بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.
إخواني وأخواتي:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، الكل يشعر – بالذات في هذه الأيام – أن هناك مُشكِلة أو بالأحرى مشاكل، مشاكل في تدين نفر أو أنفار من المُتديِّنين، ربما كانت هذه المشاكل أو أطراف منها تُلمَس في العقود السابقة، لكنها لم تكن تظهر كما تظهر اليوم بهذه الطريقة الفاقعة الصارخة الخشنة.
مشاكل تُلقي بظلالها على حياتنا الأدبية والفكرية والفنية والسياسية والاجتماعية، في كل مكان يُمكِن – إخواني وأخواتي – أن نرى – ولا أقول نتلمَّس، بل نرى – أصابع لهذا التدين، في هذه المرحلة من الكلام قد يكون من الأفضل ألا نصفه وألا ننتعته، نعته بعض الدُعاة الراشدين كالمرحوم الشيخ محمد الغزّالي بالتدين المغشوش، والتدين المعلول، أي المُعتَل والمريض، بعضهم نعته بالتدين المنقوص، إلى ما هنالك! لكن على كل حال نحن تقريباً مُتفِقون أو أكثرنا مُتفِقون على أن هناك أشياء كثيرة غير صحيحة، غير سليمة، أشياء مقلوبة، تمشي على رأسها بدل أن تمشي على رجلين، اختلالات!
لا نُريد – أحبتي في الله، إخواني وأخواتي – أن نُسهِب في ذكر الأعراض لهذه الاختلالات، وإنما نُريد أن نذهب أبعد بخُطوة أو بخُطوات لكي نتلمَّس الأسباب الحقيقية والأسباب العميقة الجوهرية التي بوقونا عليها يُمكِن أن يضح لنا ويتبيَّن السر الكامن وراء مُعظَم هذه الاختلالات والتداخلات والاشتباهات أيضاً والالتباسات.
أقترح في البداية أن فهماً خاصاً لفكرة أو مبدأ أو نظرية أن الإسلام دين ودنيا، أقترح أن هذا الفهم الخاص – وهو فهم خاطئ من وجهة نظري المُتواضِعة – يقف في رأس الأسباب، الأسباب الواقفة الماثلة خلف هذه الاختلالات، خلف أيضاً وجوه من التعصبات والنزعات الحصرية والنزعات الحزبية أيضاً، خلف بعض الكوارث التي مُنيَ بها عالمنا العربي والإسلامي في العقود الأخيرة وبالذات في أيامنا هذه.
بعض الناس قد ينتفض مُستنكِراً بمُجرَّد أن يسمع هذا الكلام، يا رجل هل تُشكِّك أنت أن الإسلام دين ودنيا؟! في الحقيقة أُسارِع لكي أُطمئن أخي هذا المُعترِض بأنني لا أُشكِّك في هذا، أنا أُصادِق أيضاً وأُوافِق على أن الإسلام دين ودنيا، قطعاً هو دين ودنيا.
ما من دين يا إخواني وأخواتي – ليس الإسلام وحده، وإنما ما من دين – إلا وهو أيضاً دين ودنيا، لأن الأديان مصدرها بلا شك السماء، الأديان السماوية! لكنها لم تأت لأهل السماء، لم تأت لسكان السماء، إنما أتت لأهل الأرض، لعمّار الأرض، فما من دين إلا وهو أيضاً دين ودنيا، لكن ما معنى أن الإسلام دين ودنيا؟ هو هذا، ما هو المدى الذي نذهب إليه في تفسير هذه الجُملة وفي تأويل هذا المبدأ أو هذه النظرية أو هذه الفكرة أو هذه الدعوى أو هذه الأزعومة أو هذا الزعم؟ الإسلام دين ودنيا بأي معنى يا إخواني وأخواتي؟
يبدو أن الذين صاغوا هذه العبارة أرادوا الآتي، وطبعاً ليس هناك آية تقول الإسلام دين ودنيا أو حديث نبوي صحيح يقول الإسلام دين ودنيا، هذه صياغة مشهورة، وكما قلت نحن نُصادِق ونُوافِق عليها، الإسلام دين بمعنى أن فيه الجوانب التي لا يُمكِن أن تُستمَد إلا من الدين، الدين هو الذي يُموِّننا بها، فالعقيدة مثلاً – العقيدة بأقسامها المُختلِفة من إلهيات ونبوات وسمعيات – أين نجدها؟ في الدين، في الإسلام، هذه تُؤخَذ من الدين بلا شك، فهو دين بهذا المعنى، يتوفَّر على نظام اعتقاد كما يُقال، على نظام اعتقاد! على عقيدة ورؤية كونية مُتكامِلة، هذا من الدين، ولا يُمكِن أن نجده إلا في الدين.
أيضاً الجانب العبادي، هذا لا يُطلَب إلا من الدين، ولا يُصاب إلا في الدين، لا يُطلَب إلا من الدين، ولا يُصاب إلا في نصوص الدين وأحكامه، جميل! أيضاً الدين تدخَّل في المُعامَلات، ثمة نصوص كثيرة يا إخواني وأخواتي – كثيرة نسبياً – تُنظِّم مُعامَلات كثيرة مما يقع بين البشر، سواء في الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوابع ذلك ومن ميراث – إخواني وأخواتي -، أيضاً هناك البيوع والتبادلات والمُعامَلات على اختلافها، الإسلام أتى بنصوص في هذه الشؤون بلا شك، أتى بمبادئ عامة في السياسة، إدارة الشأن العام، مبادئ عامة! ليس في الإسلام نظرية مُفصَّلة ولا نظرية جاهزة ناجزة في هذا الباب، ومن هنا الاختلاف الشاسع الواسع في هذه المسائل، النظرية السياسية الإسلامية! لا تُوجَد نظرية سياسية إسلامية مُتكامِلة، تُوجَد اجتهادات – إخواني وأخواتي -، اجتهادات يختلف بعضها مع بعض، ولكن هناك مبادئ عامة، هناك مبادئ عامة تقريباً الكل يُوافِق عليها، وإذا فتشنا هذه المبادئ واختبرناها وجدنا أنها مبادئ في الجُملة – إخواني وأخواتي – يُوافِق عليها البشر من حيث هم بشر، كالعدل – مثلاً – والحرية والمُساواة والشورى، والآن نحن نُعبِّر عن الشورى بطريق آخر، كالديمقراطية، الاستشارة، عدم الاستبداد بالحُكم، عدم الاستبداد بالرأي، والتعايش أيضاً، التعايش بين مُكوِّنات المُجتمَع المُختلِفة، هذه مبادئ أتت بها الشريعة الإسلامية السمحة، وتقريباً ما من أحد يُخالِف فيها كمبادئ، وصحيح في التفاصيل تكمن أشياء كثيرة، يقع حول بعضها الاختلاف، يقع حول بعضها اختلاف كثير أو قليل.
إلى هذه الدرجة أعتقد أننا مُتفِقون، لم نختلف، ولا ينبغي أن نختلف على شيئ، لكن تعلمون متى يبدأ الخلاف؟ ومتى يبدأ الانكسار لتبدأ معه المشاكل، بل سلاسل المشاكل؟ حين يُظَن انطلاقاً من وتأسيساً على أن مبدأ الإسلام دين ودنيا، يُظَن أن الدنيا كلها دين، وهذا غير صحيح، هذا غير صحيح! هذا استنباط واستلال فاشل تماماً.
