إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩ وَطُورِ سِينِينَ ۩ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ۩ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۩ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ۩ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ۩ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ۩
بلى، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
لو سألنا مسلماً من عُرض المسلمين أو مسلمةً من علمائهم أو من جُهلائهم ماذا تفهم من قوله تبارك وتعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩؟ لبادر إلى الجواب في أحسنِ صورة أو في أحسنِ هيكل أو في أحسنِ بنية وفي أحسنِ شكل، حسنٌ فهذا ما يقوله مُعظم الذين يمرون على هذه الآية الجليلة، وفي المُقابِل ينتصب لنا الملاحدة والمُشكِّكون ليقولوا كلا، هذا بحد ذاته وبمُجرَّده يُثبِتُ – والعياذ بالله – أن هذا الكلام ليس قول ربٍ خالقٍ مُبدِعٍ حكيم، لأن الإنسان إن كان مُصمَّماً لربٍ مُدبِّرٍ خالقٍ حكيمٍ قدير – سبحانه وتعالى – فلابد أن يكون تصميمه حسناً تاماً وكاملاً – Perfect – إلا أنه تصميمٌ ليس كذلك، تصميم الإنسان ناقص وهش وضعيف.
بل يتجرأ بعض هؤلاء الملاحدة من كبار علماء الأحياء – البيولوجي Biology – حول العالم خاصة التطوّريين منهم على القول إنه تصميمٌ غبي، فهناك التصميم الذكي – Intelligent Design – الذي يعتقد به المُتدينون حول العالم من يهود ومسيحيين ومسلمين، وهناك التصميم الذي يُبرّهِن علماء الأحياء على أنه تصميمٌ غبي Stupid Design، لكن لماذا؟!
أولاً العمود الفقري في الإنسان ليس مُناسِباً بالمرة، إنه يُسبِّب آلاماً ومشاكل كثيرة جداً حين يتقدَّم العمر قليلاً بالإنسان وأحياناً قبل ذلك، مع رفع ثقل أزيد من اللازم قد يتضرَّر الإنسان ضرراً لا رجعةَ منه أو فيه، فيبدو أنه لم يكن يُخلَق ليكون الإنسان مُنتصِباً، فما القصة؟
القصة تطوّرية – هكذا يزعمون – ليست من خالق صمَّم وإنما قصة تطوّرية والتطوّر يُحسِن نفسه باستمرار من خلال عملية تقوم على الانتخاب الطبيعي Natural Selection، أما أن يكون تصميماً إلهياً تاماً بخلقٍ مُستقِل كما يعتقد المُتدينون فليس كذلك.
ثانياً النظام التنفسي عند الإنسان ليس فعّالاً، فهو نظام غير كفء Inefficient System، لكن لماذا؟!
لأن الهواء المُلوَّث – أي الهواء المُستعمَل – يختلط بالهواء الجديد، وهذا غير اقتصادي وغير مُريح بيولوجياً، وهذا في كل الثدييات وفي رأسها الإنسان، في حين أن النظام التنفسي لدى الطيور يُنجِز المُهِمة بكفاءة تفوقُ عشرة أضعاف أو عشر مرات ما يحدث لدى الثدييات وفي رأس قائمتها الإنسان، لأن للطيور جيوب هوائية كثيرة تمنع من هذا الاختلاط، إذن لو كان هذا الإنسان في أحسن تقويم لما كان كذلك.
أُنثى الإنسان الأُنثى رقم واحد في الثدييات التي تُعاني وتُكابِد الأمرين وتُلاقي الألاقي من جراء عملية الولادة، ذلكم أن عظام الحوض لدى الإنسان عموماً وخاصة الذكر طبعاً ولكن هنا حتى الأُنثى أيضاً عظام ضيقة وقصيرة، فهى ليست كأشكالها – مثلاً – في الرئيسيات الأخرى كالشِمْبانزِي Chimpanzee عريضة وكبيرة ومن ثم تتم عملية الولادة هناك بسهولة من خلال شبه انزلاق، فعند الإنسان يموتن بعض النساء أثناء الولادة، إذن هذا ليس نظاماً مُصمَّماً لصالح الإنسان، ليس مُناسِباً بعدُ وربما يحتاج – كما يقول هؤلاء – إلى عشرة ملايين سنة أُخرى حتى يُصبِح نظاماً فعّالاً ولكن الواقع الآن يقول إنه غير فعّال.
نظام إنتاج الطاقة في بنية الإنسان فيه كلام، والطاقة تُنتَج في الخلية – على مُستوى الخلية – ثم بعد ذلك على مُستوى المُتقدِّرات الميتوكوندريا Mitochondria، هذه الميتوكوندريا Mitochondria تعمل بطريقة عجيبة جداً غير كفؤة، يقول هؤلاء الذين ينقدون قوله أو يُحاوِلون مُعارَضة قوله فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩: أين التقويم الأحسن هنا؟ هذا تقويمٌ غبي جداً وهو ليس مُصمَّماً مِن قبل إله مزعوم له فائق الذكاء والقدرة والحكمة كما يظن المُؤمِنون به.
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۩ اللهم آمين، هذه فتنة أرادها الله تبارك وتعالى، فكل شيئ خلقه الله له وجهان، والعلم ليس استثناءً، فيأتي العلم ويمد المُوحِّدين والمُتدينيين بأمدادٍ جديدة من البراهين والإثباتات والدلائل والعلائم على بداعة الاقتدار وإحكام الصنعة، إلا أنه في الوقت ذاته أو عينه يمد الملاحدة والنُفاة بما يظنونه براهين وأدلة أيضاً على النفي والإلحاد والتشكيك والارتياب والعياذ بالله، فهذه فتنة إذن، وحتى القرآن حين نزل كان له وجهان، وجه يزيد المُؤمِنين إيماناً ووجه يزيد الظالمين خسارا، وشكوا في الله وفي محمد وفي الرسالة وفي الأنبياء من جراء القرآن، لكن هذه طريقة الله في العمل لِيَبْلُوَكُمْ ۩، وطريقة الله في الابتلاء ليست بسيطة وليست طريقة الفخ أو الـ Falle أو الشرك ولكنها طريقة صعبة جداً، يبدو أنها أتت كفاء ما أُوتيَ الإنسان من لياقات ستُثبِت وسنُثبِت بعد قليل أنه فعلاً ذو التقويم الأحسن رغم أنف هؤلاء المُجادِلين بغير علم، فهؤلاء مُهرطِقون، هذه هى الهرطقة – Heresy – ولكنها هذه المرة بإسم العلم وليست بإسم الكتب المُقدَّسة والأقوال المنسوبة إلى الله تبارك وتعالى.
الميتوكوندريا Mitochondria شيئ عجيب، وهى استثناء من بين أجزاء الخلية الأُخرى، لها نظام جيني عجيب جداً جداً جداً، والمفروض أنه في الخلية هناك الحامض النووي منقوص الأكسجين الريبوزي الـ DNA وفيه الشفرات المعروفة بالجينات Genes أي المُورِّثات، ولكن في داخل الميتوكوندريا Mitochondria جينات Genes خاصة غير هذه الجينات Genes، عدد قليل من الجينات Genes التي لا تعمل إلا بمُساعَدة بضع أو بضعة مئات من الجينات Genes الأُخرى في عموم الخلية وهذا شيئ عجيب، وهذا العمل ينتج عنه أخطاء كثيرة تتسبَّب في أمراض مُدمِّرة مثل الزهايمر Alzheimer، مرض تخرّب خلايا الدماغ بهذا السبب، مرض تلف أو تعطّل عضلات القلب مما يحتاج في النهاية إلى زراعة قلب جديد بسبب هذا العطل وبسبب هذا الخلل وعدم الكفاءة في عمل الميتوكوندريا Mitochondria، وكذلك بعض أمراض السمع، بعض أمراض الجهاز الهضمي، بعض أمراض الإبصار أو البصر، فهناك أمراض كثيرة جداً يعرفها الأطباء والمُتخصِّصون في وظائف الأعضاء بسبب هذه الطريقة غير الكفؤة وغير الفعّالة لعمل الميتوكوندريا Mitochondria، إذن ليست هى التصميم الأحسن وليست هى الوضع الأحسن.
يقولون هناك زيادات، مثل الزائدة الدودية التي إذا التهبت ولم تُجر لها عملية استئصال تقتل صاحبها، وليس لها فائدة في الحالة العادية.
اللوزتان Tonsil أيضاً فيها كلام، فلماذا الحنجرة موضوعة في جزء علوي؟ طبعاً لكي يتمكَّن الإنسان من الكلام ويُقِر التطوّريون بهذا، فالشِمْبانزِي Chimpanzee حنجرته في مُستوى أقل ولذلك لا يستطيع أن يتكلَّم وإنما يُهأهيء فقط لأنها أوطأ قليلاً، ولكن هذا له ضريبته، فلا يستطيع الإنسان أن يأكل وأن يتنفّس في نفس الوقت، ويموت حول العالم كل سنة ألوف من البشر – الألوف وليس المئات – بسبب الغص، لأنهم يغصون ويموتون، إذن ليس نظاماً تاماً أو كاملاً – ليس Perfect – بل له أخطاء كثيرة وله محاذيره وعليه مآخذه ولنا عليه مآخذ.
