إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ۩ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لمَن يستعرضه فإن كتابه الله – تبارك وتعالى – يشتملُ ويضمُ بين دفتيه آياتٍ كثيراتٍ يُمكِن أن يُنظَمن في سلكٍ لتُعنوَن جميعاً بعنوان نقدُ الدين للتدين وإن أضفتم التدين العليل أو التدين المعلول أو المغشوش على طريقة شيخنا محمد الغزالي – رحمه الله تعالى – كان أفضل، وهو بابٌ لا يعبأ به كثيرٌ من الناس ولا يلتفتُ إليه أكثر العوام، ويُداوِره ويُخاتِله لا أقول أكثر لكن بعض العلماء والدُعاة، القرآن الكريم لا يكتفي فقط بالحديث عن المُنافِقين الذين يُظهِرون الإيمان ويُبطِنون الجحدة والكفران، بل يضم إليهم نفراً هم أوسع دائرةً منهم بحيث تكون العلاقة علاقة عموم وخصوص مُطلَق، إنهم الذين وصمهم القرآن بأن في قلوبهم مرضاً، وهي دائرة أوسع من دائرة المُنافِقين، وهذا مُهِم جداً لأن في المخيال الإسلامي يُعادَل بين المُنافِق وبين الذي في قلبه مرض، وهذا خطأٌ واضح لأن القرآن أحياناً يعغطف هؤلاء على هؤلاء والعطف للتغاير، فهما فريقان لكن العلاقة – كما قلت – عموم وخصوص مُطلَق، بالحري كل مُنافِق في قلبه مرض، لكن ليس كل مَن في قلبه مرض مُنافِقاً، هذا مُهِم وهذا يحتاج إلى خُطب ربما بحيالها لنُعيد النظر في تفسير هذه الآيات المُهِمة، ثم أنه من وراء ذلك أو من بعد ذلك يُحدِّثنا عن أهل الرياء، عن الذين يُراءون بصالح أعمالهم، هذه أيضاً سمةٌ ووصمةٌ تصم الدين المغشوش والتدين العليل، كما أنه يُحدِّثنا عن أصحاب الدعاوى الطويلة العريضة الذين يتهددون بفعل الصالحات وفي رأسها الجهاد – مثلاً – في سبيل الله، فإذا ما أُدخِلوا الأتون أو فرن الامتحان رسبوا لأول وهلة مُباشَرةً، القرآن يُحذِّرنا من هؤلاء أيضاً ويذكر نُبذاً مما يتعلَّق بشأنهم أو بشؤونهم ومجارياتهم، قال الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۩، إذن هذا ضربٌ أيضاً من التدين المغشوش أو التدين المعلول، هناك التدين أو التهدد بالتدين الانتقامي أو التدين الثأري، أُريد أن أتدين وأن أتبع النبي وأن أبخع له بغرض وبهدف أن أتخذه – الدين والنبي أيضاً – وسيلةً لأثأر من أعدائي، فإن لم يتيسَّر ذلك فلا حاجة لي بالإيمان، تدينٌ مغشوشٌ، تدين الذين يُفكِّكون بين الإيمان والعمل، المُعضِلة الرئيسة بين البروتستانت والكاثوليك، بماذا ينجو الإنسان: بالنعمة أو بالنعمة والعمل؟ وهذا معروف، هذا الذي شق المسيحية إلى بروتستانت – مُعارِضين ثائرين – وإلى كاثوليك، لكن القرآن واضح جداً، لا يكاد يُذكَر الإيمان إلا فيما ندر في موضعٍ أو موردٍ إلا عُطِفَ عليه عمل الصالحات، فالقرآن نهجه ومهيعه واضحٌ مُتسِعٌ ولاحب، الذين يُفكِّكون بين الإيمان والعمل اكتفاءً بزعمهم بالإيمان الذي يُوشِك أن يكون إيمان لسان أيضاً يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۩ ويُوشِكون به أن يلتحقوا بمُعسَكر المُنافِقين – والعياذ بالله تبارك وتعالى – إنما يكتفون بأقوالٍ لا تُحقِّقها ولا تسندها ولا تُبرهِنها أعمال، وكما تعلمون كلمة المقت والتي تعني أشد الكره والبِغضة لم ترد في الكتاب العزيز إلا في مواضع أربعة، منها موضع معروف للكافة، العامة يعرفون قول الله لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، لم لا تُبرهِنون أقوالكم بأفعالكم ودعاواكم بأعمالكم؟ – كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المُنكَر ويأتونه والعياذ بالله، هؤلاء مِن أوائل مَن تُسعَّر بهم نار جهنم يوم القيامة، على كل حال لا نُريد أن نستقصي الموارد التي أشارت إلى الإيمان المغشوش أو التدين العليل، هناك أيضاً تدين مَن يعبد الله تجريباً واختباراً، يدخل في مُتاجَرة مع الله، هو يعمل صفقات – Deals – مع الله، يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ ۩، ثم قال تعالى في نفس الآية خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ۩، كيف خسر الدنيا وهو يُتاجِر بأقدس المُقدَّسات؟ خسر كل ثمرات الإيمان، هذه الآية تُشير من طرفٍ خفي إلى ثمرات الإيمان، وهي من أروع ما يُمكِن أن يُنتِجه الإيمان ولا يُمكِن لغير الإيمان أن يُنتِجه.
