بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته المُبارَكين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا، إنك أنت التوّاب الرحيم. ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات وبالسعادات أعمالنا وآجالنا، يا رب العالمين. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً.
أما بعد، أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
درسنا اليوم سيدور على اسم الله السلام – جل جلاله، وسُبحانه وتعالى -. اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام.
واسم السلام – أيها الإخوة والأخوات – من أسماء الله الحُسنى – سُبحانه – ورد في كتاب الله في موضع واحد فقط، ورد في كتاب الله في موضع واحد فقط ضمن أسماء الله الحُسنى في آخر سورة الحشر، فقط! موضع واحد، ليس له ثان.
السلام. وبيّنٌ وواضحٌ لديكم على ما أعتقد أن هذا الاسم مُشتَق من السلامة، بل هو بمعنى السلامة. والسلام مصدر، والسلام أصلاً هو مصدر، وإنما سُميَ به الله – سُبحانه وتعالى – من باب ومن قبيل المُبالَغة. العرب تُجوِّز أن يُوصَف وأن يُنعَت بالمصادر، يقولون فلان عدل. أليس كذلك؟ من مُصطلحات علماء مُصطلَح الحديث، مُصطلَح ماذا؟ مُصطلَح العدالة. أليس كذلك؟ ويقولون الراوي الفلاني عدل، والراوي الفلاني ليس عدلاً. كيف هو عدل؟ نحن نعرف أنه عادل مثلاً، عادل أو مُعتدِل، ولكن عدل تختلف! هذه تسمية ووصف بالمصدر. والوصف بالمصدر وارد وكثير، ويأتي للمُبالَغة.
وطبعاً حين نقول فلان ما هو إلا جود وكرم – بدل أن نقول هو كريم وجواد، نقول هو جود وكرم. أي هو الجود نفسه وهو الكرم عينه -، يكون هذا من قبيل المُبالَغة، نعم! فلان جود، فلان كرم، فلان عدل، فلان سلام، فلان سلام! هو سلام، هو محبة. المسيحيون يقولون الله محبة. والله سلام! هذا كله من باب أو من قبيل النعت والوصف بالمصدر. وكما قال الشاعر المُتظرِّف يوم – وذكرت هذا في دروس قديمة جداً -:
أفيضوا على عزابكم من بناتكم فما في كتاب الله أن يحرم الفضل.
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه فهن به جود وأنتم به بُخل.
فهذا أيضاً من باب ماذا؟ من باب الوصف والنعت بالمصدر. هذا شاعر عازب، لا يجد مَن يُزوِّجه، ويبدو أنه كان فقيراً مُملِقاً، فيقول:
أفيضوا على عزابكم من بناتكم فما في كتاب الله أن يحرم الفضل.
أي ممنوع، هذا ليس موجوداً في كتاب الله، الله لم يُشرِّع هذا الشيء ولم يُسوِّغه في شرعه، فما في كتاب الله أن يُمنَع الفضل.
وفيهن فضل؛ فيهن زيادة، عددهن زائد. أليس كذلك؟ أزيد من الرجال.
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه فهن به جود وأنتم به بُخل.
قال هن به جود. وصفهن بماذا؟ بالمصدر. ولذلك من باب فقط الفائدة النحوية، نقول الوصف بالمصدر يستوي فيه المُذكَّر والمُؤنَّث والمُفرَد والمُثنى والجمع. نقول هو عدل، هي عدل، هما عدل، هن وهم عدل. يستوي فيه، كله! ولذلك هو قال فهن به جود وأنتم به بُخل.
إذن السلام مصدر، وُصف به الله – سُبحانه وتعالى -؛ للمُالبَغة، ولا مُبالَغة.
أيها الإخوة:
ما معنى السلام في حق الله – تبارك وتعالى -؟ له معان كثيرة. أول هذه المعاني وأولاها – إن شاء الله – بالشرح والإيضاح هو الآتي، ولن نُطيل؛ لأننا استوفينا جُزءاً أو طرفاً يسيراً من هذا الشرح، عند حديثنا عن اسم الله القدوس – جل جلاله -، والسلام يلتقي مع القدوس في هذه النُقطة، ما معنى هذا الكلام؟ يضح بعد أن أُوضِّح المعنى الأول للسلام.
السلام هو الذي سلمت ذاته وصفاته وأفعاله من كل ما لا يليق به، وأدباً – كما تعلَّمنا في الدرس السابق – لا نُريد أن نقول من الآفات والمعاطب والمعايب، عيب! هذا في حق الله عيب. الأفضل دائماً أن نتعوَّد الأدب قدر ما نستطيع، فنقول ماذا؟ هو الذي سلمت ذاته وصفاته – أي أسماؤه وصفاته طبعاً، الشيء نفسه – وأفعاله، من ماذا؟ لا نقول من العيب، لا نقول من العيب ومن النقص ومن الآفات، وإنما نقول من ماذا؟ مما لا يليق به – سُبحانه وتعالى -.
ولذلك إذا تحقق المُؤمِن بمعنى هذا الاسم الجليل لله – سُبحانه وتعالى -، يعلم مثلاً أنه لا يُمكِن أن يكون في فعل الله شر مُطلَق. بعض الناس يظن أن الله يفعل أو يسوق أو يُرسِل الشر. أعوذ بالله، حاشا لله، هذا كفر بأسماء الله، وإلحاد في أسماء الله وصفاته، وقد أمرنا الله أن نذر الذين يُلحِدون في أسمائه وصفاته، وتوعدهم بالجزاء، وتوعدهم بالجزاء والعقوبة.
