إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۩ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
وَمَا مُحَمَّدٌ – صلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه – إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩، منطق كثيرون في هذه الأمة اليوم لا يكادون يفقهونه وإن ترتَّلوه وتلوه تلاوةً أماني لا يعقلون منها إلا حرفها دون معناها فضلاً عن مغزاها، أنفارٌ وجماعاتٌ وفرق وطوائف من الناس يرون أن الزعيم إذا ذهب فقد تيتَّمت الأمة وضاع السبيل والتاثت حالها ولم تعد تدري شيئاً، هؤلاء لا يُمكِن أن يفقهوا هذه الآية ولا يفهمونها، والآية ليست في زعيم من الزعماء الهباء إنما في رسول الله، وهؤلاء الزعماء ليسوا من الزعماء العمالقة إنما من زعماء هباء لا وزن لهم ولا مقدار لهم إذا وُزِنَت الأمور بالقسطاس المُستقيم، فلا تتيتَّم الأمة ويلتاث أمرها إن هم قضوا أو ذهبوا أو عُزِلوا.
الآية في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي لم يكن زعيم شعب بل زعيم أمة في كل مراحل تاريخها وأدواره، فهو زعيم هذه الأمة إلى يوم القيامة وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهو نبيٌ بشيرٌ ونذير يُوحى إليه بالحق المُبين والهدي المُستقيم، ومع ذلكم الله – تبارك وتعالى – يقول لو ذهب وقضى – صلوات الله عليه – فالأمر مُستمسِك ويُمكِن للأمة أن تُتابِع لأن المنهج محفوظ والأمة راشدة والأمة واعية، فهى ليست أمة من القصَّر والصبيان والعيال، ولكن أمة فيها رجالها وفيها نساؤها وفيها كبراؤها وفيها ذوو شُراها وأصحاب حكمتها ورؤاها، وهكذا هى الأمم الراشدة والأمم الواعية، لكن القضية أن الجاهلية عادت من جديد وتسلَّلت واقتعدت مكانتها في ضمائر المسلمين وفي عقولهم وفي تراثهم وفي فقههم وفي علمهم وفي موازينهم، والمُؤسِف أنها لم تتسلَّل أو لم تعد مُتسلِّلةً من باب العامة والطغام وإنما أيضاً من باب الفقه والعلم، وعلى أيدي العلماء والفقهاء والأئمة عادت الجاهية، ومن أقبح صور وفصول هذه الجاهلية الفصل الذي نعته مولانا الشيخ محمد الغزالي المُعاصِر – طيَّب الله ثراه وأعلى في الجنة مقامه – ولم يُسبَق إلى هذا النعت المُوفَّق تماماً بالوثنية السياسية.
إذن هناك شيئ إسمه الوثنية السياسية، فليست الوثنية فقط في قضايا الاعتقاد الصرف بما يختص بوحدانية الله وفرادته – سبحانه وتعالى – وإنما أيضاً في باب السياسة حين يُؤلَّه بشرٌ من لحم ودم أو يُوشِك الناس أن يُؤلِّهوه،على كل حال اعترفوا أم لم يعترفوا بأنهم يُؤلِّهونه هم يُعامِلونه ويطلبون مُعامَلته على أنه إله يُحيي ويُميت ويرفع ويخفض ويمنح ويمنع، فلا حساب عليه ولا مُسائلة له ولا نقد له مهما فعل ما فعل فهو إله، وهؤلاء يتخوَّضون بل يتورَّطون في وثنية حقيقية دون أن يدروا، فلابد أن يُشعَروا ولابد أن يُقال لهم “استيقظوا، أنتم تعبدون هذا الرجل من دون الله تبارك وتعالى”.
الله – عز وجل – في سورة براءة قال في حق أهل الكتاب اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ۩، أي اتخذوا المسيح واتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً.
يروي الإمام الترمذي في سُننه عن عدي بن حاتم الطائي – رضيَ الله عنه – قائلاً “دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وهو يتلو هذه الآية من سورة براءة اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ۩، في رواية عند غير الترمذي بزيادة، فقلت يا رسول الله – عدي استفصل أو اعترض مُستفصِّلاً – إنهم لم يعبدوهم، إنهم لم يتخذوهم أرباباً، قال أنا لستُ مع هذا الحرف، وطبعاً عدي لم يكن مسلماً ساعة إذ، بدليل أنه قال دخلت والصليبُ مُعلَّق في عنقي، فلما رآه النبي قال يا عديُ اطرح عنك هذا الوثن، ولذلك اعترض كالمُستفصِل إنهم لم يتخذوهم أرباباً، فلا يُوجَد حبرٌ يُعبَد من دون الله ولا يُوجَد قسٌ ولا حتى بابا يُعبَد من دون الله، فهذا غير صحيح ولم يحدث في التاريخ وإلى اليوم لم يحدث لكن القرآن يقول اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ۩، فانظروا إلى القرآن وإلى فهم مَن أُنزِل على قلبه القرآنُ – صلى الله عليه وآله – فهو يقول عليه الصلاة وأفضل السلام “أليسوا قد أحلوا لهم الحرام فاستحلوه وحرَّموا عليهم الحلال فحرَّموه، فتلك عبادتهم”، وهذا اللفظ “فتلك عبادتهم” ليس عند الترمذي وإنما عند غيره كالبيهقي رحمة الله تعالى عليه، فهذه هى العبادة.
إذن هناك مرجعية للأمة لا يتخطَّاها أحد، لا عالم ولا حبر ولا إمام ولا عامة، هذا ممنوع، فإن تخطَّاها أحد كان رباً، ومَن استمع إليه ودان بحكمه فقد اتخذه رباً من دون الله والعياذ بالله، هذا هو القرآن وليس كما نظن نحن، فبعض المسلمين اليوم يظن أنه بمُجرَّد قوله “لا إله إلا الله” نجا وانتهى كل شيئ، فيفعل ما يفعل ويعتقد ما يعتقد ويقول “أنا من أهل لا إله إلا الله”، وهذا غير صحيح، فكل ما يُحل يُمكِن أن يُنقَض كذلك، وإلا ما معنى أن يُؤمَر الرسول ومَن معه بأن يستقيموا كما أُمِروا؟!
قال الله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ۩،فالله لم يُخيِّره، وهذه الآية شيَّبت رسول الله، قال الرسول “شيَّبتني هودٌ وأخواتها”، فما الموضع الذي شيَّبه – صلى الله عليه وآله وأصحابه – وعجَّل بالشيب إلى رأسه يغزوه؟!
الله لم يقل له فاستقم كما أحببت وكما هويت وكما اشتهيت وكما شئت وكما استطعت وقدرت، وإنما قال فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ ۩، والطغيان هو الخروج عن حد الاستقامة، فعبادة الشيطان طغيان وكذلك عبادة كل طاغوت، والطاغوت هو ما عُبِد من دون الله، ولذلك الحاكم قد يكون طاغوتاً والقاضي قد يكون طاغوتاً والمُفكِّر والفيلسوف والمُصلِح قد يكون طاغوتاً، فكل ما يُطاع ويُعبَد من دون الله وعلى الضد من أمر الله وشرعه هو طاغوت، والذين يعبدونه إنما يعبدون طاغوتاً، قال الله وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩، فمُجاوَزة الحد طغيان، وهذا الحد مُلزِم للجميع بما فيهم وبمَن فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو المأمور بقول الله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ۩، فلا يُوجَد استثناءات، لكن عجبٌ لأمر هذه الأمة والله – عجبٌ لا يُقضى منه العجب – حيث جاءوا ليس للرسول وإنما إلى أنفار من أصحابه بعضهم غيَّر وبدَّل وأساء إلى الإسلام وأهله وشرعه ومنهجه ورؤيته وقالوا “هؤلاء صحابة لا نتكلَّم فيهم ولا نسمح بالكلام فيهم، والكلام فيهم علامة الزندقة وعلامة النفاق وعلامة الكذب”، فيا للعجب العاجب وكأن القرآن لم يتحدَّث عن مُنافِقين في الصحابة وكأن الرسول لم يُقرِّر أن في أصحابه مُنافِقين، فالنفاق عندهم أن تتكلَّم في أي صحابي حتى لو كان مُنافِقاً وحتى لو كان طاغية وطغى عن أمر الله وغيَّر وبدَّل وحتى لو حذَّرنا منه رسول الله مرة وعشر مرات وقال “احذروا من هؤلاء سيُبدِّلون ديني”، والعجيب أن الشيخ الألباني المُعاصِر – لعلي ذكرت هذا قبل فترة – صحَّح حديث “أول مَن يُغيِّر سُنتي رجلٌ من بني أُمية“، والمقصود مُعاوية طبعاً، والألباني قال “هذا الحديث صحيح”، وأكَّد الألباني أن مُعاوية غيَّر سُنة الرسول، فالنبي حذَّر منه ولم يبق إلا أن يذكره بالإسم ومع ذلك يُقال لك “زندقة ونفاق أن تتحدَّث في أي صحابي” رغم أنه قتل وسرق وغيَّر الدين وبدَّل السُنة وألَّب المسلمين بعضهم على بعض وبغى على إمام الزمان وفعل الأفاعيل وأورثنا كل هذه المسائخ والمساخر من النفاق!