غدة البروستاتا Prostata عند الرجل موضوعة في مكان عجيب جداً جداً جداً، فهذه موضوعة أسفل المثانة وتُحيط بهذا الأنبوب النازل من المثانة، وتكبر هى بشكل مُستمِر ولكن طبعاً رويداً رويداً حتى إذا اقترب الإنسان من سن الخمسين ضغطت على الحالب، علماً بأنهم يجدون هذه الأزمة بعد الأربعين في الفحوصات السنوية، ومشاكلها كثيرة طبعاً ومن ضمنها السرطانات فضلاً عن الالتهابات وفضلاً عن التضخّم، وهذا التضخّم يتعرض له مُعظَم الرجال على الإطلاق، لأنها تكبر وتتزيد بطبيعتها حتى إذا بلغت حجماً مُعيَّناً ضغطت على الحالب – حبل البول – فأصبح الرجل لا يستطيع أن يتبوَّل بطريقة طبيعية أو قريبة من المُريح، فتُصبِح عملية التبول صعبة جداً جداً جداً جداً، فلماذا هذا التموضع غير الكفء وغير الفعّال؟ كان يُمكِن أن تكون في موضع آخر وتبقى العملية سلسة حتى النهاية، لكن الآن بعد سن الخامسة والأربعين ثلثا الرجال يُعانون من أمراض البروستاتا Prostata، أكثر من سبعين في المائة وهذه مُشكِلة، فلماذا إذن؟
المرأة لا تُعاني من هذه القضية لأن ليس عندها غُدة البروستاتا Prostata، ولكنها تُعاني من شيئ آخر، لأن العضلات التي تُحيط بالمثانة ليست كفؤة بالدرجة اللازمة، فبعد عملية أو بعد عمليتين أو ثلاث عمليات ولادة – وأحياناً بعض النساء من أول عملية – تُصاب المرأة بسلس بول، فلا تستطيع أن تتحكَّم في بولها لأن العضلات المُحيطة بالمثانة ضعيفة وليست كفؤة، فالذي خلق هذه العضلات وخلق المرأة لكي تحمل وتلد لماذا لم يخلق لها العضلات بكفاءة أكثر؟!
أمثال هذه الاعتراضات بالعشرات ويعرفها الدارسون والباحثون والمُنقِّبون، فهذه الاعتراضات موجودة وهى اعتراضات كثيرة جداً، إذن يستنتجون أن هذا كله يُعَد كلاماً فارغاً، وغير صحيح أن الله خلق الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩.
وطبعاً سنكر على هذا الكلام الآن بالنقاش، فليس هدفنا أن نشغب ولا أن نُصدِر أحكاماً على البشر، إنما نُريد أن نفهم الحقيقة، والقضية جد لا تحتمل الهزل، ولا أعتقد أنه لا ينبغي من حيث الأصل أن يكون بين أي عبد أو بين أي مخلوق وبين رب العالمين إن وُجِد وهو بلا شك موجود – نشك في أنفسنا ولا نملك أن نشك فيه لا إله إلا هو، فهو أظهر من كل شيئ، وبه ظهر كل شيئ سبحانه وتعالى – خصومة شخصية، فهذه ليست خصومات شخصية ولا يُمكِن أن تُؤخَذ هذه القضايا العلمية والفلسفية بطريقة نكائية أو كيادية كأن يقول أحدهم “سنُثبِت أنه غير موجود”، إذن أنت تضر نفسك، إذا كانت قضية الإيمان قضية حقيقية وثابتة فأنت انتهيت نهاية أبدية – والعياذ بالله – وذهبت – كما نقول – في ستين أو في سبعين داهية، لأن القضية ليست لعباً ولا يُمكِن أن تُؤخَذ باستسهال وباستخفاف!
أولاً هذا الكلام يحتوي خلطاً عجيباً جداً جداً، فهناك خلط كبير، فحين نُقارِن بين النظام التنفسي لدى الطيور وبين النظام التنفسي لدى الثدييات وفي رأسها الإنسان فإن هذه المُقارَنة هى مُقارَنة غير علمية وغير موضوعية، لكن ماذا يُريد أن يقول هؤلاء العلماء؟ وطبعاً منهم أساتيذ وعلماء على مُستوى العالم، وبعضهم حامل جائزة نوبل Nobel في علوم الأحياء والتطوّر، فهو حامل جائزة نوبل Nobel ولكن أين العقل؟ أين الحكمة؟ أين الدقة المنطقية في بناء البرهان وفي اشتقاق النتائج؟ غير موجودة، وطبعاً يبدو أنهم لم يدرسوا شيئاً في هذه العلوم مثل علوم المُناظَرة وعلوم المنطق لكي يكون عقلهم مُرتَباً، فهم يفهمون في التطوّر وفي الأحياء وفي وظائف الأعضاء ولكنهم لا يفهمون كيف ينبغي أن يُفكِّر الأنسان لكي لا يخدع نفسه، لا يعرفون هذا طبعاً لأنهم ليسوا مُتخصِّصين في هذا، ومع ذلك يقومون بدور الفلاسفة والمُفكِّرين، ونحن نقول لهم “لستم فلاسفة ولستم مُفكِّرين، أنتم مُجرَّد علماء”، فالواحد منهم كالذي يُسمى هنا باللغة الألمانية الأحمق المُتخصِّص Facharzt Idiot أو مثل ما كان يُسميه نيتشه Nietzsche وغير نيتشه Nietzsche بالمُتوحِّش المُتعلِّم أو بالمُتعلِّم الوحشي.
هو هذا، فهو يفهم شيئاً في العلم لكنه لا يفهم أي شيئ لا في الدين ولا في الفلسفة ولا في المنطق ولا في المُناظَرة ولا في الترتيب، فحتى ترتيب الفكر وترتيب القول لا يحذقه، لكن ما الذي يُريد أن يقوله هؤلاء؟ هل يُحِبون أن يقولوا أن الإنسان ينبغي أن يكون الأقوى والأفعل في كل شيئ ومن كل وجه؟ إذن يستطيع طفلٌ صغير أن يأتي ويقول الدولفين Dolphin خيرٌ من الإنسان، لأن نظامه في الغطس والعوم أفضل من الإنسان، وهذا غير صحيح لأن الإنسان ليس سمكة يا حبيبي، والدلافين Dolphins تتعرَّض للتنحي أقل من الإنسان ولكنها تتعرَّض له وتموت أيضاً، إذن حتى هى ليست كفؤة بدرجة كاملة Perfect، أي بنسبة مائة في المائة.
لكن ما هو التنحي؟!
التنحي هو حدوث تفريغات هوائية داخل الأوعية الدموية بسبب الضغط الهائل حين يعوم أو يغطس المخلوق إلى طبقات عميقة جداً.
فهذا يُسمى بظاهرة التنحي وهى ظاهرة خطيرة جداً وقاتلة، عالجها الإنسان بأجهزة مُعيَّنة صنعها، فيغطس الغواص ثم لابد أن يدخل في هذه الكبسولة حتى يزول التنحي وإلا يموت الإنسان أو تموت الحيتان والدلافين Dolphins بالسكتة – سكتة التنحي – بهذه الطريقة، ولكن عموماً نظامها التنفسي أكثر فاعلية من نظام الإنسان بلا شك وهذا ثابت، وكذلك نظام الطيور في الطيران وفي الهواء، وطبعاً كل خفّاش – كما يقولون – غاية المُنى عنده أن يتحصَّل على نظام تنفسي كالطيور، ولكن الخفّاش ثديي وليس عنده هذا، فهو يتنفَّس مثلنا ويختلط الهواء المُستعمَل بالهواء الجديد عنده، ولذلك تنفسه ليس في فاعلية تنفس الطيور، وهذا أمرٌ معروف لأنه ثديي Mammals، فهو ليس من الطيور، وإنما هو من الثدييات ويجري عليه ما يجري على سائر الحيوانات الثديية لأنه ليس استثناءً!
يستطيع أن يأتي إنسان بدائي من الصحراء أو من الغابات المطيرة أو من أقزام إفريقيا أو أستراليا حتى ويقول: الجمل أحسن من الإنسان، الحمار أقوى من الإنسان، الحصان أسرع من الإنسان، البرغوث أحسن قفزاً من الإنسان لأنه يقفز مائة ضعف طوله في حين أن الإنسان لا يفعل هذا، ولو أنه قفز مائة ضعف طوله فإنه سوف يصل إلى قمة الهرم في ضربة واحدة، ولكن الإنسان لا يستطيع هذا، لا يستطيع أن يقفز حتى ربما إلى طوله، كأن يقفز إلى مسافة تصل إلى مترين أو أقل من هذا، وإنه قفز إلى طوله فإنه يفعل هذا بصعوبة شديدة، وهؤلاء هم أبطال الأولمبياد Olympiad، لكن نحن لا نفعل هذا، فلسنا من البراغيث مثلاً، إذن البرغوث أكفأ منا، وهكذا النمل والنحل وإلى آخره.
