نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الحادية عشرة
أعمدة النظرية وأدلتها – الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وقفتُ معكم في الحلقة السابقة عند الأدلة التي حشرها وحشدها داروين Darwin في كتابه أصل الأنواع على نظريته في التطور العضوي بالانتخاب الطبيعي وقلنا إنها تنتمي إلى حقول معرفية مُختلِفة في رأسها حقل الجغرافيا الحيوية، فلماذا بدأ بهذا؟ هذا الحقل بالذات بمعنى توزيع الحيوانات في البيئات المُختلِفة – التوزيع الجغرافي للكائنات الحية – هو الذي بعث داروين Darwin وحوَّله إلى التفكير التطوري، وقد شرحت لكم هذا بطريقة مُمِلة أكثر من مرة بصدد كلامي عن مُلاحَظاته عن الحيوانات المُختلِفة في البيئات والجُزر المُختلِفة، فهذا الذي جعله يتحول في نهاية الأمر إلى التفكير التطوري، فبدأ داروين Darwin يُفكِر بطريقة تطورية، أي تأخذ تطور الأنواع في اعتبارها، وبخصوص هذا التوزيع الجغرافي للكائنات الحية يكتب داروين Darwin يقول في كتابه “أيُ شخص حين يُلاحِظ هذا التوزيع الجغرافي للحيوانات والنباتات في البيئات المُختلِفة لابد أن يذهل – لابد أن يكون مذهولاً – من أنماط الأشكال المُتماثِلة التي تحتشد في أماكن بعينها” أي لماذا هذه الأنواع وهذه الأشكال بهذه الصفات موجودة في مكان ما ،وتخلو منها أماكن أخرى على وجه الأرض؟ وهكذا، وكان يضرب أمثلة على هذا فقال “أنواع عديدة من الحمار الوحشي – Zebra – موجودة في إفريقيا – وإفريقيا وحدها – ولا توجد في مكان آخر، فأستراليا – مثلاً – لا يُوجَد فيها حمار وحشي، أمريكا اللاتينية لا يُوجَد فيها حمار وحشي، فقط يُوجَد في إفريقيا، فلماذا إذن؟ لو كانت نظرية الخلق الخاص تُفسِّر قد يكون من المُناسِب أن الله – تبارك وتعالى – يبث هذه المخلوقات في كل مكان في الأرض لكي تكون آية على قدرته وبداعته وصنعته لكل البشر الموجودين في كل مكان في الأرض، لكن أن يكون الحمار الوحشي فقط في أفريقيا وليس في غير أفريقيا هذا يبعث على الذهول والتساؤل، وكذلك يُوجَد أنواع كثيرة من الكنغر – Kangaroo – في أستراليا وفي غينيا الجديدة وفقط، فلا يُوجَد كنغر في غير غينيا الجديدة وأستراليا، فلماذا إذن؟” فهو كان يتساءل بصدد هذا، ثم قال “قردة العالم القديم – Old World Monkeys – سُفلية المنخارين موجودة في العالم القديم، أي شرق الأطلسي، لكن قردة العالم الجديد – New World Monkeys – علوية المنخارين غير موجودة إلا في العالم الجديد غرب الأطلسي، فلماذا إذن، هذا سرٌ كبير وسؤالٌ كبير، فلماذا توزعت على هذا النحو؟ هناك أنواع كثيرة من اللَّيْمُور Lemur – العرب يقولون اللَّيْمُور، وهذه هى السعادين طبعاً، وعموماً نحن نقول قردة وسعادين، فذوات الذيول هى السعادين، وبغير الذيول تُسمى القردة Apes، وهناك القردة العُليا وهى من الرئيسة، وعلى كل حال كلها رئيسة – موجودة في مدغشقر والجُزر القريبة من مدغشقر وليس في مكان آخر، فلماذا هذا اللَّيْمُور – Lemurs – موجود فقط في هذا المكان خصوصاً؟ وكذلك هناك أنواع كثيرة من الطوقان Toucan – أنتم تعرفون طيور الطوقان Toucan Birds صاحبة الأنف الطويل الكبير والألوان الجميلة – فقط في أمريكا الوسطى والجنوبية وليس في مكان آخر في العالم، فلماذا؟ هذا يُصيب الإنسان بالذهول” ثم لاحظ داروين Darwin مُسجِّلاً “وفي الأماكن المُهيأة لتواجد اللَّيْمُور – Lemur – ولكنه يخلو منها يحُل مكانه القرود وليس أي حيوانات أخرى، وهذا شيئ عجيب، وفي الأماكن المُهيأة لوجود الطوقان – Toucan – ولكنها يخلو منها أو تخلو من الطوقان Toucan يحُل مكان الطوقان Toucan ويلعب دوره ويأخذ مكانه طائر مُشابِه له، مثل طيور أبو قرن، وطيور أبو قرن أيضاً ذات مناقير – Beaks – ضخمة” ومن هنا يتساءل: لماذا لا توجد الأنواع نفسها في كل مكان؟
طبعاً أعتقد أن كل واحد منكم الآن تابع الحلقات الجواب حاضر لديه، وذلك بسبب الانعزال -Isolation – والانفصال والاستجابات المُختلِفة للبيئة وشروطها ثم تكاثر الحيوانات المُتشابِهة، وهكذا يحدث الانتواع واختصاص كل بيئة بحيوانات خاصة!
عموماً نحن حين نتحدث مثلاً عن الثدييات – Mammals – فإن الثدييات عموماً تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فهناك الثدييات المشيمية، والإنسان ثديي مشيمي، وهى التي تحمل أجنتها في مشيمة – Placenta – ويكتمل نمو الجنين في هذه المشيمة ثم تضعها كاملةً، هذه ثدييات مشيمية وهى أكثر الثدييات على الإطلاق، وفي المُقابِل لدينا الثدييات الجرابية أو الكيسية، وهى التي تحمل ثم تضع أجنتها غير مُكتمِلة التكوين في أكياس خارج الرحم، ويُكمِل الجنين مشوار تطوره الجنيني – وهو لا يزال جنيناً – في هذا الكيس والجراب الخارجي، فهذه موجودة عموماً وبيئتها الرئيسة أستراليا، وهناك أنواع كثيرة جداً من الكائنات الجرابية مثل الفأر الجرابي والكنغر الجرابي وغير ذلك، وأخيراً لدينا الثدييات وحيدة المسار Streak، وهى ثدييات غريبة ونادرة جداً طبعاً لأنها تبيض، فهى تبيض ولا تلد ولكنها ثدييات، في حين أن من المُفترَ أن الثديي يلد ولا يبيض ولكن هنا الكائن الثديي وحيد المسار يبيض ولا يلد، ويُرضِع بعد ذلك أولاده، فحين يفقسون يُرضِعهم إرضاعاً، وهذه عموماً تتواجد أيضاً في أستراليا، فلماذا هذا الاختصاص بالحيوانات في أماكن دون أماكن؟ كما قلت لكم الجواب حاضر الآن لديكم، وداروين Darwin شرح لنا هذا، وعلى كل حال قال “هذا كله يشهد لي ويشهد لنظريتي”.