أقول هذا أيها الإخوة على بداهته وأُذكِّر به للأسف لأننا صرنا الآن نقرأ ما تواتر لمُفكِّرين إسلاميين ودُعاة إصلاح إسلاميين بلغ بهم رد الفعل – والعياذ بالله تبارك وتعالى – إلى حد يُريدون معه أن يُقوِّضوا أركان الإيمان نفسها بدعوى إصلاح الإيمان والتدين، وهذه كارثة، هذه داهية ما لها من واهية، فتقرأ لبعضهم أن الإيمان الحق هو الإيمان بالإنسان، توفية حقوقه وتوفير حرماته ومُراعاة حرياته، كل هذا مطلوب لكن هل هذا هو الإيمان الشرعي والإيمان الحق بحيث مَن تحقَّق به فهو المُؤمِن؟ يقول هذا الكاتب المُصلِح الإسلامي للأسف الشديد: وإن كفر بالله، مُنتهى التخبط، مُنتهى لعب إبليس بهؤلاء الناس، هذا تلاعب، هذا من تلبيس إبليس والعياذ بالله، نحن نرى يا إخواني وأخواتي العكس بغير التحقق بالإيمان بالله لكن ليس بالضرورة على طريقة الأحبار والرُهبان والشيوخ، أنا أضفت الشيوخ طبعاً، لأن القرآن لماذا يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ۩؟ لماذا؟ كان يُمكِن أن يُرسِلها إرسال مُسلَّمة وإرسال مُقرَّرة فيبدأ بقوله إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ۩، لماذا صدَّر الآية بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ۩؟ تعليماً وتبصيراً وتحذيراً، كأنه يقول حذاري حذاري من أن تسلكوا مسلكهم وتأخذوا بطريقتهم وتتقيلوها، حذاري من هذا، وبالفعل هذا ما حصل وهذا ما أكَّد عليه النبي وحذَّر منه، قال لتتبعن سَنن مَن كان قبلكم حذو القذة بالقذة إلى آخر الحديث، قالوا يا رسول الله مَن؟ اليهود والنصارى؟ قال فمَن؟ طبعاً اليهود والنصارى، كما فعلوا ستفعلون، كما اعتل إيمانهم وتدينهم سيعتل إيمانكم وتدينهم، طبعاً انتبه إلى أنهم ليسوا جميعاً كذلك، القرآن يقول إِنَّ كَثِيرًا ۩، لكن هذا لافت جداً أيضاً، قال إِنَّ كَثِيرًا ۩، لم يقل إن من الأحبار والرُهبان وإن بعضهن كذا وكذا وإنما قال إِنَّ كَثِيرًا ۩، في تأشيرة واضحة على كونها ظاهرة، هذه ظاهرة، أعني ظاهرة الاعتلال والمرض الديني، يُمكِن أن تستشري وتتفشى بحيث تغدو أو تعود ظاهرةً والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهذا ما تُعطيه كلمة كَثِيرًا ۩، قال الله إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ – والأحبار أهل علم – وَالرُّهْبَانِ – انظروا إلى القرآن، القرآن رائع جداً، والرهبان أهل ماذا؟ أهل عبادة – لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، ما أروع الإمام عليّاً – رضوان الله تعالى عليه – حين قال مرةً قصم ظهري اثنان: جاهلٌ مُتنسِّك وعالمٌ مُتهتِّك، هذا حبرٌ وهذا راهبٌ، راهب يترهبن عن جهل تدينه بالحري يأتي مغشوشاً، قال الله وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ۩، إذن قال الله وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ۩، منصوبة على ماذا؟ منصوبة على الاشتغال، فكأنه قال وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، بالحري ليست معطوفة على قوله وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ۩، مُستحيل أن الله جعلها في قلوبهم ثم يقول ابتدعوها، وإلا يتناقض المعنى، فهذا هو إعرابها، وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها كما يقول – تبارك وتعالى – وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ۩، أي وقدَّرنا القمر قدَّرناه منازل، مُستحيل أن الفعل يتأخَّر عن مفعوله فاللغة العربية لا يتسع صدرها لهذا.