يقول نفس العلماء من حملة نوبل Nobel في العلوم “عين الأخطبوط أكفأ من عين الإنسان، فعين الإنسان غبية”، لأن هذه العين التي استند إليها ويليام بيلي William Paley صاحب الثيولوجيا الطبيعية أو علم اللاهوت الطبيعي – هذا كان أكبر أعداء التطوّريين بعدُ في كتابه هذا بالذات، ولا زال علماء الدين المسيحي إلى اليوم يستندون على مُحاجات ويليام بيلي William Paley – فيها كلام، لكن ويليام بيلي William Paley كان يرى أن العين هى رقم واحد،لكن هناك مَن يقول “أنتم أيها الخلقيون يا مَن تقولون بخلق الله استقلالاً لهذه الأنواع والأشياء تتمسَّكون كثيراً بنموذج العين نُريد أن نقول لكم أن تصميم العين هو تصميم غبي”، وطبعاً يُريدون بعض ما يظنونه أخطاء وأشياء غير منطقية في تصميم العين، فهى في الظاهر تبدو كذلك ولكن الآن المجال لا يتسع لذكرها لإيضاح عكس ذلك، وعلى كل حال عين الأخطبوط أكفأ بكثير من عين الإنسان، وهذا صحيح من وجوه مُعيَّنة، وأنا أقول أن حتى عين السمكة الرباعية الأعين (Four-eyed Fish) (Anableps anableps) أحسن من عين الإنسان، فهذه السمكة لها أربعة عيو ، عينان في جهة وعينان في الجهة الأُخرى، وهى تطفو فوق سطح الماء يكون نصفها أسفل ونصفل أعلى، فترى ما هو أسفل وترى ما هو أعلى طبعاً لأنها تطفو بهذه الطريقة. (الفيديو)
وأنا يقشعر بدني حين أقرأ هذه الأشياء، هل تعلمون لماذا؟ لأنني أعود إلى ربي – تبارك وتعالى – وأجده يقول الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ۩، فالله يقول هى تحتاج هذا فأنا أعطيتها إياه، لكن هم يقولون أن هذا غير صحيح لأنه لم يُعطها ولا ما يحزنون، فالاصطفاء أو الانتقاء الطبيعي أو لانتخاب الطبيعيNatural Selection، وهذه القضية طبعاً طويلة ولا نُحِب الأن أن نُصدِّع أدمغة الناس بها، ولكن بعون الله – كما وعدنا ربما من فترة طويلة – سيكون لنا لقاء مُطوَّل عاصف مع هذه النظرية في سلسلة علمية مُطوَّلة، لنعرف النظريات التطوّرية، فهذه ليست نظرية واحدة، وإنما هناك نظريات ومدارس ومُتشاكِسة مُتعاكِسة علماً بأن فيها المثال وفيها المادة، فهذه ليست نظرية واحدة كما كتبها تشارلز داروين Charles Darwin، هذا غير صحيح، فالقضية مُعقَّدة جداً أكثر مما يظن الناس، وعلى كل حال حتى هذه السمكة الرباعية الأعين أكفأ منا، فالأملا لا يقتصر فقد على الأخطبوط.
الذبابة عينها أكفأ من عين الإنسان، وتستطيع أن تأتي بآلاف الأمثلة لتُؤكِّد على هذا المعنى، مثل الحيوانات التي تبيت البيات الشتوي وكلها من ذوات الدم البارد هى أكفأ منا إذا نظرنا إلى مسألة التمثيل الغذائي، فلماذا كان على الإنسان أن يجوع بعد كل سبع أو ثماني ساعات؟ كان يُمكِن أن يُعطى نظاماً تمثيلياً أيضياً يعمل بحيث أن الإنسان يتناول الوجبة كل عشرة أيام ويُفرِّغ عقله بعد ذلك من مسألة الرزق والطعام والشراب والحمام، لو كان هذا لكان أفضل، أليس كذلك؟ فلماذا لا يُوجَد لدى الإنسان البيات الشتوي مثلاً؟ إذن تستطيع أن تأتي بآلاف هذه التفاهات والهذيانات، وهذا من جهة لكن هذا ليس جواباً الآن، ولكن هذه مُلاحَظة تضع الأشياء في أنصابها!
الشيئ الثاني يتعلَّق نحن ينبغي أن نُحاكِم الكلام، فحتى في المحكمة العادية هناك الدعوى وهناك الأدلة، فهل قال أز ادّعى الله – تبارك وتعالى – أنه خلق الإنسان Perfect؟!
أدنى مسلم وأجهل مسلم يقول “الكمال لله” مع أنه هذا اللفظ غير شرعي، فلا يُقال الله كامل لأن هذا لم يرد عندنا في الصفات الإلهية، ولكن على كل حال كلنا نقول “الكمال لله”، أي أن الإنسان ابن النقص، فهو من النقص وإلى النقص، والقرآن غاصٌ وحافلٌ وملآن بأمثال قوله تعالى وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩، وبمثل قوله لَقَدۡ خَلَقۡنَا الۡإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ۩ فضلاً عن قوله وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۩ كما قال الله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ۩، وقال أيضاً وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۩، وكذلك قال اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ۩ وتأمل جيداً هذه الآية العجب، حيث قال الله في ختامها وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ۩، ومعنى قوله الْعَلِيمُ ۩، أن حكمته سارية في خلقه وفي ما خلق، ومعنى قوله الْقَدِيرُ ۩، أنه قديرٌ – تبارك وتعالى – على أنه يخلق ما هو خالٍ من هذه الأعطال ومن وجوه العجز هذه ومن الهشاشات التي امتُحِنَ بها الإنسان، يستطيع أن يفعل هذا، وإلا لم لا؟ وأعطانا نماذجاً خلقية أيضاً وقال أنا خلقت ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغوّطون ولا يعرقون ولا يتعبون ولا يستحسرون ولا يسأمون، فلا يُوجَد تعب ولا مشاكل في الركب ولا غير ذلك، لكن طبعاً هم قالوا أن إحدى نقاط الهشاشة في الإنسان هى الركب، لأن للركب مشاكل كبيرة، ومن ثم قالوا هذا تصميم غب ، والكل يُعاني منها تقريباً بعد سن مُعيَّنة، إذن الذكاء هنا في ظل وجود مشاكل الركب هذه؟ والعجيب أنهم قالوا أن الإنسان يعيش أكثر مما ينبغي، فهم يعترفون بهذا، قالوا بدن الإنسان مُركَّب بطريقة لا تُخوِّله أن يعيش أكثر من أربعين سنة كحد أقصى Maximum، ولكنه يعيش إلى مدى تصل إلى سبعين وثامنين وتسعين سنة، ولكن ليس عندهم تفسير لهذا، هم فقط قالوا هذا شيئ عجيب، فالإنسان غير مُهيّأ لأن يعيش أكثر من أربعين سنة ومن هنا بعد الأربعين تبدأ المشاكل، علماً بأن القرآن يقول هذا، تقول الآية الكريمة حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۩،
والآن هذه الآية خطرت لي والله، وهذا شيئ عجيب، فالله يعرف هذا ويقول لك: أنا أُعطيك فرصة تتمتع بشبابك وقوتك وصحتك – وطبعاً لكل قاعدة استثناءات تُؤكِّد القاعدة – حتى الأربعين، وبعد الأربعين تبدأ تفقد أموراً شيئاً فشيئاً، ثم تشيخ الأعضاء – كما ذكرت مرة في خُطبة الشيخوخة – بنسب مُتفاوِتة وبمُعدَّلات مُتفاوِتة، مثل بنسبة عشرة في المائة كل سنة أو بنسبة ثلاثة في المائة كل سنة أو بنسبة اثنين في المائة أو بنسبة واحد ونصف في المائة، وهذا يختلف من عضو إلى عضو، فالإنسان لا يشيخ ولا تشيخ أعضاؤه بالتوازي Parallel.
على كل حال الله – تبارك وتعالى – يقول هذا، فهو يقول: هذا هو الإنسان الذي خلقته وأنا أردت أنا أخلقه كذلك، خلقته نهباً للأمراض وللضعف وللأوجاع وللهموم وللشيخوخة ثم لُقمةً للموت سائغة.
لا يستطيع أحد أن يقهر الموت، فالكل سوف يموت، يقول الشاعر:
قد مات كل نبيٍ ومات كل نبيه ومات كل شـريف وعاقل وسفيه لايوحشنك الطريق كل الخلائق فيه.
فالكل سوف يموت، سواء أكان نبياً أو رسولاً أو عاقلاً أو فقيهاً أو عالماً أو جاهلاً أو مُؤمِناً أو مُلحِداً أو ذكراً أو أُنثىً أو إنساناً أو غير إنسان، فالكل لابد أن يموت.
إذن الله هو الذي يقول هذا، فأروني أين في الكتاب الكريم ذكر الله أنه خلق الإنسان Perfect؟ هذا غير صحيح، فكيف تدّعون هذا؟!
هم قالوا لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩، ونحن نقول لهم: هذا من بلادتكم ومن بلادة بعض المسلمين الذين لا يفهمون كلام الله ويخرون عليه صُماً وعُمياً، فلا يُمكِن تفسير الآية التي تقول لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ بأن نقول أن المُراد هو في أحسن شكل أو في أحسن هيكل أو في أحسن بنية أو في أحسن أعضاء، هذا مُستحيل ومن ثم لا يُمكِن أن نقول هذا، لأن الله – والله – لم يقل هذا ولا يُريد أن يقوله، لكن هل تعرفون لماذا؟ اقرأوا السورة لتعلموا.