نأتي الآن إلى سجل الحفريات، فداروين Darwin دعانا إلى أن ننظر إلى هذا السجل على أنه أشبه بكتاب، أي كتاب سُجِلَت فيه الأشياء، ووفقاً لنظريته ينبغي طبعاً أن نجد في الطبقات السُفلى من هذا السجل حيوانات أكثر بدائية وأقل تعقيداً وتخصصاً، وكلما صعدنا إلى أعلى واقتربنا ومن لحظة الآن ومن لحظة الحاضر صادفنا حيوانات أكثر تخصصاً وأكثر تعقيداً، وهذا بحد ذاته إن صح وهو صحيح يدل على صحة مُقارَبة أو نظرية التطور، وهى أن الكائنات فعلاً تطورت من البسيط إلى المُعقَد، فلو كانت الكائنات مخلوقة خلقاً خاصاً كما يزعم أهل الأديان خاصة التوحيدية – كما قلت لكم ما من نظرية خلق بلا دين، لكن هناك أديان بلا نظرية خلق مثل الأديان الشرق أقصوية كما لاحظ كوين Coyne – لكان ينبغي حين نحفر أو حين ندرس وننبش في أي طبقة جيولوجية أن نجد أمثلة على كل صنوف المخلوقات، البسيطة والمُعقَدة والوسيطة بين البسيط والمُعقَد، لأن الله منذ البداية خلق البسيط وخلق المُعقَد وخلق الوسيط، فأينما بحشت أو نبشت أو نقرت ستجد أمثلة على الكل، لكن في الحقيقة هذا غير حاصل بالمرة، فالذي يحصل أنك كلما صاعدت تعقدت معك الحياة أكثر، وهكذا إلى أن تبلغ الحد الأعلى، فيستحيل أن تجد أحفورة لإنسان مثلنا نحن، أي أحفورة للهومو ساپيانس Homo-Sapiens وهو الكائن العاقل المُنتصِب الماشي على قدمين والعاري البدن من الشعر، فيستحيل أن تجد له ما يدل عليه، ولا عظم ولا أي شيئ قبل – مثلاً – ثلاثمائة مليون سنة أو قبل خمسين مليون سنة أو قبل عشرين مليون سنة أو قبل عشرة ملايين سنة، هذا مُستحيل، وكل شيئ موجود عندك لكن هذا غير موجود، وذلك لأنه جاء مُتأخِّراً، فمتى جاء إذن؟ أنا تعمدت أن أذكر هذا ولكننا سوف نتركه لحلقات بخصوصها حين نتحدث عن تطور الإنسان وأدلة تطور الإنسان وكيف تطورنا فعلاً وهل هناك أدلة وهل هناك أحافير تدل على ذلك، سوف نرى، فهذا السجل الأحفوري قوي جداً، ولكن طبعاً يواجه النظرية أيضاً بمتاعب ومصاعب كبيرة من خلال الفجوات – Gaps – والثغرات التي يشتمل عليها، فبحسب تأميل أي إنسان يُحِب أن يدعم هذه النظرية وأن يُذعِن بها كان ينبغي أن نجد تسلسلاً سلساً من الأحافير والمُستحاثات للأنواع وفق تطورها الزماني، بمعنى أنك تجد النوع وتجد فوقه بمراحل النوع الذي تطور منه على أنه شديد التعقيد وبينهما النوع الوسيط الذي كان دون هذا وفوق هذا بطريقة سلسلة، فلو الأمر تم على هذا النحو لانتصرت هذه النظرية بالضربة القاضية منذ أول الأمر وأُغلِقَ الملف، ومن ثم تُصبِح حقيقة – Fact – طبعاً وتكون نظرية حقيقية بدون أي كلام، لكن للأسف هذا لم يحصل، فهذا السجل غير مُكتمِل ويعاني من وجود فجوات كثيرة، فأيام تشارلز داروين Charles Darwin وحين كان يتحدَّث لم يكن بين يديه أحفورة واحدة ليستطيع أن يقول انظروا هذه مُستحاثة أو هذه أحفورة – Fossil – لحلقة وسيطة بين كذا وكذا، ولذلك ظلوا يرمون في وجهه ويقولون له “أَرِنا يا سيد داروين Darwin حلقاتك الانتقالية Transitional Forms، أرِنا هذه الأشكال الانتقالية، أَرِنا حلقة انتقالية أو ما يُسمى بالحلقة المفقودة Missing Link، أَرِنِا هذه الحلقات الوسيطة – Intermediate – يا سيد داروين Darwin بين الإنسان وبين سلفه الذي هو سلف مُشترَك – Common Ancestor – مع القرود وغيرها، أين هذه الأشياء؟ نحن نُريد أن نرى هذا الشيئ الذي لا هو إنسان ولا هو ذاك السلف المُشترك، وإنما وسط بينهما، أين هذا؟ أنت تقول أن الحوت تطور من ثديي أرضي، فهو كان ثديياً أرضياً من ذوات الأربعة أطراف – Tetrapods – ومن ثم كان يمشي على أربعة ثم حدث له تطور واضح أنه تطور تدهوري وفقد أطرافه وتحول بعضها إلى زعانف ودخل الماء، ولذا نحن نُريد أن نرى ما يدل على هذا” وللعلم قصة تطور الحوت من أجمل فصول نظرية التطور طبعاً لكن كما انتهت إليها قضيتها في الوقت الحالي، أي في آخر عشرين أو ثلاثين سنة، فأيام داروين Darwin كانت تُعتبَر مُعضِلة له وثغرة كبيرة، لذلك نحن سنخص الحوت وتطور الحيتان بحلقة أو نصف حلقة ونشرح لكم كيف فعلاً الآن ملف الحوت تقريباً أُغلِق، ففعلاً هو كائن مُتطوِر من رباعيات الأطراف التي كانت تعيش على اليابسة، وهذا شيئ غريب ولكنه اكتمل ولذا هو شيئ جميل جداً جداً، وعلى كل حال كانوا أيضاً يتحدونه ويقولون له “أين هذا؟أَرِنِا هذا الكائن الذي يقف بين الحوت في الماء وبين رباعي الأطرف في البر؟ أين هو؟ أين هذه الحلقة الوسيطة؟ ائت لنا لنا بجمجمة أو بعظمة أو بأي شيئ يدل عليه، وهذا لا يُوجَد وبالتالي وضعك يُعتبَر بائساً جداً”، ولذا قال “هذا من أقوى التحديات في وجهة نظريتي وأنا أعترف بهذا” ولكن تشارلز داروين Charles Darwin كان يُأمِل ويُعوِّل على مُواصَلة العلماء والباحثين للبحث العلمي وأنهم سينجحون في يوم من الأيام في سد هذه الثغرات وملء فجوات السجل الإحاثي أو الأحفوري!