الله – عز وجل – مُحال أن يُرسِل الشر أو أن يفعل الشر المُطلَق. وما معنى الشر المُطلَق؟ ما معنى الشر المحض؟ الشر المُطلَق الذي هو شر ذاتي من جميع جهاته. لكن إذا رأيت أنت فيما يُمكِن أن تراه شراً، إذا رأيت فيه نفعاً أو خيراً غالباً، وشراً أقل من ذلك، فهل يُقال هذا شر أو خير؟ هذا خير. حتى إبليس – لعنة الله تعالى عليه – من جوانب كثيرة خير، وفيه خيرات كثيرة جداً جداً. لولا إبليس، ما استبان الصالح من الطالح، ما استبان الصدّيق من الزنديق، ما استبان أهل الجنة الفائزين من أهل النار الخاسرين، ما استبان… ما استبان… وهلم جرا، إلى آخر ما تُريد من هذه المعاني، أليس كذلك؟ لولا إبليس! لولا إبليس، لكنا جميعاً طبقاً واحداً، لكنا جميعاً نعتاً واحداً، وصفاً واحداً، وهيئةً واحدةً. والله لا يُريد ذلك، الله يُريد ابتلاءنا – تبارك وتعالى – بأشياء كثيرة، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، اختبار! والدنيا دار اختبار.
إذن إبليس من جوانب كثيرة فيه خيرات كثيرة، أليس كذلك؟ وجوده فيه خير كثير جداً للمُوحِّدين. وجوده للكافرين – والعياذ بالله – وللزنادقة والمُلحِدين والهالكين شر كبير جداً، ووجوده للمُؤمِنين خير كبير جداً، لماذا؟ بمُكامَعة هذا الملعون – لعنة الله عليه، بل لعائن الله مُتتابَعة عليه، إلى يوم الدين، إلى أبد الآبدين – أو بمُكامَعة هذا اللعين ومُناكَدته ومُشاكَسته ومُحارَبته، يرتقي مَن؟ المُؤمِن. يرتقي في درج التقوى، في سُلم اليقين، أليس كذلك؟ في القُربان إلى رب العالمين، طبعاً! هذا سبب، هذا سبب من الأسباب.
إذن لا نقول إنه شر محض. ليس شراً محضاً، والله لا يخلق الشر المحض. ولذلك هذا إحدى الجوابات – يُقال جواب، وأجوبة، وجوابات. وجوابات أفصح من أجوبة – عن السؤال الفلسفي العتيد، السؤال الأزلي القديم قِدم الإنسان؛ لِمَ، لِمَ سمح الله – تبارك وتعالى – بوجود الشرور والآفات والمعائب والنقائص والبلايا والمحن والفتن والأوجاع والأوصاب والأنصاب في دنيا الناس، في عالم الآدميين؟ لِمَ؟ وطبعاً – كما تعلمون – هذا فصَّلنا فيه القول والحمد لله تفصيلاً واسعاً في مُحاضَرة وفي خُطبة جُمعية، عن موضوع العدالة أو العدل الإلهي، نعم! من طريقة عقدية وطريقة فلسفية، ولكن هنا أُريد فقط أن أُذكِّر بشيء وأن أُشير إلى شيء؛ إحدى هذه الجوابات أن الشر قضية نسبية، والشر مفهوم إضافي، فما يُعَد بالنسبة إليك شراً، يُعَد بالنسبة إليك خيراً، ومصائب قوم عند قوم فوائد. أليس كذلك؟ ومصائب قوم عند قوم فوائد!
فالذين ينقلون الموتى وينسجون الأكفان ويصنعون الآلات الحدباء والتوابيت وعروش الموتى وحفّارو القبور، كل هؤلاء يستفيدون جداً من الكوارث والمصائب، أي هي من هذا الجانب بالنسبة إليهم خير، طبعاً! ويُحِبون ذلك، معروف! مصائب قوم عند قوم فوائد. وحتى المُستثمِرون ورجال الاقتصاد والمال، حين تحدث كارثة، كأن تتهدَّم عمائر كثيرة، يفرحون بذلك فرحاً شديداً، فهناك مشاريع جديدة إذن، واستثمارات جديدة، فتروج لهم سوق، تروج لهم سوق جديدة، وهكذا!
جيد، فهذه قضية ماذا؟ الشر النسبي. الله – تبارك وتعالى – لا يفعل هذا. ولذلك من باب الأدب مع رب العزة والجلال – لا إله إلا هو – ألا يُنسَب إليه الشر، حتى الشر النسبي، وحتى الشر الإضافي، مع أننا نعلم أنه من خلقه، أليس كذلك؟ من الذي خلق الآلام والأوجاع والأوصاب والتباريح؟ مَن الذي خلق الحيات والعقارب والسباع؟ مَن الذي خلق السموم والعواصف والزوابع والصواعق والسيول والطوفانات و… و… و…؟ الله – تبارك وتعالى -. أليس كذلك؟ مَن الذي خلق الكافرين، وسمح لهم بالكفر، والمُجرِمين، وأطلق أيديهم في الإجرام وفي العتو والبغي والصيال والعدوان على عباد الله الأبرياء؟ مَن؟ الله – تبارك وتعالى -. كحقيقة عقدية نعلم ذلك، لكن في مقام الأدب لا يجوز وفي مقام التعبير لا يجوز أن ننسب هذا صراحةً إلى الله، هذا من باب قلة الأدب مع الله، والله علَّمنا ذلك والرسول أيضاً علَّمنا ذلك.