تحدَّث مرة عن الأخطاء الفظيعة في التأويلية التي يقع فيها كثيرون مِمَن يتكلَّمون في كتاب الله، وللأسف بعضهم علماء تفسير ولكنهم علماء بالإسم وبالشهادات وليس بالعلم والتأمل والتدقيق للأسف الشديد، وهذا يُسبِّب في نهاية المطاف خسارة للقضية الدينية أمام الملاحدة وغيرهم، فالآن أي مُلحِد حين يفهم الآية كما فهمها راسخو العلماء سينسحب مُباشَرةً ويقول إذن القرآن لم يقل هذا، لكن ماذا قال القرآن؟!
قال في عشرات المواضع أن الإنسان خُلِق ضعيفاً وخُلِق من ضعف وخُلِق نهباً لكذا وكذا وكذا وكذا، ولكنه مع ذلك سيد المخلوقات وهو مَن سُخِّر له كل شيئ، وبرهان الدعوى الدعوى ذاتها، وهكذا أنا أزعم، فنحن السادة هنا على هذا الكوكب، لكن أين البرهان؟ لأننا سادة، وواضح أننا سادة، فلم يحدث يوماً أن جاءت الدببة وقرَّرت طرد عشيرة بشرية من مكانها وأنشأت حضارتها ومدنيتها، لم يحدث هذا أبداً، لكن الإنسان يفعل هذا من ألوف السنين، فيطرد النباتات والحيوانات ويُنشيء المدن والحضارات والثقافات، لم يحدث مرة أن رأينا حماراً يركب فيلسوفاً، ولكن دائماً الفيلسوف هو الذي يركب الحمار والحصان والجمل أيضاً، قال الله وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ۩،وقال الله أيضاً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ۩، أي أن الله قال هذا عمل يدي و ليس عمل الاصطفاء الطبيعي Natural Selection، فهذا عمل يد الله تبارك وتعالى إذن.
وعلى كل حال نعود إلى ما كنا فيه، إذن القرآن يقول ماذا؟!
يقول القرآن وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩ وَطُورِ سِينِينَ ۩، فهناك أشياء ومواضع أقسم الله – تبارك وتعالى بها – بها، لكن ما هو الأرجح في المُراد منها؟ هذه قضية أُخرى.
قال الله وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩، فقال مُعظم المُفسِّرين أن هذه إشارة إلى إبراهيم، وبعضهم قال إلى عيسى، وبعضهم بل إلى إبراهيم، ثم قال الله وَطُورِ سِينِينَ ۩ فقالوا إشارة إلى موسى حيث خاطبه الله تبارك وتعالى، ثم قال الله وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ۩فقالوا هذه إشارة إلى محمد.
إذن إلى مهابط الشرائع الإلهية والدين الإلهي السماوي الواحد، دين لا إله إلا الله، فهو دينٌ واحد وشرائع شتى، وأنا لدى إضافة من سنين بعيدة جداً ويعلم بعض الإخوة هذا ولذا يضحك الآن أبو عدنان في المسجد، فأنا أقول أن من المُحتمَل أن يكون المُراد بالتين في قوله وَالتِّينِ ۩ أن تكون هذه إشارة إلى البوذية، وطبعاً البوذية مبحث طويل جداً جداً جداً وهى الآن كما نعهدها في الظاهر دين بلا إله، فهو دين لم يتكلَّم عن آلهة أصلاً وإنما تكلَّم عن السلوك Manners فقط، أي عن سلوكات الإنسان فحسب، ولكن هناك ما يُؤكِّد وجهة النظر المُعاكِسة، وعلى كل حال إن صح أن لها أصلاً سماوياً وأنها ديانة مُؤلِّهة – وهى طبعاً ديانة رسالية بلا شك تبشيرية كالمسيحية وكالإسلام مثلاً، فهى ليست كالهندوسية ديانة غير رسالية – فسوف تكون كلمة وَالتِّينِ ۩ إشارة إلى بوذا Buddha لأنه أُلهِم وحصل له الاستبصار العظيم بطريقة الدُفعة تحت حجارة التين، وإلى اليوم هذه الشجرة مُقدَّسة لديهم هناك.
قال الله وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩، إذن هو يُقسِم بشيئين، وَالزَّيْتُونِ ۩ إشارة إلى عيسى عليه السلام، فجبل الزيتون هو جبل بيت المقدس، فهى محلة التين والزيتون، ثم قال الله وَطُورِ سِينِينَ ۩ إشارة إلى موسى، ثم قال وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ۩ إشارة إلى محمد !
إذن القرآن يتكلَّم هنا عن قضية الإيمان، وليس عن الاقتصاد أو عن الثقافة العامة، وإنما يتكلَّم عن الإيمان، عن قضية همزة الوصل بين الأرض والسماء، عن الرسالات الإلهية، لكن ما هو المُقسَم عليه؟!
قبل أن نُحدِّد المُقسَم عليه لابدأن نتساءل: ما معنى أن يُقسِم الله هذه الأقسام بأربعة أشياء على شيئ؟!
أجاب عن هذا السؤال إمامنا شيخ الإسلام المُفسِّر اللوذعي العبقري الطاهر بن عاشور قدَّس الله سره الكريم، فهو أحسن مُفسِّر أعجبني في فهمه لهذه السورة على الإطلاق في القدماء والمُحدَثين على الإطلاق، وهذا شيئ عجيب لأن كان عنده ذكاء مُنقطِع حين كان يتعاطى مع هذه السورة، فالرجل فعلاً يُعتبَر مُفسِّراً حقيقياً وليس مُتكلِّماً في كتاب الله، وإنما هو مُفسِّر، فهذا هو المُفسِّر الحق، فهو صيرفي الكلمة ومن ثم يضع كل كلمة مكانها، وهذا لا يعني أيضاً أنه معصوم لأن له بعض الأشياء الخاطئة، وهذا شيئ طبيعي، فمثله هنا مثل كل علّامة، ولكن هنا أبدع الرجل – قدَّس الله سره – وقال:
معنى أن يُقسِم الله بهذه الأشياء – وهذا معروف في البلاغة طبعاً، فأي شيئ يحتاج إلى تأكيد معناه لأنه غير واضح أو يقع فيه شك أو يقع العمل والسلوك على خلافه يتم القسم عليه، ومعروف هذا الأمر لأنه من مُقدِّمات علم البيان – أن هذا الشيئ الذي سيُقسَم عليه غير واضح حتى تعرفه العجوز العامية والطفل الصغير، فهم يقولون معنى أن فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ أن شكله جميل وبدنه قوي – ما شاء الله – وعيونه حسنة، وهذا غير صحيح إطلاقاً، قال الله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۩، أي بعد التقويم الأحسن، ثم جاء الاستثناء المُتمثِّل في قوله إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ۩، إذن القضية ليس لها علاقة بالبدن إطلاقاً، لا علاقة لها أبداً.
وقبل أيام كنت أُتابِع في التلفاز مُحاوَرة مع الفيلسوف الأمريكي المُلحِد دانيال دينيت Daniel Dennett فسألت أحد جلسائي ما رأيك في الرجل؟ فقال الله أكبر، نور الإيمان يفط من وجهه، فقلت له صحيح ولكنه مُلحِد، فالرجل وجهه جميل جداً وطيب بشكل عجيب، وله لحية كلحية المشائخ وله بسمة لا تُفارِق مُحياه الصبوح، ومع ذلك قلت لمَن كان معي أنه مُلحِد ويُدافِع عن الإلحاد بحماس مشبوب، فقال عجيب، فقلت له قال الله تعالى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ ۩ وقال تعالى أيضاً وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۩، يقول الشاعر:
لا بأْسَ بالقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ قِصَرٍ جِسْمُ الْبِغَالِ وأَحْلامُ العصافير
قال رسول الله “إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”، قال الله تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۩.
فالقضية لا تتعلق بالجسد إذن، فأبو جهل كان عنده القوام الحسن معناها والشكل المُمتاز، وماركس Marx – ما شاء الله – وافر اللحية، فحتى لحيتي أنا ليست وافرة لكن كارل ماركس Karl Marx كان وافر اللحية، ومثله فريدريك إنجلز Engels صفيه وحواريه، فهاتان لحياتان وافرتان فضلاً عن الشكل ما شاء الله، والعيون الألمانية ما شاء الله، ومع ذلك هو مُلحِد كبير وهو مُحامي الشيطان ومُحامي الإلحاد.
إذن لا علاقة بقضية الجسد، ولكن لكي يصح الاستثناء في قوله إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ۩لابد أن القضية لا تتعلَّق بالجسم وإنما تتعلَّق بالفطرة والإيمان، فإذن المُقسَم عليه شيئ له علاقة بالفطرة وبالإيمان وبالدين، والآية واضحة والسورة واضحة تماماً، لكن لماذا جعلنا القرآن عضين؟ لماذا أخذنا آية هكذا من سورة قصيرة جداً تُقرأ في دقيقة واحدة وأخطأنا تفسيرها وطرَّقنا طريقاً للملاحدة والمُشكِّكين وللمُتشكِّكين من أبناء المسلمين وبناتهم – للأسف – حتى يتشكَّكوا في دينهم؟ ولذلك قد يقول لك أحدهم: كلام القرآن غير صحيح، فليس صحيحاً أصلاً أن هذا من عند الله، لأن الإنسان فيه كل هذه العيوب وهذه النقائص وهذا النظام غير الكفء ومع ذلك تقول لي فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩، فكيف هذا؟!