لكي أُوضِّح لكم هذه المسألة أقول الآتي، فرق كبير بين أن نقول الإسلام دين ونيا وبين أن نقول الدنيا كلها إذن دين، ولابد أن يبسط الدين سُلطانه عليها كلها، ولا يُمكِن أن نفهم الدنيا ولا أن نُقارِب مشاكلها ومشاغلها وهمومها إلا من خلال عدسة الدين، من خلال زاوية دينية، من خلال منظور ديني، ومن خلال مُقارَبة دينية نصوصية أو أفهام في النصوص، النصوص الرئيسة – كما يُقال – المُؤسِّسة، والنصوص الهامشية الحافة، مثل قال فلان وقال علان، سواء من الصحابة أو من أئمة الدين على اختلافهم، لا! فرق كبير، هنا يحدث – إخواني وأخواتي – الانكسار، وهذا الذي كرثنا في العقود الأخيرة لكونه ليس واضحاً بالقدر الكافي للشباب المُسلِم وللشابات وللحركات الإسلامية، خاصة حركات الإسلام السياسي، وهي مُستفيدة من هذا، حركات الإسلام السياسي تُؤكِّد تماماً دائماً بألف صيغة وصيغة أن الإسلام دين ودنيا، نعم الإسلام دين ودنيا، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الدنيا كلها دين، بدليل أن الناس كانوا ولا يزالون في كل أين وآن وفي كل عصر ومصر كما يُقال يتدبَّرون أمور دنياهم وهي كثيرة جداً جداً، أمور الدنيا أكثر من أمور الدين، أمور الدنيا مفتوحة ومُتطوِّرة مُتقلِّبة مُتناسِخة مُتغيِّرة، أكثر بكثير من أمور الدين، الناس كانوا ولا يزالون يتدبَّرون شؤون وأمور دنياهم، سواء مع الدين وبالدين، أو بغير الدين، أو بغير التدخل المُباشِر على الأقل للدين.
وكما قال إمامنا أبو إسحاق الشاطبي – الإمام الجليل والعقلية المقاصدية الفذة، هذا الرجل يُستنجَد به في مثل هذه الأمور، قال رحمة الله تعالى عليه الآتي – والناس في العموم وفي الجُملة لا يتعارفون إلا مصالحهم، البشر يعرفون مصالحهم يا إخواني، أي لا يحتاجون في كل شيئ إلى نص ديني حتى يعلموا أن هذا يُفعَل وهذا لا يُفعَل وهذا ينبغي أن يُفعَل وهذا ينبغي أن يُجتَنب، لا يحتاجون إلى نصوص دينية في كل شيئ، ولذلك هناك مُجتمَعات ليس عندها دين، على الأقل دين سماوي، أو كان لديها دين ونسخته، أو ضربت عنه الذكر صفحاً، أو أدارت له ظهرها واتخذته كالشريعة المنسوخة، لكنها تتدبَّر شؤونها بشكل جيد.
وهناك مُجتمَعات الآن حديثة ومُجتمَعات مُعاصِرة – نُعاصِرها نحن، في نفس العصر يا إخواني – تتدبَّر مُعظَم شؤونها الدنيوية بطريقة أحسن بكثير مما يفعل المُسلِمون، وحتى مما يفعل بعض المُسلِمين باسم الإسلام وباسم شرائع الإسلام للأسف الشديد ويزعمون أن هذا هو الإسلام.
حتى لا أكون مُبالِغاً أو مُتحامِلاً يا إخواني – وأنا من هذه القبيلة كما يُقال، أنا مُسلِم بفضل الله تبارك وتعالى، وأسأل الله أن يُحييني وأن يُميتني وإياكم على الإسلام وعقيدة الحق والتوحيد – أقول الآتي.
إخواني وأخواتي:
بعض المُسلِمين من جماعات الإسلام السياسي إلى الآن يُنادون بقوة وبصرام ضد تحديد مُدة حاكم الأمة، هم مُصمِّمون كما يُقال، مُصمِّمون ومُصِرون على أن الإسلام يحظر تحديد مُدة حاكم الأمة، والحاكم هنا بمعنى الرئيس أو الملك أو السُلطان أو الخليفة، أي الإمام، الإمام يا إخواني يُختار لمرة واحدة، ويبقى إماماً، لا يُعزَل إلا في ظروف خاصة جداً، لكن الأصل فيه ألا يُعزَل، مَن قال هذا؟! أين هذا في الكتاب؟ وأين هذا في السُنة؟
طبعاً حين يسمع هذا أي إنسان يعيش في العصر الحديث وعنده فكرة عن الكيفية التي تُدار بها شؤون الأمم العامة – أي كيف يتم تدبر الشأن السياسي كما يُقال – يعلم أن هذه الفكرة في مُنتهى العبط، فكرة عبيطة جداً جداً، كون هناك تجربة تاريخية للمُسلِمين وأن أبا بكر هكذا حكم وعمر وعثمان وعليّاً لا يعني أن هذا أًصبح دليلاً، التجارب التاريخية والسوابق التاريخية لا تُشكِّل دليلاً، ليست بحد ذاته تُشكِّل دليلاً، هذه تجارب، وقد تكون صحيحة في ظروفها، وقد كان يُمكِن أن يكون أصح وأفضل لو أنهم قيَّدوا المُدة وتم الانتخاب مرة ومرة ومرة، وربما ينجح وربما لا ينجح، مثلاً! فالسوابق التاريخية بحد ذاتها ليست من أدلة الشرع، هل في أدلة الشرع أن السوابق التاريخية لها حُجية – مثلاً -؟ وطبعاً هؤلاء يُمكِن ان يُناقِشوا وأن يُجادِلوا أيضاً في هذه المسائل، لكن على كل حال هذه طريقتهم في التفكير.
أرجع لكي أقول الإسلام دين ودنيا لا يعني أن الدنيا كلها دين قولاً واحداً، الواقع يُؤكِّد أن الدنيا ليست كلها ديناً، وسأضرب أمثلة على هذا، لكن سأضرب لكم مثالاً مُوحياً وله أهمية خاصة تتعلَّق بمحنة إمام جليل، وهو الإمام أبو حاتم بن حبان البُستي – رحمة الله تعالى عليه -، هذا صاحب الصحيح، يقولون لكم هناك صحيح ابن حبان، المُسمى بالأنواع والتقاسيم، إمام جليل، كان نادر المثال في عصره – رحمة الله تعالى عليه -، هذا الإمام نُسِب إلى أشياء فظيعة وعظيمة، واتُهِم في دينه، اتُهِم بالزندقة، أنه زنديق!
شيخ الإسلام وإمام المُحدِّثين يُتهَم بالزندقة، لماذا؟ لأنه فاه مرةً بعبارة قال فيها النبوة علم وعمل، النبوة علم وعمل! ففهم منها خصومه أو حاسدوه أو شانئوه ومُبغِضوه أنه يقول أو كأنه يقول إذن العمل – كل عمل – إذا انضاف إلى علم فهو نبوة، فهموها في الاتجاهين، إذن يُمكِن أن يكون أحد الناس – أنا أو أنت – إذا توفَّر على علم وقام بمُوجِب هذا العمل – أي عمل به – أن يُصبِح نبياً، والرجل ما قال هذا، الرجل يُعرِّف النبوة، يقول النبوة علم وعمل، وهذا لا يعني أن كل عمل وعلم يصير نبوة، هذا خطأ في التفكير، وواضح أنه خطأ للأسف الشديد، هم فهموا انحصار هذا في هذا.
فإذا قلنا الإسلام دين ودنيا هذا لا يعني أن الدنيا كلها دين، وطبعاً نحن فهمنا ما معنى الإسلام دين ودنيا، فعلاً بعض النصوص الشرعية وبعض التشريعات الإلهية جاءت لتُنظِّم شؤوناً دنيوية، هذا الكلام صحيح، لكن هذا لا يعني أن الدنيا كلها دين، بمعنى أن شيئاً أو أمراً دنيوياً لا يُفهَم إلا عبر عدسة الدين، لا يُمكِن أن يُقارَب إلا عبر منظور الدين، لا يُمكِن أن يُحدَّد ويُفصَل فيه إلا بنص دين، أبداً أبداً! هذا موضوع مُختلِف تماماً.