على كل حال نعود إلى ما كنا فيه، الرسول حذَّر من هذا والصحابة الكبار وخاصة خبراء الفتن وفي رأسهم حُذيفة بن اليمان، حذقوا هذا وفهموه جيداً، فقد رواه عبد الرزّاق في تفسيره والحاكم في المُستدَرك على الصحيحين وغيرهما وقال الحاكم على شرطهما ولم يُخرِّجاه أن رجلاً سأل حُذيفة بن اليمان – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – عن هؤلاء الآيات في التحكيم: قال الله في سورة المائدة وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۩ وقال أيضاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩ فضلاً عن أنه قال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ – هذا في الآيات المعروفة من سورة المائدة – فابتدر أحد الناس – للأسف بعض الناس يتطفَّل، يا أخي المسؤول عالم جليل وهو صحابي فاسكت وتعلَّم، لكنه يتحدَّث وكأنه فيلسوف يُريد أن يُظهِر علمه – يقول هؤلاء في بني إسرائيل، في أهل الكتاب، فرد حُذيفة من فوره نعم الإخوة بنو إسرائيل لكم، قال ما شاء الله عليك، ما شاء الله على الفهم وعلى الطريقة، نعم الإخوة بنو إسرائيل لكم إن كانت لهم كل مُرة ولكم كل حلوة، هذا كلام فارغ، قال افهموا القرآن، القرآن حين يأتي بهذه الآيات ويقول – مثلاً – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ۩ يقول هذا تحذيراً لنا وتجنيباً لنا لئلا نسلك مسلكهم لكننا قد فعلنا، هذه سُنة من سُنن الله تبارك وتعالى.
يعتاص ويصعب على أكثر العوام حقيقةً أن يُدرِكوا مثل هذه الحقائق القرآنية والنبوية الواضحة بذاتها، لأن العوام حتى أنفسهم يُقرِّرون مع العلماء أن المعصوم هو المعصوم، لا عصمة إلا للأنبياء والرسل، أليس كذلك؟ طبعاً باستثناء إخواننا الشيعة وعصمة الأئمة الاثني عشر ولسنا نُوافِقهم في هذا، على كل حال هذا موضوع آخر، العصمة للمعصوم، حتى بمنطق إخواننا الشيعة – أنتم تقولون بعصمة الاثني عشر – ما عدا الاثني عشر والنبين والمُرسَلين لا معصوم، أليس كذلك؟ الكل يُقرِّر هذا – العوام مع العلماء بلا شك – لكنهم عملياً – أعني مُعظَم العامة – يعتاص عليهم ويصعب عليهم جداً أن يتصوَّروا عالم دين أو حبراً – حبراً بلغة القرآن الكريم – عالماً عيلماً ويكون فاسقاً أو مُنحرِفاً أو فاسداً أو نهّازاً أوم دجّالاً أو مُخادِعاً أو مدسوساً أو مأجوراً أو مدفوعاً أو بلا شخصية حقيقية بحيث يستجيب لما يُقترَح عليه ولما يُملى عليه، يعتاص هذا على العامة جداً، علماً بأنني فكَّرت في هذا طويلاً ووجدت أن له ما يُبرِّره، موقف العامة هنا له ما يُبرِّره، لماذا يعتاص عليهم هذا رغم أنه لا يعتاص عليهم ولا يصعب عليهم أن يروا طبيباً وهو عليل وعليلٌ بإرادته وبيديه لأنه يُدخِّن كثيراً وليس له نظام تغذوي سليم وإلى آخره ويُقال هو حُر ولا يضر إلا نفسه، أنا آخذ بعلمه واترك عمله، فهذا عادي؟ لا يعتاص عليهم أن يجدوا شاعراً يدعو إلى المكرُمات وإلى الفضائل ثم هو من أسفل عباد ومن أرذلهم، يقولون لك هذا شاعر، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۩، هذا في كل وادٍ يهيم، إن كان المقام مقام فضيلة تحدَّث في الفضيلة وإن كان المقام مقام مُسابَقة في الرذيلة كان أرذل العباد، فهو شاعر، أما الساسة هم رقم واحد في وهم العامة قبل الخاصة أمثالهم مِمَن يأخذون الدرجة الأولى – أي النهاية العُظمى بلغة المصريين – في انفراج الزاوية بين بواطنهم وظواهرهم، بين أقوالكم وأفعالهم، بين وعودوهم عند الانتخابات وبين إنجازاتهم بعد ذلك في فترة التسيد، هم رقم واحد، فالعامة تفهم هذا تماماً، وهذا هو السياسي، السياسي من حيث أتى هو هذا تماماً، لذلك فيما يُروى عن ونستون تشرشل Winston Churchill – رئيس الوزراء البريطاني الشهير جداً – أنه مر يوماً بقبرٍ كُتِبَ على شاهدته هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم فقال مَن الذي دفن الاثنين في قبرٍ واحدٍ؟ طبعاً الذين كتبوا هذا يصفون رجلاً واحدً بأنه سياسي عظيم ورجل صادق، فقال لا، هذا مُستحيل، هما اثنان ولا يجتمعان، الرجل الصادقي لا يكون سياسياً عظيماً، والسياسي العظيم لا يكون رجلاً صادقاً، الناس تفهم هذا، لكن إذا تعلَّق الأمر برجال الدين – بالأحبار وبالمشائخ وبالقسس – يعتاص هذا على الناس ويكرهون حتى مَن يُوقِظهم ويفتح أعينهم على هذه الحقيقة من أجل مصلحة الدين أولاً ومصلحتهم هم أيضاً ثانياً، لئلا يُعبَث بالدين ولئلا يُجعَل الدين تئكة وسبيلاً وسبوبة – باللغة المصرية الدارجة – أيضاً لإفساد الدين والدنيا ولإفساد حياة الناس وآخرتهم باسم الدين وباسم المُقدَّس، وهذه هيى مُصيبة الأديان.
