إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله – سُبحانه وتعالى من قائل -:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ۩ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، إشارة من المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – شريفة ومُهِمة، إلى أن من دواعي الإجابة – إجابة الدعاء – أن يفقه المرء معنى ما يدعو به ويتوسَّل به من أسمائه – جل مجده – وصفاته – تبارك في عليائه -.
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۩، قال – سُبحانه – وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، ولن نعرف هذا الإلحاد – أي هذا الجنف وهذا الميل عن حقيقة أسمائه وصفاته وما ينبغي له في عليائه – إلا بمعرفة ما ينبغي له – سُبحانه وتعالى – جُملةً وتفصيلاً، جُملةً محكومة بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، هذا جُملةً، أما تفصيلاً فبالوقوف المُتيقظ الواعي عند أسمائه وصفاته اسماً اسماً وصفةً صفةً، ولنا أن نقول اسمٍ اسمٍ وصفةٍ صفةٍ، هذا هو، لأن هذا الكون كله وما فيه من مُبدَعات وخلائق إنما هو مجلىً ومظهر لأسمائه وصفاته – سُبحانه وتعالى -.
قال – سُبحانه وتعالى من قائل – هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۩، ويحسب بعضٌ أن الخالق هو البارئ، سُئل عالم جليل في حوار مُسجَّل له – عالم فاضل جليل – عن الفارق بينهما قال لا يحضرني فرق، لِمَ لا نتفقَّه في أسمائه وصفاته؟ مُشكِلة أن يكون المرء عالماً وكبيراً وله أكثر من مائة مُؤلَّف ولا يعرف الفرق بين الخالق والبارئ في آية من آيات الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۩، بل بعض الناس رادف بينها ثلاثتها وعادل بينها، وما من مُوجِب لهذه المُعادَلة، ولا لهذه المُرادَفة، بل هي مُختلِفة، الله لا تكرار ولا حشو ولا فضول ولا ذيول في كلامه، ثم هي من أسمائه – لا إله إلا هو – الحُسنى، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۩.
أشرف العلم ما تعلَّق بالله – تبارك وتعالى -، أعلى المعرفة وأخطرها وأنفعها في الدنيا والآخرة ما دارت حول الله – سُبحانه وتعالى -، حول أسمائه وصفاته وأفعاله، وحدانيته وتسبيحه وتنزيهه وتقديسه وتبريكه وتمجيده وحُسن الثناء عليه – لا إله إلا هو -، لأن الأمور كلها ترجع إليه، تبتدئ منه وترجع إليه، كل الأمور! بما فيها حتى هذا العلم الذي يدور حول أسمائه وصفاته وأفعاله – لا إله إلا هو -.
نقول العلم نور، العلم نور لأنه لا يظهر وجود الشيئ المحسوس إلا بالنور، كذلكم وجود ومعنى الشيئ الذي لا يُحَس، فضلاً عن المُحَس، لا يظهر إلا بالعلم، طبعاً عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، كونك لم تُحس بالشيئ علماً، لم تُحِط به معرفةً، ولم يخطر منك على بال، لا يعني أنه غير موجود، لكن في حقك هو غير موجود طبعاً، أنت لا تستطيع أن تستثمره، لا تستطيع أن تُحيل عليه، لا تستطيع أن تشتق منه معنىً من المعاني أو لطيفةً من اللطائف، لأنه غير موجود في حقك، أنت تجهله.
ومن هنا تتسع المعرفة بالله – تبارك وتعالى – وتنداح وتترامى وتعمق وترسخ بمقدار ما يزداد المرء علماً وبمقدار ما يُرهَف فكراً ونظراً، ومن هنا قدسية العلم في نظر العارفين والعلماء المُتيقظين، سُئل عبد الله بن المُبارَك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لو قيل لك إن هذه آخر ساعة من عمرك ما كنت فاعلاً بها؟ سؤال عجيب، والجواب أعجب، هذه آخر ساعة، ماذا كنت ستفعل؟ أنا مُتأكِّد كل واحد منا سيقول سأُهرَع إلى الصلاة، سأنشر المُصحَف وأقرأ، نعم نقرأ كما نقرأ، نخر عليه صُماً وعُمياً، نقرأ ولا نفهم والله، كثيراً ما أتفرَّس في وجوه الناس رجالاً ونساءً حين يسمعون كلام الله، لا أجدهم يهزون رؤوسهم ولا يتأثَّرون إلا للنغم، كأنهم يسمعون موسيقى أو غناءً، أما المعنى الذي ترتعش له وترتعد فرائس الوجود وفرائس الكون فليس منهم على بال، لا يُدرِكونه، لأنهم يسمعون كلاماً أعجمياً، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۩، صار أعجمياً، في حق عربهم صار أعجمياً، إي والله، شيئ عجيب ومُحزِن، مُحِزن وقابض، لماذا؟ ليس لأنهم بلداء – حاشاكم – أغبياء، لماذا؟ فقط لأنهم كُسالى، وليس عندهم شيئ حتى من معرفة شرف العلم وقدسية المعرفة، الشرف للنقود، القدسية للسُلطة، هذا ما أكل الناس ويأكلهم، أما العلم، النور، المعرفة، وخاصة الذي يتعلَّق بالله، فليس مِن أكثر مَن ترى مِن عباد الله وإمائه على بال، يهزون رؤوسهم ولا يفقهون شيئاً من كتاب ربهم الذي يتلون، وهذا عالم جليل، أنا كنت مصدوماً، والله كنت مصدوماً، ملأ الأرض علماً بزعمهم، ولذلك سيُقال له ولأمثاله – رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين، أي عن علماء الأمة – أما كان عندك من حُسن الانتخاب وحُسن التخير ما يجعلك تعرف أن العلوم كثيرة والمعارف وفيرة فتتخيَّر منها وأن العمر قصير؟ ابدأ بما دلك على الله، بما وصلك بالله، بما عرَّفك بالله يا أخي، وأشرف هذا أن تفتكر بل أن تتفكَّر دوماً في كلامه، في كلامه المُوجَّه إليك تشريفاً، تشريفاً لك، وتكليفاً أيضاً، لكن هذا لا يحدث.
ومن هنا – وهذا شيئ عجيب – هذا الجهل المُخيم كما تقول العامة، الضارب بأطنابه، ألسنة مُرسَلة طويلة، الكل يتحدَّث في الدين وفي التفسير وفي الاجتهاد ويُحلِّل ويُحرِّم ويستحسن ويستقبح ويُرجِّح، شيئ عجيب! هذا بعض أسباب انحطاط أمتنا والموات الذي نعيشه، لا يُوجَد حراك علمي حقيقي وحراك معرفي فضلاً عن الحراك العرفاني، لا يُوجَد! يُوجَد تكرار، كما يقولون لت وعجن وشنشنة وجعجعة، لكن أين الطِحن؟ أين الطِحن؟ أي أين المطحون؟ لا يُوجَد شيئ مطحون، قبض الهواء، قبض الريح، كلام فارغ، شيئ مُحزِن جداً.
ولذلك علينا أن نُؤكِّد على هذه الاعتبارات وعلى هذه المعاني دوماً، وأن نقتدي برسول الله إن كنا نزعم حقاً أنه قدوتنا وأسوتنا، وأمرني أن يكوني صمتي فكراً، ألا نُخلي لحظة من لحظات حياتنا من الفكر والتفكر، ما أكثر ما يُفكِّر الناس! والنفس لا تنفك عن فكرة، لكن في ماذا يُفكِّرون؟ بدرجة أولى – وأُكرِّر مرة أُخرى – في المال، بدرجة ثانية في أنفسهم، هذا أخذ، وهذا أعطى، وهذا علا، وهذا نزل، وهذا قال في، وهذا غمزني، وهذا لمزني، شيئ فارغ، شيئ صبياني، مُحزِن جداً، ألهذا خُلِقت يا ابن آدم؟ ألهذا أنت مخلوق؟ أخُلِقت لكي ينقضي عمرك هكذا؟ أين البذور النابتة؟ نحن بذور الله، نحن بذور الخلق، أين البذور التي نبتت منا؟ أين هي البذور؟ أكثر هذه البذور مقموعة مُدساة، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ۩، بذور! بَذرة مُدساة، في التراب، لم تر النور، لم تُصبِح دوحةً باسقةً عاليةً مُثمِرةً فينانةً ذات ظل ظليل وثمر شهي، لا! بل بقيت بَذرة في الأعماق المُظلِمة الرطبة، تحتوشها الآفات، البذور النابتة هم العُرفاء، هم أهل الله، هم الذين اجتهدوا ليذهبوا إلى المدى الذي لأجله خُلِقوا، هذا ما تهدَّفوا له، أي هذا ما تغيوه وطلبوه غايةً وهدفاً، هو هذا، ومن أجل هذا خُلِقت، ومن أجل هذا رُكِّبت فيك قوىً ولياقات لم يتمتع بها خلق آخر، لا من ملك ولا من جن، فضلاً عن الحيوان والجماد، فيك أيها الإنسان، أنت! وأنت حتى لا تُحس، ما سبب القلق والحيرة والحُزن والألم المُمِض الذي يحتوشك، الذي ينهبك نهباً، ويتآكلك؟ ما هو؟ بُعدك عن الله، لأنك البَذرة التي لم تُفلِح، فتشعر بأنك لك تُحقِّق شيئاً.
