إلى وجهه، انظروا إلى اوداجه، انظروا! انظروا كيف أصبح شكله، بعضهم قال على الغاضب أن ينظر في المرآة، فقط ينظر في وجهه ليرى كيف يكون طبعاً، فضلاً عن الحركات والأدوات التي يستخدمها والتكسير والكلمات النابية وأحياناً سب الرب وسب الدين وسب العِرض، ما هذا؟ فعلاً هذا مسلك غير إنساني الآن، مسلك بدائي كما قلنا، بدائي جداً جداً جداً، لا يليق بالإنسان المُحترَم وبالإنسان الراقي، النبي يقول لا، هناك إمكانية، الدكتورة تايس Tice تقول نعم، لا يجوز أن نُنفِّس عن الغضب، علينا أن نتحكَّم فيه.
طبعاً ربما يهم بعضنا أو في الحقيقة يهمنا كلنا أن نعرف شيئاً أكثر خطراً من هذا، الغضب يضر بصحتنا البدنية، انتبهوا! ليس فقط عبر كميات الأدرينالين Adrenaline الكبيرة التي تُفرَز وتعمل على تقليص العضلات ورفع الدم وغليان الدم في العروق وسرعة الدفق في القلب والنبض حتى يغدو القلب في الدقيقة الواحدة يضخ من أربعة إلى عشرين لتراً من الدم، شيئ عجيب، ليس هذا فقط، لا! هذا يُورِث تدميراً حقيقياً لصحتنا، لماذا؟ مع كل ثورة غضب وغليان للدم – فعلاً هو يغلي حقيقةً – في العروق بهذا الضغط وبهذا الحشد الهائل له ما الذي يحدث؟ تتخرَّب جدران الشرايين، طبعاً! ضغط كبير في شرايين رقيقة ولطيفة جداً، تتخرَّب! وهنا يُضطَر وينبعث جهاز المناعة أو يُبادِر جهاز المناعة للدفاع عن هذه الشرايين المُتخرِّبة، كيف إذن؟ كيف؟ بصنع اللويحات، هل تعرفون اللويحات؟ إنها طوب الجلطة، هل تعرفون الجلطة؟ هكذا تنشأ الجلطة، يبدأ جهاز المناعة يبني هذه اللويحات، تُنشأ لويحات ثم تُنشأ لويحات، وهكذا! وماذا بعد إذن؟ مع كل دفقة ومع كل ثورة غضب تزداد ماذا؟ اللويحات، تزداد اللويحات باستمرار، وفي يوم من الأيام – بعد خمس سنوات أو عشر سنوات أو عشرين سنة في ثورة غضب – يحدث نفس الشيئ، يُضخ الدم – سبعة عشر أو عشرين لتراً – بشدة، وحين يذهب يجد الطريق ماذا؟ مسدوداً، إنها جلطة، فيُصاب الإنسان بالنوبة القلبية، بسبب الغضب!
وهذا تفسير علمي حديث ومُمتاز لكلمة مُؤسِّس تقريباً علم النفس في القرن التاسع عشر ويليام جيمس William James، الفيلسوف الشهير الذي قال إن الله والبشر قد يغفرون لك، لكن أعصابك لا تفعل هذا دوماً، ومُمكِن أن يُصاب الإنسان بانهيار عصبي، ألم تسمعوا بقصة المرأة أو الرجل أو الشاب أو الشابة الذي شُل في نوبة غضب؟ طبعاً شُل، وتعطَّل نصف وجهه وأحياناً نصف جسمه في نوبة غضب، وبعد ذلك تأتي قصة المُستشفيات والتدليك والمشايخ والشيخ فلان والشيخ علان، والمسألة ليس لها علاقة بالجن، كل شيئ نضعه في رأس الجن كما يُقال، مساكين! لا، المسألة لها علاقة بحالة الجنون – بحالة الجنون التي تتحكَّم فينا – هذه، لكننا نضع كل شيئ في رأس الجن، لذا لن نفهم ولن نُعالِج أنفسنا، الغضب! لا تغضب، النبي يُكرِّر لا تغضب، بمعنى ماذا؟ حاول أن تتحكَّم في غضبك.