ما هو المفهوم وما هو المعقول وما هو الموضوعي في موقف العوام هنا؟ أنا سأشرح لكم هذا بالتفصيل وبشيئ مًبسَّط جداً، لو جاء رجل أيها الإخوة أيضاً من أسافل الناس ومن أراذل الناس وتاجر باسم ساقطة – امراة ساقطة تبيع شرفها على مذبح المال والنقود لن يكون في هذا ما يُنكَر، الناس سوف تقول سافل يُتاجِر بسافلة، هذا عادي، لو جاء امرؤٌ أيضاً رذل سافل وتاجر بسُمعة رجل خوّان للأمانة – الأمانة الخاصة أو الأمانة العامة، وهو معروف بالخيانة ولا يتسم بالعفة – لن يجد الناس كثيراً مما يُنكَر في هذا الموقف، لكن لو عكسنا وجاء رجل من الأراذل وتاجر باسم رجل بلغ مرة أُخرى النهاية العُظمى في الصدق والعفة والنزاهة والأمانة – في الشأن الخاص وفي الشأن العام – الناس تغضب جداً جداً ويرون أن هذا قاع السفالة وقعر الانحطاط، أتُتاجِر أنت باسم وسُمعة وحيثية هذا الرجل الذي ضربه الله مثلاً حياً يمشي بين الناس ودماً للأمانة والعفة والصدق والنزاهة؟ ألا فتباً لك إلى آخر الدهر، أليس كذلك؟ الآن قفزة جديدة، كيف بمَن يُتاجِر باسم الله – لا إله إلا هو – ذاته؟ كيف بمَن يُتاجِر بكلمات الله؟ كيف بمَن يُتاجِر بقال الله وبقال الرسول؟ يُتاجِر ليُحقِّق مغانم خسيسة ومرابح يسيرة وأشياء حقيرة له أو لطائفته أو لرئيسه أو لسُلطانه أو لأميره الذي يأتمر بأمره؟ كيف ينبغي أن يُنظَر إلى هذا الرذل؟ أنا أقول لك الآن العوام هنا أكثر صفاءً وطهوريةً – والله – وأكثر استقامةً من هذا الرذل الذي قد يكون قسيساً كبيراً أو حبراً عظيماً أو شيخاً نبيلاً في نظر الناس وليس في واقع الأمر وعينه، هؤلاء العوام أشرف من هؤلاء مليون درجة بمليون مرحلة، لماذا؟ لأن العوام إن اتسعت نفوسهم وأعطانهم للمُتاجَرة – كما قلت لكم – بالسافل والنبيل من الناس إلى حدٍ ما على أنهم يُنكِرون، لا يُمكِن أن يتصوَّروا أن يبلغ الأمر برجل يُمثِّل الدين ويتكلَّم باسم الدين ويُستفتى في الدين أن يُتاجِر بأقدس المُقدَّسات.