سلوا الذين اقتعدوا أعظم مقاعد السُلطان وأثروا أعظم الإثراء، هل هم مسرورون؟ والله الذي لا إله إلا هو لا، ليسوا بمسرورين، إنهم مقبوضون محزونون، وهل عليك أن تدخل نفس التجربة حتى تُدرِك نفس الإدراك؟ ستنتهي نهايتهم يا مسكين، لن تشعر بأنك وصلت، ليست هذه الغاية، الغاية أبعد وأشرف بكثير من كل هذا، أشرف بكثير! ولذلك علينا أن نُفكِّر، نُفكِّر ملياً ونُفكِّر طويلاً.
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۩، نحن نعلم أنه خلقنا، فهل نُفكِّر في هذا؟ ونعلم أنه برأنا وأنه صوَّرنا، فهل نُفكِّر في هذا؟ هل نشعر به ونُحس به في كل لحظة من لحظاتنا؟ هل نشعر بأننا لا نقوم إلا بالله – تبارك وتعالى – كما لا تقوم السماوات والأراضون وما فيهن إلا بالله لحظةً بلحظة؟ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ ۩، ما معنى الْخَالِقُ ۩؟ ما معنى أنه يخلق – لا إله إلا هو -؟ وهو الذي يقول هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ۩، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، هو الله – سُبحانه وتعالى -، الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ۩، ليس مُجرَّد خالق، بنى منها صيغة مُبالَغة، من اسم الفاعل، الْخَلَّاقُ ۩، لا إله إلا هو، الْخَلَّاقُ ۩، كثير الخلق، لا يعلم مدى خلقه ولا عدد خلقه إلا هو، أنا أعتقد لا يستطيع أحد أن يعرف هذا، غير مُؤهَّل، حتى جبريل! حتى جبريل لو أراد وطلب سيأتيه الجواب: لا تستطيع، لا تستطيع أن تحفظ هذا الرقم، رقم أنا مُتأكِّد فوق الرياضيات البشرية، عدد خلق الله – تبارك وتعالى – شيئ أبعد مما نتخيَّل، لذلك هو خلّاق، خلق أشياء كثيرة كثيرة إلى مُنتهى النفس وإلى ما بعد مُنقطَع النفس، لا يعلمها إلا هو – لا إله إلا هو –
وخلق خلقاً عظيماً، ولذلك هو خلّاق، لأن بناء المُبالَغة في العربية يدل على المعنيين أو على أحدهما، يدل على هذا وعلى هذا، أحياناً بطريق الجمع، نعم! في حق الله دائماً بطريق الجمع، يدل على المعنيين جميعاً في نفس الوقت، خلق أشياء كثيرة، وخلق أشياء عظيمة، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ۩، السماوات خلق عظيم جداً، كم هو خلق الإنسان عظيم وبديع ومُحيِّر ومُدهِش ونظيم وحكيم ودقيق ومُدبَّر! خلق السماوات أعظم من هذا بكثير، والله يقول هذا، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ۩، يُقرِّر المعنى الذي شرعنا بالإشارة إليه اليوم بل بالتصريح، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ۩، يقول أَكْثَرَ النَّاسِ ۩، لَا يَعْلَمُونَ ۩، لَا يَعْلَمُونَ ۩ هذا، يسمعونه، لكن لا يعلمونه، وبعضهم يسمع ولا يُؤمِن، وبعضهم يسمع ويُؤمِن ولا يُفكِّر ولا يفقه، يعرف الحقيقة هكذا معرفة إجمالية، المعرفة الإجمالية مُهِمة، لكن الشرف والتفاوت بالمعارف التفصيلية.
يقول أحدهم أنا أعلم أن الله هو الذي خلق كل شيئ، جميل ومُمتاز، هذا من الإيمان، معرفة إجمالية، لكن ماذا تعرف من تفاصيل هذه المعرفة؟ أي طبيب درس التشريح لا يقف عند دراسته، كما قال أبو العلاء:
عَجَبي لِلطَبيبِ يُلحِدُ في الخالِقِ مِن بَعدِ دَرسِهِ التَشريحا.
والآن الطبيب لا يقف عند درس التشريح ولا درس النُسج، بل وظائف الأعضاء وأشياء أبعد من هذا بكثير أيضاً، وما يعرض لها من اختلالات، أي لهذه الوظائف – وظائف في الـ Physiology -، وأشياء أبعد من هذا بكثير، وهي علوم يُشتَق بعضها من بعض، على تعمق، وتعمق باستمرار، ويتخصَّص المُختَصون أو الإخصائيون في فروع يسيرة جداً، بعضنا لم يسمع حتى بأسمائها، ويقطع سنوات طويلة ليتخصَّص في جُزء من هذا الفرع البسيط، وهذا الفرع يمتد ويعمق عقداً فعقداً، بل سنةً في سنةٍ، كل هذا يعود حول الإنسان، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، قال وَفِي أَنفُسِكُمْ ۩، طبعاً هذه معرفة تدخل في التفصيل، وهذا يعلم من بداعة ومن حكمة وتقدير وتدبير خلق الله ما لا يعلمه صاحب الجُملة الذي يقول أعلم أن الله خلقنا، نعم نعلم هذا، أعلم وأؤمن وأُقِر أن الله خلق الإنسان، نعم نعلم هذا، ثم ماذا؟ هل تعلم شيئاً من تفصيل الجُملة؟ لا، يقف عند هذا، أعلم أن الله خلق السماوات، السماوات عظيمة وكبيرة، كبيرة بالجُملة، ماذا تعرف عن كبرها؟ لا شيئ، من المُمكِن أن يظنها ربما بمقدار الأرض – مثلاً – مائة مرة أو ألف مرة أو مليون مرة، مثلاً يظن هذا، مليون! وقد لا يُصدِّق، بعض الناس يُكذِّب هذا، يقول مليون؟ لا، هذه مُبالَغة، لأنه يظن بعقلية الجاهل الأول البسيط أن هذه السماء الرقيعة السحيقة مُجرَّد كساء للأرض، كساء علوي هكذا، أي لابد أن يُناسِب حجم الأرض بطريقة ما وبوجه من الوجوه، مسكين! هذا جاهل، يعيش في القرن الحادي والعشرين ولا يعرف شيئاً، ينتمي إلى ألفي سنة في الخلف، يعود إلى ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة حتى، لا يعرف!
استمعت مرة في جلسة أو بالأحرى في مأتم إلى طبيب وهو يُخالِف في حقائق علمية فلكية، لم يتسع عقله لها، وكان يقول كيف هذا؟ هذا كلام خيالي، هذا كلام فارغ، فقام له أحد كبار السن أو الأسنان بعد أن وعى من أمر المُتحدِّث المُحاضِر أنه يعرف ويذكر الأشياء بدقة وبأرقامها، وقال له اسكت أيها الجاهل، ما أنت إلا جاهل، طبيب جاهل، طبيب ولكنك جاهل، حتى الطب الذي درسته أنت لا تفهمه، لو كنت تفهم لعلمت أن دقة الله وبداعة الله وسعة الله تُعطي هذا، هو واسع – لا إله إلا هو -، واسع حتى في خلقه، ليس فقط في علمه، واسع في علمه، واسع في كرمه، واسع في خلقه، واسع في تدبيره، واسع في لُطفه، واسع في حيلته ومكره، واسع في كل هذه المعاني! وكذلك في جبروته وفي قهره – لا إله إلا هو -، في كل هذه المعاني هو واسع، نعم! انت حتى لم تستطع أن تشتق – وهذا لا يحتاج إلى اشتقاق، بالعكس! أن تلمس، وإنها لحقيقة ملموسة – أنه واسع في خلقه، ما الذي أنكرت من سعة خلقه في أكوانه حتى تُسكِّت المُحاضِر لأن عقلك بعطنه الضيق جداً لم يتسع هذا؟ طبيب جاهل، لم يتنوَّر بنور العلم وبفقه العلم الحقيقي، حتى يستدل على الله، مثل هذا لا يُخاطَب، ليس داخلاً في الخطاب، لأنه لا يستفيد من هذا الخطاب، ليس من أهل سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ۩، لم ير آية هذا المسكين، هذا من أهل أو قريب من أهل وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۩ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ۩، إيمان كالشرك، إيمان كالكفر، جاهل! إيمان الجهلة، إيمان الموتى.