هذا غير صحيح، لأن الله ما تحدَّث عن هذا أبداً والقرآن يُؤكِّد هذا، ولكن قبل أن اُكمِل لماذا هذا قد يقول لي أحدكم: أنت فررت من السؤال، لماذا خلق الله الإنسان بهذه الطريقة الناقصة وأوجد فيه كل هذه النقائص والهشاشة والضعف؟!
الله أراد أن يخلقه كذلك بلا شك طبعاً، من أجل لفت نظر الإنسان يا رجل، فهذا لفت نظر ويا ليت نظره يلتفت، فهذا الإنسان عُرضة للموت وللضعف – ليس فقط ضعف الأعضاء وإنما ضعف الأعصاب – لذا قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۩، فهو دائماً مُتعجِّل ورزته محروقة كما يُقال بالعامية، ولذلك يُخطيء ويستحمق لأنه قليل الحلم وقليل الجلد والصبر، وهذا معنى أن الله قال خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۩، فإذا سمع عن الله يقول مثلما قال بنو إسرائيل أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ۩،
ويقول: أين الله لأننا نُريد أن نراه؟ فهو يُريد أن يرى الله وكأنه ماكينة – Machine – تصوير مثلاً، ولذلك قال الله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۩ وقال تعالى أيضاً سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ۩، ومع ذلك يسمع عن يوم القيامة ويقول أنه يُريد أن يرى يوم القيامة، يسمع عن عذاب الله فيقول مثلما ذكرت الآية الكريمة ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۩، أي أنه دائماً ما يستعجل لأنه أحمق، فأعصابه ضعيفة وعقله ضعيف أيضاً لأنه ليس عقلاً إلهياً مع أنه أقوى عقول المخلوقات بإطلاق، لكن هذا هو الإنسان، إذن الجواب هو للفت النظر، ولكن كيف هذا؟!
قال مرةً الأديب والمُفكِّر الفرنسي الشهير جداً أناتول فرانس Anatole France “حتى الملاحدة يُؤمِنون ويُراجِعون قضية الإيمان ومسألة الإيمان حين يرتفع السكر في بولهم”، أي أنهم عندما يُصابون بالسكر تُصبِح قضية الإيمان قضية هامة في حياتهم.
ألبرت أينشتاين Albert Einstein في آخر حياته كان يقف موقفاً عنيداً جداً من نظرية ميكانيكا الكم Quantum Mechanics ، فوقف هذا الموقف العنيد المعروف الذي اشتُهِرَ به وأصر على أن أن الله لا يلعب النرد Chess.
وفعلاً الله لا يلعب بالنرد، قال الله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ ۩، فكل شيئ مُقدَّر طبعاً، لكن داروين Darwin كان يقول لك طبعاً أنه لا يعترف بالتقدير ويراه كلاماً فارغاً، فهناك انتخاب طبيعي أعمى عشوائي غير هادف وغير عاقل وغير مُحِس يعمل، فهذه عملية عشوائية عمياء – Blind – بالكامل، وهكذا بالصُدفة حصل كل ما حصل، وهذا شيئ غريب، كيف يكونكل ما حصل ويحصل – وشيئ جميل الذي حصل – بالصُدفة؟ لكن هو قال هذا حدث بالصُدفة، وبالصدفة غير هادفة أيضاً لأن ليس لديها أي أهداف لكي تصل إليه، ولذلك يسقط التفسير الغائي – علماً بأننا تكلَّمنا عنه في الخُطبة السابقة – التولولوجي Teleological، لكن أينشتاين Einstein من زاوية الفيزياء يقول هذا غير صحيح لأن الفيزياء علَّمتني أن كل شيئ في موضعه.
ثابت بلانك Planck – وتعرفون طبعاً هذا وخاصة مَن درس منكم الإشعاع والحرارة – هو ثابت بسيط جداً جداً جداً وحقير، لكن – والله – لو تغيَّر هذا لاستحالت الحياة في الكون كله، لكن هذه قصة كبيرة وتحتاج إلى مُحاضَرة خاصة وحدها.
الفيزيائي البريطاني الشهير في الفيزياء الرياضية والمعروف حول العالم والذي ألف كتاباً عن القوى الأربعة وعن الثوابت الكثيرة جداً جداً التي تحكم هذه القوى الأربعة قال أي ثابتة من هذه الثوابت لو تغيَّرت يتغيَّر الكون كله، وهذا صحيح لأن فعلاً ليس في الإمكان أبدع مما كان، قال الله هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۩.
فالحكاية ليست اعتباطية من أجل فرد الصدر والعضلات، ليست هكذا هى المسألة، فالمسألة أصعب بكثير من هذا .
ومن على المنبر أُذكِّركم ربما للمرة الرابعة أو الثالثة بهذه الأرقام المُذهِلة ويجب أن تتحفظوها لأن ورطة هؤلاء التطوّريين والصُدفيين والعشوائيين ليست مع الدين ولا مع العلم، فعلينا أن ننتبه – كما سبق وقلت – إلى أن كل شيئ له وجهان، وهذا وجه العلم أيضاً، فليست الورطة مع الدين الآن وإنما الورطة مع العلم وخاصة علم الكونيات – الكوزمولوجيا Cosmology – لأن قيل على لسان أحد أعظم روادها على الإطلاق في هذا العصر الآن والذي لا يزال حياً وهو روجر بنروز Roger Penrose التالي:
بعد سنوات طويلة من الدرس والعناء والتصوّر والتأمّل بطريقة رياضية بحتة – هذه ليس لها علاقة بالدين، وكذلك الرجل ليس له علاقة بالأديان ولا يُحِب الأديان – وجدت أن احتمال أن يُوجَد ما قد وُجِد على ما وُجِد – وخاصة في كوكبنا هذا وفي الكون عموماً – هو احتمال يُساوي عشرة ناقص عشرة أُس مائة ثلاثة وعشرين.
وهذا شيئ غريب، علماً بأنني شرحت لكم هذا مرة، وهذا لا يعني وجود واحد وأمامه مائة وثلاثة وعشرون صفر، وإنما يعني واحد على عشرة أس ثلاثة وعشرين.
لما نقول عشرة أمامها عشرة أُس تسعة صفر سيكون معناها أن أمامها بليون أو مليار صفر، أي أننا سوف تضع مليار صفر، وإذا قلت عشرة وأمامها عشرة أُس اثني عشر صفر هذا سيكون معناه أن العشرة أمامها تريليون صفر، أي ألف مليار أو ألف بليون صفر، فعليك أن تكتب الألف بليون صفر إذن، ولكن هذا لن يحدث لأن سوف تنقضي حياتك دون أن تكتب الألف بليون صفر!
لكن هذه ليست ألف بليون صفر وليست تريليون صفر وليست جوجل Google – الجوجل Google عشرة أُس مائة – بل يا ليت لو أنها كانت جوجل Google، لكن هى عشرة أُس مائة ثلاثة وعشرين، يعني عشرة وأمامها من الأصفار عشرة تريليون تريليون جوجل Google صفر.
أف، وهذا ليس كلام دين وإنما كلام علم ورياضيات، وهذا شغل مُتقَن ومن ثم عليكم أن تُحاجوا بنروز Penrose ولا تُحاجوننا نحن، فنحن ليس لنا علاقة، فلا تتكلَّموا عن رجال الدين لأن رجال الدين لا يعرفون هذا، وهم أغبياء يا سيدي في هذه الأشياء، فحاجوا إذن رجال العلم والرياضيات وتكلَّموا معهم .
وفي الرياضيات – قلت لكم أيضاً قبل اليوم – واحد على عشرة أُس خمسين – يعني عشرة أُس ناقص خمسين – ماذا يُساوي؟ هذا يُساوي الصفر في النهاية، فواحد على عشرة أُس خمسين يُساوي الصفر، فيا ليت كان العدد حتى واحد على عشرة أُس مائة، لكن هو واحد على عشرة أُس مائة ثلاثة وعشرين، يعني هل تعرفون أصغر من الصفر بكم؟!
بعشرة تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون “ست مرات تريليون ” لأن عند طرح خمسين من مائة ثلاثة وعشرين سيكون الناتج هو ثلاث وسبعون صفر، فهى أصغر من الصفر عشرة تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون – ست مرات – مرة، وهذا عدم طبعاً.
فالمُشكِلة ليست مع الدين إذن وإنما مع العلم، تكلَّموا مع العلم لأن الحكاية ليست بالكياد أو بالنكائية أو بالعبط، مثل عبط ريتشارد دوكنز Richard Dawkins صاحب صانع الساعات الأعمى، والذي رغب إلىّ إخوة عبر الإنترنت Internet أن أرد عليه لأن الإلحاد بسبب كتبه وأفكاره ينتشر الآن في الشمال الإفريقي وهذا حقيقةً ما دفعني أن أبداً الكلام في هذه الموضوعات، ومن ثم لابد أن نتكلَّم فيها كثيراً – إن شاء الله – في الخُطب وفي المُحاضَرات المُطوَّلة وسنرى الموقف العلمي المحض – إن شاء الله – والفكري المُتقَن والقوي وليس الديني، فالقضية ليست كما يقول صاحب صانع الساعات الأعمى – The Blind Watchmaker – بل أن القضية مُختلِفة تماماً.