من حُسن الحظ بعد أن نشر أصل الأنواع بزُهاء سنتين أو أقل من ثلاث سنوات – أي تقريباً في ألف وثمانمائة وواحد وستين لأن أصل الأنواع في ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين – في ألف وثمانمائة وواحد وستين يشتري خصمه اللدود مُدير المتحف الطبيعي ريتشارد أوين Richard Owen أحفورة بمبلغ كبير من المال، وهذه الأحفورة – Fossil – لاتزال إلى اليوم من أنفس مُقتنيات متحف التاريخ الطبيعي في لندن، وهى أحفورة أو مُستحاثة الطائر الزاحف أو الزاحف الطائر المُنقرِض الذي إسمه أركيوبتيركس Archaeopteryx، وهذه الأركيوبتيركس Archaeopteryx أنتم سوف ترون أنها موجودة دائماً في كل كتب التطور، فقط يستطيع الواحد منكم أن يكتب كلمة أركيوبتيركس Archaeopteryx وسوف يجد خمسين مليون صورة لها، لإنها كانت أحفورة مُكتمِلة وجميلة ومنقوشة كما هى، وهذه الأحفورة لطائر كان يطير فعلاً وواضح أنه طائر بجناحين، لكن فيه شيئ غريب، وهو أن هذا الطائر في طرف جناحيه كلايهما مخالب، ولا يُوجَد طائر الآن على وجه الأرض هكذا إلا طائر عنده مخالب – سوف تعرفونه على كل حال عندما أشرح لكم أدلة النظرية – ويعيش إلى اليوم، فهذا الطائر يُمثِّل حلقة انتقالية تعيش إلى اليوم على وجه الأرض، فما رأيكم؟ هذا الطائر موجود إلى اليوم ولن أذكر لكم إسمه، فقط ابحثوا عنه وسنُحدِّثكم عنه – إن شاء الله – ونشرحه لكم ونُريكم فيديو Video – له من أجمل ما يكون، فهو بمثابة حلقة انتقالية تعيش على الأرض وليس أحفورة، لأنهم يقولون أين الحلقات المفقودة؟ وهم لا يعرفون شيئاً، فالحلقات المفقودة التي لم تعد مفقودة كثيرة جداً وهى من أقوى أدلة النظرية، لكنهم يتحدَّثون وكأن الـ Missing Link بقيت Missing، وهذا غير صحيح، فهذه الحلقات لم تعد مفقودة، بل هى موجودة، وبعضها في شكل أحافير أو أكثرها، وبعضها في شكل كائنات تدب وتعيش بيننا اليوم على وجه الأرض ومنها هذا الطائر العجيب الذي في أطراف جناجيه مخالب وهى ضرورية لبقائه وهى التي جعلته أصلح في بيئة، وسوف نشرح هذا في وقته – إن شاء الله – لكننا نذكره سريعاً الآن للإثارة، فهذا شيئ عجيب جداً وجميل، وعلى كل حال هذا الأركيوبتيركس Archaeopteryx في جناحيه مخالب، ولكن ماذا عن منقاره Beak؟ ليس له منقار، إنما له فم، والفم فيه فكان – Two Jaws – يحملان أسناناً، ولا يُوجَد طائر عنده فم بفكين وأسنان، لا يُوجَد مثل هذا الكلام فيالطيور، نعم الزواحف – Reptiles – لديها فم بفكين وأسنان لكن الطيور ليست كذلك، وهذا شيئ عجيب، فما هذا الطائر الذي عنده فم وعنده أسنان بفكين وعنده مخالب في طرفي الجناحين؟ وواضح أنه كان طائراً أحمقاً، أي يطير بحماقة، ولذلك هو انقرض، فلم يكن طائراً ناجحاً وبالتالي مثل هذا لا يبقى بالانتخاب الطبيعي، لكن ما الذي بقيَ؟ الطيور كما نعرفها اليوم، أي التي تطير بسلاسة وجمال وفنية رائعة جداً جداً وتُحلِق مُخترِقةً أجواز الفضاء بلا مخالب وبلا أسنان، فهذه التي بقيت، لكن هذا كان يطير طيراناً عبيطاً هذا ولذا انقرض، ولكن فيه صفات الزواحف، فله ذيل طبعاً، وهذا الذيل الأحفورة تُؤكِد أن هناك سلسلة عظمية تسنده، وأي طائر لا يكون هكذا، فما الحاصل إذن؟ ما هذا الكائن؟ علماً بأن ريتشارد أوين Richard Owen أصر على أنه طير لكنه لم يتساءل بصدد هذه المُحيرات التي هى فيه، فهذه الأشياء مُحيرة جداً، وفي الحقيقة الآن يُجمِع العلماء – علماء التاريخ الطبيعي – على أن هذا ليس طائراً كاملاً – Perfect – وليس زاحفاً أيضاً، إنه الحلقة الوسيطة بين الزواحف والطيور، وداروين Darwin ذكر وكل التطوريين من بعده أن الزواحف تطورت، وتطورت في اتجاهين، فمنها ما تحول إلى طيور Birds، ومنها ما تحول إلى ثدييات Mammals، فهذا هو إذن لمَن يقول أنه يُريد الحلقة المفقودة، فلا تقل أُريد المفقودة وإنما قل الموجودة، فهذه موجودة بعد نشر أصل الأنواع بأقل من ثلاث سنوات تقريباً وعلى يد خصمه، وهى موجودة إلى اليوم، وهى – كما قلت لكم – من أعز ومن أجمل مُقتنيات المتحف الطبيعي.