أكثر معنى يُناسِب العلم الحياة، الحياة! بمعنى أن حياتنا ككائنات حية وكخلق حي لا تعمق إلا بالعلم، ليس بالأكل، ليس بالشرب، وليس بالشهوات، كل هذا يشركنا فيه الحيوان، انتبهوا! وهو أقدر عليه منا، وأنبغ فيه منا طبعاً، أي الحيوان، مَن يستطيع أن يأكل كبغل – أكرمكم الله -؟ مَن يستطيع أن يكون قوياً كبغل أو كحصان؟ لا أحد، مَن يستطيع المُناسَبة الجسمية الجنسية كالعصافير؟ أكثر منا عشرات المرات، ولا شيئ نحن بالنسبة إلى عصفور صغير، أقدر على العملية الجنسية هذه منا عشرات أو مئات المرات، لا شيئ! هذه أشياء يشركنا فيها الحيوان، الضعيف والقوي منه، ولكن مَن يستطيع أن يُجاري أو يُباري أو يُسامي الإنسان في العلم والفكر، في التجريد، وفي هذا القبس الإلهي العجيب الذي بسببه صار الإنسان مسجود الملائكة؟ هو مسجودهم بسبب العلم، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ۩، هذا هو.
ولذلك أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۩، العلم! وبالذات علم العرفان وعلم الإيمان، العلم الحق والعلم الصدق، هذا هو، قال أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ۩، ولذلك هم أموات، الذي ليس عنده علم من علوم الآخرة وعلوم النشأة وعلوم البعث ليس حياً، الله يقول هذا ميت، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۩، مع أنهم كانوا حقاً أحياء، حياة الحيوان، كانوا يأكلون، أبو جهل وأبو لهب والوليد كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء والشهوات ويتشدَّقون ويتمضحكون ويتراقعون ويتسخافون على أهل المعرفة والتوحيد، الله يقول لا، لا تغتروا بهم، إن هم إلا أموات، جثث هامدة، جيف مُنتِنة، وهم أحياء، قال وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ۩ – والعياذ بالله -، نسأل الله الهُدى والنور والفتح المُبين.
هذه أمة أو نحن أمة تحتاج أول ما تحتاج إلى العلم والنور، أكثر ما ينقصنا وأول ما ينقصنا العلم والنور، واضح! واضح أنه ينقصنا بشكل واضح في جميع المجالات وعلى كل المُستويات، مَن يدّعي فينا العلم ينقصه العلم، فكيف بالجاهل الذي لا دراية له أصلا؟ً ينقصنا، ينقصنا الجد والصدق في هذه الأشياء.
نعود إلى الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۩، الْخَالِقُ ۩، ما معنى الْخَالِقُ ۩؟ القرآن يُطلِق هذا الاسم على الله – تبارك وتعالى – وهو من أسماء الله الحُسنى مرةً بمعنى المُقدِّر، أي الذي يُقدِّر الشيئ، والذي يُقدِّره هو الذي يعرف ويُحدِّد مقاديره في الزمان والمكان كماً وكيفاً، هذا المُقدِّر، هذا هو التقدير، ومرةً يُطلِقه بإزاء معنىً آخر، أكثر اختصاصاً، وأكثر حصريةً، بل حصري بشكل مُطلَق، ومُختَص بشكل تام، بمعنى ماذا؟ البداعة، والإيجاد، أي من عدم، من لا شيئ، فإذا قال الله – تبارك وتعالى – هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۩، علمنا أنه يُريد المعنى الثاني، الإيجاد والإبداع، لا أحد يشركه، لا أحد يشركه فيهما، لا إله إلا هو.
إذا قال – سُبحانه وتعالى – اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، علمنا أن هذا بأي معنى؟ بالمعنى الثاني، لا إله إلا هو، نعم! إذا قال وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، علمنا أن هذا بالمعنى الثاني، لا يُمكِن أن يكون بمعنى قدَّره، فيقول قدر كل شيئ فقدَّره تقديراً، هذا عين التكرار، الذي يتنزَّه عنه كلام الجليل، لا إله إلا هو! هذا الذي يتنزَّه عنه كلام الجليل ونُحاشيه منه.
إذن وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۩ أي أبدعه وأوجده، اخترعه وقدَّره تقديراً، هنا بمعنى الخلق، بمعنى الإيجاد والبداعة، الاختراع على غير مثال سابق، لكن إذا قال – سُبحانه وتعالى – ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ۩، علمنا ماذا؟ ما معنى هذا؟ قدَّرنا، هذا تقدير، وكذلك إذا قال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩، خَلَقَهُ ۩ بمعنى قدَّره، قدَّره من تراب، التراب موجود، وهو قدَّره، قدَّره من تراب، ثم أبدعه وأوجده – لا إله إلا هو -، بقوله كُنْ ۩، كلمة التكوين – كما قلنا مرة – من خيطيها من الكف والنون نُسِجت حُلة الوجود كله، من كُنْ ۩، من خيطي كُنْ ۩ أتى كل هذا الوجود.
الأمر نفسه إذا قال – سُبحانه وتعالى – في شأن عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – وَإِذْ تَخْلُقُ – أي يا عيسى – مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ۩، ما معنى تَخْلُقُ ۩ هنا؟ تُقدِّر، هنا الخلق بمعنى التقدير، ولذلك لا أدري لماذا يثور بعض المُتنطعين من أهل الدين ومن أهل العلم من المُفسِّرين والفقهاء الذين لا دراية لهم حتى بكتاب الله ولا بلُغة كتاب الله، يقولون الخلق الفني، فيُجَن جنونهم، ويقولون لك لا يجوز، هذا إلحاد، إلحاد ماذا يا أخي؟ يا أخي الله يقول وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ۩، الله يقول فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩، يُوجَد خالقون، ثم خالقون كثيرون، لكن بأي معنى؟ ما معنى أحسن الخالقين، أحسن المُبدِعين المُخترِعين، أمن غير مثال؟ حاشا لله، لا يُوجَد إلا واحد، هو! فقط هو، هو هذا، المُبدِع المُخترِع البديع وحده، يقف وحده، لا إله إلا هو! لكن أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩ – الخالقون كثيرون – بمعنى أحسن المُقدِّرين، هو يُقدِّر وأنتم تُقدِّرون، لكن أين تقدير البشر أجمعين وتقدير الخلق أجمعين من تقدير رب العالمين؟!
زُهير بن أبي سُلمى – الشاعر العربي الجاهلي – ماذا يقول في بيته الشهير جداً؟
ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبَعْضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري.
ما معنى تَفْري ما خَلَقْتَ؟ تُنفِّذ وتُنجِز ما قدَّرت، أنت تُقدِّر، تُقدِّر أشياء مُعيَّنة، وبعض الناس يُقدِّر ويُخطِّط، يضع برنامجاً أو خُطةً مُعيَّنة، ولكنه لا يستطيع تنفيذها، كثيرون من الناس يضع خُطة للتعلم، خُطة في حفظ كتاب الله – قال – في خمس سنين، وتمر خمسون سنة وهو لم يحفظ حتى خمسة أجزاء، هذا لم يفر شيئاً.
الرسول قال في حق عمر بن الخطاب – قدَّس الله سره – فلم أر عبقرياً يفري فريه، في الحديث الصحيح، ما هذا؟ فعلاً هذا مفتاح شخصية عمر، كان على عباس العقاد أن يُريد دماغه وألا يتوسَّل لومبروزو Lombroso وغير لومبروزو Lombroso، فقط يعود إلى هذا الحديث الصحيح، في الصحيح! ويقول مفتاح شخصية عمر أو مفتاح عبقرية عمر – سر الأسرار وقدس الأقداس في هذا الشخص الكريم – هو أنه رجل عمل، ليس رجل نظر فقط، رجل عمل! طبعاً وكل عمل لكي يكون عملاً لابد أن يسبقه ماذا؟ خلق، أي نظر، نظر دقيق، نظر بمعنى ماذا؟ بمعنى خلق، بمعنى تقدير، تقدير الأشياء، والنظر في مقاديرها وفي أدبارها وفي أعقابها، لكن الذي هو أكثر أهميةً ليس هذا النظر، الذي ملته أمتنا وأتعسها وأشقاها، كثرة التشقيق والتنظير والكلام الفارغ، كل واحد منا عنده نظرية في إنهاض الأمة الإسلامية، وهي لا تنهض، كل واحد عنده تصور – قال – للكيفية التي تنهض بها الأمة.
بعض الناس سينهضها بالصلاة، بالصلاة على السُنة، ويظن أن هذا هو سبيل إنهاض الأمة، بعض الناس يقول لا، أقيموا لها دولة وسينهض كل شيئ، كلام فارغ! هذه لها دولة في السودان ودولة في إيران ودولة في أفغانستان بالأمس، أين نهضتها؟ مساكين نحن، مساكين! نُبسِّط الأمور أكثر من اللازم بطريقة سخيفة، ليس هكذا، لا! الأمور لها بداياتها، كل واحد عند نظرية، الرسول يقول عمر هذا عبقري عجيب، يُقدِّر ويُخطِّط ويُنفِّذ مُباشَرةً، فلم أر عبقرياً يفري فريه، وفعلاً هذا ما ينقص الأمة، هذا المِزاج العمري الإنجازي التطبيقي، فزُهير يقول:
ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبَعْضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري.
يقول أنت تُقدِّر وأنت تُنظِّر وأنت تُخطِّط وتُبرمِج، ثم تُنفِّذ، قال وأُناس آخرون كثيرون يُخطِّطون ويُقدِّرون، قال يخلقون، قال يخلقون ولكن لا يفرون، لا يستطيعون أن يُنجِزوا ولا أن يُطبِّقوا ما قدَّروا وخلقوا، يقول يخلقون، هذا هو! وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ۩، أي تُقدِّر، فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩، أي أحسن المُقدِّرين.