والعجيب أن النفاق كان مذكوراً بين الناس وهو مذكورٌ في كتاب الله وعلى لسان رسول الله ومُحذَّر منه في سور أيام كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين ظهراني الناس، والنبي حي يُرزَق بين ظهرانيهم وفي نفاق ينجم ويُحذَّر منه ويُتلى فيه قرآن، فلما تُوفيَ الرسول – يا للعجب – صارت طريقة المسلمين في التفكير تدور على أن الأمة صفت وراقت ورقَّت وهى الآن كلها طبقٌ واحد من المُخلِصين، فممنوع تتحدَّث في أي صحابي، فإذا كان هناك أي مُنافِق فقد مات، وكأن سبب النفاق هو وجود الرسول، فلما كان موجود صاحب النور المُبين كان يُوجَد النفاق، لكن عندما مات الرسول وجاء مَن هم دونه – وكل مَن تلوه دونه، حتى الخلفاء الراشدون لأن لا أحد يُقاس برسول الله – قالوا لك أن الأمةالآن ليس فيها أي نفاق والحمد لله، فالأمة الآن صفت، وكأن العلة في الرسول وفي وجود الرسول، وطبعاً لا أحد يقول هذا ولكن لا أحد يتفطَّن إلى أن وجود رسول الله بنوره الذي أضاء منه كل شيئ في المدينة لم يمنع وجود النفاق، يقول أنس كما ثبت عنه لما جاء رسول الله إلى المدينة في الهجرة “والله لقد أضاء منها كل شيئ، فلما تُوفيَ لقد أظلم منها كل شيئ”، لكن مع وجود النور كان يُوجَد النفاق، فوجود رسول الله ليس عصمة من أن يكون في أصحابه أنفار من المُنافِقين، والقرآن ذكرهم والنبي ذكرهم ويعلم بعضهم ولم يُعلِمه الله ببعضهم الآخر لأن الله لم يشأ أن يهتك أستارهم، وهذا موجود في كتاب الله ومع ذلك يقولون لك “هذا صحابي، فممنوع أن تتكلَّم وأن تُجرِّح حتى وإن نافق وغيَّر وبدل”، وهذا نوع من تقديس الأشخاص ونوع من الوثنية والعياذ بالله، فالواحد من هؤلاء يُخالِف المنهج ثم لا يُتكلَّم فيه ولا يُحذَر من فعله، وطبعاً هذا أورثنا أن قام أحد مشائخ العصر الآن وهو شيخ مشهور جداً في بلده وله منبر وله أتباع ليقول أن أعظم ذنب تلقى به الله هو أن تتظاهر ضد الحاكم، ويُمكِن أن تسمعوا هذا في الإنترنت Internet، ادخلوا واكتبوا هذا وسوف ترون كل شيئ دون أن أذكر أسماء، وهذا شيئ فظيع جداً، لكن لو سألت الآن أي صغير من أولاد المسلمين وصبيانهم عن أعظم ذنب يلقى العبد به ربه فإنه سيقول لك أن أعظم ذنب هو الشرك أو الكفر، لكن قد يقول لك هذا الشيخ أنه يقصد أعظم ذنب يحتقبه المُسلِم لأن خطابه مُوجَّه إلى المسلمين، ومن ثم سنقول له أن أعظم ذنب يلقى العبد به ربه بعد الشرك هو قتل النفس المُحرَّمة، علماً بأن بعض الناس قال أن أعظم ذنب بعد الشرك هو ترك الصلاة، لكن الأرجح والأصح أن أعظم ذنب هو قتل النفس المُحرَّمة وفيه من التغليظ ما ليس في غيره بعد الشرك، أما هذا الشيخ فقال “أعظم ذنب تلقى الله به أن تتظاهر ضد الحاكم وضد النظام أو أن تُؤيِّد أو تُشارِك أو ترضى عن المُظاهَرات“، وعُدنا الآن إلى أحمد مطر والمُحاسَبة حتى على النيات والدخائل والضمائر، فكيف تعرف أنني أرضى أولا أرضى؟!
والأعجب أنه عندما قال لك “لن تلقى الله بذنبٍ أعظم من هذا الذنب وهو أن تتظاهر أو تُشارِك أو تُؤيِّد أو ترضى بمَن يفعل هذه الأفاعيل المُنكَرة” كان يُريد أن الجزاء واضحاً وهو أنك ستكون في جهنم خالداً مُخلَّداً إلا أن يشاء الله لأن هذا أعظم ذنب،وهذا غير صحيح طبعاً ويدل على حجم التحريف والتزييف، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، لكن ما هو الجزاء الذي سيلقاه هذا الشخص في الدنيا يا مولانا؟!
قال “للحاكم أن يتصرَّف مع هؤلاء بما يراه من قتلٍ أو سجنٍ أو إبادةٍ أو أي عقابٍ يراه”، واسمعوا إلى الفقه – ما شاء الله – الذي يصدر عن شيخ في الثمانين من عمره بعد أن قضى حياته في العلم والكتاب والسُنة وهذه هى فتواه، فهذه الفتوى لا يُعطيها رجلٌ عنده ذرة من ضميرٍ دينيٍ صاح، فلا يُمكِن أن يُقال لحاكم “أنت مُطلَق السراح والتصرف وتستطيع أن تقتل أو تُبيد”، فهو قال “أن الحاكم يستطيع أن يقتل أو أن يُبيد”، لكن ما الفرق بينهما؟!
يقتل تأتي مع القتل الفردي، أما يُبيد فيُقصَد بها الإبادة الجماعية طبعاً، فلا يُقال أباد فرداً، وإنما يُقال أباد خضراءهم، فالإبادة تكون للجماعة، ومن هنا قال هذا الشيخ للحاكم “تستطيع أن تقتل بالمُفرَّق وبالقطاعي، وتستطيع أن تقتل بالجُملة قتلاً مجموعياً”، أي أنه يُحرِّض على القتل والإبادة والسَجن، ولعله قال “سِجن” ولم يقل “سَجن” فهو لا يُفرِّق بين الاسم والمصدر، لكن على كل حال دعا إلى السَجن أو إلى أي شيئ يراه الحاكم، فمَن يقول هذا؟!
ترون لو سمع هذا أحد الغربيين الآن ماذا سيقول؟!
سيقول “هل هذا هو دينكم وشرعكم ومُفتيكم وفقيهكم ونصكم؟ إذن حُقَّ للعالم أن يكفر بهذا الدين وبكم”، فهذا غير معقول، وأين الفصل بين السُلطات؟!
المفروض أن الذي يتولَّى هذا القضاء وليس السُلطة التنفيذية، لكن هو يُعطي السُلطة التنفيذية المُتمثِّلة في ولي الأمر أو الحاكم أو السُلطان هذا الاختصاص ويقول “الحاكم له أن يفعل ما يشاء”، فأين هذا الشيخ – عفا الله عنه وعنه – من الإمام عامر بن شراحيل الشعبي؟!
الشعبي كان من ضمن الذين خرجوا في ثورة ابن الأشعث، خرج حاملاً للسيف على ظلم بني أمية، فعامر بن شراحيل الشعبي كان من الخارجين، والشعبي هو إمام الكوفة المُتوفى سنة ثنتنين ومائة للهجرة، وحين بلغه أن الزهري حدَّث الوليد بن عبد الملك بحديث إنه لا ينبغي للإمام – أي للحاكم – أن يُناشَد ولا يُكذَّب ولا يُدعى بإسمه قال “لعنة الله على الزهري إن كان حدَّثه بهذا”،
والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وهو إمام المُحدِّثين في عصره، ومع ذلك قال عنه الإمام الشعبي “إن حدَّث الظالم بهذا فلعنة الله عليه”، فهذا هو!