وقد يُقال لي نحن أيضاً مُتفِقون على هذا، في الحقيقة قد نتفق نظرياً، لكن عملياً للأسف الشديد هناك أنفار من المُتديِّنين وطوائف من المُتديِّنين يسلكون وفق الفهم الخاطئ، على أن فعلاً الدنيا تقريباً كلها لابد أن تكون ديناً وأن يبسط الدين سُلطانه عليها في كل شيئ، في الأدب والفن والشعر والعلوم والفلسفات والأفكار والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة من حيث أتت، في كل شيئ! ولذلك يا إخواني نحن بُلينا بهؤلاء من ذوي النزعة الهيمنية الاستحواذية، يُحِبون أن يستحوذوا على كل شيئ، وأن يُوجَدوا، وأن يكون لهم حضور ومثول وظهور ومقام يتكلَّمون فيه في كل شيئ، مع أنهم يتكلَّمون في شؤون ببساطة واضح أنها ليست من شؤون الدين، فالشعر والأدب – مثلاً – ليسا ديناً، الشعر والأدب ليسا ديناً، لكن هؤلاء – مثلاً – في العقود الأخيرة أثاروا أكثر من مُشكِلة بسبب أن فلاناً كتب قصيدة قال فيها كذا وكذا، بسبب أن توفيق كتب كلاماً ومقالاً كأنه يُخاطِب الله – تبارك وتعالى -، وهذا شيئ طبيعي جداً، أي هناك مئات الأمثال لعلماء وعرفاء وصوفية ومُتألِّهين يُخاطِبون الله، وقال لكم هناك المواقف والمُخاطَبات، وقلت لله وقال لي كذا، وهذا ليس معناه أنه اتصل بالله اتصالاً حقيقياً أبداً، هذا مفهوم، ومفهوم فيه وجه المجاز يا إخواني، لكن أقاموا الدنيا ولم يُقعِدوها على توفيق الحكيم – مثلاً -.
ولن أضرب أمثلة، معروفة الأمثلة طبعاً، معروفة الأمثلة! لكن أين موقف أو مواقف هؤلاء من موقف – مثلاً – القاضي الجرجاني – رحمة الله تعالى عليه -؟ صاحب الوساطة بين المُتنبي وخصومه، الكتاب الكبير المُهِم الماتع، الوساطة بين المُتنبي وخصومه القاضي الجرجاني كان يُدافِع عن موقف المُتنبي إزاء جماعات من الناس طعنوا وغمزوا قناة دينه، اتهموا المُتنبي في دينه، كأنه كافر أو كأنه زنديق يتستر – والعياذ بالله -، لماذا؟ لأنه قال كذا وكذا، قال لهم إذا كان كذلك فهناك أبيات للحسن بن هانئ (أبي نواس) أفحش في هذه المعاني من أبيات المُتنبي، وأتى ببعضها، أتى القاضي الجرجاني ببعض هذه الأبيات، وقال لهم إذن كفِّروا أيضاً أبا نواس كما كفَّرتم المُتنبي، وهناك غير أبي نوس، وتكلَّم بكلام جيد وموزون، ثم قال – رحمة الله تعالى عليه – والشعر بمعزل عن الدين، الشعر بمعزل عن الدين! الشعر هذا فن آخر، وليس لازماً نُقيِّمه نحن دائماً بمعايير دينية بحت، هذا أدب، هذا أدب وهذا فن، ولابد أن يأخذ الأديب والفنّان فُسحة من الحرية الزائدة يا إخواني، وطبعاً بالحري أن الناس لا يستمدون عقائدهم ولا أفكارهم في الدين من الشعراء والفنّانين – مثلاً -، يعلمون أن هذا شعر وفن، لكن في القضايا الدينية يُستفتى أهل الدين، هناك العلماء المُتخصِّصون – مثلاً -، هم لا يحتملون هذا، فمنطق الجرجاني هذا أصلاً لا يقبلونه، يقولون أصلاً هو – أي الجرجاني – ليس حُجة، وهو مُخطئ فيما قال، أرادوا أن يُضيِّقوا كل شيئ!
ومثل الجرجاني أيضاً الثعالبي في الخريدة، الثعالبي في الخريدة له كلام مُشابِه جداً وقوي أيضاً ومُباشِر مثل كلام الجرجاني، شأن الدين شيئ وشأن الأدب والفن شأن آخر، جميل أن الشيخ ابن عاشور – علّامة الإسلام، المُفسِّر النحرير، صاحب التحرير والتنوير، شيخ الإسلام في تونس – هو الذي حقَّق وجمع، جمع وحقَّق ديوان بشار بن بُرد في مُجلَّدات، ثلاث مُجلَّدات كبيرة يا إخواني أو أربع في بعض الطبعات، الشيخ ابن عاشور – رحمة الله تعالى عليه – فعل هذا، ومعروف بشار طبعاً، بشار له صولات وجولات، وله إسفاف وابتذال في شؤون أخلاقية مما يتعلَّق بالنساء والجواري، وله أبيات أيضاً مأخوذة عليه في الجانب العقدي، صرَّح فيها بأشياء مُنكَرة جداً، وتصدى الشيخ ابن عاشور ليُدافِع عنه بأكثر أيضاً من وجة نظر ومن أكثر من زاوية، وهو الذي جمع ديوانه، لماذا يشتغل شيخ من شيوخ الإسلام وهو مُفسِّر على هذا؟ لأنه شيخ علّامة، هذا إمام، هذا ليس كأمثال هؤلاء للأسف الشديد، فيبدو أن أكثر المُتديِّنين المُعاصِرين يا إخواني لا يمتحون من معين الأئمة الكبار للأسف الشديد، هم يتتلمذون على كُتب إسلامية ثقافية، كُتب الدكتور فلان والشيخ فلان والشهيد فلان والداعية فلان، وفقط! لا يعرفون تراثهم معرفة عميقة ومعرفة راسخة مُحترَمة، لا يعرفون أيضاً إنتاج المُعاصِرين الكبار والمُحدَثين، أمثال الشيخ ابن عاشور والبشير الإبراهيمي والإمام محمد عبده والإمام محمد رشيد رضا والشيخ شلتوت والشيخ المراغي والشيخ الظواهري والشيخ محمد المدني، مئات مئات من العلماء والمُجتهِدين – رحمة الله تعالى على الجميع، ونفع الله بالجميع -، ولكن يعرفون هذه الكُتب السريعة والمُحاضَرات والمجلات الإسلامية وقبل سنوات كانوا يعرفون الكاسيتات Cassettes، للأسف! ثم يرون أنهم يا إخواني مسؤولون مسئولية تامة وكاملة عن المُجتمَع، عن السياسة في المُجتمَع، عن الاقتصاد، عن الاجتماع، وعن الأدب والفنون والشعر، عن كل شيئ! وضيَّقوا على الناس حياتهم، وليس هكذا الدين! لماذا؟ لأنهم فهموا – إخواني وأخواتي – أن الدنيا كلها ينبغي أن تكون ديناً، وأن يستحوذ عليها الدين والخطاب الديني والحُكم الديني والمنظور الديني، وهذا خطأ.