قال إبراهيم ماذا؟ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۩. لم يقل وهو يُمرِضني ويشفين. وطبعاً قال وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ۩ وقال وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ۩، ولكن لم يقل بينهما ماذا؟ يُمرِضني ويشفين. لا! المرض يُعتبَر شراً، أليس كذلك؟ شيء غير مُستحَب، انظر إلى أدب الخليل، أنبياء هؤلاء! آدب خلق الله مع الله هم الأنبياء، ويعلمون هذا، ومنهم يجب أن نتعلَّم الأدب. أي – كما قلت، لا أدري اليوم أو في درس أمس، وهذا تعلمونه – الطريق إلى الله مُؤسَّس على ومُحاط بـ ومشروط فيه مُبتدأً ومُنتهىً وتوسطاً: الأدب. في البداية أدب، في الوسط أدب، في النهاية أدب. الأساس أدب، الغاية أدب. كله مُركَّن ومُؤسَّس ومشروط ومُحاط بالأدب. مهما نقص الأدب، صار الحجاب، وصار الطرد. تُطرَد مُباشَرةً! أنت في حضرة ملك الملوك، إذا لم تُراع الأدب على وجهه، لا يُؤذَن لك بالحضور. وإن كنت حاضراً – تصوَّر -، طُردت من الحضرة، تخرج! خالفت الأدب؟ اخرج! يجب أن تكون مُؤدَّباً مع الله، وكلما ارتفعت درجتك في الولاية وفي القُرب من الله – تبارك وتعالى -، انبغى عليك أن تُراعي الأدب الدقيق، دقيق الأدب!
وقد قال الإمام القرطبي كلمة جميلة لا أزال أذكرها،، في تفسيره، وقد قرأتها في أيام الصبا. قال أبو عبد الله القُرطبي – قدَّس الله سره -، قال وقد يُثاب السائس على ما يُعاقَب عليه الوزير. في حضرة الملك، لدينا السائس (سائس الخيول، سائس الخيول والدواب)، وهذا عمله أين؟ أين؟ في الإسطبل، هذا عمله في الإسطبلات. هذا حين يأتي بلفظ أو بتعبير أو بجُملة أو بشيء، قد يستحسنه منه الملك، ويأخذه على قدر عقله، وقد يُثيبه عليه؛ يصله بصلة، يُعطيه جائزة، يُمِده بنعمة، يخلع عليه خلعة، وهكذا! ولكن الفعل نفسه، التصرف نفسه، والكلمات نفسها، لو أتى بها الوزير يُعاقَب، وقد يُسجَن، وقد تُقطَع رأسه أحياناً. هذا مقبول من السائس، ولكن منك كوزير تعلم البروتوكولات Protocols والإتيكيت Etiquette والقواعد والأشياء التي ينبغي أن تُراعى، غير مقبول.
يؤاخذ كل واحد منا بحسب مرتبته؛ أنت جاهل (غلبان)، لا تعرف كيف تُخاطِب ربك، لا تُوجَد مُشكِلة. ولكن حين ترتقي إلى درجة أعلى، هناك ينبغي أن تُراعي دقيق الأدب ولطيف الأدب، أرأيتم؟ وفي الحديث المشهور أحد بني إسرائيل كان عابداً، زاهداً، فقيراً في الدنيا وزاهداً! المُهِم، في يوم من الأيام أرسل الله المطر، فاعشوشبت واخضرت الأرض، وأصبحت بساطاً واحداً جميلاً، يُبهِج الناظرين ويلذ الأعين، فقال آه، يا رب – وقد أسام فيها دابته -، لو أن لك حماراً تُرسِله يرعى مع حماري. هو يُحِب ربه، ويُريد ماذا؟ أن يُؤدي خدمة إلى الله. انظر إلى الجاهل، نعم هو عابد، وجاهل! عابد ولكن جاهل. ومن هنا فضل العلماء على مَن؟ على العبّاد. العالم عند الله أفضل بكثير من العابد، لماذا؟ لأن الأدب من أهم الأشياء. العبودية لماذا تُراد؟ العبادة نفسها لماذا تُراد؟ للأدب، لكي تُعلِّمك الأدب مع الله. والعبودية نفسها هي أدب، العبودية هي أدب! وأنت تزداد من العبادة، لكي تضلع أكثر من ماء زمزم أسرار الآداب الإلهية والحشمة الصمدانية الربانية. فإذا لم تُحصِّل هذه الآداب، أنت لم تستفد شيئاً من هذه العبادة. وهذا لا يأتي إلا بعلم، والعلم يختصر المراحل، العلم يختصر المراحل ويُقصِّر الطريق. والعابد قد يعيش وقد يموت أحياناً – إذا كان جاهلاً – ولم يصل إلى أشياء كثيرة، ولكن طالب العلم يتحصَّل عليها في شهور أو في سنوات يسيرة وسريعة، قليلة!
قلنا إذن السلام هو مَن سلمت ذاته وأسماؤه وصفاته وأفعاله من كل ما لا يليق به – لا إله إلا هو -. فلا نعرف من الله نحن إلا ماذا؟ إلا الحسن الجميل. وكل ما فعله ويفعله الله هو حسن جميل، أليس كذلك؟ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۩، ليس لنا أن نعترض، لماذا؟ لأن مَن له المُلك، فله الأمر، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩. مَن كان له المُلك، فله الأمر. ما دام هو – تبارك وتعالى – الذي خلق الخلق، إذن هو يُدبِّرهم بحكمته؛ إني أُدبِّر عبادي بحكمتي وأنا اللطيف الخبير. وهو يعلم، هو يعلم أن من عباد الله مَن لا يُصلِحه إلا الغنى، فهو يُغنيه، ولو أفقره، لأفسده الفقر. ويعلم أن من عباده مَن لا يُصلِحه إلا الفقر، ولو أغناه، لأفسده ذلك. وأن من عباده مَن لا يُصلِحه إلا الصحة والعافية، فهو يُعافيه ويُصح له بدنه، ولو أسقمه، لأفسده ذلك. وإن من عباده مَن لا يُصلِحه إلا السقم – المرض والعلة والأوجاع -، ولو أصح له بدنه، لأفسده ذلك. قال إني أُدبِّر عبادي بحكمتي وأنا اللطيف الخبير.