أين هم من سُفيان الثوري؟!
سُفيان الثور قال له المنصور يا سُفيان أو يا شيخ لم لا تأتينا؟!
يقصد أنك أنت لا تأتي إلا بالقوة، فنحن نُلزِمك أن تأتي، فقال له “لأني سمعتُ الله يقول وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا – دخولي عليك يُعَد ركوناً إليك، فلا أدخل عليك ولا أُريد أن أزورك ولا أن أراك – فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ۩”.
نعود إلى رسول الله وإلى أوثان الأمة، فالحمد لله الرسول لم يستحل وثناً لا في حياته ولا بعد وفاته وهو الداعي المُستجاب الدعوة الذي قال “اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبَد”، أي لا يُعبَد في حياتي ولا بعد موتي، وهذا لم يحدث إلى اليوم بفضل الله تبارك وتعالى.
إذن الرسول مأمور بالاستقامة كما أُمِر وهو الرسول، فكيف بالحاكم أو بالخليفة أو بالعالم؟!
رغماً عنه لابد أن يكون مأموراً بالاستقامة، فهل هذا الحاكم أعظم من الرسول مثلاً؟!
هذا غير معقول، ولكي لا أبدو مُبالِغاً أو مُنفعِلاً أُحِب أن أقول لكم: ادخلوا على الشبكة العنكبوتية – وكم فيها من نسيج العنكبوت والعناكب ذكوراً وإناثاً – وسوف ترون مَن يرم أنفه ويسخط ويغضب ويحزن لمُجرَّد مُطالَبة أن يُحاكَم الرئيس الفلاني مثلاً، ويستنكر هذا ويقول “أنتم جماعة تائهون، أنتم جماعة كذا وكذا، هذا رئيس وهو زعيم الأمة وزعيمكم حتى وإن ظلم وتعدَّى”، وهم يكتبون هذا ويعرفون أنه ظلم وقتل وانتهك الأعراض وسلب الحريات وترك الدنيا والبلد خرائب ومسائخ، ولكنهم يقولون لك قال رغم كل هذا يبقى هو الزعيم، فما معنى هذا؟!
هناك منطق ثاوٍ خلف هذا الكلام، هذا الرجل وثني، فوالله الذي لا إله إلا هو – وأنا على منبر رسول الله أُقسِم بالله – هذا الرجل عنده وثنية، واضح أن عنده وثنية، فهو يقول لك: هذا الزعيم لا يُمكِن أن يُحاكَم، كيف يُمكِن أن ينسلك في الدماغ أن الزعيم يُؤتى بها ويُحاكَم ويقف في التخشيبة ثم يُوضَع في السجن ومن المُمكِن أن يُعدَم؟!
هذه مُصيبة بالنسبة له، وكأن الحاكم لا يُقتَص منه ولا يُحاسَب ولا يُسأل، أي أن الحاكم أصبح إلهاً إذن.
أنا أستطيع أن أفهم أن للحكم وللسُلطة المُطلَقة سكرة تُوسّوِس لأصحابها، فهى تُوسَوِس لأصحاب المُلك المُطلَق والسُلطة المُطلَقة بالتألّه والتجبّر بحيث يرون أماثل قومهم أقزاماً ومَن دونهم هباءً، أنا أستطيع أن أفهم هذا، فالواحد منهم يكون مُتجبِّراً ولا يرى إلا نفسه، فلا يرى أن هناك مَن له قيمة في أمته أو في شعبه، بل يرى العمالقة في أمته أقزاماً، أما مَن دون العمالقة فلا يراهم إلا هباءَ، هذا إن رآهم أصلاً، فهم لا وزن لهم عند السُلطة المُطلَقة، وأنا أفهم هذا جيداً ولكنني لا أستطيع أن أفهم أن يأتي صعلوك من الصعاليك الذين داسهم هذا الظالم بطغمته وزبانيته ولايزال يدوسهم ويدوس على كرامتهم المادية والمعنوية لكي يُدافِع عن تألّه وتجبّر هذا الحاكم.
الله – عز وجل – يقول أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ۩، هل يُمكِن لأحد يُحاجِج في الله وأن يقرن نفسه برب العالمين؟!
إبراهيم يقول له رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ۩ فيرد عليه قائلاً أنا مثل الله ولا يُوجَد فرق بيننا، قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ۩، فهذا الرجل عزب عنه العقل وجُنَّ ولم يبق عنده عقل، فهذا النمرود مجنون مثل كل مجانين الطواغيت في دنيا العرب وفي دنيا المسلمين اليوم، وتقريباً لم يبق من هؤلاء إلا في دنيا المسلمين، فالعالم كله بدأ يتحرَّر ولكن ما زال في ديار الإسلام أمثال هؤلاء المُتجبِّرون المجانين مُنفلِتوا العقال،
ذكر الله – تبارك وتعالى – السبب في القرآن وهو أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ۩، فهو جعل عيار نفسه من عيار الله – أستغفر الله العظيم – وقدره من قدر الله ومقامه من مقام الله وأصبح مُتجبِّراً ومُتألِّهاً لأن عنده مُلك، فالمُلك أسكره ومن هنا ضيَّع له عيار عقله، فلم يُصدِّق ما هو فيه وأعتقد أنه أذكى من كل أمته وأنه أحكم من كل أمته، فهذا شروى نقير من بلائه وجهاد إن جاهد وإن أبلى، وبعضهم لم يُجاهِد ولم يُبل شيئاً، فبعض هؤلاء الزعماء – والله – لم يُطلِق طلقة واحدة في سبيل وطنه ولكنه فقط جاء على الحكم في ليلة مشؤومة امتد بها الظلام إلى اليوم، فهذا شروى نقير مِما قدَّم فيجعله يرى لنفسه مُسوَّغية أن يذبح الشعب كله ويقول أنه هو المُناضِل والمُجاهِد الذي قدَّم وسوَّى، فلا شكر الله سعيه ولا سعي أمثاله، فالناس ماتت وأولادها ماتت في سبيل الوطن ولم يُرد أي أحد منهم أن يستعبد عباد الله مثلما يفعل هذا الحاكم الظالم الذي يُريد استعباد الناس من أجل أنه في يوم من الأيام أطلق طلقة أو ركب طائرة، فما هذا الكلام الفارغ؟!
ما هذا الجنون؟!
إنها السُلطة المُطلَقة، لكن كما قلت العجب يأتي من هؤلاء المشائخ وليس من هذا المجنون الذي أتاه الله المُلك، قال الله أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ۩، وكأنه يقول “من أجل أن الله أتاه المُلك جعل نفسه في مقام الله وصدَّق أنه أصبح إلهاً”، لكن الله قتله ببعوضة دخلت في أذناه فجنَّنته ومات شر ميتة، فالله فعل هذا ببعوضة ومن المُمكِن أن يقتل أمة كاملة وحضارة كاملة بفيرس Virus واحد لو شاء عز وجل بل وبأحقر من فيرس Virus، فالمُشكِلة إذن ليست في هؤلاء الطواغيت بقدر ما هى في هؤلاء الصعاليك المدوسين الذين يُدافِعون في حُمية من الحماس والصدق عن هؤلاء الحكام، ورأينا بعض هؤلاء في التلفاز يبكون بكاءً مُراً ويقولون: كيف يُهان الزعيم أو يُتكلَّم في حقه فيُلجأ إلى طلب العفو؟!
علماً بأنه لم يُطلَب أي أحد منهم العفو، ولكن قد يقول أحدهم أنه لن يترشَّح مثلاً، ومع ذلك يقول هؤلاء: كيف تضعونه في هذا الموقف؟!