يأتيك رجل مُتحذلِق رقيع، ويقول لك كتاب الله فيه مُناقَضات، مُناقَضات ماذا يا صاحب العقل المُتناقِض؟ يقول مرة يقول هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ۩، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ۩، هذا خلق الله – يقول – فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۩، لا شيئ! لأن الله خلق كل شيئ، يقول ومرة أُخرى يقول تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ۩، فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ۩، فهذا تناقض، لا! فك التناقض الآن وافهم، العربية تقول هذا وتقول هذا، العربية! والله يقول عن القرآن إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩، مَن حب أن يعقل فعليه أن يتفقَّه في العربية، لا يأت لكي يتسوَّر على حمى كتاب الله بجهل ورقاعة وسخافة، لو كان هذا التناقض موجوداً لثار عليه أبو جهل قبلك، يا أبا جهل القرن الحادي والعشرين، وما أكثر الآباء الجهلة في القرن العشرين والحادي والعشرين! لثار عليه أبو جهل، وحتماً هو أفصح مني ومنك، وأبين مني ومنك، وأعلم بلُغة العربي مني ومنك، أعني أبا جهل، ولكن هو لم يلمس هذا، بالعكس! لمس هذا العكس تماماً، لمس أن هذا كتاب مُعجِب عجيب، ووصفه بما تعرفون، وما منعه إلا الكبر، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۩، نعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من نفخة الكبر والتعالم، من نفخة الكبر، إنها نفخة الشيطان – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.
إذن – أيها الإخوة – أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ۩، قال الفخر الرازي في تفسيره – رحمة الله عليه رحمة واسعة – أَلا لَهُ الْخَلْقُ ۩، أي التقدير- قال -، هنا بمعنى التقدير، يُقدِّر، وَالأَمْرُ ۩، أي بــ كُنْ ۩، بكلمة التكوين، وهي كلمة الإبداع والإيجاد والاختراع، يُقدِّر ثم يُبدِع، لا إله إلا هو، قال – سُبحانه وتعالى – خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ۩، أَلا لَهُ الْخَلْقُ ۩، أي قدَّره، ثم قال له كُنْ ۩، فعل ماذا هذا؟ فعل أمر، إذن أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ۩، هكذا فهمها الفخر الرازي، التفسير الشائع لها – وهو صحيح أيضاً في الجُملة – هو الآتي، لَهُ الْخَلْقُ ۩، أي لعباده، لخلقه أجمعين، وَالأَمْرُ ۩، أي التشريع لهم، هذا حلال وهذا حرام، صحيح! هذا صحيح أيضاً، لكن ما ذهب إليه الفخر صحيح وأدق ومُستوى أول في الدلالة، نعم! قال لَهُ الْخَلْقُ ۩، أي التقدير، وَالأَمْرُ ۩، أي التكوين، الإيجاد والاختراع والإبراء له – لا إله إلا هو -، بكلمات التكوين، بــ كُنْ ۩، خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ۩، أي قدَّره من تراب، ثُمَّ قَالَ لَهُ ۩، إذن أمره، كُنْ فَيَكُونُ ۩، لا يتخلَّف، لا إله إلا هو.
وطبعاً هذا المعنى ليس إلا لله – سُبحانه وتعالى -، هذا معنى الخلق والخالق في الجُملة، قال الْخَالِقُ الْبَارِئُ ۩، الْبَارِئُ ۩ أخص، لأن الْخَالِقُ ۩ يعم المعنيين، الْبَارِئُ ۩ يختص بأحدهما، الْبَارِئُ ۩ بمعنى المُخترِع المُبدِع، قال أبو سُليمان حمد الخطّابي – قدَّس الله سره – الآتي، وكلامه هذا من أجود الكلام، وفي ظني أنه لم يُسبَق إليه، ولذلك يُحال فيه عليه، يُقال قال الخطابي، لو سبقه إليه مُفسِّر أو عالم لأحالوا إلى السابق، وهذا من فتوح الله، والرجل في القرن الرابع الهجري، هكذا الله يدخر لبعض المُتأخِّرين ما حُرِم منه السابقون، نعم! أي في القرون الأولى – الثالث والثاني والأول – لم يقل أحد هذا، لكن عرفه معرفة استقرائية، باستقراء الموارد، باستقراء الموارد كتاباً وسُنةً، لله دره، قال والبَرء – برَأ الشيئ، يَبرأه، بَرءاً، وهناك برِيء من الشيئ، وهناك برُأ، معانٍ كثيرة، على كلٍ قال والبَرء – هو الاختراع على غير مثال، قال وهو مُختَص أو قال أشد اختصاصاً بالحيوان من سائر الخلق، فإننا نقول الله بارئ الإنسان، وبارئ كذا وكذا من صنوف الحيوان، بارئ النسم، أي النفوس، النسم! الكائنات الحية، قال أبو سُليمان ولا نقول بارئ السماوات والأرض، خطأ! غير موجود هذا، الله لم يقل هذا مرة ولا رسوله، لم يقل أحد يا بارئ السماوات والأرض، لا! لا يُقال هذا، أكَّده الفخر في تفسيره، فقال – قدَّس الله سره – وكانت يمين عليّ – عليه السلام، هكذا، وسلَّم الفخر على عليّ بالمُناسَبة، وهو يُسلِّم عليه دائماً، وهو من أعيان الأئمة السُنة المُجتهِدين، الفخر الرازي لم يكن شيعياً، دائماً لا يذكر عليّاً أو الحسنين أو فاطمة إلا يُسلِّم عليهم باستمرار في كل كُتبه، رضوان الله تعالى عليه، وهذا مذهب أهل السُنة أيضاً، انتبهوا حتى لا تختلط الأمور علينا ويشغب بعض المُشاغِبين دون علم، للأسف الشديد بجهل، وهذه المُشكِلة – التي يُقسِم بها قوله والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، كان يقول والذي، مَن هو؟ الله، وربما قال لا، ينفي ما يُتوهَّم كما في حديث أبي جُحيفة، قال لا والذي فلق الحبة، النبات! يُقال عالم الفليقة، وبرأ النسمة، عالم الخليقة، أي عالم النبات وعالم الحيوان، عالم الحيوان عالم مبروء لله، مبروء لله من البَرء، بمعنى الخلق والإيجاد والاختراع، لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة.
بعضهم يُحاوِل أن يُبرِّر لهذا المعنى، وهو ابن دريد في مُعجَمه الشهير – رحمة الله تعالى عليه -، قال وأصل البَرء من البَرى، والبَرى هو التراب، خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ۩، قال وأصل البَرء هو البَرى، والبَرى هو التراب، يقولون بفيه البَرى، بفيه أي بفمه، بفيه التراب أي بفمه التراب، له التراب، بفيه الحجر، ربما قالوا أيضاً بفيه الحجر، يقولون بفيه البَرى، بفيه البَرى أي بفمه التراب، له التراب، ليس له إلا هذا، أي ليسكت مقبوحاً منبوحاً، بفيه البَرى، والإنسان والحيوانات كلها مخلوقة من تراب، ممزوجة بماء، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۩، كله من تراب ممزوج بماء، أي طين في الأخير، وبعد ذلك هناك حمأ مسنون، إلى آخر الرُتب الإلهية المُفصَّلة في كتابه العلي تفصيلاً، جل – لا إله إلا هو – من مُخبِر، سُبحانه وتعالى، فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ۩، هو الذي يعرف هذا تماماً، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ۩، ولكن هو يُخبِرنا بدقة كيف خُلِقنا وكيف خُلِقت هذه العجماوات وهذه الدواب والكائنات الحية عموماً، هذه مبروءة.
حتى قالوا العرب تُسقِط الهمز – أي الهمزة – في كلمات، منها البرية، لا ورب البرية، أصلها من برأت، من برى، أي أصلها البريئة، فعيلة بمعنى مفعولة، أي مبرية أو مبروة لله، أي مخلوقة، البرية هي المبروة، أي المبروءة، مبروءة أي مخلوقة، فعيلة بمعنى مفعولة، برية! ومنها الخابية، من خبأت، الخابية يستخدمها كثير من العامة حتى في عصرنا هذا، يقولون لك الخابية والخوابي، تُصنَع من طين، كبيرة كالصوامع، ولكن تكون على الأرض، أي واطئة، وتُوضَع فيها الحبوب وتُخزَّن فيها الأشياء، الخابية أصلها الخابئة، من خبأت، وكذلك النبوة، وأصلها من ماذا؟ من نبأ، نبأت، نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ ۩، فأصلها النبوءة، فصارت النبوة، إلى آخر هاته الكلمات، وهي محدودة جداً، قيل هي خمس كلمات فقط، والله – تبارك وتعالى – أعلم، فهذا هو الْبَارِئُ ۩، المُخترِع المُوجِد المُبدِع – لا إله إلا هو -، ويختص هذا كما قال لاحظ أبو سُليمان بماذا؟ بالكائنات الحية، بالحيوان، هذا معنى الكائنات الحية، الحيوان، ما فيه حياة، النسم! والله – تبارك وتعالى – أعلم.