نعود إلى ما كنا فيه، إذن هذا لفت نظر، ورغم أن هذا هو الإنسان بضعفه وشيخوخته وموته وفنائه وأوجاعه وأمراضه إلا أنه فعل ما فعل واستكبر وجحد وكند وكفر وتنكّب واستعمر ونهب واستغل ولا يزال يُمارِس الاستجابة بسلاسة لدوافعه الوحشية الزواحفية داخل عقله الحيواني الذي لم يندثر للأسف ضمن عقوله الثلاثة في مُخه أو في دماغه، فهو لم يندثر ومن ثم لا يزال هكذا، فهل ترون وترين – بالله عليكم وعليكم – ماذا كان سيكون الإنسان لو خُلِق Perfect بحيث لا يمرض ولا يعجز ولا يحيا خمسين أو ستين سنة وإنما يحيا ألف وألفين وثلاثة آلاف سنة وربما حتى لا يموت؟!
أنا أقول لكم بكلمة واحدة أن الجواب هو أنه لن يكون، فهذا الجبّار العنيد الغافل الساهي اللاهي سيُفني نفسه.
لم يمر على الإنسان حقبةٌ من الدهر يخشى فيها أهل العلم والحلم والفكر والفلسفة والتأمّل من هذه النهاية الدرامية القابضة – أن يُفني الإنسان نفسه – كما الآن، وذلك من يوم اخترع السلاح النووي والهيدروجيني، فهناك خطر حقيقي ومخاوف من أن تفنى البشرية وعلى يد البشرية، ولكن قد يسأل أحدكم: وماذا سيكون بعد؟!
أنا أقول لك أنه سيكون مثلما كان قبل أن يُوجَد هذا الإنسان الغبي الغافل الساهي اللاهي وكما سيكون بعده، سيستمر موكب الحياة إلى حيث يشاءُ الله وإلى حين يشاءُ الله تبارك وتعالى، علماً بان عمرنا بعد جبر الكسور وجبر الخواطر أيضاً – خواطر التطوّريين – لا يتعدى عشرة ملايين سنة، لكن الديناصورات Dinosaurs عاشت قبل سبعين تقريباً مليار سنة على الأقل مائة مليون سنة ثم فنيت، وإلا أين الديناصور Dinosaur؟!
ذهب الديناصور Dinosaur، فلم يعد هناك كائن حي إسمه الديناصور Dinosaur، ولكن هناك المُتحجَّرات – Fossils – والمُستحاثات الخاصة بالديناصور Dinosaur، فالآن لا يُوجَد أي ديناصور Dinosaur حقيقي رغم أنه عاش مائة مليون سنة، في حين أن كل البشرية – ليس فقط الإنسان الهومو سابينس Homo sapiens، أي نحن فقط، وإنما أيضاً الهومو هابيليس Homo habilis والهومو إريكتوس Homo erectus وكل هذه القرديات وكل هذه الأنثروبات – عاشت عشرة مليون سنة، لكن الديناصور Dinosaur عاش مائة مليون سنة ومع ذلك فنيَ – كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۩ – وانتهى ولم يبق.
إذن لن تأسى ولن تذرف علينا الحياة قطرة دمع، لن تحزن على هذا الجنس الغبي الذي يحتج ويزعم أن الله ادّعى أنه أراد أن يخلقه Perfect ولكنه لم يُفلِح لأنه غير موجود.
فحين نُؤمِن أنه أخبر أنه أراد أن يخلقه كاملاً ثم نختبر فلا نراه كاملاً فإننا نفهم أن هذا الذي أخبر غير موجود وإنما أُخبِر بلسانه، ومن هنا قضية الإلحاد وهنا الحرج في قضية الإلحاد، ولكن في الحقيقة إلى الآن هذه الدعوى كاذبة، فالله لم يدّع ذلك ولا مرة – بحمد الله تبارك وتعالى – ولا أنبياؤه، بل ادّعى دائماً أن الإنسان ضعيف وأن الإنسان مُفتقِر وأنه فقير وأنه عُرضة لكذا وكذا وكذا وكذا مما ذكرنا ومما تعلمون ومما لم نذكر، هذا هو إذن، وكل هذا كان لفتاً لنظر الإنسان لكي يُضطَر الإنسان أن يُفكِّر في الله وفي الآخرة وفي الحساب والعذاب والخلود والأبدية، فلا يبقى مأخوذاً بالدُنيا وبهرجها وزينتها.
وأنا أقول لكم بصراحة: أنا كواحد من الناس عبد فقير لله ونشأت مُنذ نعومة أظفاري – بفضل الله – في المساجد والله العظيم، وعُنيت كثيراً بقضية الإيمان وأنا في سن صغيرة، فمن سن عشر سنوات كنت أدرس المسائل الفلسفية والكلامية التي تُصدِّع الرأس في هذا المشوار الطويل والعجيب جداً، ومع ذلك لم أفهم قضية الإيمان ولم تصر قضية الإيمان تعني لي شيئاً حقيقياً يملك علىّ جوانجي وظاهري وباطني ويستخرج أعمق ما في أعماقي إلا بعد أن جاوزت الأربعين، وهذه حكمة الله، ولذلك عموم الأنبياء يُبعَثون بعد الأربعين، فما الذي يحدث بعد الأربعين؟ نبدأ نشعر بالضعف، بالأمس حين دخلت الأكاديمية قلت رأيت شباباً فقلت سُبحان الله، هذا هو الشباب، بارك الله في الشباب، حيث أنهم كانوا يتكلَّمون بالصراخ وكانت الأصوات فيها حياة وحيوية، وهذا شيئ غريب، لكن نحن ما عُدنا نستطيع أن نتكلَّم هكذا، وأنا لا أُحِب التمثيل والزُخرف، فأنا لست مُزخرَفاً ولا أُحِب الزخرفة ولكنني ما عُدت أستطيع أن أتكلَّم بهذا الصوت العالي أبداً، وهؤلاء الشباب ينظرون إلىّ وإلى أمثالي ويقولون هذا شيخ كهل غلبان مسكين وضعيف، ماتت فيه جذوة الحياة ومن ثم هو يمشي بهدوء وينظر بهدوء ويتكلَّم بهدوء.
فهؤلاء هم الشباب، فهل تظنون أنهم سوف يسألون عن قضية الأبدية والخلود والله والآخرة والنبوات والصدقيات؟ لأ طبعاً، فم ليس عندهم أي وقت لهذا، فالشباب تأكلهم الشهوات والمُنافَسات والنجاح والفشل والقوة والضرب والنط والقفز، هذا هو الشباب إذن، ولكن حكمة الله أنه استهدفنا للضعف والشيخوخة والتنقّص وبالذات بعد الأربعين – كما قلنا غير مرة – علماً بأن هذه حقيقة فسيولوجية، فعند الأربعين يستوي الهدم والبناء في عموم الكائنات الإنسانية طبعاً، لكن بعد الأربعين يبدأ الهدم يتغلَّب على البناء، وفعلاً يبدأ يشعر الإنسان أن كل شيئ ينسحب الآن، حتى الطعام وحتى اللون وحتى الرائحة بل ومُتعة الحياة ككل، فكل شيئ ينسحب، ولذلك قلت لكم قبل ذلك: ويله مَن لم يُرصِد لنفسه رصيداً هائلاً يستخدمه الآن في هذه الفترة، أي في فترة الاكتهال ومن بعد في الشيخوخة ثم الهرم قبل الموت، فهذا سوف يُعطيه طعماً جديداً للحياة وللوجود، وهو أطعم بكثير – والله – من طعم الشباب، وهو طعم الفكر والتفلسف والنظر والتأمّل وتعمّق قضية الإيمان والعلاقة بالرب الجليل – لا إله إلا هو – والإله الحكيم المُبتدِع القدير، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، أما إن بقيَ يسلك كما يسلك الشباب ويُريد فقط أن يُنافِس وأن يفوز وأن يجمع المال وأن يأخذ المُتعة وأن يتمتع بالحسناوات والغيد الخوامص فهذا إنسان تافه وساذج وبليد حقيقة لأنه لم يفهم شيئاً وسوف يخر على وجهه، فهذا الإنسان البليد سوف يخسر لأنه لم يفهم شيئاً، لكن نتهى كل شيئ، فليس الآن الوقت لهذا، اترك هذا للشباب.
لكن هناك مَن لم يفهم هذا، بل ويرتدي طواويس ومزركش بعد الأربعين كما لو كان من الشباب المُراهِق، فما هذا؟ ليس هذا الآن وقته، هذه قضية أُخرى، فالله أراد هذا لكن هذا لم يفهم مُراد الله حتى الآن ويُصدِّق نفسه أنه ما زال شاباً ومن ثم يتصرَّف باستخفاف وهبل على هذا الأساس، وهذا غير صحيح ، فعليه أن يبدأ من الآن وأن يأخذ الأمور بجدية، فنحن بدأنا بالضعف والتراجع نأخذ القضية بجد رُغماً عنا، وهذا لفت نظر من رحمة الله – والله العظيم – بنا، قال الله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ۩ وقال أيضاً فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، كأنه يقول: لذلك هناك حروب ومجاعات وطوفانات وجدب وسنين وقحط وأوبئة ومشاكل وفيروسات Viruses، فهذا كله من أجل أن يتضرّعوا لنا ويلتجئوا إلينا ويعرفوا أنني هنا ومن ثم سوف أستجيب لهم.