الله أكبر ياوثن، أنت وثن وتعبد وثناً، لكن اسمعوا الآن إلى حديث أبي سعيد الخدري عندما أتى الرسول – صلى الله عليه وسلم – شيئاً فجلس يقسمه في الناس، فالنبي جاءه شيئ من مال أو ذهب أو فضة وجلس لكي يُقسِّم هذه الأشياء لأنه لا يأخذ شيئاً لنفسه، فهو عاش ومات فقيراً لأنه قال لهم “إني لا أُصيب شيئاً من مالكم هذا إلا الخمس، والخمس فيكم مردود”، فالخمس له ولأهل بيته ومع ذلك يُرجِعه لنا دائماً، فعاش فقيراً وأهل بيته فقراء، ففاطمة – عليها السلام – عاشت كذلك ولم تفرح حتى بلباس واحد مثل سائر النساء لأن النبي قال لها نحن لا نُريد هذه الطيبات، فنتركها لهم، ونحن لنا الآخرة، وبالأمس كنت أُحدِّث أحد إخواني في مجلس – بعض مَن يجلس الآن كان حاضراً في هذه الجلسة – وقلت له “عجيب يا أخي ترم أنوف أُناس من أجل أن مُعاوية – مثلاً – يُنتقَد، ولكن لا ترم أنوفهم من أجل أن فاطمة تُسَب بنت محمد”، فقال لي أين هذا؟ فقلت له “شيخكم كتب هذا في كتاب وقال فاطمة غضبت على أبي بكر من أجل فدك، ثم أخذ يُقرمِّط الكلام ويذهب ويعود إلى أن قال بمعنى كلامه أن وضع فاطمة ومَن يغضب لها فيه مثلٌ مَن مَن قال الله فيهم فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ۩” وأُقسِم بالله أنه قال هذا، ولذلك هذا الشيخ – رحمة الله عليه – اتهمه نفر من عظماء علماء الأمة في عصره بالنفاق وقالوا “هذا مُنافِق لأنه يقدح في عليّ وفي فاطمة”، فلماذا تقدح في فاطمة؟!
اقدح في مَن أكلوا الأمة وأموال الأمة وليس في فاطمة الزهراء البتول بنت محمد عليهما السلام، ما هذا الحقد وهذه النفوس المريضة؟!
أحياناً يقول لك أحدهم أن من أفضل ألا تعلم، وإلا سوف تمرض وتعتل لأنك لن تُصدِّق ما تقرأ وما تقع عليه عيناك، لكن هكذا هى القلوب المنكوسة، وعلى كل حال نعود إلى حديث أبي سعيد الخدري، يقول أبو سعيد الخدري “بينما رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلَّم – يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه بعرجون فجرح بوجهه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: تعال فاستقد، فقال: بل عفوت يا رسول اللَّه”
وهذا الرجل كان طمَّاعاً فلم يستطع أن يمتلك أعصابه لأنه ذُهِل من منظر الذهب والفضة، فطعنه النبي بعرجون فأُخجِل وولَّى، لكن انظروا الآن ماذا سيقول رسول رب العالمين له رغم أنه طعنه بالحق، ولو أعطاه كفاً على وجهه لاستحق هذا، فهل تخاف يا رجل أن يحيف الله عليك ورسوله؟!
لا تخاف، سوف يُصيبك حظك من هذه المقاسم، فلماذا تخاف وتضع رأسك من دون كل الناس؟!
لكن الرجل كان مُستعجِّلاً ومُندلِعاً مثل بعض الناس الطمَّاعين الذين لا يستطيع الواحد منهم أن يُقاوِم طمعه وجشعه، فهو منهوم على الدنيا وعلى المال، في حين أنه كان ينبغي على هذا الرجل أن يكب على رجل الرسول فيقبِّلها من أسفل ويُقبِّل يده بدل أن يُقبِّل الذهب، لكن هؤلاء موجودون في كل مكان على كل حال، ولذلك النبي طعن هذا الرجل فولى، لكنه أمره بالرجوع بعد ذلك وقال له “تعال فاستقد”، أي تعال يا عبد الله واقتص مني، فالنبي لم يُميِّز نفسه وهذا الأمر لابد أن ننتبه إليه حتى نفهم الدين الصحيح، لكن الدين ضاع ويضيع – والله العظيم – مع هؤلاء المشائخ حقيقةً دون أن أُبالِغ، فجوهر الدين وروح الدين – والله العظيم – يضيع مع هؤلاء وبهؤلاء الذين فتنوا الناس وهم يتحدَّثون عن الفتنة وعن الذي يسعى فيها وفي الفساد، وسوف نرى مَن المفتون ومَن المُفتَّن ومَن دُعاة الفتنة الذين هم من أمثالك يا شيخ، فعفا الله عنك وعنهم رغم أنكم فتنتم الناس في دينهم وعن دينهم.
هذا هو الدين الصحيح، هذا دين العدل، فمحمد بُعِث بالعدل وبالقسطاس المُستقيم، والنبي أُشرِبَ العدل والقسط، لذلك قال للرجل “تعال فاستقد”، فماذا قال الرجل؟!
قال “بل عفوت يا رسول اللَّه”، كأنه يقول “هذا حقي وتركته وعفوت فعلاً، وقد كنت تستطيع أن تزجرني بكلمة ولكنك طعنتني بعرجون لكي أتأخَّر، ولكنني عفوت”
إذن النبي عرف أن الله سيسأله عن هذه الطعنة يوم القيامة، فكيف تُعطوا ولي الأمر فتوى مفتوحة وتقولون له “اقتل وأبد واسجن وصادر وافعل ما تُريد وما تشاء وما يحلو لك”؟!
أي فتوى هذه؟!
أي دين هذا؟!
هذا لا يُمكِن أن يكون ديناً، هذا مُستحيل ولا يُمكِن أن يصدر إلا عن فقيه ستاليني – في عهد ستالين Stalin – أحمق، فيُعطي مثل هذه الفتوى ويقول لستالين Stalin “أنت مُخيَّر وافعل ما تشاء”.
وتعرفون حديث الصحابي الجليل سواد بن غزية يوم بدر، فهو بدري هذا وشهد خيبراً بعد ذلك بسنين، لكنه كان مُنسَّلاً وناتئاً من الصف كاشفاً بطنه عن عمد لأن كان رجلاً ذكياً، وكان النبي يُعدِّل الصفوف وبيده سواك فلما رآه خارجاً عن الصف طعن في بطنه بالسواك قال له وأمره بالاعتدال والدخول في الصف لأنه في الجيش ولابد من احترام النظام، فقال له “يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل فأقدني”، والآن تعال يا رسول الله وتعال يا سواد بن غزية لكي تروا ماذا يُفعَل بالمُتظاهِرين السلميين وبرجال أمة محمد اليوم في سجون العرب وفي شوارع العرب، تعالوا لكي تروا كيف تُهتَك أعراض الرجال في السجون والزنازين، لكن في أي بلاد سافلة وحقيرة يحدث هذا؟!
في بلادنا، لأن بلداً يسمح بهذا هو بلد حقير وسافل، فإذا أراد أن يُصبِح بلداً كريماً ورفيعاً عليه أن يُطهِّر نفسه من هؤلاء الظلمة الأوغاد، فهم ليسوا أقل من أوغاد ومن ثم لابد من التطهر منهم.
على كل حال نعود إلى حديث سواد بن غزية الذي قال “يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل فأقدني”، فأعطاه النبي السواك وقال مُباشَرةً “اقتد يا سواد”، كأنه يقول له أن هذا هو حقك والحق أحق أن يُتبَع ومن ثم اقتد امني، فقال له “يا رسول الله لم تُنصِفني”، أي أن هذا لا يكفي، فلماذا إذن لا يكفي؟!
قال “أنت طعنتني وبطني عارٍ”، أي أن بطني كان مكشوفاً في حين أن بطنك عليه قميص، فكشف النبي عن بطنه الشريف – صلوات ربي وتسليماته عليه – وقال “اقتد يا سواد”، فأقبل الصحابي الجليل على بطنه يُقبِّله ويبكي، فقال الرسول “ما أردت إلى هذا يا سواد”، كأنه يقول له أنت شوَّشتني، فما هذا الذي تفعله؟!
قال “يا رسول الله قد حضرني – وفي رواية قد حضر – ما ترى ولا آمن الموت فأحببت أن يكون آخر العهد منك – أي آخر عهدي بك – أن يمس جلدي جلدك”، فدعا له النبي بخير.
هل رأيتم كيف كان رسول الله وكيف كانت عظمته؟!