قال الْمُصَوِّرُ ۩، الْمُصَوِّرُ ۩ هو الذي يُعطي الخلق صورهم، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ ۩، يبدأ التصوير في الأرحام، بعد الأربعين – سُبحان الله -، يبدأ التمايز قليلاً قليلاً، قال يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۩، بمعنى إيجاد وإبداع أو تقدير؟ تقدير، وهذا واضح، الإيجاد والإبداع مرة واحدة، وانتهى الأمر، انتهى! لكن هذا ماذا؟ تقدير، كما يُقدِّر النُطفة، ثم يُقدِّرها علقة، ثم يُقدِّرها مُضغة، إلى آخره! ثُمَّ خَلَقْنَا ۩… فَخَلَقْنَا ۩… فَخَلَقْنَا ۩… تقدير هذا، هذا الخلق بمعنى التقدير، يُقدِّركم في أرحام أمهاتكم مرحلةً فمرحلة، خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ ۩، هذا هو، فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۩، مُصوِّر يُعطي كل خليقة صورتها، كل مخلوق صورته، لا إله إلا هو.
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۩ أو فعدَّلك، قراءتان صحيحتان، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ۩، صورة آدمية كريمة، فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩، لا إله إلا هو! قال أبو حامد الغزّالي في المقصد الأسنى – قدَّس الله سره -، قال بصدد اسمه – تبارك وتعالى – الْمُصَوِّرُ ۩، قال ولا يعرف حقيقته على الجُملة والتفصيل إلا الله – سُبحانه وتعالى -، عجيب! قال صعب أن تفقه هذا الاسم أنت، مُستحيل – قال -، لماذا؟ قال لأنه – سُبحانه وتعالى – إذ خلق أو بعد أن خلق هذا الكون كله صوَّره، قال وهذا الكون – فعلاً في مجال الفكر هذا صحيح، الكون كذلك – بمثابة خلق واحد، هذا صحيح وفعلاً محكوم بقوانين واحدة، أو ينبغي أن تكون واحدة، ويبحثون عنها على كل حال، يبحثون عن هذا القانون الواحد، هذا الخلق – قال، أي الأكوان، كل الأكوان – بمثابة شخص واحد، خلق واحد، مُصوَّر من أعضاء، فمَن يُدرِك صورة هذا الخلق كله جُملةً واحدةً؟ مُستحيل، لا أحد، إلا الذي صوَّره – لا إله إلا هو -، وفعلاً هذه النظرية الغزّالية في تصوير الكون هي ما صار إليه علماء الكونيات – أي الكوزمولوجيا Cosmology – أو الكوزمولوجيون في القرن العشرين، أن هناك وحدة واحدة في الكون، وبالمُناسَبة هم يبحثون عن شكله، أي الــ Form الخاص به، كيف شكله؟ هل هو كري أو أسطواني – إلى آخره -؟ يضعون له توهمات، خلق واحد، له شكل واحد، وقوام واحد، أي ليس خلقاً هكذا مُتشعباً مُتشععاً بفضول هنا وذيول وزيادات وأشكال مُتطابِقة ومُتخالِفة وما إلى ذلك، ليس هكذا أبداً، خلق واحد، لا إله إلا هو.
وبالمُناسَبة الإنسان فينا – الله أشار إلى هذا المعنى – خلق واحد، وله صورة واحدة، وله بُنى نفسية وجسمية، شعورية وعقلية، تخصه، واحدة! يتوحَّد بها، ما معنى أن الله في آيات كثيرة يُخبِر عن خلق الإنسان ويقول من نُطفة – يقول أنت مخلوق من نُطفة – ويُخبِر عن خلق السماوات والأرض، وأنه خلقها أيضاً؟ عجيب! أي هل في مرة تُخبِر أنك خلقت النُطفة وفي مرة تُخبِر أنك خلقت السماوات والأراضين؟ يقول نعم، لأن المبدأ واحد، وسنختم بهذه النُقطة العجيبة، وهذا هو المقصود من خُطبة اليوم في الحقيقة، كيف؟
قلنا مرةً في حق الإنسان يستحيل أن يُخبَر عنه أو يُخبِر عن نفسه بالآتي، بل هذا لا يليق، ولو وقع هذا سيُقال إنه لا يليق، يدل على قلة الدراية وانعدام الدُربة في الميدان بالمرة، مثلاً لنفترض أن عالماً كبيراً أو فيلسوفاً خطيراً أو مُفكِّرا نحريراً وضع سلسلة من الأعمال العلمية العالمية، تُرجِمت إلى مُختلف اللُغات الحية، ثم بعد ذلك أتى مَن يُعرِّف به، فذكر هذه الأشياء البديعة المُتفرِّدة والتي توحَّد بها هذا المُفكِّر أو الفيلسوف العظيم، ثم ذكر إلى جانبها – قبلها أو بعدها أو مُحايداً لها – بعض أعماله التي كتبها في سن – مثلاً – الشباب اليافع، مُحاوَلات أولى للكتابة هكذا، لذا سنجد أن هذا غير لائق، ليس فيها أي تميز، هذه مُسوَّدات إنسان، مُسوَّدات مُفكِّر هذه كانت، أليس كذلك؟ أوهام فيلسوف مُتوهَّم، لم يكن لا فيلسوفاً ولا هذه فلسفة، لا تُوضَع! ولذلك هو يُحاوِل دائماً أن يضرب عنها الذكر صفحاً.
بعض العلماء حين يُعترَف به عالماً – بعضهم أحياء وموجودون في الشرق والغرب – يغضب ويُحزِنه أن تُوضَع في سياق أعماله أعماله الأولى المُبكِّرة، لا يُحِب هذا، يشعر أنها لا تُعبِّر عنه الآن طبعاً، بالعكس! هم أصلاً لا يرضون عن بعض الأشياء كتبوها قبل سنوات معدودات، الله وضع مُختلِف تماماً، يقول أنا خالق الكون، أنا خالق السماوات والأراضين، وأنا خالق النُطفة، أنا خالق الدودة، وأنا خالق الذبابة، قال فليخلقوا ذبابة، النبي يقول هذا في الحديث القدسي، فليخلقوا ذبابة، أليس كذلك؟ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۩، قال أنا أخلق الذباب، أنا خالق الذبابة، الذبابة أنا خالقها، البعوضة والنملة وأعضاء النمل أنا خالقها، أنا ربها، لا إله إلا هو، عجيب! هو خالق النملة، وخالق البعوضة، وخالق الذرة والإلكترون Electron والبروتون Proton والكوارك Quark، وهو خالق الإنسان، وهو خالق السماوات والأراضين، وهو خالق العرش، لماذا؟ هذا هو.
نُريد في الدقائق المُتبقية أن نكشف عن طريقة الله في الخلق، أو بالأحرى نُحاوِل أن نكشف عنها، لماذا نكون مُغترين؟ قلت نكشف، غرور كبير مني هذا، لا! نُريد أن نُحاوِل وأن نجتهد مُتنوِّرين بحقائق العلم والفكر وبآيات كتاب الله – تبارك وتعالى – في هذا، رزقنا الله التواضع، لماذا الانتفاخ الكاذب؟ نكشف الستر، لا ليس كذلك، لا! نُحاوِل، نُحاوِل فقط، لعلنا نُصيب، ولعلنا نخيب، نعوذ بالله من الخيبة والفشل والحور بعد الكور، نُحاوِل أن نكشف النقاب عن طريقة الله في الخلق، وهو كشف عنها حقيقةً، نحن فقط علينا أن نُفكِّر، لكن هو كشف عن هذا، هو مكشوف عنه لمَن كان يُبصِر ولمَن كان يرى، مكشوف عنه بشكل واضح، والقرآن يُؤكِّد هذا، ما طريقة الله في الخلق – لا إله إلا هو -؟
فيما يختص بالإنسان هذا واضح جداً، وقد فصَّل هذا، قال أنت مخلوق من نُطفة، وأنت مُقدَّر إنساناً في النُطفة، صحيح! نصف شخصيتي ونصف شخصيتك أو شخصيتها كانت مُقدَّرة في الحيمن أو الحوين المنوي من آبائنا، أليس كذلك؟ نصف الشخصية! النصف الآخر في خلية مُفرَدة، خلية واحدة، اسمها البييضة، ليس البويضة، ليس بالواو وإنما بالياء طبعاً، لا نقول يبوض، ولماذا بويضة؟ هذا جهل باللُغة طبعاً، تقول لي هذا شيخ كبير وعالم، لكنه جاهل ومسكين، يقول بويضة، لا يُوجَد في اللُغة العربية بويضة، يُوجَد بييضة، باض يبيض وليس يبوض، بييضة، ما هي البييضة هذه؟ خلية واحدة، خلية! خلية وليس مائة ألف خلية، خلية واحدة، والحيمن هذا خلية واحدة، نصفك في خلية، والنصف الآخر في الحيمن، طبعاً الله قادر أن يخلقك كلك كما سيأتيك بُعيد قليل من أقل من خلية أصلاً، هو خلقنا من لا شيئ في الحقيقة، ولكن سوف نرى لماذا يُؤكِّد على هذا، طبعاً في قوله – تبارك وتعالى – من قائل هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ۩ إشارة، فهل يُشير إلى النُطفة أم يُشير إلى ما قبل النُطفة؟ إلى ما قبل النُطفة، النُطفة شيئ مذكور، كيف غير مذكور؟ الله يذكره، ونحن نذكره، ونعرفه تماماً، هذا صحيح، وإذا اجتمعت هذه الأشياء نراها سيلاً دافقاً، مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ۩، طبعاً هذا ليس نطافاً فقط، هناك نطاف وهناك أشياء أُخرى، هناك سائل وما إلى ذلك، هذا معروف على كلٍ، ولكن هو يُشير إلى شيئ قبل هذا، هذا قلما ننتفع به، ينتفع به الفلاسفة التجريديون العقليون المُتألِّهون الكبار فقط، نحن لا نكاد ننتفع به.