ولذلك تعلَّموا ولنتعلَّم جميعاً، كلما رأينا شيئاً، أن نقول ماذا؟ لحكمة بالغة. يُوجَد بعض الناس الذين يُخطئون، ويُوجَد فرق دقيق جداً جداً، بعض الناس يُخطئ ويقول ماذا؟ يستحق، فلان يستحق. لا! هذا لا يجوز، هذه شماتة ممنوعة شرعاً، وأنت تُعرِّض نفسك بهذه الشماتة لمثل ما رأيت من بلوى هذا المُبتلى، أفهمت؟ حين ترى إنساناً مثلاً مُصاباً بعاهة بدنية، لا يُمكِن أن تقول يستأهل، لا رده الله. لا! هذا جهل. وبعض الناس يقول ذلك من باب العبودية، أن هذه عبودية! يقول نعم، يستأهل، والله يعرف أنه يستحق يا أخي. هذه شماتة! أنت يُمكِن أن تُعبِّر عن معنى قريب ودقيق وأديب، معنى فيه أدب! بقولك ماذا؟ لحكمة بالغة. تُوجَد حكمة! قد يكون لخير هذا الإنسان، قد يكون! قد يكون الله – تبارك وتعالى – أراد الخير بهذا الإنسان، أراد رفعته وعصمته؛ عصمته في الدنيا ورفعته في الآخرة، أليس كذلك؟ أراد أن يعصمه. الله يعلم أنه مثلاً لو أصح له بدنه، وسعى على قدميه، لسعى بهما إلى المهالك والمعاطب، لكن الله – تبارك وتعالى – شل له رجليه، فهو قعيد، أي هذا المسكين، وهو في ذكر الله وعبادته، إذن عصمه في الدنيا، وهو – إن شاء الله – غداً يُكرِمه ويرفع درجاته في الآخرة. إذن قل هذا لحكمة بالغة، إن شاء الله لصالح هذا الإنسان. لكن لا تقل يستأهل، يستحق، لا رده الله، لا أقامه. لا! هذه شماتة، لا تليق بالمُؤمِن، وهي قسوة أيضاً، قسوة لا تصدر عن قلب مُعلَّق بالله – تبارك وتعالى -. بالعكس! نحن يجب أن نرحم أهل البلاء، يجب أن نبكي لأهل البلاء، يجب أن ترق لهم قلوبنا، وأن ندعو لهم في خلواتنا. هذه صفة المُؤمِن! هذه صفة المُؤمِن؛ أنه قلبه رحيم، يتسع لمآسي جميع أهل الأسى. هذا هو الصحيح!
على كل حال، فدائماً تعلَّموا أن تقولوا لحكمة بالغة، فيها حكمة – إن شاء الله تبارك وتعالى -. فالمُؤمِن دائماً مُبتلى، وأنت يجب أن تفهم الابتلاء هكذا، أنه من باب ماذا – إن شاء الله -؟ التكفير والتطهير ورفعة الدرجات – إن شاء الله تعالى -. أو العقاب على بعض التقصير، والحمد لله أنه في الدنيا قبل الآخرة، أحسن! أحسن مليون مرة، أهلاً وسهلاً به حين يكون في الدنيا، ولذلك النبي يقول ليود أهل البلاء يوم القيامة أن لو كانوا قُرضوا بالمقاريض في الدنيا. أي كانوا يتمنون لو أنهم قرضوهم قرضاً في الدنيا وفرموهم فرماً، أي أعداؤهم. لماذا؟ لما يرون من كرامتهم عند الله يوم القيامة. كانوا سيتمنون أن يكون في الدنيا عذاب وما إلى ذلك. هذا هو! فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعافينا، وألا يبتلينا، وإذا ابتلانا، أن يُصبِّرنا وأن يُثبِّتنا، أن يرزقنا دائماً الصبر والثبات، فهذا أهم شيء، هذا هو أهم شيء!
نعم، جيد، هذا هو المعنى الأول. المعنى الثاني للسلام، ما هو؟ وطبعاً السلام في كل المعاني هو ذو السلامة، أو ذو السلام، صاحب السلام! صاحب السلام في ذاته، في أسمائه، في صفاته، وفي أفعاله. صحيح! صاحب السلام الذي يُحيي بالسلام. نقول حياهم الله وبياهم. بماذا يُحيي الله؟ بالسلام. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ۩، الله يُحيينا بالسلام. قال العلماء والسلام من الله قول وفعل. وعلى فكرة أكثر صفات الله التي هي صفات وأسماء أفعال، ليست مُجرَّد قول، مُستحيل! قول وفعل، أي هل رحمة الله قول فقط، أو قول وفعل؟ قول وفعل. قال لنا إنه رحيم، وسبقت رحمتي غضبي، وأنا الرحمن الرحيم، وأنا كذا وكذا. وفي الفعل رحيم ورحمن، أو ليس كذلك؟ ولذلك كانت رحمته تامة عامة. وقلنا الشيء لا يكون تاماً، إلا ماذا؟ إلا إذا كان قولاً وفعلاً. أليس كذلك؟ إذا كان قولاً، فلا. البشر قد يرحمك بقوله، يحزن لك، يبكي عليك، ولكن لا يستطيع أن يرحمك بالفعل. أنت موجود في الزنزانة الآن وتُعذَّب، ويبكي ويدعو لك، ولكن لا يستطيع أن ينفعك بشيء. هذا المسكين ليس عنده ما هو أكثر من البكاء والدعاء، أليس كذلك؟ قد يراك فقيراً، يرحمك ويرثي لك – ويرثي بهذه الياء طبعاً، وليس يرثى -، ولكن هو أيضاً فقير مثلك، لا يستطيع أن يرضخ لك ببعض المال، ليس عنده للأسف! رحمك بقلبه، فهل رحمته ناقصة أو تامة؟ ناقصة. لكن رحمة الله تامة، أليس كذلك؟ قولاً وفعلاً. حكمته قول وفعل، وهكذا سائر هذه المعاني والأسماء – إن شاء الله تعالى -.