أنا أضمن لكم أن هذا الرجل الذي فعل هذا مع رسول الله لا يُمكِن أن يكون عبداً ذليلاً، أما نحن فالله أعلم هل نحن أذلاء أم غير ذلك، لكن نحن نستمع إلى الكلام من أذن ونُخرِجه من الأذن الأخرى على عكس جيل هؤلاء، جيل يتربَّى على هذه النصوص وعلى هذا الفهم – والله العظيم – يدك صروح الظلمة ولا يُمكِن أن يصبر عليها ليلة، ولكن نحن تربَّينا على أفكار مُختلِفة وعلى مقولات مُختلِفة تماماً، لقد زيَّفنا واستنزفنا وضحك علينا وغسل أدمغتنا أمثال هؤلاء الشيوخ من عُبَّاد الأوثان وعُبَّاد السلاطين، فهؤلاء ليسوا عُبَّاداً لله، هؤلاء عُبَّاد السلاطين.
ابن مسعود – رضوان الله عليه – يقول “كنا في بدر – أي في معركة بدر – كل ثلاثة على بعير نتعاقبه – لا يُوجَد بعران عندهم، هم كانوا ثلاثمائة وخمسة عشر فرداً وكان عدد البعير لا يتجاوز ستين أو سبعين بعيراً -، وكان أبو لبابة وعليّ بن أبي طالب – رضيَ الله عنهما – زميلي رسول الله – صلى الله عليه وآله – يتعاقبا مع الرسول – حتى الرسول، قائد الجيش وزعيم الأمة ورسول رب العالمين الذي لايزال الوحي الغض الطري يتنزَّل عليه في أصابحه وأماسيه كان يفعل هذا مع أصحابه، هذا الرسول وليس مُجرَّد حاكم، ومع ذلك لم يتفرَّد بجمل أو فرس له دون الآخرين، بل كان يركب كما يركب مَن كانوا معه، فيتعاقب مع أبي لبابة وعليّ بن أبي طالب عليهما السلام على ركوبة واحدة -، وكانت عُقبة رسول الله – العقبة تعني الدور Runde – فقال “يا رسول الله نحن نكفيك، تركب ونمشي”، كأنه يقول له فأنت رسول الله ولا ينبغي أن تكون مثلنا، فقال “لستما بأقوى مني، ولستُ بأغنى عن الأجر منكما”، أي أنه يُريد الأجر فالقضية لا تتعلَّق بالدنيا فقط، فلو كان النبي يُريد الهيل والهيلمان لسلخ جلباب النبوة – وحاشاه وكلا إلى يوم الدين – وعاش ملكاً من أول يوم من أيام مكة لما قالوا له إن شئت ملكا ملكناك علينا، وإن شئت نساء زوجناك أجمل بناتنا، وإن شئت مالا جمعنا لك حتى تصبح أغنانا، وإن شئت ملكا ملكناك أمرنا حتى لا نقطع أمرا دونك”، فرفض هذا وقال “والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته”، فالنبي لا يُريد هذا، وإنما يُريد الآخرة ويُريد العدل، والنبوة والعدل ليسا للآخرة وإنما للدنيا، لكي تسعد بها الدنيا وأهل الدنيا، فقال الرسول إذن “لستما بأقوى مني، ولستُ بأغنى عن الأجر منكما”،أي أني مثلي مثلكم، أنزل من على الركوبة لكي يركب فرد آخر غيري ومن ثم نرحم البعير، وحينما يأتي دوري سوف أركب وهكذا.
يا الله، ما هذا الذي يحدث؟!
لذلك كنت ولا أزال – والله العظيم – أستنكف وأستنكر ولا يُعجِبني أن تُحجَز المقاعد في أي حفل أو مُلتقى إسلامي لأُناس دون أُناس، لا يُعجِبني هذا وأستنكره من على منبر رسول الله ولا أُحِبه، وأقول للمسلمين وللإسلاميين “دعوكم من هذه المظهريات الكاذبة المُرائية، هذا رياء فارغ، مَن حضر أولاً يجلس أولاً، فإذا حضر عالم ما مُتأخِّراً عليه أن يجلس في الصف الخامس أو العاشر وسيبقى عالماً ولا مُشكِلة في هذا، فالعالم عالم سواء جلس في المُقدِّمة أو في المُؤخِّرة، الرسول كان يجلس حيث انتهى به المجلس، فلم تُوطَّن له المجالس بل ونهى أن تُوطَّن المجالس، فلا تقل لي أن هذا المجلس لفلان سواء في المسجد أو في غيره ومن ثم فهو محجوز له، لا يُوجَد هذا الكلام في الدين، الرسول كان يجلس حيث انتهى به المجلس، لأنه أراد أن يُعلِّمهم أننا إخوة نتعاون على البر والتقوى ونتناكر في الإثم والعدوان ونتناهى، هذا هو الرسول الذي لم يكن وثناً ولم يكن صنماً ولم يسمح بتوثين نفسه وتصنيمه، لم يسمح – صلى الله عليه وسلم – بهذا أبداً، وأصحابه ساروا في نفس السكة”.
لعمر كلمة عظيمة تقول “إنه لا يبلغُ لذي حقٍ في حقه أن يُطاع في معصية الله”، هذه جملة واحدة ولكنها بليغة وفصيحة، قال ” لا يبلغُ لذي حقٍ في حقه أن يُطاع في معصية الله”، ، أي أحد سواء كان أمير المُؤمِنين أو غيره لا يمتلك صلاحية أن يُطاع في معصية الله بدعوى أن هذا هو حقه وهذا غير صحيح، حقه أن يُطاع في الطاعة وأن يُعصى في المعصية وقد يُقاتل وقد يُعزَل وقد تُدَّق عنقه، هذا دين الله وهذا الذي فعله الصحابة وأبناء الصحابة وأتباعهم، هم فعلوا هذا وتهمموا به دائماً لأنه لا مكان للوثنية عندنا ولا لعبادة أشخاص من دون الله، الله يقول لرسول الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩،
أي أن هؤلاء عبادي ومن ثم فالأمر لي وليس لك، والأصل أن المسافة واحدة، فهذا رب وهذا عبد، لكن التفاوت يحدث من جهتك كعبد بالتقرب إلى الله بالعبادة والطاعة ومُلازَمة الأمر الإلهي، هذا هو وإلا كلنا عبيد عنده لا إله إلا هو، فنحن جميعاً عبيده ولا يُوجَد منا مَن هم أولاد للرب – أستغفر الله العظيم – أو أحفاد لله أو بنات لله في حين أن هناك مَن هم عبيد لله، هذا غير صحيح لأن كلنا عبيد لله، والعدل سيف مُسلَّط على الجميع.
قبل أيام أحد كان يُناقِشني أحد إخواني في القذَّافي الملعون وجماعته، وكنت أرد عليه في أشياء تختص بالقتل والتكفير فقلت له “القذَّافي ثبت عليه ما ثبت طبعاً مما يُخرِجه من الملة، لكن لو لم يثبت عليه – والله العظيم – لن أفوه بكلمة تكفيره لأنني سأُسأل عنها يوم القيامة، من المُمكِن أن أُحارِبه وأن أُعلِن بعدائي له وبمظالمه ولكن إذا لم يثبت عليه كفر لا أقول أنه كافر، وإذا لم يثبت على أحد من كتائبه ما يُوجِب القتل فلا أُفتي بقتله لأنني لا أُعطي فتوى بالجُملة” وبعد حوالي ساعة بدأ هذا الأخ يستوعب منطقي ثم قلت له “هذا الدين يا أخي، لا يُوجَد لعب بالدين ومن ثم لا يبنغي عليك أن تلعب، بل يجب أن تقوم بالحق وأن تقول بالصدق مع العدو قبل الصديق، قال الله أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩، فيجب عليك أن تعدل ولو على حساب أبيك وأمك”، لكن النبي يعلم أن مُعظم الناس يعجز عن هذا ويكع عنه ومن ثم يفشل في الامتحان، ولذلك قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث عوف بن مالك “إن شئتم أيها الناس أن اُخبِركم عن الإمارة أخبرتكم”، قال عوف بن مالك”فقمتُ له وقلت يا رسول الله – بأعلى صوت – أخبرنا عن الإمارة”، علماً بأن عوف بن مالك كان صوته عالياً فهو يُريد من الناس أن تسمع، فطلب من الرسول أن يُخبِرنا عن الإمارة والحكم والسُلطان والرئيس والوزير وهذه القصة كبيرة، قال” فقال عليه الصلاة وأفضل السلام الإمارة أولها فتنة وثانيها ندامة وآخرها عذابٌ يوم القيامة إلا مَن أخذها بحقها وعدل فيها وكيف يعدل في قريبه؟”،أي أن النبي قال أنه يعلم أن هذا يُعَد صعباً، فليس كل البشر أنبياء مثله ولا هم كالصفوة المُستخلَصة المُختارة من أصحابه وهم قلة، فمِن الصعب أن يعدل المرء في نفسه أوفي قريبه، لكن يجب على المرء أن يعدل في نفسه وفي قريبه وفي أبيه وفي أمه، ومع ذلك قال النبي أنه يعلم أن هذا صعب جداً جداً جداً جداً جداً إلى انقطاع النفس، وهذا معنى أنه قال “وكيف يعدل في قريبه؟”، ولذلك قام – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً يصيحُ في الناس قائلاً “ويلٌ للأمراء، ويلٌ للأُمناء”، وهذا أمرٌ عجيب، فلماذا يقول النبي “ويلٌ للأمراء، ويلٌ للأُمناء”؟!