إذن سجل الحفريات – كما قلت لكم – المفروض أن يُشكِّل دعماً للنظرية بموجوداته وبحلقاته، ولكن في زمن صاحب النظرية كان هذا السجل يُعاني من فجوات كثيرة ومن متاعب كثيرة، وسوف نرى في حلقات الأدلة والمُؤيِدات بعد ذلك – إن شاء الله – كيف تم سد الكثير من هذه الفجوات، وسوف نتحدَّث عن أنواع من المُستحاثات وأنواع من الأحفورات، فبخصوص علم الأجنة الآن – الإمبريولوجي Embryology علم الأجنة – كان يتساءل داروين Darwin لماذا يحدث للجنين – ومنه جنين الإنسان – حين مروره بمرحلة مُعينة من تطوره الجنين أنه يُشابِه أجنة مخلوقات أخرى؟ ثم يقول “أعني الزواحف”، ففي مرحلة مُعينة يكون جنين الإنسان مثل جنين التمساح، فحين تضع هذا مكان هذا تجده يُشبِهه تماماً، علماً بأن الذي أخذ هذه الفكرة وذهب بها إلى آخر مداها وصورها تصويراً فيه نوع من المُبالَغة هو الشاب الألماني المُلحِد والتطوري المُتحمِس إرنست هيكل Ernst Haeckel، فهيكل Haeckel فعل هذا، وداروين Darwin كان يعرف هذا وأشار إليه، وهذه النظرية معروفة طبعاً، فداروين Darwin لم يبتدعها، وستُسمى بنظرية التلخيص Recapitulation Theory، وطبعاً بعد فترة أيضاً يمر هذا الجنين – الجنين الإنساني – ويُبرِز شقوق خياشيم كأنه سمكة أو كأنه جنين سمكة، وتستطيعون أن تروا هذا في كتب الإمبريولوجي Embryology، فتوجد شقوق عند الوجه – سبحان الله – كأنها خياشيم، مع أنه جنين الإنسان، وحين يبلغ غايته لن يكون سمكة، كما لن يكون تمساحاً، وإنما سيكون إنساناً وخلقاً آخراً، قال الله ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ ۩، فلماذا يحدث هذا إذن؟ هذا فحوى ومعنى نظرية التلخيص، كأن الجنين وهو يعبر هذه المراحل يُعيد التذكير
بأسلافه البعداء القدماء، ولذلك حين طرح إرنست هيكل Ernst Haeckel سؤال مَن أنا؟ أو مَن أنت أيها الإنسان؟ قال “أنا قرد”، وهو يُريد بالقرد طبعاً السلف المُشترَك لنا وللقرود، فنحن في الحقيقة لسنا شِمْبانزِي Chimpanzee ولا أورانجوتان Orangutan ولا غوريلا Gorilla، نحن مُتطوِرون كما هم تطوروا من سلف مُشترَك، لكن هو شاء هكذا للاستفزاز أن يُسميه قرداً، فقال “أنا قرد”، وظل يقول هكذا “أنا قرد، وقبل أن أكون قرداً كُنت تمساحاً، فأنا تمساح وأنا زاحف Reptile” لأن الثدييات – كما قلت لكم – خرجت من الزواحف، والزواحف أتت من الأسماك، ومن ثم قال “أنا سمكة”، وقبل السمكة كنت كذا وكذا إلى أن قال “وأنا الخلية الأول البدائية في نهاية الأمر”، فهو ظل يتدرك نزولاً إلى أسفل حتى قال هذا أنا، ويُوجَد كتاب منشور – طبعاً أنا قرأته وسوف أُعطيكم خلاصته في وقته حين نأتي إلى الأدلة – إسمه السمكة بداخلك، وهو كتاب لعالم تطوري مشهور جداً، وقد استخرجوا منه مادة وثقائية وعملوه فيلماً وثائقياً أيضاً، فكتاب السمكة بداخلك يُؤكِّد في نهاية الأمر فعلاً أنك ابن سمكة، فأنت خلف للسمكة – كما قال هيكل Haeckel – وخلف للتمساح بعد ذلك وخلف للقرد، وأنت الآن الإنسان، قال الله وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ۩، فالبداية كانت هكذا!