جيد، وكذلك هنا السلام؛ السلام من الله قول وفعل، قول وفعل! ومن هنا كانت الجنة – التي نسأل الله أن يُنزِلنا فيها، وأن يُؤبِّد مقامنا فيها أجمعين، إن شاء الله تعالى – دار السلام، لماذا؟ الله يُحيينا بالسلام، ويُنزِلنا دار السلام. لماذا سُميت بدار السلام؟ لأن مَن أحله الله فيها وأنزله فيها، سلم من كل آفة وعطب. يحيا، فلا يموت. أليس كذلك؟ يصح، فلا يمرض. هو فرحان، جذلان، محبور، لا يحزن، لا يبتئس، لا يكتئب. أليس كذلك؟ ليس فيها إلا كل ماذا؟ إلا كل سلام وسلامة. فالله هنا سلَّمنا وسلَّم علينا بالقول والفعل، بالقول والفعل! حتى هذه الجنة، فيها الملائكة، تدخل وتخرج، وتحيتها ماذا؟ السلام.
(ملحوظة هامة) ذكر أحد الحضور قول الله لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۩، فقال فضيلته لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۩ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ۩، وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ۩ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ۩، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ۩، سلام… سلام… سلام… وكله سلام! هي دار السلام، والتحية فيها سلام. من عباداتنا الصلاة، الصلاة التحية فيها السلام؛ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. كيف نتحلل منها؟ بالسلام؛ السلام عليكم، السلام عليكم. وبعد أن ننفتل أو بعد أن نتحلل، نقول ماذا؟ اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. كله سلام! وتحيتنا فيما بين بعضنا البعض هي أيضاً ماذا؟ السلام. أليس كذلك؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ثلاثٌ مَن جمعهن، فقد جمع الإيمان؛ إعطاء النصفة من نفسه… يكون عادلاً، حين يُخطئ، يقول نعم، أنا أخطأت، أخطأت في حقك يا أخي، أنا الغلطان، وليس لي بركة إلا أنت، وها أنا أُقبِّل رأسك. هذا مُؤمِن! المُنافِق ليس كذلك، دائماً هو على صواب، وكل الناس غلطانون، تأخذه العزة بالإثم، لا! هذا ليس مُؤمِناً، ضعيف الإيمان. المُؤمِن يُعطي النصفة من نفسه، لماذا؟ لأنه عادل وصادق، لا يكذب، هو عادل! لا يظلم، ولا يمين، ولا يحيف على أحد، يقول ما له وما عليه، باعتدال وإنصاف أو نصفة. يُعطي ماذا؟ النصفة من نفسه.
يُعطي النصفة من نفسه، ويبذل السلام للعالم… النبي قال للعالم. تُسلِّم على مَن كل لقيت؛ السلام عليكم، السلام عليكم. هذه صفة المُؤمِن، سُبحان الله! لأن المُؤمِن إلف مألوف، والسلام عنوان المحبة ومفتاح المودة، صحيح! الذي يُسلِّم كثيراً هذا محبوب، وهو يُحِب الناس، سُبحان الله! هو لولا أنه يُحِب الناس، لما أفشى السلام في الناس، دائماً يُحِب أن يُسلِّم. وهناك أُناس تراهم وهم يرونك في الشارع، والواحد منهم يتظاهر وكأنه لا يراك، ثم يقول لك وكأنه تفاجأ كيف الحال؟ أنت تراني، فلماذا تنزل رأسك؟ هذا إما ضعف شخصية أو بُخل. وأنا أقول أحياناً لا، هو قد يكون إنساناً طيباً. ولكن هناك أُناس ضعاف الشخصية، يخجل الواحد منهم، يخجل من أن يطرح السلام. ما هذه الشخصية الضعيفة؟ أهكذا هو المُؤمِن؟ المُؤمِن مُنفتِح، مُنفتِح كالنهار الوضّاء المُشرِق، كالشمس! أي لا يكون هكذا أبداً؛ انطوائياً وخجولاً وما إلى ذلك، لا! بالعكس، حتى وإن كنت خجولاً، فلا تكن انطوائياً. وهناك بعض الناس ليس كذلك، لا أعرف، ربما لا يكون هذا خجلاً، لا أعرف! بُخل، نوع من البُخل، يبخل برد السلام، سُبحان الله! وما هذا؟ يا أخي هذا السلام، وهذا الشيء جيد، والنبي قال هذا، قال هذا من علامات المُؤمِن الكامل، يُفشي السلام، أي النبي قال يبذل السلام للعالم. سلِّم على كل مَن لقيت؛ مَن تعرف، ومَن لا تعرف، كلهم! كل عباد الله المُسلِمين، سلام! ديننا دين السلام.