والغضب عموماً – صحيح – قد ينشأ في لحظة أو في لحظات، لكن دائماً يعكس منولوجاً Monologue داخلياً، هو مونولوج Monologue داخلي، تقول لنفسك مُباشَرةً في أقل من لحظة لماذا عبَّر بهذا التعبير؟ ليحتقرني، لأنه يحسدني، هو يعلم أنني حصلت في الأسبوع الماضي على كذا وكذا، وهو يُنافِسني، وهو تعمَّد أن يُعبِّر بهذا التعبير بين مَن يحترمني لكي يحقر من مكانتي، فسأرد عليه، تُجَن! والرجل قد لا يكون على باله الموضوع، ولم يسمع بما حصلت عليه، ولم يعرف أي شيئ، هذا مونولوج Monologue داخلي، هو الذي جعلك تكون ضحية للغضب، يُسميه علماء النفس الــ Self statements، هذا المونولوج Monologue الداخلي يُسمونه الــ Self statements، أنت تقول لنفسك وتقول لك وتآمرها وتآمرك، وكله كلام فارغ، بالعكس! في الدين المطلوب والمقبول أن تُقنِع نفسك بتبريرات إيجابية، تجعلك قادراً على إعادة صياغة تفسير الموقف وتقييمه، ما يُعرَف بالتماس المعاذير، التمس لأخيك عُذراً، قال فإن لم أجد له؟ قال التمس له إلى سبعين عُذراً، يقول عمر فإن لم تجد له عُذراً فاحمل فعله أو فعلته على الخير، فإن لم تجد لها محملاً قل لعل لها في الخير محملاً، وأنا لا أعرف، ليس لكي لتكون سلبياً وإنساناً بلا انفعال، بالعكس! لكي تُحافِظ على شرايينك وعلى دماغك وعلى جسمك وعلى صحتك النفسية والبدنية والإيمانية.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يسكب علينا من ماء الحلم وماء الصبر، وأن يقينا شر أنفسنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:
ولا ننسى أننا في حالات الغضب نجرح مشاعر مَن نُحِب، نكسر خواطر مَن نحترم، ومِن الصعب جداً بعد ذلك إصلاح ذلك، صدِّقوني! ليس كل الناس عندهم أيضاً الاستعداد والكفاءة النفسية واللياقات حتى يتحمَّلوا الإساءات المُتكرِّرة، بعض الناس بنوع من البلادة يُسيء إلى الناس ويُسيئون إليه وكأن شيئاً لم يحدث، نوع من البلادة! بعض الناس ليس كذلك، بعض الناس لا يتحمَّل نصف نظرة فيها غضب أو احتقار بلا سبب، تُمرِضه وتُسمِّمه حقيقةً، تُسمِّمه! لا يستطيع أن يأكل، لا يستطيع أن يسيغ طعاماً ولا شراباً، لأنه مِمَن يحترمون أنفسهم، فانتبهوا! ليسوا كل الناس هكذا، علينا أن نكون حذرين جداً حين نُعبِّر عن أفكارنا أو مشاعرنا تجاه الأشخاص بالذات.
أوصى والد ابنه الذي كان غضوباً، قال يا بُني وصيتي ونُصحي لك كلما غضبت أن تعمد إلى هذا اللوح الخشبي وتدق فيه مسماراً، نوع من التنفيس عن الطاقة، ويُعطيك أيضاً ما يُسمونه عزل الموضوع، تعزل نفسك عن موضوع الغضب، وهذا شيئ مُوصى به نبوياً، هذا مُوصى به نبوياً لكن هذا موضوع آخر، وهذا من أحسن الآليات أيضاً للتحكم في الغضب، اعزل نفسك عن موضوع الغضب، اخرج، اذهب إلى الشارع، مارس رياضة، امش، اذهب إلى المُتنزَّه، اركب دراجة Bicycle، افتح كتاباً، افتح التلفزيون Television، افعل أي شيئ! اعزل نفسك عن الموضوع واقطع النقاش مُباشَرةً، فقال له دق مُسماراً، الولد جرَّب هذا ووجد أن هذه خُطة ناجحة، فشكر أباه على هذه الوصاة العاقلة، قال يا أبتِ لقد نفعت هذه الوصاة، نفعتني حقيقةً وقل غضبي، قال هل امتلأ اللوح بالمسامير؟ قال امتلأ، امتلأ بالمسامير! قال جيد، الخُطوة التالية يا بُني الآن كلما غضبت اعمد إلى هذا اللوح ذاته وانزع منه مسماراً، هذا أصعب قليلاً، فذهب! والغضب ينخفض دائماً، بعد ذلك قال يا أبتِ تقريباً تقريباً تغلَّبت على غضبي، صرت الآن أتحكَّم فيه، من الصعب أن يُغضِبني أو يستفزني أحدهم، قال لكن يا بُني أين اللوح؟ قال هذا اللوح، قال هل نزعت كل المسامير؟ قال نعم، قال كيف شكله؟ قال مُشوَّه جداً، قال كذلك هي قلوب مَن نُسيء إليهم في حال غضبنا، تتشوَّه، تتكسَّر، تتثقَّب، تُصبِح مُثقَّبة ومُمزَّقة، ومن الصعب إصلاحها!
اللهم إنا نسألك أن تُصلِحنا وتُصلِح بنا، وأن تهدينا وتهدي بنا، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك ونضرع إليك ونبتهل أن تجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
اللهم زيِّنا بالعلم، وجمِّلنا بالحلم، وأكرِمنا بالتقوى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا.
اللهم قنا…
(ملحوظة هامة) للأسف هذا المقطع غير مُكتمل.
(23/2/2007)
أضف تعليق