ثم قال “ليتمنين أناسٌ يوم القيامة أنهم كانوا مُعلَّقين من ذوائبهم يتردَّدون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملاً”، فلا تكن رئيساً أو وزيراً أو مُديراً في جهاز حكومي كبير واترك كل هذا الهم والحزن لأنك لن تعدل!
أمس قرأت عن شخص مسؤول في سُلطة عباس لدينا في فلسطين أنه تهرَّب من مُحاسَبات مالية بالملايين، وهو مُجرَّد مسؤول وليس رئيساً أو وزيراً أو أمراً مُهِماً ومع ذلك كان مُتغوِّلاً للملايين من أموال الشعب الفلسطيني، وهذا الذي ثبت عليه فقط حتى الآن وطُولِب بتسديده، فسدد مائه وخمسين ألف ثم هرب إلى بلجيكا، والآن هو يطلب اللجوء السياسي، فطبعاً هذا الرجل فُتِنَ ونسيَ نفسه فلا يشبع من كثرة السرقة والرشاوى والأخذ والعطاء، قال رسول الله “ومنهومان لا يشبعان، طالب علم – الحمد لله، اللهم اجعلنا منهم – وطالب مال”، فهذا الرجل – والله – لو أكل كل أرزاق الشعب الفلسطيني لن يشبع، وهناك مَن أكلوا أرزاق الشعب المصري والتونسي والسوري والليبي وغيره ومع ذلك لم يشبعوا بعد، ولذلك لابد أن يُوضَع لهم حد حتى ننتهي من هذا الهم والغم، ولكن للأسف يُوجَد لدينا وثنية ويُقال لنا: كيف يُحاكَم زعيم قتل الناس؟!
لكن السؤال الصحيح هو: كيف لا يُحاكَم وقد قتل الناس؟!
لكن هذا الثاوي في الكلام يقول لك أن هذا الرجل يُعَد زعيماً، وكأن من حق الزعيم أن يُحيي ويُميت، فإذا أحيا بعض الناس يكون ذلك بتركهم، وإذا أمات بعض الناس يكون ذلك بقتلهم، فهو زعيم ويسوغ ويجوز له هذا، لكن لو كان هذا الرجل الوثني يُفكِّر بعقلية مُحمَّدية قرآنية إسلامية ولو تربَّى على الإسلام وسمع شيئاً ينفعه في المساجد لما قال هذا ولقال “والله لو ثبت أن الزعيم قتل فرداً واحداً ظُلماً يجب أن يُحاكَم به ويُقتَل”، فلو قاتل الحاكم نُحضِره ونُعلِّق له المشنقة، وهذا أمر طبيعي وعادي.
أنا قلت لإخواني ولأُناس مُحترَمين من الإخوة السوريين مِمَن لديهم مواقف مُشرِفة لو أن هذا الرئيس السوري – بشار الأسد – في أول أيام الهبة هذه والثورة في درعا استجاب لمطالب الناس لما حدث كل هذا، وأنا لست مُحقِّقاً أو خبيراً ولكنني سمعت من أُناس موثوق فيهم أن ابن خالته قتل ثلاثة بيديه بالمُسدَّس في أول يوم في الثورة، ثم أعطى أوامر بالقتل فقُتِلَ الباقي، ومن ثم كان يجب على الرئيس السوري إن كان يُريد الإصلاح لأنه يعد به أن يُطبِق القانون، فهناك قانون وضمير وشريعة وأعراف، ومن ثم كان يجب أن تُجرى له مُحاكَمة مُباشَرةً وإذا ثبت عليه ذلك يُعدَم في مُنتصَف البلد، وإذا أردنا أن نُشرِّفه كعسكري نُعدِمه برصاصة في رأسه على طريقة الإعدام العسكري، ومن ثم كان سيسكت الناس وكانوا سيشعرون أن هذا الرئيس السوري عنده نية صادقة ويُريد فعلاً أن يُغيِّر، هذا النظام الآن في سوريا لم يجعل مَن يُدافِع عنه، فأنا – مثلاً – لستُ مُتعاطِفاً معه ووضَّحت موقفي، ولا يُمكِن وحاشا لله أن ألقى الله وأنا مُتعاطِف مع هكذا نظام، وأنا قلت أن هذا النظام مُتغوِّل وفاسد ومُفسِد ودموي ومُخيف ولكن التوقيت لم يُعجِبني، المُشكِلة في التوقيت لأن سوريا مأمور بها ومُتآمَر بها وعليها، وطبعاً الحدود مليئة بالفوضى والغيب لا يعلمه إلا الله، والمُرجَّح أن هناك فوضى سوف تحدث، ولا يُوجَد أي أحزاب في سوريا لأن هذا يُعَد ممنوعاً على السوريين، فلا يُوجَد إلا حزب واحد وحيد مُتألِّه وهو حزب البعث العربي الاشتراكي صاحب شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، فلا يُوجَد أي أحزاب غيره أو أي هياكل حقيقية للعمل، فطبعاً طبيعي وأكثر من طبيعي إذا زال النظام فجأة بأي ضربة أن تحدث فوضى، ولن أقول أنني مُتأكِّد ولكن مُترجِّح بكل بتواضع أن القوى التي تتآمر بهذا البلد من سنين سوف تتدخل – واضح تآمرها تماماً جهاراً عياناً بياناً – وسوف تُحدِث فوضى ليست في صالح سوريا ولا في صالح الشعب السوري ولا في صالح المنطقة، وكثيرون قالوا بهذا ولكن صدِّقوني الذين قالوا هذا الكلام قالوه تعاطفاً مع الشعب ومع الأمة السورية ومع الأمة العربية وليس مع النظام المُجرِم الفاسد المُفسِد الدموي الذي يُثبِت كل يوم بألف برهان جديد أنه دموي، فيجعل أصحاب هذا المنطق لا يجدون سبباً لأن يسكتوا مزيد سكوت، فلا يُمكِن أن يسكت أحد أكثر من هذا وقد احترقت كل الأوراق وانتهى كل شيئ، فماذا نفعل يا أخي؟!
والآن يعتبون على عزمي بشارة وقالوا أنه عميل إسرائيلي وأنه يتبع المُخابَرات الإسرائيلية، سبحان الله هذا المُفكِّر القومي العربي المُناضِل أصبح فجأة بضربة حظ من عملاء إسرائيل لأنه انتقد النظام السوري بطريقة أكثر وضوحاً، ولكن لماذا انتقده؟!
لأنه يرى الدماء تسيل كل يوم، في الجمعة الماضية كان هناك مجزرة حقيقية راح ضحيتها أكثر من مائة وقالوا “هؤلاء مُندَّسون”، لكن هؤلاء المُندَّسون لا يندسون على البنايات الحكومية، وهؤلاء المُندَّسون تستطيع أنت أو أنا أن نُصوِّرهم بالكاميرات Cameras وبالآي فون Iphone لكن الأمن السوري الذي وضع كل الناس تحت الأرض لا يستطيع أن يُصوِّرهم أو أن يقنصهم أو أن يأخذهم ويُحقِّق معهم لكي يعرف مَن الذي بعثهم في حين أنك تُصوِّرهم وتبث صورهم على التلفزيون Television، فهم يُصوَّرون دائماً على البنايات الحكومية لكن لا يُمكِن لأحد أن يُصدِّق هذا، فالناس لها عقل ولن تستطيعوا أن تستغبوا الناس إلى آخر الطريق، قد يكون هناك بعض المُندَّسين فعلاً وأنا لا أُكذِّب هذا، لكن مُحال أن يكون كل مُن قُتِل ويُقتَل برصاص الأمن المُندَّسين فقط، برصاص قوات الأمن يُقتَل الناس يومياً، فلماذا يحدث هذا؟!