على كل حال داروين Darwin يتساءل عن هذه المسألة ويُشير إلى نظرية التلخيص، فهذا يُعيد تاريخك التطوري ويُذَّكِّر بتاريخك التطوري، ويُوجَد شيئ أعجب من هذا، حيث يقول داروين Darwin “حقيقٌ أن ننظر إلى علم الأجنة لا على أنه فقط تطور المخلوق داخل الرحم، أي داخل حيزه التطوري قبل أن يُدلِف إلى هذه الحياة، فالأمر لا يتوقف على هذا فقط، ومن ثم أنا أفهم علم الأجنة على أنه أوسع من ذلك، حيث يتعلَّق علم الأجنة عندي بالمراحل الأولى للكائن قبل أن ينضج”، فالإنسان حين يكون طفلاً صغيراً هذا ليس إنساناً ناضجاً، بل هو طفل صغير، ولكن حين يستوي ويُصبِح راشداً بالغاً قوياً يعتمد على نفسه نقول الآن هذا هو الإنسان، ومن هنا قال “سأتساءل: لماذا أولاد الأسود – سواء اللبؤات أو الليوث – حين يكونون صغاراً يحظون بسيقان مُقلَمة، وعندما يكبر ابن الأسد أو اللبؤة الصغيرة يذهب هذا التقليم؟ والسيقان المُقلَمة يتميز بها الببر، أي التايجر Tiger وليس الأسد، فالأسد سيقانه غير مُقلَمة، لكن هذا عنده سيقان مُقلَمة، فما العلاقة؟ لماذا هذا إذن؟” كأنه يقول لك أن هذه إشارة إلى السلف المُشترَك، ويُوجَد شيئ أعجب من هذا يجب أن ننتبه إليه، فحين تقرأون في الكتب التطورية عن الظاهرة النيوتينية –
من نيوتني Neoteny، وليس لها علاقة بنيوتن Newton، أي آيزك نيوتن Isaac Newton، فهذه نيوتيني Neoteny – سوف تعلمون شيئاً هاما، لكن ما هى الظاهرة النيوتينية أولاً لأنهم هم يقولون لك الإنسان كائن نيوتيني Neoteny، وهذه ظاهرة نيوتينية،نسبة إلى نيوتيني Neoteny، فما هى إذن؟ النيوتينية تعني أن الإنسان من بين الرئيسات أو الرئيسيات بالذات – لأنه كائن رئيسي طبعاً بلا شك – يأخذ معه حين يبلغ ويكبر وينضج سحنته وصفاته الطفولية، فوجه الإنسان وهو طفل صغير لا يختلف كثيراً عن وجهه وهو راشد كبير، أي نفس الوجه على عكس الشِمْبانزِي Chimpanzee، فكيف هو إذن؟ علماً بأن هناك صورة سوف نعرضها عليكم – إن شاء الله – وهى صورة عجيبة جداً للشِمْبانزِي Chimpanzee، فصغير الشِمْبانزِي Chimpanzee عندما ما يُولَد إذا صورت وجهه ستجد أن وجهه أقرب إلى التسطيح، فوجهه ليس كوجه الشِمْبانزِي Chimpanzee المعروف هذا وإنما أقرب إلى التسطيح، وبعض العلماء أخذ له صورة جانبية فوجد أنه يُشبِه الإنسان بشكل لافت جداً، لكن الشِمْبانزِي Chimpanzee حين يكبر يختلف شكله تماماً، بعكس الإنسان طبعاً، فالاختلاف يسيرة جداً فيه وهو صغير عنه وهو كبير، وهذه الظاهرة تُعرَف9س لها أي ميزة لكي تُستبقى، فكان مُمكِن تهلك، والواقع أنها استُبقيَت، فلماذا إذن؟ علماً بأن هذه النُقظطة من أقوى التحديات، لكن داروين Darwin وخاصة التطوريون الذين أتوا بعده لا نستطيع أن نقول عنهم إلا أنهم كانوا أذكياء وأقوياء جداً في الجواب عن هذه 8Aة، وسوف نتحدَّث عن التطور المُتناسِب في موضع آخر إن شاء الله.
على كل حال يلفت داروين Darwin النظر إلى هذه المسائل ويقول لك “كل هذا يُستدَل به أو يُؤشِر إلى السلف المُشترَك لنا وللمخلوقات جميعاً”، ونأتي الآن إلى المورفولوجيا Morphology، وأعتقد أن موضوع الإمبريولوجيا – Embryology – أصبح واضحاً الآن، فمن المُمكِن أن نُلخِّصه بكلمة اكثر إيحاءً يعني، فكأن داروين Darwin يقول لك أن الجنين – جنين أي حيوان – هو الحيوان نفسه لكن في أقل حالة مُعدَلة له، فهذا له علاقة بالتعديل Modification، أي أن الجنين هو الحيوان ولكن في أقل حالة مُعدَلة، وبعد ذلك يجري التعديل عليه، لكن لماذا؟ ماذا نستفيد من هذا؟ يقول داروين Darwin “التطور كله ما هو إلا Descent with Modification، أي هو الانحدار مع التعديل، بمعنى انحدار السلالات من جدِ مُشترَك مع تغييرات ومع تعديلات”، علماً بأن كلمة Descent تعني انحدار، وتُترجَم نشوء أحياناً، لكن انحدار أحسن، أي انحدار سلاسلة، أبناء من آباء وآباء من أجداد وأجداد من آباء الأجداد وهكذا، فهذا اسمه الانحدار، لذا قال “التطور ما هو إلا Descent with Modification”، وعبَّر عنه هكذا في أكثر من مرة قبل حتى أن يطبع أصل الأنواع، فحتى الطبعة الأولى من أصل الأنواع – كما قلت لكم – خلت تقريباً من كلمة تطور، وكان فيها موضوع التحدر مع التعديل أو التعديلات، وكان فيها التغيرات Changes، وكان فيها التحول Transformation أو التحولات Transformations، لكن داروين Darwin لم يستخدم كلمة تطور وقتها، وبعد ذلك سوف يستخدمها، ففي طبعات لاحقة سوف يستخدم مُصطلَح التطور Evolution، وعلى كل حال هو يقول لك “إذا كان الجنين هو الحيوان في أقل حالة مُعدَلة له، فإذن هذا الجنين الغير مُعدَل كثيراً سيأخذنا إلى إلى الأصل القديم”، بمعنى أنك ستلحظ وبالضرورة إذا كان سيأخذنا إلى الأصل القديم تشابهاً بين أجنة الحيوانات المُختلِفة، فحين تكبر وتنضج هذه الحيوانات ستختلف، لكن أجنتها لا تختلف، لأن الجنين هو الحيوان في أقل حالة مُعدَلة، وحين جرى التعديل جرى التطور، ونحن لا نُريد التطور الآن وإنما نُريد الحالة قبل التطور، أي حالة السلف البعيد المُشترَك تماماً، وهذه ستُفضي مباشَرةً إلى مُلاحَظة تشابه الأجنة، لأنها الحيوانات في أقل حالة مُعدَلة لها، وهذا شيئ عجيب لكنهم لاحظوا هذا الشيئ.