المُشكِلة يا إخواني أيضاً أن هناك وهماً – ظاهرة أو أمراً – خطر لي أن أُسميه وأن أدعوه – هذا مُصطلَح سككته من لدُني – بوهم العلافة أو وهم حتى المُجاوَرة، ما معنى وهم العلاقة؟ الناس ينظرون إلى الرجل فإذا رأوه – مثلاً – مُلتزِماً بعالمٍ كبيرٍ – حتى السوّاق الخاص به، يُقال هو سوّاق هذا العالم الذي يذهب ويأتي به – ربما وقع في وهمٍهم أن هذا السائق له مزية خاصة لكونه مُجاوِراً ومُعتلِقاً بهذا العالم الجليل، عاد عليه ببركاته وبأنواره كما يقولون، اللهم أعِد علينا من بركاتهم، والعامة تقول مَن جاور السعيد يسعد، أليس كذلك؟ ومَن جاور القوم أصبح منهم، فهذا الأمر موجود، الأهم من هذا – لأن ليس هذا المقصود – أن الذي يكون نصيبه أعظم وأشبع من هذا الوهم هو هذا السوّاق نفسه، كونه زامل واعتلق بهذا العالم الجليل فترة طويلة سوف يصل في يوم من الأيام إلى أن يمتلئ بشعور أن له الحق أن يتكلَّم حتى باسم هذا العالم أو باسم العلم حتى نفسه والدين، وهذا ما يحصل، أحياناً – مثلاً – يأتي أحدهم ليستفتي عالماً والعالم يكون الناس مُحتشِدين حوله وليس هناك من فرصة للوصول إليه فربما خال هذا السائق وقال له يا أخي توكَّل على الله، هذا جائز ولا تخف، توكَّل على الله وخذ مني، فهو يلعب دور عالم فقط لأنه جاور العالم، فهذا يحدث، وهذا حدث مع ألبرت أينشتاين Albert Einstein، السائق الخاص به كان يسوق به وأينشتاين Einstein يُريد أن يُحاضِر حول العالم طبعاً وخاصة العالم الغربي في النسبية، هذا اغتاله وهم أن يستطيع أن يُحاضِر وأن يكون أينشتاين Einstein وقد فعل هذا، استأذن أينشتاين Einstein والقصة معروفة، وقد حكيتها لكم قبل هذا، هذا الوهم خطير جداً جداً جداً، لماذا؟ لأن الناس فضلاً عن أصحاب العلاقة يظنون أن مَن تكلَّم باسم الله وتلا آيات الله وخرَّج أحاديث الرسول – المُهِم أنه يتكلَّم باسم الدين، أي أنه يتكلَّم باسم المُقدَّس – صار بذاته مُقدَّساً، يكتسب نوعاً من القدسية، وهو أيضاً يغلب عليه هذا، أي يغلب عليه هذا الظن، أنه أصبح مُقدَّساً.
الذي أوحى إلىّ بهذه الفكرة حدث في الظاهر يسير وربما لم يمتد أكثر من خمس دقائق، حوار بيني وبين شيخ مُعمَّم وهو شيخ فاضل من أهل العلم ومن أهل التصوف، هذا الذي هزني وهذا الذي صدمني وهذا الذي شلني لدقائق ثم طال بي الأمر حتى فكَّكت هذه الحالة، أن أفهم أن مُسلِماً أو إسلامياً أصولياً مُؤدلَجاً ومُؤدلِجاً يستهين بالدماء، هذا معروف، مثل كل أصحاب الأفكار الثورية، يستهينون بالدماء ويستهينون بالحياة، لا يُوجَد توقير حقيقي للحياة، تماماً كالساسة، وطبعاً هذه الأدلوجة والأدلجة هي طريق العبث السياسي، هو هذا، فأنا أفهم هذا، حتى لو كان إسلامياً أو غير إسلامي أفهم هذا تماماً، لكن الذي لم أفهمه أول الأمر وبادئ الرأي أن يفوه بمثل هذا شيخ ذاكر بمسبحة وهو صوفي عنده طريقة، هذا الرجل زاهد في الدنيا ومُترفِّع عن مغانمها ومُترفِّع عن الشُهرة وعن السُلطة وعن السطوة وعن المنفعة وعن الحيثيات، الرجل رباني، هذا التصوف وإلا أنت دجّال كبير أيضاً، وأنا لا أشعر أن الرجل دجّال أبداً، لكن الرجل يستهين جداً بالدماء، ذكر عبارة لن أذكرها هنا، لكن هذه العبارة هزتني، الرجل يستهين بمئات الألوف بشكل عادي، اتركوهم يُقتَلوا في سبيل الهدف، ما هذا؟ فكَّرت طويلاً ووجدت أن هذا الإسلامي الأصولي المُؤدلَج يلتقي بهذا الصوفي المُتحنِّث الذاكر، المُؤدلَج الثائر التقى بالصوفي الذاكر، الثائر التقى بالذاكر، كيف؟ وأين؟ بئس المُلتقى وبئس اللُقية، التقيا على الاستهانة بالدماء وبالحياة في سبيل أغراض وأهداف سياسية وغير سياسية، وهذه لعنة الأدلوجة، هذه لعنة الأدلجو، في سبيل أفكار وأشياء سياسية يُستهان بشعوب كاملة، أين ذهبت سوريا الآن؟ ما الذي بقيَ من سوريا؟ ما الذي بقيَ من سوريا؟ لا يحق لأحد أن يُعلِن النصر في سوريا، نصر على ماذا؟ على ماذا؟ على أكوام حجارة سوريا وعلى أنهار من دماء السوريين المساكين المظلومين المطحونين، عن أي نصر تتحدَّثون؟ ما هذا؟ حالة عبث نعيشها، نصر ماذا؟ لا كنتم ولا كان هذا النصر، طبعاً لا يحق لأي طرف أن يُعلِن النصر، أنا أقول لأي طرف، لا لهؤلاء ولا لهؤلاء أصلاً، لأن كل شيئ انتهى، كل شيئ دُمِّر، ثم يُعلِنون النصر وينتشون بالنصر، ما شاء الله وتبارك الله، هذا هو التفكير الأدلوجي الذي يُبرِّره ليس مُؤدلَجاً ثائراً بل أيضاً صوفيٌ ذاكر، هزني وشلني وأتعبني، ففكَّرت طويلاً وملياً، كيف التقيا؟ ولماذا؟ ما الجامع المُشترَك بينهما؟ وإذا بالجامع المُشترَك يلوح لي، هل تعرفون ما هو؟ وهم الأحقية بالله، هذا إسلامي وهذا صوفي أيضاً، هذا رجل الله، قال الله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، وهذا من أولياء الله، إن لله رجالاً، هذا المُؤدلَج يظن أنه أحق بالله، أليس كذلك؟ علماً بأنه لا يصعب ولا يبعد أن تقع عينك وأن ترتطم أذنك بمئات التصريحات والكلمات والتقريرات التي تُؤكِّد من حزبي مُؤدلَج أننا خير مَن يُمثِّل الإسلام، وهي تُعادِل مُباشَرةً أننا خير مَن يتكلَّم باسم السماء وباسم الله، كأننا نقول نحن الأحق بالله ولنقل هذا بصراحة، سُئل أحد كبار العلماء من هؤلاء المُؤدلَجين الأصوليين هل الذين ليسوا في حزبكم مُسلِمين؟ كيف تنظرون إليهم؟ وكانت جلسة خاصة وحميمة فقط بين أبناء الحزب، فنظر هكذا كأنه يقول هل ليس بيننا غريب؟ ليس بيننا غريب، كلنا حزبيون، كلنا في الحزب سواء، أي واحد، قال في الحقيقة بلا شك هم مُسلِمون ولكن هناك شكٌ في إيمانهم، إن لم تكن في حزبهم مُنظَّماً تنظيماً رسمياً أنت مطعون ومغموز قناة الإيمان، قال أنك مُسلِم وأنعم عليك بلقب إسلام، الذي ينظر إليك وإلىّ وإليه وإليها بهذه الطريقة هل يتحرَّج طويلاً وكثيراً عن دمك حين يحصل اختصام واصطدام؟ أبداً، ومن هنا التساهل، فوجدت الذي يجمع هذا المُؤدلَج الثائر بهذا الصوفي الذاكر هو وهم الأحقية بالله، لماذا؟ على أي أساس؟ هذا يضح لو عيَّرنك قرآنياً، على أساس – كما قلت لكم – أنه فقط يتكلَّم كثيراً باسم السماء، هذا يدّعي أن مشروع حياته وأن الهدف وما إلى ذلك هو الإسلام وإقامة الإسلام ودولة الإسلام ودين الإسلام وشرع الإسلام، وهذا كله كلام، استهلاك كلامي، على أنك لو فحصته وعيَّرته بأخلاق الإسلام التي تُعبِّر عن عمق الإيمان طبعاً لن تجده صادقاً، صدق الأخلاق مُباشَرةً يُعبِّر عنه ماذا؟ عنه عمق الإيمان في النفس، كذب الأخلاق وهشاشة الأخلاق على العكس، هل يُمكِن أن تُؤمِن بأن إيمان الذي يخون الأمانة ويتغوَّلها إيمان عميق؟ مُستحيل، سوف تقول لي هذا مُستحيل، أي إيمان؟ هذا إيمان على السطح، إيمان طافٍ بعمق واحد ملليمتر فقط، أليس كذلك؟ عيِّر هؤلاء بأخلاق الإسلام تر العجب، طبعاً لا أتحدَّث عن الكل فانتبه، نحن لا نُعمِّم، التعميم خطيئة، لا نتحدَّث عن الكل قطعاً، قطعاً في كل طائفة وفي كل كذا هناك الصالحون وهناك الصادقون وهناك المُنيرون المُضيئون بلا شك، لكن أتحدَّث عن ظاهرة كما تحدَّث الله، قال الله إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ۩ على أن منهم مَن كان صالحاً ومَن كان تقياً ومَن كان خاشياً لله تبارك وتعالى.
إذن هو وهم الأحقية بالله، فقط لماذا؟ لأنه يتكلَّم كثيراً ويظهر كثيراً للآخرين مُتكلِّماً باسم السماء وباسم الله وباسم المُقدَّس، فالناس توهَّموا فيه القداسة وهو أيضاً – أكثر منهم – صدَّق هذا الوهم، بعض الناس يتحدَّث عن الدين وكأنه ملكية خاصة لهم، ما رأيكم؟ ملكية خاصة لهم من حقهم أن يُدخِلوا فيها مَن شاءوا وأن يطردوا مِن ملكيتهم مَن شاءوا، أليس كذلك؟ وهذه مُصيبةٌ عظيمةٌ.