أعط الناس فرصة أن تُعبِّر عن ما رأيها، لكنه لا يُريد أن يفعل هذا، ويُقال لك “هؤلاء مُغرَّر بهم”، وهذا غير صحيح، فأنت لا تستطيع أن تأتي لنا – مثلاً – في النمسا الآن لكي تُغرِّر بنا لكي نخرج نموت، هذا – والله العظيم – مُستحيل، والناس لا تخرج لكي تموت وتفقد عيونها وأطرافها وأعضاءها وأوداءها وأولادها وأحبابها وأصدقاءها إلا من أمر أكبر من أن يُعبَّر عنه، عليك الآن كإنسان تعيش مُستريحاً ومكفولاً ومكفياً في النمسا وفي أوروبا أن تُفكِّر بهذه العقلية وأن تقول: ما الذي يدفع الناس إلى أن يخرجوا إلى الموت الأحمر الزؤام؟!
هؤلاء الناس يفقدون حياتهم وأطرافهم، فما الذي يدفعهم إلى هذا؟!
يُوجَد أكيد إحساس فظيع بالقهر والظلم، وهو إحساس لا يُحتمَل، فنحن نرى بعض الأوثان في بلادنا وقد أكلوا كل شيئ وتسيَّدوا على البلاد والعباد، هؤلاءأوثان ممسوخون وأقزام، وتاريخهم تاريخ فساد وإفساد، وما زالوا مُستمِرين في هذا بل ويعطون الأمر بذبح الناس، فإلى متى سيظل الأمر هكذا؟!
ونفس الشيئ يحدث في اليمن وفي غير اليمن، وهذا مُحال أن يستمر، هذه فتنة يصير فيها الحليم حيران والعاقبة لا يعلمها إلا الله، وأنا سأقولها كلمة من ضميري :
أُقدِّر قلتها لإخواني في الأيام السابقة وهى أن غير بعيد أن يكَون هناك مُؤامَرة، ولكنها ليست مُؤامَرة تُخرِج الناس لكي يتظاهروا وإنما مُؤامَرة بهذا الحكم لكي يذهب لأهداف استعمارية كُبرى، وهذا أمر معروف لكن لا تقل لي أن هناك مُؤامَرة أخرجت الناس لكي يتظاهروا، هذا كذب وكلام فارغ هذالا يسوغ على أي إنسان أبله، إن كان هناك مُؤامَرة بالبلد وبنظام البلد فأكثر مَن أنجح ويعمل على إنجاح هذه المُؤامَرة هو النظام نفسه، وأنا سأقولها شهادة لله “أنت أيها النظام – والله العظيم – المُجرَّم رقم واحد في حق نفسك وفي حق البلد ومُستقبَله بطريقة تعاطيك مع ثورة الشعب السلمية، فكان يُمكِن أن تتعاطى معها بطريقة حضارية وبطريقة تنم عن الصدق في الإصلاح”، وشهادة لله لأنني أُريد أن أحكي ضميري أُحِب أن أقول أن عقلي لا يتسع لاحتمال هذه الخلطة المُتنافِرة وغير المُمكِنة في قضية الإصلاح والإصلاح الموعود، فلا يُمكِن الجمع بين الطغيان والإصلاح، هذا غير معقول، لا يُمكِن جمع الطغيان والديكتاتورية والشمولية والظلم الحقيقي مع الإصلاح، هذا صعب جداً، فالإصلاح لا يكون إلا من الصالحين، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن من المُستحيل أن الفاسد والمُفسِد يعمل على إصلاح حقيقي، وهذا ينطبق حتى على الفساد الأخلاقي وليس فقط على الفساد المالي، وطبعاً الفساد المالي هو سبب كبير وعظيم ورئيس في الفساد الأخلاقي، فالفساد المالي – كما قلت قبل ذلك – يجعل الناس يقتلون ويجعل الناس يعتدون ويجعل الناس يغتصبون ويجعل الناس يشحذون ويجعل الناس يزنون بل ويقعون حتى في زنا المحارم، فهذا أكبر فساد ومذلة، فالواحد من هؤلاء لا يأكل ولا يشرب ولا يتعلم ولا يتزوَّج، ومن ثم يستحيل إلى إنسان ضائع وتائه من أجل أن تتمتَّع جماعة بالمليارات التي لا تعرف عدَّها ولا حصيها، فهناك مليارات مُوزَّعة في بنوك العالم حول الأرض في القارات الأربعة، وهذا هو الفساد الذي نهى عنه النبي حين قال “صنفان من أمتي لم أراهما لا يريحون ريح الجنة”، هناك أُناس من أمة محمد لن يشموا رائحة الجنة، ومن المُمكِن أن يكون هؤلاء الناس من المُصلين لكنهم لن يشموا رائحة الجنة، في الأول بدأ النبي بالنساء وقال “نساء كاسيات عاريات مائلات مُميلات – تسير وتتمايل، وبتمايلها تُميل قلب الرجل المفتون الضعيف أو الشاب العزب فتُحدِث له فتنة في قلبه، فهذا هو معنى مائلات مُميلات – رؤوسهن كأسنمة البخت”، هذا الكوافير Coiffure والـ Friseur فيكون رأس الواحدة منهن أشبه بسنم الجمل، وهذا لم يكن موجوداً أيام الرسول لكي يراه، فلم يكن هناك أي امرأة تذهب إلى كوافير Coiffure وتفعل هذا برأسها، لكن النبي شاف هؤلاء النسوة – سبحان الله – لأنه يرى الغيب بقدرة الله ولطفه، فإذن هذا هو الصنف الأول وهو يتعلَّق بالفساد الأخلاقي، ثم ذكر الصنف الثاني قائلاً “ورجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس”، فلماذا جمعت يار سول الله بين الاثنين؟!
واضح السبب، فهذه هى مُتلازِمة – سندروم Syndrome – الفساد السياسي والفساد الأخلاقي، هذه مُتلازِمة الطغيان السياسي والفساد الأخلاقي والاجتماعي، فلا يُمكِن أن تُحدِّثني عن طغيان واستبداد وظلم وديكتاتورية ثم تقول لي أن هناك أي إصلاح، هذا لم يحدث ولن يحدث حتى أكون واضحاً وأُبرّيء ذمتي، فنسأل الله النجاة لسوريا – والله العظيم – والعصمة لسوريا والكرامة والعزة بما يراه وحده لا إله إلا هو، وأنا لم أفض إليكم أن الذي أُقدِّره هو أن في آخر هذه السنة أو في السنة القادمة سوف يُعتدَى على سوريا وسوف يقول الشعب السوري “والله لن نرفع حجراً، وليأت لنا الغرب والشرق أو أي شيئ من هذه الدنيا ولن نُدافِع عن هكذا نظام”، سيرون أن العدوان على النظام وعلى قواته وليس على سوريا، وهو في حقيقة الأمر عدوان على سوريا كلها لكن الشعب طفح كيله ومن ثم سوف يخذلون هذا النظام المخذول، فلن يرفع أحد – والله العظيم – من الشعب السوري قشة ليُدافِع عنه، وأنا أقول هذا للنظام فإذا كان بعض رجاله هنا عليهم أن يُسمِعوه وأن يُوصِلوا له هذا الكلام وبيسمعوه، وأسأل الله ألا تُصدِّق الأيام كلامي لأنني لا أتمنى هذا لسوريا أبداً، فسوريا عندها وزن كبير جداً جداً جداً في المنطقة كلها، فهى لها الوزن الأكبر بعد مصر، وعبر التاريخ معروف هذان الجناحان، فلم يبق إلا سوريا ومصر بعد أن أضاعوا العراق مسكين من قديم ودمَّروا أقوى جيش من خلال هذا المكر الكبير، ولعل هذا هو سر اللهجة الناعمة واللغة التي في نوع من اللطف في التعامل مع النظاما السوري، فهم لا يُشدِّدون اللهجة عليهم على النظام السوري في قتل الناس، كأن هذا الغرب الفظيع جداً والذكي جداً يقول للنظام “ما زال عندك الضوء الأخضر، فأمعن في قتل الناس”، وهذا الغرب يُورِّط النظام – والله العظيم – مزيد توريط، لكي يضربون سوريا أو لكي تضرب إسرائيل سوريا مُستقبَلاً فيقول الشعب السوري لهذا النظام “فلتذهب إلى الجحيم، إسرائيل أرحم منك”، وهذه سوف تكون مُصيبة طبعاً ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا ونسأل الله اللطف، فأنا لا أعرف كيف تتصرَّف هذه النظم وكيف تُفكِّر هذه العقليات، وطبعاً وضح لدي حقيقةً أن هذه النظم – والله – ليس عندها أي مُستشارون أذكياء أو أي أُناس أذكياء، صدِّقوني هذه حقيقة، من أول خطاب للرئيس الدكتور بشار الأسد علمت أنهم كذلك للأسف، وأنا صُعِقت من هذا، فلا يُمكِن أن يضحك رئيس وشعبه يموت، ومع ذلك ظهر هذا الرئيس ضاحكاً كما لو كان في مهرجان لعادل إمام، هذا غير معقول ومن ثم أنا لم أُصدِّق هذا، علماً بأن هناك مقالات تتوالى في الواشنطن بوست Washington Post وفي غيرها تقول “هذا الرئيس ارتكب أخطاءً فظيعة في رأسها أنه كان يضحك”، فالناس التي لديها شيئ من فهم تستنكر هذا، كيف تضحك وشعبك يموت والدماء تسيل؟!