إذن أين يذهبون بقول الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنتم أعلم بأمور دنياكم؟ النبي يقول هذا، يقول لست أنا الأعلم بأمور الدنيا، في أمور الدنيا – أمور الزراعة والصناعة والنجارة والحدادة، وحتى أمور العسكرية وربما السياسة أيضاً – قد يُوجَد مَن هو أبرع مني، في معركة بدر – نحن كنا صغاراً وكنا نسمع هذه القصة ونعرفها – النبي استشار أصحابه في المنزل الذي نزله، وتعرفون ماذا أشار الحُباب بن المُنذِر – الصحابي الأنصاري الشاعر الفارس – بعد أن سأله عن أن هذا وحي أم لا، والنبي قال له هذا ليس بوحي، هذا حرب وخُدعة ومكيدة، تدبير عسكري مني، قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، إلى آخر الحديث! ونزل النبي على رأي الحُباب بن المُنذِر، لأن هذه قضية دنيوية، قضية دنيوية قد يعرف فيها الحُباب وغير الحُباب أحسن مما يعرف رسول الله، وليس في هذا منقصة لرسول الله، لا من طرف قصي ولا من طرف دني يا إخواني أبداً، هذه الحقيقة! لأن الله – تبارك وتعالى – ما بعث ولا كان من مقصوده أو مقاصد بعثة الأنبياء أن يُعلِّموا الناس – أعني الأنبياء – شؤون السياسة والعسكرة والصناعة والزراعة أبداً، وإنما الأنبياء مُرسَلون ومبعوثون ليُعلِّموا الناس الهداية إلى مراضي الله – تبارك وتعالى – والابتعاد عن مساخطه، أما شؤون الدنيا فالأمر فيها واسع، وهي موكولة إلى أرباب الاختصاص وإلى ذوي الاختصاص.
أيضاً في شؤون سياسية حدث مثل هذا، في معركة الخندق أو الأحزاب النبي فاوض مُفاوَضة فقط بعض زعماء غطفان وفزارة، وتكلَّم معهم، قال لهم لو أعطيناكم ثُلث ثمار المدينة تنصرفون وتتركوننا؟ قالوا نعم، بعد ذلك لابد أن يستشير النبي، وهذا من أدبه، ومن حُسن أيضاً تأتيه وسياسته للأمور، استشار سيدي الأنصار، الأوس والخزرج، وهما سعد بن عُبادة وسعد بن مُعاذ، قال أنا فاوضت مُجرَّد مُفاوَضة، لم يكن هناك عزيمة ولا كتاب، فاوضت الجماعة على كذا وكذا، قالا يا رسول الله هل هذا أمر أُمِرت به – أي الله أمرك به -، أم أمر تصنعه لنا، أم أمر تُحِبه أنت؟ قال لا، بل أمر أصنعه لكم، أنا رأيت الناس قد تألَّبوا عليكم، ورموكم عن قوس واحدة، أي كلهم اجتمعوا ضدكم، فأحببت أن أكسر من حدتهم وأن أُخفِّف عنكم، فقالا يا رسول الله لا حاجة لنا بهذا، والله لا نُعطيهم شيئاً، ونحن في الجاهلية لم نكن نُعطيهم شيئاً إلا بالكراء أو بالثمن، نُعطيهم الآن وقد أعزنا الله بك وبالإسلام؟! لا والله، فليجهدوا جهدهم، ليس لهم إلا السيف، فقال أنتما وذاك، أي أنتما وما اخترتما، النبي هنا يستشير في شأن سياسي، مع أنه إمام الأمة والقائد الأعلى يا إخواني، هكذا كان النبي، ولكن هذه شؤون تهم هؤلاء، والسعدان سيدا المدينة أيضاً، سيدا الأوس والخزرج، فكيف هذا؟ إذن هذا معنى أنتم أعلم بأمور دنياكم.
أيضاً النبي كان يتطبب، كان يعتل كثيراً النبي، كان يُوجَع كثيراً، وهذا أعظم في أجره كما في الحديث المشهور، وسأل عُروة بن الزُبير عائشة – رضوان الله تعالى عليها – عن هذا، فعُروة بن الزُبير خالته عائشة، أخت أسماء، لأن الزُبير مُتزوِّج أسماء، وهذه خالته، فسأل خالته من أين لك العلم بالطب؟ النجوم مفروغ منها، تعرف الفلك – ما شاء الله -، وتعرف الشعر، وتعرف الدين، فلا يُشَق لها غبار، قال وحتى في الطب تعرفين؟ سيدة ذكية جداً، هكذا كانت أم المُؤمِنين، وكانت عالمة، سألها من أين لكِ العلم بالطب؟ قالت من كثرة ما كان الأطباء يأتون إلى رسول الله، يُوصَفون له، النبي كان يعتل كثيراً ويستوصف، مَن أحسن طبيب؟ مَن أبرع طبيب؟ ومَن أحذق طبيب؟ فيُقال له هناك طبيب في المنطقة الفلانية أو طبيب في البلد الفلاني، فالنبي يبعث في أثره، ويأتي الطبيب يُطبِّب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
طبعاً انظروا إلى هذا الكلام – كلامي هذا الآن – وهذا الأثر عن عائشة، سيُزعِج جداً أيما إزعاج الذين فتحوا دكاكين باسم الطب النبوي والصيدلية النبوية والصيدلة النبوية والطب القرآني ومائدة المُسلِم من الكتاب والسُنة، فضلاً عن البرامج والأشياء الأُخرى، شيئ غريب جداً، هذه والله دكاكين يا إخواني، شيئ لا يُصدَّق، قال لكم أحدهم هناك طبيب قرآني وبعد ذلك هناك صيدلي قرآني، هناك طب قرآني وهناك صيدلة قرآنية، ففعلاً شر الأمور هذه المُضحِكات المُبكيات.
كونوا معنا أحبتي في الله بعد هذا الفاصل.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.
إذن – إخواني وأخواتي – الصيدلية القرآنية والطب القرآني، هذا طبعاً يُذكِّرنا بموضوع الإعجاز العلمي أيضاً، إعجاز علمي في الفلك وفي الفيزياء وفي الكيمياء وفي الجيولوجيا Geology وفي الجيوفيزيكس Geophysics – أي فيزياء الأرض – وفي الطب وفي الفسيولوجيا Physiology وفي كل شيئ، وللأسف هذا جعلنا في نظر بعض أبنائنا وبعض إخواننا فضلاً عن الآخرين، جعلنا بموضع تندر وسخرية، والكل دائماً يجبهنا بهذا السؤال: جميل جداً، إذا هذا القرآن والسُنة تحتوي على كل هذه الحقائق العلمية المُختلِفة في شتى التخصصات والميادين فلِمَ لَمْ تُفلِحوا مرة واحدة في اكتشاف نظرية على خلفية قرآنية؟ أرونا يا أخي هذا، اكتشفوا نظرية واحدة يعترف بها العالم ويدين لكم بفضل اكتشافها على خلفية قرآنية، نحن نُؤيِّد هذا، ونحن نطلب هذا، هذا شيئ مُحترَم جداً يا إخواني، ولكن هذا عمل – وأنا أعرف هذا – يحتاج إلى مسألتين، وهما مسألتان بلا شك شاقتان مُتعِبتان.
المسألة الأولى فهم ذكي جداً، فيه استنارة، فيه تفتح، وفيه فتح إلهي في الكتاب والسُنة، والمسألة الثانية توسع واختصاص حقيقي في مجال علمي بعينه، لنفترض في الفيزياء – مثلاً – أو في الفلك أو في علم وظائف الأعضاء أو في أي شيئ، توسع حقيقي، بحيث يكون أستاذاً كبيراً، يُمكِن بعد ذلك إذا الله – عز وجل – فتح عليه على خلفية قرآنية أن يكتشف لنا نظرية جديدة في تخصصه، يبنيها بناءً علمياً، ويُثبِتها أو يُبرهِنها بالطريقة العلمية أيضاً، ويُعترَف بها عالمياً، وإذا سُئل فسيُجيب هذا المُسلِم ويقول هذا بسبب تأملي في كتاب الله – عز وجل -، وعلى فكرة مُعظَم العلماء يقول لك ما الذي ألهمه النظرية التي اكتشفها – مثلاً -، أحياناً يُلهِمه حديث بسيط جداً جداً في مقهى أو مع ابنته الصغيرة أو مع ابنه أو في القطار أو منظر رآه في الطبيعة، وهناك وقائع حقيقية لكبار العلماء والمُكتشِفين، فسيُجيب هذا المُسلِم ويقول هذا بسبب تأملي في كتاب الله – عز وجل -، أنا تأمَّلت في القرآن – مثلاً -، وهذه الآية هي التي أعطتني شرارة هذا الاكتشاف أو قدحت الشرارة، هذا شيئ جميل ومطلوب، لكننا نأتي دائماً كالعالة على الآخرين، العالم يتعب ويدرس ويُنجِز، ثم نأتي نقول نحن سبقناكم وهذا موجود عندنا، وطبعاً بضروب من التأويل، أي أكثر هذه الأشياء… (ملحوظة هامة) للأسف انقطع الصوت وكذا الصورة، ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه مع قول فضيلته: وجيدة، ولكن أكثر هذه الأشياء بضروب من التأويل والالتواء، لماذا؟ لأن الإسلام دين ودنيا، الإسلام كل شيئ، كل الصيد في جوف الفرا، ليس مطلوباً! ليس مطلوباً من الإسلام أن يكون فيه كل شيئ ولا أن يتوفَّر على السبق إلى حقائق علمية في شؤون مُختلِفة، ليس مطلوباً منه! هذا ليس من رسالة الإسلام، وينبغي أن يكون هذا واضحاً أمامنا.
لكن في المُقابِل – إخواني وأخواتي – يُؤلِمني أن أذكر هذه الحقيقة، وهذه الحقيقة واقعية، نحن نُمارِس هذه الأشياء ونتكلَّم باسم أن الإسلام دين ودنيا وأنه مُستحوِذ، ونتكلَّم عن الإعجاز العلمي في الكتاب والسُنة، لكن – سُبحان الله العظيم – لدينا زُهد وبُعد حقيقي عن العلوم والتوسع فيها وطلبها أيضاً من مظانها والتعمق فيها وتعشقها، لا نفعل هذا! أي إنتاج الإسلاميين يا إخواني ضعيف جداً جداً في هذه المجالات، لو أخذنا الترجمة سنجد هذا، ونحن الآن – مثلاً – نحتاج إلى الترجمة، حاجتنا حاقة وماسة إلى الترجمة، لأن الإنسان يبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأنا طرحت هذا من قبل، ما هي نسبة إسهام الإسلاميين وهم بالملايين في الترجمة – مثلاً -؟ كم ترجموا من الكُتب العلمية والفكرية والفلسفية والأدبية والتاريخية؟ لا تُوجَد نسبة، صفر في المائة تقريباً، صفر في المائة! هم بالملايين، ومقدار ما ترجموه ربما يكون فقط بالمئات، لكن غير الإسلاميين – أي مَن نُسميهم علمانيين وليبراليين ويساريين وملاحدة أو مُسلِمين عاديين غير مُنتَمين – ترجموا عشرات ألوف الكُتب، ماذا نفعل نحن؟ يُوجَد شيئ غير طبيعي!
طبعاً الاعتقاد بأن الإسلام دين ودنيا وأن الدنيا كلها في بطن الدين هذا بلا شك يا إخواني يُكيِّف سلوكنا وتفكيرنا تكييفاً سيئاً، لا نغدو نشعر أننا مُحتاجون إلى ما عند الآخرين، لماذا نقرأ الفكر والفلسفات والعلوم والمذاهب والنظريات ونُصدِّع أدمغتنا؟ الدين فيه كل شيئ، الإسلام يكفينا، ومن هنا ظللنا يا إخواني للأسف نتوفَّر على مُستوى بسيط وضحل من الثقافة والفهم، وعلى منظور تبسيطي حتى للمسائل، منظور تبسيطي للمسائل! منظور غير علمي، المنظورات العلمية دائماً مُركَّبة ومُعقَّدة، لكن منظورنا هذا الديني أو التديني منظور بسيط وواحدي، فإذا تكلَّمت – مثلاً – عن أزمة اقتصادية يُمكِن أن يأتيك شيخ عمره خمسون أو ستون سنة وطيلة حياته في الدعوة والوعظ لكي يقول لك وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم ۩، يقول هذا هو السبب، فهل هذا هو السبب؟ فلماذا الغرب هذا مفتوح عليه من الخيرات؟ وفي نظرك هو غير مُؤمِن، هو غرب كافر ومادي ومُلحِد، الله فاتح عليهم من الخيرات الشيئ الكثير جداً جداً؟ هل لأنهم آمنوا واتقوا إذن؟ ليس هكذا الأمور تُفهَم، أي هو تفكير خطي وتفكير بسيط يا إخواني.
ومن هنا أيضاً كراهتهم وعداوتهم للفلسفة تقريباً، يقولون لكم إنهم لا يُحِبون الفلسفة، المُتديِّنون عموماً لا يُحِبون الفلسفة، ويرونها أخت الزندقة، هي والمنطق، الآن يُعادِلونها بالسفسطة، يقول لكم أحدهم هذا يتفلسف، هذا ليس عالماً دينياً، هذا مُتفلسِف، كأن الفيلسوف عندهم هو السفسطائي، وليس كأن الفيلسوف هو الرجل مُركَّب التفكير، الذي يُفكِّر تفكيراً مُركَّباً، يُداوِر الحقيقة، يُحاوِل أن يرى الوجوه السبعة لها وربما السبعين للحقيقة، هم ليسوا كذلك، عندهم الحقيقة ليس لها وجوه، الحقيقة لها وجه واحد فقط، وليس لها وجوه، وهذا الوجه يعلمونه وهم صغار، حين قرأوا بعض الآيات وبعض الأحاديث هم عرفوا الحقيقة الناجزة التامة، وفعلاً تقريباً خطابهم لا يتغيَّر بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، نفس الخطاب، نفس الكُتب، ونفس الطريقة في التفكير، شيئ يُثير يا إخواني تساؤلات كثيرة، يُثير تساؤلات حقيقية، لا يُمكِن هذا، الإنسان بطبيعته يتطوَّر يا إخواني ويتغيَّر ويتبدَّل ويتناسخ، الإنسان ينضج، الإنسان ينضج فكرياً وعاطفياً ونفسياً وعقلياً وفلسفياً، لابد أن ينضج، هؤلاء ليسوا كذلك، خاطبهم في العشرين كخطاب الواحد منهم وهو في الخمسين أو في الستين، وتقريباً لا يتغيَّر شيئ.
أنا أخاف – أنا شخصياً أخاف – من الإنسان الذي أجده في كل مرة في المكان نفسه وأعرف دائماً أين أجده، مهما اختلفت الظروف والشروط والأحوال أعرف أين أجده، في نفس المكان! هذا مُخيف، هذا الإنسان مُخيف، هذا الإنسان المُتخندِق يا إخواني، المُتخندِق معرفياً وعلمياً وأيديولوجياً، إنسان مُخيف جداً جداً، هذا صاحب نزعة حصرية ونزعة أيضاً استحوذاية، نزعة حصرية وبالتالي أيضاً هي نزعة استحوذاية.
طبعاً أيضاً بحُكم هذه النزعة الاستحواذية مارسوا ويُمارِسون للأسف الشديد التفتيش، قد يقول لي أحدكم هذا يُذكِّرنا بمحاكم التفتيش، وهو شيئ قريب من هذا، دونه لكنه قريب منه، التفتيش على أفكار الآخرين وعلى عقائد الدين، فسُبحان الله كثير من هؤلاء يا إخواني وأخواتي يقرأ – نفترض – لكبار المُفكِّرين وكبار الأدباء والعلماء، لا ليستفيد، ولا ليتعلَّم ويلتذ، لأن هؤلاء عندهم الأشياء الكثيرة المُفيدة يا إخواني، حين تقرأ – مثلاً – لعباس العقاد تجد أن عنده أشياء كثيرة جداً مُفيدة، هذا عملاق كبير وموسوعة، موسوعة في شكل إنسان، هو يقرأ للعقاد، وطبعاً لا يقرأ لكي يطلب منه جديداً، هو يقرأه فقط لكي ينقده أو ينقضه، يُثبِت لك أن العقاد أخطأ، العقاد كان يُخفي أشياء مُعيَّنة، العقاد عنده شوائب من الفكر الكذائي، فالعقاد أخطأ في موضع أو في موضعين أو في عشرة مواضع، فالعقاد تقريباً لابد أن نضعه في خانة الأقزام وليس في خانة العمالقة، عجيب! شيئ لا يكاد يُصدَّق، العقاد غير مأمون على الإسلام، مُصطفى محمود – رحمة الله عليه – لا ننصح بقراءته، عنده شوائب ماركسية، شوائب! هكذا يقولون لك، لماذا؟ لأنه ذكر مرة في كتاب له الآتي، قال كذا وكذا وكذا، هذا لا يُوافَق عليه ولا يمر، إذن انتهى الأمر، الرجل كله لابد أن يُوضَع في خانة الاتهام، وكذلك زكي نجيب محمود، أف! هذا قريب من الزنادقة، لأن الرجل ألَّف قبل سبعين سنة كتاباً اسمه خُرافة الميتافيزيقا، إذن فالرجل يتهم الغيب والأديان بأنها خُرافية، إذن هو زنديق، انتهى زكي نجيب محمود، لا يُستفاد منه بشيئ، وهكذا وهكذا!
طبعاً هذه النزعة يا إخواني تفتيشية، يقرأون ليُفتِّشون، ويكتبون ويُحرِّضون، المُصيبة أننا بعد ذلك سنجد بعض الشباب لا يعرف عن مُصطفى محمود إلا هذه الكلمات، لا يعرف عن العقاد إلا هذه المُؤاخَذات، ولا يعرف عن نجيب محفوظ – الأديب الكبير – إلا هذه المُلاحَظات أيضاً، وبعد ذلك هذا قد ينجر بأحدهم إلى أن يقتل نجيب محفوظ، وحاول بعضهم أن يقتله، لكن الحمد لله أفلت الرجل، ولما سُئل لماذا؟ قال لأنه كافر، الرجل كافر، قيل له كافر لماذا؟ قال لأن عنده أولاد حارتنا، قيل له فهل أنت قرأتها؟ قال لم أقرأها، ليس عندي وقت لكي أقرأها، ليس عنده وقت! عنده وقت لكي يقتل، وليس عنده وقت لكي يقرأ، شيئ غريب! فكيف أنت تُقدِم على قتل رجل هامة وهرم – هرم أدبي – مثل نجيب محفوظ – رحمة الله عليه – وأنت لم تقرأ كتابه؟! قالوا له! هم قالوا له، قيل له إنه كافر، وهذه مسألة أُخرى أيضاً يا إخواني، مسألة خطيرة جداً في هذا التدين الذي نُعاصِره.
هذا التدين كما يُلغي العقل ولو نسبياً يُلغي الضمير أيضاً، هل ضميرك يرتاح ويُمكِن أن يُطاوِعك وأن يُواتيك على أن تقتل إنساناً مُحرَّم الدم ومعصوم الدم بقول أحدهم؟! أحدهم قال لك إنه كافر ويستحق القتل، فهل أنت تقتله؟ تماماً كما قُتِل فرج فودة – رحمة الله عليه – أيضاً، العلماني! قال لك هذا علماني، فما معنى أنه علماني؟ هل هو زنديق وكافر؟ يقول دعوا الدين في جانب ودعوا شؤون الحُكم في جانب، ليس لازماً أن يتدخَّل رجال الدين وعلماء الدين في شؤون السياسة، يُمكِن أن تكون مُتديِّناً وتُمارِس السياسة، ليس عندي مُشكِلة، عادي! ويُمكِن أن تصير رئيس دولة أيضاً، لا تُوجَد مُشكِلة، لكن لا تُدخِل الدين كدين بخصوصياته في الشأن السياسي مُباشَرةً هكذا وتُديِّن السياسة دائماً والذي يكون معنا فهو – ما شاء الله – مرضي والذي يكون ضدنا يُوجَد شك في إيمانه، وتبدأ تستغل الناس بهذه الطريقة الفجة الساذجة!
على كل حال فرج فودة قُتِل، قُتِل الرجل! ولما سُئل قاتله في المحكمة أنت قتلته لماذا؟ قال لأنه كافر، قيل له هو كافر لماذا؟ قال هو علماني، إذن مُثقَّف الولد! قيل له وعلماني معناها ماذا؟ قال لا أعرف، هو لا يعرف معنى العلماني، ولكن يعرف أنه علماني، ويعرف أن العلماني كافر، من أين لك هذا؟ قيل له! الله أكبر، قيل له، تماماً يا إخواني هذا مصداق لما صح عن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – من علامات آخر الزمان، من أنه يكثر الهرج، ما الهرج؟ القتل، حتى لا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل، بالضبط هذا ما نحن فيه والله! هذا المقتول المسكين مغدور، هو مغدور! قتل غيلة، والمُسلِم لا يغتال يا إخواني، المُسلِم شجاع وأبي، لا يُقاتِل إلا في معركة، ومعركة شرف وحق وواجب، لكن اغتيال الناس من وراء وراء هذا أسلوب جبان، يُحسِنه كل الجبناء للأسف الشديد من كل المِلل والنِحل، لكن المُسلِم لا يقتل هكذا، والنبي قال – عليه السلام – المُؤمِن لا يفتك، الإيمان قيد الفتك، ألم يسمع هؤلاء بهذا الحديث النبوي العظيم؟! المُؤمِن لا يفتك، الإيمان قيد الفتك، الإيمان قيد! يمنعك أن تفتك، يمنعك أن تغتال بالناس وأن تغدر، المُؤمِن لا يكون هكذا يا إخواني، المُؤمِن هو عالم من المُكاشَفة والصراحة والوضوح وأيضاً عشق الحقيقة، وحين يُبيَّن له خطؤه ينكسر ويعتذر ويعترف، مُباشَرةً يعترف، يقول كنت مُخطئاً، لم أكن أفهم هذا الشيئ.
لكن كيف لنا يا إخواني بهذه العقلية، بهذه السماحة الفكرية، وبهذه الصفائية أيضاً النفسانية، ونحن نتربى وأبناؤنا يتربون بطريقة يا إخواني تغتال فيهم العقلية النقدية، كما تغتال فيهم الضمير؟! الضمير يُموَّت تقريباً أو يُخدَّر أو يُنوَّم، وطبعاً مَن يقول لي أنا قتلته وأنا لا أدري معنى العلمانية ولم أقرأ كتابه، لأنهم أفتوني بقتله، هو رجل بلا ضمير، أنا أقول لكم هذا رجل بلا ضمير، هذا رجل تخلى عن ضميره، هذا لا يستفتي نفسه، إذن ألم يقل لنفسه النبي قال في يوم من الأيام استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك وأفتوك؟! ما معنى هذا الحديث؟ وهذه وصية في حديث وابصة بن معبد، هذا الحديث ينبغي أن يُعمَل أول ما يُعمَل في هذا الميدان، هذا أهم ميدان يعمل فيه هذا الحديث، في هذا الميدان بالذات، حين تُعطى فتوى باغتيال الناس أو بسفك الدماء أو حتى بتغول حقوق الناس أو بالكلام في أعراض الناس وفي أديان الناس، كأن ترمي هذا بالكفر، وهذا بالزندقة، وهذا بالعمالة، وهذا بمُعاداة الإسلام، وأسهل شيئ على فكرة رمي الناس بمُعاداة الإسلام، إذا كنت ضد هذه التأويلات، ضد هذه الفهوم الخاطئة، وضد هذه النزعات والنزوعات، فأنت عدو الإسلام، يا أخي لست عدو الإسلام، ولستم أحرص مني على الإسلام، ولكن نحن عدو هذه الطريقة في فهم الإسلام، وواضح أنها طريقة كارثية يا إخواني.
طبعاً الشيئ المُؤسي هو ما يحصل لنا، أنا شخصياً مصدوم وحزين والله، لكن لست مُحتاراً، يبدو أن الأمور بالنسبة لي محارات، أي واضحة، لأنها واضحة! حزين يا إخواني وآسف ومصدوم، لأننا عبر تقريباً آخر ثلاثين أو أربعين سنة عشنا كوارث، هذه الاتجاهات ماذا قدَّمت لنا؟ في كل مكان الدماء، القتل، التفجير، المشاكل، وبعد ذلك يعتذرون ويتوبون ويقولون أخطأنا وعملنا مُراجَعات، وماذا بعد؟ إلى متى؟ إلى متى؟ إلى متى؟ أي ألا يقف هؤلاء؟ لكن أيضاً بين قوسين أقول (كيف يقفون؟ كيف يقفون وهم يتعلَّمون ألا يستخدموا عقولهم؟ ولذلك نحن الآن نُدلِف إلى موضوع آخر، مسألة أُخرى من الأسباب يا إخواني، وهي التربية الحزبية التنظيمية، هم يرون شيئاً مطلوباً – ليس شيئاً عادياً، وإنما هذا شيئ مطلوب وواجب – أن تعمل في شكل تنظيمي وفي شكل حزبي مُنظَّم، كيف إذن؟ أي ديني حزبي، هو هذا، عمل ديني! لكن العمل الديني إذا كان عملاً روحياً تعبدياً تقوائياً علمياً لفهم علوم الدين والتوسع فيها لا يحتاج إلى تنظيم ولا يحتاج إلى أحزاب، لا نحتاج! لا نحتاج إلى حزب، قد يقول لي أحدكم لا، هو عمل ديني، لكن الأمور فيها اختلاط، هل هذا واضح؟ الأمور فيها اختلاط، غير واضحة).
طبعاً نحن لا نمنع أن تُنشأ وأن تُقام أحزاب إسلامية، أحزاب سياسية، أن يُوجَد حزب سياسي، ويُطلَب منه كل ما يُطلَب، ويُشرَّط ويُشترَط عليه أيضاً كل ما يُشترَط على أي حزب سياسي آخر، قدِّم لي برنامجاً مُتكامِلاً، واعرضه على الناس، وإياك أن تستخدم الورقة الدينية لتحشيد الناس باسم الدين، لا! حشِّدهم باسم برنامجك السياسي – أطال الله عمرك -، باسم البرنامج وليس باسم الدين، وحيِّد الدين هنا، لأننا جميعاً أعتقد مُسلِمون، نحن جميعاً مُتديِّنون، نحن جميعاً يهمنا ديننا كثيراً جداً، وربما أكثر من بعض هؤلاء، نحن لسنا ضد هذا، نحن مع هذا وندعو إليه، لكن نحن ضد أن تُخلَط الأوراق وأن تلتبس المفاهيم والمُصطلَحات.
ولذلك طلب العلم والتفقه في الدين وفهم الدين والدعوة إلى الدين والنُصح والوعظ والتذكير أشياء لا تحتاج إلى حزبية ولا إلى تنظيمات، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه الأشياء حين لا تُجرى ولا يُشتغَل بها إلا ضمن حزب تتواجد مُشكِلة، الحزب عنده تراتبية مُعيَّنة، أي هيراركية! هناك تراتبية مُعيَّنة طبعاً، يُوجَد زعيم في رأس الحزب، وبعد ذلك تُوجَد درجات وطبقات، وهذا يُدخِلنا في أشياء بطبيعتها – صدِّقوني – تختلف عن طبيعة النشاط الديني الروحي التقوائي، يُصبِح هناك نفاق وهناك دهان وهناك تملق، كما يحدث في الأحزاب السياسية، والحال أن هذه كما قالوا نشاط ديني وجماعة دينية أو حزب ديني سياسي مُؤدلَج أو أيديولوجي، يُوجَد اختلاط كبير جداً جداً، فضلاً عن السعايات والتقارير والوشايات والتخندق، أسوأ شيئ التخندق! نحن والآخرون، نحن والبقية، يا أخي نحن مُسلِمون وأنتم مُسلِمون، فما معنى أنتم ونحن؟ طبعاً نحن أبناء هذا الحزب، أبناء هذا التنظيم، أبناء هذا الإطار، أبناء هذه الجماعة، نحن! نحن فقط، أنتم تختلفون، أنتم معناها بقية الشعب أو بقية الأمة، لكن قد يقول لكم أحدهم لا، هذا لا يضر، هم يُعلِّمون دائماً أن لا تُوجَد مُشكِلة، نحن جماعة من المُسلِمين، لسنا جماعة المُسلِمين، لكن صدِّقوني هذه كليشيهات، فقط تُستخدَم للدعايات، لعمل دعائي، عملياً على الأرض وبالملموس يا إخواني – هذا بالملموس – هناك خندقة وانفصال حقيقي وتمايز نفسي وفكري ووجداني، يجعل مَن ينتمي إلى هذه الأُطر يشعر بأنه وصي على الحق، مُتكلِّم باسم الحق، وكيل الحق، وأن الآخرين ببساطة – أي هذا أقل ما أقول – إيمانهم ليس جدياً، إسلامهم وتدينهم ليس ذلك الإسلام المطلوب، لا أقول فيه شك، لكن ليس ذاك الإسلام المطلوب، أي يُنظَر إليم باستخفاف، لماذا؟ وقد يكونون أكثر تقوى وأكثر طبعاً علماً وأحسن وأجود عملاً والتزاماً، لكن بما أنهم خارج الإطار فهؤلاء لا يُعبأ بهم، نزعة – والعياذ بالله – تطهرية أيضاً، نزعة تطهرية! لابد أن تكون معنا وعلى طريقتنا بالكامل، فأنت تكون المُسلِم المقبول، المُسلِم المعياري! نحن المعيار، أي شيئ خارج هذا الإطار خارج المعيار.
وهذه نزعة خطيرة جداً يا إخواني، تُمزِّق الأمة الواحدة، تُمزِّق الشعب الواحد، تُحرِّش بين الناس، تُحرِّش بين المُسلِمين، وطبعاً هناك جانب يكون الجانب الغامض والجانب السري لهذا العمل، طبعاً لأن هذا حزب وجماعة وأمراء وشخصيات ومسؤول ومسؤول عنه ومُدير ومُدار، قصة كبيرة يا إخواني! وطبعاً هناك الجوانب المالية والتموينية وكذا، لكن ليس هكذا، الدعوة إلى الإسلام لابد أن تكون مفتوحة للجميع، والعمل الدعوي والعمل العلمي أيضاً والعمل الروحي لابد أن يكون عملاً مفتوحاً للجميع، لا بأس أن يكون عملاً مدرسياً في اتجاهات فكرية واضحة، لكن ليس بطريقة – كما قلت – تنظيمية.
فلكي أُوضِّح – مثلاً – أقول لدينا مثالان مشهوران، هناك مدرسة الشيخ محمد عبده – رحمة الله تعالى عليه -، كان هناك الأفغاني، وجاء تَلميذه، واختلف معه كثيراً أو قليلاً، أي الشيخ محمد عبده، الشيخ محمد عبده لم يُنشئ تنظيماً، ولم يبن حزباً، ولم يكن زعيم حزب أو شيخ جماعة مُعيَّنة أبداً أبداً، كان رجلاً عالماً، إماماً مُجتهِداً، مُفكِّراً، ومُصلِحاً مُجدِّداً – رحمة الله تعالى عليه -، وهذا اتجاه مدرسي، ولذلك ألقى بظلاله وببركاته وبثماره تقريباً في مُختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي بقدر أقل، مدرسة! إلى اليوم هذه المدرسة يا إخواني لها أثرها الكبير، هذه مدرسة، ونحن مع النشاط المدرسي، أهلاً وسهلاً، لكن جماعات الإسلام السياسي ليست كذلك، جماعات حزبية أو مُتحزِّبة، ولها صيغ تنظيمية – كما قلت لكم -، صيغ تنظيمية حقيقية، مثل أي حزب آخر في الغرب أو الشرق، وفيها خلط، وفيها التباس.
ولذلك يا إخواني وظيفة حتى الداعية زُوِّرت، وظيفة الداعية زُوِّرت أو زُيِّفت أو تُجوِّزت، بمعنى مَن هو الداعية؟ أو ما هو الداعية؟ السؤال عن ماهية الداعية، ماذا يُطلَب من الداعية؟ يُطلَب من الداعية يا إخواني أن يُبيِّن للناس، تبيين! أن يعظ، أن ينصح، وأن يُذكِّر، وكل ذلك باللين وبالمودة والشفقة والأدب والتواضع، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ۩، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ۩، بالعكس! وأن تحزن وترثي للناس المُبتعِدين عن الله – تبارك وتعالى – والغارقين كثيراً أو حتى الأذقان والنواصي في المعاصي والفواحش والكبائر، ترثي لهم وتحزن، لا تنقم عليه ولا تُخاشِنهم، وإنما تُحاسِنهم وتُلاينهم، هذا هو الداعية، رحمة! الداعية يكون رحمة والله، رحمة بين الناس، لكن لا يا إخواني، هم لم يفهموا هذا عملياً، هم يرون كأنهم مُسيطرون على الناس، والله يقول للنبي لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ۩، لكن هم ليسوا كذلك، هم لهم سُلطة على الناس.
ولذلك يكثر الآن – هذا كما كان في القرن الرابع الهجري وبعد الرابع الهجري – أن نرى الآتي، قالوا لكم هناك جماعة من المُتديِّنين المُلتحين – هذه مظاهر التدين – وقفوا رجلاً وامرأته، وحقَّقوا معهما، شرطة دينية! ما علاقتك أنت به؟ قال أنا أُريد أن أعرف هل هذه زوجته أم عشيقته، هذا عيب عليكم، أتفتشون على الناس؟ ما علاقتكم بهذا؟ لا يجوز يا أخي، وأحياناَ بعض الناس يُضرَبون علقة ساخنة، يُضرَب الرجل! ولا يجوز هذا، هذه ليست وظيفة الداعية أبداً، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ۩، بناء الدين كله يا إخواني يقوم على الإذعان الباطني والاختيار الواعي الحر، الشأن الديني والنشاط الديني من حيث أتى ومن حيث هو مبني على ماذا؟ على الإذعان الباطني والاختيار الواعي الحر، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، لا يُمكِن أن تُكرِهوا الناس على ما لا يُريدون وعلى ما لم يقتنعوا به، وهذا لا يعني أن المُجتمَع طبعاً مُجتمَع مُنزَّه ومُجتمَع كامل ومُجتمَع فاضل ومُستقيم، لا! كل المُجتمَعات فيها انحرافات واعوجاجات، وفيها مُختلِف صنوف الآثام والمعاصي.
إذن – إخواني وأخواتي – فكيف نُواجِه هذه الانحرافات والاعوجاجات التي لابد من التسليم بأنها موجودة – موجودة في هذا المُجتمَع وفي ذلك وفي كل مُجتمَع، واليوم وبالأمس وستظل موجودة إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها -؟ جواب هذا السؤال بكلمة، هذا يعتمد على طبيعة نظرتنا إلى مُهِمتنا، وأنا أتحدَّث الآن عن علماء الدين، عن الدُعاة إلى الدين، عن المشايخ، وعن أهل الفضل والخير، كيف ينظرون إلى مُهِمتهم؟ ما هي مُهِمتهم؟ ما هي ماهية هذه المُهِمة؟ للأسف عملياً الأمر يختلف، طبعاً في المُستوى النظري تجدوننا مُتفِقين تماماً على أننا كذا وكذا، ولسنا كذا وكذا، ولكن عملياً منا أو من هؤلاء المُتديِّنين – أحبتي في الله – مَن يسلك على أن مُهِمته هي هداية الناس، بمعنى ماذا؟ بمعنى الهداية التي لم يُعط النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حق أن يدّعي أنها من اختصاصاته، أعني قوله – تبارك وتعالى – إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ۩، أنت لا تستطيع أن تهدي الناس هذه الهداية، هداية التوفيق، هداية أن تُباشِر حلاوة الإسلام قلوبهم وأن يشعروا بها، اسمها هداية التوفيق، هداية أن تنشرح صدورهم بالإسلام، أن تُذعِن بواطنهم للحق، لا يملك هذه الهداية إلا رب الناس، لا إله إلا هو! والنبي نفسه لا يملكها، فكيف يملكها داعية أو عالم أو جماعة؟ لا يُمكِن هذا أبداً، لا يملكها إلا الله.
علينا أن نُدرِك أن طبيعة مُهِمتنا تتحدَّد بماذا؟ بالهداية بالمعنى الثاني، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ۩، الله يقول وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ۩، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ ۩، فكيف هذا إذن؟ الهداية هنا هداية البيان، هداية الدلالة، نحن نُبيِّن للناس، نتلو عليهم آيات الله، نُذكِّرهم بكلام رسول الله وشرع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ننصح، نعظ، ولكن انتبهوا، وتحت هذه الـ لكن ضعوا مائة خط أحمر، دائماً لابد أن يكون ذلك كله مصحوباً بــ ومُتظاهِراً ومُترافِقاً بــ الرفق واللين والشفقة والمودة والحرص على الناس واحترام الناس أيضاً وتقديرهم، لا يُسمَح ولا يجوز بحال من الأحوال يا إخواني لمَن يُريد أن يكون أمّاراً بالمعروف ونهّاءً عن المُنكَر أن يكون بذيئاً أو فاحشاً أو مُتفحِّشاً أو مُزدرياً أو مُحتقِراً لعباد الله – تبارك وتعالى -، فضلاً عن أن يُبدي أو يُعرِب عن دعوى وزعم أنه يحدس بمصيرهم الأُخروي، لا يعلم مصير الناس إلا الله – تبارك وتعالى -، ولعلك تقع في احتقار الناس، ويسبقك غداً إلى الجنة، وأما أنت فلا يعلم مصيرك إلا الله – تبارك وتعالى -، هكذا! وقلنا هذا بطريقة أو بأُخرى.
إذن هذا هو، لكن أيضاً من المُهِم مرة أُخرى في حال فشلنا أن نعلم الآتي، نحن وعظنا وأمرنا ونهينا وذكَّرنا وتلونا بشفقة وود ومحبة واستئلاف ومُلاينة ومُحاسَنة، ولكن فشلنا، ولم ننجح، من الضروري – إخواني وأخواتي، أحبتي في الله – ألا ينقلب ذلك كله – أعني المُلاينة والمُحاسَنة والمودة والاستئلاف والشفقة – أو شيئ منه إلى غيظ وحنق وغضب، فنبدأ ندعو على عباد الله باللعن والويل والثبور وعظائم الأمور، أو ربما نكشف أستارهم ونهتك هذه الأستار ونكشف الأسرار، لا يجوز يا إخواني، الداعية لا يكون هكذا مُطلَقاً، بالعكس! الاستجابة الصحيحة هنا وهي الاستجابة المؤتسية المُقتدية بسيد الخلق – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن نرثي لهم، أن نحزن لأجلهم، أن ندعو لهم بظهر الغيب.
على كل حال أدركني الوقت، كنت أود أن أُحدِّثكم في مظهر آخر، وهو مظهر عدم التوازن في هذا التدين، لكن نحن محكومون بالوقت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
كي نفهم الدنيا جيداً قال النبي في ناقة له كانت لا تسبقها أي ناقة فحدث يوماً أن سبقتها ناقة أحدهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ حقٌ على الله أن لا يعلو شيء من أمر الدنيا إلا و يخفضه الله يوماً ] أي نعم الناقة تتحول أما راكب الناقة فمقامه ثابت عند ربه …. و هو المطلوب ..