على كل حال نأتي الآن إلى المورفولوجيا Morphology أو علم الشكل والتصميم، فعلم المورفولجي Morphology – كما قلت لكم – يهتم بالشكل وبالحجم وبالبنية وبالسمات الخاصة المُترتِبة على هذا كله تماماً ويُقارِن بين الحيوانات المُختلِفة، وعلم المورفولوجي Morphology هذا من ضمن العلوم المُتفرِعة من علم الأحياء، وكان من أشهر علماء المورفولجيا Morphology في القرن التاسع عشر توماس هكسلي Thomas Huxley، فهو عالم أحياء معروف وهو مُتخصِص في الموروفولوجيا Morphology وهذا شيئ جميل جداً، يقول داروين Darwin “المورفورلجيا Morphology هى صميم روح التاريخ الطبيعي، فلكي نفهم تاريخ الكائنات وتطور الكائنات ونُقارِن بينها سوف نأتي إلى المورفولجيا Morphology لأنه قال “هى صميم روحه”، فهى روح روحه، هذا معنى أنها صميم روح التاريخ الطبيعي، ولذا يتساءل ماذا بوسعنا أن نستنتج من مُلاحَظة يد الإنسان المُعدَة – هى Design For What، أي مُعدَة ومُصمَّمة ومُشكَّلة لماذا؟ -للقبض على الأشياء، وهذا نُلاحِظه في مُقابِل مخلب الخلد، فالخلد حيوان أعمى، ومخلبه مُصمَّم للحفر في الأرض، وكذلك زعنفة خنزير البحر مُعدَة للعوم أو للسباحة، وجناح الخفاش مُعَد للطيران، وطبعاً هو جناح بلا ريش، فهو جناح من لحم ومن جلد ليس فيه ريش، والخفاش ثديي – من الحيوانات الثديية – طائر، وهذا شيئ عطيب، فهوله جناح من غير ريش وإنما جناح من جلد، لأنه كان في البداية عضواً آخراً وتم تطويره، وكل هذه الأشياء التي ذكرتها وغيرها تعكس نمطاً أساسياً،والنمط الأساسي في الأول هو وجود خمسة أصابع، فكلها في الأصل النمط الأساسي كان عندها خمسة أصابع مُعدَلة – تم تعديلها – لأنها مُجرَّد نُسخ جرى العمل عليها بآلية الانتخاب الطبيعي لتُعدَّل – نحن فهمنا معنى التعديل – فيما بعد، فهى مُعدَّلة من العظام نفسها – في الأصل – مع الاحتفاظ بالمواقع النسبية نفسها”.
عندما نأتي مرة أخرى أيضاً للأدلة سوف نأتي بصور وأشياء دقيقة لكي نراها، وسوف نعد حتى العظمات هنا وهنا وهنا وسوف نرى ما الذي يحدث عندما تندمج عظمة في عظمة ولماذا ينقص العظم هنا ولماذا ينقص هناك، وهذا شيئ عجيب، ففعلاً يُوجَد نمط أصلي جرى الاشتغال عليه بآلية – كما قلنا – الانتخاب الطبيعي أو التحدر مع التعديل، وطبعاً هذا الشيئ لم يكن تشارلز داروين Charles Darwin هو أول من لاحظه، وإنما لاحظه علماء المورفولوجيا – Morphology – من قبله الفرنسي جورج كوفييه Cuvier الذي لاحظ هذا، وكذلك جيفري Geoffroy في نظريته الشكلانية لاحظ وأوحى له بفكرة وحدة التصميم، علماً بأن جيفري Geoffroy هو أحد كبار المُؤسِسين لهذا العلم، وطبعاً بالنسبة للعلماء الذين يُؤمِنون بنظرية الخلق المُستقِل سوف يُقدِّمون تفسيراً أو اقتراحاً ويقولون لك “الله أو الرب – سبحانه وتعالى – يميل دائماً إلى الاقتصاد”، لكن ما معنى أنه يميل إلى الاقتصاد؟ أي أنه يُصمِّم نمطاً ثم يُنوِّع على هذا النمط، فهو عنده نمط واحد ويعمل تنويعاً فيما بعد، لكن كل هذا التنويع ليس له علاقة بالانتواع، فهذا ليس انتواعاً وإنما هو تنويع، حيث يُوجَد نمط مُعين، والله أخرج منه هذا وأخرج منه هذا وهذا وهذا، أي تنويع على نمط واحد وليس انتواعاً من نمط واحد، ولكنهم يقولون “هذا هو جوابنا”، وعلى كل حال طبعاً داروين Darwin لا يقبل هذا بالمرة ولا يُقنِعه هذا لأسباب كثيرة أيضاً سنشرحها حين نأتي بأمثلة على هذا الموضوع.
أخيراً يتعلق بمسألة المورفولوجيا Morphology قضية الأعضاء الضامرة، وهذه الأعضاء الضامرة شرحتها لكم اليوم، ووُجِه بها داروين Darwin على أنها تتحدى نظريته، فنظرية داروين Darwin بالحري أنها تُواجِه مُقاوَمة شديدة أو صعوبة خاصة حين تُفسِّر لنا أجزاء الأعضاء، أي مراحل الأعضاء التطورية الأولى، فبحسب داروين Darwin – مثلاً – لابد أن تكون العين قد تطورت في زمانية طويلة لكن بالتدرج أو بالتدريج، فإذن العين لم تكن عيناً من أول يوم، وإنما أصبحت عيناً بعد مئات ألوف أو ملايين السنين، وهنا يأتي التحدي لداروين Darwin، فما فائدة الشيئ الذي لم يكن عيناً ولم يكن معناها مُعَداً للإبصار إذن؟ ولا تقل لي “هذا أمر عادي، فهو بعد ذلك نجح في أن يكون عيناً” لأن هذا ليس جواباً، فمن المفروض أن الانتخاب الطبيعي يستبقي أي تغير مُفيد ويُعطي ميزة تكيفية للكائن، وهذه الميزة التكيفية غير ظاهرة، فنحن لو جرى عندنا نشوء أو بزوغ أو انبثاق لتغير ما بخصوص العين – مثلاً – ما هو أول شيئ سيُساهِم في تشكيل العين؟ بروز خلية حساسة للضوء، فخلايا الجلد – مثل جلد اليد – غير حساسة للضوء، لكن لابد من خلية تبدأ تتحسس للضوء ومن ثم تلتقطه مثلاً، فتكون هذه بداية نشوء العين، وطبعاً بحسب علم التطور وعلماء التطور الكبار جرى تطوير العين على الأقل أربعين مرة حتى أصبحت عيناً بالمعنى الآن المفهوم للعين، لكن هذا بعد أربعين مرة، وهناك طبعاً مرات غير مُتناسِبة وفي أوقات غير مُتساوية، فمن المُمكِن أن تأخذ مرحلة من هذه المراحل الأربعين نصف مليون سنة وتأخذ مرحلة أخرى عشرة آلاف سنة وتأخذ مرحلة ثالثة سبعين مليون سنة وهكذا، لكنه على كل حال قال لك على الأقل أربعين مرة جرى العمل والسمكرة على هذه الأداة الجديدة والعضو الجديد حتى أصبح العين كما نفهمها اليوم بمُختلَف أيضاً أشكالها وصورها وتعقيداتها، فالسؤال الآن: لماذا استبقى الانتخاب الطبيعي أول خلية حساسة للضوء يُمكِن أن تكون المُساهَمة البدائية في بروز عين بعد ملايين السنين حين بزغت؟ فهذه لا ترى أصلاً وهى ليست عيناً بل ولا واحد على ألف من العين أصلاً، فلماذا يستبقيها؟ المفروض ألا تبقى، ليس بالضرورة أن يهلك الحيوان بها – كما قلت لكم – ولكن هى بحد ذاتها ليس لها أي ميزة لكي تُستبقى، فكان مُمكِن تهلك، والواقع أنها استُبقيَت، فلماذا إذن؟ علماً بأن هذه النُقظطة من أقوى التحديات، لكن داروين Darwin وخاصة التطوريون الذين أتوا بعده لا نستطيع أن نقول عنهم إلا أنهم كانوا أذكياء وأقوياء جداً في الجواب عن هذه المسألة في الحقيقة، حيث قالوا “لا تُوجَد أي مُشكِلة، عُشر عين أفضل من لا شيئ”، بمعنى أن خلية أو مجموعة خلايا بسيطة تتحسس للضوء يُمكِن أن تجعل الكائن – أياً كان دودة أو طفيلياً أو أي شيئ – البسيط يشعر شعوراً شبحياً شديد الضبابية بمصدر الضوء، وهذا قد يُساعِده على التحرك في بيئته، وهذا كلام معقول، لكن طبعاً الجواب النهائي والقوي عن هذه المسألة سوف ترونه فيما بعد، وربما سوف ترون مقاطع من الفيديو – Video – من وثائقيات مُعينة عن هذا، والعجب في هذه الجُزئية أنها تُثبِت لنا أن هناك مراحل تطورية للعين مُختلِفة لا تزال موجودة إلى الآن على وجه الأرض وكلها تشتغل وكلها نافعة، فنحن سنجد كائنات مُعيَّنة على هذا النحو، وخاصة الرخويات، فبعضها يحتوى على عُشر عين وينتفع بها، وبعضها على أكثر من عُشر، وبعضها على نصف عين، وبعضها على ثلاثة أربع عين، وبعضها على عين كاملة، وطبعاً هناك حيوانات لديها عيون أكثر تعقيداً من عين الإنسان نفسه، فالإنسان طبعاً ليس صاحب أكفأ عين في الحيوانات، هناك حيوانات أكثر كفاءة بمراحل منا، وكل هذا موجود ومُتجاور ويعيش في الوقت الحالي، لكن على كل حال هذا جواب قوي، وطبعاً نقطة القوة فيه تمثل في أنه سيُعرَض لنا وعلينا مجموعة من الرخويات المُختلِفة، وهذه الرخويات كلها – كما قلت لكم – منها ما يتوفر على عُشر عين أو نصف عين أو ثلث عين أو ثلاثة أربع عين أو عين كاملة مُعقَدة جداً، وكله موجود وكله نافع، فلا تقل لي أن عُشر العين لا ينفع، فهذا غير صحيح، فعُشر العين ينفع، ومن هنا يقول داروين Darwin مُجيباً بطريقته أيضاً “مثلاً قد تسألونني بصدد مجموعة ريش برزت على طائر لم يكن طائراً بعد – هو كائن زاحف Reptilian، وبدأ ينبت عليه ريش مثلاً – لماذا يُستبقى هذا الريش؟ وتقولون هذا الريش سيكون نافعاً حين يُساهِم في تكوين جناحين اثنين يطير بهما ويُحلِق بهما هذا الزاحف الطائر، لكن في الحقيقة الآن ليس هناك جناحان وهذا الريش لا فائدة منه، فلماذا يُستبقى؟ لكن هذا غير صحيح، على الأقل هذا الريش قد يكون مُفيداً في عزله للحراراة، ومن ثم يستبقيه الانتخاب الطبيعي”، أي ليس شرطاً أن يُؤدي من أول يوم إسهامات في الطيران، فبعيد جداً أن يكون المُراد من هذا الريش أن يُحقِق برنامج جناحين مُحتمَلين، وطبعاً داروين Darwin يكفر بهذه الطريقة، لأن هذه طريقة التصميم، وهى الطريقة بالذات التي يعتمدها القائلون بالخلق الخاص، فهم يقولون “إذا سلمت بهذا ونحن نُريد أن نُسلِم به لكنه سيخدم في اتجاه مُختلِف عن اتجاهك تماماً فهذا سوف يُؤكِّد وجود الخالق ووجود التصميم في الطبيعة ووجود التصميم في الكائنات،لأن إذا كانت بداية الجناحين مُجرَّد مجموعة ريشات تظهر هنا وهناك على جانبي الزاحف – أي الطائر المُستقبَلي – فمعنى هذا أن الانتخاب الطبيعي حين يستبقي هذه الريشات فإنه بمعنى آخر سيكون انتخاباً مُصمَماً أو مُوجَهاً من قبل الخالق لكي ينتهي بعد حين – ولو كان حتى بعد ملايين أو ألوف السنين – إلى تكوين الجناح الذي هو الغاية في ذهن الخالق، لأن من غير أن ينتهي الريش إلى تكوين جناح لن يكن منه ثمة فائدة كريش، لكن يرد داروين Darwin قائلاً “هذا غير صحيح، فالانتخاب طبعاً أعمى”، وهو أكيد سمكري أو مُرقِّع أعمى Blind Tinkerer، علماً بأن كلمة Tinkering تعني الترقيع أو السمكرة، وقد قلت لكم في حلقة سابقة أن من أكبر التشبيهات التي يعتمدها التطوريون لتوضيح عمل الانتخاب الطبيعي تشبيهه بالسمكري، فالانتخاب الطبيعي ليس مُصمِّماً، ولا يُوجَد أصلاً تصميم بالانتخاب الطبيعي، والانتخاب الطبيعي – كما قلت لكم – ليس قوة موجودة في الحقيقة أبداً، وإنما هو طريقة لاستبقاء ما ينفع واستبعاد ما لا ينفع فقط، بنوع مُلاءمة أو فقدانها بين الكائن وبين الطبيعة، فهذه هى