كان عليك أن تشنق وتقتل وترمي بالرصاص كل مَن تورَّط في قتل الشعب البريء الذي خرج بالحق ليُطالِب بالحق، فخروجه كان بالحق وكان يُطالِب بالحق، فلماذا تقتلونه يا أخي؟!
اسمعوا إلى هذا الشعب ولا تقتلوه، ولكننا رأينا الرجل الذي قُتِل ابنه بعد انهى دراسة الحقوق بتفوق أمامه وتم منع إسعافه حتى نُزِفَ دمه ومات، ثم ضُرِبَ الأب نفسه على ظهره ضرباً مُبرِّحاً ثم اعتُقِلَ اثنان من أولاده، ما شاء الله على العدالة، يقولون له “قتلنا لك ابنك وضربناك وكسرنا ظهرك وأخذنا اثنين من أولادك وسوف نُهينك أيضاً”، فما الظلم هذا يا أخي؟!
ما هذه الفحشاء؟!
هذا فحش في الظلم، هذا ظلمٌ فاحش، ثم يقولون لك “هذا حرام وهذه فتنة”، وعلى ذكر الفتنة أُريد أن أقول شيئاً حتى لا أنسى، وهو أن هؤلاء المشائخ يُحرِّمون الفتنة ويقولون لك الفتنة حرام وملعون مَن أيقظها وهى نائمة، لكن ما هى الفتنة؟!
هم يضحكون علينا في موضوع الفتنة مثلما يضحكون علينا في موضوع البغي والبُغاة، فما هو البغي وما هى الفتنة؟!
ما عُدنا نفهم شيئاً، هناك نوع من الغموض في تحديد معاني المُصطلَحات، ولكننا سوف نستفتي الإمام الشوكاني وهو عالم مُتأخِّر أتى في القرن الثالث عشر الهجري، قال الإمام الشوكاني أن الفتنة تتحدَّد بمعنيين أو بحالتين، واحفظوا هذا الكلام جيداً وجادلوا به علمياً، فالفتنة هى التي تُؤدِّي إلى سفك الدماء وقتل الناس ونهب الأموال وهتك الأعراض، ولكن متى هذا؟!
قال الشوكاني “تكون الفتنة حين يقتتل فريقان لا يُدرى المُحِق منهما مِن المُبطِل”، بمعنى يُعرَف مَن على حق ومَن على باطل، فهذه هى الفتنة إذن، وطبعاً أحسن لك ألا تسعى فيها لأنك لا تدري أين الحق، لذلك لما قيل لعبد الله بن عمر مَن هى الفئة الباغية؟ قال “والله لو علمتُ الفئة الباغية ما كنت أنت ولا غيرك أسرع إلى مُقاتلتها مني”، وعجبي أن ابن عمر لم يعرف هذا، ولذلك يجب علينا أن ننتبه إلى أنه لا يُوجَد لدينا تقديس للأشخاص، فابن عمر نفسه لا يعرف في حين أن مُعظم الصحابة على الإطلاق كانوا يعرفون والأمة كلها تعرف ونحن نعرف أن الفئة الباغية هى فئة مُعاوية، فأكثر علماء أهل السُنة حكووا الإجماع على أن الفئة الباغية هى فئة مُعاوية، مع ذلك ابن عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه – لم يعرف هذا وقال لا أعلم، فهو سُئل مَن هى الفئة الباغية: فئة مُعاوية أم فئة عليّ؟!
فقال للسائل “والله لو علمتُ الفئة الباغية ما كنت أنت ولا غيرك أسرع إلى مُقاتلتها مني”، فهو يقول أنا لا أعلم والأمر مُشتبِه علىَ، لكن نحن الأمور غير مُشتبِهة علينا بل واضحة تماماً، فواضح أين الظلم وأين العدل، وواضح مَن هو الظالم ومَن هو المظلوم.
إذن هذه هى الحالة الأولى، أما الحالة الثانية فيقول الشوكاني “الفتنة تكون حين يحترب فريقان أو طائفتان كلاهما على باطل”، فهذه فتنة ومن ثم لابد أن نبتعد عنها، لكن بقيَ بالعقل حالة ثالثة وهى أن يحترب فريقان أحدهما على حق والآخر على باطل، وهذه ليست فتنة وبالتالي يجب عليك شرعاً أن تُناصِر المُحِق وإلا ستُلقى في نار جهنم يوم القيامة، فلا تسمح لأحد أن يقول لك في هذه الحالة أنها فتنة وقل له حدِّد لي الفتنة شرعاً وفقهاً وعلماً يا أخي، ما معنى الفتنة؟!
لا تقل لي عن كل شيئ أنه فتنة، فالمُظاهَرات فتنة والمُناصَرات فتنة والفيس بوك Facebook فتنة ومثل هذا الكلام وهذه الخُطبة فتنة، وهذا الخطيب بدوره فتنة، وإن نطقت بالحق يقولون فتنة، فكل شيئ أصبح فتنة، ونسينا أحاديث التآمر والتناهي والشيطان الأخرس.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُطلِق ألسنتنا بقول ما يُرضيه وبما فيه نفع الأمة وصلاحها وإسعادها وكرامتها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
ويُمكِن قول إن هذا النظام في سوريا لا تزال له فرصة إلى اليوم أيضاً، من المُمكِن أن يكون له – والله أعلم – فرصة ولو بنسة خمسة في المائة، وهذه الفرصة تتمثَّل في أن يُريَ الناس حقيقةً صدق نيته إن كان لديه شيئٌ من صدق في مُحاسَبة كل مَن قتل الناس وسفك دمهم.
في الحقيقة هناك سيدة تُمثِّل عضواً عاملاً وفاعلاً ونشطاً في حزب البعث العربي الاشتراكي كتبت في جريدة تشرين كلاماً تأمر وتُناشِد فيه الرئيس الدكتور بشار أن يُحاسِب الذين تورَّطوا في قتل الناس ففُصِلَت من عملها مُباشَرةً، فما الذي يحصل هذا؟!
نحن نقول لهذا النظام أنتم لم تتركوا أي فرصة لأحد لكي يتعاطف مع الحكمة ومع التهدئة، ونحن لا ندري ماذا نقول لأننا إلى الآن لسنا نُؤلِّب ولسنا نُحرِّض ولا نُحِب هذا، ولكننا – والله العظيم – ندعو الله – تبارك وتعالى – أن يقينا ويقي سوريا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يختار لها ولشعبها الحُر العربي الكريم بكل طوائفه – سواءً كانوا مسلمين أو مسيحيين – ما فيه خيره في الدنيا والآخرة. اللهم آمين.
اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اجعلنا هُداةً مُهتَدين غير ضالين ولا مُضِّلين، واجعلنا سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك فنُحِب بحبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التوكلان، وبك المُستغاث وأنت المُستعان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
انصر الإسلام وأعز المسلمين وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبأهله خيراً فكن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيزٍ مُقتدِرٍ فإنه لا يُعجِزك إلهانا ومولانا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقم الصلاة.
(29/4/2011)
أضف تعليق