والشيء الأخير؛ الإنفاق من الإقتار. تُنفِق وأنت مُقتِر، أي وأنت فقير، ليس وأنت عندك، عندك ملايين، عندك ملايين وتُعطيني ملاليم! لا، عندك على قد حاجتك، وأيضاً تُعطي – ما شاء الله -. النبي قال هذه صفة المُؤمِن الكامل. ثلاثة أشياء، أرأيتم إياها؟ ثلاثة أشياء هي خصال المُؤمِن الكامل، حقَّقنا الله بها أجمعين – إن شاء الله تعالى -.
نعم، وقال أبو الطيب:
ليس العطاء من الفضول سماحةً حتى تجود وما لديك قليل.
قال المُتنبي هذا هو الجود، ليس الذي عنده الكثير ويُعطي القليل، لا! قال الذي يُعطي ويجود وما عنده قليل، وما عنده قليل! هذا هو الجواد، هذا هو الكريم.
جيد، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه مُسلِم، عن أبي هُريرة، قال لا تدخلوا – هكذا، مع أن الأصل طبعاً لا تدخلون، ولكن هكذا، هي هكذا في الحديث، سُبحان الله، المُهِم أنه قال لا تدخلوا – الجنة حتى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا – والأصل ولا تُؤمِنون، ولكن هو هكذا – حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء، إذا فعلتموه، تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم. إذن هو فعلاً كما قلنا، طريق المحبة ومفتاح المودة إفشاء السلام، طيب جداً هذا الشيء، طيب جداً! ولكن هذا الحديث فيه ملحظ عجيب جداً، ما هو؟ النبي يقول الإيمان شرط دخول الجنة، أليس كذلك؟ والمحبة شرط الإيمان. الله أكبر، شيء خطير هذا، شيء خطير جداً جداً!
إذن من الصعب ومن البعيد أن يكتمل لك إيمان، وأنت انطوائي انعزالي وفي حالك، أي مُؤمِن بالطريقة الكنسية، تطلب الخلاص الفردي وفقط، أنا وحدي وليكن من بعدي الطوفان. أنت لست مُؤمِناً كاملاً، مُستحيل! هذا إيمان ناقص، أي وإيمان على خطر، صاحبه على خطر. النبي قال لا تُؤمِنوا – لا يُمكِن، لا يكتمل إيمانكم – حتى تحابوا. لا! هذا لازم، لازم أن تُحِب وأن تُحَب، انتبه! وبعض الناس لا يعنيه، بعض الناس يقول لك ما الذي يهمني أنا؟ أنا أؤدي صلاتي، وأنا آتي لكي أُصلي ثم أعود إلى البيت، ومَن أحب أحب، ومَن كره كره. لأنك جاهل! أي الذي يقول هذا هو إنسان جاهل. بالعكس! أنت على خطر يا رجل. المُؤمِن إلف مألوف – قال عليه السلام – ولا خير في مَن لا يألف ولا يُؤلَف. النبي قال هذا أصلاً ليس فيه خير، هذا معدوم الخير. وهو لا يُحِب هذا، يقول لك لا أحبوني ولا أحببتم، فقط خلوني مع زوجتي وأبنائي وانتهى الأمر. أناني هذا المسكين وجاهل. لا خير فيه. النبي قال، لا! بالعكس.
ولذلك النبي قال ماذا؟ قال – وعليه الصلاة وأفضل السلام – نصف العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس. نصف العقل! نصف العقل الإيمان بالله، ألا تكون كافراً، تستخدم ذكاءك استخداماً إيجابياً، إذا دلك عقلك على ربك وطاعته، فأنت عاقل – إن شاء الله تعالى -. النصف الثاني ما هو؟ التودد إلى عباد الله. تعرف كيف تصير إنساناً محبوباً بين الناس. ومطلوب هذا في الدين عندنا، مطلوب! وهذا – كما قلنا – شرط الإيمان، والإيمان شرط دخول الجنة، تخيَّل! أي الجنة لم يجعلها الله للأنانيين، للفرديين، للانعزاليين، لم يجعلها لهؤلاء! جعلها للمُنفتِحين، للذين يُحِبون ويُحَبون، يألفون ويُؤلَفون. اللهم اجعلنا منهم، بفضلك يا أرحم الراحمين.
وهذا هو، الله – تبارك وتعالى – لا يُيسِّر للعبد أن يكون حِباً محبوباً، إلا إذا كان مُؤمِناً. لأن الله يعرف أنه مُؤمِن، ويُعطيه هذه الكرامة، يجعله محبوباً، أليس كذلك؟ وأنتم تعرفون بعد ذلك أن محبوبية العبد بين الناس، علامة على محبوبيته عند الله؛ لأن الله يُنادي جبريل، وجبريل يُنادي في أهل السماء… وأنتم تعرفون الحديث، الحديث الصحيح! إذا الله أحبه، تُحِبه الملائكة، جبريل يُنادي وتُحِبه الملائكة، ويُحِبه الخلق، ويُوضَع له القبول في الأرض، يصير محبوباً! سُبحان الله، لماذا؟ لأن هذا رجل الله، هذا ولي الله، هذا من أهل الله.