العملية كلها، ولذلك فعلاً يكون أعمى، فهو بالتأكيد أعمى وليس قوة عاقلة وذات تعرف وعندها مبدأ وقانون تشتغل عليه وخطة وبرنامج عمل، لا يُوجَد مثل هذا الكلام أبداً،ولذلك توجد عيوب في الخليقة، فتستطيع أن تجد حتى في تركيب الإنسان عيوباً، وكذلك في تركيب الحيوانات تُوجَد عيوب، ومن هنا قد تقول “أستغفر الله” لكن تُوجَد عيوب بالفعل، وإلى الآن لم يثبت إلا أنها تُعَد عيوباً – Imperfections – وأشياء غير تامة وغير صحيحة وغير موضوعية، ومن ثم التطوريون يقولون لك “هذه العيوب تُؤكِد أنالانتخاب الطبيعي هو الذي اشتغل وليس مُصمِّماً عاقلاً مُختاراً”، ومن هنا قد تقول لي “أعطني مثالاً وحيداً لكي أقتنع لأنه العملية صعبة” ومن هنا أقول أن من أكبر الأمثلة على هذا الموضوع العيوب المُتعلِقة بالعين، علماً بأنها معروفة للك ولكن سوف نشرحها في وقتها، وكذلك تُوجَد عيوب أيضاً تتعلَّق بالأسهر، وهو القناة الناقلة للمني عند الرجال، فعيبها واضح تماماً وله علاقة بالفتق الأربي الذي يُسبِب لكثير من الرجال – إن لم يتداروكوا أنفسهم بعملية جراحية في وقتها – الموت، لأن المفروض أن يكون لدينا خصيتان – لا مُؤاخَذة – على الجانبين وأن يكون عضو الرجل في المُنتصَف وأن تنزل مُباشرة القناة الناقلة للمني – أي الأسهر – من الخصية إلى العضو، لكن هذا غير موجود، تماماً كما أن لدينا الكُليتان على الجانبين ولدينا المثانة في المُنتصَف وينزل الحالب – Ureter – بشكل مُباشِر من الكُلية إلى المثانة، لكن الأمر ليس على هذا النحو، فالأمر كالتالي: تُوجَد الخصيتان في الجانبين لكن يذهب الأسهر إلى فوق ويلف حول الحالب ثم يعود إلى العضو – أي إلى أسفل – بعد ذلك، وهذه اللفة – Curve – مُتعِبة وغير مُفيدة وتُسِبب مشاكل للذكور، فلو كان الأمر تم بالتصميم سيكون كما شرحت لكم في الأول، لكنه لما تم بطريقة السمكرة والترقيع – Tinkering – وبطريق الانتخاب الطبيعي الأعمى – Blind Tinkerer – طبعاً حدث هذا، وذلك لأن الإنسان مُتطوِر من ذوات الأربعة، فكان هكذا وضعه في البداية، ولما اضطُر أن ينتصب – للظروف التي سنشرحها في حلقات مُقبِلة إن شاء الله – كان لابد أن تنزل الخصيتان إلى الأسفل، لأن وجودهما في داخل الجسم يُعرِضهما للحراراة العالية وهذا يقتل المني ويفسده وبالتالي هذا ضد عملية التكاثر، فكان ينبغي أن تنحدر الخصيتان إذن، فلما انحدرتا طبعاً ربما في مئات ألوف السنين حصل وقوع هذا الخطأ، أي هذه اللفة للأسهر، وبقيت موجودة إلى الآن، فإذن هذا هو الترقيع وهذه هى السمكرة التي يقوم بها الانتخاب الطبيعي، وهذا كلام عجيب ومُتعِب ومُزعِج، لكن هذا هو الموجود، فهو لا يشتغل على خطة ولا يشتغل بغاية – هو ليس غائياً Teleological – وإنما يشتغل سمكرةً، فهو عنده أشياء يشتغل عليها بصحها وبغلطها، وتستمر الأمور على هذا النحو وبهذه الطريقة كما قلنا.
نكتفي بهذا في هذه الحلقة على أن نُكمِل – إن شاء الله – في الحلقة المُقبِلة، وأعتقد أننا بدأنا الآن نقترب من موضوعنا الرئيس، فبقيَ أن أشرح لكم فقط النقود التي وُجِهَت للنظرية في زمن داروين Darwin والثغرات التي لم يستطع أن يسدها وكيف تم سد هذه الثغرات على يد عالم الوراثة بل الأب الروحي للوراثة جريجور مندل Gregor Mendel وكيف اعترض في الطريق أحد المُفتَتنين بداروين Darwin وهو أستاذ النبات الكبير في أمستردام الهولندي هوجو دي فريس Hugo de Vries، لكنه في أثناء عمله لكي يُثبِت بطريقة تجريبية صحة الانتخاب الطبيعي وصل إلى نتيجة مُعاكِسة تماماً، حيث وصل إلى الطفرة التي ألغت كل حاجة إلى الانتخاب الطبيعي، واستغل اللاماركيون – نسبةً إلى لامارك Lamarck – الجُدد نظرية الطفرة لتسديد ضربة مُوجِعة لنظرية التطور الداروينية، وانبعث لدينا هنا العالم الألماني الكبير أوغست وايزمان، August Weissman، وهو ثاني أعظم مُنظِّر في علم الأحياء في القرن التاسع عشر كما نعته الأمريكي التطوري العظيم إرنست ماير Ernest Mayr، فهو أيضاً من أصحاب التركيبية المُعاصِرة التطورية، حيث انبعث لكي يُعيد إنعاش النظرية من جديد عبر استخدام الطفرة كذريعة لتفسير كيف يعمل الانتخاب الطبيعي، وأيضاً عبر دمج نتائج مندل Mendel التوريثية أو الوراثية مع نظريته – أي نظرية الألماني أوغست وايزمان August Weissman – في الوراثة، وهى نظرية مُحكَمة وقوية ومُمتازة جداً، فكل هذا جُعِلَ في خلطة جديدة لتنشأ لدينا الداورينية الجديدة ال Neo-Darwinism، فإذن سنشرح لكم شيئاً يتعلق بفايزمان Weissman وقبل ذلك شيئاً يتعلق بمندل Mendel وبعده بهوجو Hugo، وسنقول كيف وصلنا إلى التركيبية الجديدة وما هى التركيبية الجديدة، وبهذا تقريباً نكون قد أنجزنا – إن شاء الله – هذا الجزء، وبعده نستأنف في ذكر الأدلة كما هى معروضة اليوم في الوقت الحالي.
إلى أن ألقاكم في حلقةِ جائية مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق