إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ۩ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ۩ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ۩ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
عجبٌ والعجبُ لا ينتهي من هذا الكتاب الأعز الأجل، من تعاليمه النيّرة ووصاياه الوضيئة، التي هي أكثر من قمينة وأكثر من ضامنة وأكثر من كفيلة بأن تُحيل حياة الناس إلى فردوس حقيقي، حال أو شرط فهموها حق الفهم، ثم جسدوها في حياتهم.
القارئ والباحث يرى أن كثيراً من الناس، قد استحالت حياتهم نمطاً آخر، وشيئاً آخر، أجود وأبرك وأثمر وأفعل من ذي قبل، ببعض الوصايا التي صدرت عن بعض الحُكماء وبعض العُرفاء والأذكياء، على أنها لا تمت إلى السماء بسبب وثيق. وصايا قليلة، غيَّرت حياتهم! فما بال أمثالنا، ما بال ورّاث ميراث السماء، ألوف الآيات من الكلم العلوي الطهور المُنزَّه المحفوظ المُتواتِر، لا تكاد تفعل قريباً من هذا الفعل؟ إنها مسألة الإيمان. أولئكم الذين جسدوا بعض المبادئ البشرية الحكمية – البشرية، التي فاه بها بعض الأذكياء وبعض الحُكماء من الناس – قطفوا الثمار، تغيراً حقيقياً، حياةً هادئةً مُتزِنةً فاعلةً ناجحةً مُطمئنةً.
جامعة إكسيتر Exeter، بالمملكة المُتحِدة، من سنة ألفين واثني عشر – قبل زُهاء سبع سنوات – تُقيم أسبوعياً ما يُعرف بالأسبوع الرواقي، أي الــ Stoic Week. وStoic Week من Stoicism، أي الرواقية. هناك الأسبوع الرواقي! في البداية سجَّل عددٌ قليلٌ، والآن ألوف، بل عشرات الألوف، مُندمِجون في هذا البرنامج الأسبوعي، الذي يُقام كل سنة في شهر أكتوبر، وتعدى المملكة المُتحِدة إلى بُلدان كثيرة حول العالم، حول العالم! بالذات العالم الغربي المُتقدِّم. وطبعاً بحسب الدراسات والاستقصاءات، فإن هؤلاء جميعاً – على تفاوت طبعاً نسبي بلا شك – سجَّلوا وأثبتوا تحسناً ملحوظاً في نوعية حياتهم وفي منظورهم إلى الحياة. صاروا أحسن! مبادئ أُخذِت من زينون Zeno مُؤسِّس الرواقية، وبالذات من الرواقية الرومانية، لأن الرواقية اليونانية بعهديها الأولي والثاني أو القديم والوسيط، كانت أيضاً مُنشغِلة إلى جانب الهم الأخلاقي – وهو هم أصيل، واشتغال أصيل فيها – بالهم المعرفي والمنطقي والطبيعي. تبحث أيضاً في الطبيعيات، بخلاف الرواقية الرومانية، التي نذرت نفسها ووقفت نفسها فقط على المباحث الأخلاقية، على المباحث العملية، كيف نحيا؟ كيف نُغيِّر منظونا إلى أنفسنا وإلى الناس وإلى أقدارنا وإلى الأمور؟
وبلا شك هناك ثروة لا يُستهان بها، خاصة عند الثلاثة الأعلام الكبار، الذين كانوا هم نجوم الرواقية الرومانية: سينيكا Seneca الصغير (سينيكا Seneca الفيلسوف)، والعبد المشهور بالعبد الفيلسوف إبيكتيتوس Epictetus، والإمبراطور الفيلسوف – لقبه الفيلسوف على العرش، لأنه إمبراطور، وهذا شيء عجيب، وكان فيلسوفاً رواقياً – ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius.
هؤلاء الثلاثة وصلنا بلا شك جمٌ غفيرٌ من أعمالهم، بالقياس إلى الرواقية اليونانية، وهي موجودة إلى اليوم ومُترجَمة بمُختلف اللُغات. اعتُمد على أفكار هؤلاء بالذات في إصدار كُتيبات وخُطط إرشادية، في هذا الأسبوع الرواقي، الذي صار له سُمعة حول العالم.
ذهبت أستقري ما هناك، وقرأت ما قدَّر الله لي – تبارك وتعالى – من أعمال الثلاثة المذكورية المُتاحة. تقريباً بغير مُبالَغة وفي غير تبجح لم أجد شيء يُعوزني كمُسلِم، لم أجد شيئاً يُعوزني كمُسلِم! لم أجد شيئاً لم أجده – وفي أحيان كثيرة، وبتواضع وموضوعية – في صيغ أحسن وأفضل – في الإسلام. ويكفي – وهذا هو الفارق الأكثر تأثيراً – أن هذه الصيغ التي ننتمي إليها وتنتمي إلينا، موصولة بالسماء. وشتان بين حكمة وتعليم وإرشاد ووصاة ونصيحة تأتيك من بشر، من ذوب خبرته الذاتية وتجاريبه في الحياة، وبين وصاة تأتيك من رب البشر والأقدار – لا إله إلا هو -! أنت لو ذهبت تستثمر جُزءاً من مالك، فستكون من أسعد الناس لو أُتيح لك مُستشارٌ خبيرٌ في هذا الباب، مُستشارٌ معروفٌ بنجاحاته المُتراكِمة، لا يكاد يفشل، يعرف تماماً اتجاه الأسواق. فكيف وأنت تُريد أن تستثمر في نفسك، في سعادتك الدنيوية والأبدية، و… أستغفر الله العظيم، لا أقول المُستشار، وإنما المُشير والناصح والمُوصي هو رب العالمين؟ هو رب العالمين!
وكلما فكَّرت في هذا، حقيقةً يتجسد أمامي ذلك الحجم من الحماقة التي نعيش فيها! مُوقِن – أنا مُوقِن – أن مُعظَم الناس حمقى، حمقى! يعيشون حمقى. وطبعاً الرواقية كانت تُؤكِّد على هذا دائماً. الرواقيون حتى لم يروا في أنفسهم الحُكماء الكاملين، وكانوا يقولون الحكيم الكامل غير موجود تقريباً، لكنه المُنى، أي هو غاية المُنى، ونهاية المطاف. وسينيكا Seneca لم يقل عن نفسه وهو حكيم كبير بلا شك، لم يقل عن نفسه إنه حكيم. قال هذا الحكيم ربما يُولد كل خمسمائة سنة مرة. واحد في كل خمسمائة سنة! لكن في نظري هذا عند المُسلِمين، (وبالذات – أقول هذا بين قوسين – العُرفاء، العَارفين بالله، الذين ساروا في ضوء وحي الدين، واستلهموه حقاً)، انتبهوا! فرق كبير أن تتكلَّم عن الدين وباسم الدين، وأن تكون مُدّيناً حقاً. العُرفاء وأهل الله هم الذين ادّينوا حقاً. نحن، والآخرون عموماً، يأخذون الدين، يُعيدون إنتاجه وتوظيفه لغايات أُخرى؛ غايات اجتماعية، غايات سياسية، غايات انتقامية، غايات شخصية، غايات أهوائية، غايات شيطانية. شيء غريب يا أخي! هناك الذين اتخذوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩، يأتيك أحدهم بجُزء من آية، يستدل على موقف مُعيِّن، في مُنتهى المهانة والخزي هذا الموقف، ويقول لك الله قال هذا يا أخي، الله! أنت الآن أتيت بشطر آية، وتركت ألف آية في المُقابِل تُدينك وتُدين انفعالك وتُدين موقفك وتُدين حُكمك. شيء عجيب، هذا شيء غريب جداً، وهذا أيضاً نبع الحماقة، هذا نبع الحماقة! تماماً كالذي كان في يده مصباح في ليلة شاتية باردة زمهريرية، كسره ومشى في الظلام. نعم، هذا طبعاً يُعرِّض نفسه للعطوب، يُعرِّض نفسه للعطوب وللمتالف في كل ثانية. كسرت مصباحك وتمشي في الظلام يا رجل؟ هكذا! كالذي أوشك على أن يموت عطشاً، فلما أوتي بشراب طيب، نجَّسه بنجاسة، حالت دون أن يتناوله. أنت أفسدت ما بين يديك.
كذلك الذين يتلاعبون بالدين، الذين يُكيِّفون ويُريدون أن يُكيِّفوا الدين على أهوائهم. تقريباً كلنا يفعل هذا بقدر وبآخر. فرق كبير جداً بين امرئٍ يُكيِّف نفسه مع الدين ووفق الدين، وبين امرئٍ يُريد أن يُكيِّف الدين وفق ما يُريد! لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. تُكيِّف نفسك وفق الدين. لذلك وجدت أن هذا هو الفارق، ويُمكِنك أن تجده حين تقرأ في هذه الأدبيات. وطبعاً هناك مواقع على الإنترنت Internet كثيرة، خاصة موقع modernstoicism.com، هو موقع عن هذا، وتحدَّث عن هذا الأسبوع وعن هذه النشاطات وعن جامعة إكسيتر Exeter، قصة كبيرة! وطبعاً تصطدم دائماً باسم شهير جداً؛ جيمس ستوكديل James Stockdale. جيمس ستوكديل James Stockdale هو هذا الطيار الأمريكي الذي أُسِر من قِبل الفيتناميين، في حرب فيتنام المعروفة، وبقيَ في السجن زُهاء ثماني سنوات إلا نصف السنة، إلا أنه نجا من هذه التجربة الحدية المُتطرِّفة جداً والقاسية، واستطاع أن يستخلص منها أجمل الأحكام وأحسن الخبرات، وأودع هذا في بعض كُتبه ذات الطابع الفلسفي، وخاصة في المُحاضَرة الشهيرة له – في أقل من أربعين صفحة -، وهي شجاعة تحت النيران Courage Under Fire. هذه مشهورة ومطبوعة مجاناً، هذا الرجل قال لك إبيكتيتوس Epictetus هو الذي أنقذني. كيف أنقذك؟ جميل، خبرة جميلة، لكن كيف أنقذك؟ ما الذي قدَّمه إبيكتيتوس Epictetus، هذا العبد الفيلسوف، لهذا الطيار، لهذا الطيار المُمتحَن المُبتلى ببلاء الأسر في المنفى؟
قدَّم له ما يُعرَف بثنائية التحكم والسيطرة، أي Dichotomy of control. بمعنى أن الرواقية كانت تُعلِّمه وخاصة إبيكتيتوس Epictetus في التأملات وفي المُختصَر الذي اختصره آريانوس Arianus – تَلميذه الشهير -، كانت تُعلِّم أنك لكي تتوفَّق، لكي تهدأ، لكي تطمئن، ولكي تُمارِس الحكمة، عليك أن تُميِّز مبدئياً بين أمرين: بين ما يقع في توقك وقدرتك وتحت سيطرتك، وما ليس – وما ليس كذلك -. الذي يقع في توقك وقدرتك وفي تحكمك وهو ملك لك: انفعالاتك، آراؤك، نزعاتك، وأهواؤك. هذه ما تُشكِّلك، تستطيع أن تتحكَّم فيها. وأمور أُخرى كثيرة، بما فيها شكلك، بدنك، نسبك، أبواك، وطنك، حتى علاقاتك، حتى مناصبك، وإنجازاتك – تنجح أو تفشل في المُجتمَع -، ليست إلا قدراً أحياناً. هذا قدر وهو معروف، هذا معروف! ونحن نختبر هذا كل يوم. تكون مُستعِداً لوظيفة مُعيَّنة وعندك شهادات وعندك خبرة، ولا تحظى بها، يحظى بها مَن هو أقل منك. قدر! أنت عملت ما عليك، وهذا الذي آتاك من جهة القدر. هذا ليس في يدك. إبيكتيتوس Epictetus علَّمك، قال لك انتبه الآن، عليك أن تُميِّز مبدئياً بين هذا وبين هذا. الأشياء لا تُكرِبنا، الأشياء والأحداث وحتى الناس، لا يُمكِن ولا تستطيع بذاتها أن تُكرِبنا، أن تضرنا، أن تُلحِق بنا الأذى. لا تستطيع! إلا إن سمحنا لها بذلك. متى نسمح لها بذلك؟ إذا انفلتت انفعالاتنا، إذا سمحنا لها أن تُثير انفعالاتنا. أما إذا تحمكنا في انفعالاتنا، وعقلناها، فلن يحدث هذا، ولا يُتحكَّم في الانفعالات، والعواطف – أي الــ Passions -، إلا بالعقل، لا يُتحكَّم فيها إلا عن طريق العقل. لذلك هذه الفلسفة في جوهرها فلسفة عقلانية، وإن تكن مثالية أخلاقية، لكن هي فلسفة تُعلي جداً إلى الغاية من شأن العقل إزاء العاطفة والأهواء المُتقلِّبة والنزعات، لا تعبأ بهذه وتُريد لك أن ترتقي إلى مثابة وإلى مصاف بحيث تُلجِم وتضبط وتتحكَّم في أهوائك ونزواتك، تصل إلى ما يُعرَف بالأباثيا Apatheia. فالــ Passions هي النزوات، العواطف، والانفعالات. وPathosشخص انفعالي، يخضع لعواطفه. Apathos شخص غير انفعالي، Apathos! يُريدون لك أن تُصبِح Apathos، بدل أن تكون Pathos. جميل! هذا شيء جميل، وهذا منطقي ويشتغل، هذا إذا جُرِّب، أكيد سيشتغل. يُمكِن أن نتحكَّم في انفعالاتنا. بمعنى ماذا؟
بمعنى أن هناك الموت مثلا، خُذ أكثر شيء يتهددنا، هذا لا يتهدد شخصيتنا بالتفكك، هذا يتهددنا، بالمنطق المادي والحسي في الوعي العادي الجاهل غير الإلهي – أي في وعي غير المُتألِّهين أو المُؤلِّهة – بالفناء، الموت هو فناء، نهاية لكل شيء، وليس إخفاقاً في تجربة واحدة وما إلى ذلك، في كل شيء، تنسحب من هذا العالم بالكُلية، بالكُلية! تنتهي. ومع ذلك الموت بحد ذاته لا يُمكِن أن يكون مُريعاً إلا إذا نظرت إليه على أنه مُريع. أما إذا نظرت إليه على أنه ليس مُريعاً، أي شيء مقدور ومكتوب، مُقدَّر ومكتوب، ويحدث للجميع؛ للحيوانات، وللبشر، وللنباتات، لكل الأحياء، باختلاف درجات الحياة، فإذن الموت سيُصبِح بعد ذلك مصدراً مُحايثاً. عجيب! الرواقية يعتبرون أن الموت ضمن الأشياء السواء، هناك أشياء يُسمونها الأشياء السواء، مثل الألم، مثل المرض، مثل الموت. هذه أشياء سواء، بحد ذاتها مُحايدة، هي تضرك إذا شئت أن تتلقاها على أنها مُضِرة، مُقلقِلة، مُزلزِلة، مُحزِنة، مُفشِلة، وقاطعة. ستكون كذلك، ستكون كذلك وستضرك. ولذلك عندهم عبر وأمثولات في مُنتهى الجمال.
يُحكى أن الإمبراطور تيتوس Titus – وكان أحد الطغاة طبعاً – أرسل إلى أحد الرواقيين الكبار – هذا حكيم راوقي، في إمبراطوريته – وقال له أُريد ألا تذهب إلى مجلس الشيوخ. وطبعاً الإمبراطور يحضر المجلس. قال له سيدي الإمبراطور، يُمكِنك أن تحول دون ترشحي لعضوية مجلس الشيوخ، أما وأنا عضو في المجلس، فلا بد أن أقوم بمهمتي. لأن الأبيقورية تقوم أيضاً على فكرة الواجب. وتحدَّثنا في خُطبة – خُطبة قريبة؛ سر الأقدار – عن إبيكتيتوس Epictetus، وعن أن جوهر نظريته في الواجب؛ الواجب إزاء النفس، إزاء الآخرين، وإزاء الرب – لا إله إلا هو -. أهم شيء عندهم الواجب أيضاً، فهذا واجبي. وكان يقول إبيكتيتوس Epictetus لو قيض الإله لي أن أكون عندليباً، لقمت بمهمة العندليب ومارست مهنة العندليب. ولو قيض لي أن أكون تماً – الأوز العراقي، هذا التم -، لقمت بكل طيب خاطر بمُهمة ومهنة التم. ولكنه قدَّر علىّ أن أكون إنساناً يُفكِّر، ولذلك سأقوم بمهمة أن أُكبِّر الله. هكذا قال، طبعاً لأنه في العصر المسيحي، هو مولود سنة خمسين تقريباً، قال سأُكبِّر الله، وسأجله، وسأوقِّره، وسأواصل في هذه المهنة. قال سأواصل في هذه المهنة. أن أُكبِّر ربي، أن أُعظِّم ربي، وأتلقى أقداره عن طيب خاطر. كل الأقدار، بما فيها الموت والجوع والمنفى والسجن والقتل، كل شيء! وسأكون سعيداً. شيء عجيب.
ولذلك يُحكى عنه أن سيده أفردويت Aphrodite ذات مرة – وكان أحد أيضاً الطُغاة إلى حد ما، وعنده قصة مع نيرون Nero وما إلى ذلك، قصة! المُهِم ما سيأتي – أراد أن يلهو به، فأتى بآلة من آلات التعذيب، ووضعها في ساقه، وجعل يضغط على ساقه. فقال له إبيكتيتوس Epictetus سيدي، ستكسر ساقي. واصل لعبه ولهوه، حتى كُسرت الساق. لم يزد إبيكتيتوس Epictetus على أن قال سيدي، ألم أقل لك ستكسر ساقي؟ كسرت الساق! لم يغضب، لم يحزن، لم يثر. عادي! وظل أعرج طيلة حياته، مكتوب على شاهد قبره إلى اليوم: عبدٌ أعرج مُعوز، لكنه عظيم في نظر الإله. عظيم في نظر الإله! رجل صبور مُتحمِّل. أن تُقاوِم ما تُحِب، وأن تتحمَّل ما تكره. هذه هي الحكمة! أن تُقاوِم ما تُحِب، وأن تتحمَّل – أي تصبر – ما تكره. هذه مكاره، متالف، هذه عطوب، يكرهها الإنسان وينفر منها، تتحمَّلها. الصبر! الصبر والتجمل، الصبر الجميل في اللُغة الدينية القرآنية، وهي أجمل بكثير من هذه الإبكتيتوسيات والأبيقوريات، كما سيأتي بُعيد قليل – إن شاء الله تعالى -.
المُهِم، قال له ولذلك لا بد أن أحضر اليوم المجلس. قال له إذن، فإذا حضرت – أي الإمبراطور، انظر إلى هذا، انظر! الحرية الداخلية يا أخي تُعطي الإنسان كياناً حتى أمام الأباطرة، حتى أمام الموت، شيء عجيب! أمام أعظم القوى في العالم -، فلا تتكلَّم. قال نعم، إلا إذا سُئلت. فإذا سُئلت، تكلَّمت. قال إن فعلت، ربما سجنتك أو قطعت رأسك. قال لا بأس، افعل، ومتى أخبرتك أنني خالد؟ أنا سأموت، أكيد سأموت، اليوم أو غداً أو بعد غد أو بعد خمسين سنة، لا بد وأن أموت. متى أخبرتك أنني خالد؟ قُم بمُهمتك، وسأقوم بمُهمتي. مُهمتك أن تقطع الرؤوس وأن تنفي الناس وأن تسجنهم، ومُهمتي أن أتكلَّم بقناعتي. فبُهت الإمبراطور أمام هذه الشخصية الحُرة حقيقةً، هذه هي الحرية، حرية حقيقية!
لكن كيف اكتسب هذا الفيلسوف الرواقي إزاء هذا الإمبراطور الجبّار العني المُتسلِّط الغاشم هذه الحرية، بكل هذه البساطة والسلاسة؟ لما تحكَّم في انفعالاته، بعد أن غيَّر منظومة تفكيره. هو نظر إلى الموت على أنه قدر مقدور، لا يُمكِن أن يُخطيئ أحداً من العباد. مكتوب على كل رقاب العباد الموت، أليس كذلك؟ إذن لا بد أن أموت. فكيف إذا دُعمت هذه الفكرة أو هذه العقيدة بعقيدة أُخرى تقول إن الموت كتاب مُقدَّر وأجل مُؤقَّت ومُسمى، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر؟ تُعطي الإنسان قوة جبّارة.
ولذلك لما سأل مرة إبيكتيتوس Epictetus تَلميذه، قال له هل يستطيع أحد في العالم أن يُكرِهك أو يُرغِمك على أن تفعل أو تقول ما لا تُريد؟ قال في حال هددني بالسجن والتعذيب أو بالنفي والقتل. قال فإن لم تكن تخشى ذلك؟ أنت وصلت إلى حالة لا تخشى معها حتى الموت! قال حين إذن لا يستطيع. قال وهل تستطيع أن ترتقي إلى درجة لا تخشى معها الموت؟ قال أنا كذلك. قال له أنا تَلميذك وأنا دربت نفسي على ذلك، أنا لا أخشى الموت. قال إذن أنت حر. أنت الآن حر، أنت شخص حر. هذا هو الحر، هذا هو الحر الذي لا يستطيع أحد أن يُرغِمه على أن يسلك أو يقول أو يأتي ما لا قناعة له به. لماذا؟ لأنه مُتحكِّم في انفعالاته إزاء ماذا؟ إزاء الموت حتى، الموت نفسه، أعظم مُصيبة، أعظم مُصيبة! حتى الموت، جميل.
إلى الآن – إخواني وأخواتي – أظن أن كل مَن سمع أو يسمع مثل هذه الأمثولات وهذه الحكايا وهذه المبادئ، سيقول لدينا منها الكثير. وكما قلت لكم في غير تبجح مرة أُخرى بصيغ أجمل، وبصيغ أوثق وأقدر على بعث النفس على العمل وتجسيد هذه المفاهيم. لكن لِمَ لا نفعل؟ هذه هي القضية المُحزِنة والمُؤسية جداً والمُخيِّبة للآمال. يبدو أننا لا نفعل، لأننا لم نُؤمِن بعد. لا بمعنى أننا كافرون أو جاحدون، لا! الإيمان الناتج عن معرفة تامة، الذي يتطابق مع معرفة تامة.
قبل أيام كنت أتحدَّث مع بعض الأحباب في هذه القضية، فندت منه ابتسامة، فهمتها وكانت كما فهمتها، أنه لا، أن هذه الفكرة يبدو أنها غير صحيحة. لا! وهي صحيحة، فلما شرحتها له على وجهها، سلَّم، سلَّم وقال أوه. ليس من السهل أن تُخالِف المُفكِّرين العظماء، انتبه! وأنت لست منهم. من وصايا إبيكتيتوس Epictetus إذا جلست بين الناس وخاضوا في نظريات فلسفية – هكذا بالضبط، في المُختصَر -، فإياك أن تخوض معهم، لأنك تُعرِّض نفسك لخطر أن تقيء كلاماً لم تهضمه بعد. هناك أشياء أنت إلى الآن لم تهضمها، سمعتها وقرأتها ولكنك لم تهضمها. ويبدو وفق طريقة هذا الرجل، أنك لا يُمكِن أن تهضم هذه المعارف، إلا بعد أن تُجسدها سلوكياً، وفي زمنية طويلة إلى حدٍ ما. ولذلك كانت وصاته دائماً المُتكرِّرة لا تُبيِّن، لا تشرح، لا تُفسِّر فلسفاتك. عِشها وجسدها. وكان يقول بكل بساطة إذا أتيت إلى مأدبة طعام، فيها أعيان وفيها أناس كبار وأُناس مُهِمون، فمن غير اللائق أن تبدأ تتحدَّث وتُحاضِر عن آداب الطعام وآداب المائدة. افعل هذا، كُل بأدب، علِّم الناس، وكأنك تقول لهم هذا هو، هذا هو! من غير أن تتكلَّم. وفعلاً هذا جُزء من الحكمة، فالحكيم يفعل أكثر مما يتكلَّم. يُجسد مبادءه ومنظوراته وفلسفته عبر ماذا؟ عبر الفعل. وهذا الذي يجعله حكيماً، وهذا الذي يجعله هادئاً ومُنضبِطاً ومُتحكِّماً في انفعالاته.
وهذه القضية طبعاً إلى حد الآن بعض الناس قد يظن أو يشاء أن يتناولها من زاوية فلسفية أو نظرية، بالعكس! هي قضية عملية في الصميم. فالآن يومياً تُطالِعنا الأنباء والحوادث والأخبار الخاصة بالآخين، وطبعاً الناس الآن تقريباً كلهم، أو بالأحرى مُعظَم الناس على الإطلاق، حتى الأميون، يُسجِّلون في الفيسبوك Facebook، ولهم جروبات Groups، ويتواصلون ويتحدَّثون عن أخبار العائلات المُمتدة وأخبار الجيران. يومياً تأتيك أخبار الطلاق وأخبار تقول إن فلاناً طرد ابنه، وفلاناً تسبب في إلحاق أذى كبير بابنه أو بابنته، وأُخرى تقول بالعكس، في العائلة الفلانية ذبحوا ابنتهم. أشياء ومصائب تحدث بين المُسلِمين! بسبب ماذا؟ جُزء كبير من هذه المصائب يُعزى إلى الهيجان الانفعالي، عدم الثبات، عدم التوازن الانفعالي. لا نضبط انفعالاتنا، لا نضبط ردود أفعالنا. ومُعظَم النار من مُستصغر الشرر. وفعلاً يُمكِن لكلمة أو لموقف بسيط، يُمكِن أن يتهدد أسرة كبيرة بالتفكك وبالزوال، ينتهي إلى الطلاق، ويُمكِن أن ينتهي بجريمة، بجريمة! وكم أو كأين من حوادث انتهت بسفك الدم والقتل من أجل كلمة! كلمة تُقال من هنا، تُلقَّح بكلمة أُخرى، ونسل الخصام ذميم. وتنتهي إلى جريمة، هذا بسبب عدم التوازن وعدم الثبات الانفعالي.
فهذه قضية مُهِمة، ولذلك أنا اليوم أتيت بهذه الآيات الكريمة – ولها نظائر – من سورة الشورى. تأمَّلوا في الآيات؛ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ ۩، الله يقول كل متاع الدنيا هذا في كفة، وهناك شيء آخر يرجح به. فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩. مَن هم؟ مَن هم المُؤمِنون المُتوكِّلون؟ انظر إلى كلمة يَتَوَكَّلُونَ ۩، إذن القضية لها علاقة بماذا؟ بالتسليم، بالتسليم بالأقدار. وهذا جوهر الرواقية، لا يُسمونه تسليماً بالأقدار، لأنهم وحدويون – أي Pantheists -، ولكن يُسمونه التواؤم مع العقل والطبيعة. وأنه إذا لم يكن ما تُريد، فرِد ما كان. إذا لم يكن ما تُريد، فرِد – أمر من أراد يُريد – ما كان. عليك أن تُريد ما كان، ما قد حصل، ما قد وقع. وهذا هو التسليم بالقدر، وهو الرُكن السادس في الإيمان، هذه ليست وصاة عندنا في الإسلام، هذا إيماننا، هذا الرُكن السادس في الإيمان. طبعاً عيّبوه المُستشرِقون ومُشاغِبو المُهرِّجين، وقالوا لك هذا سبب خواء الأمة الإسلامية، سبب خيبة المُسلِمين، سبب تأخر المُسلِمين، أنهم قدريون. بالعكس، بالعكس! قدرية المُسلِمين الحقيقية هي التي جعلتهم أنجح أمة في وقتها، وبهذا اعترف غير واحد، مثل ويل ديورانت Will Durant. ويل ديورانت Will Durant مُؤرِّخ الحضارة البشرية كلها، في قصة الحضارة قال سبب نجاح المُسلِمين في فتوحاتهم وحضاراتهم أنهم كانوا قدريون. إيمانهم بالقدر أعطاهم قدرة غير عادية وغير محدودة على الشجاعة وعلى الإقدام وعلى المُغامَرة وعلى التضحية بكل شيء، في سبيل ما يرونه حقاً وحقيقةً. انتبه! وطبعاً الآن بهذا المنظور الرواقي الذي يُعاد تجديده وبعثه من جديد – الآن، وتُسمى الرواقية الحديثة، أي الرواقية المودرن Modern، الرواقية الحديثة – يُقال بالعكس، الإيمان بالقدر والتسليم بالأقدار والأقضية هو أساس ومحور هدوء النفس وطمأنينتها وقدرتها على التحكم في انفعالاتها. هذا المكتوب وهذا الذي حصل، انتهى، سلِّم بهذا. أنت استفرغت وسعك، أخذت بالأسباب – المفروض أن تأخذ بها -، ولكن لم تنجح، فماذا تفعل؟ أتغضب؟ أتُدمِّر نفسك؟ أتُدمِّر ما حولك؟ أتأكلك الامراض؟ أتنهار عصبياً؟ لماذا؟
ولذلك أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، في الحديث الذي أصله في الصحيحين، لكن هذا لفظ الترمذي؛ خدم رسول الله، قال خدمت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عشر سنين – شيء عجيب – فما قال لي أفٍ قط. الله أكبر! أي ولا مرة بدر من النبي إزاء أو قبال خادمه الطفل الصغير كلمة تأفف. ويومياً نحن نتأفف على زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا وأحياناً أصدقائنا ومرؤوسينا، أليس كذلك؟ ولا يقصتر الأمر على كلمة أفٍ فقط، هناك ما هو أكثر من الأف بكثير، انظر إلى هذا، انظر إلى العظمة. لا نحتاج إلا هذا، ولذلك لا نحتاج كثيراً إبيكتيتوس Epictetus وأوريليوس Aurelius وسينيكا Seneca، لا! لدينا محمد، وفعلاً صدق ذلك الحكيم المُسلِم الذي قيل له هل قرأت كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس Nicomachus لأرسطو Aristotle – نيقوماخوس Nicomachus ابن أرسطو Aristotle -؟ فقال لا، لم أقرأه، وحتى لم أسمع به. شيخ مُسلِم بسيط، قال ولكن قرأت الأخلاق لمحمد بن عبد الله. لا تحتاج إلا هذه، إذا قرأتها حقاً، وأخذتها من منظور الإيمان، وكان لديك أساس الحكمة، علمت جزالتها وقيمتها. أوفت على الغاية، أوفت على الغاية! والنبي لم يكن داعية نظرياً، كان مُجسِّداً. أي هذا ليس حديثاً قولياً قاله النبي، هذا من قول أنس، يصف فيه سلوك لرسول الله. هو يعيش هذه المبادئ! عشر سنوات – قال – لم يقل لي أفٍ قط.
قال وما قال لي لشيء صنعته، لِمَ صنعته؟ أي لماذا فعلته؟ التبكيت والتأنيب والعتاب شيء مُقرِف، وكذلك التطلب، بعض الآباء هكذا، بعض الأمهات هكذا، بعض المُديرين هكذا، وبعض الرؤوساء هكذا. دائماً يتطلَّب، ودائماً يُعاتِب. يقول لماذا هذا؟ ولماذا ليس هذا؟ شيء عجيب ومُقرِف، هذا يجعلك مكروهاً من الناس، الناس لا يُحِبون مثل هذه الشخصية المُتطلِّبة، صعبة الإرضاء، كثيرة العتاب، كثيرة التفنيد، كثيرة الاستدراك، شيء مُقرِف! النبي لم يكن كذلك أبداً أبداً أبداً.
قال وما قال لي لشيء صنعته، لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته، لِمَ تركته؟ أي لم يقل لماذا فعلت هذا؟ ولم يقل لماذا لم تفعل هذا؟ قال وإذا وقع شيء – ربما كسر إناء، ربما سكب مادة مُهِمة؛ حليباً أو كذا-، فربما عنفني أهله أو بعض أهله، فيقول دعوه، لو قدَّر الله شيئاً، كان. الله لم يكتب هذا، دعه، هذا عادي، انتهى، ما الذي حصل؟ فعلاً هذا هو.
ولذلك ديل كارنيجي Dale Carnegie عنده كتاب هام، وكارنيجي Carnegie كتابه هذا تُرجِم ربما إلى شتى لُغات العالم، حتى بما فيها اللُغة العربية، وهو الكتاب الذي أقام عليه الشيخ الغزّالي كتابه، هو عمود كتاب الشيخ العالم الفاضل محمد الغزّالي، وهو من أجود وأروع الكُتب في بابه، أعني جدِّد حياتك، للشيخ الغزّالي. روعة! أي تُحفة من تُحف الشيخ محمد الغزّالي، جدِّد حياتك. لكن جدِّد حياتك للشيخ الغزالي – عليه رحمة الله ورضوانه – عموده كتاب مَن؟ كارنيجي Carnegie. كارنيجي Carnegie كتابه اسمه دع القلق وابدأ الحياة. دع القلق وابدأ الحياة من أوله إلى آخره رواقي الروح. كتاب رواقي الروح! الرواقية أو المذهب الرواقي يسري فيه، في نسغه أو في أنساغه، من الأول حتى النهاية. وجاء الشيخ الغزّالي رد كل أصل فيه – كل أصل وكل مأثرة – إلى أصلها الإسلامي، بسهولة. وكل مُثقَّف إسلامي كبير يُمكِن أن يفعل هذا، وعلى البديهة. أي إنسان قارىء، وخاصة قارئ الأدب والأدبيات الإسلامية وما إلى ذلك، يعرف هذا، ويسهل عليه، مُباشَرةً! لكن مُقِل ومُكثِر بحسب اطلاعه، وبحسب ما قيض الله له من المعرفة كماً ونوعاً. فهذا هو، هذه روح رواقية.
كارنيجي Carnegie يتحدَّث كيف أنه تقريباً من أربعين سنة – على ما أذكر، لم أُراجِع هذا – وقع له الآتي. من أربعين سنة – قال – لقننا الأستاذ فلان في كلية كذا درساً إلى اليوم أعتبر به وأتعظ به وأستفيد منه. جاء أمامنا ومعه إناء فيه حليب، سكبه أمامنا في البالوعة. وقال ماذا ستفعلون؟ الحليب سُكب، انتهى. الحليب مُهِم، وربما حقه نصف دولار، وسُكب الآن في البالوعة، ماذا ستفعلون؟ تتقطعون حسرةً وألماً؟ تنفجرون علىّ؟ تسبون؟ تلعنون؟ لن يعود الحليب.
هذا ما قد حصل، حصل! وطبعاً في الحقيقة لا يُمكِن لإنسان عاقل أن يفعل هذا، لكن قد يفعله طفل صغير، قد تفعله الهرة، قد تفعله الريح. يقع الإناء بفعل الريح، يُكسَر وينسكب الحليب، ويُكسَر الإناء حتى إذا كان مما يُكسر! لا تغضب، ولا تحزن، ليس لك في هذه القسمة، مع السلامة، (لا تزعل)، وسواء كان حليباً بنصف دولار أو حتى مليون دولار، (ذهبت عليك)، أو احترقت، أو خُدعت بها. لا تغضب، لا تحزن، ولا تقتل نفسك. الذي أتى بها، يأتي بغيرها. والذي قدرها – تبارك وتعالى – هو الذي ذهب بها، وهو أعلم، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، هو أعلم، أعلم! ليس حقي هذا، لو كان من حقي ورزقي الدائم، لما حُرمته. سلِّم يا رجل، ربك – كما قال ويليام جيمس William James – قد يغفر لك، لكن أعصابك لا تفعل هذا دائماً. أليس كذلك؟ الغضب والانفعال والنكد والتنغيص والتحسر ويا ليت ولماذا هذا؟ ولماذا ليس هذا؟ كورتيزول Cortisol، Stress، ضغط، ارتفاع ضغط الدم، وتصلب شرايين ربما، تخيَّل! أمراض وعائية، فضلاً عن تراجع الذاكرة، ويُمكِن أن تقودك إلى انهيار عصبي، لماذا دمَّرت نفسك؟ من أجل ماذا؟ هذا لا يستأهل، ولا يُوجَد شيء يستأهل، انتبه! في نهاية المطاف أنت أنت – كما أقول دائماً في هذه الخُطب -، لست ما تملك.
إبيكتيتوس Epictetus عنده عبارة جميلة جداً، يقول قياسان غير مُتساوِقين، قياسان مُتساوِقان. قياسان غير مُتساوِقين: أنا أكثر منك مالاً ومُمتلكات، فأنا أفضل منك. أنا أبلغ منك وأفصح، فأنا أفضل منك. قال غير مُتساوِقين! قياسان مُتساوِقان: أنا أكثر منك مالاً ومُمتلكات، إذن أنا أكثر منك مُقتنيات. وهذا هو الصحيح، عندي مُقتنيات أكثر منك، وهذا لا يعني أنني أفضل منك. أنا أبلغ منك وأفصح منك، أسلوبي في الخطابة والكلام والإنشاء أفضل من أسلوبك. قال ولكنك بعد كل شيء لست المِلك ولست الأسلوب. لا أنت ما تملك ولا أنت أسلوبك هذا، أنت شيء آخر. فاحتفظ بهذا الشيء الآخر، استثمر في هذا الشيء الآخر، ركِّز على هذا الشيء الآخر، حاول أن تخدم هذا الشيء الآخر، ليس المُمتلكات وليس الأسلوب، ليس مناصبنا وشهاداتنا ومثاباتنا وسُمعتنا أبداً، أبداً! هذا ليس نحن، أرأيتم؟ هذه هي الحكمة الحقيقية، وهذه أصولها غائرة في التعاليم الدينية التوحيدية؛ يهودية، مسيحية، وإسلامية بالذات، غائرة – بفضل الله تبارك وتعالى -، كما قلت لمَن أوتي حظه الأدنى – على الأقل – من الحكمة، لكي يُجسدها في الحياة، ويعيش وفقها، فيسعد ويهنأ ويُصبِح ثابتاً ومُتزِناً انفعالياً.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – فيما أخرجه الإمام الترمذي في سُننه، يقول لن يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يُؤمِن بالقدر خيره وشره، وإن من سعادة المُؤمِن رضاه بقضاء الله تعالى. ثم قال وإن من شِقاوته، أو شِقوته، عدم رضاه بقضاء الله تعالى. تُصبِح شقياً! والشقاوة تُقابِل ماذا؟ تُقابِل السعادة. أي تُعارِض السعادة، هذا السعيد وهذا الشقي، هذا الشقي، هذه الشقاوة! عجباً لأمر المُؤمِن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء، شكر – يتقلَّب المُؤمِن دائماً بين الشُكر والصبر، لا إله إلا الله، انظر! لا يُوجَد ما هو أحسن من هذه الصيغة، شكر، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحا ترضاه وأصلح لنا في ذرياتنا إنا تبنا إليك وإنا من المسلمين، اللهم أوزعنا شُكر نعمتك وألهِمنا ذكرك على كل أحوالنا -، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيراً له. واسمعوا التعقيب والتذييل: وليس ذلك إلا للمُؤمِن. قال هذه الصيغة لا يُمكِن أن يتمتع بها إلا مُؤمِن، لأنه لا بد وأن يُسلِّم. سوف تقول لي لكن هناك الأبيقورية؟ الأبيقورية تُؤمِن بالله، وهي ديانة على فكرة تُؤمِن بإله واحد، وإن كانت وحدوية، ولكن الإله عندهم غير مُتعدِّد، لا يُؤمِنون بالآلهة، يُؤمِنون بإله واحد، ويُؤمِنون بشيء يُعادِل تماماً الأقدار، هم يُسمونه نظام الطبيعة، هو هذا، مكتوب، هناك أشياء لا بد وأن تحصل، فإذن انتهى، سلِّم وارض يا رجل. كيف لا ترضى؟
بالأمس أُحدِّث بعض أحبابي، أقول لهم عجيب، عجيب! أكثر ما كان ولا يزال يستفزني، ولا أستطيع أن أفهمه – أكذب عليكم إذا قلت أنا فهمته، لا أستطيع أن أفهم هذا – هو كيف يُمكِن لمُؤمِن – يعلم أنه مُؤمِن – أو مُؤمِنة أن يسخط أو يحزن أو حتى يُعرِض ويضرب صفحاً أو يلوي عُنقه أو… أو… أو… إذا رزقه الله البنات؟ وأنا أتحدَث عن مُجتمَعات عربية بالذات، كالمُجتمَعات الشامية، وخاصة فلسطين، وتعرفون ظروف الاستعمار. لا يُحِبون البنات للأسف الشديد، على الأقل إلى وقت قريب، وما زال بعضهم كذلك، أي يُحِبون الذكور، والعرب في الجاهلية كانوا كذلك طبعاً، وتعرفون هذا، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ۩. لا أفهم هذا، أفهم هذا من جاهلي أو من مُشرِك أو من وثني أو من مُلحِد، أفهم! لكن من مُؤمِن، يُؤمِن بالله، لا أفهمه. مَن الذي خلق؟ هو. مَن الذي اختار أن تأتي أُنثى وليس ذكراً؟ هو. فليس على الرحب والسعة، بل على مليون مليون رحب وسعة، وعلى نعمة مليون رأس وعين، ونحن أذلاء صاغرون وسعداء راضون، هذا اختيار الله. لكن تجده مُسلِماً، يُصلي ويصوم ويقوم الليل ويحفظ القرآن، ويغضب!
في هذا المسجد هناك مَن أخبرني بالآتي، بلسانه! هو نفسه قال لي يا فلان، أنقذني، أنا طلقت زوجتي، سببتها ولعنتها وطلقتها. قلت له من أجل ماذا؟ أمن ريبةٍ؟ قال لي لا، لا توجد ريبة، وإنما أتتني ببنت، ومن قبل كانت أتتني – لا أدري بالضبط العدد – باثنتين، فطلقتها. مُسلِم ويُصلي خلفنا! شيء عجيب، وأين الإيمان؟ يا أخي من أركان الإيمان الإيمان بالقدر؟ أي أنت ما تعلَّمت هذا إذن؟ هو تعلَّم ويعرف هذا وقد يكون من العلماء، ولكنه لم يُجسده في حياته. هو لم يُجسده، ويتكلَّم ويُردِّد، لم يعشه. ولذلك هو محروم، وهو شقي، وأشقى نفسه وأشقى زوجته وأولاده، شقي! وشقي حتى على مُستوى الداخل والباطن، الجوانية! شقي جوانياً هذا المسكين، وكان يُمكِن أن يكون سعيداً ويعيش دائماً سعيداً هانئاً، أليس كذلك؟ ما الفرق إذا كان ذكراً أو كانت أنثى؟ هل هذا سيُؤثِّر على شخصيتي أنا الحقيقية؟ هو أصلاً كيان آخر، هذا عبد آخر لله، مِلك لله وليس لك، وهو حر، الله حر فيما يختار – لا إله إلا هو -. لا تفتخر بما ليس لك، وعلى فكرة ابنك ليس لك حتى، إلا إذا كنت تعتقد أن ابنك مثل حقيبتك طبعاً، وحتى وإن كان مثل حقيبتك، فحقيبتك ليست هي أنت، شيء آخر! وقبل قليل فرغنا من هذا، حقيبتك هذه شيء آخر.
إبيكتيتوس Epictetus يقول إذا كان لك حصان، أو فرس – أقول فرس – جميل، يُمكِن أن نحتمل من هذا الفرس حركة خيلائية ازدهائية يقول فيها أنا جميل. انظر، أي هو يُمثِّل. لو هذا الفرس وقف هكذا، وقام بحركة يقول فيها أنا جميل، لكان من المُمكِن أن نحتمل هذا منه. لكن إن قلت أنت كصاحب الفرس فرسي جميل، نقول لك تنبه، أنت تزدهي بما ليس لك، بما ليس أنت، بما ليس فيك. فرسك جميل؟ نعم، ها هو جميل، لكن أنت لست جميلاً. أنت تكون جميلاً، لو أصبحت حكيماً وأدركت أن فرسك ليس أنت.
ولذلك في المثل العراقي الشهير، يُقال لك مثل القرعة التي تتباهى بشعر ابنة ابنة خالتها. تظلين قرعة، أليس كذلك؟ تظلين بغير شعر، هذا شعر ابنة ابنة خالتك، هذا ليس أنت. وكذلك نحن، مثل هذه القرعة على فكرة، أي والله. حتى الذي يفتخر بقصره وبسيارته وبشهاداته وبأمواله، مثل القرعة، هذا ليس أنت، وكل هذا ليس أنت. ما أنت ما سيدخل معك في قبرك، وتبقى به وحيداً وتلقى به الله يوم القيامة، هو هذا الأنت، هو هذا الأنت! ولن تأتي الله بقصورك وسياراتك وشهاداتك وسُمعتك بين الناس وأتباعك وخلصانك وأحبابك ومَن مدحك أبداً، ستأتي الله بذاتك التي هي ذاتك.
يا إخواني:
لذلك ذاق طعم الإيمان، مَن آمن بمواقع القضاء. يقول عمر بن عبد العزيز، هذا هو، هذا ذوق الإيمان، تُؤمِن بمواقع القضاء. وهذا الرضا، فسَّرته مرة، والله – تبارك وتعالى – أعلم بحقيقة الحال، وقلت إن الرضا هو لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما اخترنا غير ما اختاره الله لنا. لا إله إلا الله! حتى لو كان الذي اختاره الله لنا أن يرزقنا الأُنثى؟ نعم. وعندنا خمسة منهن؟ عندنا خمسة، وهذه السادسة. وعندنا سبعة وهذه الثامنة، وليس عندنا ذكر، عادي، لن نختار إلا الأُنثى الثامنة. وحتى لو كان الذي اختاره الله لنا أن يقبض وديدنا، أصعب شيء هذا. أصعب شيء على الإطلاق أن يقبض حبيبك؛ أماً أو أباً أو ابناً أو بنتاً أو صديقاً. حتى ولو كان كذلك، هذا الرضا، أتتحدَّث عن الرضا؟ فمَن رضيَ، فله الرضا، ومَن سخط، فله السخط. النبي يقول، اللهم اجعلنا من أهل الرضا، في عافية تامة، بحق لا إله إلا الله.
هذا الرضا، وأين الرواقية هنا؟ هذا شيء يتجاوز الرواقية، شيء يتجاوز الرواقية! ليس أنني سأُكيِّف نفسي وأضبط انفعالاتي وأتقبَّل ما قد حصل، لا! لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما اخترت ما اختاره الله لي. لا إله إلا الله، منطق الإيمان قوي، قوي، قوي جداً. لا تُوجد قوة في الكون بقوة الإيمان يا إخواني، لو فهمنا منطق الإيمان، وجسدناه في حياتنا، وبالذات حياتنا الباطنية الجوانية، ليس حياة المظاهر والطقوس والشعائر والكلمات والخُطب الرنانة والكُتب المُدبَّجة، لا! منطق أن تعيش هذا في أعمق أعماق نفسك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذن، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩. الآن نحن لم نذهب ولم نصل إلى الغاية، هذا وسط الطريق. الله قال هذا مُمكِن، يُمكِن للمُؤمِن أن ينتصف وأن ينتصر لنفسه. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۩. لكن الآن الله يُريد أن نتقدَّم خُطوات على الطريق الطويلة إلى الكمال، إلى التسليم، إلى الثبات والاتزان الكامل الانفعالي، إلى هذه الأباثيا Apatheia. هدوء كامل! أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩. وعلى فكرة الآن يُمكِن لك في ضوء هذه الخُطبة أن تفهم هذه الآية فهماً دقيقاً أعمق من ذي قبل، فمعنى أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ ۩ ليس أن يُردِّد لسانك فقط: الله، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله. وتحت أدنى استفزاز، تقول: ماذا هناك؟ وتغضب وتنفجر وتحرق العالم. لا، ما هذا؟ لا، ذكر الله أن تذكره فلا تنساه. وأنت تذكر الله، مجمع الخيور، ومجمع المبرات والكمالات والجمالات والجلالات، لا إله إلا هو! البر الكريم، الغفور الرحيم، لا إله إلا هو! فأنت تذكر الله، فلا تنساه، فمهما اتفق لك من حدث أو شيء مما يُنغِّض ويُنكِّد ويُسيء، تذكرت أن هذا من لدن الله، وأن علىّ أن أتجمَّل، وإن أمكن أن أشكر.
قال ابن عطاء الله – قدَّس الله سره – إذا فهمت عنه – لا إله إلا هو – سر المنع، عاد المنع عين العطاء. وقال لك هناك الأبيقورية، انظر إلى هذا، انظر! انظر إلى العطائية. إذا فهمت عنه سر المنع، عاد المنع عين العطاء. لا إله إلا الله! هذا مُؤصَّل قرآنياً، قال تعالى وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۩. الله أكبر! مكروه، الله قال لك فيه الخير. وهناك أشياء كثيرة جربناها وعشناها، وفعلاً حمدنا الله بعد ذلك على هذه المكروهات، التي عادت وآضت وانقلبت بعد ذلك ماذا؟ خيرات ومحبوبات، لما كُشف سترها. أوه! اتضح أنها لمصلحتنا، الحمد لله، الحمد لله. شيء غريب! وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۩، وفي المُقابِل وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩. أنا ربي الذي سلَّمت له وسلَّمت به وسلَّمت إليه أمري كله، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۩. وهناك فرق بين سلَّمت له وسلَّمت إليه، الأخيرة تفويض؛ بــ إِلَى ۩ تفويض، فوضت أمري، صغيره وكبيره، كله، إليه – لا إله إلا هو -، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩. فأنا أُفوِّض وأُسلِّم لــ وإلى إله حكيم عليم. هو حكيم، انتبهوا! عليم وحكيم، هو حكيم، وأيضاً رحيم وكريم – لا إله إلا هو -. لِمَ؟ لِمَ لا أُسلِّم أمري كله له، وأرضى بكل ما يأتيني من جهته ومن لدنه – لا إله إلا هو -؟ معنى عظيم جداً.
ولذلك يا إخواني العارفون بالله لدينا – وشرحت هذا في خُطبة قديمة جداً، ولكن هذا من أجمل ما تعلَّمت في حياتي من المعاني – يُؤكِّدون أن الحقيقة في نهاية المطاف، في حق المُؤمِن بالذات، واحدة، وهي دائماً جميلة. لكن إن شئت أن تراها قبيحة، انقلبت قبيحة. إن شئت أن تراها مُظلِمة، صارت عليك ظلاماً. إن شئت أن تتلقاها حنظلاً، ذقتها حنظلاً مُراً، ولا أمر. وإن شئت أن تذّوقها عسلاً، انقلبت عسلاً. قال الشيخ العربي المغربي – قدَّس الله سره – فذق يا ابني المليح، ولا تذق القبيح. الحقيقة واحدة! ولذلك الأشياء مُحايدة كما يعتقد الرواقيون والعُرفاء المُسلِمون، الأشياء والأحداث بحد ذاتها، مُعظَمها على الإطلاق، مُحايد. ليس من شأنها أن تُكرِبنا، ولا أن تضرنا، ولا أن تؤذينا. لكن موقفنا منها هو الذي يفعل، يجعلها كذلك. أنا لا أُريد لها أن تُؤذيني، لن تُؤذيني، مهما كانت.
سقراط Socrates – الفيلسوف العظيم، أستاذ أفلاطون Plato – قال يستطيع فلان وفلان أن يقتلاني، يستطيعان ذلك! ولكنهما أعجز من أن يُؤذياني. تقدر على أن تقتلني، ولكنك لن تُؤذيني. أنا مُتقبِّل قدري، ومُتقبِّل مصيري، وراضٍ بموقفي وخياري. إبيكتيتوس Epictetus في السبيل نفسها سار وقال يستطيع الإمبراطور أن يتهددني بالسجن، سأمضي إليه بنفس راضية. يستطيع أن يتوعدني بالمنفى، لن أعول ولن أنتحب. أما إذا هددني بأنه سيفصل رأسي، فهنا سأُقابِله ساخراً وأقول له أنا الرجل الوحيد الذي لا تستطيع أن تفصل رأسه. وطبعاً تستطيع أن تفصل رأسه حسياً، لكن لماذا قال هذا إذن؟ لأن ما في رأسي من حكمة وإيمان ملكي. أنت لا تستطيع أن تتسلط علىّ، لذلك لا تستطيع أن تفصل بينه وبين رأسه، أي بينه وبين مُعتقَده، بينه وبين إيمانه. فهنا سأُقابِله ساخراً وأقول له أنا الرجل الوحيد الذي لا تستطيع أن تفصل رأسه.
سوف تقولون لي عندنا في الأدبيات الإسلامية عشرات الحكايا والقصص التي تسير في المهيع نفسه، وتُقرِّر المعنى نفسه. أي أن العمر والأجل لا يملكه إلا الله، والرزق لا يملكه إلا الله، فمِمَ الخوف؟ هذه العبارة العظيمة أو هاتان العبارتان الكريمتان قابل بهما أكثر من أمام ومن عالم الطواغيت في تاريخنا. قال له لا تقدر على هذا، لا تقدر على أن تهددني ولا أن تخوفني، أنت تخوفني بماذا؟ بالرزق؟ الرزق بيد الله. بقطع الأعناق؟ الأجل مكتوب ومُؤقَّت مُحدَّد، ليس ملكاً لك، ملك لله. في نهاية المطاف أنت أداة بيد القدر، أنت ستار للقدر، ستُلعَن عند الله وسأُرحَم؛ سأُرحَم مقتولا مظلوماً صادعاً بالحق، وتُلعَن قاتلاً غاشماً ظالماً، فقط! هذا هو. أنا وافقت الرحمن، وأنت وافقت الشيطان.
لذلك الحقيقة واحدة، تحكماتنا في انفعالنا يا إخواني أو انفعالاتنا ونظام تفكيرنا الإيجابي، سيُحيل كل شيء في النهاية إلى مسرة وإلى خير وإلى شيء مقبول بوجه من الوجوه.
أختم بمُلاحَظة مُهِمة ذكرها بعض أساتيذ الطب النفسي وعلماء النفس عموماً، قالوا جوهر العلاج المعرفي السلوكي – أي الــ CBT كما يُسمونه، وهذا جوهر العلاج المعرفي السلوكي، ومن ضمن ذلك ما يُعرَف بالعلاج بالمعنى، أي اللوجو ثيرابي Logotherapy – مأخوذ من هذه المفاهيم الرواقية. عجيب! نعم، هذا هو طبعاً. هذه العلاجات في مدارس طب نفسية كبيرة مُهِمة، علاجات نفسية من أروع ما يكون. العلاج بالمعنى أنشأه فيكتور فرانكل Viktor Frankl، فرانكل Frankl وجد نفسه رواقياً دون أن يدري، هذا طبيب أعصاب نمساوي – هو طبيب، وطبيب أعصاب نمساوي -، حدَّثتكم عنه مرة، وقضى سنوات في سجن النازيين، ومات أهله وزوجته وأبواه، هناك حُرِقوا في المحرقة، ولكن وهو في تجربة السجن الحدية، الأشد تطرفاً – في كل لحظة يُمكِن أن تُحرَق، ويُحرَق أوداءك في كل يوم ومَن معك – اكتشف المعنى. في هذه التجربة الحدية يُوجَد معنى للخير، تُوجَد طاقة للنور، يُوجَد مصدر وينبوع للرضا والسعادة، عجيب! وأنشأ مُؤسَّسة كاملة فكرية، مدرسة كاملة في العلاج، سماها مدرسة العلاج بالمعنى، أي اللوجو ثيرابي Logotherapy. وكان رجلاً جميلاً جداً جداً، وأفكاره في مُنتهى الروعة، أي فيكتور فرانكل Viktor Frankl.
هذا – إخواني وأخواتي، كما قلت مرة أُخرى وأختم بهذا – جذره بفضل الله في الأدبيات الدينية، في كتاب الله، في حياة رسول الله، في وصايا رسول الله، في أقواله، في أفعاله، في أدبياتنا الإسلامية الجمة، وخاصة العرفانية. وصيتي ونصيحتي مع كامل مودتي – والله – ولهفتي وأمنيتي، أن تُحاوِلوا أن تتفهموا هذا بقصد أن تُجسدوه عملياً في حياتكم. كفى أن يكون الأمر مُجرَّد اطلاعات وطنطات وكلام، هذا لن ينفع، والله كفى، كفى! أي كفى حتى ما تعيشونه وما عشناه من تعاسة ومن تعثر ومن خيبات، لا نُريد هذا أبداً، اجعلوا ما بقيَ من أعماركم التي قد تطول وتقصر هنا وهناك، اجعلوها قطعةً من الفردوس، فردسوا حياتكم وحياة مَن يتصل بكم، من أزواجكم، من زوجاتكم، من أبنائكم، من إخوانكم، من أصاحبكم، من مرؤوسيكم، ومن رؤساكم، بهذه الفلسفة الحقيقية. والعجيب والجميل أنها تشتغل تماماً، وفي الوقت عينه تُحقِّق رضا الله – تبارك وتعالى -. الله لأنه الخير المُطلَق والمحبة المُطلَقة يُريد لنا أن نكون مُطمئنين هادئين سعيدين. في كل الظروف يُمكِن لنا ذلك، حتى لو كنا مسجونين أو منفيين أو مُعذَّبين أو مرضى أو مُقعَدين. وهذا العجيب، هذا ما أعجب في هذه الفلسفة أو في هذه المنظورات، كل هذا مُمكِن ويحصل دائماً عند مَن أوتيَ نصيبه من الحكمة والنور.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا. أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، وأنت على كل شيء قدير.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 4/10/2019
أضف تعليق