سأختم بذكر معنىً آخر له علاقة بهذه المعاني عن كل مَن بدأ في التدين وأمعن فيه دون أن يسأل نفسه مُنذ البداية في الخُطوة الأولى ماذا سيفعل بي الدين؟ ماذا سيُقدِّم لي الدين؟ من أي زاوية سأنظر إلى الدين؟ ما هي زاوية احتياجي إلى الدين؟ ما هي لياقة وقدرة الدين على تلبية هذه الاحتياجات لدي؟ بمعنى أنه يُقارِب الدين مُنذ البداية مُقارَبة غائية هدفية وليس وسلية فانتبهوا، علماً بأن الخلط بين غايات الدين ووسائله ضارب حتى في عقول كبار الأئمة والمُجتهِدين، ما رأيكم؟ من رأيي المُتواضِع الصغير – وقد أكون مُخطئاً أو غالطاً – مسألة الجهاد – وقد ذكرت هذا مُفصَّلاً لكن في خُطب أُخرى – برمتها مفتاح الفهم فيها وكلمة السر هي هل تفهم الجهاد غائياً ومن ثم ستكون تورَّطت في ورطة كُبرى وسيخرج منك قاعدي وداعشي وتفجير وتقتيلي بشكل عادي جداً أم أنك فهمت أن الجهاد كما فهمه بعض الأئمة فهماً لم يأخذ حظه من التظهير – لم نقم بعملية تظهير لهذا الفهم – مُجرَّد وسيلة؟ ما أجمل أن تقرأ لإمام جليل كالقرطبي، إمام مُتقدِّم جداً، من زُهاء ثمانمائة سنة، يقول لك الجهاد بابه باب الوسائل، لا باب المقاصد، فإن أمكن إذن – الآن أُخرِّج – هداية العباد وإقرار الحريات الدينية والمِلية بغير جهاد فقد كفى الله المُؤمِنين القتال – وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩ – وهو خير ونعمة، الآن في عصرنا هذا في عالم السماوات المفتوحة … نحن الآن أين نخطب؟ أنا لا أخطب في مكة أو المدينة أو القدس أو القيروان، أخطب في فيينا، المدينة الأولى للسنة الثامنة ربما أو السابعة في العالم، أخطب في فيينا، وأخطب من ثلاثين سنة تقريباً، وذاك يخطب في برلين وذاك في لندن وهذا في باريس وهذا في نيويورك، أليس كذلك؟ مساجد ومراكز وحريات موفورة دينياً تامة وبشكل … وقد قلتها قبل هذا ولا أتبجَّح بها، أتبجَّح بماذا؟ هذه الحقيقة، أن تخطب ثلاثين سنة ثم لا تُستدعى للتحقيق معك فيما قلت – وقد قلنا الكثير عن الشرق وعن الغرب وفي الحرب والسلم وقلنا كل ما نُريد بكامل الحرية – إلا مرتين فقط بكياد بعض الكائدين وبعض المُحنَقين المغيظين هذا شيئ غير طبيعي، أما في العالم العربي والله خُطبة واحدة – أُقسِم بالله – قد تُنهي حياتك، قد تُنهي مُستقبَلك، قسماً بالله بخُطبة – كلمات تقولها – قد تُودَع في غيابات السجن ثم لا تعود إلى العالم لترى الشمس، تغيب وراء الشمس، أليس كذلك؟ هذا في عواصم الإسلام، عواصم الدين هناك بالمعنى الذين يفهون به الدين للأسف الشديد.