يُؤكِّد كثيراً على النُطفة والعلقة والمُضغة، إلى آخر هذه السلسلة التخليقية الإبداعية الإبرائية، وسوف نرى لماذا، يقول مِنْ نُطْفَةٍ ۩، مِنْ نُطْفَةٍ ۩ وهذا شيئ عجيب، أي هذا الذي نراه أمامنا الآن، وهو مُفكِّر كبير أو فيلسوف عظيم مثل هؤلاء الفلاسفة، وهو مُؤمِن بالله ويدل على الله بفلسفة عظيمة مُتفرِّدة، شرعت في قراءة عمل لفيلسوف أجنبي، يا أخي عجيب عجيب عجيب، أولى به أن يكتبه مُسلِم، بُرهان الله على الله، وهو البُرهان الذي سبقنا إليه نحن بالذات، ابن سينا قرَّره بشكل مُمتاز، بُرهان الصدّيقين، أعظم بُرهان على الله هو ماذا؟ هو الله، ليس خلق الله، خلق الله براهين على الله، أقوى منها في البرهنة بكثير الله نفسه، كيف؟ كيف الله يُبرهِن نفسه بنفسه؟ سوف نرى، هذا الموضوع يحتاج إلى مُحاضَرة فلسفية مُعمَّقة جداً، وكُتِبت في هذا آلاف الصفحات، أي في بُرهان الصدّيقين، والقرآن أشار إليه، قال سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ۩، هذه براهين ماذا؟ الآيات، أي البراهين الآيوية، براهين المُكوَّنات! قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، ختم فقال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ – لا إله إلا هو – أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، أنت تُبرهِن به على شيئ هو نفسه بُرهان على هذا الشيئ، شيئ غريب! هذا البُرهان، شيئ مُختلِف هذا، شيئ مُختلِف!
على كل حال هذا الفيلسوف العظيم ليس مُسلِماً، فيلسوف مسيحي، وصل إلى هذا البُرهان، وقرَّره في زُهاء خمسمائة صفحة بشكل دقيق، هذا يا إخواني كان نُطفة، لا تدري لا الفلسفة ولا الفكر ولا أي شيئ، نُطفة تُقذَف في الحمامات مثلها بلايين Billions النطاف كل ساعة، بلايين! تذهب من حيث أتت، إلى لا شيئ، أصبح شيئاً كبيراً، قال وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، لا إله إلا هو، قال هكذا! أنت بدأت من شيئ حقير جداً، لا يكاد يُذكَر، موجود لكن لا يكاد يُذكَر، اسمه النُطفة، التقى بشيئ مثله، أصبحا نُطفةً أمشاجاً، أي خليطاً، نُطفة مُختلَطة، خليتان فقط، هما خليتان، لا أكثر، وكل شيئ كان مُبرمَجاً موجوداً، أي هل هذا الإنسان كان موجوداً بلياقاته وقدراته وما إلى ذلك؟ هل كان موجوداً في هاتين النُطفتين أو في هذه الخلية الأمشاج أو في هذه النُطفة الأمشاج؟ نعم، كان موجوداً، شيئ عجيب، تُفكِّر فيه فتجد أنه شيئ مُذهِل مُحيِّر، والله العظيم! شيئ مُحيِّر تماماً، ومن الصعب أن يُفهَم، انتبه! نحن نقول إننا نُقرِّره، ولكن من الصعب أن يُفهَم، كيف هذا؟ على كل حال نحن الآن أكثر من ستة ملايير من البشر، علماء الوراثة يقولون لنا بشكل واضح هناك ستة ملايير أو حتى عشرة ملايير من البشر، وكل برامجهم الوراثية هي التي تجعل من جون John جون John ومن محمد محمداً ومن زيد زيداً ومن سلوى سلوى ومن إليزابيث Elizabeth إليزابيث Elizabeth، إلى آخره! يقولون كل هذه البرامج لا تكاد تملأ قعر فنجان، فنجان قهوة من الصغير، كل هؤلاء البشر هذه حقيقتهم طبعاً، ما حقيقتي؟ لحم ودم هذا، وهذا يُصنَع مثله حتى في متحف الشمع ظاهرياً، لكن ليس هذا، هذا موجود حتى في الحيوان، لا! حقيقتي مُختلِفة، الحديث عن برنامجك، الذي جعل من عمر عمراً ومن محمد محمداً ومن جون John جون John، هذا البرنامج الذي فصل هذا عن هذا.
ولذلك من معاني كلمات الْبَارِئُ ۩ أيضاً القاطع الفاصل، ومنه بريت القلم، أي قطعته وشذَّبته، وهناك المبراة أو البرّاية، هذا هو، الذي قطع وفصل، برئت، إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ۩، إن قطعنا وتحاشينا وتباعدنا، الله بارئ لأنه يُعطي كل شخصية فرادتها، هذا غير هذا، تجد عشرة ملايين مثل محمد، وليس محمداً كمحمد، كل محمد هو محمده، كل محمد هو محمده الخاص، قال الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩، الله أكبر! هل سمعتم هذه الآية؟ لم يقل الذي خلق كل شيئ كما في آيات أُخرى، قال وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۩، ولكن هنا مُستوى أبعد بكثير، قال الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ۩، قال فرادته، هو عالم لا يتكرَّر، ليس كما قالوا البصمة فقط، الحكاية لا تتعلَّق بالبصمة وغير البصمة فقط، لا! هناك ما هو أكثر من هذا بكثير، كلك على بعضك بصمة، كلك بصمة لا تتكرَّر، ما رأيك؟ ليس هذه فقط، قالوا لك البصمة لا تتكرَّر إلا كل خمسة مليارات، قاسوها وقالوا لا تتكرَّر إلا هكذا، أنت على بعضك كلك لا تتكرَّر كل حتى خمسمائة بليون بليون بليون خلية، هذا غير موجود، لا يُمكِن هذا، أنت وحدك هكذا، الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ۩، كُلَّ شَيْءٍ ۩، كل ذرة في هذا الكون هي مُتفرِّدة مُتميِّزة، وهذا من معاني الواسع – لا إله إلا هو -، عنده سعة في الخلق والإبداع – لا إله إلا هو -، هناك سعة، لا يُكرِّر، وطبعاً الإنسان لا يستطيع هذا، بالعكس! هذا الإنسان مسكين، كل واحد يُسمونه الاستايل Style في علم الأدبيات، يقولون لك عنده أسلوب، حتى في العلم! هناك استايل Style، وهذا يرجع إلى المنهج، هذا يُشتَق من المنهج العلمي، عنده منهج علمي مُعيَّن، أليس كذلك؟ يُمارِسه في العلم، إذا بعد ذلك كفر به أو تخلى عنه بدأ يُمارِس منهجاً قريباً وما إلى ذلك، يجد منهجاً يا سيدي.
أحدهم – مثلاً – عنده أسلوب، ويتدرَّج من أسلوب إلى أسلوب، بعد ذلك حين يُصبِح كاتباً مُستحكِم القواعد راسخاً يُصبِح له أسلوبه الخاص، هذا صحيح، الكاتب الضعيف ليس هكذا، حين تذهب لكي تُقدِّم رسالة دكتوراة قد يضحك عليك المُشرِف إذا كان عالماً أو فيلسوفاً، يقرأ كل فصل فيجد أنه مكتوب بأسلوب مُختلِف، لأنك تنقل أو تتأثَّر، تتأثَّر بأحدهم وتنقل منه فيصير لك أسلوب، وبعد قليل يصير لك أسلوب آخر، فأنت ضعيف، لأنك غير مُستحكِم، بعد ذلك حين تصير إنساناً مُحترَماً في الكتابة والفكر يصير لك أسلوب خاص، واحد! وبعد ذلك هذا الأسلوب يطبع كل أعمالك، هذا صحيح، يطبعها ويجعلها شيئاً قريباً من المُكرَّر، تُوجَد روح مُكرَّرة، عند الله يُوجَد تنوع وسعة عجيبة في الخلق، مع أن الأسلوب أيضاً واحد، وهذا العجيب، هل فهمتم؟ ما الأسلوب هذا؟ قد يقول لي أحدكم ما الأسلوب هذا؟ سوف ترى، وهو واحد.