ولذلك أنا دائماً أسخر – والله العظيم – من أكبر مُلحِد لأنني رجل علمي في تفكير، فلست ذاك الرجل الذي يُفكِّر كما يُفكِّر بعض الناس بمنطق الإيمان التسليمي، فأحدهم حين طرحت عليه بعض هذه الشُبهات قال لي أنه يرفض كل هذا الكلام لأنه لا يُؤمِن إلا بالإيمان التسليمي، فقلت له هذا كلام فارغ وليس له – والله – أي قيمة، فقال لي كيف هذا؟ فقلت له لأن المُلحِد يحتج عليك بهذه العبارة الغبية ويقول لك من أجل ذلك أنا ألحدت، لأنني أرفض أن تلهج كذباً بأنك تُؤمِن عن عقل وعن علم وحين نُحرِجك تقول أُسلِّم، إذن إيمانك كله مدغول وغير مُبرَهَن ولا يُوجَد عليه أي دليل ولذلك حين تُحرَج بالأدلة تقول أُسلِّم، ولذلك يُسلِّم البوذي والهندوسي واليهودي والمسيحي والزِنْي والجيني وكل أصحاب الأديان وكلهم عند أنفسهم مُحِقون لكنهم في الحقيقة كلهم مُبطِلون لأنهم مُقلِّدون ولا يتبعون الدليل، وأنت لست استثناءً.
فاُحرِج الشخص وقال لي هذا الشيئ مُخيف، فما الجواب إذن؟ فقلت له سوف تسمعه في الخُطبة، فلا يُمكِن أن تأخذ الجواب في خمس دقائق، عليك أن تسمعه في الخُطبة وفي الدروس، لكن على كل حال التسليم لا ينفع معنا، فلابد من الفكر ومن الدليل.
إذن هذا لفت نظر من الله، ونعود إلى قوله أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ وقد أدركنا الوقت:
إذن قضية لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩ قضية لا تُؤخَذ ببادئ الرأي وبادهه وإنما تُؤخَذ بالغوص والسبر – أي بسبر الأعماق البعيدة السحيقة – لأن الأمور غير واضحة، فمُعظم الناس كما قال علَّامتنا ابن عاشور – قدَّس الله سره – يسلكون كأنهم لا يدينون بالفطرة ولا يعرفونها، فهم يتنكرون لله وللدار الآخرة وللقيم وللجمال ولكل شيئ، ولذلك ناسب أن يُقسِم الله ويقول أنتم مُجرَّد مُنحرِفين عن الفطرة، قال الله فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۩، لكن ما هذه الفطرة؟!
ليست الغرائز الجنسية والأمومية، وإنما فطرة الإيمان، ولذلك قال النبي “كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه – قضية دين إذن – يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ”، إذن الحكاية تتعلَّق بالدين ولبي بالغرائز، فهذه الغرائز موجودة حتى في الشِمْبانزِي Chimpanzee وفي القرود وفي كل الحيوانات، لكن القضية هى قضية الدين.
إذن هل تعرفون ما هو التقويم الأحسن؟!
ما أُوتيَ الإنسان من قوة العقل والفكر والتمييز واستبصار الروح الإلهي، أي السر الإلهي فيه المُتمثِّل في قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، وذلك لكي يبحث قضية الإيمان ولكي يبقى دائماً مُتسائلاً عن الله ولكي يبحث عن صلة الوصل بين الأرض والسماء، فدائماً قضية الدين مطروحة ولم ولن تخلو منها مائدة البحث يوماً.
إذن هذا هو الإنسان وهذا هو أحسن تقويم، فمَن استجاب وصدر وأفرغ عن هذا التقويم الأحسن فهذا مُؤِمن صالح – إن شاء الله تعالى – وسوف يسعد في الدارين، ومَن انتكس وارتكس ووضع رجلاً على رجل كهذا الفيلسوف المُلحِد وأمثاله وبدأ يتكلَّم عن براهين الإلحاد والنفي والكذب وإلى آخره فهذا مردودٌ إلى أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۩ بدليل صحة الاستثناء إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، فالقضية لا علاقة لها لا بالبدن ولا بالنية وبالأعضاء ولا بالأجهزة، القضية لها علاقة بالعقل والتمييز.
العجيب جداً أنني لدى قراءتي لكتاب ريتشارد دوكنز Richard Dawkins صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker – علماً بأن هذا الكتاب للأسف الشديد هو كتاب علمي تطوّري وإلحادي، وحرف كثيرين من المسيحيين واليهود والمسلمين عن دينهم، فهو كتاب قوي ومُحكَم ويُدافِع بأحدث الموديلات Models الفكرية عن نظرية التطوّر بالانتخاب التراكمي أو التركيمي، أي أنه مُشكِلة في نهاية المطاف وأنا قرأته مرتين بعد أن اضطُرِرت إلى ذلك في سنوات مُتباعِدة – وجدت أنه تحدَّث عن الانتخاب المُراكم، فهل تعرفون ماذا قال هذا الرجل وهو يتحدَّث عن الانتخاب التركيمي أو المُراكم؟!
قال “وهكذا أصبح الطير ماهراً جداً في الطيران والسمك ماهراً جداً في السباحة والوعول والحيوانات البرية ماهرة جداً في العدو، وانتصب الإنسان ماهراً جداً في التفكير”، فقلت له “أحسنت، قال الله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩، فهذا ما نقوله وهذا ما يقوله كتابنا وهذا ما ادّعاه ربنا، وبالتالي ميزتنا هنا”.
ولذلك انتبهو الآن إلى عالم الفيزياء المُؤمِن بول ديفيز Paul Davies – هذا الرجل مُؤمِن بالله عز وجل ولكن بالإيمان العلمي وليس بالإيمان اللاهوتي، فالعلم ألجأه إلى الإيمان، ولذلك أنا أحترم هذا الرجل، علماً بأنه هو صاحب أسطورة المادة The Matter Myth – وانتبهوا إلى ماذا يقول هذا الرجل في كتابه عقل الله The Mind of God، فهو عنده كتاب إسمه عقل الله ألَّفه في سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين ورُشِّحَ لنيل جائزة أحسن كتاب علمي سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين، وقد ختم كتابه الرائع هذا قائلاً: ما معنى أن تقف هذه الغُبارات – ذرات الغُبار – الكونية المُسماة بالكائنات البشرية – نحن – وتتساءل عن سر الكون وسر الوجود وتُحاوِل وتنجح نسبياً في كسر بعض شيفرة الوجود؟!
طبعاً هذه الكائنات تفعل هذا بالعقل الفيزيائي والفلسفي والعلمي، وهذا شيئ عجيب، فهذا هو الإنسان المُذهِل جداّ، لكن ما معنى ذلك؟!
يختم الكتاب المُكوَّن من مائتين وخمسين صفحة بثلاثة أسطر قائلاً “إنني أرفض أن يكون ما حدث قد حدث نتيجة صُدفة أو اتفاق في دراما كونية لا معنى ولا غايةَ لها، إنني أُوقِن وأُقرِّر أننا وُجِدنا هنا لكي نكون هنا تبعاً لقوة عاقلة مُختارة أرادت هذا”
والله العظيم هذه آخر ثلاثة أسطر في كتابه، لكن هكذا ختم هذا الكتاب العجيب، وهو كتاب فيزيائي فلسفي وفيه مُرافَعات من أروع ما يكون، ولذلك إسم الكتاب عقل الله The Mind of God!
فهذا هو إذن، قال الله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ۩، ولكي أُطمئن إخواننا التطوّريين من أبناء المسلمين وغير المسلمين، من المِليين وغير المليين أُحِب أن أقول لهم:
أنا شخصياً إلى الآن عندي استعداد أن أُوافِق داروين Darwin والتطوّريين في تسعة وتسعين في المائة فيما ذهبوا إليه، فما رأيكم؟ هناك حقائق كثيرة جداً وصحيحة في التطوّر، وهناك أدلة مادية محسوسة عليها، لكن تعرفون ما هو الخطأ؟ الخطأ هو أن رجال الدين عبر العصور أصروا على أن الله يخلق – ونحن نُصر على أن الله هو الخالق، قال الله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ۩– خلقاً مُستقِلاً، أي أنه يخلق خلقاً لمرة واحدة، فالإنسان – مثلاً – خُلِق في لحظة واحدة، وهذا غير صحيح.