على كل حال نعود أيها الإخوة لنقول لابد مُنذ البداية أن تسأل نفسك سؤالاً غائياً، بمعنى آخر – لكي أُبسِّط بطريقة تصويرية أو مجازية – ماذا يُمكِن أن يفعل بك ولك الدين؟ هذا أستطيع أن أعرفه من خلال ماذا تفعل أنت بالدين، بماذا تفعل أنت الآن بالدين أنا أستطيع أن أعرف ما الذي فعله لك وبك الدين، أنظر إليك أرى أنك تُشيع المحبة وتُشيع السلام وتُشيع أفكار التسامح واللاحصرية واللاانحصارية وأفكار الاجتهاد وأفكار الإصلاح وتُوقِّر الحياة وتُوقِّر الأحياء وترعى الحرمات والحدود وتُدافِع عن الحقوق بلا قيد أو شرط – أليس كذلك؟ – ويبعثك ويُلهِمك قيم مثل الاتساع والكرم والعدل والمُساواة وكرامة الإنسان وتقدير العلم ومحبة العلم للإضافة للحياة والأحياء والمشوار البشري فأعلم أن الدين كل ما فعله بك أنه خلقك خلقاً جديداً، أعادك إنساناً لا أقول سوياً بل إنساناً نبيلاً عظيماً معطاءً، تُضيف إلى الحياة والحضارة والمسيرة الإنسانية إضافات إيجابية باستمرار، يا حيهلاً، أنظر إلى الآخر أرى أن كل ما يبثه أفكار الانحصارية والحصرية والانغلاقية والتفكير والبِغضة والشنآن والسباب والشتائم وهتك أعراض الناس والتشكيك في ذممهم وأماناتهم والكذب عليهم والافتراء عليهم ثم يتعدى الأمر إلى التكفير واستباحة الدماء والتفجير – وانتبهوا إلى أننا حين نتحدَّث عن التفجير لا نتحدَّث حتى عن تفجير مقصودين بالتفجير، إنه تفجير عام يأخذ الأخضر واليابس، علماً بأنه تفجير إرهابي بكل معنى الكلمة، يأتي لكي يقتل أكبر عدد من الأبرياء، من الشيوخ والنساء والكبار والصغار وهم ليس لهم أي علاقة، فقط لكي يضغط سياسياً ولكي يُنجِز ويُحقِّق أهداف سياسية على طريق الأيديولوجيا الملعونة، ما هذا؟ هل باسم الدين تفعل هذا؟ قال باسم الدين، باسم الدين يفعلون هذا، هذه هي الكارثة، إرهاب حقيقي مُتقنِّع بالدين يا إخواني – ثم لا تُوقِّر أنت لا الحياة ولا الأحياء ولا تُوقِّر العلم فأعلم العلم، وعلى ذكر العلم قبل يومين أجلس مع جماعة من أحبابي فسُئلت عن الدكتورة النابغة العبقرية السعودية غادة المُطيري فتحدَّثت ويُمكِن طبعاً أن تعودوا إلى النت Net وأن تكتبوا غادة المُطيري لكي تعرفوا مَن هي غادة المُطيري، إحدى عبقريات الدنيا اليوم طبعاً، الوعد الذي ينتظره العالم أن الطب بعد غادة المُطيري ربما يكون غيره تماماً قبل غادة المُطيري، هي بروفيسورة Professor في الثلاثين من عمرها، ذهبنا إلى اليوتيوب YouTube فوجدنا ثلاثة آلاف رأوا هذا من سنة كاملة وتسعة تعليقات، بعض التعليقات قيل فيها تباً لعلمها ولاكتشافاتها واختراعاتها، أين نقابها؟ أين حجابها؟ طبعاً هل تعرفون لماذا؟ لأن هناك شيوخاً من جنس بعض الناس … لا أدري بماذا صفهم، فليكونوا كم هم، هؤلاء الشيوخ يقولون الذي يُرسِل ابنته لتدرس في الخارج بغير محرم ديوث، هم أصلاً كانوا ضد الابتعاث عموماً حتى للذكور، الآن أرسلنا غادة المُطيري لكن مع زوجها – الحمد لله – وأفادت العالم، والله أنا أقول لو أنكِ يا غادة المُطيري – الله يحفظها ويُكثِّر في الأمة الإسلامية – غير مُسلِمة وغير عربية لسمع بكِ العالم كله ليل نهار بسبب هذا الكشف الذي أتيتِ به، سوف تنتهي الجراحة من التاريخ، لن يُفتَح الإنسان بعد اليوم بفضل غادة المُطيري، اذهبوا وابحثوا لكي تعرفوا ماذا فعلت، انظروا إلى الاهتمام العربي – وخاصة اهتمام الشباب والشابات – بغادة المُطيري، من سنة كاملة رأى ثلاثة آلاف وكُتِبَت تسعة تعليقات، لكن تعال وتكلَّم عن السبي واسترقاق الأيزيديات وقتل المُخالِفين وتفجيرهم والولاء والبراء وسوف تجد ثلاثة آلاف تعليق وسبعمائة وخمسين ألف مُشاهَدة في ظرف عشرة أيام، ما شاء الله، ما شاء الله، نفهم الدين بطريقة رائعة جداً جداً جداً كفيلة أن تُدمِّر كل شيئ لأنها دمَّرت عقل الإنسان وضميره قبل أن تُدمِّر أوطانه وبلاده.
اسأل سؤال الغاية في الأول لكي تعلم، للأسف هذا السؤال ربما نجعله موضوع الخُطبة المُقبِلة، فعلاً ما هو السؤال الغائي؟ ما هي غاية الدين؟ ما هو جوهر الدين؟ لكي نعرف ما الذي يُمكِن أن يفعله لنا وبنا الدين، ومن ثم ما الذي يُمكِن أن نفعله للدين وبالدين؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أصلِحنا بما أصلَحت به عبادك الصالحين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا غائباً إلا رددته ولا سجيناً إلا أطلقته برحمتك يا رحم الراحمين ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه وحُزنه برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنحك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (13/1/2017)
أضف تعليق