فيُمكِن أن تُميِّز أحياناً بين النوعين التاليين من الناس؛ هناك أُناس حين تراهم، تُريد فعلاً أن تقول للواحد منهم السلام عليكم – أي تُسلِّم عليه -، ولا تُحِب أن تقف معه كثيراً، ولا تُحِب حتى أن تزوره ولا أن يزورك ولا أن تُكلِّمه ولا أن يُكلِّمك، لا ترتاح له! وهناك أُناس – سُبحان الله – على العكس من ذلك، أنت تُحِب فقط هكذا أن تتملى وجه الواحد منهم، وتُحِب أن تنظر فيه، فلماذا إذن؟ ليس من أجل جماله الجسدي، لا! هو يُمكِن أن يكون بالمقاييس الجمالية الاستطراقية العادية قبيحاً. أليس كذلك؟ لكن أنت ترى فيه جمالاً روحانياً، وترتاح إليه، وينشرح إليه صدرك بمرآه. وهذه علامة كونه ماذا؟ من أولياء الله – تبارك وتعالى -.
وطبعاً انتبهوا، أولياء الله ليس لازماً أن يكون عند الواحد منهم لحية كبيرة، وأن يكون شيخاً بعمة خضراء نقشبندية، وعلى الطريقة القادرية، والطريقة الدسوقية، وأن يكون معه سبحة، ولديه تمتمات وارتعاشات، وما إلى ذلك، لا! ليس كذلك أبداً، أبداً! أولياء الله يُمكِن أن يكون الواحد منهم إنساناً عادياً، هو واحد منا، عادي! شاب صغير عمره عشرون سنة، أو شيخ (ختيار) عمره سبعون سنة، أو امرأة، أو أخت، أو أخ، وقد يكون أحياناً حليقاً، ولكنه رجل في باطنه، وفيما بينه وبين الله، يرجو لله الوقار، يتقي الله حق تُقاته، من أهل الخشية، من أهل الورع، لا يأكل حراماً، بعيد عن الشُبهات، عنده قناعة، عف اللسان، عف الفرج، عف البطن، عف القلب، لا يُفكِّر فيما ليس له، أرأيتم؟
أنا أعرف بعض الناس – تصوَّر – هكذا. وهناك رجل من الصالحين، فعلاً حين تراه تعرف أن ليس له كبير عبادة، ولا كبير أذكار. يُحافِظ على الصلوات، يُصلي وما إلى ذلك، ولكنه ولي، وهو عنده سر باتع – كما يُقال في اللُغة المصرية العامية – مع الله – تبارك وتعالى -، والله لا يُخيبه، إذا رجاه. لماذا؟ عنده أوصاف بسيطة، ولكن عجيبة جداً، ومن أندر ما يكون، لا تجدها في لحى كبيرة وعند علماء ألَّفوا كُتباً. ما هي مثلاً؟ لا يكذب، ولا يُحِب الكذب إطلاقاً، لا يُحِب المُالبَغة، انتهى! الشيء كما هو، خمسة هي خمسة، لا تصير خمسينا، ولا تصير خمسة ملايين. لا يُحِب المُبالَغة؛ لأن المُبالَغة ضرب من ضروب الكذب، تصوَّر! لا يُحِب الحلف بالله، سُبحان الله! يصعب جداً أن تسمعه يحلف بالله، لا صادقاً ولا كاذباً، وهذا من عظمة مقام الله في قلبه، أليس كذلك؟ لا يُحِب أن يحلف بالله، لا صادقاً ولا كاذباً. والأعجب من هذا؛ لا يمد عينه إلى شيء ليس له مُطلَقاً. ولذلك يقول دائماً مما أكرمني به الله – تبارك وتعالى – مُذ صغري ومُذ تزوَّجت، ليس في قلبي إلا زوجتي، ولا تنطبع صورة امرأة قط على صفحة ذاكرتي إلا صورة امرأتي. وقد يكون في جوار أُناس عشر لمُدة سنوات أو عشرين سنة، ولا يعرف منظر المرأة التي بجواره، وتكون زارته ثلاثة آلاف مرة، ورآها ثلاثة آلاف مرة، ثم إذا رآها بعد ذلك، لا يعرف شكلها. قلبه لا يقبل أن تنطبع فيه إلا صورة ماذا؟ حلاله.
هذا المُؤمِن، أرأيتم؟ هذا القلب النظيف، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ۩ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩. الله أكبر! خير ما نأتي به الله يوم القيامة، ونتزوَّد به ليوم الدين، ما هو؟ سلامة القلب. ما معنى القلب السليم؟ القلب السليم القلب الخالص من الشرك والشك والشقاق والنفاق وسيء الأخلاق، أي من الدغل، من الغل، والحسد، والغش، والحقد، والكره، والبُغض لأولياء الله. هذا القلب هو القلب السليم، أحسن شيء تأتي به يوم القيامة. هنيئاً لك، إذا كان عندك هذا القلب!
وأنتم تعرفون حديث عبد الله بن عمرو، أليس كذلك؟ في رجل من أهل الجنة. النبي قال رجل من أهل الجنة يمر بكم. وذهب ابن عمرو بعد ذلك – المُهِم، هذا ابن عمرو، ويُنسَب إلى ابن عمر خطأ، وهو إلى ابن عمرو في الحقيقة – إليه.
المُهِم – لن نُطوِّل، والحديث معروف لكم – أن ابن عمرو قال له الآتي، وقد رآه عادياً، يُصلي العشاء وينام وما إلى ذلك، الرجل عادي في عبادته! أي – كما قلت – الرجل ليس صاحب أذكار وسبح وأعداد وأوراد وأشياء، لا! ليس كذلك أبداً، مُسلِم عادي، يشتغل ويُصلي العشاء وعدداً من الركعات وينام، ويقوم في الصباح، فيتوضأ ويُصلي ويذهب إلى شغله، وهكذا! فابن عمرو قال له ما هذا؟ ورأى عمله قليلاً، أي احتقر عمل هذا، عمل عادي، مُسلِم عادي! ولكن النبي قال من أهل الجنة هذا. عجيب! إذن فيها سر المسألة.