أي الإنسان هذا مخلوق – كما قلنا – من هذه النُطفة أو من هاتين النُطفتين، من بَذرتين فقط، والله يختصر ويقول من نُطفة، نُطفة الرجل ونُطفة المرأة، مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ۩، يقول بَذرة واحدة، وهنا قد يقول لي أحدهم أي مثل الشجرة؟ تماماً، مثل غابة عظيمة، لو عُدنا القهقرى في الزمن لربما وجدنا هذه الغابة في نهاية المطاف لا تملأ كفاً من بذور صغيرة، تُبذَر فكانت منها هذه الغابة العظيمة المُخيفة، التي يضل فيها الخريت، لوحات شاهقة سحيقة، لكن لو عُدنا إلى برامجها الوراثية أيضاً لوجدنا غير هذا، كل غابات الدنيا لا تملأ قعر فنجان أيضاً، قال وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۩، هذا هو، أخذ هذه البرامج.
إذن نفس الشيئ، ولذلك يقول وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ۩، يقول مثلكم مثل النباتات، كيف يا رب؟ من أي جهة؟ يقول هذه من بذور، وأنتم من بذور، من بَذرة صغيرة جداً! من بَذرة صغيرة جداً كانت هذه الشجرة العظيمة جداً، ومن بَذرة صغيرة جداً كان هذا العالم الكبير وهذا الطاغية الخطير وهذا النبي الكريم وهذا التائه الحيران الضال – أشبه بدواب الأرض -، الكل من هذه البَذرة أيضاً، شيئ عجيب، نفس الأسلوب، من بَذرة، لماذا من بَذرة؟
أعجب من هذا كله ما شرحناه غير مرة، وهو الأعجب بلا شك، هذا الكون كله خُلِق من بَذرة واحدة أيضاً، هذا هو العجب، ولا يُقضى منه العجب، كل هذا الكون خُلِق من بَذرة واحدة، وحين نقول – عوداً على بدء – هذا الكون كله لا نعني شيئاً أعظم من الأرض مليون أو بليون أو مائة بليون مرة، هذا شيئ لا يخطر على البال، وباختصار – نُعيد ما قلنا غير مرة – هذه الأرض يزرعها الضوء، الضوء يزرعها في الثانية الواحدة قُرابة ثماني مرات، حين تفرغ من قولك آه يكون لف الأرض – أي الضوء – ثماني مرات، أي في ثانية، في ثانية واحدة لفها ثماني مرات، إذن في ساعة أين يذهب الضوء؟ فماذا يقطع في ساعة إذا كان هذا ما يطقعه في ثانية – يقطع الأرض ثماني مرات – فقط؟ قال أحدهم هناك الكونكورد Concorde، لكن كم ساعة تقطعها بالكونكورد Concorde أنت؟ من أمريكا إلى إفريقيا – مثلاً – تحتاج إلى كم؟ قال الكونكورد Concorde، كونكورد Concorde ماذا؟ هذا اسمه الضوء يا حبيبي، ثماني مرات في الثانية، يلف الأرض كلها ثماني مرات، أي في دقيقة أين يصل هذا؟ أين يصل في عشر دقائق؟ هو في ثماني دقائق يصل من الشمس، كم تبعد عنا الشمس؟ مائة وخمسين مليون كيلومتر، مائة وخمسين مليون – الكلام صار الآن بالملايين – في ثماني دقائق، قد يقول أحدهم لي أف! كم يقطع في الساعة؟ الله أعلم، كم يقطع في الشهر إذن؟ كم يقطع في السنة – اسمها السنة الضوئية -؟ كم يقطع في مليون سنة؟ كم يقطع في ألف مليون – اسمه البليون Billion هذا بالأمريكي – سنة؟ الكون هذا يحتاج الضوء لكي يقطعه إلى قُرابة ثلاثة عشر بليون سنة، فكّر في هذا إذن.
الآن بدأنا نفهم لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ۩، قد يقول أحدهم لي كيف خُلِق هذا؟ من ماذا خُلِق هذا؟ من كم؟ هناك كمية مواد، فكم هذه؟ أقل من نُطفة، أنت على الأقل مخلوق من نُطفة، تراها بالمِجهَر أو المُجهِر، أي الميكروسكوب Microscope، أنت تراها، لكن هذا لا يعني الآتي، قد يقول أحدهم لي ما معنى أنه مخلوق؟ مخلوق من كم؟ هل هو مخلوق من جُزيء؟ هل هو مخلوق من ذرة؟ ذرة ماذا؟ هل تعرفون الذرة – الأتوم Atom -؟ أصغر من الذرة بكثير، هل تعرفون البروتون Proton؟ أصغر من البروتون Proton، كل هذا الكون! الله أكبر، ما هذا الكلام؟ ما هذا؟ هل هذا وهم؟ هل هذا سحر؟ هل هذا كلام صوفية؟ هل هذا كلام مجاذيب؟ لا، كلام علماء الفلك وعلماء الكوزمولوجيا Cosmology، أي الكونيات، أقوى النظريات وأرسخ النظريات إلى الآن نظرية الانفجار الكبير، أي الــ Big Bang theory، أي الــ Urknalltheorie بالألمانية، هناك الــ Urknall، الانفجار الأصلي القديم، هذه نظرية الانفجار الكبير القديم، هذا هو!
أقل من هذا، ليس من ذرة أو من نُطفة أو من بَذرة، أقل من بروتون Proton، كل هذا الوجود، قد يقول أحدهم لي هذا شيئ مُستحيل، العقل هنا يقف، وطبعاً يقف، وهم يقولون العقل واقف، لأن كل الجُدر التي يُمكِن للعقل الإنساني أن يصل إليها ويُفكِّر دونها اختُرِقت، مثل جدار بلانك Planck wall، وحرارة بلانك Planck temperature كما يُسمونها، أكبر من هذا بكثير.
تخيَّلوا شيئاً أقل من بروتون Proton بمرات لا يعلمها إلا الله، وفيه كل هذا الكون، ثلاثة عشر بليون سنة ضوئية، شيئ لا يتخيَّله المرء يا إخواني، هناك القوى التي تحكم عالمنا الأربعة، القوى النووية القوية، القوى النووية الضعيفة، والكهرومغناطيسية، وقوى الثقالة أو ما يُعرَف بقوى الجاذبية، هذه القوى الأربعة، كلها كانت موجودة، لكن مُتحِدة في قوة واحدة، لا نعرف حتى اسمها، لا يُوجَد لا قانون رياضي ولا حتى خيال بشري يُمكِن أن يتعامل مع هذه القوى، علماء الكونيات الكبار مثل ستيفن هوكينغ Stephen Hawking طرحوا سؤالاً خطيراً جداً، وهو سؤال الزمان، فمتى وُجِدت هذه النُقطة؟ طبعاً يُسمونها الــ Singularity، وأنا ترجمتها مرة في خُطبة هنا بالشُذيذة، لماذا هي شُذيذة؟ طبعاً هي مُتفرِّدة، أي هي المُتفرِّدة أو الفُريدة، لأنها – كما قلت لكم – لا تُوجَد قوانين يُمكِن أن تنطبق عليها، الفكر البشري يقف تماماً، لا يُمكِن هذا، حتى الخيال يقف، وهذا عجيب.
كم إعجابنا أو كم الإعجاب عظيم بهذه العقول الضخمة هنا في الغرب التي فكَّرت في هذه الأشياء! يا ليت أن المُسلِمين فعلوها، هؤلاء النوّام في العسل كما يُقال، هم فعلوها، وبدأوا الآن في التعمق، انتهى! هذه أعظم الأدلة على وجود الله – تبارك وتعالى – بعد دلالته على نفسه، فلو Flew – البريطاني المُلحِد أنطوني فلو Antony Flew – قال علينا أن نعترف لأن الاعتراف يُريح الروح كما يُقال، وهو مُلحِد، أي Atheist، قال وأنا هنا سأعترف، على ملاحدة العالم أن يُصغوا تماماً إلى هذا الإجماع – Konsens – الكوني، قال يُوجَد شبه إجماع الآن في حق الكونيات، أن العالم كله خُلِق من هذا الــ Singularity أو من هذه الشُذيذة أو الفُريدة، ما معنى هذا؟ ما خطورة هذا على الإلحاد؟ قال هذا يعني أن العلم اليوم – ليس الدين، ليس الفلسفة، وإنما العلم، أي الــ Science أو الــ Wissenschaft – أثبت ما عجز اللاهوتيون والفلاسفة حتى عن إثباته، باعتراف القدّيس توما الأكويني Toma de Aquino، أي توماس الأكويني Tomás de Aquino اللاهوتي المدرسي، من القرن السادس عشر الميلادي هنا في أوروبا، أعظم لاهوتي العصور الوسطى على الإطلاق، قال يعجز العقل وتعجز الفلسفة – واللاهوت طبعاً عاجز، أي ثيولوجيا Theology – أن يُثبِت بطريقة مُبرهَنة بداية الكون، أن الكون مخلوق في الزمان وله بداية، لا يقدر! والدين لابد أن يعتمد على هذا، لكن أين البُرهان؟ العلم فعلها هذه المرة، الكون له بداية، الله أكبر، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، الله يقول هذا، يقول لك لا، هذا الكون ليس قديماً، هو مخلوق، من ماذا يا رب؟ العلم هو الذي يقول الآن، العلم يقول من هذه الشُذيذة، أقل من الذرة بلايين المرات، شيئ لا يُصدَّق، ويُوجَد فيها كل القوى، ويُوجَد فيها حرارة لا يعلمها إلا الله.