نظرية التطوّر حين تقرأها وتتعمّق فيها وتقرأ أدبياتها تجد أن فيها جاذبية، فهى نظرية جاذبة – Attraktiv – وفيها سحر وجمال حقيقةً، لذلك سحرتني مُذ كنت غُلاماً صغيراً، فقرأت أصل الأنواع فسحرني، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأنها تتحدَّث عن مُداومة وعن استمرارية وعن انتقاء نعم غبي ولكن نتائجه ذكية رغم أنه انتقاء غبي، وتتحدَّث عن اشتقاق الأنواع من بعضها البعض، فتشعر بوجود الجُهد والإبداع هنا، وذلك في مُقابِل النظرية اللاهوتية لدى عموم المُتدينين، تلك النظرية الساذجة جداً والفقيرة والتي تُصوِّر الله ككائن كبير مُقتدِر قاعد ربما على كرسي أو على عرش من خشب أو من قصب أو من ذهب، فيأخذ مادة مُصنَّعة أو مادة هيولانية ويُصنِّع الكائنات نوعاً فنوعاً بضربة واحدة، فللأسف مُعظم رجال الدين يعتقدون هذا الاعتقاد وهذا غير صحيح، وحين تعود إلى كتاب الله – والله – سوف تجد أنه يُؤكِّد لك في عشرات المواضع أن هذا ليس أسلوب الله في الخلق، فأسلوب الله في الخلق هو التطوير، إذن هو ليس تطوّراً Evolution وإنما هو تطوير، فمن المُمكِن أن نُسميه Evolization مثلاً، لأن هذا ترقية وليس ارتقاءً، فالذي يُطوِّر هو الله، والذي يُرقّي هو الله، وليست القوة العمياء الطخياء للانتخاب الطبيعي التي تفعل، وإنما الله هو الذي يفعل هذا، قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ – ليس في لحظة واحدة وإنما في تسعة أشهر – فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ۩، كما أنه يقول أيضاً إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ ۩، فهذه مراحل إذن، فضلاً عن أنه يقول إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ – أي أنه قال حتى عيسى مثل آدم – خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩،وهنا يحصل الخطأ، فنحن نظن أن كُنْ فَيَكُونُ ۩ تتم في لحظة، وهذا غير صحيح، فعيسى قال الله كُنْ ۩ فكان في كم؟ في تسعة أشهر، فحتى عند عموم المسيحيين عيسى بقيَ في رحم أمه تسعة أشهر، ونحن خُلِقنا أيضاً بـ كُنْ فَيَكُونُ ۩، قال الله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩، مثل كُن حسناً فيكون حسناً، أو كُن محمداً أو كُن سعيداً أو كُن خشباً وهكذا، أي كُنْ فَيَكُونُ ۩ في المُدة التي ضربها الله – سبحانه وتعالى – وأتاحها لهذا الكون، فالسماوات والأرض الله أمرهن أن تكونا فكانتا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ۩، وهذه أيام لا يعلم مداها إلا الله، فلا أحد يعلم ما هى تحديداً، فالله أعلم إذن، لأن هناك يوم بخمسين ألف سنة، قال الله فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۩، وهناك يوم بألف سنة، قال الله فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ۩، فالله أعلم من أي أنواع الأيام هذه تحديداً.
فهذا هو، إذن ليس عندنا أي مُشكِلة في أن نُؤمِن بالتطوّر، ولكن نُؤمِن بالتطوير والترقية، فهذا أسلوب الله في الخلق، قال الله تعالى بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩، بل قال يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ ۩، فما رأيكم؟!
يقول الله أيضاً – هذا أعجب ما تسمعون ولذلك يحتاج إلى خُطبة وحده إن شاء الله – وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ – علينا أن ننتبه إلى أن الله لم يقل منه وإنما قال بِهِ ۩ – نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ۩، اطلب من مُفسِّر تقليدي الآن أن يُفهِمنا هذه الآية، يستحيل أن يفعل هذا، لكن أي شخص درس علم تاريخ الأحياء أو الجيولوجيا Geology سوغ يفهم هذه الآية وسوف يُصعَق بسبب بل من المُمكِن أن يُسلِم مُباشَرةً، علماً بأن هناك مَن أسلموا بالفعل.
قال الله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ – أخرجنا منه وليس به – خَضِرًا ۩، بمعنى أخرجنا من نبات كل شيئ خَضِرًا ۩، أول قفزة التمثيل الضوئي الكلوروفيل Chlorophyll، وإلى آخره!
فهذا هو، إذن يتحدَّث عن ماذا الله حين يقول فَأَخْرَجْنَا بِهِ ۩؟!
ربما يتحدَّث عن البكتيريا الأولية، فهذه نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ۩، أي نبات كل شيئ حي، وهذا يعني أن هذا هو أصلنا نحن أيضاً على ما يبدو كما قال داروين Darwin، فضلاً عن أن الله قال أن كل شيئ من ماء – وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ ۩ – وهذا شيئ غريب، فنشأة الحياة في الماء، وبالماء كانت الحياة، ولذا قال وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ – بالماء – نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ۩، أي كل شيئ سواء كان مملكة النبات أو مملكة الحيوان أو غير ذلك يعود إلى هذه البكتيريا الأولية، وهذا شيئ غريب!
ولذلك نحن نرى أن هذه النظرية تقترب جداً جداً جداً جداً من الآفاق القرآنية وتبعتد فقط في واحد في المائة، والواحد في المائة هو الذي يُفرِّق بيننا وبين أنواع الشِمْبانزِيات Chimpanzees.
آخر دراسة في الـ Scientific American كانت في مايو ألفين وتسعة وكان عنوانها: What Makes Us Human? بمعنى ما الذي يجعلنا بشراً أو ما الذي يجعلنا أوادم؟ وكانت النتيجة أننا نتشارك الآن مع الشِمْبانزِيات Chimpanzees في تسعة وتسعين في المائة من الجينوم Genome الوراثي، بمعنى أن من بين ثلاثة بلايين حرف وراثي نحن نفترق عنها في خمسة عشر مليون فقط، فلك أن تتخيَّل هذا، وهذا جميل جداً ونحن نُوافِق عليه، لكن أين الافتراق؟ الافتراق – كما قلنا في خُطب سابقة – يتمثَّل في قول الله ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۩، فكيف كان الخلق الآخر؟ قال الله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، ومن هنا حصل الاختلاف، فهذا الكائن اختلف إذن، فهو ليس قرداً وإنما أصبح إنساناً مع أنه يُشابِه الشِمْبانزِي Chimpanzee في أشياء كثيرة جداً جداً جداً، لكنه هنا يفترق، وهنا نحن نفترق عن نظرية التطوّر لنقول بالتطوير الإلهي والاختصاص الإلهي بهذا الإنسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (19/2/2010)
ردى الوحيد هو كان التصفيق
أرى في سردك استعراضا يسعى للتبجح بالمعرفة لا الوصول إلى مسلم اليوم الذي لا يفهم للأسف معظم ما ذكرت. المعرفة جيدة ولكن مع احترامي فإن أناك ترفع الضغط وتجعل المتلقي يعوف المعرفة، ليتك لم تكن من غزة، حسبي الله فيكم يا من تسمون أنفسكم رجال الدين ولا أبرئ منكم أحدا.
وبما أنك بطبيعة الحال ستراجع التعليقات وتحذفها، فأريد أن أعبر عما يجول في خلدي. مع أنني أتفق مع عدد من الطروحات التي تتكلم بها من باب التفكير النقدي إلا أنني أرفض وبشدة أن تطرحها على الملأ من المسلمين لقول رسولنا الكريم خاطبوا الناس على قدر عقولها أولا ولأن مجتمعاتنا الإسلامية بغنى عن فتن يثيرها غباؤكم أيها المتحدثون باسم الدين ثانيا ولأنك ما أوتيت من العلم إلا قليلا ثالثا. منهجيتك لا تتسم بأسلوب منطقي بل بطريقة استخدام buzz words للفت الانتباه، واستماتتك للفت الانتباه مقرفة. بعث لي أحد الأصدقاء مقطعا فرأيت أن لا بأس ثم بحثت في اليوتيوب عن مقاطع أخرى فوجدت تطرقك إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها ووجدت في إثارتك للأمر سعيا رخيصا لتسليط الضوء على شخصك الذي وجدته بغيضا، ثم وجدت رد فعل رجال دين آخرين لأجد أنكم بلغتم مستوى متدينا لا يختلف عن فضائحيات وأخذ ورد لإحدى المغنيات الهابطات، حسبي الله فيكم واحد واحد، أنتم مقرفون كلكم وتنأون بالناس عن الدين، وأقول حسبي الله فيكم، بالمناسبة أنت ممن يخشون الناس والله أحق أن يخشوه، وسيأتي يوم تحاسب فيه حتى على تطرقك لما يجهله العامة بما يثير الفتن والبلبلة، إن كان الله تعالى ينهانا عن سب من لا يفهمون شيئا عن الدين لتجنب أن يسبوا الله عدوا بغير علم، شاهد ما أثارته مواضيعك الرنانة لتسلط الضوء على نفسك من تطاول على محمد وآله وعلى الصحابة الكرام وعلى ذات الله جل وعلا، ومن تطاول على دين يتسم الناطقون باسمه بهذا السخف والسعي المستميت للشهرة على حساب ما يسمونه إسلاما. حسبي الله فيكم يا من تسمون أنفسكم رجال دين ودعاة وشيوخا نفرا نفرا، وعلى ما تثيرونه من جعل بأس المسلمين بينهم بعدم احترام واحدكم للآخر، وإن لم ترد بدونية مستواهم الأخلاقي إلا أن مواصلتك الاستفزاز بطروح لا تخاطب عقول المتلقي جعلتهم يتمادون وتسأل أنت عن ذلك، ليتك لم تكن من غزة، أعزها الله وأذللتها.
ثم تهذب في طرح موضوع يتناول من تدعي أنك تعبده، استخدام أغبى تصميم لتتحدث عن مبدع الخلق تعكس المحاولات الرخيصة للظهور، قرفتموني حالي الله ينتقم منكم
شكرا ل آر تي التي أوصلتني هنا لأجد فرصة تصلك مباشرة دون تعريض