فسأله عن ذلك، وقال له أنا قلت لك بأنني غاضبت أبي، ولم أُغاضِب أبي ولم يحدث شيء من هذا، وأنا تحيَّلت حيلة، حتى أنام عندك هذه الليالي. نام عنده ثلاث ليال، ولم ير منه كبير عمل، والنبي قال فيه كذا وكذا، فما السر؟ قال له والله يا أخي ما هو إلا ما رأيت. أنا هكذا، أنا ما تكلَّفت أي شيء، لا أخفيت عنك شيئاً ولا أظهرت لك شيئاً، أنا هكذا. ولكن يعلم الله – قال هذا الله يعلمه منه – أني لا أضع رأسي على الوسادة كل ليلة وفي قلبي غل أو حقد أو غش أو بُغض لأحد من المُسلِمين. صافٍ، على كل عباد الله، وأُحِب كل إخواني.
وكل واحد عليه أن يُراجِع نفسه. هذا لكي تعرف من أين تؤتى، وحتى لا تعترض بعد ذلك على حكمة الله؛ لماذا يُعطيه الله؟ ولماذا لم يُعطني؟ لماذا لم يُعطني الله الولاية والصلاح وما إلى ذلك؟ لماذا لا أشعر بلذة المُناجاة وبحلاوة الذكر؟ لماذا لا أشعر بصلة حقيقية مع الله؟ لا، من نفسك، فانتبه، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۩، ما الذي أهمك، حتى لم تستطع أن تنام ليلة بطولها، لأجل نعمة ساقها الله إلى أخيك يا رجل؟ المفروض أن تعود إلى البيت وأنت ترقص فرحاً، وتُبشِّر زوجتك وأولادك؛ أبشروا، عمكم فلان – ما شاء الله – فتح الله عليه، وما إلى ذلك. هكذا هو المُؤمِن، يفرح لإخوانه يا رجل.
ولكن هذا الكلام نقوله، أما أن نتحقَّق به، فهنا تكمن الصعوبة طبعاً، هنا الامتحان، هنا الاختبار. أرأيتم كيف هذا؟ هذه الأشياء الدقيقة البسيطة – أنا أقول لكم هذا، وأنتم ترونها بسيطة جداً – والله هي التي بها يرفع الله ويخفض، ويُعطي ويمنع. يُعطي هذا العلم والمال والولاية وحُب الخلق والهيبة والجلال؛ لأنه – كما قلنا – عفيف، طاهر، أبيض، نظيف، ليس عنده كل هذه القاذورات.
وطبعاً النفس من أسوأ ما يكون! النفس لا تعدم أن تحتال لكل سلوك وخُلق دنيء تسلكه، أليس كذلك؟ انظر إلى نفسك، واهتم بأخطائك أنت. كما قال أبو الدرداء – الصحابي الجليل – يرى أحدكم القذاة في عين أخيه – أي يقول والله عينه مقذية، انظر، انظر إليه -، ولا يرى الجذع في عينه. أي تكون هناك خشبة كبيرة في عينه، وهو لا يراها – هذا كلام أبي الدرداء، الصحابي الجليل -، ولكن القذاة في عين أخيه يراها، ويذهب لكي يفضحه أيضاً، يقول انظروا إلى هذا الشخص الذي عينه مقذية، ها هو. لكن أنت يُوجَد عندك جذع، يُوجَد عندك خشبة في عينك، فلماذا لا تراها؟ هذا من ماذا؟ من عمى البصيرة – والعياذ بالله تبارك وتعالى -. هذا ليس من أخلاق المُوحِّدين، ليس من أخلاق المُرشَّحين لولاية الله – تبارك وتعالى -، فانتبهوا! هذه الأشياء آداب دقيقة، ولكن مُهِمة جداً جداً، إما أن تصل وإما أن تنقطع، بسبب شؤم هذه الأشياء. نسأل الله أن يُؤدِّبنا، الأدب! الأدب أهم شيء، والله الأدب أهم شيء، أهم شيء!
ونعود إلى ما كنا فيه. إذن تحية الله السلام، الجنة هي دار السلام، تحية الملائكة السلام، ونحن تحيتنا السلام، إلى آخره، إلى آخره!
جيد، آخر شيء؛ السلام هو الذي يُسلِّم عباده، ويجعلهم أيضاً في سلام من ظُلمه. أليس كذلك؟ نحن في سلام من أن يظلمنا الله – تبارك وتعالى -؛ إني حرمت الظلم على نفسي. انتهى! نحن في سلام والحمد لله. هذا من أدق ومن ألطف معاني السلام ومن أهمها.
وأيضاً هو الذي يُسلِّمنا؛ يُسلِّمنا من الجوع بالغذاء، أليس كذلك؟ من الداء بالدواء، من الخذلان بالنُصرة، ومن الفقر بالعطاء، أليس كذلك؟ ومن الفتنة بالآلاء، وهكذا، وهكذا! وكل هذه وجوه تسليم من الله – تبارك وتعالى -، وتحتها تفاصيل كثيرة تعلمونها جميعاً.
إذن هذا جُمّاع ما يُقال في معنى اسم الله السلام – تبارك وتعالى -. فاللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. نسألك أن تُحيينا في الدنيا والآخرة بالسلام، اللهم آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أضف تعليق