يأتي سؤال الزمان، متى وُجِدت؟ متى خُلِقت؟ متى انفجرت؟ هناك البيج بانج Big Bang، أي الانفجار الكبير، البانج Bang الكبير! متى انفجرت هذه الشُذيذة؟ ستيفن هوكينغ Stephen Hawking للأسف مُنحاز إلى الإلحاد بدرجة عجيبة، الرجل هذا في A Brief History of Time أو التاريخ المُوجَز للزمان يقول علينا أن نفترض هذا الزمان التخيلي – وطبعاً هذه تقنية رياضية، يستخدمها علماء الرياضيات، ومعروفة التقريبات هذه كلها، هذا موضوع له فلسفة خاصة – أو علينا أن نفترض زمناً تخيلياً لكي تصح مُعادَلاتنا في التعامل مع هذه الشُذيذة الآن، نبدأ نفهم كيف تتعامل على الأقل ونضع لها بداية، لأن كل نظريات تحتاج إلى مُسلَّمات تبدأ منها، أليس كذلك؟ تحتاج إلى فرضيات، تُفترَض هكذا وتسلَّم كما هي، وبعد ذلك نرى كيف برهنتها، هناك البناء النظري والبناء الفلسفي والعلمي للنظريات على كل حال.
يقول وهذا الزمان من رُتبة عشرة مرفوعة إلى الأس ثلاث وأربعين ثانية، أي قبل عشرة ملايين بليون بليون بليون بليون – أربع مرات بليون – من الثانية، عشرة مرفوعة إلى الأس السالب ثلاث وأربعين، أي كان هناك جُزء، وهو هذا، جُزء من عشرة ملايين بليون بليون بليون بليون جُزء من الثانية، وبعد ذلك تبدأ إمكانية التعامل مع زمن كالذي نُدرِكه الآن، شيئ غريب! يقول لا تصح المُعادَلات إلا بهذا، وهذا جميل يا هوكينغ Hawking، جميل، جميل.
الآن يأتي السؤال أيها الإخوة، هناك شيئ عجيب، ما قبل هذه الجُدر وما قبل هذه البدايات التخيليلة، ماذا يُمكِن للعقل الإنساني أن يُطلِق عليه؟ ماذا يُمكِن أن نُسميه؟ العدم، هذا العدم، هذا هو العدم نفسه! العجيب – انظروا إلى خُطة الله في الخلق، خُطة من أعجب ما يكون – هو الآتي، لِمَ أبرز الله هذه الإمكانات؟ لِمَ جعلها مُتاحة للفكر العلمي الإنساني ليتحدَّث عنها ويتناولها ويتعاطى معها؟ لِمَ؟ فكِّروا تماماً، لِمَ؟ وأنتم تعلمون طبعاً، قبل النُطفة وقبل البَذرة وقبل الشُذيذة كان هناك لا قبل، كان هناك لا شيئ، كان هناك عدم، لكن انتبهوا، لو أن الله – تبارك وتعالى – أحال إلى البداية التي هي ليست ببداية وأحال إلى العدم الأول الذي أوجد منه كل شيئ لما أمكن للعقل الإنسان أن يُؤمِن بخلّاقية الله، أليس كذلك؟ مُستحيل! نحن مع هذه الشُذيذة نقول إننا نقف عند الجُدر النهائية، جدار بلانك Planck wall، زمان بلانك Planck time، وحرارة بلانك Planck temperature، انتهى الأمر، انتهى! لا نقدر على غير هذا، فلو الله أبى ولم يُظهِر لنا هذه البدايات البسيطة والتي تُدرَس في هذه الحدود العجيبة لما توصَّلنا إليه، تماماً كما أجبت أنا سابقاً، وأعرف أن هذا الكلام صعب، ويحتاج إلى شرح مُفصَّل أكثر، ولكن حاولوا أن تُفكِّروا فيه، أشرنا إلى هذا في جواب السؤال العجيب – مثل نفس هذا السؤال – لِمَ شاء الله – تبارك وتعالى – أن يتصرَّف في الخلق وأن يُمارِس صلاحياته في الخلق والإبداع والتدبير عبر السببية؟
أي كان يستطيع الله – تبارك وتعالى – مثلاً أن يخلق كل واحد منا دون أسباب خلقاً مُباشِراً، من لدنه هكذا، من غير أي أسباب، لا يُوجَد ذكر، لا تُوجَد أُنثى، لا تُوجَد حيوانات منوية، لا تُوجَد مراحل في الرحم، ولا يُوجَد رحم أصلاً، فجأة تنبثق أنت من العدم، من العدم في لحظة، تخرج إنساناً سوياً، لا تُوجَد سلسلة أسباب بالمرة، وبعد ذلك تأكل وتشرب وتروى – إلى آخره – من غير أسباب أيضاً، لا يُوجَد مطر لكي ينزل، ثم ينبت النبات بعد ذلك، ثم تأتي الحبوب بعد ذلك، ثم تُؤخَذ وتُطحَن وما إلى ذلك لكي نصنع الخُبز – مثلاً -، لا يُوجَد كل هذا، انتهى! من غير أسباب، لكن الآن السؤال يأتي، لو فعل الله وهو قادر – قادر وهذا ليس فيه نقاش طبعاً – هكذا ولو كان هذا أسلوبه في الخلق، هل كان يُمكِن أن نستدل على وجوده؟ مُستحيل، هل تعرفون لماذا؟ سيختفي أصلاً ولن يُوجَد منطق السببية، فنبدأ نسأل هذه الظاهرة وأين سببها؟ هذا السبب نفسه هو ظاهرة، فأين سببه؟ بُرهان التسلسل، حتى نصل إلى الله، كنا ألحدنا عن علم وعن عقل حقيقي، ولما قامت أبداً علينا حُجة الله، لكن شاء الله أن يتصرَّف بهذه السببية لكي نستدل عليه، كما شاء أن يُرينا أسلوبه في الخلق، أنا أُسميه أسلوب الجنين أو أسلوب البَذرة، الخلق الجنيني والخلق البَذري، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ ۩، كل شيئ من بَذرة، كل شيئ.
وهذا الخلق البَذري يُرينا بشكل واضح كم نحن فقراء! كم نحن مقهورون في قبضة الله! أقول كم نحن لكن ليس كبشر، مَن نحن؟ أكبر كبرياء أن تقول نحن، مَن نحن أصلاً؟ كل الكون هذا الذي خُلِق من Singularity أو من شُذيذة لا شيئ، هذا لا شيئ، كله على بعضه بما فيه الإنسان لا شيئ، ولا يملك من أمره شيئاً، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩، عرَّفني الله وإياكم به، ودلنا عليه دلالة الصادقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة والأخوات:
قلنا في الخُطبة الأولى نحن البذور، مَن منا البذور النابتة؟ مَن منا البذور الفاشلة الساقطة؟ يحدث في حياة الفرد منا أنه يفقد عشرات البلايين من حويناته المنوية دون أن يكون منها بشر، دون أن يكون منها خلق سوي، أي أنت تخرج في نهاية حياتك بخمسة من الأولاد – أبناء وبنات طبعاً – أو بعشرة أو يا سيدي بعشرين أو بثلاثين – بعضهم يتزوَّج أربعة، لا تُوجَد مُشكِلة – أو بخمسين ولداً، وأين عشرات البلايين ذهبت؟ ذهبت إلى لا شيئ، لم يخرج منها شيئ، لم تُنبِت، لكن هذه البذور النابتة التي هي أنا وأنت وهي وهم وهن، مُسلِمين وكافرين، هذه البذور أيضاً هي بحد ذاتها بذور، فالإنسان نفسه بَذرة، بَذرة للإنسان الكامل، الواصل إلى الله، العارف بالله، المُدرِك للخلق ومغزاه، هذه هي البَذرة والنُطفة التي أفلحت ونبتت، فكم من هذه البذور بذور أفلحت ونبتت وأنجحت؟ وكم منها كشأن النطاف الأولى ذهبت في مجرى الماء إلى لا شيئ، بلا معنى، وبلا ثمرة؟
نسأل الله أن يُنبِتنا نباتاً حسناً، نسأل الله أن يُعيد علينا من بركاته وعطاياه، وأن يُفضِل علينا، وأن يُحسِن إلينا.
اللهم أنعمت فأتمِم، اللهم اجعلنا من خاصة أوليائك، ومن أحبابك، ومن سادات المُتقين وأئمتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وافتح علينا فتوح العارفين، ولا تُضِلنا بعد إذ هديتنا، اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك واتباعاً لسُنة نبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، واهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، يا ولي المُؤمِنين، يا سامع الشكوى والنجوى…
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (3/7/2009)
أضف تعليق